ذكر الآداب المطلوبة للمسجد(71/4)
التجمل والتزين لدخول المسجد
إن هذه البيوت بيوت الله سبحانه وتعالى؛ لأجل ذلك أمرنا الله ونبهنا أن نراعي ما يجب لها فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، قال ابن كثير في تفسيره: وفي هذه الآية مع ما ورد في السنة النبوية أنه يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، ويستحب الطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك.
وقال السعدي: كذلك يحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن، ففي هذه الآية الأمر بستر العورة في الصلاة، واستعمال التجمل فيها، ونظافة السترة من الأدناس والأرجاس.
ونحن إذا ذهبنا لزيارة أحد من الأصدقاء فضلاً عن الفضلاء تزينا لذلك، ولبسنا من الثياب أحسنها، ووضعنا من أنواع الطيب أعطرها، وجعلنا لأنفسنا من الهيئات أفضلها، فإذا جاء بعضنا إلى المساجد رأيته وهو يأتي بثياب النوم التي لا يرضى أن يستقبل بها أحداً في بيته.
وربما وجدت بعضهم وهو يأتي في ثياب مهنته وقد اسود بعضها، وفي بعضها من القذر وكراهة الرائحة ما فيها، وبعضهم يأتي بملابس قد كتب عليها من الكلمات ومن الصور ما لا يليق أن يكون في بيت من بيوت الله عز وجل، وربما وجدت بعضاً وفي لباسه ما يعد مخالفاً لستر العورة إما من قصر أو ضيق أو تشبه أو نحو ذلك، وهذا خلاف الأمر الرباني لأخذ الزينة اللازمة.
وكان من هيئة الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله أنه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه وتطيب، فإذا خرج لم يكن يكلم أحداً ولا يكلمه أحد حتى يدخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي، ثم يشرع فيحدث بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، هكذا كانوا يعرفون حق قدومهم على بيوت الله عز وجل من غير مخيلة ولا رياء ولا مبالغة، ومن غير استهانة وتفريط وعدم مراعاة حرمة وقدر، وغير ذلك.
وكذلك نذكر هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المعروف الذي يتبادله الناس ويتذاكرونه وكثيراً ما يخالفونه، وهو حديث جابر عند البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته).
قال بعض العلماء استنباطاً من هذا الحديث: إن الآكل لهذه الثمرة قبل الصلاة تسقط عنه الجماعة، ويجب عليه ألا يصلي مع الناس لئلا يؤذيهم.
والمقصود هنا كراهة الرائحة، وكل ما هو من هذا الباب داخل فيه وملحق به، فالمدخنون الذين يؤذون الناس برائحتهم شاءوا أم أبوا قد آذوا المصلين وآذوا ملائكة الله المقربين، وكانوا على هيئة ليست هي الهيئة التي يحبها الله لمن يأتي إلى بيته ليتعبد ويذكر ويسجد، ومثل ذلك من يأتون إلى المساجد بعد أن فرغوا من أعمالهم مباشرة من غير أن يتهيئوا ولو بمسح وجوههم، ولو بإزالة العرق عن جباههم، فضلاً عن أن يغيروا ملابسهم؛ ليزيلوا هذه الروائح الكريهة.
وبعضهم يأتي والأقذار على بدنه أو على ثيابه، ينفرك منظره من أن تكون إلى جواره في الصف، وتضايقك رائحته، فلا تكاد تشعر بما تريد أن تقبل عليه من طاعة الله وعبادته، فبالله عليكم هل مثل هذا إذا أراد أن يذهب لزيارة صديق من أصدقائه سيذهب على تلك الهيئة؟! أهانت بيوت الله عز وجل في النفوس حتى بلغت مثل هذا المبلغ؟ وهل ذهب الاستشعار والتعظيم لبيوت الله عز وجل حتى ندخلها كأنما ندخل مكاناً لا قيمة له ولا حرمة ولا اعتبار؟! إنها صور تكررت حتى صارت مألوفة، وحتى أصبح مثل قولي هذا مستنكراً مستهجناً، أو يعد فيه من المبالغة ما فيه، وأنه تشديد في غير موضعه، فبالله عليكم إن لم نتواص بذلك في بيوت الله التي نجعلها لطاعة الله عز وجل فبمَ نتواصى من بعد؟ ونحن نعرف من هذا صوراً كثيرة، ونحسب أننا إذا تذكرنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإذا عرفنا آدابه وهديه الذي تلقاه عنه أصحابه فإننا ندرك أن المخالفة للسنة والهدي ليست في الصور المحدودة التي تجول في أذهاننا، بل هي في جملة هذا الهدي، ومنه تعظيم المساجد ومراعاة حرمتها، وأخذ الأدب اللازم واللائق بها.
روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما رجل خرج من بيته يوم الجمعة واغتسل ثم ادهن وتطيب من طيب امرأته، فخرج يريد الصلاة، ثم دخل فصلى ركعتين ولم يحدث أحداً، فأنصت حتى يفرغ الإمام ثم صلى مع الناس؛ غفر الله له ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة الأخرى).
فانظروا إلى مجموع الوصف كله؛ فهو الذي يوجب لصاحبه ذلك الأجر، وبقدر النقص يكون النقص، فإن من لا يراعي ذلك ولا يتهيأ له لا ينال مثل هذا الأجر في هذا الحديث.
ونحن نعلم أيضاً أن النفوس تتأثر بالأعمال، فإذا جئنا لنخرج إلى المسجد استحضرنا هذه المعاني، ثم عملنا من العمل تطيباً وتطهراً وإحساناً في اللباس واستحضاراً للنية ووقاراً في الهيئة وكفاً للسان وغير ذلك؛ فإننا إن جئنا إلى المسجد حضرت وخشعت قلوبنا، وتذكرت عقولنا، وكنا على حال غير الحال التي نكون فيها.(71/5)
تطهير المساجد
قال ابن كثير وغيره في قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] قال: أن تطهر من الأدناس والأرجاس ولغو الأقوال والأفعال، فإن رفع ذكر الله ليس بمجرد تلاوة القرآن وإقام الصلاة، بل يدخل فيه مثل هذه الأمور.
ونظافة المساجد أمرها مهم عظيم، وأجرها كبير، كما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) فإنك حين تأخذ قشرة أو قشة صغيرة فتقمها من المسجد وتطهره وتنظفه يكون ذلك من الأعمال التي تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل من ضمن الأعمال التي لها أجر خاص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ونرى كذلك ذلك الحديث العظيم الذي يدلنا على الفضل وعلى التقدير النبوي والمقياس الإسلامي الذي ينبغي أن نراعيه؛ روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة: (أن امرأة أو رجلاً -وتغليب الرواية: أنها امرأة- كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تأخذ ما يكون في المسجد من الأذى والقذى فتلمه وتخرجه- فماتت، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم، ولما علم بها قال: أفلا كنتم آذنتموني حتى أشهدها؟ ثم سأل عن قبرها، فذهب وصلى عليها بعد دفنها).
لقد كانت امرأة مجهولة ليست معروفة، حتى إن الصحابة عندما ماتت لم يذكروا خبرها للنبي عليه الصلاة والسلام، فالتفت إليها النبي وافتقدها وسأل عنها، وعاتب على أنهم لم يذكروا له موتها، ثم ذهب فصلى عليها عليه الصلاة والسلام.
ونحن ربما نعمل العكس، فنحن الذين نوجد القذى في المسجد، ودورات مياه المساجد شاهدة بذلك، إذ يعمل الناس فيها من التخريب ومن التلويث ما كأنهم قصدوه عمداً أو أرادوه؛ حتى يجعلوا بيوت الله عز وجل بهيئة وصورة لا تليق بها، ولو كان ذلك في بيوتهم لدعوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكانوا أحرص ما يكونون على مثل هذه النظافة التي لا يأبهون بها ولا يحرصون عليها في بيوت الله عز وجل.(71/6)
خفض الصوت وعدم التشويش والفوضى
وهناك أمر آخر: وهو الآداب المرعية في داخل المسجد: فكم تسمع من حديث ليس فيه ذكر ولا طاعة، بل ربما كان حديثاً في أودية الدنيا، أو غيبة أو نميمة، وكم ترتفع الأصوات، وكم تعلو الضحكات، حتى إن بعض الناس ربما يختلف عليه الأمر ويلتبس هل هو في مسجد أو في مكان آخر، ولا أريد أن أقول: في مقهى! استمعوا إلى هذا الحديث الذي عند البخاري في صحيحه يرويه السائب بن يزيد قال: (كنت في المسجد، فحصبني رجل -يعني: رماني بحصاة صغيرة من ورائي- فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لي: اذهب فائتني بهذين الرجلين -رجلان كانا يتحدثان بصوت عالٍ- قال: فأتيته بهما، فقال: من أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف.
فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما -أي: ضرباً- ترفعان أصواتكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!) وفي رواية: (في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الإمام مالك رحمه الله بكراهة رفع الصوت في المسجد مطلقاً.
وقال ابن عابدين في حاشيته على مذهب أبي حنيفة: يسوغ رفع الصوت إلا أن يشوش على المصلين، ولو بذكر أو قراءة.
وبعض الناس يقرأ القرآن كأنما يريد أن يسمعه خلق الله كلهم ويشوش على الآخرين.
وبعضهم يتحدث بالأحاديث كأنما هو في بيته أو غير ذلك، ونرى من هذا صوراً كثيرة مزعجة تشوش على العبادة والطاعة، وقد تنفر بعض الناس من حضور المساجد وشهودها، وهذا مما ينبغي لفت النظر إليه والانتباه له، وهو أمر ظاهر وبين.(71/7)
ظواهر سلبية في المساجد(71/8)
سلبية ظاهرة التسول في المساجد
إن الصورة المحزنة المؤلمة المتكررة الدائمة التي ألفها الناس حتى صاروا ينكرون على من ينكرها هي: السؤال في المساجد والتسول فيها، مع أننا نسمع قول الله جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] قال السعدي في تفسيره: المقصود الأمران معاً: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
فكيف تسأل في بيت الله غير الله؟ وقد كان هشام بن عبد الملك يطوف مرة بالبيت الحرام، فلقي بعض العلماء من أئمة التابعين، فسلم عليه وقال له: سلني حاجتك.
قال: إني أستحي من ربي أن أسأل غيره وأنا في بيته! فلما خرج قال: نحن الآن قد خرجنا من المسجد فسلني حاجتك.
قال: من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة؟ قال: من أمر الدنيا؛ فأمر الآخرة لا أملكه.
قال: أنت تملك الدنيا؟ قال: لا.
قال: فإني لم أسألها ممن يملكها فكيف أسألها مما لا يملكها! وهذا من الأمر المهم، ولكننا نلتفت هنا إلى حديث لو تأملنا في نصه لأدركنا أننا لا ننتبه ولا نتعلم ولا نعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري في صحيحه، يقول فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)، فهذا لا يسأل الناس مالاً، وإنما ضلت عليه ناقته فيقوم فيقول للناس: بعيري هل رآه منكم من أحد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا).
وفي رواية أخرى عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نشد عن الجمل الأحمر؟ ثم قال: لا رده الله عليه).
هذه مسألة مهمة ينبغي أن نعرف أن السؤال وخاصة على الهيئة التي نراها من التشكي، وعرض ما قد يكون صحيحاً أو غير صحيح من أنواع البلاء والابتلاء الرباني، كأنما هو اعتراض على قدر الله، وكأنما هو شكوى لغير الله، ثم هو في غير موضعه الصحيح وعلى غير صفته المشروعة في حال من الأحوال، فإن أنكر مُنكِرٌ أو قال: لا تفعل هذا، تحركت القلوب برحمة غير مدركة للحكمة، وربما أنكرت على ذلك المُنكِر، وهذا من الأمور التي ينبغي التنبه إليها.
وقد ذكر المفسرون في قوله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] وكذلك في قوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29] أن الدعاء قسمان: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، فلا يسأل في بيوت الله غير الله جل وعلا.(71/9)
ظاهرة عبث الأطفال وإزعاجهم في المساجد
ومن ذلك الصغار من الأبناء الذين لا يعلمهم آباؤهم آداب المساجد، يعيثون فيها فساداً، ويلعبون فيها، بل إنهم قد يجعلون فيها من النجاسات والقاذورات ما لو كان عشر معشاره في بيت أحدنا لقام على ابنه ضرباً ووعيداً؛ حتى يزجره عن ذلك ويمنعه منه، وهم يسرحون أبناءهم في المساجد كأنما يسرحونهم في الملاعب أو الملاهي غير عابئين ولا آبهين بذلك.
وكم كانت الشكوى من هؤلاء الأطفال في يوم الجمعة؛ حيث لا يكاد الناس أن يسمعوا الخطبة من كثرة إزعاج أولئك الصغار، وآباؤهم من رواد المساجد المداومين على الصلاة المعروفين بأشخاصهم وأعيانهم! ولكن لا يلتفتون إلى ذلك، ولا يرون أن فيه تفريطاً وتقصيراً منهم، فربما يلحقهم الإثم بما يشوشون على المصلين ويفقدونهم من الخشوع أو الانتفاع بالاستماع، وهذا أمر كثير بين، ولنا من بعد ما هو أشد وأخطر، فالله الله في بيوت الله وفي مساجد الله أن تعظم، وأن يرفع فيها اسمه، وأن يتهيأ المسلم لها بما ينبغي لها.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يلزمنا كتاب ربنا، وأن يجعلنا مهتدين بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(71/10)
من أحكام المساجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.(71/11)
حكم تخطي الرقاب في المسجد
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله تعظيم حرمات بيوت الله، ومراعاة حقوقها، والتزام الأدب اللازم لها، وإن الأمر أيها الأحبة ليس فيه إمكان للإحصاء لكل المخالفات، وإلا فإن هناك كثيراً وكثيراً منها، ومن ذلك تخطي الرقاب الذي يحصل في الجمعة وغيرها، وهو منهي عنه، ومما قد وردت النصوص بأنه قد يبطل على صاحبه ويذهب أجره في صلاة الجمعة.(71/12)
حكم حجز الأماكن في المسجد
ومن ذلك ما يحصل من حجز الأماكن، حيث لا يأتي الإنسان إلى الصفوف الأولى إلا متأخراً، ثم يكون قد جعل له موضعاً بغير حق، حتى لا يأخذه غيره، ولا يكون له بذلك -والله أعلم- أجر؛ لأنه لم يبكر.
والمقصود بفضل الصف الأول التبكير، وأن يسابق إليه، وأن يستحقه بهذا التبكير الذي يبادر إليه.(71/13)
أهمية التعاون في الحفاظ على حرمات المساجد
وهناك صور أخرى كثيرة، ومنها أمور أصبحنا نشكو منها، وذلك أن بعضاً من الشباب على وجه الخصوص يمكثون في المسجد وفي ملحقه ولا يؤدون الصلاة مع الجماعة، وهم يرونها، ويمكثون في أوقات أخرى يقضونها باللعب والهجر وغير ذلك من أمور لا تليق مطلقاً، ولا أحد من الناس يلتفت أو ينكر أو ينتبه.
بل إننا قد شكونا من أمور أعظم من ذلك؛ لأننا نرى في دورات المياه إبر المخدرات؛ حيث يدخلون إلى بيوت الله ليتعاطوها في دورات المياه، أو في ملحقات المساجد، وأقول هذا لنلفت النظر أننا جميعاً مقصرون، وأننا مفرطون؛ لأننا لا نتعاون ولا نتكاتف لنجعل بيوت الله عز وجل مأرز إيمان وموطن تصحيح وتقويم وتهذيب ومحطة يخرج منها الناس باستقامة في سلوكهم وتهذيب في أخلاقهم وحسن في أقوالهم، لا أن تكون مجرد محطة عابرة أو ربما في بعض الأحوال يأتي الناس إلى المساجد ليقوموا بأعمال محرمة أو تكون ملتقىً لاتفاقات وأعمال آثمة، وذلك كله واقع حاصل غير مبالغ فيه، بل هو حقائق ألجأت إلى مثل حديثنا هذا وغيره، وهذا مما ينبغي التحرز منه خاصة في شهر رمضان؛ لأنه تكون المساجد فيه مفتوحةً وقتاً أطول، وإذا بها مفتوحة لينام النائمون، ويتحدث المتحدثون، وتضيع الأوقات، ولا تراعى الحرمات.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نجعل بيوت الله عز وجل مكاناً معظماً محترماً، فينبغي لنا أن نتعاون في ذلك، وأن يتكاتف فيه أهل المسجد وأهل الحي، ومصلو الجمعة جميعاً، فينبغي أن يوجد التواصي بالحق، وأن يكون التواصي بالصبر، والنصح والمنع لما يستحق المنع مما ليس مشروعاً؛ وهذا كله من التواصي الذي أمرنا به، والذي يستحق به أهل الإيمان الاستثناء من الخسران.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولنياتنا الإخلاص وقصد وجهك الكريم، ولأعمالنا الصحة وموافقة سنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر وثبت وأعن عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وأفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم ارحم عبادك المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! فرج اللهم همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانةً صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(71/14)
الاختبارات والمسارعة إلى الخيرات
موسم الاختبارات موسم يسوده التوتر والقلق، ويكتنفه الجد والاجتهاد وشغل الأوقات بكل ما يخص تلك الفترة، والتخلي عن المشاغل والقواطع، وهذا أمر مطلوب ولابد منه، وإذا كان الأمر كذلك في اختبارات الدنيا، فكيف بالاختبار الأعظم بين يدي الله! فلاشك أن العاقل لا تخفى عليه أهمية الاجتهاد والمثابرة لاجتياز ذلك الامتحان الرهيب بنجاح وتفوق، وذلك بالمسارعة إلى الخيرات قبل فوات الأوان.(72/1)
الاجتهاد في موسم الاختبارات
الحمد لله الذي وسعت كل شيء رحمته، ونفذت في كل شيء مشيئته، وأحاط بكل شيء علمه.
له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موسم الاختبارات لكل منا به تعلق، وله ارتباط، ولو أنا تأملنا في مثل هذا الموسم، وما يكون من حالنا جميعاً فيه، وحال الطلاب على وجه الخصوص، لخرجنا بكثير من الفوائد، ونريد في هذا المقام أن نخرج بقضية واحدة، أحسب أنها من القضايا المهمة التي ينبغي أن تحظى بعناية تامة ورعاية كاملة في واقع حياتنا.
لننظر إلى هذه الاختبارات: مبدؤها وأساسها الذي يحرك الطاقات، والتي نبذل فيها الهم والاهتمام، ولو أن طالباً لا يشعر بأهمية الاختبار، ولا يعرف قدره، ولا يحسب حساباً للنتائج المترتبة عليه، فإن شيئاًَ لن يدفعه إلى الجد والاجتهاد، فأول مبعث كل عمل: همّ القلب، وفكر العقل، وشعور النفس، ومن بعده جدّ واجتهاد، فكم نرى من بذل الطاقات، وشحذ الأذهان، وتقوية الذاكرة، ودوام المطالعة، وكثرة المراجعة، مما يدل على طاقة كبيرة، وبذل عظيم، ثم تفرغ واهتمام، والوقت يفرغ من كل الشواغل والعوارض، بل تؤجل كثير من الأمور المعتادة، ويقلّص وقتها، فيكاد يختفي وقت الترفيه، ويقل وقت الراحة، ويتقلص وقت الطعام والشراب؛ توفيراً للوقت لما هو أعظم أهمية، وأولى بالرعاية والاهتمام.
ونجد كذلك التركيز والتقديم، فإن أموراً كثيرة لا تحظى بالاهتمام في هذه الأوقات، حتى الآباء والأمهات لا يعتنون كثيراً في هذه الأيام إلا بهذه القضية المهمة، فيعطونها الأولوية على سائر المهمات والواجبات المتصلة بدورهم تجاه أبنائهم، ويرافق ذلك الحث والتشجيع، والوعد بالجوائز عند النجاح، وبالعظائم من المنح عند التفوق، وإذكاء روح الحماس، وبث الثقة في النفس؛ ليكون الاجتياز لهذه الاختبارات على أتم وأكمل وجه.
ومن بعد ذلك نجد وعداً بالتعويض بالثمرة، فإن سهر هذه الليالي وقلة نومها وذهاب راحتها يهون وينسى عندما تخرج النتيجة بذلك النجاح والتفوق، فكلما تعب الطالب تلمّح عاقبة الامتحانات، فتجدد عزمه، ونشطت نفسه، وقويت همته من جديد.
وفي آخر الأمر يكون الترقب والانتظار بعد انتهاء المهمة، فكل يعد الدقائق والساعات حتى تظهر النتائج، فالطلاب ينتظرون عند أبواب الصحف أو على شاشات الحاسوب، لماذا؟! إنهم يريدون معرفة الثمرة.
هذه صور يسيرة مما نعرف أنه واقع في موسم الاختبارات، ولو أن أحداً أراد أن يوجد للطلاب وصفة للنجاح والتفوق، لقال باختصار شديد: المبادرة في المذاكرة والمراجعة! فلو أن طالباً كان مبادراً يدرس دروسه أولاً بأول، ويراجعها مرة بعد مرة، ويحل أسئلتها، ويفك معضلاتها دون تأخير ولا إبطاء؛ فإنه يكون مطمئن النفس، قرير العين، واثقاً من قدرته بإذن الله عز وجل على حصوله على مبتغاه ومراده، وأما المسوف المؤجل، والمتكاسل المتواني، والذي لا يستطيع أن يعطي للأمر حقه وقدره، وينهض بهمته وعزمه، فذاك الذي يكاد أن يجزم بأنه لن يحصل على النتائج العالية والتفوق.(72/2)
أهمية المسارعة إلى الخيرات(72/3)
الاعتبار بالاختبار للمسارعة إلى الخيرات
الذي نريد أن نخرج به مما سبق أن المسألة المهمة في نجاح كل أمر: هي المبادرة إلى إنجازه، والإتقان في أدائه، والحرص على تحصيله في وقته قبل فوات أوانه.
والمسارعة إلى الخيرات درس عملي نستفيده من موسم الاختبارات، ألسنا في هذا الموسم -كما قلنا- نقدم كل شيء يتعلق بهذه الاختبارات، ونعطيه الأولوية، ونصرف فيه الطاقة، ونفرغ له الوقت، ونهيء له الأسباب، ونقطع عنه الشواغل؟! لأنا نريد النتيجة الأفضل والأكمل، فأين نحن من هذا في واقع حياتنا؟! لأن الحياة والعمر كله موسم اختبارات، وختامه انتهاء الحياة، ونتيجته يوم تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.
فالمسارعة إلى الخيرات هي أعظم أسباب النجاح في الاختبارات المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها، والإقبال على أدائها دون إبطاء أو إرجاء، هل يؤجل اليوم أحد الطلاب مذاكرة اختبار الغد، ويقول: لا بأس أن أقرأ وأن أراجع في وقت لاحق؟! كلا؛ لأنه لا بد منه في هذا الوقت، وقد ضاق الزمن، وتحدد أن تكون هناك المبادرة.
ولئن كان موعد الاختبار محدداً بيوم وتاريخ، فإن موعد اختبار كل واحد منا ليس له ذلك التحديد، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون اليوم، ويمكن أن يكون بعد عام، أو بعد عامين! فمتى يأتي الأجل؟ ومتى يخرج الإنسان من دنياه ليستقبل أخراه، ويبدأها بالسؤال في قبره، ومن بعد ذلك بين يدي ربه؟(72/4)
الحث على المسارعة إلى الخيرات في القرآن الكريم
المسارعة إلى الخيرات صفة جُعلت لأفضل خلق الله من الرسل والأنبياء، فبعد سياق ذكر قصص كثير منهم جاء قوله سبحانه وتعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] (أولئك) أي: الرسل والأنبياء، وجاء بصيغة المضارع المتجدد في معناه، أي: يسارعون دائماً وأبداً إلى الخيرات.
والمؤمنون الخاشعون تلك هي صفتهم كذلك، بل هي قمة الصفات وخاتمتها، كما قال الحق جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]، إن الذي بلغ بهم تلك الخشية وذلك الخشوع والصفاء ونقاء التوحيد، إنهم مبادرون لأمر الله، لا يتوانون عنه، ولا يتأخرون فيه، ولا يقصرون في أدائه، وذلكم هو وصف العباد الصالحين، كما قال سبحانه وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] ثم جاء الوصف في تفصيله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:114]، فكل نتيجة من النتائج العظمى، ومنزلة من المنازل الكبرى، لا تنال إلا بالمبادرة والمسارعة إلى الخيرات، وذلك ما بيّنه أهل العلم وفصلوا القول فيه.
قال السعدي رحمه الله في نداء الحق جل وعلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] أي: سارعوا في الخيرات، (يسارعون في الخيرات) أي: يبادرون إليها، فينتهزون الفرصة فيها ويفعلونها في أول وقت إمكانها؛ وذلك من شدة رغبتهم في الخير، ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده.
وقال ابن عطية رحمه الله: هذا وصف بأنهم متى دعوا إلى خير من نصر مظلوم، أو إغاثة مكروب، وجبر مهيض، وعبادة لله؛ أجابوا، فيكون أحدهم متى أراد أن يصنع خيراً بادر إليه، ولم يسوف نفسه بالأمل.
فهل نحن كذلك؟! وهل نحن في المواسم العصيبة في طريقنا إلى الدار الآخرة كذلك؟! وعندما تمر بنا مواسم الاختبارات، من الابتلاءت المتنوعة التي لا يكاد يمر يوم دون أن تعرج علينا أو أن نمر بها، هل نحن على هذا الوصف أم أن التسويف والتأجيل وطول الأمل يكاد يقتل الهمم، ويفتر العزائم، ولا ينهض بأحد إلى مكرمة ولا طاعة؟ نحن نرى في السياق القرآني ما يبعث في النفس القوة على الأخذ بالطاعات، والرغبة في المسارعة إليها، فنداء القرآن كان دائماً وأبداً على هذا النحو: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].(72/5)
الحث على المسارعة إلى الخيرات في السنة النبوية
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)، رواه أبو هريرة وهو عند الترمذي في سننه بسند حسن.
بادروا فإن الأمور أعظم من أن تؤجل، وإن الأجل أعظم من أن يؤخر.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه عليه الصلاة والسلام قال: (التؤدة في كل أمر إلا عمل الآخرة)، رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي.
فيمكن أن تكون متأنياً مؤجلاً مؤخراً، إلا إذا كان العمل عمل آخرة.
وتأمل في القدوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كان السابق المبادر إلى كل خير، قال أنس رضي الله عنه في وصفه للنبي عليه الصلاة والسلام: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأحسن الناس، وأجود الناس، استيقظ أهل المدينة على صوت صارخ، فسبق إليه، ورجع وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا!).
وتأمل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه عليه الصلاة والسلام: (كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق -أي: في شدة القتال وضراوته- نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) فيكون في مقدمة القوم، وأول الركب؛ لأنه المسارع المسابق، ولأنه المبادر إلى الطاعات، لم يضن بنفسه، ولم يمل مع هواها، وكان كذلك في حياته كلها عليه الصلاة والسلام، حتى سارع بأمله وطموحه فقال: (والله لقد وددت ألا أقعد خلف سرية تقاتل في سبيل الله)، ثم سارع بفعله كما رأينا في هذه السيرة العطرة من بعض هذه الومضات العظيمة.
(وصلى صلى الله عليه وسلم مرةً، فتجوز في صلاته، ثم مشى مسرعاً، ودخل إلى بعض بيوته، وغاب قليلاً وخرج، فرأى في عيون أصحابه السؤال والتعجب، فبادر قائلاً: ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، ففرقته في سبيل الله).
تلك هي المبادرة؛ فإن الوقت يمضي، وإن الأجل يقطع، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المعنى -كما روى ابن ماجة في سننه-: (حجوا قبل ألا تحجوا، فإنه يمرض المريض، وتعطب الدابة)، فهذا في الحث على المبادرة في الحج، فإنه قد يمرض الإنسان، وقد تعطب دابته، وقد يفوته هذا الأمر كما يفوته غيره من الأمور إن هو أخر، فلا يدري كيف سيكون حاله؟ وفي الحديث: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك).
كل ذلك قاله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك امتثله وحث عليه أصحابه، فالاختبار لا يمكن النجاح فيه بالتفوق إلا بمثل هذه المبادرة، وبمثل هذا الذي نصنعه في هذا الموسم من تفريغ الأوقات، وقطع الشواغل، وتركيز الاهتمامات، وإعادة ترتيب الأولويات، وجعل الأمور في نصابها، فقد دخلت هموم الدنيا وشواغلها، ودخلت الملهيات والمغريات وصوارفها التي جعلت القلوب معلقة بغير تلك المسارعة إلى الطاعات.
وتأمل هذه الكلمات التي تدلنا على معنى هذه المسارعة، وكيف تكون كما شبهنا ذلك وسنعيده بإيضاح أكثر في شأن الاختبارات.
قال السعدي رحمه الله: والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات -إذ إنه ليس مجرد فعل، بل هو أكثر من ذلك- فإن الاستباق إلى الخيرات يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات! ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب، قال جل وعلا: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة:148]، ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يطلب فيها العمل على أفضل وجه، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة في الصيام والحج والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات، وغير ذلك مما فيه الكمال.
وكل هذا يدلنا على أننا إذا نظرنا إلى أحوالنا في مثل هذا الأمر وجدنا أنا مقصرون فيها.
وقال أبو حيان في تفسيره: المسارعة في الخيرات تكون من شدة وفرط الرغبة فيها.
أي: عن رغبة في الأمر المبادر إليه والقيام به.(72/6)
حال الصحابة في المسارعة إلى الخيرات
بعد سرد هذا التوجيه القرآني، وبعد هذه القدوة النبوية، نذكر كيف كان ذلك جلياً في حياة الصحب الكرام، كما هو معلوم في ذلك الحديث المشهور عند الترمذي في سننه من رواية عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، ثم جاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أسابقه إلى شيء أبداً).
وهناك رواية أخرى في شأن آخر بين الشيخين الجليلين في أمر يسير؛ ليدلنا ذلك على أن أمر المنافسة والمسارعة، والحرص على الأجر والمثوبة، والسبق إلى الخير والإحسان؛ كان أمراً في طبيعة نفوسهم.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث عمر أيضاً: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فمروا بـ عبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حسن التلاوة عذب الصوت، فقال عليه الصلاة والسلام: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، قال عمر رضي الله عنه: فأدلجت -أي: مشيت بالليل- إلى ابن مسعود لأبشّره، فلما ضربت الباب قال: ما أتى بك الساعة؟ قلت: جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبقك أبو بكر) أي: بهذه البشارة.
فهذا أبو بكر وعمر الرجلان العظيمان المشغولان بجلائل الأمور، ومع ذلك في أمر خبر من الخير يستبقان، فقال عمر رضي الله عنه في مثل هذا: إن يفعل فإنه سباق في الخيرات، وما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر.
وتأمل في هذه المسابقة التي أتت في صورة بديعة جملية، تدل على شيوع هذا في مجتمع المسلمين، يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعة النفر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وكان أصغر القوم وأشبهم: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومكث الثلاثة خمسين يوماً من القطيعة التامة، وكان القرآن قد أبلغ في وصف ما حصل فقال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] فلما نزلت آيات التوبة، أراد الصحابة أن يسبقوا بالبشارة إلى كعب رضي الله عنه، ويروي القصة كعب فيقول: (فابتدر أحدهم على فرسه لكي يصل إلي، وعلا آخر على سلع ليرفع بالصوت) -كلٌ يسابق إلى هذا الخبر لينشره- قال: (فكان الذي على الخيل أسرع، فكسوته بردة والله ما كان لي أحسن منها).
هكذا كان شيوع المبادرة إلى الخيرات، لا يقول النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يأمر أمراً، ولا تنزل آية، إلا وبادروا إلى الاستجابة والفعل والتنافس في هذا الميدان، وكان هذا هو الشأن السائد عندهم.
ولذلك لما تنزلت آيات تحريم الخمر امتنعوا منها لفورهم، ولما تنزلت آيات الحجاب لبس نساء المؤمنين الحجاب من وقته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض فيستبقون.
كما استبقوا في الإنفاق يوم جاء القوم من مضر، فجاء رجل من الأنصار بصرّة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت! فتتابع الناس حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، وسرّه هذا السباق إلى الخيرات، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
والسبق له مزية، والمبادرة لها ثمرة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، فكل من سبق تميز، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، فمن سبق إلى أمر له شرف في المنزلة، وزيادة في الأجر، ورفعة في القدر، وادخار عند الله سبحانه وتعالى، فكيف تريد المعالي ولا تبذل لها مهرها؟! وكيف تريد أن تحقق التفوق ولا تعطي له جهده: تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس قال الله عز وجل: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وإذا أردت دون ذلك فالناس مقامات، والجنة درجات، والنار -والعياذ بالله- دركات: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، تلك هي المراتب، فاختر لنفسك، وانظر هل أنت مدرك لهذا الموسم في الاختبارات أم أن الأمر على غير ذلك؟! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المبادرين إلى الطاعات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(72/7)
فوائد وثمرات المسارعة إلى الخيرات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولئن كان موسم اختبار في عام واحد ينتقل فيه الطالب من مرحلة إلى مرحلة، ويتكرر مرة بعد مرة، ونعنى به هذه العناية، ونهتم له هذا الاهتمام، ونعطيه ذلك الجهد، ونهيئ له تلك الأسباب، ونبادر إليه ونسارع، لنكون في مقدمة من يحصلون على أفضل النتائج بذلك تتعلق قلوب الآباء والأمهات، وبذلك يرتبط طموح الطلاب والطالبات؛ فعلينا جميعاً أن نخرج من هذه الاختبارات بدرس المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، واستباق فوات الأوقات، والمسارعة التي يكون بها في آخر الأمر -بإذنه جل وعلا- دخول الجنات، ورفعة الدرجات، وصحبة خير البريات صلى الله عليه وسلم.
ليس هذا اختباراً كاختباراتنا المتكررة المعتادة، وليست نتيجته ولا ثمرته ولا فائدته كهذه الفوائد التي تنقل من مرحلة إلى مرحلة، أو يأخذ الطالب فيها شهادة أو مكافأة، أو غير ذلك من الأمور العارضة اليسيرة، التي ليس فيها كثير غنائم ولا عظيم نفع.
وهناك كلمات لـ ابن الجوزي رحمه الله في هذا المعنى، نختم بها لعلها تذكرنا بهذا الشعار، يقول رحمه الله: البدار البدار يا أرباب الفهوم، فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى المستقر، والقرب من السلطان ومجاورته، فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق.
اهـ.
فليكن لنا درس وعظة من هذه الجهود التي نوفرها، والاهتمامات التي تشغلنا، وعلينا أن يكون أوكد همنا، وأعظم شغلنا، وغاية أمنياتنا، ومربط ما نحتاج إليه في حياتنا؛ هو سبقنا إلى مرضاة الله، ومبادرتنا إلى طاعة الله، وتهيؤنا لملاقاة الله.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وبارك لنا فيما رزقتنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المبادرين إلى الطاعات، المغتنمين للأوقات، برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وآخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين، فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف اللهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز يا متين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يا من أمره بين الكاف والنون، يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها، واحفظ اللهم أوطان المسلمين أجمعين يا رب العالمين، وانصر اللهم عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخصّ منهم بالذكر: ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(72/8)
مشروعات رمضانية
شهر رمضان موسم الطاعات، ومحل المغفرة والرحمات، ففيه تضاعف الأجور، ويكثر إقبال الناس على الطاعات، وتمتلئ المساجد بالمصلين والتالين للقرآن، وجدير بنا أن نستغل هذا الشهر الكريم بالمشروعات الرمضانية الأخرى، وألا تكون أعمالنا فيه عشوائية، بل نجعله منطلقاً لمشاريع خيرية تنمي جوانب الخير، وتقطع وسائل الشر عن أنفسنا ومجتمعنا على الدوام.(73/1)
مقدمة عن أهمية التخطيط والإعداد والعزم والتجديد والابتكار في الحياة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا بواسع رحمته، وأن يجعل مجلسنا هذا تحفه ملائكته، وأن يبلغنا وإياكم رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
رقم هذا الدرس في سلسلة الدروس العامة (181) وعنوانه: مشروعات رمضانية.
ومناسبة انعقاده في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر شعبان عام (1424هـ) حيث لا يفصل بيننا وبين الشهر الكريم إلا أيام قلائل.
وموضوعنا هذا أحبتي الكرام! موضوع عملي وليس نظرياً، فكل ما سنذكره من المشروعات مقترحات وأفكار لأعمال يمكن لكل واحد منا أن يقوم بها، ولعلي من البداية أقترح عليكم أن تخرجوا أقلامكم وشيئاً من أوراقكم لتدونوا هذه الأفكار آملاً في أن تتحول إلى واقع عملي.
أولاً: أهمية التخطيط والإعداد، كل موسم وكل عمل في أمورنا الحياتية نخطط له ونستعد له قبل بدايته، وقريباً بدأ موسم الدراسة، وجميع الحاضرين بلا استثناء كانوا يفكرون فيه ويعدون له، وأبناؤهم يطلبون منهم ويركبون معهم حتى يتهيئوا لهذا الموسم قدوماً إن كانوا مسافرين، وسكوناً واطمئناناً إن كانوا متحركين، وشراءً للاحتياجات الناقصة، ومتابعة للأمور اللازمة ونحو ذلك، ورمضان أولى بذلك وأجدر، فهو زائر كريم ووافد عظيم، وضيف عزيز، كيف بنا لا نتهيأ ولا نخطط لاستقباله.
ثانياً: أهمية العزم والمعاهدة، ما تقوله الآن وتعزم عليه لا يكون له أثر لو أنك لم تفكر فيه ولم يرد ببالك، وإذا حولت هذا العزم إلى معاهدة بينك وبين أهلك أو بينك وبين زملاء العمل أو بينك وبين أهل حيك، فإن هذا يرتقي إلى أن يكون أمراً نتوقع أن يتحقق بنسبة كبيرة، مع الانتباه لقضية مهمة، وهي أن هذه المشروعات وغيرها من أعمال البر والجد إلى حد ما تعتبر سباحة ضد التيار، لأن التيار في الغالب يميل إلى الكسل وينشغل بالتفاهة، لا يأخذ الأمور الإيمانية والعبادية على المحمل المطلوب، ولا يعنى بأمور الأمة وشئونها على الوجه اللائق، فلذلك كانت الظروف لا تساعد، فإن لم يكن عزم منك ومعاهدة مع غيرك ربما تتبدد هذه الأفكار وتتبخر دون أن تترجم إلى واقع عملي.
ثالثاً: أهمية التجديد والابتكار، ونحن نعلم أن عباداتنا وفرائضنا جاء بها الوحي والشرع، وليست من بنات أفكارنا ولا نتاج عقولنا، ولن نجدد الصيام فنبتكر فيه أو نغير، ولكنا نقول: كيف نجدد في طريقة اغتنامنا للأوقات، وتعاملنا مع هذا الموسم؟! كيف نحول بعض عاداتنا السيئة ونجدد فيما يجعلنا أكثر استعداداً وقوة في التفاعل والانتفاع من هذا الموسم العبادي والإيماني؟ وأذكر لكم مثالاً: فوسائل الإعلام كلها تجدد في كل عام، وهي تجدد في ميدانها الذي يغلب عليه في أكثر قنواته الفساد والإفساد، فنحن نعرف أنه هناك باستمرار -كما يقولون- فوازير أو ألغاز أو ألعاب أو برامج أو نحو ذلك، وكل مرة يجددون، لماذا؟ حتى يكسبوا الجميع معهم، ونحن أولى بمثل هذا.(73/2)
مشروعات شهر رمضان
الآن سننطلق إلى المشروعات، وسأذكر لكم في هذا الوقت القصير مائة مشروع فأكثر، كلكم سينظر إلى الورقة الصغيرة ويقول لن تكفي إلا لأقل من ذلك، لكنكم ستعرفون كيف سنصل إلى هذه المائة، وجزماً سنصل إليها إن شاء الله تعالى، فنبدأ واحداً واحداً.(73/3)
المشروع الأول: حسن الاستقبال
كل وافد وكل مناسبة نعلم جميعاً أن الجهة أو الأفراد الذين ينتظرون هذا القادم يستعدون ويعملون حفلاً للاستقبال.
المدارس تعمل حفلاً لاستقبال الطلاب في المناسبات المختلفة، فيقسمون الأفراد إلى لجان: لجنة للإعلام، ولجنة للتنظيم، ولجنة لاستقبال الضيوف، فما هي المناسبة التي نريد أن نستعد لها؟ الآن وقبل أن يدخل الشهر اعقد اجتماعاً على مستوى القمة في بيتك، وتناقش مع أسرتك كيف نستقبل شهر رمضان؟! مجرد هذه الجلسة سوف يكون منها فائدة كبرى في التهيئة للصغار والكبار والأبناء والبنات؛ ليعلموا أن هناك شيئاً ما، وأن هناك حدثاً ما لا بد أن ننتبه له، خذ في هذه الجلسة أفكاراً من الأبناء، قل لهم: ماذا تريدون أن تفعلوا لاستقبال شهر رمضان؟ كلهم سيقول لك شيئاً، بعضهم سيقول لك: سنزين الغرف، لماذا؟ لنفرح بموسم الخير والطاعات.
بعض الصغار قد يقول لك: أنا أريد أن أصوم في كل يوم إلى الظهر؛ لأنه صغير، نقول: أنت إذاً في ميدان مناسب، الآخرون يقولون: نريد أن نقوم بزيارات للأقارب، كل سيفكر بشيء.
ثم أيضاً نقول: في مثل هذا الاجتماع نقوم بتوزيع الأدوار على الأبناء الكبار والأبناء الصغار، مثلاً: أنت مكلف بإفطار الصائم، إن كنتم كل يوم سوف تخرجون إفطار صائم، وأنتِ مكلفة بأن تقومي بإعداد بعض الأوراق وتطبعينها على الكمبيوتر حتى نهديها إلى الناس، كما سيأتي بعض أيضاً في هذا الاجتماع نذكر بالفضائل والخصائص لشهر رمضان؛ حتى نساعد الأسرة، أو مجموعة العمل، عندما نسرد هذه الفضائل سوف تفتق أفكاراً لهذا الاستقبال.
ثم هناك نقطة مهمة جداً: وهي الانتباه للأخطاء والتقصير من خلال التجارب الماضية، فكثير من الأسر وكثير من الناس يقول: في الأعوام الماضية كنا نسهر ونتأخر عن صلاة الفجر، أو كنا أحياناً نفعل بعض الأمور وننام في النهار وقتاً أطول، أو كنا أحياناً نتكاسل عن أداء صلاة التراويح كاملة.
إذاً: من ضمن خطط الاستقبال كيف نعالج هذه الأخطاء التي تحصل في كل عام، والتي كنا في كل نهاية رمضان نقول: إن شاء الله في رمضان القادم سوف نتلافى ذلك.
إذاً: المشروع أن تجتمع اجتماعاً ليكون هناك حفل استقبال واستعداد لهذا الشهر الكريم والموسم العظيم.(73/4)
المشروع الثاني: السباق مع الريح
هذا مشروع مهم ومفيد جداً، وربما عنوانه لا يدل على مضمونه، لكننا إن تذكرنا حديث ابن عباس في الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل حين يدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة).
الرسول عليه الصلاة والسلام سبق الريح في كرمه وجوده وعطائه، نحن نريد أن نعمل مشروعاً اسمه: سباق مع الريح، قد لا نسبقها لكن نوازيها، قد يكون بعضنا خمسين في المائة وبعضنا ستين في المائة؛ قد يكون هذا المشروع على مستوى الأسرة، وقد يكون على مستوى الجيران، وقد يكون على مستوى أهل الحي، وقد يكون على مستوى زملاء العمل أو الدراسة، ما هو هذا المشروع؟ إنه مشروع التسابق في مجال الإنفاق وبذل الخير.
وهنا وقفة: ليس بالضرورة أن يكون الأمر مالياً بحتاً، سنذكر هنا صوراً من السباق في مجال البذل والتبرع، وسننبه على قضية الرياح حتى لا تشوش على أحد.
اجعل مسابقة بين الأبناء، كل يجمع من مصروفه مالاً يجعله صدقة لوجه الله عز وجل، ولا يعلم بها إلا رب الأسرة، ويمكن أن نخفي ذلك ونجعل لهم أرقاماً لا تعلن إلا في آخر الشهر، ويمكن أن نقول: فاز في هذا الأسبوع واحد منكم وبلغ تبرعه كذا وأنفقناه.
ترى أن من عرف الرقم الذي تبرع به عرف أنه فائز، والآخرون عرفوا أنهم ليسوا فائزين، والمنافسة تشتد في الأيام التي تليها والأسبوع الذي يليه، لو كان في ميدان عمل فيمكن كذلك.
ليس فقط ميدان الإنفاق والتبرع، وإنما المسابقة في ميادين أخرى أيضاً منها: التعريف والدعوة، ما معنى التعريف والدعوة؟ عرف بمجالات الإنفاق وادع إليه، قد لا يكون عندي مال، لكني أستطيع أن أقول: إن في المسجد مشروعاً لإفطار الصائم فلو أنكم تبرعتم لوجدتم من الأجر كذا وكذا، فالذي سيتبرع سيكون في رصيد حسناتك نصيب من تبرعه وأجره.
كيف نتسابق إن كنا جميعاً فقراء معدمين، يمكن أن نتسابق سباقاً مع الريح في مجال التعريف والدعوة للإنفاق، وبيان ذلك وفضائله للناس، وبيان ميادينه التي يمكن أن يسير فيها.
الجانب الثالث: السعي والدلالة، ليس بالضرورة فقط الدعوة للإنفاق بالقول، بل تسعى مثلاً في مشروع إفطار الصائم إلى الحمل مع الناس في إيصال الأشياء إلى مستحقيها، قم بشيء من الجهد الذي يريدونه، حتى تكون مشاركاً في هذا، أو دل عليه دلالة عملية، بأن مثلاً في زكاة الفطر تدلهم على الأسر المحتاجة التي تعرفها فيكون لك أجر الدلالة على الخير كما ورد في الحديث: (من دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
ثم أيضاً في مجال المعونة والمواساة ولو أن تتبسم في وجه المكروب، ولو أن تقف معه وتخفف عنه بكلمات ميسورة، كل هذه ميادين، فينبغي أن نعلن مشروع السباق مع الريح، صدقوني لو أننا أعلنا هذا الشعار في هذه الدوائر التي قلتها، سوف يكون له أثر لا نتخيله ولا نتوقعه، بدلاً من أن يكون التسابق الفعلي في عكس ذلك لميدانين مختلفين: إما في التخلف عن الطاعات والتكاسل عن أدائها فهذا يقول: ننام إلى الظهر، الثاني يقول: أنا أنام تقريباً إلى العصر، الثالث يقول: في الحقيقة أنا لا أستيقظ إلى قبيل المغرب، تنافس إلى الخلف إلى الوراء.
أو تنافس في ميدان آخر: هذا اشترى من الطعام بألف، هذا يقول: نحن اشترينا بعشرة آلاف، هذا يقول: نحن أعددنا للعيد كذا، وهذا يقول: الإنفاق يخصنا وينحصر في ذاتنا، وربما يكون فيه من السرف والتبذير ما فيه.(73/5)
المشروع الثالث: الاستضافة الدعوية
وهذا مشروع سهل ميسور: كثير من الأسر، وكثير من مؤسسات العمل تقوم بمناسبة في هذا الشهر ولو مرة واحدة، إما دعوة للإفطار أو دعوة للسحور، أو دعوة فيما بعد صلاة التراويح كنوع من التواصل أو صلة الرحم أو نحو ذلك، لم لا يكون هناك استضافة لشيخ أو داعية أو عالم أو واعظ لدقائق معدودات؟! يطرق أبواب القلوب، يستنزل بعض الرقة والخشية والخشوع في النفوس، وبذلك يكون له أثر كبير، ويمكن أن يكون ذلك في بيتك أيضاً عندما تجمع أفراد أسرتك، أو تكون هناك مناسبة عائلية موسعة، ولقد جربت هذا وكنت أجد من كثير من الناس يدعونني ويدعون غيري إلى بيوتهم، ويجمعون أفراد أسرتهم من الأبناء والأرحام والأحفاد.
دعوة موجودة سيكون فيها طعام أو سيكون فيها إكرام وضيافة فلم لا نزيد عليها هذا الشيء، بدلاً من أن نقدم الطعام والشراب فقط فلنقدم الذكر والموعظة والتعليم والإرشاد بالأسلوب الحسن وبالطريقة المناسبة، وكثيراً ما يكون لهذا فائدة، حتى وإن كنت أنت تربي أبناءك وتذكرهم وتعلمهم لكن كما يقولون: (زامل الحي لا يطرب) وكل جديد له لذة، كل ضيف سوف يكون الانتفاع به متحققاً.
لو جاء الضيف أو المتحدث من نفس الأسرة ربما يقولون: سمعناه من قبل، وربما بحكم المعرفة والخلطة لا يعطونه الاهتمام أو الاحترام اللازم لذلك، لكن إذا جاء الضيف كان أمر آخر، ثم هناك فائدة: أن يتعرف الأبناء أو الزملاء على طلبة العلم والدعاة، وأن يستمعوا لهم، فربما كان الحاضرون لم يستمعوا مرة إلى درس أو إلى موعظة غير خطبة الجمعة، وقد يرغب الواحد منهم ويصبح بعد ذلك يتتبع الدروس والمحاضرات والمواعظ هنا وهناك، وربما أيضاً يتعرف على هذا الشيخ فيحتاجه في سؤال أو استفتاء أو يستشيره في أمر ما، فيفتح من أبواب الخير من أثر هذا اللقاء والتعرف ما لا يعلمه إلا الله.
وفي ذلك أيضاً ترغيب وتحبيب فيما سيطرح من هذه اللقاءات والموضوعات.(73/6)
المشروع الرابع: الحملة الخيرية
نبدأ هذه الجملة بالتذكير بحديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم والذي أخبر فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع بعض أصحابه في المسجد، فدخل قوم من مضر عليهم أثر الفاقة مجتابي النمار -أي: ملابسهم مقطعة- فتمعر وجه النبي عليه الصلاة والسلام) -أي: تغير حزناً لما رأى من حالهم، وما تغير وجهه إلى بعد أن تغير قلبه ونفسه من فرط رقته ورحمته وشدة تأثره بأحوال الناس وضعفهم وفقرهم وسوء حالهم.
ثم ماذا؟ هل تمعر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله وسكت؟! انتظر النبي عليه الصلاة والسلام حتى دخل وقت الصلاة -وكانت صلاة الظهر- ثم صلى بالناس ثم قام فيهم خطيباً وبدأ بالآيات المعروفة في التقوى والأمر بها ثم قال: (تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من صاع بره، تصدق رجل من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)، دعا الناس كلهم أن يتبرعوا وأن ينفقوا، هذه حملة تبرع نبوية منذ ذلك العهد.
(فأتى رجل من الأنصار بصرة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، وتقدم فوضعها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام فتسابق الناس -يعني: تشجعوا- كلاً يخرج ما عنده حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه) لا بهذا المال؛ لأنه كان من الممكن أن يقول: يا عثمان! أخرج كذا وكذا، أو يا عبد الرحمن بن عوف! أو غيرهما من كبار التجار، ونحن دائماً إذا ذكرنا التبرعات ذكرنا كبار التجار، سبحان الله! ننسى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (سبق درهم ديناراً)، القليل من القليل كثير، عندما يكون رأس مالي ألفاً فأخرج خمسمائة، أكون قد أخرجت نصف ما لدي، أليس كذلك؟! والذي يخرج خمسمائة وعنده خمسمائة مليون لم يخرج إلا شيئاً لا يذكر، فالمسألة ليست بالكثرة وإنما بهذا التحرك الذي يترجم التكافل والتعاون الذي تزول به الحاجة ويندفع به الأذى، كما حصل في هذه الحادثة.
ثم أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أولئك المحتاجين من ذوي الفاقة، وقال في هذه الحادثة: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
فأنا أريد أن أعمل حملة للتبرع وحملة خيرية في المكان الذي أختاره، قد يكون في بيتي، قد يكون في مقر عملي، أو مع زملاء دراستي، أو مع أهل حيي، وهذا سنكرره دائماً، ما الذي نقوم به؟ اختر الموضوع أو القضية التي تريد ندب الناس للتفاعل معها والإنفاق في سبيلها، لنقول مثلاً: قضية إسلامية كقضية إخواننا في فلسطين، أو حاجة من الحاجات التي تكون في مجتمعنا وفي واقعنا، تحدث أولاً عن هذه القضية، وضح معنى وأهمية هذه القضية، اذكر الحاجة الملحة الشديدة للإعانة والإنفاق في هذا الباب، اذكر أمثلة للسبق والتسابق في هذا الميدان، اذكر أمثلة للأثر الإيجابي الذي يدخل إلى نفوس وقلوب من يعانون وينفق لهم هذا المال، ثم هيئ النفوس كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
النبي عليه الصلاة والسلام انتظر الصلاة حتى يجتمع أكبر عدد ممكن من الناس، وحتى يكون الناس قد صلوا وركعوا وسجدوا وذكروا ودعوا وابتهلوا فيكونون في مستوى إيماني مرتفع بحيث يمكن أن يجودوا وينفقوا في سبيل الله عز وجل، وانتظر الصلاة ليذكر المسلمين بأنهم أمة واحدة، كأنه يقول: الآن قمتم إلى الصلاة غنيكم وفقيركم، قويكم وضعيفكم في صف واحد، إذاً أنتم إخوة في الله، إذاً أنتم كتلة واحدة وأمة واحدة، لماذا تكونون أمة في الصلاة ولا تكونون أمة عند الحاجات وعند الملمات، وعند سد الثغرات، وعند كل ما يمكن أن تحتاج إليه الأمة في أي باب من الأبواب؟! ولذلك فإن التأثير والتذكير مهم جداً، ثم بعد ذلك ربما لا نكون مهيئين لأن نبذل أو ننفق فلنفكر ولندبر كيف يمكن أن نترجم هذا الذي سمعناه، والأمور التي علمناها، والأحوال التي عرفناها، كم من المرات نسمع؟! كم من الخطب نسمع؟! كم من الأحاديث نسمع عن أحوال وأمور في بيئتنا ومجتمعنا أو في بلاد المسلمين؟! ولا نفكر كيف يمكن أن نعمل أو نترجم ذلك إلى حملة حقيقية توصل الخير وتسد شيئاً من الرمق أو تدفع باباً من الأذى، أو تثبت أحداً من المسلمين أو نحو ذلك؟! وفي آخر الأمر سوف ينتج عن هذا ضرب من المنافسة والمساهمة التي ذكرناها في سباق الريح، وهذا أمر فطري طبعي.
ولاحظوا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس جميعاً ولم يدع الأغنياء فقط، حتى قال: (ولو بشق تمرة)، يعني: لا أريد أن يتخلف أحد منكم عن أن يتقدم للإسهام ولو بأقل القليل، إذاً القليل من الكثير كثير أو لا؟ نحن لو قلنا: نريد من كل واحد ريالاً كل الناس يقول: يا أخي! ماذا سيصنع الريال؟ لكن لو أخذنا هذا الريال من ألف مليون مسلم كم سنجمع؟ ألف مليون ريال.
لا نتصور نحن القليل من الكثير أو القليل مع الدوام، وهذه قضية سيأتي ذكرها، وهي مشروع مهم جداً لا بد من أن يحرص الجميع على تنفيذه وتطبيقه.(73/7)
المشروع الخامس: المقاطعة الآمنة
ماذا نريد أن نقاطع لكي نأمن وندفع الشرور والأمراض والمشكلات الكثيرة؟ أنا أدعو أن يكون شهر رمضان شهر مقاطعة لوسائل الإعلام الفاسدة، ومعلوم أن الغالبية العظمى منها خاصة الآتي عبر الفضاء هي كذلك، وكلنا يعلم هذه الخصيصة البغيضة التي جعلوها لشهر رمضان خصيصة الفوازير، والقضية هل هي سؤال للمعرفة وللثقافة ولزيادة الاطلاع؟ خذوا صورة تعرفونها من يقدم الفوازير؟ لا بد أن تكون المقدمة الرئيسية امرأة أو فنانة، حتى ولو أن هناك رجلاً، لكن لا بد أن تكون هي موجودة، وفي الحلقة الواحدة تظهر بعشرة فساتين، وبعشر تسريحات للشعر، وبأكثر من عشر رقصات مع عشرة من الرجال،
و
السؤال
أين هي الثقافة والمعلومة المفيدة؟ وكم في ظل ذلك من الفساد! وكم من الأثر السيء! وكم من ارتكاب للحرام حتى نأخذ هذه الفزورة، أو هذا اللغز! وهل جعل رمضان لكي نشغل أنفسنا بالألغاز؟ كأننا فارغون وهناك من يريد أن يملأ فراغنا، كما كان يقول الشيخ كشك رحمه الله: سلِّ صيامك فصيامك فيه ملل، ونريد أن ندخل عليه التسلية.
كل عام هناك مسلسلات خاصة في رمضان ماذا تقدم لنا في غالب الأحوال؟ هل تقدم فضائل الأخلاق، أو مكارم الخصال، أو تنبه على الخلل؟ كثير مما تعلمونه، وتكون في كثير من الأحيان في أفضل الأوقات المهمة وقت الإفطار، فبدلاً من أن تذكر الله أو ترتاح لتستعد للصلاة تأتيك هذه المسليات والمرغبات من هنا وهناك، واليوم لم يعد الوقت مع هذه الفضائيات محدداً ففي وقت الإفطار يبثون ما يمكن من المشاهد؛ لأنها لا تراعي حرمة للشهر، أو أن التوقيت مختلف، فكثير من الفضائيات العربية تصوم في النهار وتفطر في الليل، وتعرفون ما معنى صيامها في النهار؟ وما معنى فطرها في الليل؟ صيامها في النهار تأتي بالقرآن وبرامج دينية في وقت العمل والنوم، وإذا جاء الليل جاء معه ما تعلمون، لكن نهار أولئك ليس مثل نهار هؤلاء، فيأتيك في الليل والنهار ما هو جارح للصيام.
أسأل سؤالاً واحداً: ما الذي سينقص عندما نقاطع هذه الشاشة لمدة شهر رمضان؟ سوف نرى أثر ذلك سلامة من أمراض القلوب، وأمناً من وهن النفوس، واطمئناناً لرشد العقول، وعدم وجود أنواع من الخلل تتسرب إلى أبنائنا من مشاهدات كثيرة سيئة.
سيقول بعضنا: وكيف تملأ الأوقات؟ وكأننا كما قلت: ليس عندنا اهتمام ولا عناية، وكأننا لا نعرف أين نحن وفي أي زمان نحن؟ بمعنى: لا نعرف أننا في رمضان، وأننا في موسم الطاعة، وأن مهما اغتنمنا من الوقت في الطاعات فإنه قليل، وأذكر لكم ما ذكره ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة الإمام الشافعي -وارجعوا إليها- يقول: إن الإمام الشافعي رحمه الله ختم القرآن في رمضان ستين ختمة.
أعلم أن بعضاً منكم سوف يقول: هذا مستحيل، أنا أقول لكم ما قال ابن عساكر: يقول ابن عساكر -وانتبهوا إلى هذا الكلام-: فحاولت ما حاول الشافعي فلم أستطع إلا تسعاً وخمسين ختمة.
إذاً المسألة ليست خيالاً، فنحن نقول: ماذا سنصنع إذا لم نشاهد التمثيلية، ونشاهد المسابقة؟! سبحان الله! عجيب أن نفكر بهذا، لكن أقول: خذوا بدائل، لماذا لا تشغلوا الأبناء ببعض الأمور النافعة؟ رسوم خاصة موجودة أو مبتكرة خاصة برمضان مثل صورة الإفطار يلونها الأبناء، أو صورة للتمر والنخل، أو صورة لمعركة بدر يلونها، فإنه سيكتسب من ذلك شيئاً مفيداً، والصغار إذا وجههم الآباء توجهوا، ويمكن بسهولة جداً أن يتوجهوا إلى أمور يرون فيها متعة، ويرون فيها قضاء للوقت، لماذا هم الآن متعلقون بمشاهدة الشاشة الفضائية؟ لأنهم وجدوا فيها المتعة وليس عندهم غيرها.
أوجد بدائل أخرى: اجعل لوحة كبيرة في حائط المنزل، واطلب من الأبناء كل يوم أن يختار الواحد منهم شيئاً يكتبه بنفسه ويعلقه أو يقصه من جريدة أو مجلة، أو يختار صورة معبرة ومؤثرة ومفيدة، سوف تجد أن هناك وقتاً كثيراً، سوف يضيق عن تنفيذ مثل هذه المشروعات، وذكر الصغار بأن يبحثوا أو يقرءوا وقل لهم: أريد من كل واحد منكم أن يأتيني بقصة لبعض العلماء أو الأئمة أو أسلافنا الصالحين لمن هو في مثل عمره، مثل قصة أنس بن مالك عندما قدمته أمه للنبي عليه الصلاة والسلام ليكون خادمه وكان عمره عشر سنين، وعاش في بيت النبوة عشر سنين منذ نعومة أظفاره.
قل لابن العاشرة: اقرأ سيرة أنس وائت وقصها على بقية إخوانك، ابن الرابعة عشرة والخامسة عشرة دعه يأتيك بقصة عبد الله بن عمر يوم رد في أحد، وقصة سمرة بن جندب ورافع بن خديج يوم تصارعا حتى يذهبا إلى الجهاد في يوم أحد.
اجعل ابن الثامنة عشرة والتاسعة عشرة يأتيك بقصة أسامة بن زيد يوم تولى الجيش، اجعل هناك منافسات وأشياء مختلفة غير ما يأتينا من الغثاء عبر هذه القنوات، وصدقوني أنكم ستجدون وقتاً كثيراً طيباً ليس فيه تعلق وليس فيه أذى للعين بالمشاهدة وأذى للأذن بالسماع، ومشكلات نجدها خاصة اليوم مع القنوات حتى الأبناء يتصارعون هذا يريد أن يرى قناة كذا وهذا يريد كذا، لو أننا انتهينا من هذه المشكلة ستجدون أنها مقاطعة نافعة وآمنة، تسلمون بها من كثير وكثير من الشرور والأضرار والمشكلات، وأظن أننا في غنىً عن توضيح ذلك.
وأما إمكانيته فأنا أجزم لكم بنسبة مائة في المائة أنها ممكنة، لن ينقص وزنك ولن يصيبك صداع في الرأس ولن يحصل لك أي شيء، بل سوف تزداد إيماناً وتقوى وخيراً، وستجد من الوقت ما تفعل فيه ما كنت تظن أنك عاجز عنه، الناس الآن يتنافسون هل سيختمون في رمضان كله ختمة أو أقل، وهناك قلنا: ستين وتسعة وخمسين!(73/8)
المشروع السادس: رحلة على بساط الريح
الناس يعرفون بساط الريح، تركب على بساط الريح وتذهب حيثما تشاء، أليس كذلك؟! وهذا بساط الريح سوف يذهب بك إلى بلد إسلامي، وسوف يجعلك تزور المسلمين والأقليات الإسلامية في كل بلاد الدنيا، وتذكر أن تفعل ذلك في رمضان وأن يكون ذهاباً وإياباً في نفس اليوم، هل هذا ممكن أو غير ممكن؟ إنه ممكن، وذلك بأن تقوم بزيارة ميدانية للجمعيات والمؤسسات الإسلامية، تذهب إلى الندوة العالمية للشباب الإسلامي، هناك شيء اسمه فلسطين، تدخل فلسطين تسمع وتقرأ وتطلع على التقارير والصور وأشرطة الفيديو والأفلام، تخرج بعد نصف متر إلى كشمير، تخرج من كشمير وتذهب إلى لبنان، تذهب إلى كل مكان وتستطيع أن تطلع على الأحوال بالأرقام والصور، لماذا نحن دائماً ننتظر أن تأتي إلينا الأشياء وعندما تأتي إلينا نكون منتظرين أيضاً من يفسرها لنا ومن يشرحها لنا؟ أقول: اذهب إلى جمعية القرآن الكريم، أو تحفيظ القرآن الكريم، انظر كم عدد حلقاتهم؟ كيف يصنعون في القرى؟ كم حافظاً خرجوا؟ لماذا تذهب للزيارة؟ هل لفائدتهم؟! نعم ولفائدتك أولاً، ثق تماماً أنك سترجع من هذه الزيارة بفوائد كثيرة.
وبالمناسبة فلا تكون الزيارة لك وحدك، ولا بد أن تصطحب معك أبناءك، ستجد هناك معارض تريهم أحوال المسلمين وأوضاعهم، واصطحب زوجتك ونساءك، وكل هذه الجمعيات في غالبها لها أقسام وفروع نسائية، ستدخل الزوجة والمرأة وترى وتسمع ما لم تكن تعرف، وستحيط بمسائل وتلم بقضايا لم يكن لها بها علم سابق، أضف إلى ذلك أن هذه الزيارة لها أثر كبير يوم أن تقول لهؤلاء: جزاكم الله خيراً، فهم يدركون أن هناك من يقدر عملهم، ومن يذكر جهدهم ويشكرهم إن كانوا يريدون وجه الله عز وجل ويبتغون مرضاته.
سوف يكون لك دور بعد هذه الزيارة، وأنا أجزم لك أنك بعد هذه الزيارة سوف تتحدث عنهم بدون قصد، وسوف تقول لمن تقابله: أنا رأيت كذا وكذا، في قضية كذا وكذا، المسلمون في البلاد الفلانية عددهم كذا وقوتهم كذا.
أعطيكم أمثلة من الواقع أيضاً مثل هذه الزيارات: ألبانيا بلد مسلم كان يرزح تحت الشيوعية سبعين عاماً، وخرج منه المسلمون صوراً فقط، لم أذهب إلى تلك البلاد، لكن رأيت صوراً معبرة.
صورتان لم تمحيا من ذاكرتي منذ رأيتهما قبل أكثر من عشر سنوات: صورة الإنجيل يوزع على المسلمين عند أبواب المساجد؛ لأنهم مسلمون لا يعرفون من الإسلام شيئاً مطلقاً، وسلاسل الصليب وهي معلقة على صدور أبناء المسلمين وهم لا يعرفون شيئاً من ذلك.
الصورة الثانية: صلاة الجمعة صفان أو ثلاثة يصلون، ومثلهم واقفون يتفرجون، هؤلاء مسلمون لكنهم لا يعرفون شيئاً من الصلاة أبداً، ولا يعرفون الفاتحة ولا ماذا يقولون في الركوع ولا السجود، لكنهم بعاطفتهم يأتون ويشاهدون إخوانهم وهم يصلون، ألم يؤثر فيك ذلك إذا رأيته في تقرير أو في صورة متحركة أو ثابتة؟ ألا تتحدث بهذا؟ ألا تتندم على أنك مقصر شئت أم أبيت؟ أنت مقصر وأنا مقصر؛ ألست تعرف الفاتحة؟! فماذا فعلت حتى تعلم واحداً من المسلمين الفاتحة؟ وإذا ذهبت إلى مراكز الدعوة والإرشاد هنا في هذه المدينة، سوف يرونك الجولات الدعوية في القرى، إنهم يصنعون دورة كاملة لمدة أسبوع صباحاً ومساء، ما هو برنامجها؟ تعليم الفاتحة والصلاة، هنا على بعد مسافات لا تزيد عن الساعتين أو نحوها، هل تعجز أن ترافقهم يوماً وتعلم بعض الناس الفاتحة؟ سوف تزور هذه الأماكن وترى كم من الجهود العظيمة التي تبذل، سوف تحمد الله عز وجل ثم تشكر لهؤلاء، وسوف يتضح لك ما قد يغيب عنك وما قد تبثه وسائل الإسلام المعادية للإسلام وأهله، كل جمعية إسلامية تقدم الدعوة أو الخدمة أو النصر للمسلمين هي اليوم إرهابية وعدوانية وإجرامية، وقد تسمع وتسمع ثم تصدق، لكنك إن قمت بهذه الزيارة فسترى شيئاً آخر، وستدافع عن بينة وعلم، ستقول: كلا، كل هذا هراء، أنا رأيت بأم عيني كذا وكذا وكذا، أنا سمعت بأذني كذا وكذا وكذا، ثم قد تشارك وتقول: أنا بنفسي فعلت كذا وكذا، وكلام هؤلاء باطل وكذب.
وللأسف أن بعض الناس مع كثرة ما يردد الإعلام إما اقتنعوا أو على أقل الأمر تشككوا في أصالة فطرنا وطيب مجتمعنا، وعراقة تديننا في هذه البلاد وفي كثير من بلاد الإسلام، حتى أن بعض الناس أصبح اليوم يتحرج أن ينفق في سبيل الله ويقول: ما أدراني أن هذا الكلام صحيحاً سبحان الله! هذه الزيارة أو الرحلة على بساط الريح سوف يكون لها أثر كبير، وأرجو صادقاً لكل من حضر في هذا المجلس ومن ستبلغونهم أن تملئوا هذه المؤسسات بالزيارات في هذا الشهر الكريم أنتم وأبناؤكم وأزواجكم، وعندما تذهب هناك ستجد نفسك منشرحة، وتدعوك إلى أن تخرج كل ما في جيبك، وأن تدعو غيرك؛ لكي تنفق وتسهم مع هؤلاء في نصرة الإسلام والمسلمين ونشر دعوته ونوره بين العالمين، وأكتفي بهذا وإلا ففي الحديث مجال رحب وميدان واسع.(73/9)
المشروع السابع: صياد القلوب
إذا صدت القلوب بالسهم فلن يكون صيداً محموداً بل قاتلاً، وإذا صدتها بالسنارة سوف تمزق هذه القلوب، لكن كيف نريدك أن تصيد القلوب في شهر رمضان؟! نريد أن تكون معنا في مشروع كل منا يستطيع أداءه جزماً وقطعاً، عندنا وسيلتان نصطاد بهما القلوب: الوسيلة الأولى: الكلمة الطيبة، هل تعرفون أن الكلمة الطيبة هي السحر الحلال، وهي الطُعْم الذي تستميل به النفس والقلب، الكلمة التي فيها نوع من مد جسور المودة والمحبة، ونوع من إشاعة أجواء الترابط والتكافل.
الوسيلة الثانية: هي الهدية: (تهادوا تحابوا)، فالهدية هي رسول المحبة، وهي سفير المودة، وهي التي تغرس في القلب امتناناً لا بد أن يكون له أثره، أنا لا أريد منكم شراء سيارة هدية، بل أريد منكم كرتاً صغيراً ومعه كتيب صغير أو شريط؛ لأن العبرة بالهدية في رمزها بل أكثر من ذلك في خصوصيتها، لماذا أهديت محمداً ولم أهد سعيداً؟ لأن محمداً خطر على بالي، ولماذا خطر على بالي؟ لأن له مكانةً في قلبي، ولماذا له مكانة في قلبي؟ لأني أحب له الخير.
هذه كلها رسائل تتضمن أن الهدايا لها قيمة عظيمة جداً، لكن احرص مع الهدية على الكتابة واجتهد إن كنت قادراً أو حتى مقتبساً أن تكتب كلمات جميلة مثل: إلى الأخ الذي كلما أراه أشتاق أن أراه، إلى الأخ الذي أحبه في الله، كلمات ثق بأثرها العظيم في صيد القلوب.
أهد أشرطة، كتيبات، مطويات، وبالمناسبة أنت لن تشتري شيئاً فهذه الأشياء توزع، وأحياناً نتيجة لسوء التوزيع ترمى، ستكون موجودة بأعداد أكثر من الحاجة ماذا يصنع الناس بها؟ يتركونها، نقول: لا، خذها أنت واجعلها في ظرف وارسم عليه وردة، أو ارسم عليه قلباً كما يفعلون، اكتب عليه كلمات جميلة، ضعها لجارك، اسبق زميلك في العمل وضعها على طاولته، أنا لن أتكلم عن الفائدة التي سيجنيها من الشريط أو من الكتاب أو من المطوية، أنا أتكلم عن حقيقة هذا الفعل فقط دون أن نتحدث عن أثر ما فيه وما في مضمونه، ويمكن أن تستفيد الآن من البريد الإلكتروني، فتستطيع أن تأخذ رسومات من هذا الحاسوب وكذلك بطاقات للإهداء، وتأخذ من نفس بطاقة الحاسوب كلمات وآيات وأحاديث وترسلها مرة واحدة بضغط زر واحد إلى مائة أو ألف من أصدقائك، بل إلى مائة ألف، وهذا مشروع آخر سيأتينا حديث عنه وذكر له.
هل هذه مهمة صعبة؟ هل هناك من يعجز عنها؟ أنا أقول: الجميع حتى الصغير في المرحلة الابتدائية -وأرى هنا بعض صغار السن من الأبناء- أقول: افعل هذا مع زملائك أهد لزميلك شيئاً ولو أن تكتب له فقط في هذه الورقة آية وحديثاً وتقول: هدية من أخيك المحب، سوف يكون لهذا أثره المهم والجميل.(73/10)
المشروع الثامن: الضربة القاضية
ما هي الضربة القاضية؟ هذه الضربة قاتلة ننتهي بعدها إلى الفوز الساحق.
هذه الضربة القاضية مع من؟ نحن أو غيرنا سنحتاج إلى هذه الضربة القاضية مع أنماط كثيرة من العادات السيئة التي نعجز عن تغييرها، نقول: سوف نغير كذا، نبقى يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين ثم نرجع، ثم نقول: سوف نترك كذا، ثم نرجع، وهكذا نبقى في معركة مستمرة والجولات متوالية، فاجعل رمضان فرصة للانتصار بالضربة القاضية، يعني: ليس هناك عودة مرة أخرى.
وهنا أحب أن أقف مع الضربة القاضية في المسألة المعروفة التي يكثر ذكرها كلما جاء شهر رمضان: وهي الإقلاع عن التدخين، وقد ذكرت لكم في درسنا السابق كم أعداد الذين يدخنون في هذه البلاد، الإحصاءات تقول: خمسة عشر مليار سيجارة تستهلك في المملكة، ستمائة وثلاثة وستون مليون ريال سنوياً، فهي رابع دولة مستوردة للدخان في العالم، أكثر من عشرة مليار دولار مصاريف المستشفى التخصصي بالرياض في علاج أمراض التدخين، أعتقد أن هذه كلها ضربات قضت على كثير من شبابنا وأموالنا وصحتنا، أليست هناك فرصة لنتحول من الهزيمة إلى الانتصار والانتصار الساحق بالضربة القاضية.
وهنا خطوات سريعة لمن يريد الانتصار بالضربة القاضية على التدخين: أولاً: اعقد العزم من الآن وابدأ بتقليص التدخين قبل أن يدخل رمضان.
حدد اليوم الأول من رمضان موعداً للإقلاع النهائي عن التدخين، اعلن ذلك في الوسط المحيط بك في أسرتك وزملاء عملك، وقل لهم على سبيل التحدي: إن رأيتموني أدخن فأنا لست رجلاً، أو أنا كذا وكذا، أو إن رأيتموني أدخن فلكم الحق أن تخاصموني أن تقاطعوني؛ حتى تقوي عزمك على ذلك.
اكتب لوحة صغيرة بخلاصة الأمراض القاتلة والأضرار الخطيرة للتدخين، وهي مبثوثة بعشرات ومئات وآلاف الصفحات في كل مكان، في الكتب وفي مواقع الإنترنت وغيرها، خذ صفحة واحدة واكتبها بخط كبير وعلقها في كل مكان تجلس فيه: على مكتبك، وعند غرفة نومك، وفي صالة طعامك؛ حتى تتذكر عندما تريد أن تشعل التدخين أنك تتسبب في تصلب الشرايين لنفسك، أنك تأخذ لنفسك فرصة للوقوع في المرض الخبيث (السرطان)؛ حتى تدرك كم تحرق من مالك، ضع هذا نصب عينيك حتى تستطيع أن تتخلص من هذا التدخين.
احذر الأصدقاء المدخنين الذين ليست عندهم عزيمة على ترك التدخين؛ فإنهم من عوامل العودة إلى التدخين.
زد من كل أمر يعينك على ترك التدخين مما يتعلق برمضان، ومن ذلك الدعاء الصادق لله عز وجل، ومن ذلك قوة العزيمة الناشئة من ترك الطعام والشراب في أثناء النهار، وأيضاً سوف تقوم ببعض الأعمال المهمة، وهي لطيفة ولكنها مفيدة.
أكثر ما يعاني منه المدخنون في الأوساط التي لا يدخن أصحابها أمرين: رائحة الدخان، ومنظر الأسنان المصفرة.
قبل رمضان اذهب إلى طبيب الأسنان ونظف الأسنان واستخدم مطيبات أو معطرات الفم؛ حتى إذا قطعت التدخين تبدأ الأمور تتضح ولا يأتي من بجوارك يقول: أنت مدخن، وحتى تتغير نفسيتك وتتهيأ له بما يدل على أنك ماض إلى تركه بالكلية بإذنه سبحانه وتعالى.
تجنب الأماكن التي يكثر فيها التدخين.
استحضر أو خذ معك بعض الفتاوى الواضحة في تحريم التدخين.
ذكر نفسك دائماً وقل: إذا كنت تعتقد أن التدخين حلال فلماذا لا تسمي الله عند بداية شرب السيجارة، ولماذا لا تقول بعد إطفائها: الحمد لله؟! أليست كل نعمة نبدأ فنقول: باسم الله فنشرب، باسم الله فنأكل، فإذا انتهينا قلنا: الحمد لله، هل سمعتم أحداً عندما يدخن يقول: باسم الله؟! لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا أمر خبيث كما قال الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
هل تشرب الدخان أمام من تحترمه أو تهابه؟! مثلاً: الابن هل يشرب أمام أبيه إذا كان الأب لا يدخن؟ الصغير هل يشرب أمام الكبير إذا كان يهابه ويحترمه؟ وإذا كانت (السيجارة) مناسبة وحلالاً وليس فيها شيء، فهل تعلمها لأبنائك وترغبهم فيها؟ هل سمعتم أن أحداً يصنع ذلك حتى ولو كان مدمناً للتدخين؟! هل يشتري أحد لأبنائه الدخان ويقدمه لهم ويقول لهم: خذوا واستمتعوا؟! لا أعلم أحداً يفعل ذلك.
إذاً: ذكر نفسك بهذه المعاني، خذ قرارك بصدق وانجح في الانتصار بالضربة القاضية بإذن الله عز وجل.(73/11)
المشروع التاسع: الإنفاق المجاني
إنفاق ولكن بدون أن تدفع شيئاً، ما هو هذا؟ إنه القيام بالعمل التطوعي، فلنكن جميعاً رافعين لشعار جديد: متطوعون بلا حدود، تطوع بوقتك، ماذا تصنع هذه المؤسسات الخيرية، لديها الكثير من الأوراق التعريفية، خذها ووزعها على مقر عملك، خذها أيها الطالب واستأذن إدارة المدرسة أو سلمها لإدارة المدرسة لتوزعها على زملائك، تطوع في أن تساهم في المشروعات القائمة، هؤلاء يوزعون إفطار الصائم، اذهب واحمل معهم الطعام وقم بتوزيعه وساعدهم في هذا الباب، هناك من يريد أن يوزع هذه المواد التذكيرية من كتاب أو شريط، ساهم معهم، تطوع بوقتك، تطوع بفكرك، فكر بخطوة عملية، هناك أشياء كثيرة يمكن أن تقترحها ويكون من ورائها خير كبير، ولم تخرج ريالاً من جيبك، ولم تصنع شيئاً يكلفك جهداً، ولكنك وجدت أشياء أو أوجدت أشياء مفيدة ونافعة بإذنه سبحانه وتعالى.(73/12)
المشروع العاشر: صعود بلا حدود
وهو مشروع مناسب جداً لرمضان، ما هو هذا الصعود بلا حدود؟ صعود ليس له منتهى! يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي في سننه: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، ورمضان شهر القرآن، كم من السور قد سبق لك أن عزمت على أن تحفظها ولم تحفظها؟! كم من الناس يقول: أريد أن أحفظ سورة الكهف، أريد أن أحفظ سورة يس؟ كم من الناس يقول: لم لا أحفظ القرآن؟ لو كنت صادقاً وعازماً فإن البداية المناسبة هي شهر رمضان، شهر القرآن الذي تتلو فيه القرآن كثيراً، اجعل لك في كل يوم وقتاً لحفظ بعض الآيات، خذ أقل القليل الذي يمكن أن تصعد به بعض هذه الدرجات، ثم إذا واظبت على ذلك على مدى ثلاثين يوماً في شهر رمضان، يرجى أن تستطيع بإذن الله عز وجل المواظبة فيما وراء ذلك من شهر شوال، أو الاستمرار في بقية أيام العام بدون توقف بإذن الله عز وجل، ولو لم تكن من القادرين على الحفظ، فتعلم حسن التلاوة، فكثيرون يقرءون القرآن في رمضان وفي غير رمضان وهم لا يحسنون تلاوة القرآن، لا في الحركات ولا في المدود ولا في أحكام التجويد، بدلاً من أن تختم أكثر اختم أقل، وجود بشكل أفضل، تعلم بعض أحكام التجويد، اقرأ بعض السور على من يحسنها ويتقنها من زملاء العمل، أو إمام المسجد، أو مدرسي التحفيظ، من أي جانب من الجوانب الكثيرة التي يمكن أن تتسع فيها الآفاق، ويحصل فيها كثير من الخير العظيم الذي يمكن أن تستفيد منه كثيراً.
أنا قلت لكم: سوف نصل إلى مائة مشروع وأكثر إن شاء الله، فهل عند أحد منكم شيء يمكن أن يقوله؟ ما زلت سأعينكم بذكر مشروع أو مشروعين فقط، ثم نجعلكم تكملون المائة.(73/13)
المشروع الحادي عشر: رحلة عبر آلة الزمن
مشروع رحلة عبر آلة الزمن: وهذا يمر كثيراً فيما يقدمونه من الأفلام أو التمثيليات وأن هناك من دخل في آلة الزمن ورجع إلى ما قبل مائة سنة من زمانه، وكيف يصبح غريباً في الزمان الآخر، وينسجون لك قصة تكون غريبة ومثيرة ومشوقة، نحن نريد أن ندخل في مثل هذه الآلة، وننتقل فعلاً إلى زمن آخر، كيف نصنع ذلك؟! من خلال محطات تاريخية، فلننتقل إلى المحطات التاريخية الرمضانية، اجعل يوماً لغزوة بدر، إن كان عندك صالة في المنزل أو غرفة اجعلها لغزوة بدر، كيف ستجعلها لغزوة بدر؟! اعمد إلى خريطة موجودة في كتاب من كتب السيرة فيها غزوة بدر، كبر هذه الخريطة واجعلها في هذه الحجرة، احضر كتاباً خاصاً بغزوة بدر، أخرج منه قائمة واطبع فيها أسماء الشهداء الذين استشهدوا في غزوة بدر، هذه الغرفة في يوم من الأيام في رمضان تدخل فيها أنت والأسرة أو أنت وزملاء العمل وتقول: نحن الآن في منطقة بدر، على بعد خمسين ومائة كيلو من المدينة المنورة، ونحن الآن في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، ونحن الآن في العام الثاني من الهجرة، وتذكر كل ما يتعلق بهذه الغزوة من الأحداث، ويكون نقاش وحوار، ونرجع إلى التاريخ ونعيش داخله تماماً.
وخذ بعد ذلك فتح مكة في اليوم الثامن من شهر رمضان، ومعركة عين جالوت في الخامس والعشرين من رمضان، ووفاة خالد بن الوليد في الثامن عشر من رمضان، ومعركة الزلاقة وغيرها من المشاهد الكثيرة، اختر بعضاً منها، واجعل في بيتك ركناً تاريخياً في كل أسبوع، كلف الأبناء كل أسبوع أن يعدوا الموقع والغرفة لشيء آخر، أرى البعض من إخواننا يبتسمون، ولعلهم يقولون: هذه فيها غرابة، أقول: إن الغرابة والتجديد هما اللذان سيجعلان نوعاً من النشاط والتحفيز، وثق أن أثر هذا في الأسرة -على وجه الخصوص الأبناء والزوجة وكذا الأقارب والزوار- كبير جداً.
وأذكر لكم تجربة عملناها منذ سنوات عدة: أخذت مطبوعة -وقد وزعناها هنا في المسجد العام الماضي والذي قبله- عن خريطة فلسطين بين التآكل والتوسع الصهيوني، وهي تبين لنا فلسطين كيف كانت قبل عام (1948م) وكيف نقصت بعد عام (1948م)، ثم نقصت بعد عام (1967م) ثم نقصت ثم نقصت عبر الأعوام، والخريطة تمتد لتتسع مساحة اليهود الغاصبين وتغمر ديار المسلمين، هذه الخريطة منذ ذلك الوقت أراها كل يوم أكثر من مرة، وأراها في كل بداية يوم وفي كل نهاية يوم، لو أنك فعلت ذلك لعشت التاريخ بمراحله المختلفة.
أبناؤنا الآن لا يعرفون عام (1948م) ولا عام (1967م)، لا يعرفون التاريخ ولا الحدث، ولا يعرفون الأسماء والمصطلحات، لا نسأل عن التاريخ البعيد، بل التاريخ القريب، من يعرف من الأبناء -الذين هم الآن في سن العشرين- عن حرب رمضان وليس عن حرب أكتوبر كما يقولون؟ ماذا يعرفون عن التغير الذي كان أثره بعض جولات الانتصار الأولى؟! ماذا نعرف عن هذا التاريخ؟! كم هو جدير بنا أن نصوره وأن نرسمه وأن نعيش فيه، وأن ندخل أبناءنا إليه، وأن نعرفهم به؛ لأنها قضية مهمة لا بد من العناية بها والحديث عنها بشكل مباشر.(73/14)
المشروع الثاني عشر: حمامة السلام
آخر ما يمكن أن نذكره مشروع حمامة السلام: والمقصود به أن تقوم بالمهمة بدون مفاوضات سياسية، ولا مؤتمرات دولية، ولا ألاعيب سياسية، كم من الناس تجد بينهم خصومة وسوء تفاهم وبعض المشكلات، لماذا لا تقوم بالإصلاح بينهم؛ لتنال الشرف العظيم، والأجر الكبير في إصلاح ذات البين؟ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).
كم سعينا بين الناس بالإصلاح؟! قليل، بل نحن أحياناً نكون ضد ذلك، ونكون من أسباب استمرار أو زيادة الشحناء، أنت نفسك قد تكون بينك وبين بعض أقاربك وأصدقائك خصومة أو مشكلة، لماذا لا تكون أنت حمامة السلام؟ لماذا لا تبادر إلى زيارة أرض العدو -كما يقولون-؟ زر خصمك وزر غريمك، وأنت وإياهم في حقيقة الأمر إخوة في الإسلام، وقد تكونون إخوة في القرابة والرحم والدم، لماذا لا نكبر عقولنا، ونوسع صدورنا، ونفتح قلوبنا؟ لنغتنم هذه الفرصة العظيمة لنشيع الوئام والمحبة والسلام فيما بيننا، ولنكون بالفعل صفاً واحداً ضد أعدائنا الذين يأتون بالموت الزؤام في عباءة ورداء السلام.(73/15)
مشروع المشاريع أهميته ومقصوده
عندنا المشروع الأخير تعرفون ما هو اسمه؟ مشروع المشاريع.
الآن هذه المشاريع فكرت فيه بعضها وقرأت هنا وهناك واستنبطت وجئتكم باثني عشر مشروعاً ذكرناها آنفاً، كل منكم يخترع مشروعاً واحداً، كم عندنا هنا؟! أكثر من مائة، اجعل لنفسك أن تقترح أو أن تبتكر مشروعاً من جنس هذه المشاريع، نحن لم نذكر مشاريع خاصة بالنساء، لم نذكر مشاريع خاصة بالأسواق، لم نذكر مشاريع خاصة بمكة والمدينة والعمرة وما يمكن أن يكون فيها، لم نذكر مشاريع ومشاريع ومشاريع كثيرة، أليس كذلك؟! هذه أبواب واسعة من هذه المشاريع المختلفة.
قلنا مشروعنا الأخير: هو مشروع المشاريع، هو مشروع لابتكار مشروعات مماثلة، وما زال الباب واسعاً يمكن أن تكون هناك مشروعات مع الزوجة والأبناء، مشروعات مع الأقارب والأرحام، مشروعات مع الجيران والزملاء، مشروعات في المواصلات العامة، كيف يمكن أن نقدم فيها الخدمة أو التذكرة والموعظة؟ مشروعات في جوانب مختلفة وبعضها لم أذكرها.
كل ورقة سنذكرها الآن مما جاء من الإخوة سنحيلها إلى مشروع، لو أننا تعودنا دائماً أن نترجم أو نحول الأفكار إلى مشروعات، ونترجم المشروعات إلى أعمال يسيرة في البداية وقليلة في البداية، سوف نجد أنها تعظم وتكبر ويصبح فيها فائدة كبيرة وعظيمة.
النقطة الثانية التي ذكرها بعض الإخوة جيدة وجديرة بالاهتمام: هي أننا ذكرنا اثني عشر مشروعاً يقول: لو أنك نقلتها إلى عشرة أشخاص وكل شخص نقلها إلى مثل هذا العدد، فسوف يكون هناك كثير وكثير من الناس الذين سوف يقومون بهذه المشروعات، ربما لا تنفذ أنت من هذه المشاريع التي ذكرناها إلا واحداً أو اثنين، لكنك إن نقلتها إلى العشرات فقد ينفذها هؤلاء بأكثر وبأقوى مما صنعت وفعلت، ربما يتيسر أن تنسخ هذا الشريط وتوصله للناس، فيكون فيه أثر أن الناس يتذكرون أو يستفيدون ويطبقون ويمارسون ويحققون هذه المشروعات، هنا تعليقات كما قلت كل منها في غالب الأحوال يصلح أن نحوله إلى مشروع.(73/16)
مشروع النصرة
أحد الإخوة يقول: ذكرت حمامة السلام ولم تذكر الجهاد، وكلامه جيد، ولا زال عندي هنا مشروع مكتوب اسمه: النصرة، كيف ننصر إخواننا المجاهدين في ساحات الجهاد التي لا غبار عليها، ولم نصدق أحداً مهما قال وزاد، بل إن هذا الذي يقوم به المجاهدون في فلسطين أمر ليس له اسم أو وصف غير الجهاد، لكن قد لا تكون الفرصة مواتية فسميته النصرة؛ ليكون بالإمكان أن تقوم بما يستطاع.
لكن المشروع الحقيقي هو أن تقف عند هذه القضية وبالذات قضية فلسطين، والذين هم مجاورون لحينا ويحضرون جمعتنا يعرفون أنني دائماً أعيد القول فيها وأزيده؛ لأن هذه القضية هي قضية الإسلام الأولى في هذا الزمان، وهي قضية التآمر ضد الإسلام وأهل الإسلام في هذا الموطن الذي ذكرنا فيه من النصوص والخصائص ما يبين أهميته.
وليس عنا ببعيد ما قاله الجنرال العسكري من جيوش الأعداء يقول في كلام معلن: نحن -أي: المسيحية واليهودية- في حرب مع الشيطان، وقد اكتشفت أن المسلمين لا يعبدون الله وإنما يعبدون الوثن أو الشيطان.
والترجمة العملية لذلك واضحة، أقول: استحضر هذه القضية، إذا قلت: أستطيع أن أنصرهم بالدعاء، إذاً فاجعله أمراً لازماً في كل دعاء، انصرهم بالتعريف اجعله واجباً حتمياً أن تعرف في كل يوم أو في كل مناسبة، انصرهم بالمال، اجعل في مالك وصدقتك وزكاتك جزءاً يخص هذه القضية، بأي وسيلة تكون النصرة ألزم نفسك بها.(73/17)
كيفية ممارسة المشاريع في غير رمضان
الآخر يقول: هل جميع هذه المشاريع يمكننا ممارستها في غير رمضان؟ إذاً نقول: هذا مشروع المشاريع المستمرة، واختر من هذه المشاريع ما يكون مستمراً، فحفظ القرآن وتلاوته ليس خاصاً برمضان، الصدقة ليست في رمضان، إذاً هذه فكرة كأنها فكرة جديدة بأن تعطيها اسماً، وتقول: كيف ستطمع في ذلك؟ أعطيكم تجربة عملية: أحد الناس جاء ورأى بعض الصناديق الصغيرة التي كانت تصنعها بعض الجمعيات الخيرية، وهي شفافة ترى فيها الأموال، ثم ذهب وسأل أين صنعت؟ فصنع منها نحو عشرين، وفي اجتماع قال لكل أسرة ورقة قال فيها: صدقة دائمة، أسرة آمنة، ووضع لهم الحديث (ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وملكان يقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، ووضعها في كل صندوق من هذه الصناديق، ووزع عليهم الصناديق وقال لهم: اجعلوها في بيوتكم، وقولوا لأبنائكم: لا بد أن تنال هذه الدعوة من الملائكة بريال يوضع هنا في كل يوم بلا استثناء، حتى إنه يمكن أن تأخذ ثلاثين ريالاً وتصرفها ثم تضعها عند أبنائك وتقول لهم: هذه حصتي، ضغوا لي كل يوم في الصبح ريالاً.
هذا مشروع مستمر دائم وهو فاعل، ويمكن للجميع أن يطبقه.(73/18)
مشروع إصلاح القلوب
كيف نصلح قلوبنا؟ إذا صلحت صلح كل شيء، فكر لنا في مشروع اسمه: إصلاح القلوب، اطلب من إمام المسجد أو شيخ أن يعطيك ورقة، اذهب إلى كتاب من كتب السلف أو الكتب المعاصرة التي تتحدث عن أمراض القلوب، خذ منه شيئاً واجمع مادة تشاور فيها بعض من ترى أنهم يفيدون، اطبع ورقة أو اجعلها كتيباً سمه: مشروع إصلاح القلوب، اطلب من إمام المسجد أن يخطب في إصلاح القلوب، انظر من يتعامل مع الشبكة العنكبوتية، أعطه هذه المعلومات لينشرها عبر الحدود وخارج الحدود؛ لأنها فضاء واسع.(73/19)
مشاريع متفرقة ومقترحة من الحاضرين
سوف تسمعون مشروعاً جديداً يقول: أقترح أن يصمم كل واحد منا صندوقاً صغيراً ويضعه في مدخل العمارة التي يسكن بها، ثم يضع بها أسبوعياً مجموعة من الوصايا والنصائح وتوزع على الشقق التي في عمارته، مثل: زيارة المرضى في المستشفيات، زيارة المرضى المدمنين في مستشفى الأمل، زيارة الأطفال المعاقين في معهد الأمل، زيارة المساجين في بعض السجون، وتوزيع بعض الكتيبات والأشرطة عليهم، كم صارت المشاريع؟ ما شاء الله لا تعدونها.
الآن هذا يسأل سؤالاً فقيهاً ليس له صلة مباشرة بموضوعنا ونحن نريد إن شاء الله أن ننتهي، يقول: مشروع الوضوء سلاح المؤمن، والوضوء وقاية للنظر والجوارح واللسان والسمع وغيره كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، والسؤال عن كيفية الوصول إلى الأذهان لإشاعة الطهارة، وربما يذكر في هذا حديث بلال (ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، وما توضأت إلا صليت ركعتين)، وكان هذا سبباً من الأسباب التي نال بها بشارة النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة.
هل قراءة القرآن حتى الختم أفضل أم التفرغ لحفظ جزء كبير من القرآن؟ في كل خير، اجعل لك تلاوة مستمرة، واجعل قدراً خاصاً بالحفظ، واجعل قدراً خاصاً بالتأمل، وقد ذكرنا ذلك في خطب كثيرة كان عنوانها: القرآن نور الأنوار، في وقت سابق من شهور خلت.
أحبتي الكرام! أعتقد أننا لولم نخرج من هذا اللقاء إلا بفائدة واحدة تقول: نحن الآن نريد شيئين: أن نتهيأ لشهرنا وضيفنا القادم، ونريد أن ننجز وأن نخرج بثمار عملية، لو خرجنا بهذا لكان يكفي.
يقول عن مشروع التنفيذ: كيف نحفز أنفسنا وعزائمنا على التنفيذ ولو خمسين في المائة من هذه المشاريع النافعة، فبعد العلم يجب العمل؟ أقول من غير إعلان: كل الحاضرين الذين سمعوا فليقل كل منهم لنفسه: إنني أعقد العزم وأعطي العهد على أن أبذل الجهد إلى أقصى طاقة ممكنة لتنفيذ هذه المشروعات وغيرها من المشروعات النافعة، قولوا هذا لأنفسكم واعقدوا عليه العزم، واسألوا الله عز وجل الإعانة، وسيكون من وراء ذلك خير كثير، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يصرف عنا ما لا يحب ولا يرضى، وأن يستخدمنا في نصرة دينه وعون عباده، وإعلاء رايته، ونشر دعوته، وأن يجعلنا ممن ينصر الإسلام والمسلمين.
اللهم استخدم جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك وعون عبادك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تهل علينا هلال رمضان باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأن تجعله هلال رشد وخير وبركة علينا وعلى إخواننا المسلمين، ونسألك اللهم أن تجعله لنا شهراً خيراً مما مضى من شهور رمضان التي قمنا فيها بالصيام والقيام، ونسألك اللهم أن تجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(73/20)
برقيات إلى المعلمين والمعلمات
للتعليم أهمية كبيرة؛ لأنه يرتكز عليه محك صقل عقول البشر، ولذا كان من الأهمية بمكان الاهتمام بإعداد المدرسين إعداداً جيداً حتى يربوا جيلاً جيداً، وعلى المدرسين دور كبير في هذا الإعداد والاهتمام، فعليهم أن يطوروا أنفسهم، وأن يؤدوا مهمتهم على الوجه المطلوب.(74/1)
بين يدي الموضوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فموضوع حديثنا بعنوان (برقيات إلى المعلمين والمعلمات)، وفي بداية العام الدراسي خصوصاً يأتي هذا الموضوع مناسباً ومتوافقاً مع الاحتياج إليه والتذكير به.
وأحب أولاً أن أخاطب المعلمين بأننا منهم، ونمارس مهنتهم، وليس فالمعلم الأصل أنه يُعلِم ويتعلم، بمعنى أنه لا يستكبر عن التعليم، لكنه هو في مقام التعليم والتوجيه، ولذلك جعلت عنوان الموضوع بهذه العمومية، ليس فيه إرشادات ولا توجيهات، وإنما هو هذه البرقيات التي ربما تتضمن بعض الآراء والمشاركات.
الأمر الثاني: أن الاقتران في الموضوع بين المعلمين والمعلمات للأهمية في كلا الجانبين، وللمساواة من جهة أخرى، مع أن اللفظ التذكيري في الحديث إنما هو للتغليب كما يقول أهل اللغة، ومن وجه آخر لأن الحديث عن التعليم وعن المعلمين وعن الطلبة هو جانب، وجانبه الآخر يشبهه تماماً في جانب النساء من المعلمات ومن الطالبات.
ثالثاً: عندما بدأت أعد في هذا الموضوع وجدت أن هذا العنوان العام إن أراد الإنسان أن يتناول معظم جوانبه لا كلها فإنه يقتضي منه دهراً طويلاً ووقتاً طويلاً وموضوعات مختلفة، فهناك المعلم من حيث إعداده، ومن حيث مواصفاته وصفاته، ومن حيث موضوعات أخرى تتعلق بطرق التدريس، ومن حيث التربية، ومن حيث مشكلة الطلاب، ومن حيث القضايا الإدارية، ومن حيث أمور أخرى كثيرة ومتشعبة ومتعلقة بهذا الموضوع، وهو موضوع طويل يستحق التفصيل، لكن لن يكون هذا في هذا المقام وحده، وربما -إذا اتسعت الفرصة- تكون هناك موضوعات أخرى متعلقة بهذا الموضوع تفرد على حدة، حتى تُعطى بعض القضايا حقها من التحضير والإعداد، ومن حسن الجمع والكتابة.
وأما هذا الموضوع فهو برقيات، والبرقيات دائماً تكون مختصرة وموجزة وإن كثرت، لكنها لابد في الأساس أن تكون عبارة عن ومضات سريعة، وهذا يناسب الموضوع من جهة، ويناسب المعلمين؛ لأن المعلمين سريعون في الفهم، كما يقال عند العامة: المعلم في أي شيء هو الذي يفهم أي شيء ويفهم كل شيء بسرعة.
ولذلك نحن نأخذ المعلمين بالوصف الأكاديمي كما يقال، وبالوصف العام أيضاً، فالمعلم هو الذي يتقن ويحسن ويفهم، ويؤدي الأمر على التمام والكمال كما يقال.(74/2)
ذكر بعض فضائل المعلمين
سوف نركز في هذا الموضوع على جوانب محصورة ومحدودة أمضي فيها مختصراً القول، وأدع بعض النصوص والنقول إلى آخر الحديث طمعاً في أن لا نترك بعض هذه الموضوعات، وأملاً في أن تكون هذه التوجيهات أو هذه الكلمات التي أخترتها موصولة حتى تمكن الاستفادة منها بإذن الله عز وجل.
أولاً: من أنتم؟ وهذا ليس بسؤال غريب، وإنما هو تأكيد وتذكير وإحياء لمعنى المعلم ومفهوم المعلم ورسالة المعلم، فنحن نريد ابتداءً أن يعرف المعلم نفسه، وعندما نذكر بعض النقاط قد يقول بعض المعلمين -وأعرف هذا من خلال ممارستي ومن خلال معايشتي لكثير منهم-: إن هذه نقاط أو مسميات أو مدلولات نظرية، ولكن الواقع يخالفها.
وأيضاً سيقول فريق آخر: هذا الوصف الذي سيذكر عن المعلم لا يعترف به أكثر الناس، ولا يعرفه مجمل من لهم تأثير في واقع المجتمعات.
أقول: كل هذا قد يكون حقيقة، لكن أعظم شيء وأهم شيء هو أن يعرف المعلم نفسه، وأن يكون مقتنعاً بهذا الوصف، فإذا كنت -على سبيل المثال- تعرف نفسك أنك ذو مال فلا يضرك أن يقول الناس: إنك فقير معدم.
أو لا يعرف كثير من الناس أن عندك هذه القدرة، لكن إنما يحصل الخلل عندما تكون ذا مال وتظن وهماً أو خطأً أو من كلام الناس أنك فقير معدم، وهذا هو الخطأ الأكبر، ولذلك فإن المهمة الأولى أو الرسالة الأولى أو البرقية الأولى هي من أنتم أيها المعلمون والمعلمات؟! من أنتم في حقيقة كلام الله عز وجل وفي منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي دين الإسلام، وفي واقع الحياة، وفي مستقبل الأمة؟ ينبغي أن نركز على هذا المفهوم تركيزاً نظرياً، وأن يكون أيضاً قضية فكرية وشعورية تلامس القلب والنفس، حتى يمكن أن يتحمل المعلم الأخطاء الواقعة في المجتمع لفهم مهمته، ولفهم منزلته ومكانته، فمن أنتم أيها المعلمون؟! أقول في برقيات سريعة: أولاً: أنتم المرفوعون -أي: عند الله سبحانه وتعالى- لقوله سبحانه: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ثانياً: أنتم المندوبون -أي: عن الأمة- كما قال جل وعلا: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
ثالثاً: أنتم الوارثون -أي: الوارثون لأعلام النبوة- كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله: (العلماء ورثة الأنبياء).
رابعاً: أنتم المأجورون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظمة الأجر الذي يلقاه معلم الناس الخير، في قوله عليه الصلاة والسلام: (من علم علماً فله أجر من عمل به، ولا ينقص ذلك من أجر العامل شيء)، وفي حديثه الآخر: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله).
خامساً: أنتم المحسودون؛ لأنكم -كما سبق أن أشرت- وارثون للنبوة مأجورون من الله عز وجل، فأنتم المحسودون، أي: حسد الغبطة التي ينبغي إذا فهمها أهل الإيمان أن يتنافسوا فيها، وأن يتسابقوا إليها، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل الله آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
سادساً: أنتم المورِّثون، فكما كنتم وارثين فأنتم تورِثون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخصيصة عظيمة لأهل العلم، يظن بعض الناس أنها جزئية لهم، وذكر بعض العلماء أنها كلية في حديثه عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
ونصيب أهل العلم من هذا الحديث هو قوله: (أو علم ينتفع به) لكن ذكر بعض أهل العلم أن العلم من المعلمين لا يُقصد به هذا الجزء فقط، وإنما الأجزاء الثلاثة كلها، فإن التعليم في حد ذاته صدقة؛ لأن فعل الخير أياً كان صدقة، قال ذلك ابن جماعة في كتابه عن التعليم، قال: وشاهد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الرجل بعد انقطاع الصلاة قال: (من يتصدق على هذا؟).
ففعل الخير في حد ذاته صدقة، فتعليمك للرجل صدقة منك عليه، ثم علم ينتفع به وهو ظاهر، أو ولد صالح يدعو له، وما أكثر ما يكون الطلبة أكثر دعاءً من الأبناء لآبائهم، فبذلك يكون المعلم ممتداً أجره وفضله وخيره لهذه الصورة الشاملة التي ذكرها بعض العلماء.
سابعاً: أنتم الأولون، فكل أحد ليست له بداية إلا بالتعليم، بل إن الله عز وجل قد أشار إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19]، ففي هذه الآية دلالة على أن العلم هو الطريق إلى الإيمان، وعقد الإمام البخاري فصلاً في كتاب العلم في صحيحه فقال: (باب العلم قبل القول والعمل).
فإذاً: العلم هو الأول في الاعتقاد، والأول في القول، والأول في العمل، والأول في واقع الحياة، فانظر إلى الوزراء والمدراء والأطباء والمهندسين والفقهاء، فستجد أنهم كلهم كانوا يوماً من الأيام تلاميذاً، مروا عليك -أيها المعلم- في فترة من الزمن، وتلقوا على يديك بعضاً من العلم، ولو أنك علمتهم القراءة والكتابة، فيظن بعض الناس أن معلم الابتدائية هذا في أدنى المراتب وفي أحقرها، لكنك يوماً ستجد عظيماً من العظماء أو عالماً من العلماء سيذكر الذي علمه الألف والباء، والذي علمه الكتابة، وكيف أنه كان يخطئ فيها ومعلمه يعلمه إياها، وكيف أنه عاقبه على عدم إجادته فيها في أول أمره، فهذه المفاتيح كلها وهذه المراتب كلها وهذه المناصب كلها إنما أنت بادئها، وأنت مفتتحها، وأنت الأول فيها.
ثامناً: أنتم المجاهدون، وهذا ذكره العلماء، وهو مما يدل على فقههم وعميق علمهم، ذكره الخطيب البغدادي في كتابه: (الفقيه والمتفقه) عندما ذكر أن سبيل الله عز وجل يشمل التعليم والجهاد، وقال ما ملخصه: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، وإن التعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين.
وابن القيم رحمة الله عليه له في هذا المعنى عبارة ضافية، فعندما أشار إلى أن العلم هو نوع من الجهاد في سبيل الله قال رحمه الله: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله عز وجل لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد.
فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان -وهذا المشارك فيه كثير- والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه.
ثم استدل بقول الله عز وجل في سورة الفرقان المكية: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:51 - 52] فهذه الآيات نزلت والجهاد لم يشرع بعد، فالمراد به جهادهم بالقرآن والبيان والحجة الداحضة التي تبين الحق وتقيم الدليل عليه.
وعندما يقول قائل: لمَ يطلقُ مثل هذا القول في كلامه رحمة الله عليه عندما قال: هو أفضل الجهادين؟ فنقول: إن الجهاد المعروف إنما تعرف فضيلته وتعرف أحكامه وتعرف أهدافه وغاياته من خلال العلم، فالعلم هو السابق على الجهاد، وهو الممهد له، وهو المهيج عليه، وهو المبين لغاياته وأهدافه، وبالتالي هو الذي ينشئه في النفوس إنشاءً، ويبينه في العقول بيانا ًواضحاً شافياً، ولذلك هذا أيضاً معنىً من المعاني.
تاسعاً: أنتم المدافعون عن الأمة في أخلاقها، وفي تفكيرها، وفي حضارتها، وفي تقدمها، فإن المعلم كأنما هو أعظم جهاداً من المجاهد في واقع الأمر؛ لأنه يجاهد الجهالة بالتعليم، ويجاهد الحماقة بالتقويم، ويجاهد الشطط بالاعتدال، ويجاهد الخمول والكسل بالتوجيه إلى الجد والعمل، ويواجه أموراً كثيرة، ثم هذا كله يجاهد به في نفوس متغيره، وأفكار متبدلة، وعواطف متأججة، فعمله صعب شديد، وأثره عندما يتحقق -بإذن الله عز وجل- يكون قوياً وعظيماً، ولذلك عندما يريد أعداء الأمة أو تريد جهة ما من الجهات أن تؤثر في مجتمع أو في أمة فإن أوكد اهتمامها وأولى أولوياتها أن تتوجه إلى التعليم، فتغير المناهج -وهذه خطوة- وتصوغ المعلمين -وهذه خطوة أخرى- وإذا عملت في هذين الجانبين استطاعت أن تدمر كل المقومات، واستطاعت أن تزعزع العقائد في النفوس، واستطاعت أن تحرف السلوك، واستطاعت أن تغير طرائق التفكير، واستطاعت أن تجعل هناك الهزيمة النفسية إلى آخر ذلك مما يعلن في قضايا الغزو الفكري ونحوه، فالمعلم أو المعلمون هم المدافعون عن هذه الأمة عندما يقومون بواجبهم ورسالتهم على النحو المطلوب.
عاشراًً: أنتم المصلحون لما يفسده الآخرون، فقد يفسد الطالبَ أهلُهُ، وقد يفسده مجتمعه، وقد يفسده أحياناً ما يسمعه أو ما يراه أو ما يقرؤه، ومهمتك أنه كلما حصل عطل وحصل خراب أن تصلح، وهذا في حق المعلم مهم جداً ومتحقق فعلاً؛ لأن المعلم أثره مستمر؛ لأنه يبقى مع الطالب وقتاً طويلاً وسنوات عديدة، ومن خلال مواقف متكررة، ومن خلال تدريس وتعليم ونشاط وغير ذلك، بينما المخربون الآخرون أحياناً يكون دورهم مقصوراً، إما مقصوراً بالوسائل، وإما مقصوراً في الوقت والزمن، فيبقى عامل الإصلاح في المعلمين أغلب وأنجح وأكثر تأثيراً واستمرارية من غيره إذا هم أتقنوه وأحسنوه، كما يقول بشير الإبراهيمي الذي كان رئيساً لجمعية العلماء في الجزائر في أوائل القرن التاسع عشر، يقول للمعلمين: أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمة؛ فإن الوطن لا يعلق رجاءه على الأميين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسك بصداها وكررها كما يكرر الببغاء.
فنحن نرى أن المعلمين هم المصلحون وهم المقومون، فإذا كنت -أخي المعلم- مرفوعاً عند الله، مندوباً عن الأمة، ووارث(74/3)
دور المعلم في نظر المجتمع إليه
وأقف هنا وقفة يسيرة أذكر فيها بما قلته قبل أن أبدأ هذه البرقيات أو هذه الكلمات، سيقول كثير من المدرسين: ما أجمل هذه الكلمات! وما أحسن هذه العبارات! وما أحسن هذه الاستدلالات! لكن أنا المدرس وأنا المعلم المسكين الذي ينظر إليّ الناس شزراً، ولا يرون لي قيمة، ولا يرون لي نفعاً، وربما جاء ولي أمر الطالب يصب عليّ جام غضبه، وربما جاء المدير يفضفض عن نفسه بما يلقيه عليّ من التبعات، وربما جاء الطلاب المشاكسون والأغبياء المتبلدون، فبعد هذا كله تريد أن تقنعني بأنني في هذه المنزلة الرفيعة العالية؟ فأقول ما قلته أولاً: هذا كلام فيه آيات قرآنية، وفيه أحاديث نبوية، وفيه معانٍ واقعية، وفيه تجارب تاريخية، وفيه إمكانية تطبيقية، فالأمر بيدك، وأنت حيث تريد لا حيث يريد الناس، فإذا أردت لنفسك أن تكون كما يقولون فهذا بيدك لا بيد عمرو كما يقال، وإذا أردت أن تكون كما ينبغي أن تكون فيمكن أن تغير ذلك وأن تفرضه على الناس من حولك.(74/4)
أثر القناعات الخاطئة على الآخرين
ثم هنا نقطة أخرى وهي مهمة جداً: ما تأثير القناعات الخاطئة عند الآخرين، أي: من غير المعلمين؟ الخطر عندما ينظر المعلم إلى نفسه نظرة خاطئة، فهنا يقع الخطأ، فلا يعرف أن له مهمة عظيمة ولا رسالة ولا فائدة، إذاًَ لماذا يعمل؟ وكيف سيعمل؟ وبأية نفسية سيتوجه إلى عمله؟ والآخرون لسنا معنيين بهم في هذا المقام، فإذا أقنعت نفسك بهذا فستسمع كل كلام فلا يؤثر فيك، وتسمع كل احتقار فلا تكترث له، حتى تكون حينئذٍ بهذه الانطلاقة مصلحاً ومغيراً لأفهام الآخرين بإذن الله عز وجل.
وأيضاً: عندما يكون بعض الآباء أو بعض المدراء أو بعض قطاعات المجتمع لا تدرك هذه الأهمية فمن الذي سيغيرها؟ أقول: التغيير بأيدي المعلمين في كثير من الجوانب أقوى من أي جهة أو من أي تيار غيرهم، لأسباب كثيرة: أولها كثرة المعلمين، وانظر إلى أية دائرة من الدوائر كم عدد موظفيها وكم عدد الموظفين القائمين بمهمات التعليم والتدريس! وانظر أيضاً إلى المحتاجين إلى الخدمات في أي قطاع، خدمات الجوازات، أو خدمات المطارات، أو أي خدمات أخرى، ستجد أنهم فئات قليلة، لكن التعليم كل الأمة تمر خلاله، وكل مولود في هذه الأعصار في بيئات كثيرة وفي بيئاتنا لابد أن يمر بهذا التعليم.
فإذاً بكثرتكم لو أنكم فهمتم ووعيتم وأجمعتم وقررتم وعملتم وواصلتم يمكن أن تغيروا كل هذه الأفكار وكل هذه التصورات الخاطئة، ثم عندكم ثروة عجيبة يمكنكم أن تغزوا عقول الآباء والأمهات من خلال أبنائهم، ويمكنكم أن تغزوا المجتمع من خلال الذين تخرجونهم على أيديكم ويكونون غداً موظفين ومعلمين ومهندسين وأطباء إلى غير ذلك، فيمكنكم أن تغيروا كل شيء؛ لأن عندكم أكبر قوة تغييرية، وهي: القوة البشرية، فلا يتغير بالقوة المادية ولا بالقوة الإعلامية ولا بأي قوة أخرى -وإن كانت هذه لها تأثيرها- مثل ما يتغير بالقوة البشرية والقناعة الفكرية والتربية السلوكية والحقائق الإيمانية التي تزرعونها في طلابكم، فيمكن أن تغيروا، ولا يكون التغيير الإيجابي في غمضة عين وانتباهتها، ولا بين عشية وضحاها كما يقولون، وإنما لهذا وقته، لكن المهم أن تكون مقتنعاً به، وأن تكون مستوعباً له، وأن تكون متفاعلاً معه، حينئذٍ يمكن أن يكون لك مثل هذا الحظ.
وأما هذه النظرات التي أشرت إليها عند بعض إخواننا المدرسين فأذكر لهم بعض ما قد يوافق هوى بعضهم من باب الفكاهة، أو من باب التحميس أو النظر إلى بعض النماذج، فالأستاذ الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله عز وجل له مذكرات، وفي كثير من كتبه كلام عن المدرسين من حيث همومهم وأعبائهم، وتجد أحياناً عندما يصف لك دور المدرس وهو يصحح الكراريس كما يسميها أو وظائف الطلاب كما يسميها والأوراق وغيرها تجد أنك تحزن لهذا المدرس حتى كأنك في جنازة ومأتم، وتجده أحياناً يعبر بتعبيراته الأدبية بأمور لا يقصدها ولا يعنيها، وإنما يعبر عن حقيقة المعاناة التي لا يلمسها الآخرون، فهو يعبر عن هذا ثم يقول: وماذا حظي بعد ذلك؟ يقول: بعض الطباشير التي يقذفها عليّ الطلاب، وبعض الأمور كذا وكذا وكذا إلى آخره.
وكما عبر شاعر معلقاً ومعارضاً لقصيدة شوقي في المعلم: قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً فهذا القائل من أهل التعليم أو من المتعاطفين معهم قال: شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم ووفه التبجيلا ويكاد يطلقني الأمير بقوله كاد المعلم أن يكون رسولاً لو جرب التعليم شوقي مرة لقضى الحياة شقاوة وخمولاً يا من يريد الانتحار وجدته إن المعلم لا يعيش طويلاً ويعني بقوله: (ويكاد يطلقني الأمير) أمير الشعراء.
وهو وإن كان قد يعاني لكن كما قلت: لابد أن يدرك هذه القيمة العظيمة لأهميته ومنزلته، والحديث برقيات، والبرقيات لا بد أن تكون مختصرة.(74/5)
عمل المعلمين
سؤال ثانٍ: ما هو عملكم؟ وهذا أيضاً أشير فيه أشارات سريعة: أولاً: المعرفة والتعليم؛ لأن هذا هو الأمر الأول المتبادر إلى الذهن، وأن المعلم يعلم الطلاب، أي: يعطيهم معلومات يعرفونها ويحفظونها، ثم يسألون عنها فيكتبونها، وهذا في حد ذاته جزء أساسي لاشك في أهميته، لكنه ليس وحده كما سيأتي، فقضية التعليم عندما تُفهم بهذا المعنى تكون حشواً للمعلومات في الرءوس، وتكون في الوقت نفسه عملية مملة يرى الطالب أنها أثقل عليه من الجبال العظيمة الشاهقة؛ لأنه تُسرد له المعلومات سرداً، ويُحشى بها عقله حشواً، كما كان أحد الأساتذة الذين درست عندهم في مرحلة جامعية عليا يقول: كان المدرسون يجهلونكم ستة عشر عاماً حتى جئتم إليّ تتعلمون.
ثم قال: المطلوب من كثير من الطلاب -أي: في أسلوب التعليم- أن يحفظوا أوراقاً معينة، ثم يأتي يوم الإختبار فيتقيئونها على الورق، ثم ينتهي الأمر إلى هنا.
إذاً هذه المهمة ينبغي أن تعرف بقدرها، وأن تعرف بأساليبها وطرائقها، كما سأشير إلى بعض ذلك لاحقاً.
فأول عمل هو التعليم، والتعليم هو كما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم) فالتعليم له طرائق، وله وسائل، وله أساليب محببة إلى النفوس، ومقربة إلى الأفهام والعقول، وهذه كلها ينبغي أن لا تخفى على المدرس.
ثانياً: مع المعرفة والتعليم لابد من صياغة التفكير، وهذه مهمة عظيمة، وهذا عمل خطير جداً؛ لأن المعلومات وحدها ما تنشئ شيئاً، ولا تقوم معوجاً، ولا تحرك ساكناً، ولا تدفع إلى فضيلة، ولا توجه إلى مهمات الأمور ومعاليها، لكن من أهم الأشياء صياغة التفكير، فالمعلم ينبغي أن يضع الأسس الصحيحة للتفكير السليم، وللمبادئ التي ينبغي أن تكون مسلمات، وللأخلاقيات التي ينبغي أن تكون أموراً متعارفاً عليها مقراً بها لا خلاف في أهميتها وفضيلتها، بمعنى أن المعلم يحتاج من خلال التعليم ومن خلال العملية التعليمية كلها أن يصيغ الفكر الصحيح، فمثلاً: هناك هزيمة نفسية عند كثير من أبناء المسلمين، ويرون -أو يرى بعضهم- أن المسلمين متخلفون، وأن غير المسلمين متقدمون، وقد يرى بعضهم في أفكارهم تشويشاً حول هذا المعنى بأن أولئك تقدموا لأنهم -مثلاً- تخلوا عن دينهم، كما كان يقال في أوائل هذا العصر، وقد انتهت هذه المقولة إلى حد كبير.
أيضاً: هناك تفكيرات أخرى أن قضايا العلم مرتبطة بالأجناس، فتجد عند بعض الطلاب هذا المعنى، فأحدهم يقول لك: يا أخي! الغربيون الأمريكيون عقولهم كبيرة، وهم الذين يمكن أن يخترعوا، ولا يتصور أن يكون في بني الإسلام أو في بني العروبة من عنده عقل مبدع أو منتج أو مفكر.
وهناك أيضاً أمور وأسس ثابتة في أمور الدين وأمور العقائد لابد أن يتصورها الطالب، وأن يحسن التفكير في أن هذه لا مساس بها، ولا مفاوضة عليها، ولا مجاملة فيها، ولا مداهنة فيها، إلى غير ذلك.
هناك أيضاً قضايا متعلقة بتاريخ الأمة وبمقوماتها الأخلاقية والفكرية ينبغي أن تكون أيضاً من مهمة المدرس، وهذه لها أثرها العظيم والكبير.
ثالثاً: التربية السلوكية مع الصياغة الفكرية، فأحياناً عند بعض الناس نظرات فكرية ممتازة، فأحدهم يقول: ينبغي أن يكون كذا، والحقيقة أن الأصل هو كذا.
وهكذا هذه الأمور في قضية المعلمين بأنهم كذا وكذا وكذا، فهذه نظرية وقضية فكرية، لكن ما هو التطبيق الواقعي؟ إن من الطلاب -خاصة في سنوات تعليمهم الأولى وفي سنوات الشباب- من عندهم صور الخلل السلوكي والانحراف العملي التطبيقي، ومن مهمة المدرس الأولى ومن أعظم وظائفه العملية أن يقوَّم هذه السلوكيات، وأن يعوَّد الكاذبين على الصدق، وأن يمنع المنحرفين عن الانحراف، إلى غير ذلك مما هو معلوم في كثير من الصفات التي قد توجد في بعض الطلاب والشباب في مراحل سني حياتهم الأولى، وفي فترات المراهقة ومقتبل الشباب، والمرحلة التي يمر بها الطلاب في أثناء دراستهم التعليمية، فلا شك أن هذه البصمات التأثيرية السلوكية أهم بكثير جداً من الناحية المعرفية التي ذكرتها أولاً، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وهذا الحديث رواه الإمام مالك بلاغاً، وقال ابن عبد البر: روي من وجوه موصولة أخرى صحيحة، وأخرجه غيره.
وهذا المعنى هو الشق الآخر لمهمة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد بعث معلماً وبعث مربياً، فالتعليم من غير التربية لا يؤتي ثمرته، بل يكون على العكس من ذلك، والأحاديث والمعاني الإسلامية في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
رابعاً: العمل والبناء، فمن مهمة المدرس عندما يعطي المعرفة ويصوغ التفكير، ويوجِد التربية والسلوك، أن يوجه هؤلاء الطلاب إلى أن يشقوا الطريق العملي في الحياة والبناء، وأن يكونوا مبدعين في تخصصاتهم، وأن يكونوا عاملين لمصلحة أمتهم، وأن لا يكون هذا كله مرتبطاً بنفسية ليست مندفعة للعمل، بنفسية ترى واقع الأمة فتستسلم له بدلاً من أن تغالبه وتكافحه، فهذه الروح الحركية القوية هي من أعظم المؤثرات التي يُحتاج إليها والتي هي من مهمات المدرس والمعلم في طبيعة عمله.(74/6)
الأمور المطلوبة من المعلمين
ننتقل إلى نقطة ثالثة، وهي: ماذا نريد منكم؟ إذا قلنا لكم: من أنتم وما هو عملكم فماذا نريد منكم لتحققوا هذين الغرضين معاً؟ نريد منكم أموراً -أيضاً- كثيرة جداً، لكن -كما قلت- هي برقيات وومضات.(74/7)
مشاركة المعلم مع الطلاب
الأمر السابع: المشاركة مع الطلاب، وهذا -أيضاً- أمر مهم، وهو متعلق بشيء من التجديد والابتكار، لكنه يستحق أن يفرد وحده، ودائماً قضية المشاركة في الأعمال البشرية تُعد من الأمور المهمة، فعندما تكون مهمة المدرس أو واقعه أن يلقي درسه من أول الحصة إلى آخرها ولا يجعل هناك مشاركة للطلاب فإنه يفقد كثيراً من الإيجابيات العظيمة والمهمة في الوقت نفسه، فأي صورة من صور المشاركة لها فوائد.
أولاً: لها فوائد في بناء الشخصية، وفي تقدير الطالب واحترامه، فعندما يشارك برأيه أو بانتقاده أو بإجابة سؤال أو بإبداء الرأي فهذه تنمي فيه شخصيته، وتعطيه منزلته وقدره واحترامه، وهذا أمر مهم، بدلاً من أن يقول للطالب: اسكت لا تتكلم، لا تلتفت، لا تنظر، وكأنما هو شيء لا قيمة له.
الأمر الثاني: أن يجد المدرس تقويم عمله عندما يسأل الطلاب، وعندما يشاركهم سيجد النتيجة هل فهموا أم لم يفهموا، وهل تفاعلوا أم لم يتفاعلوا، وهل أعجبوا أم لم يعجبوا إلى آخر ذلك.
أيضاً تضاف إلى ذلك فائدة، وهي أنه يستطيع أن يميز الفروق بين هؤلاء الطلاب، فيرى الجيد، ويرى من عنده مواهب، ويرى من عنده طموحات، إلى آخر ذلك، بينما قضية الإلقاء -وهي صورة واحدة من صور التعليم- تفقد المدرس هذه المشاركة المهمة، والتي لها أثر كبير جداً في هذا الجانب.
وأيضاً في قضية مشاركة الطلاب قضية مهمة جداً، وهي تلمس ما عندهم من العيوب والخلل والمشكلات في الوقت نفسه في بعض الأحوال، فهذه المشاركة مهمة إلى حد كبير.(74/8)
العلاقات بين المدرس وطلابه خارج الفصل
الأمر الثامن: العلاقات خارج إطار الفصل.
أي: مع الطلاب، وكما قلت: الموضوع متشعب، فقد يكون هناك جانب للعلاقة بين المدرسين مع بعضهم، ومع الإدارة، ومع المنهج، وأشياء أخرى كثيرة، لكني اخترت ما أرى أنه يصلح أن يكون أمراً عاماً كلياً.
والعلاقات مع الطلاب خارج الفصل تشمل أموراً كثيرة، منها العلاقات من خلال الأنشطة، وهذه الأنشطة الطلابية هي أصلاً أمور مقررة نظاماً، لكنها أحياناً تكون بمثابة الحبر على الورق، وأحياناً عندما تنفذ تكون بمثابة الصورة الشكلية، فالمطلوب من المدرسة أن يكون عندها جمعية دينية وجمعية كشفية وجمعية علمية، والمدير مكلف بهذا، وذلك بأن يصدر قراراً، والمدرس هو المسئول الثاني عنها، حيث إنه مكلف بذلك؛ إذ كيف يصدر قرار باختيار مجموعة من الطلاب ويمضي الأمر دون أن يكون هناك أي فائدة لا للمدرس ولا للطلاب؟! وهكذا غير النشاط لابد من علاقة شخصية يمد فيها المعلم جسوراً بينه وبين طلابه ليحقق محبتهم له وارتباطهم به واتباعهم له وتأثرهم بتوجيهاته، بمعنى: أن يعتبر أن طلابه مدعوون يمارس معهم الدعوة والوعظ والإرشاد والإعانة وحلول المشكلات، وهذا أمر مهم للطلاب وللمدرس نفسه، وقد يظن بعض المدرسين أن هذا عبئاً على عبء، ويرى بعض المدرسين أنه إذا كلف بنشاط كأنما ألقيت فوقه صخرة مع الصخور التي يحملها، مع أنه لو نظر نظرة أخرى لرأى هذا تجديداً وتنفيساً وتغييراً للنمط الذي يحيط به في أثناء التعليم أو مهنة التعليم وحدها.
فأقول: مهمة الأنشطة يتحرر فيها الطلاب من الهيبة التي قد تكون أحياناً متكلفة بين الطالب ومعلمه في الفصل، فيتحرر منها الطلاب من إطار المنهج والتدريس، ويتحرر منها الطلاب من الخوف من خصم الدرجات، ومن الخوف من الاختبارات، فيبدون مشاعرهم، وتستطيع أن تكتشف ما عندهم، ثم تستطيع أن تمارس ما ذكرته من مهمتك ورسالتك في الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه منزلتك ومهمتك في هذه العملية التعليمية، وكذلك العلاقات الشخصية من أبوابها هذه الأنشطة الطلابية، وهي أمر مهم كما أشرت إليه.(74/9)
تغلب المعلم على الأمور الإدارية والروتينية
الأمر الثامن هو: التغلب على الأمور الإدارية والروتينية.
وهذه أشرت إليها سابقاً إشارة عابرة، فكثيراً ما يشكو المدرسون من أن العبء الدراسي الذي عليهم كبير، وأنا أعلم أنه كذلك كبير، فالتعليم في حده الأعلى يبلغ أربعاً وعشرين حصة أسبوعية بالنسبة للمدارس، أي: بمعدل خمس حصص في كل يوم، وأربع حصص في يوم واحد، وهذا عبء كبير ولا شك.
ثم العبء الآخر الذي يشكو منه المدرسون أيضاً هو بعض الأمور التي هي من جانب منها إيجابية، ومن جانب منها سلبية، مثل هذه الاختبارات الشهرية، فهي -لاشك- أساليب لتقويم الطلاب، ولإلزامهم بالمراجعة والدراسة؛ لأنهم لا يراجعون ولا يدرسون غالباً إلا إذا اضطروا إلى ذلك تحت قهر وجبر الاختبارات، وفي الوقت نفسه هي تشكل للمدرس عبئاً هائلاً؛ لأنه قد يكون في كل فصل -مثلاً- عدد الطلاب خمسة وعشرين طالباً، ويكون يدرس خمسة أو ستة فصول، وقد يكون عدد الطلاب حوالي ثلاثمائة طالب، وهذه إحصائيات أحيل المدرسين فيها إلى كتابات الطنطاوي، فإنه أتى بها بالأرقام والتفصيلات بصورة أدبية جميلة، ثم عنده عدد من المواد، وكل طالب في الاختبارات هذه يكتب صفحتين أو ثلاث صفحات، فإذا حسبت هذه الصفحات وحسبت المواد فمتى سيقرؤها؟ وتأتيه إجابات تسد نفسه، فهذا العبء كله إضافة إلى عبء دفتر التحضير وغير ذلك.
أقول: لاشك أن هناك دائماً دراسات أو مطالبات بإعادة النظر دائماً في الأمور المتعلقة بالطريقة التعليمية أو بالمناهج التعليمية وبالأساليب التربوية إلى غير ذلك، لكن أقول: التغيير منوط بالمدرسين أكثر منه بغيرهم؛ لأنهم أكثر عدداً، ولأنهم لو أرادوا لكانوا أقوى صوتاً، ولأنهم أكثر ممارسة، فيمكن أن يقدموا ما قد يصبح الأسلوب الأمثل أو الأفضل في بعض ما قد يرونه يحتاج إلى تقويم.
وفي الشق الآخر في الوقع العملي أقول: لو أراد المدرس أن يخفف هذا العبء فكيف يفعل؟ أولاً: هناك أمور متعلقة بالناحية النفسية والإيمانية، فعندما يستحضر المدرس أنه يؤجر على ذلك ويثاب، وأنه يكتب له بهذه الأعمال على كثرتها حسنات عند الله عز وجل فلا أشك أن هذا مما يخفف العبء عند المعلم المسلم.
ثانياً: عندما يشعر بأنه من خلال هذا يسهم في هذه المهمة العظيمة التربوية التوجيهية لهذا الجيل الذي يريد أن يكون -بإذن الله عز وجل- جيلاً نافعاً صالحاً لهذه الأمة الإسلامية في مستقبلها القريب قبل البعيد فلا شك أن هذا يهون عليه.
وأيضاً هناك أمور فنية نقسمها إلى قسمين: القسم الأول: أمور فنية في الإتقان والتجديد والإبداع، فهذا دفتر التحضير عندما ينظر إليه المدرس يجد أن فيه ما يُسمى بفكرة الدرس والأهداف العامة وطريقة العرض، ولو أنه كان دائماً حريصاً على التجديد والابتكار والاستزادة من كتب أخرى ومن أساليب تربوية جديدة ومن بحوث تنشر أو قضايا تثار حول هذه المعاني لاستطاع دائماً أن يجد أن عنده جديداً يفيد به نفسه، ولا يصبح عمله مكرراً، فإن العمل المكرر أسهل من العمل الجديد، فالعمل الجديد يخرج منه الإنسان بالنشاط؛ لأنه يؤمل فيه شيئاً جديداً، ويرى فيه بعداً جديداً لم يكن في الذي قبله.
القسم الثاني: قسم قد يسميه بعض المدرسين شقاً تحايلياً، وأرى أن كثيراً من المدرسين يلجئون إليه؛ لأنه يخفف العبء بصورة عملية ذكية، وهو طريقة الأسئلة التي يميل إليها الآن كثير من المدرسين خاصة في الاختبارات الدورية، حيث يعتمد على أن لا يتيح للطلاب الفرصة في إكثار الكلام والكتابة، بل السؤال وجوابه، كما يقال: (كلمة ورد غطائها) حتى يخفف عن نفسه العبء، ولكن أيضاً بأسلوب علمي يستطيع أن يكتشف من خلاله الطالب وقدرته.
وأيضاً من الطرائق الجديدة التي يمكن أن يستفيد منها -وهذه أمور جديدة الآن يأخذ بها بعض المدرسين- الاستفادة من التقنيات الحديثة كالكمبيوتر، وقد يرى بعض المدرسين أن هذه أمور صعبة، لكن عندما يكون قد تعلم في هذا الكمبيوتر فإنه يستطيع أن يضع الأسئلة، ويضع الفقرات المنهجية ضمن برامج معينة، ويصحح، ويفعل نحو ذلك في وقت وجيز.
وأيضاً بعض المدرسين يلجئون إلى طرائق تبادلية مع بعض المدرسين في تخفيف هذه الأعباء، وأقول: هذا كله حسن بحيث لا يكون هناك تفريط من المدرس في واجبه، ولا تقصير منه في هذا الواجب؛ لأن المدرس في الوقت نفسه هو قدوة، وهذا واجب عليه من قبل الجهة التي كلفته بهذه المهمة، وهو يفرض على طلابه واجبات، فكيف يريد أن يؤدي الطلاب واجباتهم وهو لا يؤدي واجبه؟! فهذه أيضاً قضية لابد أن يلتفت إليها المدرسون، وعليهم أن يحاولوا قدر الاستطاعة أن يستفيدوا منها، ثم أن يحاولوا أن يفيدوا في المجال التغييري فيما يرون أنه قاصر في العملية التربوية التعليمية.(74/10)
المعلم قدوة
الأمر الخامس: القدوة، والقدوة أمرها أيضاً عظيم وواضح وواسع، ونعني بها القدوة في المجالات كلها، القدوة في الناحية العلمية، والقدوة في الناحية السلوكية، والقدوة في الناحية الفكرية، والقدوة في الناحية المظهرية.
فمسألة القدوة في المدرسين مسألة مهمة جداً؛ لأن أعين الطلاب معقودة بمعلميهم ومدرسيهم، خاصة في سن الصغر، في المرحلة الإبتدائية والمتوسطة، حتى الثانوية، فإذا كان المدرس جيداً فإن الطلاب لا يرون إلا معلمهم ومدرسهم، وبذلك يتبين أن تأثير القدوة في هذا الجانب عظيم جداً.(74/11)
التجديد والابتكار
الأمر السادس: التجديد والابتكار، فكثيراً ما يكون النظام التعليمي يصبغ المعلم بالتكرار، وأنا أعلم بعض المعاناة عند المدرسين وأسوقها، وأوافق كثيراً منهم في بعض هذا القول، فالمعلم مطلوب منه نظاماً أن يحضر ما يسمى بكراس أو دفتر التحضير، وهذا يراه بعض المدرسين أمراً شكلياً لا قيمة له، وأمراً يفعلونه كما يفعل الطالب الواجب المقرر عليه من المدرس، فكما يراه ثقيلاً يراه المدرس ثقيلاً، وكما سيسأل الطالب عن واجبه يعلم المدرس أنه سيسأل عن دفتر تحضيره، وبالتالي يكتبه متثاقلاً، ثم المطلوب منه في كل عام أن يجدد هذا الكراس، وإن كانت المادة نفسها والمنهج نفسه، ثم أيضاً عنده نظام أن هناك درجات على الأسئلة الشفهية، واختبارات شهرية ونحو ذلك، فهذا الروتين يجعل المدرس أحياناً كالآلة، قد حفظ المنهج حفظاً من كثرة ما ردده، وفي كل مرة وفي كل عام وفي كل فصل وفي كل مادة لا يأتي بأي شيء جديد، ولا يأتي بأي أسلوب يغير الملل عن نفسه هو أولاً ثم عن طلابه ثانياً، ومن هنا نجد النظرة التي أشرت إليها سابقاً، فالمدرس إذا كان على هذا الوصف تجده دائماً مهموماً مغموماً؛ لأنه يكرر كل شيء، والتكرار مع الاستمرار لا شك أنه شيء قاتل، وأمر محطم للمعنويات، بل أحياناً يكون مبلداً للأفكار، فالمدرس عندما يكرر يصبح ليس عنده مجال، أو لا ترى أحياناً فيه مجالاً للإبداع، ولا للابتكار ولا للتغيير، وإنما أصبح كالآلة، المنهج معروف والطريقة معروفة والاختبارات معروفة، والطلاب الكسالى لا أمل فيهم، والمتفوقون لا يحتاجون إلى جهده وشرحه؛ لأنهم سريعون في الفهم ويقرءون ويتوسعون، وهذا يفقد المدرس كثيراً مما ينعش نفسيته، ومما ينفع طلابه، فقضايا التجديد والابتكار أمرها معلوم حتى في منهج النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف كان يلقن الصحابة ويعلمهم؟ أولاً: يتكلم كلاماً بطيئاً لو شاء العادّ أن يحصيه لأحصاه، وكان يكرر القول ثلاثاً حتى يُفهم عنه، وكان مرة يبدؤهم بالسؤال حتى يستثير الأذهان، وأحياناً يبدؤهم بالمعلومة، ويطلب منهم الاستنتاج، وأحياناً يستخدم -كما يقولون- وسائل تعليمية مثل الخطوط أو التشبيهات أو الأمثال، وأحياناً يستغل موقفاً معيناً مع أصحابه ليلفت نظرهم إلى قضية من القضايا التعليمية أو التربوية أو التوجيهية، وأمثلة هذا كثيرة جداً، فلماذا لا يستخدم المدرس هذه الطرائق وهذه الأساليب؟ ولماذا لا يغير أحياناً بعض الأنماط؟ ولماذا لا يجعل هناك أحياناً صورة من صور المشاركة مع الطلاب أو مع بعض الطلاب؟ ولماذا لا يغير أحياناً؟ وإن كان في بعض الأحوال قضايا إدارية أو نظامية تعوقه، ولكن يمكن بقدر الاستطاعة أن يفعل بعض هذه الأمور، بأن يخرج طلابه -مثلاً- من الفصل ليعطيهم الدرس في الهواء الطلق في بعض الأحوال، أو أي صورة من صور التغيير التي تبعث في نفسه الجد والنشاط، وكذلك تبعث في طلابه، وتجعله مدركاً لمهمته وغايته بدلاً من أن يكون مكرراً لنفسه، وهذه قضية أيضاً مهمة جداً.(74/12)
الصبر
الأمر الرابع: الصبر.
كنت مع أحد المدرسين نتناقش حول ما قد يُطرح في هذا الموضوع، فكان يقول لي: الصبر هو الذي يحل كل المشكلات المتعلقة بالمعلمين وبعملية التعليم.
والحقيقة أن أكثر الناس احتياجاً للصبر هم المعلمون؛ لأنهم يواجهون البلادة، ويواجهون الجهالة، ويواجهون الحماقة، ويواجهون أحياناً الصلافة، وكل هذه المعاني يواجهها المدرس، إضافة إلى مواجهة العناء والتعب والإرهاق، وأنا أعلم أن المدرسين سيقولون: لماذا لم يكن هناك حديث عن هذا المدرس الذي يقف خمس حصص أو خمس ساعات في كل يوم، ومهمته أن يبدأ حصته بالكلام وينهيها بالكلام طول الوقت، ومهمته بعد ذلك أن يكتب، وأن يسأل، وأن يعاقب، وأن يراقب، وأن يدقق، إلى غير ذلك؟ وأقول: هذا كله لنا فيه وصفة واحدة هي الصبر، ولذلك جُعل الإيمان شطرين: شطر شكر وشطر صبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين عظمة الصبر في هذا المعنى، والحقيقة أن الصبر -أيضاً- فن؛ لأن الطلاب أحياناً يتنافسون في كيفية إخراج المدرس عن صوابه وإغضابه وامتحانه في سعة صدره وحلمه.
فالصبر حقيقة -أيضاً- أمر مهم جداً في هذا الجانب.(74/13)
تواضع المعلم ولين جانبه
الأمر الثالث: التواضع ولين الجانب، والحقيقة أن في بعض الأحوال تجد المدرس يفتعل الهيبة والوقار، وهما أمران مهمان للمعلم ولشخصيته، لكنه يظن أو يتصور هذه الهيبة وذلك الوقار والاحترام بصورة خاطئة، فلا يمكن أن تَفْتَرَّ شفتاه عن ابتسامة، ولا يمكن أن يُرى إلا مقطب الجبين مكشر الوجه، ولا يُسمع منه إلا الكلام الجاد والحاد في الوقت نفسه، ويرى الطالب حينئذٍ أنه أمام عقبة صعبة شديدة قاسية مغلقة، فلا يمكن أن يكون هناك تواصل، بينما التواضع ولين الجانب له أثره الكبير في أداء المهمة التعليمية والتربوية والسلوكية التي أشرنا إليها، وبعض المدرسين القدماء ربما تجدهم أحياناً يوصون بعض زملائهم الجدد بقولهم: أحذر أن تقول كلاماً هيناً، ولا تصاحب طالباً، ولا تقدم أي صورة من صور التواضع واللين.
وهذا خطأ.(74/14)
استشعار المعلم مسئوليته
أولاً: استشعار المسئولية، وبدون هذا لا يدرك المدرس منزلته ورسالته، ولا يؤدي عمله ومهمته، ولذلك المنهج الإسلامي ينشأ في كل أمور الإنسان على أنه مسئول بين يدي الله عز وجل، لكننا عندما ننظر إلى التخصيص نجد أن التخصيص قد ورد في أمور بعينها، ومنها العلم، كما في الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)، ومنها: (عن علمه ماذا عمل به)، ومعلوم أيضاً أن من أول الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة الذي علم ليقال: عالم.
ولم يعلم بالإخلاص والقيام بالمهمة والمسئولية كما أراد الله سبحانه وتعالى، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: (إني لأخشى أن يقول لي الله عز وجل يوم القيامة: يا عويمر! -وأبو الدرداء اسمه عويمر - فأقول: لبيك يا رب.
فيقول: ما عملت فيما علمت؟) فعندما يستشعر المدرس مسئوليته حينئذٍ يمكن أن يعول عليه كثيراً بإذن الله عز وجل.(74/15)
الأمانة العلمية
الأمر الثاني: الأمانة العلمية، وهذا يقتضي منه أموراً كثيرة، وأذكر منها بعضاً: أولها: الإتقان في مجال التخصص وفي مادته العلمية، فإن هذا من أعظم الأمور المعينة على قيامه بمهمته، فلابد من أن يستفيد دائماً، وأن يراجع دائماً، وأن يبحث كثيراً، وأن يحاول دائماً أن يكون متمكناً تمكناً جيداً.
ومن الأمانة العلمية -أيضاً- ما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وأمام الملأ من المسلمين عندما جاءه السائل يسأله عن الساعة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ولا حرج إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم.
فهذا من الأمانة العلمية.
ومن ذلك أيضاًً -وهو مندرج في هذا الباب- أن يقبل من طلابه ومن زملائه ما قد يلفتون نظره إليه من خلل أو خطأ فيما قال أو فيما أشار إليه، وهذا أيضاً أمر مهم جداً.
ومن الأمانة العلمية مسئوليته عن علمه، فهو مسئول عن صيانته وحفظه، فهذا العلم الذي عنده ينبغي أن يصونه وأن يحفظه، فبعض المدرسين -وهذا يحصل كثيراً بسبب التكرار وبسبب الأمور والأوضاع الإدارية والفنية التي يمر بها المعلم- يتخرج من جامعته، فيبدأ في التدريس، وبدلاً من أن يستزيد من علمه إذا به يتآكل علمه؛ لأنه كان يدرس في الجامعة موضوعات كثيرة، وكتباً كبيرة، ومسائل دقيقة، فلما جاء إلى التدريس جاء إلى مستوىً معين من الطلاب ينبغي أن يعطيهم بقدر ما هو مقرر في المنهج، وبقدر عقولهم وأفهامهم، فنزل إلى مستواهم وبقي معهم، وضيَّع كل ما أخذه من العلم مما ليس في هذه المناهج، وانتهى أمره إلى أنه أصبح متخصصاً في هذه الكتب، بمعنى أنه -إذا صح التعبير مع الاعتذار للمعلمين- مثله مثل الطالب الذي يتمرس في المنهج، ولو أن طالباً درس المنهج ورسب وأعاد مرة ثانية أو درس دروساً خصوصية أو كذا لكان -كما يقولون- طالباً معيداً، أي: عنده خبرة يمكن أن يكون مدرساً مثل المدرس، ولا فرق بينه وبين المدرس الذي ذكرنا وصفه وكلامه؛ لأنه حصر نفسه في هذا الجانب، ولذلك ينبغي للمدرس أن لا يكون بهذا الأمر.(74/16)
ماذا يُراد من المعلمين؟
وقبل أن أختم الحديث أشير إلى نقطة أخيرة: ماذا يُراد منكم؟ أقول فيها: إن الذي يراد من المدرس هو أن يكون المقيَّم لكل خطأ؛ لأن المعلم -كما يقول أهل التربية والتعليم- هو الأساس في العملية التعليمية، فإن كان في المناهج نقص أو فيها خلل أو فيها مخالفات أو أخطاء فالمعول في تصحيح ذلك على المعلم، وإن كان في الطلاب وطريقة تلقيهم للعلم خطأ أو في طريقة نظرتهم للعلم خطأ أو في طريقة استفادتهم للعلم خطأ فالمعول في إصلاح ذلك على المعلم، وإذا كان النظام التعليمي نفسه هو في حد ذاته فيه أخطاء وفيه عيوب أيضاً فيمكن أن يتغلب أو أن يكون المقوم أو الذي يخفف هذه الأمور أو يغيرها إلى أمور صالحة هو المعلم.
وهنا سيقول المدرسون والمعلمون: تطلب منا وتطلب منا وتطلب منا ولا تطلب من الآخرين؟! فأقول: نعم.
المفترض أن تكون العناية بالمعلم هي في الرتبة العليا على كل المستويات، سواء في قطاعات التعليم، أو في قطاعات الدولة، أو في قطاعات النظر إلى العلماء، أو في قطاعات الاقتصاد، أو في قطاعات السياسة والاجتماع، فالمعلم هو الذي له أكبر الأهمية في هذا الجانب، فينبغي أن تكون وسائل الإعلام تخدم العملية التعليمية والتربوية، وينبغي أن تكون الصحافة والبحوث والمؤتمرات والتوجيهات كلها تخدم هذا الجانب، لكننا نتكلم فيما يوجه لكم، وذاك حديثه آخر، وجانبه آخر قد تكونون أنتم جزءاً من المشاركة في هذا، وغيركم يشارك فيه، لكن نقول: نحن نطالب المعلمين بما هو في أيديهم، وبما نرى أنهم قد يكونون قريباً منه بإذن الله عز وجل.
وأقول: نحن في آخر الأمر نرى أن كل ما نريده من المعلمين وما يضيفه غيرنا هو مطلوب منهم، وهو مأمل فيهم، وهو مرجو -إن شاء الله عز وجل- أن يُعانوا عليه إذا أخلصوا النية لله عز وجل، وهذا ما أختم به في هذه النقاط.(74/17)
توجيهات جامعة للمعلمين
وانتقل إلى ما أشرت إليه في أول الحديث مما أردت أن يكون في آخره حتى لا يزدحم الموضوع، فهذه مقولات لبعض أهل الفضل والعلم في بعض التوجيهات الجامعة والمهمة بالنسبة للمعلمين، وأبدؤها بعبارة نفيسة ومقالة جيدة رغم وجازتها إلا أنها تلخص كثيراً من الأمور، فأقولها أولاً ثم أذكر قائلها أو كاتبها ثانياً.
يقول حفظه الله وأجزل مثوبته: لا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب، فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة وسمت حسن حتى يتأسى به تلامذته، وينبغي أن يكون محافظاً على المأمورات الشرعية بعيداً عن المنهيات، حافظاً لوقته، قليل المزاح، واسع البال، طلق الوجه، حسن البشر، رحب الصدر، جميل المظهر، ذا كفاية ومقدرة وسعة إطلاع، كثير العلم بالأساليب العربية ليتمكن من تأدية واجبه على الوجه الأكمل، ولا شك أن من يُعنى بدراسة النفس البشرية من كافة النواحي ويبحث عن الأسباب الموصلة إلى معرفة الطريقة التي يمكن بواسطتها غرس العلوم في هذه النفس بسهولة ويسر سوف يحصل على نتائج طيبة في كشف خفاياها وما انطوت عليه من مشاعر وأحاسيس، ومدى تقبلها للمعلومات المراد غرسها فيها، وسيخرج من تلك الدراسة والبحث معلومات هي في الحقيقة من القواعد العامة التي يقوم عليها صرح التعليم، وهذه القواعد يمكن إجمالها في أنه إذا ما أراد أي معلم أن يغرس معلوماته في أذهان تلامذته فلابد له قبل كل شيء أن يكون ذا إلمام تام بالدرس الذي وكل إليه القيام به، وذا معرفة بالغة بطرق التدريس، وكيفية حسن الإلقاء، ولفت نظر طلابه لطريقة جلية واضحة إلى الموضوع الأساسي للدرس، وحصره البحث في موضوع الدرس دون الخروج إلى هوامش قد تبلبل أفكار التلاميذ وتفوت عليهم الفائدة، وأن يسلك في تفهيمهم للعلوم التي يلقيها عليهم طرق الإقناع، مستخدماً وسائل العرض والتشبيه والتمثيل، وأن يركز اهتمامه على الأمور الجوهرية التي هي القواعد الأساسية لكل درس من الدروس، وأن يغرس في نفوسهم كليات الأشياء، ثم يتطرق إلى الجزئيات شيئاً فشيئاً؛ إذ المهم في كل أمر أصله، وأما الفروع فهي تبع للأصول، وأن يركز المواد ويقربها إلى أذهان التلاميذ، وأن يحبب إليهم الدرس ويرغبهم في الإصغاء إليه، ويعلمهم بفائدته وغايته، آخذاً في الحسبان تفهيم كل طالب ما يلائمه باللغة التي يفهمها، فليس كل الطلبة على حد سواء، وأن يفسح المجال للمناقشة معهم، وتحمل الأخطاء التي تأتي في مناقشاتهم لكونها ناتجة عن البحث عن الحقائق، وأن يشجعهم على كل بحث يفضي إلى وقوفهم على الحقيقة، آخذاً في الحسبان عوامل البيئة والطباع والعادات والمناخ؛ لأن تلك الأمور تؤثر تأثيراً بالغاً في نفسيات التلاميذ ينعكس على أفهامهم وسيرتهم وأعمالهم، ولهذا فإن المسلم به أن المعلم النابه الذكي الآخذ بهذه الأمور يكون تأثيره على تلامذته أبلغ من تأثير من دونه من المعلمين، ومهمة المعلم أشبه ما تكون بمهمة الطبيب، ومن واجبه أن يعرف أمور طلابه ومدى حظ كل واحد من الذكاء، وعلى أساس هذه المعرفة يقدر المقاييس الأساسية التي يسير عليها نهجه في مخاطبة عقولهم وأفهامهم، وتلك من أهم أسباب نجاح المعلم.
وهذا من كلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فيه جمع لكثير من الصفات، في وجازة من الألفاظ وحسن في العبارات.
وهنا أيضاً عبارة من مقتطفات اخترتها، وكثير منها يتعلق ببعض ما سبقت الإشارة إليه، يقول الأستاذ أحمد جمال رحمة الله عليه: إن العلماء الذين يحفظون العلم في صدورهم ولا ينقلونه إلى غيرهم ليسوا علماء؛ لأن واجبهم أن يورثوا العلم الذي تعلموه للجهلاء علماً ومعرفة، وللسفهاء أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ودعوة إلى الخير.
إذاً فالمعلمون هم العلماء حقاً، وهم ورثة الأنبياء صدقاً، ومما قاله من الكلام الجيد الحسن في الحقيقة أنه قال: إن المدرس ينبغي أن يطبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
واستدل بقول أحد التربويين عند أن سأله المعلم فقال له: كيف ينبغي أن أكون في تعليمي؟ فقال: كما كنت تحب أن يكون معلمك وأنت طالب.
فعندما تكون طالباً تحب من المدرس أن يشرح، وأن يعيد، وأن يكون حسناً في تعامله، وأن يكون وأن يكون فأحب للطلاب ما تحبه لنفسك.
وهنا عبارة جميلة أشرت إلى صورة منها وقال فيها: يرتكب المدرسون خطيئة كبرى حين يتخذون من منصة الدرس عرشاً إذا ما جلسوا عليه تخيلوا أنفسهم معلقين بالثريا، ورأوا طلابهم دونهم إلى الثرى، فما يرضون أن توجه إليهم من أسئلة الطلاب ومناقشاتهم إلا ما اتفق مع أصول اللياقة والأدب، ولا يسمحون لأي طالب يفكر بأن يتجاوز معهم الحدود بنقاش أو جدال، ويخطئ مدرسو المواد الدينية بصفة خاصة عندما يصطنعون الغيرة على حرمات الله وأحكام دينه فيقذفون الملامة في وجوه الطلاب الذين يبدو منهم بعض التساهل أو التهاون في أحكام الدين وآدابه، أو الطلاب الذين يكثرون الجدل حول بعض شئون العقيدة وأصولها.
فينبغي أن يكون المدرس صدره رحباً وأسلوبه علمياً مقنعاً في هذا الباب.
وهنا مقالة جميلة لـ بديع الزمان النورسي يقول في وصف العلم -وهذا مما يفرح المعلمين أيضاً-: العلم شيء بعيد المرام، لا يُصاب بسهام، ولا يُقسم بالأزلام، ولا يُكتب للئام، ولا يُرى في المنام، ولا يُقبص باللجام، ولا يُؤخذ عن الآباء والأعمام، ولا يزكو إلا متى صادف من الحزم ثرىً طيباً، ومن التوفيق مطراً صيباً، ومن الطبع جواً صافياً، ومن الجهد روحاً دائماً، ومن الصبر سقياً نافعاً، وغرضاً لا يُصاب إلا لافتراش المدر، واستناد الحجر، ورد الضجر، وركوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر.
فهذا كله مما هو مطلوب منكم مما هو داخل في مهمتكم.
وهنا أيضاً عبارت لـ بشير الإبراهيمي يقول فيها: ربوهم على الرجولة وبُعد الهمة، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الإنصاف والإيثار، وعلى البساطة واليسر، وعلى العفة والأمانة، وعلى المروءة والوفاء، وعلى الاستقلال والاعتزاز بالنفس، وعلى العزة والكرامة، وعلى التحابب والتسامح، وعلى حب الدين والعلم، وكونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال والأحوال، لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال إلى آخر ما قاله في هذه العبارات.
وأكتفي بهذا لأنتقل إلى بعض الأسئلة والملاحظات في إيجاز سريع، وبعضها -كما قلت- إضافات، وأنا قلت في أول الحديث: إن الموضوع مقصور على جزء يسير من جوانب الموضوعات المتعلقة بالتعليم.(74/18)
الأسئلة(74/19)
أسلوب العقاب بين الإفراط والتفريط
السؤال
ما رأيكم في الأسلوب الأمثل لعقاب الطلاب أو زجرهم نتيجة تقصيرهم في دروسهم أو سلوكهم بعدما منع منعاً باتاً العقاب البدني للطلاب بحجة أنه يوغر قلوب الطلاب ويزرع فيهم الكراهية للتعليم والتعلم؟
الجواب
أحد المدرسين -جزاه الله خيراً- أعطاني ملفاً يجمعه لنفسه، يجمع فيه مقالات عن التعليم، وهذا من التجديد والاهتمام في التعليم، حتى يكون بالفعل عنده حيوية، فكان مما رأيت مقابلات صحفية لبعض المدرسين والتربويين، قال: صدر قرار منع العقاب البدني أو الذي يُسمى الضرب كما يقولون في التعبير الواضح أو المباشر، وقرأت هذه القصاصات فلم أر قولاً واحداً منها يؤيد أن يكون هناك إطلاق دائم شامل لمنع العقاب البدني، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (واضربوهم عليها لعشر) فهي وسيلة، لكن عندما يكون هناك خطأ في الأخذ بالوسيلة لا يبرر هذا الخطأ إنكار أثر هذه الوسيلة من الناحية التربوية، وإنما يُقوَّم الخطأ، وتوضع له الضوابط، ومما اشتكى منه هؤلاء المدرسون في هذه اللقاءات التي اطلعت عليها أنهم قالوا -وهذا ليس على إطلاقه-: المدرس إذا لم يكن عنده ضرب فإنه يستهان به، ولا يكون له قيمة.
وبالفعل قد وقع في بعض الأحوال أن المدرس لما لم يصر له صلاحية الضرب صار للطلاب صلاحية الضرب، وتقع بعض هذه الأمور، فالمسألة تحتاج إلى تقدير حقيقي وواقعي من خلال الأمور التربوية، حتى إن التربويين أنفسهم يقولون: إن الضرب وسيلة تربوية عندما تكون بقدرها.
بل قد ذكر الله عز وجل الضرب في تقويم الزوج لزوجته فقال: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اضربوا ضرباً غير مبرح، ولا تقبحوا، ولا تقربوا الوجه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (علقوا السوط في البيت حتى يراه أهل البيت) وهذا أيضاً حديث صح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما ذكر بعض أهل العلم من المحدثين، لكن لا يعني ضرب الزوج لزوجته، فقد نهى النبي عن ذلك في وجه آخر فقال: (لا يضربن أحدكم زوجته ضرب الأمة -أو ضرب غرائب الإبل- ثم يأتي من آخر الليل ليجامعها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فالمسألة فيها نظر شامل، وليس الضرب بحد ذاته وليس منعه بحد ذاته هو الحل، فهل صلحت أحوال الطلاب وأحبوا العلم ورغبوا فيه وتفانوا فيه وارتفعت مستوياتهم عندما مُنع الضرب؟ الجواب يعرفه كثير من المدرسين! فنسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وأن يبارك في الجهود والأعمال، وأن يصلح أحوال المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(74/20)
عموم الحديث عن المعلم
السؤال
جل حديثك يخص مدرسي المواد الدينية، فهل يشمل ذلك مدرسي المواد الطبيعية كالرياضيات والكيمياء ومدرس اللغة الإنجليزية؟
الجواب
لم يكن حديثي كذلك، بل الحديث عام يشملهم كلهم، لكن لكوننا لم ننص عليهم ظُنَّ أننا أئمة مساجد ونتكلم في المسجد فلا نتحدث إلا عن هؤلاء، وقد يكون في حديثي تقصير حيث لم أشر إلى ذلك بصورة واضحة.(74/21)
كل عمل فيه أجر إذا خلصت فيه النية لله عز وجل
السؤال
هل الذي يقوم بعمل إداري في التعليم كمدير أو نحو ذلك له ثواب؟
الجواب
كل بحسبه، ولا شك أن أي عمل -حتى في غير التعليم- تعمله تنفع به وتؤدي دوراً وواجباً لا شك أن فيه أجراً إذا أخلصت النية فيه لله عز وجل.
وأيضاً ننبه بعض الإخوة إلى قضية لم نذكرها، وهي قضية محاولة ربط المنهج الذي يدرسه المدرس -خاصة في المواد غير المباشرة في التوجيه كالمواد الدينية- فيربط من خلال الفيزياء أو الكيمياء ببعض المعاني الإيمانية، وبعض المعاني التربوية، وبعض التشبيهات، هذا أيضاً مهم؛ لأن بعض المعلمين يكرس الحصة للدرس، ولا يخرج إلى مواضيع أخرى مطلقاً، ويشير بعضهم إلى أنه لا يخرج إلى ربط المادة بأمور أخرى تربوية، وهنا إفراط وتفريط، فبعضهم لا يفعل ذلك مطلقاً، وبعضهم يترك الرياضيات ويترك الفيزياء، ويحدثهم بموعظة وخطبة جمعة في الدرس، وهذا ليس أيضاً تصرفاً صالحاً ولا محموداً، وبعض المدرسين يشكون -ولهم حق في ذلك- أن المنهج إلى حد ما كثيف، وليس هناك وقت يسمح بالخروج كثيراً، ولذلك هناك العوامل الأخرى التي ذكرتها في الأنشطة وفي العلاقات الشخصية إلى آخر ما ذكرت.(74/22)
ما ورد في فضل العلماء يدخل فيه المدرسون
السؤال
هناك من يرى أن الفضل الذي يذكر للعلماء وليس للمدرسين، فما صحة هذا الرأي؟
الجواب
هذا خلل في الفهم؛ فإن معلم الناس الخير بالمنهج الإسلامي الصحيح وبالنية الصحيحة والغاية الصحيحة يدخل في عموم هذا، ولا شك أن هناك تفاوتاً في الفضل بين أهل العلم، فعالم الشرع قد يكون أفضل، وأحياناً قد يكون العالم بالعلوم التي يسمونها دنيوية أفضل إذا كانت نيته أصلح، وإذا كان جهده أعظم، فكل قضية تُصنف باعتبارها وبحالتها الخاصة، أما العموم فيدخل فيه هؤلاء المدرسون ولا شك في هذا.(74/23)
كيفية التخلص من سآمة تكرار الحصص
السؤال
أحس بالملل والسآمة من تكرار الحصص وكثرتها، فماذا أفعل؟
الجواب
قد ذكرت بعض الأمور التحايلية، وبعض الأمور النفسية، وبعض الأمور التجديدية، فلعل في بعضها ما يفيد.(74/24)
ذكر بعض الكتب التي تفيد المدرس في طرق التدريس ووسائله
السؤال
هل هناك مراجع لطرق التدريس وطرائق التعليم ووسائل التوجيه والإرشاد؟
الجواب
كثير من المدرسين الذين يدرسون تخصصاتهم التي يسمونها تربوية أو بعض المدرسين إذا تخرجوا يأخذون بعض الدورات التربوية، وسمعت من كثير منهم شكوى متكررة أن هذه الموضوعات التربوية كثير منها يعتبرونها لا فائدة لها، وأنها كلام في كلام، وفي بعضها نظريات تربوية غربية، وقال فلان وقال علان كما يقولون.
فأقول: جزء من هذا حق، وجزء منه ليس كذلك، وهناك فوائد، لكن لعل السائل يسأل عن بعض هذه الأبعاد من وجهة نظر إسلامية، فأنا أوصي الإخوة المدرسين في قضايا التربية وطرائق التدريس ببعض الكتب فيما أعلم؛ لأني لست من المهتمين أو المتخصصين أو الذين عندهم اطلاع واسع في هذا، فبالنسبة لكتب التربية -والتربية شاملة تشمل المدرس وإمام المسجد والواعظ والأب لأبنائه- هناك كتب لفضيلة الأستاذ محمد قطب، منها: (منهج التربية الإسلامية) وله بعض كتب أخرى أيضاً في هذا المجال، وهناك كتب للدكتور مقداد الذي حصل على جائزة الملك فيصل في الدراسات التربوية، فله كتب نفيسة وبحوث جيدة جداً، لكني أرى أنه غير معروف ولا مشهور بين أهل الصلاح والشباب الملتزمين في كثير مما أسمع منهم، لكن له كتب ورسائل كثيرة، منها كتاب عن التربية الإسلامية، وله بحوث منشورة في ضمن البحوث التي ينشرها مركز التربية لمجلس التعاون لدول الخليج، وله رسالة أو كتاب صغير (الطريق إلى العبقرية) وفيه كلام عن تربية الموهوبين أو التربية التي تفجر الطاقات التي فيها مواهب ونحو ذلك، فكتاباته في هذا جيدة، ثم اطلعت في أثناء تحضيراتي لهذا الموضوع على كتب الحقيقة فيها فائدة، منها كتاب (منهج التدريس في مدرسة النبوة) للدكتور سراج وزان، وهو من مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، هذا الكتاب فيه بحث جيد وأسلوب حسن في عرض هذا الموضوع، وهناك كتاب ضخم فيه موضوعات أوسع من قضية التربية والتعليم، وهو (التعليم في المدينة المنورة من عصر النبوة إلى عصر آخر كتاب فيه قضية التعليم).
وكل الكتب التعليمية التي ألفها العلماء السابقون فيها هذه المعاني، وفيها هذه التوجيهات التربوية، ومنها كتاب (التعليم والتعلم) وكتب كثيرة للزرمودي، وهناك أيضاً كتاب (تذكرة السامع والمتعلم) لـ ابن جماعة، وكتاب (الحث على طلب العلم وآدابه) لـ أبي هلال العسكري، وغيرها من الكتب التي تكلمت عن العلم، و (أدب الاستملاء) للسمعاني، كل هذه فيها توجيهات كثيرة جداً في هذا الجانب.(74/25)
المسلم بين اليأس والأمل
لقد ذم الله سبحانه وتعالى اليأس في كتابه الكريم، وذكر أنه ليس من صفات المؤمنين الصادقين مع الله، الموقنين بوعد الله، وعند النظر إلى الواقع وما عليه المسلمون من حال قد يدب اليأس إلى النفوس، لكن على الإنسان أن يتفاءل، وأن ينظر إلى جوانب الخير، وأن رحمة الله وفرجه قريب، فيبعث الأمل في نفسه ويقضي على اليأس.(75/1)
مبشرات في زمن اليأس
الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وأكرمنا بالإسلام، ووفقنا للطاعات، وجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، وجعل من بعد العسر يسراً، ومن بعد الشدة فرجاً، أحمده سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، وتوالي مننه، ودوام بره، وعظيم لطفه، هو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المسلم بين اليأس والأمل؛ موضوع حديثنا اليوم نستكمل به ملامح الشخصية الإسلامية.
وإن الأمر الأول الذي يكتنفه يأس عند بعض النفوس، ويلج به قنوط على بعض القلوب: أحوال أمة الإسلام في كثير من البقاع والديار.
إن المسلم لينظر إلى الشرق والغرب، فيرى أحوال المسلمين لا تحزن عدواً ولا تسر صديقاً، فإذا بلادهم قد مزقت تمزيقاً وإذا وحدتهم قد قطعت تقطيعاً وإذا بعض ديارهم قد سلبت وإذا كثير من أعراضهم قد اغتصبت وإذا البطون قد بقرت وإذا العيون قد سملت وإذا البيوت قد هدمت وإذا المساجد قد دمرت وإذا المصاحف قد دنست وإذا بألوان من العناء والبلاء، وصور من المعاناة والشقاء، ونيران ودخان تحيط بأحوال كثير من المسلمين في كثير من بقاعهم وديارهم، وإذا صور أخرى ربما تكون أشد وأعظم، إذ كثير من ديار الإسلام قد نحت كتاب الله عز وجل عن تحكيمه في واقع الحياة، وكثير من ديار الإسلام قد سارت تبعاً لشرق أو غرب، وكثير من المسلمين قد لجوا في المعاصي، وخاضوا في الشهوات إلا من رحم الله.
وهنا يسري إلى النفوس بعض اليأس والقنوط، وعدم وجود الأمل في إصلاح الأحوال وتغيرها وتبدلها، وما ينبغي لمسلم أن يكون عنده يأس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
إن الأمل في الله عظيم، وإن الخير في هذه الأمة عميم، وإن المسلم لو تمعن قليلاً ولو تفكر يسيراً لرأى أن من وراء هذه الظلمات نوراً يوشك أن ينشق عن فجر مشرق وضاء بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز، وإن أحوال الأمة اليوم هي خير بكثير مما كانت عليه في أوقات مضت، وليس ذلك محض ادعاء، ولا ذلك موافقة للعواطف والمشاعر، ولا تخديراً لمشاعر الحزن والأسى والألم في نفوس كثير من أبناء المسلمين، ولكنه أمر الأمل الذي ينبغي أن ينبعث في القلوب، والثقة التي ينبغي أن تعظم في الله عز وجل، واليقين الذي ينبغي ألا يخالطه شك في صدق وعد الله سبحانه وتعالى، وأن العاقبة للمتقين.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن هذا الدين عظيم: (ما من بيت مدر ولا وبر إلا ويدخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)، قول صادق من الرسول المصدق صلى الله عليه وسلم، وقد بشرنا بفتح القسطنطينية، وفتحت كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
وشق البشارة الأخرى أمل في نفس كل مؤمن، ويقين في قلب كل مسلم لا يمكن أن يتزعزع أو أن يداخل مسلماً فيه شك أو ريبة بأي حال من الأحوال، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نبأنا بما يكون في مستقبل الأيام، وقد أخبرنا بعز هذا الدين ورفعة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا به لا يمكن أن يكون إخباراً يتطرق إليه أدنى شك بصورة من الصور، فإننا ننتظر وقوع ما أخبرنا به وحصوله، ولكن العمل هو الذي يبعث الأمل، فإن الآمال من غير أعمال إنما هي خيالات وأوهام، وإنما هي أضغاث أحلام، فينبغي للمسلم أن يعرف أن الأمل في الله ينبغي ألا ينقطع، وأن اليأس من روح الله سبحانه وتعالى ورحمته ينبغي ألا يخالط نفسه وقلبه وعقله بأي حال من الأحوال.
انظر إلى أحوال الأمة اليوم ألا ترى تضاعفاً لأعداد المصلين والساجدين؟ ألا ترى أوبة من كثير من الشاردين والمعرضين؟ ألا ترى غيرة من كثير من اللاهين والعابثين؟ ألا ترى أن أمة الإسلام كلما ازداد الضيم عليها والظلم الواقع على أبنائها، والإجرام المحيط بها، ازداد أبناؤها تشبثاً بدينهم، واستمساكاً بإسلامهم؟ ألم يقع في فترة مضت من هذا الزمان عندما احتلت ديار المسلمين، أن بعض الناس بدلوا دينهم، وغيروا أخلاقهم، والوا أعداءهم؟ انظر اليوم إلى أحوال كثير من المسلمين وهم يلاقون أشد أنواع العناء بالبوسنة والهرسك وكشمير وغيرها، ما فتنهم ذلك عن دينهم ولا تخلوا عن إسلامهم، هذه صور مشرقة، هذه آمال عريضة، فإن وراء ذلك خير عميم في فئام من المسلمين، ألا نرى اليوم صغارهم وهم يدرجون إلى المساجد في أول سنهم؟ ألا ترى اليوم فتيانهم وهم يتحلقون على كتاب ربهم؟ ألا ترى اليوم شبابهم وهم يتواصون ويعظ بعضهم بعضاً بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا ترى اليوم أشياخاً قد فرغوا أنفسهم لطاعة الله، وبذلوا أموالهم لنصرة دين الله؟ فما بالك أخي المسلم لا تنظر إلى عظيم فضل الله، ولا تنظر إلى عظيم منة الله؟ إن الأمر قد بدا فيه كثير من الخير والأمل: في كل عين يقظة وبكل دمـ ع صحوة كالنشر كالطوفان وإذا العروبة راية معقودة لله للتوحيد للفرقان وإذا شعوب المسلمين عزيمة من سفح تطوان إلى اليابان ألم تر اليوم مسلمين ما كنا نسمع بهم من قبل، يصلون لله في أقاصي الصين في شرق الأرض، ويصلون لله سبحانه وتعالى في أقصى بلاد الغرب؟ ألم تر مسلمين ما كنا نعرف بلادهم، ولا كنا نسمع عن أحوالهم، عاشوا دهوراً طويلة تحت حكم الشيوعية أو تحت حكم أي ذلة كفرية، ثم بعد السنوات الطوال، وبعد الاضطهاد العظيم، وبعد البلاء المتواصل خرجوا من تحت الأرض مسلمين، وانبعثوا بعد هذه السنوات مؤمنين، ولله موحدين، ولراية دينه رافعين؟ إن هذا أمل عظيم، وخير عميم، ألا ترى اليوم جهاد المسلمين قد انبعث في كثير من البقاع الإسلامية، جهاداً خالصاً لله عز وجل يرفع راية الإسلام؟ إنها آمال عريضة في أحوال الأمة ينبغي ألا تقنطنا من رحمة الله عز وجل، وينبغي أن ندرك أن وراء الشدة فرجاً، وأن بعد الضيق مخرجاً، وأن مع اليسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فليفعل أعداء الإسلام بالأمة ما شاءوا، فإن في القلوب إيماناً يستعصي على الانتزاع، وإن في النفوس يقيناً يستعصي على الشك والارتياب، وإن في الأعمال بإذن الله عز وجل مواصلة ومضاعفة، حتى يأذن الله أن تعود للأمة وحدتها من بعد فرقتها، وقوتها من بعد ضعفها، وعزها من بعد ذلها، وما ذلك على الله بعزيز.(75/2)
شهادة التاريخ بالعاقبة للمتقين
وانظر أخي المسلم إلى التاريخ يصدقك هذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم، ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتاكة التي ما تركت أخضر ولا يابساً، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟ ألم تقرأ عن دخول التتار إلى بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟ قال ابن كثير في تاريخه: إن عدة من قتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون عن ألف ألف، أي عن مليون.
قال: قتلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يوماً يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين.
ثم ماذا بعد ذلك أيها الإخوة؟! بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت لتكون نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، ودحراً وكسراً للتتار المعتدين.
ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجاً وصاروا مسلمين، بمقياس العقل والمادة، لا يمكن لأمة هزمت مثل هذه الهزيمة وحلت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان.
فينبغي ألا يكون هناك يأس، فالأمل في الله عز وجل عظيم، والأمل كما أشرت يحتاج إلى العمل، انظر أخي المسلم إلى ما قص الله عز وجل علينا من شأن الأنبياء والمرسلين المصلحين، الذين يغيرون الأحوال بأمر الله سبحانه وتعالى لما بعثهم وأرسلهم إلى أقوامهم: نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما خالطه يأس ولا فتر عن العمل، ولا انقطع منه الأمل، ولذلك حتى في الوقت الذي كان الطوفان قد بدأ ما زال عنده أمل في ابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} [هود:42]، يناديه إلى اللحظات الأخيرة إلى الثواني الأخيرة! والنبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فظل موصولاً بالله سبحانه وتعالى طول عمره، وخرج بعد أن صدت مكة عنه إلى الطائف، ثم وجد بها ما وجد من الأسى ومن المعارضة فرجع، ثم جاءه ملك الجبال مبعوثاً من الله عز وجل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: (لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت)، فيقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، الموصول القلب بالله، العظيم الثقة بالله، العظيم الأمل في وعد الله، الذي يحب الخير للناس: (لا، ولكن لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل)، وقد كان كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ألم نر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً مطارداً ثم لم يلبث أن عاد إليها بعد أعوام قليلة فاتحاً منتصراً؟(75/3)
لا قنوط من رحمة الله
أيها الإخوة الأحبة! ينبغي أن يكون في نفوس المسلمين أمل عظيم في الله سبحانه وتعالى.
وهنا أمر آخر يقع لبعض أهل الإيمان والإسلام، ممن غلبت عليهم الشهوات، وممن غرقوا في بحار المعاصي والسيئات، وإذا بهم تأتيهم وساوس الشيطان، وأوهام النفس الأمارة بالسوء فتقول: قد تدنست بالخطايا، وغرقت في مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، فأنى لك النجاة؟ وكيف لك الخلاص؟ قد سدت الأبواب، وانقطعت الأسباب، ويأتي الشيطان ليقعدك وعندك ما هو أعظم من كل هذه المعاصي، عندك إيمان في قلبك، وتوحيد بالله سبحانه وتعالى، يأتي ليسد عليك الأبواب، وليدخل على قلبك اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولتنقطع عن إخوانك المسلمين، ولئلا يكون لك دور في نصرة هذا الدين، بحجة وهمية؛ وهي أنك قد وقعت في المعاصي.
وانظر أخي المسلم! إلى الأمر الذي يبدد هذا اليأس، ويبعث الأمل قوياً موصولاً في نفسك، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، آية من أعظم آيات الرجاء في القرآن: (قُلْ يَا عِبَادِيَ) سماهم عباداً له؛ لأنهم موحدون لأنهم مؤمنون وإن كانوا عصاة خاطئين: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أي: في المعاصي والشهوات والملذات والمخالفات، (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) لا تقنطوا من رحمة الله مهما تعاظمت ذنوبكم! ليس ذلك دعوة لارتكاب المعاصي، وإنما دعوة لمن قد وقع ليخرج من هذه الورطة والوقعة.
(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ما خلا الشرك، في الحديث القدسي الصحيح عن رب العزة والجلال: (ابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا بملء الأرض معاصي وذنوب وخطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لقيتك بقرابها مغفرة)، إن هذا الأمر يحتاج منك إلى التوبة والاستغفار، ثم إلى مواصلة العمل في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) (إن الله إذا بقي الثلث الأخير من الليل ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)، وذلك الدهر كله (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وفي حديث آخر صحيح أيضاً: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها).
فضل الله عظيم، والأمل في رحمته كبير! وفي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجة وعند الإمام أحمد بسند صححه بعض أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، توبوا إلى الله واستغفروه في اليوم والليلة مائة أو سبعين مرة، فقد كان ذلك فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلا يأس من روح الله، ولا يأس من رحمة الله، حتى وإن كنت من العصاة.(75/4)
الأمل في رحمة الله عند الضيق والشدائد
وأمر ثالث أيضاً يدخل به اليأس والقنوط على نفوس بعض الناس: عندما تضيق بهم الأحوال، وتقل في أيديهم الأموال، وتنسد طرق الرزق أمامهم وأمام سعيهم، فإذا بالرضا عن قضاء الله لا يلج إلى قلب أولئك، فتجدهم متكدرين معترضين ساخطين، غير متأملين في نعم الله عليهم، وغير متفائلين في الأمل الذي يمكن أن يفتحه الله عز وجل في مستقبل الأيام.
وما ينبغي أن يكون هذا حال المؤمن، فإن نعمة واحدة من نعم الله عز وجل عليك لا يكفيك عملك كله شكراً لها، فإذا وجدت شيئاً من الضيق في باب من الأبواب، فانظر إلى الصحة التي آتاك الله إياها، وانظر إلى السلامة والأمن الذي هيأه الله لك، وانظر إلى الأولاد الذين رزقهم الله إياك، وانظر إلى ما سلف من الرزق الذي أجراه الله عز وجل بين يديك، وانظر إلى القليل الذي آتاك الله عز وجل كيف بارك لك فيه، وانظر إلى غيرك ممن هو أدنى منك في أبواب الرزق؛ لتذكر نعمة الله عليك، ولتشكر الله سبحانه وتعالى، وتذكر قوله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] قد أجدبت الأرض، وأقفرت من الماء حتى لم يعد هناك أمل، فإذا الله عز وجل ينزل رحمته.
وهكذا هذا الأمر يحتاج أيضاً إلى عمل، يحتاج إلى التضرع والدعاء، يحتاج إلى الصلاة والاستسقاء، يحتاج إلى أن تتعرف على الله في الشدة والرخاء، ينبغي ألا تكون حالك كحال أهل الكفر أو أهل الغفلة والطغيان، الذين لا يلتفتون إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، والذين يطغون بالنعم إذا جاءتهم، ويكفرون بالله عز وجل إذا سلبهم بعض النعم.
أما المؤمن فإن أمره كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: كله له خير؛ فإن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، فهو في كل حال من الأحوال على خير.
واعلم أن كل بلاء يحل بك أو ضيق يواجهك في حياتك إنما هو تكفير للسيئات ورفع للدرجات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (حتى الشوكة يشاكها العبد المؤمن يكفر الله عز وجل بها من خطاياه)، فاحمد الله عبد الله، ولا تيأس من نعمة الله ولا من رزق الله، ألم تر فقراء من الله عليهم فجأة بسعة الرزق من إرث أو من عمل لم يكونوا يحتسبونه؟ والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] لم نضيق بما قدر الله عز وجل علينا ثم نتنكب الطريق ونريد توسعة الرزق من خلال الحرام، فنقبل الرشاوي، ونغش، وندلس، فإذا قيل: لم تفعل هذا؟ قال: لأن أبواب الرزق ضاقت ولم يكن هناك من طريق إلا هذا! فسبحان الله كيف نريد عطاء الله بمعصية الله! وكيف نريد أن يفرج الله عنا ونحن نضيق على أنفسنا ونسد الطريق بيننا وبينه سبحانه وتعالى بمثل هذه المعاصي! وهنا مثل جاء في كتاب الله عز وجل لنأخذ منه الدرس والعبرة من غير ما تطويل كما في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، لما جاءته ملائكة الله، يقول الله جل وعلا: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:52 - 55].
فهذه صورة أخرى: بعض الناس يحرم الولد ويبحث هنا وهنا ثم ينقطع الأمل، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا في قصة إبراهيم أنه كان قد بلغ من الكبر عتياً، فجاءته البشارة فلم يصدقها لأول وهلة؛ لأنه لا يعرف هؤلاء المبلغين لهذه البشارة، فلما قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر:55] أي: من عند الله عز وجل، لم يكن عنده أدنى شك في وعد الله عز وجل، وفي البشارة التي بلغها إياه ملائكة الله سبحانه وتعالى.
وكم ممن حرموا من الذرية عاشوا سنوات طوالاً ثم رزقهم الله عز وجل! فلا يمكن للمؤمن أن ييأس من أي أمر في هذه الحياة ما دام موصولاً بالله سبحانه وتعالى، وأكثر ما يقع اليأس عندما تحل المحن ويكثر البلاء، ويشتد كيد الأعداء، وتحيط بالمسلم أو بالمسلمين النكبات من كل مكان، هنا يقع في بعض القلوب وهن، ويسري إلى بعض النفوس يأس وقنوط، وينبغي ألا يكون ذلك ممن قلبه معمور بالإيمان، وإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا من قصص الأنبياء والمرسلين ما هو درس وعظة وعبرة في هذا الشأن: فهذا موسى عليه السلام يخرج ومعه بنو إسرائيل من مصر، ويتبعه فرعون وجنوده، ثم يعترضه البحر أمامه، وفرعون بجيوشه وسيوفه وحرابه من ورائه، فإذا ببعض بني إسرائيل ممن لم يعمر الإيمان قلبه ولم تعظم ثقتهم بالله عز وجل: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لا أمل لنا في النجاة مطلقاً، وجاء رد موسى عليه السلام بقدر ما كان على عظيم الأمل وكماله: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] لا يمكن أن تكون هذه هي النتيجة؛ لأن هناك وعداً من الله سبحانه وتعالى، ولم يكن موسى عليه السلام إذ ذاك يعلم كيف سيكون الخلاص؟ هو يعلم أن ثمة خلاصاً لكنه لا يعلم كيف يكون، ثم جاء السبب اليسير: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، فلما مر موسى ومن معه وجاء فرعون ومن معه أطبق البحر عليهم فماتوا غرقى.
والنبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الهجرة لما كان مختفياً في الغار وتتبع قصاص الأثر أثره وأثر أبي بكر حتى وقفوا على فم الغار.
يقول أبو بكر: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).
وانظر إلى صحابة النبي رضوان الله عليهم عندما حلت بهم بعض الهزيمة في أحد: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وانظر إليهم في الأحزاب وقد اجتمعت عليهم ظروف عصيبة ورهيبة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
هكذا كان أملهم في الله عز وجل، إنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، إنهم مستقيمون على أمر الله، ثابتون على دين الله، يعلمون أن الفرج من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا يسري اليأس إلى نفوسنا، وألا يداخل القنوط قلوبنا، فإن الأمل في الله عظيم، وإن الخير في أمة الإسلام عميم.
أسأل الله عز وجل أن يفرج هموم المسلمين، وأن ينفس كروبهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يقرب فرجهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(75/5)
صور من الواقع تبعث الأمل في النفس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى تعظيم الثقة بالله، وعقد الأمل في عطاء الله سبحانه وتعالى، وإن اليأس عند الشدائد -كما قلت- هو الذي يحيط بكثير من أحوال الأمة اليوم، ولنا عبرة فيما سلف من قصص الأنبياء والمرسلين وفي سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن صور الثبات التي تقع في واقع الأمة اليوم لتبعث الأمل عظيماً، فإننا نرى شدة، وإننا نرى وحشية واعتداءً وبغياً، وكل تحطيم لمعاني الكرامة الإنسانية، ومع ذلك نجد -بحمد الله عز وجل- عند كثير من إخواننا المسلمين المعذبين المضطهدين المظلومين لجوءاً إلى الله عز وجل، وعودة إلى الله سبحانه وتعالى، وانقطعت آمالهم وانقطع رجاؤهم إلا في الله سبحانه وتعالى، وهنا يحصل الأمر الذي ينبغي أن يكون وهو أن يدب اليأس لا إلى المسلمين، وإنما إلى الكافرين، أن يأتيهم اليأس أنه لا أمل في تغيير المسلمين عن إسلامهم، ولا في نزع إيمانهم، ولا في تغيير صلتهم بالله وارتباطهم، ولا في تقطع أواصرهم، فعندما ابتلي المسلمون في البوسنة أو في كشمير أو أي مكان ماذا كان قولهم؟ دعاء لله، ثم اتصال بإخوانهم المسلمين، هكذا كان الأمر، ولذلك يقول الله جل وعلا: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3]، ما معنى هذه الآية؟ قال ابن كثير في تفسيره: أي: أن المشركين قد يئسوا أن يرجع أهل الإسلام عن إسلامهم، في أول الأمر كانت قريش تغري بالأموال، ثم بعد ذلك صارت تلهب بالسياط، ثم بعد ذلك صارت تضيق بالحصار، كل ذلك أملاً في الارتداد، وفي أن يرجع المسلمون إلى كفرهم وشركهم.
لما فشلت كل هذه المحاولات دب اليأس في قلوب الأعداء أنه لا أمل فيمن خالط الإيمان قلبه، لا أمل فيمن سجد لله سجدة إذا ثبت بإذن الله عز وجل على إيمانه، ورسخ بقدمه على طريق رضوان الله سبحانه وتعالى، وهكذا ينبغي أن يكون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في معنى آخر عندما قال: (إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم).
وهذا الأمر ينبغي أن يكون عندنا شيء كبير من الأمل، وينبغي لك أخي المسلم ألا تكون موصوفاً باليأس؛ لأنه صفة أهل الكفر كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23].
ينبغي لك ألا تكون كحال الإنسان إذا كان مجرداً عن الإيمان مما أخبرنا به الله عز وجل في القرآن عندما قال جل وعلا: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:9 - 10]: قال ابن كثير في تفسيره عن حال هذا الإنسان بلا إيمان: إذا وقعت له شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة للمستقبل، وكفر وجحود بالنسبة لماضي الحال، كأنه لم ير خيراً من قبل قط، وحال الإنسان كما قال الله جل وعلا: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49]، يدعو الله بالمال وبالأولاد وبسعة الرزق، ويعطيه الله عز وجل ما قدره سبحانه وتعالى، فإذا أخذ منه بعض نعمه إذا هو يئوس قنوط.
ينبغي ألا يكون هذا حال المسلم، ينبغي أن تكون أخي المسلم راضياً بالقضاء، شاكراً على النعماء، صابراً على الضراء، مواظباً على الدعاء، مؤملاً في الله سبحانه وتعالى في الشدة والرخاء، ينبغي أن تكون دائم الصلة بالله عز وجل، وإن الفجر بعد الليل لا بد أن يطلع، وإن النور بعد الظلام لابد أن يسطع، حقيقة كونية لا شك فيها.
وانظر إلى قصة يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام، بعد أن ذهب يوسف ومرت به سنوات لا يعرفون له خبراً، ولا يأتيهم عنه ذكر من قريب ولا بعيد، ثم بعد ذلك يأتي ابنه الثاني ويقبض عليه العزيز في قصة السرقة المعروفة، ثم يرجع الأبناء وقد يئسوا، فيقول يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، قبل ذلك قالوا له: (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:85 - 86]، بث شكواك إلى الله، وأصغ بما حل بك إلى الله، واترك الأمر لله، فإن الله جاعل لكل أمر ولكل ضيق مخرجاً بإذنه سبحانه وتعالى، ولكن الآمال كما أشرت تحتاج إلى الأعمال، ولا بد أن نعرف أن العاقبة للمتقين: أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من جديد فالله الله في الأمل في الله، والله الله في الرجاء في الله، والله الله في الأعمال من التوبة والاستغفار، ومن التضرع والدعاء، ومن البذل والسخاء، ومن العمل لكل ما يحبه الله ويرضاه، والعمل لكل ما من شأنه رفعة هذه الأمة، ونصرة هذا الدين، حتى يعود العز المفقود، والوحدة الضائعة، والقوة المبددة، وما ذلك على الله بعزيز، وقد نصر الله عز وجل أهل الإيمان، ووعده قائم: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقاعدته التي جعلها بشرى لأهل الإيمان قاعدة مطردة لا تتخلف: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ولكنه جعل لذلك شروطاً وجعل له قواعد وسنناً: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم اجعلنا من العاملين بالطاعات، والمبتعدين عن المعاصي والسيئات، والمسارعين إلى الخيرات، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب وترضى، اللهم إنا نسأل الثقة بك، والتوكل عليك، والإنابة إليك، والرجاء فيك، والخوف منك، والإخلاص لك، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، وأفقر الفقراء إليك، وأغننا بفضلك عمن أغنيته عنا، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا رب العالمين! اللهم قد تبرأنا من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك يا رب العالمين! اللهم فأمدنا بالإيمان واليقين، اللهم وأمدنا بالعمل لهذا الدين، اللهم ووفقنا لنصرة إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا، وأن تثبت على طريق الحق أقدامنا، وأن تجعل الجنة مأوانا ومتقلبنا يا رب العالمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم عجل فرجنا، وقرب نصرنا، ونفس كربنا، اللهم اغفر سيآتنا، وامح زلاتنا، وأقل عثراتنا، وتقبل حسناتنا، وارفع درجاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والشيوخ الركع، والأطفال الرضع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم مشردون فسكنهم، اللهم رضهم بالقضاء، وصبرهم على البلاء، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم رد كيد أعدائهم في نحورهم، واجعل تدبير أعدائهم تدميراً عليهم يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر الجلي، والمقام العلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(75/6)
المسلم بين البذل والبخل
البذل والكرم من الصفات الحميدة التي جاء الشرع بمدحها والحث عليها، وذلك لما لها من الآثار العظيمة النافعة على الفرد والمجتمع، وبالعكس من ذلك فقد جاء بذم البخل والتنفير منه، وذلك لما له من الآثار السيئة، فعلى المسلم أن يبذل في وجوه الخير كل ما يستطيعه من أنواع البذل، ويجب عليه أن يحذر من داء البخل؛ فإنه داء عضال.(76/1)
مسارعة المؤمنين إلى مرضاة الله
الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، نحمده سبحانه وتعالى هو ذو الجود والكرم، وهو واهب النعم، نحمده كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، دعانا إلى الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ووعد المستجيبين المتقين بالنعيم في الجنان، وتوعد الجاحدين المخالفين بعذاب النيران.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! " المسلم بين البذل والبخل" هو موضوع حديثنا في هذا المقام، نستكمل به الأضواء على ملامح الشخصية الإسلامية، ولابد أن ندرك ابتداءً أن هذه الحياة الدنيا في تصور الإسلام وفي يقين المؤمن إنما هي دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، ومن ثمَّ فإن هذا التصور يجعل التعلق بالحياة الدنيا والبذل فيها يخضع لهذا التصور الإيماني الإسلامي الذي يجعل الآخرة أوكد الهمَّ، والذي يجعلها غاية الغايات، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
إن المسلم في حقيقة إسلامه وإيمانه باذل منفق معطٍ في كل ما يحبه الله ويرضاه وفي كل باب من أبواب نصرة دين الله، وفي كل ميدان من ميادين الدعوة إلى الله، وفي كل موقع من مواقع الجهاد في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى قد جعل سمة أهل الإيمان والتقوى الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى والبذل في مراضيه جل وعلا، فقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2 - 3].
وأهل التقوى هم الذين ذكر الله عاقبتهم ومثوبتهم عنده سبحانه وتعالى فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وأول وصف من أوصافهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، والله جل وعلا عندما جعل هذا الوصف سمة لأهل الإيمان جعل الإنفاق عاماً مطلقاً فقال: (ينفقون في السراء والضراء).(76/2)
أوجه البذل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس بالضرورة أن يكون البذل محصوراً في المال وحده، وإنما المسلم يبذل من علمه، ويبذل من وقته، ويبذل من جهده، ويبذل من سماحة نفسه، وأعلى أنواع البذل وأرفعها أن يبذل نفسه وروحه رخيصة في سبيل الله عز وجل.(76/3)
بذل المال لوجه الله تعالى
وهنا كان بذل أهل الإيمان في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكان بذله عليه الصلاة والسلام أيضاً في شأن المال هو أعظم أنواع البذل، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يصف المصطفى عليه الصلاة والسلام وصفاً عجيباً فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
قال الشاعر: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم وقال آخر: لو لم تكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، ولا يمنع مالاً، بل قد تجوز مرة في صلاته وأسرع فيها، ثم انفتل خارجاً من المسجد، ثم غاب في بيته، ثم خرج إلى الصحابة فرأى علائم الاستفهام والاستغراب مرسومة على وجوههم فقال: (إني ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله).
ومضى الرسول الكريم الذي دانت له الدنيا وجاءته الخيرات من كل مكان إلى ربه ومولاه ودرعه مرهونة عند يهودي في بعض طعام كان يأخذه عليه الصلاة والسلام، وكان يمر الهلالان والثلاثة -كما تقول عائشة وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وما كان ذلك عن فقر وحاجة، وإنما كان عن بذل وإنفاق وسماحة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30] فهذا وصف أهل الإيمان، وهذا وصف أهل القرآن أنهم يرجون تجارة لن تبور، أرباحها أضعاف مضاعفة، وتأمينها عند من لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى.(76/4)
بذل النفس في سبيل الله
وأيضاً كان عليه الصلاة والسلام يرسم لنا صورة البذل في أمر النفس والروح في الجهاد في سبيل الله، فكم من غزوة خرج فيها وكان قائد المسلمين ومقدمهم! وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشجع الشجعان وفارس الفرسان يقول: (كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكون في المقدمة عند مواجهة الأعداء، ولم يكن عليه الصلاة والسلام من الجبناء، وفي يوم حنين ارتبكت جيوش المسلمين، وجاء أولها على آخرها، ومقدمها على مؤخرها، واضطربت الصفوف، ورجع أهل الفتح من المسلمة الذين لم يثبت إيمانهم بعد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء له يقال لها: دلدل.
والبغلة ليست من الدواب التي تسرع حتى تكون دابة هروب وفرار، بل هي دابة استقرار وقرار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
ثم يدعو العباس لينادي أهل الهجرة وأهل بدر، حتى تجمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى عظيم حديثه عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن بذل النفس والروح في سبيل الله، وأنه لا يتمنى إلا أن يقتل في سبيل الله، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثانية، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثالثة، وذلك لما يرى المجاهد من ثواب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
وانظر إلى هذه الصفقة العظيمة (إن الله اشترى) فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وقد اشترى الأنفس قبل الأموال، فالسلعة هي الروح التي بين جنبيك، هي خفقان قلبك، هي حياتك في هذه الدنيا الدنيئة، ثم الثواب والأجر والقيمة المعطاة: (جنة عرضها السموات والأرض).
لما سمع الصحب الكرام ذلك الوعد العظيم من الله سبحانه وتعالى قالوا: لا نقيل ولا نستقيل، هذه بيعة نثبت عليها، هذه صفقة نصر عليها، هذا عهد نمضي عليه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة.(76/5)
بذل بالأخلاق الحسنة للمسلمين
وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يجسد لنا كل صور البذل في أروع مراتبها وأرفع مقاماتها، ويبينها لنا في مقاله وفي حاله الذي نقل لنا من سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة.
عندما نتحدث عن البذل فإن كثيراً من الناس يحصرونه ويقصرونه في أمر المال، وأؤجل الحديث عنه لما يشيع بين الناس من معرفة أوصافه وما يتعلق به؛ وأتحدث عن أنواع البذل الأخرى التي لا يفقهها كثير من الناس، والتي يقصر فيها كثير من الناس؛ فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبذل من سماحة نفوسنا، فهاهو عليه الصلاة والسلام يبين لك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن إدخال السرور على المؤمن من أعظم أبواب الخير والبذل والإحسان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام صدراً رحباً وسع جميع الصحابة، ووسع الجهلاء والغلظاء من الأعراب، وما ضاق عنهم حلمه عليه الصلاة والسلام، بل وسعتهم أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، وبذل لهم من عظيم صبره، وبذل لهم من سماحة نفسه عليه الصلاة والسلام.
فاستأسر القلوب، وسبى المشاعر والنفوس، وخطف الألباب والأبصار؛ فكان قدوة عظيمة لكل من جاء إليه ولكل من كان معه ولكل من التف حوله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وكان عليه الصلاة والسلام يبذل من وقته فهذا سائل يسأل، وذاك مستفتٍ يستفتي، وذاك طالب حاجة يطلب السعي معه في حاجته، وتلك امرأة عجوز لا يؤبه لها تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوده إلى أي سكك المدينة شاءت؛ حتى يقضي عليه الصلاة والسلام لها حاجتها، فلا يستكبر من ذلك ولا يستنكف، بل يبذل عليه الصلاة والسلام لكل صاحب حاجة ما يليق بحاجته.(76/6)
بذل الدعوة وهداية الناس
ثم بذل عليه الصلاة والسلام في باب عظيم من أعظم الأبواب التي يقل فيها البذل، وهو بذله في الدعوة وهداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، وحرصه على أن يمنعهم من الوقوع في الهلاك والتردي في عاجل دنياهم وعاقب أخراهم، فهو عليه الصلاة والسلام لم يترك موقفاً من المواقف ولا مجمعاً من المجامع ولا بقعة من البقاع إلا وسعى ليوصل إليها دعوته، فكان في الفترة المكية يغشى مجالس قريش وصناديدها، مع أنهم كانوا أهل علو واستكبار وأهل إيذاء وإهانة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.
وكان صلى الله عليه وسلم يلقي دعوته لله سبحانه وتعالى، فيبذلها للضالين والكافرين والمعرضين فضلاً عن المقبلين والراغبين والطالبين، وما كان صلى الله عليه وسلم يمنع شيئاً من علم وهدى وإرشاد، بل كان يسعى إلى بذله؛ حتى كان يتتبع القبائل في مواضعها؛ فخرج إلى الطائف، ثم هاجر إلى المدينة، ثم مضى بعد ذلك مرة أخرى إلى الطائف فاتحاً، ثم مضى مجاهداً، ثم أرسل الكتب إلى الملوك من حول الجزيرة كلها، وكانت نفسه تتقطع حسرات على ضلال الضالين وكفر الكافرين، حتى قال جل وعلا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: أنت مهلك نفسك في إثر أولئك القوم المعرضين تريد أن تردهم عن موارد الهلاك، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).(76/7)
اقتداء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم برسول الله في البذل
ولذلك أخذ الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخصلة العظيمة؛ خصلة البذل في سبيل الله عز وجل بكل صوره وأشكاله، فإذا بالصحب الكرام باذلون في سبيل الله عز وجل أموالهم وأوقاتهم وعلمهم ودعوتهم وأنفسهم التي بين جنوبهم، فهذا مثل عظيم من الأمثلة التي فيها أروع صور البذل لفرد واحد من مدرسة النبوة العظيمة: وهو أنس بن النضر رضي الله عنه، وذلك عندما لم يتهيأ له أن يشهد بدراً، خرج في أحد وقال: (ليرين الله ما أصنع).
وهذا تهييج للنفس، وقطع للأمل، وإعلان للبذل في سبيل الله عز وجل، فلما دارت الدائرة وشاع في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال: (فعلامَ الحياة من بعده؟ موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم مضى منطلقاً يخترق الصفوف، ويعانق السيوف، ويدخل بين أهل الكفر، يجندل منهم يميناً وشمالاً، وهو يقول: (واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد).
وانظر إلى بذل الصديق رضي الله عنه الذي سخر ماله كله خدمة لدين الله ونصرة لدعوة الله، فإذا به يعتق الأرقاء ممن أسلموا في مكة، وإذا به يجهز موكب الهجرة، وإذا به في يوم تبوك يأتي بماله كله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله)، هكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم.
وهذا عمر الفاروق كان من أعظم الباذلين من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بذل من مشاعره رحمة وشفقة ورعاية لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فكان يسأل عن صغيرهم، ويتحرى شأن كبيرهم، وينظر في كل شئونهم، ولا يطمئن له جنب ولا تغمض له عين إلا أن يبذل كل ما يستطيع من طاقة وجهد نصحاً لأمة الإسلام والمسلمين، وحرصاً على مصالح المسلمين.
وهكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يضربون الأمثلة، والمقام يضيق عن ذكر الأمثلة فضلاً عن الإحصاء أو الاستقصاء.(76/8)
وعد الله عز وجل بالإخلاف على من أنفق في الخير
المسلم باذل من نفسه ومن ماله، والوعد من الله عز وجل قائم مطلق لا يتخلف، قال عز وجل: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، أي: وما أنفقتم من شيء قليل أو كثير مال أو غير مال فهو يخلفه، فمهما أنفقت يعوضك الله إياه.
وانظر إلى علماء الإسلام كم بذلوا من أوقاتهم! وكم أفنوا من أعمارهم! وكم أذهبوا من نور أبصارهم فيما يتعلق بالعلم الشرعي الذي يبلغونه لأمة الإسلام من بعهدهم! فانظر رحمك الله ما أخلف عليهم الله من مباركة الأوقات، فجاءونا بالكتب المطولات والموسوعات التي لا نستطيع اليوم أن نقرأها فضلاً عن أن نفهمها، فضلاً عن أن ننشئ مثلها أو قريباً منها.
والله عز وجل وعد أنك إن أنفقت أو بذلت شيئاً في سبيل الله أن يخلفه، فالإخلاف هو من الله سبحانه وتعالى، والتعويض هو من الله جل وعلا، وكل شيء تبذله يأتيك عاجله في الدنيا -بإذن الله عز وجل- قبل الآخرة.(76/9)
بذل أعداء الإسلام أموالهم في الصد عن سبيل الله عز وجل، وواجب المسلمين تجاه ذلك
والله سبحانه وتعالى قد بين لنا كل هذه الجوانب، وبين لنا أن أمر الإنفاق والبذل عظيم، وأنه ينبغي للمسلمين ألا يتخلفوا عنه في الوقت الذي يتسابق فيه أهل الكفر فيبذلون أموالهم، ويبذلون عصارة أفكارهم، وخلاصة عقولهم، وذروة علومهم؛ ليكون ذلك في مواجهة الإسلام والمسلمين.
ثم أريد أنا وأنت أن نصد عدوان المسلمين وأن ننصر المسلمين، ونحن لا نخرج شيئاً من أموالنا! ولا نبذل قليلاً من أوقاتنا! ولا نريد أن نتعب أجسادنا! ولا نريد أن نقلق راحتنا! ولا نريد أن نفارق زوجاتنا وأولادنا! أي شيء هذا؟! قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] فقال: (ينفقون) أتى بصيغة المضارع التي تدل على الاستمرار في كل زمان ومكان وحال، فهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ولكن: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
لكن أين الذين ينفقون ليدعوا إلى سبيل الله، بل لينصروا دين الله.
إن هذا لا يمكن أن يواجه إلا ببذل مماثل، كما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأسلاف أمتنا من الأئمة الأعلام الذي شرقوا وغربوا في طلب العلم، والذين شرقوا وغربوا في الجهاد في سبيل الله، والذين شرقوا وغربوا لينصروا دين الله عز وجل، كل ذلك ينبغي أن نعيه، وأنه خصلة أساسية من خصال المسلم الحق، فإنه منفق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وباذل لنصرة دين الله.(76/10)
ذم البخل وأهله
أما البخل فليس من شأن أهل الإيمان في شيء، وأما الإقتار والتردد والتخاذل فلا يليق بالمسلم سيما عندما يتعلق الأمر بالأمة والدين، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (إن الولد مبخلة مجبنة) وهذا يبين لنا بعضاً من العوائق التي تشد إلى الأرض، وتشغل بالدنيا، وتحول دون البذل في سبيل الله.
إن الأبناء مبخلة، أي: عن الإنفاق والبذل في سبيل الله، (مجبنة) أي: عن الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، قال عز وجل: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، يبين الله جل وعلا لنا هذه المعاني حتى ندرك أننا نحتاج إلى أن نفك القيود؛ لتكون نفسونا مهيأة للبذل في سبيل الله، فما بالنا نبذل من الأوقات أطولها وأفضلها لنحصل معاشنا، ثم نبخل أن نبذل من الأوقات شيئاً يسيراً نسعى فيه في الخير وننصر به أهل الإسلام، ونسعى فيه لمعاونة مسلم، أو لإغاثة ملهوف، أو لتعليم جاهل، أو لدعوة غافل؟! وما بالنا نبذل من أموالنا أكثرها وأشرفها في مآكلنا ومشاربنا وبيوتنا ودورنا ومظاهرنا الزائفة، ثم نبخل أن ننفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.
وما بالنا نجهد ونرهق في أمور الدنيا، وربما في أمور اللهو والمتاع، ثم لا نريد أن نتعب ولو يسيراً، وأن نعرق ولو قليلاً، ونحن نسعى في طاعة الله ومرضاة الله؟ إن المسلم شأنه البذل، وينبغي أن يجتنب البخل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
أسال الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين في سبيله، ومن الناجين من البخل في كل باب من أبواب الخير، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(76/11)
المنفق والبخيل عند الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله عز وجل أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى البذل في سبيل الله، وأقف بكم مع مثل ضربه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليبين لنا صورة البذل وصورة البخل، ولنستخرج من هذا المثل الآثار النفسية والحسية والدنيوية والأخروية لأمر البذل من جهة، ولأمر البخل من جهة أخرى.
في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما) أي: هذه الحلة سابغة وضيقة، وحسبك بهذا الوصف والتشبيه الأولي، ثم انظر إلى أثر البذل وأثر البخل، يقول: (فكلما هم المتصدق اتسعت بصدقته-أي: توسعت وتفسحت عليه- حتى تغشى أنامله -أي: تطول حتى تصبح قد وصلت إلى أنامله- وتعفو أثره) أي: كلما مشى كان طولها يمحو الآثار من وراءه.
ومعنى هذا التشبيه: أن هذه السعة هي سعة الرزق، وسعة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وهي السماحة واليسر، وهي التوفيق والسداد، وكأن المسلم المنفق إذا وفقه الله كلما رفع حجراً وجد تحته ذهباً، وكلما طرق باباً وجد وراءه رزقاً، إنه وعد من الله عز وجل ووعد من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما نقص مال من صدقة).
فالجبة تتسع على المنفق حتى تعفو أثره، ومعنى عفو الأثر في هذا الحديث: محو الآثام والسيئات.
قال: (وما يزال البخيل يبخل، وكلما همَّ بصدقة ثم امتنع عنها قلصت عليه -أي: هذه الحلة أو الجبة- وضاقت كل حلقة بمكانها) أي: تضيق ضيقاً شديداً، فإذا بهذا الضيق هو ضيق في الرزق، وضيق في الصدر، وضيق في الحال، وضيق في السعادة، فلا تجد إلا هماً متراكباً، ولا تجد إلا فقراً متتابعاً، ولا تجد إلا غضباً متوالياً، وهذا أثر من آثار ترك الإنفاق في سبيل الله عز وجل، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فلو رأيته -أي: عليه الصلاة والسلام- يوسعها فلا تتسع.
فالذي لا ينفق يريد أن يبحث عن أبواب الرزق ويريد أن يزيد من المال، فإذا بالله عز وجل يسلط عليه من النكبات ما يمحق بركة المال ويذهب أثره الذي ينتفع به، وإن لم يحصل شيء من ذلك أو كثير منه فالعاقبة الأخروية جديرة بالمؤمن أن يتأمل فيها، وأن يفكر فيها، وانظر إلى ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10].
وتأمل كيف يكون التيسير للعسر، فإن الله جل وعلا يجعل ذلك بصور وأشكال قد يفقهونها وقد لا يفقهونها، والله جل وعلا يقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]، فلا تظنه خيراً لك بأن يزداد رصيدك، وتؤمّن مستقبلك، بل هو شر لك إن لم تخرج حق الله، وإن لم تحرص أن تغالب نفسك لتنفق أكثر في سبيل الله.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه.(76/12)
الحث على البذل في أبواب الخير
يقول الله جل وعلا في آيات متتابعات من سورة محمد: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]، قال ابن كثير: الله جل وعلا غني عنكم، لا يطلب منكم شيئاً، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء؛ ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.
ثم يقول الله جل وعلا: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، وكلنا من خلق الله جل وعلا، وكل الرزق من عنده، وكل ما في الدنيا وباطنها وظاهرها وما بين السماء والأرض له جل وعلا، ولو أنه أمرنا أن ننفق مالنا كله وأن نعطي كل ما لدينا لكان في ذلك حرج، ولنتج عنه بخل، لكنه سبحانه وتعالى ما جعل ذلك إلا بقدر يسير، وليس إلا لإخوان لك في الإيمان والاعتقاد من ذوي الحاجات؛ ليعود النفع إليك، ويكتب الأجر والثواب لك.
قال قتادة: قد علم الله سبحانه وتعالى أن في إخراج المال إخراج الأضغان، وتنشل به الأحقاد من القلوب، وينتزع به الحسد من النفوس، ويحصل به الوئام والمحبة والتكافل والتعاون بين أهل الإسلام، ولذلك يقول ابن كثير في هذا: صدق قتادة؛ فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يمكن أن يخرجه الإنسان إلا إلى محبوب أعظم منه، وهو حبه لله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
ثم يقول جل وعلا: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38]، يقول ابن كثير: إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وباء ذلك عليه، كما مر بنا في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} [محمد:38] أي: عن كل ما سواه سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد بسط في هذه الآيات الصور الكثيرة التي تحذر وترهب المسلم من أن يكون من البخلاء غير الباذلين في سبيل الله عز وجل.
وفي صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له -أي: يوم القيامة- شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: بشدقيه- فيقول: أنا مالك).
والأحاديث في ذلك كثيرة.(76/13)
البخل صفة من صفات أهل النفاق
واعلم أخي المسلم أن البذل هو صفة المسلم، وأن البخل هو صفة أهل النفاق، فاربأ بنفسك أن تكون منهم، والله جل وعلا يقول في شأن المنافقين: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
ويخبرنا الله سبحانه وتعالى عن شأنهم وعن شأن بعض أحوالهم فيقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة:75 - 76] والنتيجة: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77] أورثهم وجعل لهم نفاقاً في قلوبهم أي: فساداً في القلوب لما أخلفوا الوعد مع الله، وخلف الوعد مع الخلق من صفة المنافقين، فكيف إذا كان مع الله سبحانه وتعالى؟ فالمسلم لابد أن ينتبه إلى هذه المعاني الخطيرة.
وننتبه أيضاً إلى الحديث الذي ورد في سنن الترمذي وعند الإمام أحمد في مسنده، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي)، فصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(76/14)
أهمية البذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل
جاء عند الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: (البخيل بعيد من الجنة بعيد من الناس)؛ لأن الجنة تحتاج إلى بذل، وتحتاج إلى أن يدفع الثمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، فلا تنال بالقليل، بل لابد من الكثير، ولا تنال بالتقصير، بل لابد من الحرص على التسديد والمقاربة، كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فلذا لابد أن نعود أنفسنا على البذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل، والعطاء بكل صوره وأشكاله، بذلاً من سماحة النفوس، وبذلاً من الأخلاق التي يتعودها المسلم، وبذلاً من وقتك، وبذلاً من جهدك، وبذلاً من دعوتك، وبذلاً من علمك، وبذلاً من نفسك بكل ما تستطيع في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين المنفقين، وأن يجعلنا من العاملين لنصرة دين الله عز وجل، والمخلصين له سبحانه وتعالى، والداعين إلى دينه، والمجاهدين في سبيله.
نسألك اللهم أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً.
اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى، وثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا، واجعل عاقبتنا خيراً من عاجلتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا من ورثة جنة النعيم، واقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم زد إيماننا، وعظم يقيننا، اللهم ضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، اللهم امح سيئاتنا، وأقل عثراتنا يا أرحم الراحمين! يا أكرم الأكرمين! يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد.
اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والمشركين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم يا قوي يا عزيز! يا منتقم يا جبار! يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك اللطف والرحمة لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والأسرى والمسجونين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تفرج عن إخواننا في البوسنة وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل الدائرة على أعدائهم، اللهم اجعل عدوان الأعداء رداً في نحورهم، اللهم واجعل عدوانهم تدميراً لقوتهم، وتقويضاً لدولتهم، وتفريقاً لكلمتهم يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك أن تزيل عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.(76/15)
المسلم بين النصيحة والفضيحة
للنصيحة منزلة عظيمة في الدين الإسلامي، بل هي الدين كله كما قال ذلك رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ولها شروط وضوابط ينبغي مراعاتها حتى تؤتي ثمارها؛ فإنها إذا خرجت عن شروطها وضوابطها انقلبت إلى فضيحة، وجاءت ثمارها معكوسة.(77/1)
تعريف النصيحة
الحمد لله الذي حبب إلينا الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأرشد إلى النصيحة والبيان، وحذر من الفضيحة والبهتان، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، جعله الله عز وجل خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وبعثه إلى الناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا جميعاً اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوع حديثنا هذا هو عن (المسلم بين النصيحة والفضيحة) نستعرض فيه ملامح الشخصية الإسلامية.
وقد سلف لنا الحديث على أن المؤمن مبلغ عن الله، وداعٍ إلى دين الله، ومرشد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ناطق بالحق، داعٍ ومرغب في الخير، وهذه السمة هي من أعظم سمات المسلم، والنصح هو أيضاً أمر عظيم يؤدي به المسلم ذلك البلاغ، ويحقق به ما كلفه الله جل وعلا به.
فالنصيحة: هي كلمة جامعة لإرادة الخير وحيازته للمنصوح، وأصلها بالاشتقاق اللغوي: من نصحت الثوب إذا خطته، أو من نصحت العسل إذا صفيته، فالمقصود بها: رتق العيوب، وسد الخلل، والتصفية ونبذ ما لا يليق بالمسلم، وتحذيره من المخالفة، وزجره عن المعصية، وجذبه إلى الطاعة، ليخلص من الشرور والآثام، وليبعد عنه آثارها العظام، وهذا الأمر هو الذي ينبغي أن يتنبه له المسلم.
والنصيحة هي من أعظم ما يكلف به المسلم، بل هي الحد الذي لا ينفلت ولا ينفك عنه مسلم، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91].
وقد تعجز عن بعض الفعل لعذر شرعي، لكن نصحك لله ولرسوله ونصحك للأمة ولعباد الله، أمر ينبغي أن ينطوي عليه قلبك، وأن ينطق به لسانك، وأن يكون ديدنك في حياتك كلها مع كل إخوانك، بالأسلوب الحسن، وبالمنهج الشرعي، ووفق الهدي النبوي الذي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الله جل وعلا لنا في قصص الأنبياء والمرسلين شعاراً قاله بعضهم وطبقه كلهم: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68].
والنصح فيه إخلاص وأمانة ومحبة للمنصوح وإرادة الخير له؛ فإنما المسلم هو الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، فإن هداه الله إلى الطاعة وإن وفقه إلى الخير، أحب أن يشاركه سائر إخوانه في تلك الطاعات وفي المسارعة والمسابقة إلى الخيرات.(77/2)
مكانة النصيحة في دين الإسلام
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة النصيحة، كما في الحديث العظيم المشهور الذي رواه تميم الداري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
فهذه النصيحة رحبة المدى، متعددة الأنحاء، وهي أمر عظيم في هذا الدين، ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) قال أهل العلم: أي: قوامه وعماده وأساسه النصيحة؛ لأن بها سياج لسائر المأمورات؛ ولأن بها حماية من سائر المنكرات، ولذلك قال بعض أهل العلم في هذا المعنى: إن المراد أن غالب الدين يدور على النصيحة، وقد جاءت عنه عليه الصلاة والسلام أحاديث أخرى فيها مثل هذا المعنى، كقوله: (الحج عرفة).(77/3)
واجب المسلم في النصيحة لإخوانه
وتأمل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لكي تقوم بهذه المهمة دون الخروج عما ينبغي أن تكون عليه أثناء أدائها، فهذا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يروي لنا مبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي زاده في بيعته: (والنصح لكل مسلم).
ولنعلم أيضاً الحديث المشهور المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر حقوق المسلم على المسلم ومنها: (إذا استنصحك فانصحه أو فانصح له) فهذه حقوق وواجبات، وهذه معالم وسمات ينبغي للمسلم أن يرتبط بها، وأن يحرص عليها، فما معنى نصحك لإخوانك المسلمين؟ وأي دلالة تؤديها هذه الكلمة؟ إنها ليست مجرد كلمات عابرة تقولها أو أمراً أو تذكيراً تقوله مرة واحدة أو في شأن واحد، بل الأمر أوسع من ذلك وأرحب.
وأقف بك -أخي المسلم- مع قول الإمام النووي في بيان ما يجب عليك من النصح لإخوانك المسلمين؛ لترى أن في هذا الأمر من العظمة والاتساع والتنوع والتعدد ما هو جدير أن تلتفت له، وأن تعتني به، وأن تبذل فيه من جهدك وطاقتك وعلمك ووقتك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
هذا الإمام النووي رحمة الله عليه يقول في شأن النصيحة للمسلمين: إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك.
فانظر -رحمك الله- إلى عظيم هذه الأمور والواجبات، وإلى ما ينبغي أن يشيع بيننا من النصائح والمواعظ والأمر والنهي؛ فإن ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه الدين، أي: قوامه وأساسه وغالبه.(77/4)
فضل المسلم الناصح
هذا الفضيل بن عياض أحد أئمة التابعين يبين لنا ويرشدنا فيقول: ما أدرك عندنا من أدرك بكثير صلاة ولا صيام، وإنما أدرك من عندنا بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة.
لا يبلغ المسلم المراتب العالية بمجرد كثرة صلاته وصيامه -وإن كان هذا مما يؤمر به- ولكن بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة، فإن هذه هي المعاني الإيمانية القلبية والمعالم التربوية النفسية وأثرها الظاهر في النصح للأمة والإخلاص لها.
وعن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال: لو شئتم أن أقسم لكم لأقسمن: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، والذين يحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة.
ويقول في مقالة أخرى: يجب عليك لأهل قبلتك أربع: تعين محسنهم، وتحب تائبهم، وتستغفر لمذنبهم، وتدعو لمدبرهم.
فانظر -رحمك الله- إلى هذه الكلمات كم فيها من الإشراقات والأنوار، وكم فيها من بيان الإيمان وصفاء القلب، وكم فيها من تهذيب النفس وطهارتها! إن واجبك تجاه إخوانك أن تعين المحسن على إحسانه، وأن تحب التائب لإقلاعه، وأن تكون مستغفراً للمذنب رجاء أن يعفو الله عنه، وأن تدعو المدبر، وأن تسير في إثره، وأن تلح عليه، وأن تلحقه وتدركه علك أن تكون سبباً في إنقاذه من النار بنصحك له ودعوتك له، فهذه كلها من الأمور المهمة.(77/5)
الفرق بين النصيحة والفضيحة
ووقفتنا التي نفرق فيها بين ما ينبغي وما لا ينبغي، وما ندعو إليه وما نحذر منه، وبين ما بين لنا الشارع محاسنه وبين ما حذرنا من مساوئه؛ هي تلك النصيحة عندما تنقلب إلى فضيحة، وعندما يجهر بها في المجالس، وتشاع في المجامع، وتعلن بالصوت المرتفع، وتجبه بالأسلوب السيئ البغيض المنفر، فليست حينئذ تؤدي أثرها، ولا تكون على صواب وسواء في نهجها.
فهذا الفضيل بن عياض يبين لنا الفرق فيقول: إن المؤمن يستر وينصح، وإن المنافق والفاجر يهتك ويعير.
فإن كنت مؤمناً مخلصاً في محبتك لإخوانك فاستر عليهم قصورهم وعيوبهم، ثم اخلص بالأسلوب الحسن والحكمة والموعظة الحسنة إلى قلوبهم وإلى آذانهم وإلى عقولهم، وانصحهم بالتي هي أحسن، فإن سترك عليهم مظنة قبولهم منك، وإن سترك عليهم عون لهم على الإقلاع عن الذنوب.
أما التجرؤ بهتك أستار الناس والتلفظ بمعايبهم على سبيل التنقص والتعيير فليس من النصيحة في شيء، وقد نقل ابن رجب عن السلف أنهم كانوا يقولون: من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره.
ونقل عن سلف الأمة أنهم كانوا يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، أي: على وجه الإعلان والمجابهة وإشهار العيوب، قال: ويحبون أن يكون الأمر سراً بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها.
فإن كنت مخلصاً فما الفائدة في إعلان المعايب؟ وما الذي يرجى من إشهار الأخطاء؟ وإن كنت تريد التغيير ومنع الواقع في المنكر عن منكره فالطريق الشرعي أن تفضي بنقدك له مباشرة، وأن تسر له بالنصيحة بينك وبينه، فإن ذلك أدعى للقبول وحصول التأثير.
وبعض الناس بحجة النصيحة يقعون في الفضيحة، وبحجة إحقاق الحق يقعون في عين الباطل، فتجد بعضهم كأنما يذيع نشرة أخبار يقول عن هذا كذا وعن ذاك كذا، وهذا فعل كيت وكيت، وذاك قال كذا وكذا، وقد اطلعت من هذا على هذا وهذا! وما تجلس في مجلس إلا وتسمع منه من الكلمات والفحش ما هو محذور، وما هو خطر جليل عظيم.
إن الله جل وعلا يحذرنا بقوله جل وعلا: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، قال ابن عباس وغيره من سلف الأمة في تفسير هذه الآية: القول الخبيث والكلمات الخبيثة للخبيثين.
وقال ابن جرير مرجحاً هذا المعنى: لا يصدر القول القبيح إلا من القبيح، ولا يصدر القول الطيب إلا من الطيب.
والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي برزة الذي رواه أبو داود والإمام أحمد وسنده صحيح- يحذرنا من هذا تحذيراً لو تأمله المسلم لما تجرأ على هتك أعراض إخوانه وفضحهم بحجج وهمية وبمناهج فيها من الخطأ ما فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته)، فقوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه) أي: لم يخلص الإيمان إلى التمكن من قلبه والتأثير في نفسه وظهور آثاره في فعله، قال: (لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته) فهل بعد هذا البيان من بيان؟ وهل بعد هذا التحذير والوعيد من وعيد؟(77/6)
المحاذير التي تحصل بسبب النصيحة العلنية
فانظر -أخي المسلم- إلى المحاذير والآثار التي تقع من هذا العمل: إن القائل بالنصيحة على رءوس الأشهاد، والمعلن للأخطاء في المحافل والمجامع، والمكرر لهذا الفعل في سائر أوقاته وأحواله يرتكب أموراً فيها محاذير شرعية كثيرة:(77/7)
سوء الظن بالمسلمين
الأمر الأول: سوء الظن بالمسلمين: لأن هذا هو المذهب الذي يدفعه إلى ما بعده، والله جل وعلا قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، وفي الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث).(77/8)
التجسس
الأمر الثاني: التجسس: لأن سوء الظن يدفعه إلى أن يتحقق بزعمه، فيبحث مستمعاً متنصتاً، أو ناظراً متجسساً، أو باحثاً متعقباً عن عورات المسلمين وعن سقطاتهم وعن فلتات كلماتهم، بل ربما تجرأ فدخل بكلامه إلى داخل قلوبهم وإلى خبايا نياتهم، والله جل وعلا قال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، والنبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تجسسوا، ولا تحسسوا).(77/9)
الغيبة
الأمر الثالث: أمر الغيبة: وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة، كما في الصحيح أنه سئل: (يا رسول الله! وما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، فليست الغيبة أن تقول شيئاً في حقيقته كذب، بل الغيبة أن تقول شيئاً صحيحاً، لكنك تخالف بإشاعة هذا الأمر، ولا تجعل طريقك الصحيح بالنصح المباشر إلى الواقع في المنكر.(77/10)
عدم التثبت من الأقوال والأفعال
الأمر الرابع: ترك الأمر القرآني في التثبت من الأقوال والأعمال والأحوال: فإن الله جل وعلا قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وكثير من ناقلي هذه الأقوال إنما ينقلون أقوالاً لا خطام لها ولا زمام، فإن قلت له: هل سمعت بنفسك، أو رأيت بعينك؟ قال: بل قالوا! ويسند إلى مجاهيل لا تعلمهم، أو ثقات عنده، وحسبك بتوثيقهم أنهم مجروحون، كما قال عمر بن عبد العزيز عندما بلّغه بعض الناس خبراً عن آخرين: إن كنت كاذباً فحسبك بالكذب إثماً، وإن كنت صادقاً فحسبك بالنميمة إثماً.
فنقل الخبر على سبيل التنقص والتعيير وإشهار العيوب إنما هو من هذا الجانب.(77/11)
عدم الستر على المسلم
الأمر الخامس: مخالفتهم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالستر على المسلمين: فأين نحن من هذا النداء الذي حضنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الستر، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن فرج عن مسلم فرج الله عنه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)؟ فلم يجترئ ذلك الفاعل على فضح المسلم؟ نسأل الله عز وجل السلامة.(77/12)
الفحش والبذاءة
الأمر السادس: وقوعه في محظور آخر لا يليق بالمسلم، وقد تنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبين فظاعته وحذر منه، وهو الفحش في القول؛ لأن كثيراً من الناس يقولون: فلان قال كذا وكذا، ثم ينقلون الألفاظ البذيئة، وقد يصفون الأفعال القبيحة، فهم بأنفسهم يقولون هذه المقالات، ويصفون هذه الأعمال التي لا ينبغي أن تكون على لسان المؤمن، ولا في مجامع المسلمين.
فلا ينبغي أن توصف الفواحش وأن تذكر الأقوال البذيئة؛ هذا مما ينبغي أن تصان عنه المجالس.
وأن تحمى منه القلوب والنفوس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والفحش والتفحش!)، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا طعاناً ولا صخاباً في الأسواق، كما في ورد في وصفه عليه الصلاة والسلام.(77/13)
الآثار المترتبة على قلب النصيحة إلى فضيحة
فانظر -رحمك الله- كم من المحظورات قد ارتُكبت عندما فُعل هذا الفعل؟ ثم انظر مرة أخرى إلى الآثار المترتبة على انقلاب النصيحة إلى فضيحة:(77/14)
عدم قبول النصيحة
أولاً: عدم القبول لهذه النصيحة: لأن النفوس تصد عما يكون فيه إظهار لعيبها، وإشهار لخطئها، فإذا نصحت الرجل في الملأ من الناس أو أظهرت عيبه من ورائه فغالب الأحوال أنه لا يرتدع، بل يصر ويمضي على معصيته، ويبقى على مخالفته، ثم قد يلتمس لها تأويلاً، وقد يبحث لها عن دليل؛ وما ذلك إلا بسبب ما وقع في نفسه من أثر سوء فعلك ومن أثر فضحك له.(77/15)
تغير القلوب
الأمر الثاني: تغير القلوب وحصول الشحناء والبغضاء، وشيوع سوء الظن والريبة بين الناس: فإن الذي فضحته لا شك أنه في الغالب يضمر لك في قلبه كرهاً، ويحمل لك في نفسه شراً، والآخرون الذين سمعوا تغيرت قلوبهم، وزادت ريبتهم، وتحقق تخوفهم وحذرهم، فيحصل من وراء ذلك ما لا يليق بأمة الإسلام من إساءة الظن، وتتبع العثرات، وترقب المحاذير والمعايب، وهذا كله فساد لأصل المودة والأخوة الإيمانية الواردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وهذا يبعث على تغير القلوب.
وفي حديث معاوية رضي الله عنه الذي رواه أبو داود وابن حبان بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت تفسدهم)، أي: إنك تعلمهم كيف يسيئون الظن بغيرهم، وتعلمهم كيف يجترئون على حرمات إخوانهم، وتعلمهم كيف تنصرف ألسنتهم بالغيبة من أثر هذا الفعل، وكم في إفساد القلوب وإفساد النوايا والطوايا بين أهل الإسلام وأهل الإيمان من آثار وخيمة وعواقب عظيمة!(77/16)
إشاعة الفاحشة
الأمر الثالث: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا: فالله جل وعلا قد نهى عن ذلك وحذر منه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة} [النور:19]، فهذا التحذير معناه: ألا يذكر المرء وقوع الفواحش، وألا يذكر من ذكرها؛ حتى لا يكون في ذلك تسهيل للناس إلى الوقوع فيها، أو إرشاد لهم إلى طرائقها، أو تهوين من خطرها وفظاعتها، أو عدم التفات لما وقع في الآيات والأحاديث من التحذير منها، وذلك كله من أعظم الأمور وأخطرها، ولذلك ورد عن بعض السلف في شأن إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا أنه قال: اجتهدوا أن تستروا العصاة؛ فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام، أي أنه يظهر المجتمع المسلم كأنه مجتمع فحش وجرائم وأمور لا تليق بصفاء القلوب ولا بنقاء السرائر ولا بالصلة بالله؛ فينبغي أن يحذر المرء من ذلك.(77/17)
الاشتغال بعيوب الآخرين عن عيوب النفس
الأمر الرابع: انشغال مثل هؤلاء الناس بعيوب غيرهم عن عيوبهم: وحسبك بهذا أثراً خطيراً؛ لأن كثيراً من أولئك قد تفرغ في وقته وفكره لتتبع أخطاء الناس وفضحهم بحجة أنه يظهر الحق، وهذا في غالب الأحوال ينسى نفسه، ويغض الطرف عن عيبه، ويقسو بذلك قلبه، وقد قال ابن رجب: فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة.
أما صاحب العقل الصحيح والقلب الحي فإنه يدرك ويفرق بين ما هو نصيحة وبين هو فضيحة.
وعن الحسن البصري أنه قال: من سمع بفاحشة فأفشاها كان كمن أتاها، وما تزال الفاحشة تفشو بين المؤمنين حتى تصل إلى الصالحين فهم خزانها.
أي: يمسكون عن نشرها وإشاعتها لئلا يسهل على الناس ذكر مثل هذه الأمور.
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل النصح والإخلاص، وأن يجعلنا ممن يجتنبون هذه المحاذير ويبتعدون عن هذه الآثار، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(77/18)
وقفات من هدي السلف وتوجيهاتهم في باب النصيحة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل، وإن من التقوى إخلاص النصح لأخيك المسلم على الوجه الشرعي، وإن من التقوى تجنب هتك ستر المسلم وفضحه على رءوس الأشهاد إلا ما كان محتاجاً إليه منصوصاً عليه لك فيه مستند من شرع الله جل وعلا، وذلك ليس إلا في النادر من الحالات التي ذكرها أهل العلم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام يفعلون أو يقولون كذا وكذا؟)، فبيانك الأمر مغنٍ عن بيان فاعله أو قائله إن كنت تريد الإصلاح والنصح والتغيير بما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وأقف أيضاً وقفات يسيرة مع أقوال سلفنا وتوجيهاتهم وإرشاداتهم، وهم القوم الذين قد عظم الإيمان في قلوبهم، وغزر علمهم، وصح عندنا حسن اعتقادهم، وظهر لنا كثير من آثار تقواهم وورعهم، فهم ممن نستهدي بهديهم وممن نقتفي آثارهم: هذا أبو بكر عبد الله بن عبد الله المزني يقول ناصحاً لنا وموجهاً كلمات جميلة انتخبت بعضاً منها: احملوا إخوانكم على ما كان فيهم، كما تحبون أن يحملوكم على ما كان فيكم، وإذا رأيت من هو أكبر منك سناً فقل: هذا خير مني؛ قد صام وصلى وعبد الله قبلي، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: هو أحدث مني سناً، وأقل ذنوباً، واتخذ أكبر المسلمين لك أباً وأوسطهم لك أخاً وأصغرهم لك ابناً، أوتحب أن تعذب الطفل الصغير، أو تظلم الشيخ الكبير؟ ولتشتغل بذنوبك عن ذنوب العباد، واشتغل بالتوبة والاستغفار، وليسعك ما أنعم الله به عليك عما أنعم به على العباد، واشتغل فيه بالحمد والذكر والشكر، ولا تنظروا لذنوب الناس كالأرباب، وانظروا إلى ذنوبكم كالعبيد.
وأحب أيضاً أن أنبه إلى ما نبه إليه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه في مقالة عظيمة مؤثرة اقتبسها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحتاج منا إلى التأمل والانتباه! يقول فيها: (أيما رجل أشاع على امرئ مسلم كلمة هو منها بريء؛ ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه بها يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال)، وهذا اقتباس من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويل الذي رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه البيهقي في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ضمن حديثه: (ومن بهت مؤمناً -أي: قال فيه بهتاناً وافتراءً ما ليس فيه- حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي فيما قال بمخرج وليس بخارج).
وهذا التحذير يبين لنا ما يترخص فيه بعض الناس من إشاعة القول من غير تثبت ولا بينة، بل بعضهم قد يعلم كذب القول ويشيعه، وذلك له أسباب ودوافع ليس هذا المقام مقام ذكرها، ومن أكثرها: الحسد لأهل الخير والصلاح، أو لمن يوفقه الله عز وجل لإرشاد أو لإصلاح أو لتقدم في أمر من الأمور، فإن الحسد يوغر الصدور، ويحمل على ارتكاب عظائم الأمور.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرشدنا إلى تحقيق هذه المعاني الإيمانية التي ينبغي أن ننتبه لها حيث قال: (لا تعجبكم من الرجل طنطنته، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل).
وروى ابن أبي الشيخ في (التوبيخ والتنبيه) عن أعرابي أنه قال: إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع، فمن نطق بقبح فإنما استمده من قبح ما في قلبه، ومن نطق بفحش فإنما ذلك استمداد من قلبه.
والله يعلم إن قلبي لك شاكر ولساني لك ذاكر، وهيهات أن يظهر الود المستقيم في القلب السقيم؛ فإن القلب المريض الذي قد غشه صاحبه بالبغض لأهل الإيمان أو الحسد لأهل السبق في الخيرات إنما يصدر عنه -غالباً- ما لا يكون لائقاً بالمسلم.
وهذا أكثم بن صيفي ينصح بنيه قائلاً: يا بني! كفوا عن ذكر مساوئ الناس تصف لكم صدورهم.
فالنصيحة أيها الأخ المسلم! مطلوبة منك وواجبة عليك، لكنك ينبغي أن تخلص فيها لله أولاً، وأن تكون فيها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً، وأن تمضي في تكرارها والثبات عليها ثالثاً، وأن تحذر أن يخالط قلبك شيء مما حذر الله ورسوله منه، أو أن يخالط قلبك ما لا ينبغي أن يكون تجاه أخيك المسلم؛ فإنك تبغض منه معصيته، وتحب منه ما كان من طاعته، وتود من قلبك لو أقلع عن المعصية؛ فإن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
واحذر مما يقع فيه كثير من الناس من الفضح، والهتك، والتجسس، والغيبة، وإشاعة الفواحش، وكن واقفاً لأولئك القوم بالمرصاد نصحاً لله ولرسوله، وبين لهم الآثار الوخيمة، وبين لهم المحاذير الشرعية التي يقعون فيها أثناء ذلك، فسلف الأمة -كما أثر عن كثير من علمائهم وفضلائهم- كانوا لا يغتابون أحداً، ولا يسمحون في مجالسهم أن يُغتاب أحد، فإن تكلم أحد نهوه، فإن سكت وإلا قاموا من المجلس؛ لئلا يكونوا في ذلك مشاركين.
واعلم أخي المسلم! أن من أعظم الحرمات حرمة المسلم في عرضه وماله ودمه، فقد جاءت النصوص حافظة لهذا المعنى معظمة له، فاحذر أن تكون واقعاً في هذا، والله أسأل أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم وفقنا للصالحات والخيرات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات، وأقل لنا العثرات يا رب العالمين.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، ولا تخزنا اللهم يوم العرض عليك.
اللهم اجعلنا ممن أخلصوا دينهم لك، اللهم اجعلنا ممن حرصوا على اتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنا من الناصحين لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من القائلين بالحق والداعين إلى الخير والمتبعين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، برحمتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم أبطل مكرهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك اللهم في نحورهم، اللهم أنزل بهم سخطك وعذابك وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والأسرى والمسجونين، والمشردين والمبعدين.
اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم قرب فرجهم، ونفس كربهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.(77/19)
المسلم بين الظن واليقين
اليقين أمر مطلوب، وواجب على العبد أن يكون على يقين في إيمانه واعتقاده وعبادته وقبوله ونقله للأخبار، فأهل الظنون والشكوك لا ينظرون إلى العاقبة، ولا يدرون ما يحمله ظنهم من أثر على نفوسهم، وضعف في قلوبهم، وشك في أمرهم، فتجد اعتقادهم مهزوزاً، وإيمانهم مشكوكاً، وهكذا عاقبة كل من لم يسلم إلى نصوص الوحي أمره، ويقدر كتاب الله حق قدره، ويعظم سنة محمد صلى الله عليه وسلم حق التعظيم.(78/1)
حقيقة الظن في الشرع
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، رفع السموات بلا عمد وبسط الأرض ومد، وأفاض النعم بلا حصر وعد، أحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، ودعا إلى الطاعة والإيمان، ووعد عند الاستجابة بالنعيم في الجنان، ونهى عن الكفر والجحود وتوعد على ذلك بعذاب النيران.
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، ورحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(78/2)
تعريف الظن في الشرع
أيها الإخوة المؤمنون! حديث اليوم: المسلم بين الظن والقين: نستكمل به صورة الملامح الأساسية للشخصية الإسلامية، وقد سلف لنا حديث عن المسلم بين الفردية والجماعية، واليوم نقف هذه الوقفة مع هذا الموضوع الذي له أهمية كبيرة؛ لما له من تعلق بالواقع في التصورات والاعتقادات، ولما له من صلة وطيدة بالطاعات والعبادات، ولما له من أثر واضح في الممارسات والسلوكيات.
فالظن: قصور عن العلم القاطع، وعدول عن الدليل الساطع، ورجم بالغيب، واعتساف في غير حق، ولذلك فإن الله جل وعلا قد بين لنا صورة الظن وحقيقته، حتى ندرك أن المسلم ينبغي ألا يكون من أهل الظنون، ولا من أهل الشك والارتياب، وإنما من أهل العلم واليقين بإذن الله عز وجل.
يقول جل وعلا: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36]، فالحق أمر واضح قاطع، له الأدلة الساطعة، وله مصداقيته في الواقع، والظن بعيد عن هذا، لا يغني عن الحق شيئاً، ولا يكون عنه بديلاً.
ويقول الله جل وعلا في شأن أهل الكتاب، وما رجموا به من الظنون، وما انحرفوا به من العقائد: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157].(78/3)
أثر الظنون على الناس
ويبين الله سبحانه وتعالى أن الظنون تعصف بالناس عصفاً، وتأخذ بالعقول أخذاً إلا من رحم الله عز وجل من أهل الإيمان ومن اعتصم بمنهج القرآن وتابع المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
إنهم أقوام رضوا بالتلفيق، وأخذوا بالتشكيك، وما عرفوا النور في آيات الله سبحانه وتعالى، وما عرفوا الاستقامة في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرفوا الثبات على الحق والاعتصام به؛ لأنه الطريق الموصل إلى رضوان الله عز وجل من غير حيرة ولا اضطراب، ومن غير شك ولا ارتياب.(78/4)
الظن صورة من صور الجاهلية
والله سبحانه وتعالى يبين لنا أن الظن في حقيقة أمره إنما هو صورة من صور الجاهلية التي لا تعرف لله عز وجل قدراً، ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم وقاراً، ولا تأخذ من نهج كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول جل وعلا: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] أي: كما يظن أهل الجاهلية في الله سبحانه وتعالى.
ويقول جل وعلا: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، فالظن والهوى شيء آخر يختلف عما جاء به الله عز وجل من الهدى والحق واليقين.
ومن ثم أخي المسلم! لابد أن تكون من أهل الإيمان واليقين، من أهل العلم والمعرفة والحجة، لا تكن ممن يرجمون بالغيب، ويظنون ظن السوء.(78/5)
وجوب الاستمساك باليقين في الإيمان
وانظر إلى الملامح المنهجية في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتدرك أنه لابد لك من الاستمساك باليقين، والبعد عن الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً في أمر الاعتقاد والعبادة، وفي أمر الإيمان، وهو أساس حياة الإنسان المسلم.
يقول جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، إنه إيمان مبني على يقين، وعلى دليل واضح، وعلى حجج وبراهين ساطعة، ينبغي أن يكون هذا هو ديدنك لتدخل في وصف أهل الإيمان الذين قال الله جل وعلا فيهم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، واليقين: علم جازم لا يخالطه شك، ولا يمازجه ريب، ولا يغيره ظرف ولا يبدله قهر، ولا إجبار؛ لأنه مستند إلى أسس ثابتة، وإلى أدلة قاطعة لا تتغير مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها آيات تتلى في كتابه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم إن الله جل وعلا قد جعل في هذه الحياة الدنيا من آياته ومن خلقه سبحانه وتعالى شواهد تدل على وجوده وتنبئ عن عظيم صفاته وكماله سبحانه وتعالى، حتى يصل المؤمن إلى اليقين، وحتى يرى هذه الأدلة المبسوطة في كتاب الله عز وجل، والأمثلة التي ضربها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما وبين لهم المنهج الحق بالاعتقاد الصحيح بالله سبحانه وتعالى، يقول جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، فإنه لا رضا بدون منزلة اليقين في الإيمان والثبات عليه، والاعتقاد الجازم به.
ويقول جل وعلا لسائر الخلق أجمعين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20]، ينبغي أن تكون على بينة من أمرك وعلى وضوح في اعتقادك، لا يمكن للمسلم أن يجعل في إيمانه شكاً، أو أن يدخل في يقينه ظناً، فإن ذلك هو عين الانحراف وهو مبدأ الشرك، وهو طريق الجنوح عن التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، ولذلك لابد أن يكون موقفك أخي المسلم! موقف الرافض لكل تشكيك في دين الله، وإن كثر القائلون به، وإن كثر الداعون إليه، وإن كثر الملبسون فيه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57]، لو كفرت الدنيا كلها، ولو شك البشر جميعاً في حقائق الإيمان الثابتة بالآيات القرآنية القاطعة ما تزحزح المؤمن عن إيمانه قيد شعرة، ولا شك في دينه قيد أنملة؛ لأنه على بينة من ربه سبحانه وتعالى.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، هذا المنهج مرفوض عند المسلم ليس له مكان، إذا جاء الحشد الكبير، وإذا جاءت الشبه المتكاثرة فإنها لا قيمة لها عنده، أما أهل الزيغ وضعف الإيمان وأهل قلة العلم، فإنهم يميدون شمالاً ويميناً، وإنهم يضطربون فيقولون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
بل لابد لك -أيها المسلم- ألا تلقي بهذه الأمور جانباً فحسب، بل ينبغي أن تدحضها بالآيات والأدلة الواضحة، وأن تكون على بينة من أمرك تحفظ بها إيمانك، بل وتستطيع أن تكشف زيغ الزائغين، وضلال المبطلين، كما قال جل وعلا: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم:10]، هؤلاء الرسل جابهوا أهل الشك فيما شكوا فيه، وأقاموا الأدلة حتى بينوا بطلان قولهم، فينبغي أن تكون كذلك أيها المسلم! {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج:3 - 4].
لابد أن تدرك أن عندك من الحق ما يدحض الباطل، وأن عندك من نور الوحي ما يبدد كل ظلام للشبهة مهما تكاثف، لابد أن تكون على يقين قوي راسخ بما عندك من الحق، وأنه هو الكمال، وأنه هو الدين الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، لاشك في ذلك ولا ارتياب، وهو الكمال كما قال جل وعلا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وانظر يميناً ويساراً، وانظر في كثير من بقاع الأرض، وانظر إلى كثير من أحوال المسلمين لترى كيف تسرب الشك إلى نفوسهم؟ وكيف دب الضعف إلى إيمانهم؟ وكيف صاروا في حيرة من أمرهم؟ ذلك أنهم لم يأخذوا اليقين من منبعه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنهم أصغوا آذانهم للباطل، وجعلوا قلوبهم نهباً للشهوات والشبهات، تعمل فيها فتفتك بما فيها من إيمان، لأنه إيمان وراثة وعادة، ولم يكن إيمان يقين وعبادة لله سبحانه وتعالى.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65]، ويخاطبهم الله جل وعلا ليبين لنا الطريق الذي ندحض بها حجج المبطلين: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66]، وأكثر المتكلمين بغير الإسلام وبغير القرآن والسنة في أمور الاعتقاد وفي أمور الكون وفي أمور الآخرة، إنما هم ممن يظنون ظناً وما هم بمستيقنين، إنما هم من المتبعين للظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، إنما هم من أهل الظن الذي هو ظن الجاهلية، وقد كثرت الأقوال في مجتمعات المسلمين حتى بدت تزاحم -عند من ليس عنده ثبات- كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصار الناس يأخذون من زيد وعمرو، ويأخذون من شرق وغرب، ويقارنون ويقابلون؛ فاضطربوا وتحيروا وزاغوا، وكثرت في مجتمعات المسلمين صور الشرك والانحراف العقدي، وانتشرت بينهم البدع، وتمكنت منهم الخرافات، وصاروا ألعوبة في أيدي أهل الأهواء، وأهل الباطل، وأهل المصالح الذاتية، ذلك أنه إذا لم يكن هناك يقين فهناك مهاوٍ كثيرة، ومشارب عدة مختلفة يبقى فيها الإنسان حائراً مضطرباً حتى يأذن الله عز وجل أن يرده إلى الحق بإذنه سبحانه وتعالى.
فهذا أمر اليقين في الاعتقاد.(78/6)
وجوب الاستمساك باليقين في العبادات
وأنتقل بك أخي المسلم إلى أمر العبادة، فلابد أن تكون فيها على يقين، وقد يعجب بعضكم ويتساءل: هل نحن في شك مما افترض الله علينا؟! فأقول: إن بعض ما سأشير إليه يبين الواقع أن الارتباط به، والمعرفة له، والثبات عليه ليس كما ينبغي أن يكون من أهل الإسلام والإيمان.
فينبغي أن تكون على يقين بفرضية العبادة وأهميتها، وانظر أمثلة حية لذلك في سير السلف الصالح رضوان الله عليهم: كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، أي أنه قد بلغ به الإعياء والمرض والتعب مبلغاً لا يستطيع معه أن يسير إلا معتمداً على رجل عن يمينه وآخر عن شماله.
كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقف في الصف ليكون مع الجماعة، أولئك قوم عرفوا الفرضية واستيقنوها، أما الذي ينام ملء عينيه وهو يسمع الأذان ويسمع الإقامة، أفيكون يقين هذا قد استكمل في عبادته وفرضية الله سبحانه وتعالى لها عليه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم عندما يحذرنا ويبين لنا خطورة ترك العبادة أو الصلاة على وجه الخصوص من بين أنواع العبادة إنما يدلنا على الأهمية، وعلى أن اليقين ينبغي أن يبلغ بها مبلغاً عظيماً، فيقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم)، هذا التهديد والوعيد العظيم يدل على أن أولئك القوم قد قصروا تقصيراً، وفرطوا تفريطاً، ولم يبلغوا من الارتباط واليقين بفرضية العبادة وأهميتها ما ينبغي أن يكون عليه المسلم.
ولابد لك أيضاً من يقين بأثر العبادة ونفعها، ولذلك صور عملية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].
التطبيق العملي من النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي: كلما وقعت معضلة، كلما حصلت مشكلة، كلما حصل بلاء كان الفزع والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى بالصلاة، تحققاً باليقين في أثر هذه العبادة وفي نفعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (الدعاء مخ العبادة) والصلاة فيها الذل والخضوع، وفيها الانكسار والتضرع، وفيها الدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
فهل نحن يقيناً نطبق مثل هذه المعاني الواضحة في الآيات القرآنية، أم أن كثيراً من المسلمين إذا وقعت به مشكلة لجأ إلى هذا وذاك، وفكر في مخرج من هنا وهناك، والتمس طريقاً من يمين ويسار، ولم يتوجه قلبه للارتباط بالله سبحانه وتعالى والدعاء له.
نحن قد رأينا في تاريخ أمة الإسلام أموراً عجيبة وفريدة تدل على كمال اليقين في هذا، ألم يقف النبي صلى الله عليه وسلم -وقد وعد بالنصر في يوم بدر، لما دنا الأمر وأوشكت الصفوف أن تلتحم، ويرفع يديه إلى السماء يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم أنجز وعدك الذي وعدتني)، ويلح في الدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم؟ إنه التطبيق العملي الذي يدل على اليقين الراسخ، أين نحن من الدعاء في مواطن البلاء؟ أين نحن من الالتجاء لله عز وجل عند حلول الفتن؟ أم أن الذي يحصل في واقع كثير من بيئتنا نوع من الجدال والاختلاف والنزاع، وتفرق الآراء، وتعدد الأهواء، وننسى ربنا سبحانه وتعالى، وننسى يقيننا بعبادتنا.
ثم انظر إلى اليقين الذي ينبغي أن يكون أثره ونفعه في أمر تتعلق به النفوس، وترتبط به القلوب في إخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
لابد أن نوقن بهذا المعنى، وأن هذه الفريضة فيها تطهير للنفس من أوضارها ومن أمراضها وأخلاطها، تطهير من البخل والشح والحسد والبغضاء، وأن فيها نماء للمال {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (ما نقص مال من صدقة) فهل عندما نخرج زكاتنا، أو نخرج بعضاً من أموالنا يكون في قلوبنا ذلك اليقين الذي كان في قلب أبي بكر رضي الله عنه لما تصدق بماله كله في سبيل الله عز وجل، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: أبقيت لهم الله ورسوله)؟ ذلك هو اليقين الراسخ، لا الظن الذي يقع منا اليوم، فنخرج المال من جهة ونحسب الحسابات من جهة أخرى، ونؤمن للمستقبل من جهة ثالثة، ونعد لما قد يحصل من أمور وظروف؛ لأن اليقين قد ضعف؛ ولأن الظن قد تسرب إلى النفوس؛ ولأن الثقة بالله عز وجل لم تبلغ المبلغ الذي كان عليه صحب محمد صلى الله عليه وسلم.(78/7)
منهجية الإسلام في تلقي الأخبار(78/8)
وجوب التثبت في الأقوال ونقل الأخبار
الظن يقع في مجال ثالث هو من أكثر المجالات التي يقع فيها الاضطراب في مجتمع المسلمين اليوم، في واقع الأخبار تلقياً ونقلاً.
ما هو منهجك -أيها المسلم- في هذا الأمر المهم؟ كيف تتلقى الأخبار؟ وكيف تعرف الوقائع؟ هل أنت ممن يأخذون بالظنون، ويقبلون الأقوال دون بينة أو حجة؟ أين أنت من المنهج القرآني والمسلك النبوي؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].
والنبي صلى الله عليه وسلم في موقف عصيب وشديد يرفع لنا هذا الشعار لئلا نأخذ أي خبر دون تمحيص، ودون اختبار ودون تحقق ولو كان المخبر لنا ممن نحسن به ظناً، فلابد أن يكون عندنا ذلك المنهج في التروي والتثبت والتحقق، يأتي أحد الصحابة وقد رأى أمراً فظيعاً هائلاً خطيراً، وقد رأى مع زوجته رجلاً، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد غلا الدم في عروقه وانتفخت أوداجه من شدة الغضب، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا وكذا، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك).
إن هذا أمر عظيم! إنها تهمة خطيرة! لابد من الدليل الذي لا ينزل عن مرتبة اليقين حسبما ثبت في الشرع من لزوم أربعة شهود في مثل هذا الأمر، فإن الأمور لا تلقى على عواهنها، وإن الأقوال لا تطلق حسب ما تطلقها ألسنة القائلين بها؛ لأننا نحن أهل إيمان أهل برهان أهل دليل لا يمكن أن نقبل أي قول وخاصة إن جاءت هذه الأقوال من المجروحين أو المنكرين أو غير المعروفين بالصلاح والاستقامة، أو تلقفتها الآذان من إذاعات شرقية أو غربية لا تدين بدين الإسلام، بل قد يكون عندها مكر به وإرادة سوء بأهله، فينبغي أن يكون هذا دأبنا وهذا نهجنا.
ثم في نقل الأخبار يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)، ما بال الألسنة لاغية؟ ما بالها لا تسمع خبراً حتى تذيعه في كل مكان، وحتى تنطق به في كل مجلس قبل أن تتثبت منه، وقبل أن تنظر بعد التثبت إلى آثاره الإيجابية والسلبية؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري في الأدب المفرد: (بئس مطية الرجل زعموا).
كثيراً ما تسمع قولاً فتسأل قائله: هل رأيت بأم عينيك؟ هل سمعت بأذنيك؟ هل حضرت بنفسك؟ فيقول: كلا، بل قالوا أو زعموا أو أخبروني من أولئك القوم؟ إننا لا نريد هذا المنهج الذي سرت بسببه كثير من الفتن، وكثير من صور الإرجاف في مجتمع المسلمين، والله جل وعلا قد بين لنا أن هذا الاستناد باطل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:151 - 152]، يقولون ويقولون ويقولون، يقصون ويقصون ويقصون، يزعمون ويذيعون، لا يعنينا من ذلك إلا ما دل الدليل عليه أو ما احتفت به القرائن.(78/9)
كيف نتلقى الأخبار
بحسبنا أن نحسن كيف نتلقى الأخبار، كما يحسن بنا أن نحسن كيف ننقلها، وإلى من ننقلها، وكيف نعرضها؟ حتى لا يقع من وراء ذلك ما لا تحمد عقباه، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا قصة عظيمة تتعلق بهذا الجانب، وبالجانب الذي هو مرتبط به وهو جانب معاملة المسلمين، وأنت وأنا وبعض منا قد يقع منه ظن السوء في هذا وذاك، وقد يستسلم للشك في إخوانه المسلمين من حوله، لكلمة سمعها أو لمقالة لم يتثبت منها.
والله عز وجل قد قص لنا في القرآن قصة عظيمة جعل فيها لأمة الإسلام درساً عظيماً ونافعاً، امتد في الزمان شهراً كاملاً، وكان يتعلق بأعظم إنسان كان في هذا الوجود وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعلق بعرض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذلك عندما أثار أهل النفاق ما أثاروه، فجاء التوجيه لأهل الإيمان: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12].
أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يدخل إلى بيته، فتلقاه أم أيوب وتقول: هل سمعت يا أبا أيوب ما يقال؟ قال: وما يقال؟ قالت: يقولون في عائشة كيت وكيت! فقال: يا أم أيوب! أوكنت فاعلة ذلك؟ أي: طبقي ذلك على نفسك، أترضينه لنفسك؟ قال لها: يا أم أيوب! أوكنت فاعلة ذلك؟ فانتفضت وقالت: معاذ الله! فقال: والله لـ عائشة خير منك ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني.
لم هذه الظنون المرجفة؟ لم هذه الأوهام السوداء التي تجعلك تنظر إلى هذا شزراً، وتحمل لهذا غلاً وبغضاً من غير ما شيء إلا كلام ساقط أو اتهام باطل؟! انظر إلى الآية القرآنية: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] بهتان أن تنال من عرض أخيك المسلم، بهتان أن تنطق بالفاحشة فتشيعها بين أهل الإيمان وفي مجتمع الإسلام، أين أنت من اليقين؟ أين أنت من (البينة أو حد في ظهرك)؟ سيما إذا تعلق الأمر باتهام في عرض، وأخطر من ذلك باتهام في اعتقاد فهذا يكفر وهذا يبدع وهذا يفسق وهذا يرجم بالغيب، نسأل الله عز وجل السلامة من هذا.(78/10)
تجنب سوء الظن
ويأتينا قول الله جل وعلا منبهاً ومحذراً ومبيناً المهاوي والمزالق التي تبدأ بسوء الظن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، قف عند هذه المرحلة، لا تسمح للأوهام والشكوك أن تأتي إلى قلبك عن أخيك المسلم، فإذا لم تفعل قال جل وعلا: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].
وإذا قادك الظن إلى أن تتجسس لتتحقق فاستمع لقول الله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، فإذا تجسست أو عرفت من غير ما تجسس فأردت أن تقول: فعل وفعل أو قال وقال، جاءك قول الله عز وجل: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، حتى لو كان الأمر حقاً: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
أين منهج الإسلام؟ أين الآداب المحمدية النبوية من مجتمعاتنا التي ضعف فيها مثل هذا النهج الإيماني؟ الظن إن لم توقفه قادك إلى التجسس، فإن لم تقف عنده قادك إلى الغيبة، فإن لم تقف عنده فاستمع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول كما في الصحيحين: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) فإن عاقبة ذلك هو التباغض والتدابر، وإذا أردتم أن تكونوا إخوة في الله عز وجل، متآلفين متحابين، فخذوا بهذا المنهج باتباع اليقين، واتركوا الظن والرجم بالغيب من غير بينة ولا حجة.
أسأل الله جل وعلا أن يعصمنا بالحق، وأن يجعلنا من أهل الإيمان واليقين، اللهم إنا نسألك أن تحسن ظنوننا بإخواننا المسلمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(78/11)
الفرق بين أهل اليقين وأهل الظن والأوهام في المحن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى حسن الظن بالمسلم.
وقد ذكرت لك أخي المسلم! ما ينبغي أن تكون عليه من اليقين وترك الظن في شأن الاعتقاد والعبادة، وتلقي الأخبار ونقلها، ومعاملة إخوانك المسلمين، وهأنذا أقف وقفة مع بعض الأمثلة القرآنية التي تنبئنا عن العاقبة الوخيمة التي يبلغها الإنسان إذا لم يأخذ باليقين الذي جاء عن رب العالمين، ونرى في ذلك مواقف أهل اليقين، ومواقف أهل الظن والشك والريبة.
ذكر الله سبحانه وتعالى حال المسلمين في يوم الأحزاب وما أدراك ما يوم الأحزاب؟ يوم اجتمع فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته شدة الجوع مع شدة الخوف مع شدة البرد: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]، في المواقف العصيبة الرهيبة: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
أولئك أهل الشك والريبة، أولئك أهل الفتنة والنفاق قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، أما أهل اليقين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، رأوا الجموع تنقض عليهم من كل جانب، وتحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم، لكن ما اضطرب يقينهم، ولا ضعفت في الله ثقتهم، ولا حارت في المنهج أفكارهم، بل كانوا على يقين راسخ وزادهم البلاء يقيناً.
وانظر إلى موقف آخر في قصة قارون الذي كان من قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
ويصور لنا القرآن الحالة التي انقسم فيها الناس إلى فريقين، يقول جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، بهذه الأبهة الدنيوية، والعظمة البشرية، والقوة الإنسانية، فإذا بالضعاف في يقينهم، المختلطين في عقولهم، المشدودين إلى الأرض، المرتبطين بالشهوات؛ يقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، لم يلتفتوا إلى كفره وجحوده، لم يلتفتوا إلى فسقه وفجوره، ولكنهم التفتوا إلى دنياه إلى عظمته الموهومة إلى بهرجه الزائف.
أما أهل الإيمان: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، أولئك قوم يجعلهم يقينهم ينظرون إلى ما وراء الأحداث، ينظرون إلى ما وراء الصور الظاهرة، قوم قالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]، اثبت على إيمانك وابق على يقينك فإن من وراء ذلك أجراً، وإن من وراء ذلك خيراً.
وهكذا تمضي الأمثلة القرآنية الكثيرة، ومنها مثال أختم به في هذا المقام من أمثلة الاستكبار التي ينجرف إليها أحياناً مجتمع كامل من المجتمعات، يقص الله علينا ذلك في قوله جل وعلا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، هكذا يبين الله عز وجل أن الذين يركنون إلى الدنيا وأسبابها المادية ظنوا أنهم قادرون عليها وعلى حصادها وعلى خيرها، فجاءهم الأمر من الله عز وجل لما شكوا في قدرته، ولما نسوا أقداره وحكمته، وهكذا يقع لصاحب الظن السيئ ما يحل به مما يقدره الله من البلاء.
فينبغي أخي المسلم أن تعرف موقفك الحق بين الظن واليقين، فلا ترض أن تكون من أهل الضعف أو أهل الشك أو أهل الظنون والرجم بالغيب، وكن من أهل اليقين.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الإيمان واليقين، وأن يجعلنا من الثابتين على هذا الدين، وأن يجعلنا من الدعاة إليه وإلى دينه سبحانه وتعالى.
اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، ولا تخزنا اللهم على رءوس الأشهاد، اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا، وأن تجعل خير أعمارنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، واغفر لنا إنك رءوف رحيم، اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولأعمالنا القبول ومضاعفة الأجر والثواب.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تكفر عنا سيئاتنا، وأن تضاعف لنا حسناتنا، وأن ترفع لنا درجاتنا، وأن تقيل يا ربنا عثراتنا.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم اجعلنا من الدعاة العاملين، واجعلنا من العاملين المخلصين، واجعلنا من المخلصين المقبولين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المعذبين في كل مكان يا رب العالمين؛ اللهم رحمتك بالأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والنسوة الثكالى، والصبية اليتامى، اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، اللهم ارزقهم الصبر واليقين، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم اجعل عمل ولاتنا في رضاك، اللهم ووفقهم لهداك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(78/12)
النصيحة شروط وفوائد
تعتبر النصيحة جزءاً مهماً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يقوم الدين إلا به، وبها يحصل النفع الكثير والقضاء على منكرات كثيرة، ولكن ينبغي للناصح أن يتعلم آداب النصيحة وشروطها، حتى تؤتي ثمارها وتقع في موقعها.(79/1)
شروط النصيحة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: (النصيحة شرائطها وفوائدها): نستكمل بهذا الموضوع ما سبق من حديث عن النصيحة التي نحتاج أن تكون خلقاً وصفة شائعة بيننا، يقدمها العالم للجاهل، والكبير للصغير، والولي لمن ولاه الله أمرهم، وتكون كذلك شائعة فيما بيننا من حيث تربيتنا عليها، حرصاً على أدائها، وتقبلاً لها، وتقديراً وإجلالاً واحتراماً لمقدمها، لما يبذله من خير يريده لنا.
وقد رأيت من بعض الإخوة اهتماماً بأننا مقصرون في واجب النصح فيما بيننا، وفيما نراه من أحوال حياتنا العامة، في بيوتنا، في مجتمعاتنا، في أحيائنا، في مساجدنا، فلعلنا في هذا المقام نؤكد على أهمية النصيحة والتناصح.
ونقف مع الشروط والصفات التي تجعل النصيحة كاملة نافعة، حتى نأخذ بالأسباب التي تقود إلى حصول المقصود.(79/2)
العلم بما ينصح به
وأول هذه الشرائط والأسباب: العلم بما ينصح به: فلا ينبغي أن تتقدم بنصح في أمر لا تعلمه، ولا تعرف فيه حكم الله، وليس لك اطلاع فيه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النصيحة أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإنها دعوة إلى الله لابد فيها من علم وفهم وإدراك: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، قدم العلم على ما ينبني عليه بعد ذلك من العمل.
ويقول الحق جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] (على بصيرة) أي: على علم وبينة ومعرفة تامة وواضحة.
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] والحكمة: وضع الشيء في موضعه، ولا يمكن أن تضعه في موضعه ما لم تكن به عالماً، وبالأحوال والظروف المحيطة مدركاً، وذلك ما ينبغي أن يكون.
ومن فقه أئمتنا أنهم نبهوا على أهمية العلم قبل العمل، وقبل النصح والإرشاد الذي لابد أن يكون قوامه ذلك العلم، فمما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: العامل بغير علم يفسد أكثر مما يصلح.
وهذا أمر بين نحتاج إليه، وكم من صور سنعرض لها يتقدم فيها من ينصح وهو ينصح بالباطل! وينصح بما يخالف النفع والفائدة المبنية على أساس الشريعة الإسلامية.(79/3)
عمل الناصح بما ينصح به
وأما الثاني للكمال في هذه النصيحة فهو عمل الناصح بما ينصح به: فإن القدوة الحسنة لها أثرها في النفوس، فإن وافق الفعل القول كان ذلك أبلغ في الفهم والمعرفة وفي القبول والإقبال على هذه النصيحة، ولقد ورد الذم كثيراً وعظيماً لمن يخالف قوله فعله، ولمن لا يلحق القول بالفعل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
وفي سياق ما ذكر من صفات مذمومة كان عليها بعض أهل الكتاب قول الحق جل وعلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، ولا يعني ذلك -كما أشرنا من قبل- أن تترك النصح إذا رأيت الخطأ وأنت غير مستقيم، فإن النصح في هذه الحالة يكون نصحاً للآخر ونصحاً لك، وذلك يقودك إلى مراجعة نفسك: ما بالي أقول لا تفعلوا وأنا أفعل؟ ما بالي أقول اجتنبوا وأنا ارتكب؟ فيكون ذلك عظة للإنسان.
لكننا نتحدث هنا عن الكمال الذي يجعل للنصيحة أثرها النافع والمفيد، ومن حديث أسامة بن زيد وهو صحيح، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب رجل في يوم القيامة صفته: أنه يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، قال صلى الله عليه وسلم: (فيؤتى به يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى؛ فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وتلك صورة من العقاب المعنوي والحسي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً وموعظة، وتحذيراً وترهيباً من مثل هذا السلوك.
ولا شك أننا ندرك تماماً أن المخالفة بين القول والفعل من أسباب عدم قبول النصيحة، وحصول أثر الدعوة، ومن هنا جاء الخطاب القرآني على لسان نبي من أنبياء الله عز وجل: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، لا أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أخالف وأكون أنا الذي أفعله، فيكون ذلك كما ذكر ابن القيم من صفات علماء السوء الذين يعظون الناس بأقوالهم، ويصدونهم عن سبيل الله بأفعالهم، فشبههم بالذين يصطادون الناس بالصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل وعن دينه سبحانه وتعالى.(79/4)
إظهار الحرص والتجرد عند النصح
الثالث: إظهار الحرص والتجرد عند النصح: أما الحرص فنقصد به إظهار الحرص على ذلك المنصوح، وأن تبدي له غاية الشفقة به، وعظيم الرحمة له، وأن تجسد له أنك تريد له الخير، وتضمر له الحب، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تغزو بها النصيحة القلوب والعقول.
ولعلنا نستحضر هنا الوصف العظيم الذي وصف به نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهو الذي فاض قلبه بالرحمة فكان يشفق على كل عاصٍ، ويحزن لكفر الكافر، ويريد أن يكون الناس كلهم في سياق رحمة الله عز وجل ورضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق مبيناً صفته مع الناس: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تتقحمون فيها)، كما ورد في بعض الروايات.
فكأن الناس قد انساقوا وتسارعوا إلى النار غفلة عن الله عز وجل أو كفراً به أو ولوجاً في المعاصي، وتأتي هداية النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ورحمته لترد الناس عن هذا المصير السيئ والخاتمة الشقية إلى حياض دين الله عز وجل.
ومن هنا رأينا مواقف رحمته كيف أثرت في نفوس العتاة الصادين عن دين الله! فتتت قسوة قلوبهم وألانتها بما كان من هذا الحرص والإظهار للمحبة والشفقة.
وكيف نريد أن يقبل منا النصح والمنصوح قد يرى أننا لا نضمر له إلا شدة، ولا نريه إلا غلظة، ولا يسمع منا إلا فظاظة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، والله جل وعلا صدر الآية بالرحمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فالله الله عندما ننصح أن يكون إظهار هذا المعنى مهماً.
والمعنى الآخر هو التجرد: أي التجرد عن المصلحة والمنفعة، إنما أنصحك لوجه الله لا أريد منك جزاءً ولا أنتظر منك شكوراً، ولا أرقب منك أن ترد لي المعروف مادة أو شيئاً من ذلك، وذلك لسان حال الرسل والأنبياء كلهم فيما قص القرآن من خبرهم: (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:72].
ويوم يتنزه الناصح والداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويعظم قدره في عيونهم، ويرون صدق إخلاصه، فيكون لذلك أثره في القبول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من أرب، إلا أن يجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وبما أرقب من النفع استجابة لدعوتي.
فالله الله في مثل هذا السلوك؛ لأنه هو الذي يقود بإذن الله إلى حصول الأثر.(79/5)
التلطف في الأداء قولاً وفعلاً
الشرط الرابع: التلطف في الأداء قولاً وفعلاً، وليس ببعيد عما ذكرناه، كذلك إظهار المشاعر القلبية، وهذا إظهار للأسباب الظاهرة فعلاً وقولاً، واستمع إلى هذه الآية العظيمة التي تبين ذلك الأمر بياناً شافياً: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وهي آية عظيمة في بلاغتها، وفيها روعة لا يمكن أن يحيط كلام الناس بعظمتها.
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) فتلك في باب والأخرى في باب آخر، فإذا جاءتك السيئة أو وقعت الخطيئة أو حصلت المخالفة: (ادْفَع) أي: ادفعها وبددها، فهل يكون ذلك بالقوة؟ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ليس بالحسنى بل بالتي هي أحسن، أي: بغاية ما يمكن من الإحسان والتلطف الذي يحصل به الأثر بإذن الله عز وجل.
وكثيراً ما تسمع من الناس غير ذلك، فإن أسيئ إليك وأردت أن تكون واسع الصدر وأن ترد الإساءة بإحسان جاءك من يقول لك: لم ترض بالهوان؟ ولم تقبل بالذل؟ لو كنت مكانك لرددت الصاع صاعين، إن مثل هذه الأقوال نصائح على غير المنهاج القويم، وإن كان لكل مقام مقال كما سنذكر في بعض الأحوال.
انتبه إلى مثل هذا المعنى وهو الذي تكررت به الآيات في سياق الخطاب والحوار في النصح لعتاة وطغاة كبار، يقول الحق جل وعلا: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:25 - 26].
انتبه لهذا المعنى: (قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)، نحن أهل حق وأهل إسلام وإيمان قد نخاطب أهل كفر وطغيان وعصيان، نقول: (لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) كأننا نقول لهم: لا تنظروا في الابتداء إلى أننا أهل حق وأنتم أهل باطل، وإنما نقول لكم: تأملوا وتدبروا، ورحم الله مصعب بن عمير يوم دعا في المدينة فجاءه أسيد بن حضير مرسلاً من سعد بن معاذ يقول: اخرج عنا ولا تفرق بيننا! قال: أوغير ذلك؟ قال: ما عندك؟ قال: تجلس فتسمع، فإن أعجبك الذي قلنا وإلا أعطيناك الذي أردت، قال: لقد أنصفت.
كلام منطقي من عاقل، فسمع فشرح الله صدره، ونور قلبه، ونطق بالتوحيد لسانه، ورجع إلى سعد داعياً، فأسلم سعد وأسلم من بعد سعد قومه كلهم.
تأمل هذا المعنى فإنه عزيز وقليل من الناس من يحسنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]، وكلمة: (يا بني) هي أسلوب تلطف وتودد، وترغيب وتحفظ، وهو أب يمكن أن يكون آمراً وزاجراً ولا شيء غير ذلك، لكنه عندما أراد أن تكون موعظته بليغة ونافعة، ونصيحته مؤثرة وبالغة حينئذ قال: (يا بني).
وإذا رأينا أبا الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يخاطب أباه وقد كان زعيم الكفر في وقته: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، هذا المعنى (يا أبت) لم ينقص حقه، ولم ينس قدره، ولم يخف عليه أن مثل هذا المدخل قد يكون له أثره.
وقصة موسى وفرعون معروفة: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44].
هذه معان كثيرة نحتاج إليها، ولذلك قد يكون من هذا إظهار شيء من التودد والتلطف أو التقدير والاحترام بقصد التأثير، فإن وقع ذلك فالحمد لله، وإن لم يقع فأنت قد أديت ما عليك، ومن أصر على معصيته فعاوده بين فينة وأخرى بأسلوب يناسبه، مرة فيه لين، ومرة قد يكون فيه شدة.
وهذا أمر مهم والنبي صلى الله عليه وسلم عندما خاطب ملوك الأرض من حوله ذكرهم بمناقبهم ومناصبهم؛ لأنهم بها يخاطبون وإن كانوا ليسوا معظمين في الميزان الإيماني والإسلامي، فكتب إلى الملوك فقال: (إلى هرقل عظيم الروم)، (إلى كسرى عظيم الفرس).
وفي قصة المسلمين في الحبشة ما يدل على ذلك، فلما خاطب جعفر بلسان المسلمين النجاشي قال: (أيها الملك) فأعطاه مقامه الذي هو فيه؛ حتى يكون ذلك التوقير داعياً إلى إصغائه، ولو أنه أهمله أو أنكره أو جفا عليه أو احتقره؛ لما كان له أن ينصت له أو أن يصغي إليه.(79/6)
الاختيار المناسب للأسلوب
الخامس: الاختيار المناسب للأسلوب بحسب الظروف المتغيرة: ومن ذلك اختيار الأوقات المناسبة، وهذا أمر عزيز في النصيحة، فكم من نصيحة نقذفها في وجه صاحبها وهو في أوج غضبه، أو وهو في شدة أزمته أو كربه فلا يكاد يسمع شيئاً.
خذوا هذا الموقف: اختصم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اثنان، فعلت أصواتهما، حتى احمر وجه أحدهما وظهرت أوداجه في رقبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من بعد: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فسعى بها رجل)، يعني: سمعها رجل من النبي صلى الله عليه وسلم فذهب بها إلى الرجل وقال له: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا (فمن شدة غضب الرجل وفورته قال: اذهب عني فإني لست بمجنون)، أي: تقول لي: استعذ من الشيطان وكأن الشيطان قد ركبني! لو كان هذا في وقت بعده بقليل لربما كان أنسب.
وخذوا فقه العظيم النبي صلى الله عليه وسلم عندما: (جاءه حكيم بن حزام فسأله مالاً فأعطاه، ثم جاء في وقت آخر فسأله فأعطاه، ثم جاء ثالثة فسأله فأعطاه، ثم قال له: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه).
سأله في أول مرة وهو محتاج فأعطاه، لو قال له في ذلك الوقت: السؤال ليس مناسباً والتسول ليس مطلوباً لقال: إنما يريد أن يصرفني، ولا يريد أن يعطيني، لكنه أعطاه، والمرة الثانية أعطاه، والمرة الثالثة أعطاه، فلما أشار له إشارة أن التطلب لهذا المال قد لا يكون مناسباً وقعت النصيحة والموعظة في موقعها، وعلم أنه ما قال له ذلك لأنه بخيل -فحاشاه عليه الصلاة والسلام- أو لأنه لا يريد أن يعطيه، وإنما قاله له لمصلحته، فعرف ذلك بعد أن اختار الوقت المناسب وبعد أن سد له حاجته في مرة واثنتين حتى لا تذهب به الظنون بعيداً، فأي شيء أثر ذلك في حكيم؟ قال: (فما سألت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مت)، وفي عهد أبي بكر أرسل له عطاءه المستحق له من بيت المال فرده قال: (والله لا أرزأ أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي عهد عمر رد عطاءه.
انظروا كيف تغلغل أثر هذا في نفسه حتى إنه لم يعد يأخذ شيئاً ولو كان له فيه حق؛ لأن نفسه سمت وارتفعت عن أن يأخذ بعد أن فقه هذه النصيحة فقهاً له أثره العظيم في حياته.
والتخول بالموعظة كان من هديه عليه الصلاة والسلام، فهذا أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود كان يعظ الناس ويذكرهم كل خميس قالوا: وددنا يا أبا عبد الرحمن! لو أنك ذكرتنا كل يوم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا، إذاً: كلهم لهم به عليه الصلاة والسلام اقتداء وهم لأثره في اقتفاء، ولذلك كانت أفعالهم على هذا النحو العظيم المؤثر النافع.
وكذلك من ضمن ما يدخل في الوقت المناسب المراوحة والمزاوجة بين الإسرار والإعلان: فنصيحة الفرد غالباً ما يكون الأفضل فيها والأتم أن تكون في السر بينك وبينه، وأما نصيحة العموم إذا فشا أمر، فالخطيب يريد أن يذكر، والعالم يريد أن ينبه، والناصح يريد أن يحذر، ولا بأس بذلك، ولكنه وإن كان معلناً فينبغي أن يكون للعموم، ليس فيه تحديد، فكم من حادثة كان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر فيها وينصح على الملأ ولكن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ثم ينبه.
لست في حاجة أن أقول: فعل فلان أو أن أصف وصفاً يعلم الناس كلهم أن المقصود به فلان وفلان، فذلك لم يعد نصيحة بل فضيحة، ولذلك فإن مراعاة مثل هذه الصفات لها أثرها في أن تقع النصيحة على الوجه المطلوب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد الآراء وأصوب الأفعال، وأن يجعل ذلك العمل كله خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(79/7)
الأسباب الداعية إلى النصيحة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى النصح للمسلمين كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، ولعلي هنا أقف وقفات سريعة: هل نحن في حاجة إلى النصيحة والتناصح فيما بيننا؟ كلكم سيقول: نعم، وأزيد هذا تأييداً فأقول: عندنا أسباب كثيرة: منها: كثرة وغلبة الجهل الذي عم كثيراً من المسلمين، فلا يكادون يعرفون أحكاماً كثيرة من دينهم، ولا يكادون يقيمون أركاناً وفرائض من شعائر الإسلام، فيحتاجون إلى النصيحة في مثل ذلك.
وأمر آخر: وهو شيوع المخالفات سواء كان ذلك في وقوع الانحراف بالابتداعات، أو كان ذلك في ارتكاب المحرمات، أو كان في الإصرار والتشبث بالعادات رغم ما فيها من المخالفات، وذلك أيضاً نلمحه ونراه.
ويضاف إلى ذلك: ضعف التدين والورع، وقلة الاحتفال والاهتمام بأمر الدين، ولذلك نرى الناس يسألون عن العمل من أمور الدنيا يريدون الإقدام عليه، أو قضية يحتاجون إليها، ولكنهم قل أن يسألوا في أمر من أمور دينهم يحتاجونه، بل يسألون من الناحية الفنية أو الاقتصادية أو العملية، وبعد أن يمضوا في هذا العمل وينتهوا منه أو يقطعوا فيه شوطاً يقولون: هل في هذا محظور شرعي أو فيه حرمة أو فيه شبهة؟! ذلك كثيراً ما يؤخر، وهذا أمره خطير.
ومن الأسباب: هذا الزخم الواسع من الغزو المتنوع في انحراف الفكر وانحلال السلوك عبر الوسائل المختلفة من هذه الفضائيات أو الإذاعات أو الشاشات أو الشبكات أو غير ذلك مما أصبح معه الناس دائماً في تأثر سلبي، يحتاج إلى مقابلة بهذا النصح والتذكير بإذن الله عز وجل.
ومن ذلك أيضاً: الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة بسبب ما تيسر من أسباب الحياة وترفها، مما يحتاج دائماً إلى نصيحة تقرع ناقوس الخطر، وتنبه إلى حقيقة الحياة الدنيا وإلى نهايتها وزوالها وإلى ما بعدها.(79/8)
صور من النصائح المعكوسة
ثم أمر آخر: هناك نصائح معكوسة ومقلوبة، من يسمعها ويصغي إليها لا يصل إلى الخير بل إلى ضده: وللأسف أن صوراً منها تشيع في واقعنا، ولها كذلك في التاريخ وفيما سجلته آيات القرآن أدلة وأمثله: فرعون أطغى أهل الأرض وأكفرهم يقول عن موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، فهو ينصح الناس ويحذرهم من موسى عليه السلام ويقول: أخشى أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
ويقول عن نفسه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فرعون يقول: أنا الذي أنصحكم وأبين لكم الحق.
وهكذا نجد صوراً كثيرة في حياة الناس وفي واقعنا اليوم من هذا الأمر، حتى إنك إذا نصحت بأسلوب حسن وعلم عنك ذلك، يأتيك من يقول: ما لك وللناس؟! دع الخلق للخالق، لا تدخل بين البصلة وقشرتها، لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟! وهل كلفت بأمر الناس؟! وكأنه يقول لك: كن وحدك لا تنطق لسانك بالحق، ولا تنكر بالقلب، ولا تغير باليد، ولا يتمعرن وجهك لمنكر، ولا يتغيرن قلبك لمفسدة ونحو ذلك، كأنما ينصحك بأن تترك أمر الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
في أحوالنا الاجتماعية بم تنصح الزوجة أحياناً؟ احذري لا يتسلطن عليك، انتبهي لا يأخذن من مالك، كوني له بالمرصاد، ترقبيه في كل لحظة.
والزوج يقولون له: انتبه من البداية، لابد أن تضرب بيد من حديد، هذه نصائح شائعة، ويقدمها أصحابها على أنها نصائح، وهي من المخاطر والمزالق العظيمة.(79/9)
كيفية النصيحة لعامة المسلمين؟
أخيراً نصيحتنا فيما بيننا: نحن عامة المسلمين الداخلين في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، كيف ننصح لبعضنا؟ أولاً: التعليم والإرشاد: علم أخاك بما ترى أنه لا يعلمه وأنت تعلمه، أرشده إلى مواطن الحق والخير، ومحض النصح فيما تشير به عليه.
ثانياً: الرعاية والإعانة والإسناد: إن كانت له حاجة فبادر إلى سدها، إن كان في كرب فبادر إلى التنفيس عنه فإن ذلك من ألوان النصح له كذلك.
ثالثاً: الأمر والنهي والنصرة الحقيقية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تمنعه أو تردعه عن الظلم، فتلك نصرته).
كذلك الإحسان والستر: أحسن إليه، واستر عليه، وكن معه على ذلك الشأن الذي تحب أن يكون لك من الآخرين.
ومن ذلك: التعظيم والتوقير: ونعني بذلك تعظيم حقوق المسلمين، وتوقير قدرهم، فإن للمسلم على المسلم حقاً لابد أن يؤدى، وإن له حرمة لابد أن ترعى، وذلك في عرضه ودمه وماله؛ فكيف تغتابه وكيف تستهزئ به وتسخر منه وكيف لا تعطيه قدره وكيف تشعره بالإهانة أو الاحتقار أو الازدراء والآيات في النهي عن ذلك كثيرة معروفة! ومن ذلك كف الأذى عنه: وكم من الأذى يأتي منا إلينا وفيما بيننا، ولعلنا أيضاً نحتاج إلى التعاون على البر والتقوى فهو من أعظم صور النصح بين المسلمين، وميادين ذلك كثيرة.
نحن نرى في مساجدنا قصوراً وخللاً ومخالفات؛ لكننا نكاد لا نسمع من ينطق بالنصح بالأسلوب المناسب وفي السر وبالطريقة الملائمة، نحن نأتي إلى المساجد ونرى كثيراً من الشباب وغير الشباب لا يجيبون النداء ولا يتوجهون إلى الصلاة، فلا يكاد يذكرهم أحد أو ينصحهم، نحن نرى من يشتم ويسب ويلعن فلا نقول له: انتبه فإن ذلك يعود عليك، ولا تكن كذلك، فإنك إن تعودت ذلك صار لك ديدناً، وصار لك سمة سيئة ونحو ذلك.
فهذه الصور التي في واقعنا تحتاج أن نشيع النصح، ولكننا كثيراً ما نتأخر أو نتخلف لأسباب ذكرناها فيما مضى، فلعلنا أن نتعاون تعاوناً حقيقياً، وأن نستفيد من مثل هذه الكلمات استفادة عملية، فلنشع هذا النصح فيما بيننا في أحوال مسجدنا هذا، وفيما يقع فيه من أمور أو مخالفات.
كم نرى من أناس يدخلون إلى المساجد بثياب قذرة ورائحة منفرة، ولا يذكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينهى عن أكل بعض الطعام كالثوم لئلا يكون له أثر ورائحة كريهة تؤذي المصلين، وتؤذي الملائكة الذين يحفون بالمصلين! وكم من صور أخرى نراها في اعتداء على حقوق المسجد، وقد تحدثت في ذلك، ولكن لم نجد ما ينبغي أن يكون من تعاون لدرأ هذه المفاسد.
وينبغي أن نشيع النصح والوعظ لمن يجاورون المسجد في كل الأمور والأحوال، سواء كان ذلك في العبادات أو كان ذلك في الأحوال الاجتماعية والتعليمية وغيرها، فإن المسجد هو قلب المجتمع المسلم النابض، وهو الرئة التي يتنفس بها، فلو تعاونا على ذلك لكان لنا من وراء ذلك خير كثير.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يجعلنا من عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والناصحين، ونسأله جل وعلا أن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين؛ احفظ لهذه البلاد أمنها وأمانها، وسلمها وسلامها، ورغد عيشها ورخاءها، يا أرحم الراحمين يا رب العالمين اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم يا رب العالمين اللهم من كادنا فكده، ومن حاربنا فاخذله يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين والمرضى في كل مكان يا رب العالمين اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم واجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!(79/10)
نحن أمة الإسلام
لقد فضل الله تعالى الأمة المحمدية على سائر الأمم رغم أنها آخرها، وجعل لها من المميزات ما لم يجعلها لأمة قبلها، فمن ذلك: إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً لها، وتخفيف الصلاة عنها، وجعلها خير الأمم، وحفظ كتابها من التغيير والتبديل، وهذا كله لم يقع لأمة متقدمة أبداً، فينبغي علينا أن نعتز بديننا، وأن نفخر به، وأن نتمسك به قولاً وعملاً وتطبيقاً ودعوة إليه، فهذا هو الذي أراده الله عز وجل منا.(80/1)
واجب المسلمين نحو الإسلام
السؤال
هذا وصفنا نحن أمة الإسلام في كتاب الله عز وجل، فما واجبنا؟ وما حالنا في واقعنا؟ لا نريد أن نفخر بالأقوال وأن نترك الأعمال، لا نريد أن نعيش على التاريخ الذي مضى، ونترك الواقع الذي بين أيدينا، إن مقتضيات هذا التمييز والتفضيل عظيمة جداً، وأذكر منها أربعة من المعاني المهمة:(80/2)
الاعتزاز والافتخار بهذا الدين
الأمر الأول: الاعتزاز والافتخار بهذا الدين، أنت مسلم تنتمي إلى كوكبة الرسل والأنبياء كلهم، أنت مسلم من أمة خاتم الأنبياء وسيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، أنت مسلم أسلمت نفسك لله رب العالمين؛ فافتخر بذلك واعتز، أين اعتزاز المسلمين بدينهم؟! ربما كثير منهم اليوم لا يريد أن ينتسب إلى الإسلام، وربما يخفي إسلامه، وربما يستحي أن يظهر شعائر الإسلام في نفسه أو أهله، وربما يجامل أو يداهن أو ينافق أو يغالط، وربما يأتي ليبين محاسن الإسلام في وهمه وهو منهزم نفسياً، يريد أن يدفع ما يبطله المبطلون، وما يزيفه المزيفون عن هذا الإسلام من تهم لا صحة لها؛ فإذا به ينتحل ويتمحل أموراً، والأصل أنه ينبغي أن يتشرف وأن يفتخر وأن يعتز بهذا الإسلام، وأن يكون راسخ اليقين بأن هذا الدين صحيح، وكل حكم فيه حكيم، وأنه صالح لكل زمان ومكان، فما بال بعض المسلمين ضعفت هذه الثقة في نفوسهم، وتزعزع هذا اليقين في نفوسهم، وأصبحوا متميعين، غير مفتخرين بالإسلام ولا معتزين؟!(80/3)
العمل والتطبيق
الأمر الثاني: اللازم ليس مجرد الدعاوى والفخر، وإنما بعد الاعتزاز والافتخار: العمل والتطبيق، فأين حياتنا وواقعنا من أمر الله عز وجل، ومن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟! سؤال يطرحه كل امرئ على نفسه، وينظر إليه وإلى جوابه في واقع أسرته وبيئته ومجتمعه، وإلى واقع الأمة الإسلامية في كثير من أقطارها ودولها، أليس كثير منها قد نحى شرع الله، وأخر كتاب الله، وقدم على ذلك أقوال البشر وقوانين أهل الأرض؟! أليس في كثير من ديار الإسلام ومجتمعات المسلمين إعلان الحرب على الله عز وجل، وإبراز للمخالفات البين تحريمها بالدليل القطعي من كلام الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والأمر في ذلك لا يحتاج إلى مزيد تفصيل وبيان، وإنما يحتاج إلى اتعاظ وادكار، وإلى مراجعة ومحاسبة.(80/4)
القيام بالجهاد والتضحية في سبيل نصرة الدين
وأخيراً: لا بد لنا أيضاً من أمر رابع نحمي به حمى هذا الدين، ونحمي به مقدرات المسلمين، وهو أمر الجهاد والمدافعة والتضحية في سبيل الله وفي سبيل نصرة هذا الدين، ما بال كثير منا إذا انتقص ماله أو نقصت وظيفته أو وقع له شيء من الضرر في أمور حياته أصابه الغم والهم، وسعى هنا وهناك، وإذا اعتدي على دين الله، واستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهكت حرمات المسلمين؛ لم تقم لهم قائمة، ولم يتحرك لهم نبض، ولم يتغير لهم وجه، ولم يتحرق لهم قلب؟ أين غيرة الإيمان؟! وأين صدق الالتزام بهذا الإسلام؟! اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، وأن توفقنا للعمل بالصالحات، والمسابقة والمسارعة إلى الخيرات، اللهم إنا نسألك أن توفقنا وأن تهدينا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(80/5)
واقع المسلمين في الانسياب وراء اليهود والنصارى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على كل ما أمر الله جل وعلا به لا سيما الولاء والبراء الذي هو من صلب هذا الدين، ومن أصل عقيدة المسلمين.
أيها الأحبة الكرام! ما أسلفت ذكره أمثلة يسيرة، وإلا ففي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة، وأدلة عديدة تبين لنا أن أمة الإسلام أمة متميزة تخالف غيرها، وقد هدى وأرشد النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأمور إلى المخالفة الصريحة الواضحة للأمم السابقة حتى يبقى لأمة الإسلام سمتها المتميز، وهذا السمت فيه تخفيف وتيسير، ورفع للحرج والمشقة، وتفضيل وتعظيم للأجر، وتقديم للمسلمين على غيرهم، وأيضاً له تبعات والتزامات ينبغي أن نحققها في أنفسنا اعتزازاً بهذا الدين وعملاً به، ودعوة إليه، وجهاداً في سبيل نصرته، وكثير من هذه الأوصاف في حقيقة الأمر قد غابت عن كثير من المسلمين، واتصف بها غيرهم، وإذا رأيت بعض المسلمين ربما لم تستطع تمييزهم؛ لأنهم أخذوا بصفات كثيرة مما جبل عليه اليهود والنصارى، وأهل الكفر والشرك، ومن ذمهم الله عز وجل وقبح أوصافهم وأفعالهم، فأصبح الأمر مختلطاً، فحتى يكون لنا تميزنا وفضيلتنا نحن أمة الإسلام ينبغي أن نحرص على هذا الأمر كله.(80/6)
دور العلم في إصلاح النفس
لابد من إصلاح النفس من الجهل إلى العلم، فأمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، ولا يقرأ قرآنه، ولا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى، وينبغي لكل أحد -كما قال- أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
فكيف يكون العلاج؟ قال: لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم.
قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم.
فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.(80/7)
أهمية الذكر في إصلاح النفس
لابد من الانتقال من الغفلة إلى الذكر، فالنفوس غلب عليها الران، والقلوب اشتدت فيها القسوة، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر؛ فإن أحوالنا اليوم تدعو إلى لفت النظر؛ فإن نفوسنا كأنما هي في نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، وكأن القلوب قد عميت، وكأن النفوس قد ركعت، كثير منا في عقول سادرة، وألسن لاغية، وآذان للباطل مصغية، فلا الآيات تُتلى، ولا الأحاديث تُروى، وربما تُتلى وتُروى ولكنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولا أنفساً متقبلة، ولذا لابد أن ننتبه، قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]: أي: لا توضع الموعظة في غير أهلها الذين لا يعتبرون ولا يتذكرون بها، والله سبحانه وتعالى قد وصف الغافلين وصفاً ينبغي أن نحذر منه، وصفاً يخلع قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف، وهو قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام، وأن يكون كأنه لا قلب ولا عين ولا أذن له؛ لأنه لم يعتبر؛ ولأنه لم يتذكر؛ ولأنه ما زال غافلاً؛ ولأنه ما زال في الغي سادراً؛ ولأنه ما زال بالشهوات منشغلاً؛ ولأنه ما زال في الملذات منغمساً؟! هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها.
كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.(80/8)
أهمية العمل في إصلاح النفس
لابد من التحول من الكسل إلى العمل، فكثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين، والعمل على الإصلاح والتغيير، والتنادي إلى البر، والتعاون على البر والتقوى، وهذا -وللأسف الشديد- نادراً ما نجده، بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وطلبنا للترقي المعنوي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، ومعظم جهدهم، وخالص فكرهم، ولا يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم، وجعل العمل هو المناص فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وعندما دعينا للعمل دعينا بصيغ عظيمة، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمتها، وتسلط عليها أعداؤها؟! إن الكسل حينئذٍ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.(80/9)
واقع المسلمين في الانسياب وراء اليهود والنصارى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على كل ما أمر الله جل وعلا به لا سيما الولاء والبراء الذي هو من صلب هذا الدين، ومن أصل عقيدة المسلمين.
أيها الأحبة الكرام! ما أسلفت ذكره أمثلة يسيرة، وإلا ففي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة، وأدلة عديدة تبين لنا أن أمة الإسلام أمة متميزة تخالف غيرها، وقد هدى وأرشد النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأمور إلى المخالفة الصريحة الواضحة للأمم السابقة حتى يبقى لأمة الإسلام سمتها المتميز، وهذا السمت فيه تخفيف وتيسير، ورفع للحرج والمشقة، وتفضيل وتعظيم للأجر، وتقديم للمسلمين على غيرهم، وأيضاً له تبعات والتزامات ينبغي أن نحققها في أنفسنا اعتزازاً بهذا الدين وعملاً به، ودعوة إليه، وجهاداً في سبيل نصرته، وكثير من هذه الأوصاف في حقيقة الأمر قد غابت عن كثير من المسلمين، واتصف بها غيرهم، وإذا رأيت بعض المسلمين ربما لم تستطع تمييزهم؛ لأنهم أخذوا بصفات كثيرة مما جبل عليه اليهود والنصارى، وأهل الكفر والشرك، ومن ذمهم الله عز وجل وقبح أوصافهم وأفعالهم، فأصبح الأمر مختلطاً، فحتى يكون لنا تميزنا وفضيلتنا نحن أمة الإسلام ينبغي أن نحرص على هذا الأمر كله.(80/10)
دور العلم في إصلاح النفس
لابد من إصلاح النفس من الجهل إلى العلم، فأمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، ولا يقرأ قرآنه، ولا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى، وينبغي لكل أحد -كما قال- أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
فكيف يكون العلاج؟ قال: لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم.
قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم.
فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.(80/11)
أهمية الذكر في إصلاح النفس
لابد من الانتقال من الغفلة إلى الذكر، فالنفوس غلب عليها الران، والقلوب اشتدت فيها القسوة، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر؛ فإن أحوالنا اليوم تدعو إلى لفت النظر؛ فإن نفوسنا كأنما هي في نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، وكأن القلوب قد عميت، وكأن النفوس قد ركعت، كثير منا في عقول سادرة، وألسن لاغية، وآذان للباطل مصغية، فلا الآيات تُتلى، ولا الأحاديث تُروى، وربما تُتلى وتُروى ولكنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولا أنفساً متقبلة، ولذا لابد أن ننتبه، قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]: أي: لا توضع الموعظة في غير أهلها الذين لا يعتبرون ولا يتذكرون بها، والله سبحانه وتعالى قد وصف الغافلين وصفاً ينبغي أن نحذر منه، وصفاً يخلع قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف، وهو قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام، وأن يكون كأنه لا قلب ولا عين ولا أذن له؛ لأنه لم يعتبر؛ ولأنه لم يتذكر؛ ولأنه ما زال غافلاً؛ ولأنه ما زال في الغي سادراً؛ ولأنه ما زال بالشهوات منشغلاً؛ ولأنه ما زال في الملذات منغمساً؟! هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها.
كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.(80/12)
أهمية العمل في إصلاح النفس
لابد من التحول من الكسل إلى العمل، فكثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين، والعمل على الإصلاح والتغيير، والتنادي إلى البر، والتعاون على البر والتقوى، وهذا -وللأسف الشديد- نادراً ما نجده، بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وطلبنا للترقي المعنوي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، ومعظم جهدهم، وخالص فكرهم، ولا يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم، وجعل العمل هو المناص فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وعندما دعينا للعمل دعينا بصيغ عظيمة، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمتها، وتسلط عليها أعداؤها؟! إن الكسل حينئذٍ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.(80/13)
استحباب صيام عاشوراء ومخالفة اليهود فيه
وأثني في هذا المقام بما بدأت به في شأن صيام عاشوراء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث عليه وأمر به وصامه عليه الصلاة والسلام، وأمر بأن يصام يوماً قبله أو يوماً بعده، وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، وقد ذكر أهل العلم أن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: أولها وأعلاها: صيام يوم عاشوراء ويوماً قبله ويوماً بعده.
المرتبة الثانية: أن يصوم يوم عاشوراء، وأن يصوم يوماً قبله وهو اليوم التاسع.
المرتبة الأقل: أن يفرد صيام يوم عاشوراء وحده، ومن لم يكن له في ذلك عذر فإنه يكون قد ترك الأولى، ووقع في خلاف ما حث عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أن يخالف اليهود بأن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، ويوم غد هو تاسع أيام هذا الشهر (تاسوعاء)، فأذكر نفسي وإخواني بأن نصوم هذا اليوم والذي بعده، ومن استطاع فالذي بعده، وكذلك نحث أنفسنا ونحيي هذه المعاني التي ذكرناها مع هذه السنة في نفوسنا، فنحن نريد أن نطبق السنة، وأن ننتبه إلى المعنى العظيم الذي نبهنا إليه النبي عليه الصلاة والسلام عندما بين المخالفة، وعندما بين الفضيلة بقوله: (أنا أحق بموسى منهم)، فنحن أحق بالرسل والأنبياء؛ لأننا على نهج قويم، وعلى دين عظيم، وعلى اتباع لنبي كريم عليه الصلاة والسلام، فالله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم ووفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم إنا نسألك أن توفقنا للصالحات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا أرحم الراحمين! اللهم املأ قلوبنا بالإيمان بك، وأنطق ألسنتنا بالدعوة إليك، وسخر جوارحنا في العمل لنصرة دينك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم أذل الشرك والمشركين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المسلمين المؤمنين، المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، اللهم رحمتك بهم، اللهم إنا نسألك أن تفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، اللهم ثبت أقدامهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وانصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، واجمع كلمتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أنعم على بلاد المسلمين بالأمن والأمان والسكينة والسلام، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واجمعهم على كلمة الحق يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(80/14)
السعادة والنجاة في الصلة بالله
لا سعادة للعبد، ولا حياة يغمرها الفرح والسرور والطمأنينة إلا بالقرب من الله سبحانه وتعالى، والصلة به، واللجوء إليه، والتذلل والخضوع له، وإذا ما ابتعد الإنسان عن طاعة مولاه، وهجر أماكن الطاعة والعبادة، استبدل الفرح بالحزن، والطمأنينة بالضنك، والبشاشة بالكآبة، والرضا بالسخط.(81/1)
السعادة الحقيقية
الحمد لله، لا إله غيره، ولا رب سواه، جعل طمأنينة القلوب في ذكره، وزيادة النعم بشكره، وجعل السعادة في طاعته، وجعل اللذة في عبادته، له الحمد سبحانه وتعالى، شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالقرآن، وهدى البصائر بالإيمان، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد في كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، بعثه الله إلى الناس كافة أجمعين، وأرسله رحمةً للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا الله وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! السعادة والنجاة في الصلة بالله حقيقة لابد من اليقين بها، ولا مخرج إلا بامتثالها وتطبيقها، كم في الصدور من ضيق ومن حرج! كم في القلوب من هموم وغموم! كم في الحياة من مشكلات ومعضلات! كم في العلاقات من سوء وانقطاع! كم في الأبناء من عقوق وتمرد! وفي الحياة من صورٍ مختلفة من الابتلاءات! يفضي المرء بها إلى شقاء عظيم، وإلى بلاء كبير، وهي في أصل خلقتها سنة الله جل وعلا في الحياة: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] إنها حياة ابتلاء، من لم يكن له بالله صلة صار في ابتلاء وشقاء، وإن المرء ليتأمل فيجد في حياة الناس في الجملة أسباباً كثيرة من أسباب النكد والهم والغم، فذاك حزين كاسف البال؛ لأنه لا يجد ما يريد وما يطمع فيه من المال، وذاك حزين متألم لما وجد من خصومة زوجته وعقوق أبنائه، وهذا متذمر من سوء جيرانه وأذاهم، والأخير متألم مكوي بنار في قلبه من ظلم الطغاة والجبابرة؛ وقهرهم له، وأخذهم لحقه، فأي شيء يسري عن تلك النفوس وما فيها من الأحزان والآلام؟! وأي شيء يسكب في تلك القلوب الحزينة الكسيفة الطمأنينة والسكينة؟! وكيف تخلص السعادة واللذة إلى النفوس والأرواح رغم كل هذه البلايا والرزايا؟! إن الدنيا كلها وما فيها من متع وشهوات لا يمكن أن تحل هذه المشكلات، ولا أن تزيل تلك الهموم، وإن أسباب القوة المادية من جاه وسلطان لا يمكن كذلك أن يكون لها أدنى أثر ولا أقل فائدة، إنه لا بد لنا أن نعرف أصل خلقتنا: قبضة طينٍ ونفخة روح: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] إن الأرواح أثر من نفخة روح الله عز وجل! إن القلوب والنفوس لا يطعمها ولا يغذيها ولا يشبعها ولا يرويها غذاءٌ وشرابٌ وطعامٌ من أثر هذه الحياة الدنيا! وإنما غذاؤها روحي، وإنما ريها رباني، وإنما تطلعها لما في الملأ الأعلى، لا بد أن ندرك هذه الحقيقة، وإلا يكن الأمر كذلك فإنه الشقاء المحتوم، والبلاء الدائم، والهم العظيم، والغم المتوالي، وذلك ما نشكو منه، وذلك ما نحس به؛ لأن القلوب لم يخلص إليها روحٌ من الله عز وجل من أثر التعلق به، وحسن الصلة به، وذلك ما دلت عليه الآيات، وما استنبطه العلماء، وما بينته وقائع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلنقف هذه الوقفات التي نحن في أمس الحاجة إليها مع صعوبة وشدة وشقاء وعناء هذه الحياة.(81/2)
من كلام السلف في أسباب السعادة
قال إبراهيم بن شيبان: من أراد أن يكون معدوداً في الأحرار، مذكوراً في الأبرار؛ فليخلص عبادة ربه.
إنك بدون ذلك التعلق تبقى عبداً مأسوراً لحاجتك، ذليلاً لمن تمد إليه يدك غير الله، مقهوراً لكل من تخافه غير الله سبحانه وتعالى، أما إذا علقت القلب به، وأخلصت النية له، ووجهت القصد والوقت والجهد في طاعته ومرضاته، فأنت حر الأحرار، وأنت بر الأبرار، وأنت الناجي من عذاب النار بإذنه سبحانه وتعالى، وكذلك نجد هذا فيما كان يقوله أسلافنا.
سئل ذو النون رحمه الله: فيم يجد العبد الخلاص؟ وكلنا نسأل هذا السؤال كلنا نريد الخلاص كلنا نريد النجاة كلنا نريد السعادة، فقال رحمه الله: الخلاص في الإخلاص، فإذا أخلص تخلص من كل هم دنياه، تخلص من كل تسلط أعدائه، وتخلص من كل حاجات نفسه الدنية الدنيوية؛ ليبقى سامياً عالياً مرتقياً على الدنيا وما فيها، وعلى أهل الدنيا جميعاًَ، فإن قوته وصلته بالله تعطيه من الغنى والاستغناء ما لا يكون أهل الأرض كلهم يوازون عنده جناح بعوضة كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ونحن لنا مطامع إذا علقناها بالله وجدنا الخير والسعادة والحرية، وإذا علقناها بأسباب الحياة لم نجد ما يشبع النهمة ويروي الظمأ، ثم كنا أسرى ضعفاء لا نستطيع أن نحقق مرادنا في دنيانا، ونحشى ألا نحقق نجاتنا في أخرانا.
قال ابن تيمية رحمه الله: كلما طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته عما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، فإن احتجت إلى غير الله فأنت أسيره.
وتأمل أخي المؤمن ماذا تريد من الدنيا؟ وماذا تريد في الآخرة؟ اسأل نفسك، وتلمس الإجابة، فإنك تجدها كلها متعلقة بأمر الله وطاعته، وتعليق القلب به، وربط الحبال بما عنده سبحانه وتعالى، ألست تريد تكثير الحسنات وتكفير السيئات؟ استمع لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] ألست تريد العلم والفقه والفهم؟ استمع لقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ألست تريد الفرج والرزق ورغد العيش؟ استمع لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] ألست تريد الفرح والسرور والسعادة؟ استمع لقول الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] المعين عذبٌ متدفق فأين الواردون الشاربون؟ والطريق واضحٌ مستقيم فأين السالكون المشمرون؟ تأملوا لنجد أن شقاءنا مغروس في نفوسنا بما أعرضت عن ذكر الله، وبما فرطت من التعلق بالله سبحانه وتعالى، لنجد أن كل ما نحتاج إليه كما أسلفنا القول في بدء حديثنا مبدؤه ومنتهاه، أوله وآخره، سراؤه وضراؤه، دنياه وأخراه مرتبطٌ بحقيقة التعلق بالله، ألستم تعرفون أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا نحفظ قوله: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)؟ ألسنا نعرف فقه الابتلاء الذي يزيل الهم والغم، وينفس الكرب في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا تعب ولا همٍ ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)؟ ألسنا نعرف وصيته العظيمة قالها لغلامٍ في مقتبل عمره: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟ أين نحن من هذا؟! نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى كتابه، وإلى هدي رسوله، وأن يروي ظمأ قلوبنا، وأن يطهر كدر نفوسنا بالإقبال عليه والتعلق به، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(81/3)
كلام نفيس لابن القيم في السعادة
قال ابن القيم رحمه الله في إطلالة قرآنية، واستنباطات روحانية، ودلالات علمية تكشف حقيقة الحياة البشرية، وتدل على سبل النجاة الحقيقية، قال رحمه الله تعالى: (قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره ممن ليس عنده ولا يقدر عليه أمرٌ غير محمود ولا معقول.
وقوله جل وعلا: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21]، واجتمع كل ما يراد له في قوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42]، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى، وتحت هذا سرٌ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه).
إنها حقائق القرآن، إنها الوقائع الحقيقية في حياة البشرية، أفلا ترون غير المسلمين عموماً وبعض المسلمين الشاردين عن طاعة الله خصوصاً، كيف تيسرت لهم أسباب الدنيا، وكيف كسروا حواجز الحرام فأكثروا من شهواتها وملذاتها، وكيف تيسرت لهم كثير من الأسباب التي يتمناها غيرهم من الناس، فهل خلصت السعادة إلى نفوسهم؟! وهل سكنت الطمأنينة قلوبهم؟! كلا والله، إنك لترى الشقاء مرسوماً على جباههم، وبادياً في وجوههم، وظاهراً في حزنهم، ومتجلياً في كسف بالهم، إنك تراهم وقد ملكوا الدنيا وأسبابها وهم ما يزالون في نكد وبلاء وضيق؛ لأن شقاء الدنيا كله قد جمعته وأوجزته حقيقة ربانية في شطر آية قرآنية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] ضنكٌ في كل شيء، ضنكٌ في أسباب الحياة المادية والمعنوية، ضنك في أسباب الحياة الفردية والجماعية، ضنك في أسباب الحياة الداخلية والظاهرية، ضنك لا يكاد ينفك عنه أحدٌ إلا إذا أقبل على الله، وعلق قلبه بالله، وأفضى بعوالج ولواعج قلبه ونفسه إلى خالقه ومولاه، لا يمكن أن يتخلص من همه وغمه إلا بتلك المناجاة والتضرع إلى الله، والإقبال على الله، فإنه لا يسد فاقة القلب ولا يلم شعثه إلا الإقبال على الله، ولا يمكن لأحدٍ أن يطلب تلك السعاة والراحة إلا من هذا الطريق، وإلا فإنه محجوب مردود على عقبه غير بالغ مقصده، ولا نائل إربه، وتلك الحقيقة تنطق بها الآيات، وتشهد بها الوقائع في حياة الناس، وهذه كلمات أخرى تدل على ذلك وتؤكده في كل صور الحياة النفسية والقلبية التي يحتاجها كل إنسان على سبيل العموم، وكل مؤمن مسلمٍ على سبيل الخصوص، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكنه إلا الاجتماع إليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً، وها نحن أيها الإخوة الأحبة نوضح هذه الحقيقة فهل إلى مراجعة من سبيل؟! وهل إلى مصارحة من طريق تجعلنا ندخل السرور إلى نفوسنا، ونذهب الهم والحزن عن قلوبنا، ونشيع اللذة والحبور والسرور في أرواحنا؟! استمعوا إلى نداء القرآن الفريد العجيب: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وكل شيء خفته فررت منه، وكل شيء يمكن أن يكون سبباً -ولو بتقديرٍ- في شيء من ضرٍ لا يتصور أن يكون علاجه وبرؤه منه لكنها الحقيقة الربانية، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] كلما أظلمت الدنيا في وجوهكم فروا إلى الله كلما تعاظمت المشكلات والصعوبات فروا إلى الله كلما ضاقت الصدور وقست القلوب فروا إلى الله كلما جمدت الأعين وقحطت الدموع فروا إلى الله كلما لغت الألسن وأكثرت من الباطل فروا إلى الله تجدوا عنده كل ما يملأ قلوبكم ونفوسكم أنساً وسعادة وسروراً، وذلك أمره بينٌ وقد فقهه أسلافنا وعلماؤنا وأئمتنا، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى ذلك كله، فهو أمرٌ يفقهه ويعرفه -بل يذوقه ويستشعره- كل مؤمن يقبل على الله ويقف بين يديه، ويتوسل إليه، ويتضرع إليه، وذلك مما تشهد به وقائع أحوالنا، فعندما تتغير أحوالنا في بعض الأوقات عند الملمات أو في المناسبات والطاعات نشعر بأثر ذلك، ونشعر بلذة في لحظات نقيسها ونزنها بسنوات وسنوات؛ لأنه ليس هناك أثقل ولا أجمل ولا أفضل من تلك السعادة النفسية الروحية التي فيها هدوء البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، ورشد العقل، وسكينة تفيض على الإنسان كل هذه المعاني الطيبة الحسنة.(81/4)
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أنموذج نتلمس فيه كل ما قلناه من تلك المعاني، أنموذج في فريضة الصلاة التي افترضها الله عز وجل علينا في كل يوم خمس مرات، لنرى كيف يمكن أن تكون هذه الصلاة هي سعادة دنيانا، ونجاة أخرانا، وراحة نفوسنا، وطمأنينة قلوبنا، وانشراح صدورنا، وهدوء بالنا، ولذة حياتنا، وسعادة أفراحنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] كلما ادلهمت الخطوب، وعظمت الرزايا، فلنفعل ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، (كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة) ألق فيها همك، واطرح فيها بين يدي ربك شكواك، وارفع إليه مناجاتك، وتضرع إليه، فإن ذلك يحقق لك كل طمأنينة وسكينة، وتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يوجز الدنيا ومتاعها، ويجعل الكفة الراجحة في سعادة القلب والنفس في هذه الصلاة: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، تلك من متاع الدنيا، لكن قرة العين وهي منتهى السعادة، وغاية اللذة، وقمة السرور، وأقصى ما يجد الإنسان فيه راحته وسعادته، قال عليه الصلاة والسلام: (في الصلاة تلقي همك، وتبث شكواك إلى ربك ومولاك) فأي شيء من هم يبقى بعد ذلك؟! وكان عليه الصلاة والسلام ينادي بلالاً فيقول: (أرحنا بها يا بلال! أرحنا بها يا بلال!) راحة من كل تعب، وهدوء من كل صخب، وسعادةٌ من كل شقاء نجدها في تعليق القلوب إلى الله، وسجود الجباه لعظمته سبحانه وتعالى، وتسبيح الألسنة له، وذكرها له سبحانه وتعالى، ونرى ذلك واضحاً فيما بينته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف نزيل الكدر والهم والغم؟ كيف نطهر الأبدان والأرواح؟ (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) ويمحو كذلك سبحانه وتعالى كدر النفوس، وهم القلوب، وضيق الصدور بإذنه جل وعلا، وكذلك نجد ذلك في السير والأحاديث والنصوص، وحسبنا في ذلك أن نذكر الحديث العظيم الذي أخبر فيه نبينا صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال أنه قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل وعلا: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله جل وعلا: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: حمدني عبدي وذلك بيني وبينه، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
تأمل أنت العبد الفقير الحقير إذا وقفت بين يدي الله كل كلمة تتلوها من آياته يرد بها عليك، إذا وقفت بين يدي الله في مقام الصلاة والمناجاة فإن الله يرى مقامك، ويسمع مناجاتك، ويرد على تلاوة آياتك، فأي شيء أعظم من ذلك!، وأي مقام أرفع من هذا! تأمل هذا واعلم أن هذا أنموذج فحسب، وإلا ففي الذكر فسحة واسعة، وفي الدعاء لذة غامرة، وفي الإحسان إلى الخلق سور عظيم، وفي كل طاعة من طاعات الله عز وجل ما تسكن به النفوس وتسعد.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، اللهم زك نفوسنا، وطهر قلوبنا، واشرح صدورنا، وأنر بصائرنا، واهد عقولنا، وثبت أقدامنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل طاعتك أحب إلينا من دنيانا، اللهم اجعل ذكرك أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، اللهم اجعلنا مقبلين على طاعتك، متلذذين بمناجاتك، اشرح اللهم بها صدورنا، وطمئن بها قلوبنا، اللهم علق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، لا تجعل لنا في الدنيا قصداً إلا إليك، ولا رغبةً إلا فيما عندك، ولا رهبة إلا من عذابك، نسألك اللهم أن تجعلنا منيبين إليك، متوكلين عليك، خائفين منك، راجين فيك، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك أن تستخدمنا في طاعتك، وأن تسخر جوارحنا في مرضاتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تحسن ختامهم، وترفع في الآخرة مقامهم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا ومثوانا ومنقلبنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، احصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم اجعل الخلف في صفوفهم، اللهم رد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف فيهم صدور قومٍ مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم عليك بهم أجمعين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم وعظم يقينهم يا رب العالمين! واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(81/5)
تأملات في الهزائم والانتصارات
إن الله عز وجل إذا قال فإن قوله حق، وإذا وعد فإنه لا يخلف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى هذه الأمة بالنصر والتمكين، إلا أن هذا النصر متخلف فهذه الأيام، وما ذاك إلا بسبب التضييع لدين الله، والبعد عنه سبحانه وتعالى، وكثرة المعاصي والفواحش، والمجاهرة بها في بلاد المسلمين، فإذا رجعت الأمة إلى دين الله، وعملت بأسباب النصر، عندها يتحقق موعود الله لها بالنصر والتمكين.(82/1)
إعلان النصر قبل المعركة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته، واقتفى أثره، وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: أيها الإخوة الأحبة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله جل وعلا أن يُكتب هذا اللقاء في موازين حسناتنا، وأن يرزقنا من ورائه نفعاً، وأن يكتب لنا به أجراً.
وأبدأ بعد شكر الله جل وعلا بشكر أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب الذي كان سبباً في هذا اللقاء، وأشكر الإخوة الحضور الذين أحسنوا الظن بما قد ينتفعون به من سماع هذا الموضوع، وأما بُعد الشقة واختلاف البلاد فإني أقول: ما جئت من بلد ناء إلى بلدي بل جئت من كبد حرى إلى كبدي ولقيا الوجوه الطيبة والإخوة الصالحين تذكر بالآخرة، وتعين على الطاعة، وتجدد العزم، وتقوي الهمة، وتبعث روحاً جديدة يأنس بها الإنسان، ويشعر أن له إخوة معه على الدرب والعهد، مهما اختلفت ديارهم أو لهجاتهم أو أفكارهم من حيث تعليمهم ومراتبهم الاجتماعية والعلمية، وهذا أمر يشعر به أهل الإيمان بلا خلف أو تفرقة بينهم.
موضوع حديثنا هو: (تأملات في الهزائم والانتصارات) فإنه يسلط الضوء على هذا الموضوع من جهة المواقع الفاصلة، والأحداث الكبرى في بعض مراحل تاريخ الأمة المسلمة، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا قصص السابقين، وساق لنا قصص الأنبياء والمرسلين؛ لنتدبر فيها، ونستقي منها العبرة، ونقرأ بين سطورها وفي ثناياها الدروس التي كتبها الله سبحانه وتعالى في قواعد محكمة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وكما قضى الله سبحانه وتعالى بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وكما قضت حكمته سبحانه وتعالى أن قطع على نفسه الوعد بأنه يدافع عن الذين آمنوا، وربط الشرط بمشروط في قوله جل وعلا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] غاية الأمر أننا نريد أن نسلط الضوء لنقرأ فيما وراء الأحداث، ولنتأمل في الأمور التي قد لا يكترث الناس بها، ولا تخلد في أذهانهم، ولا تبقى في عقولهم.
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضاع قوم ليس يدرون الخبر إن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها، ولا أن تخطط لمستقبلها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] هذه الدنيا كلها بما فيها من الأحداث درس وعبرة يظهر للمؤمن فيها قدر الله عز وجل النافذ، وحكمته البالغة، ومشيئته التي لا يردها شيء، وكذلك تظهر له من خلالها الصورة الحقيقية لأسباب النصر، والصورة الحقيقية لأسباب الهزيمة.
وأبدأ بالنقطة الأولى: إعلان النصر قبل المعركة: معلوم أن الانتصار لا يعلن قبل اللقاء، وأنه في المعارك والمهام يبقى الجزم بالنصر حتى اللحظات الأخيرة غير معروف، لكن سنأخذ ومضات سريعة نرى فيها أن النصر أعلن قبل بدء المعركة في كثير من الأوقات، وذلك ينبئ عن أن الذي جزم بهذا النصر قبل اللقاء قد استحضر أموراً معينة، ورأى أسباباً مهيأة، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير، فجزم بذلك في أول يوم من أيام الله عز وجل.
في يوم الفرقان يوم بدر الأغر، لما قضى الله عز وجل أن يلتقي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الميامين بكفار قريش، ولم يكونوا قد تهيئوا لذلك، وعندما صفت الصفوف، وتعين اللقاء ماذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ توجه إلى الله عز وجل وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلحف في المسألة، ويلح في الدعاء، ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم هذه قريش جاءت بفخرها وخيلائها -ويلح عليه الصلاة والسلام- اللهم نصرك الذي وعدتني، حتى سقط الرداء من كتفه الشريف صلى الله عليه وسلم، ويبكي أبو بكر رضي الله عنه ويقول: حسبك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعد)، أي: يكفي هذا الإلحاح وهذا الدعاء، فماذا حصل بعد ذلك؟ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بحفنة من الحصى، ورمى بها في جهة الكفار وقال: (شاهت الوجوه، ثم قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط، هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع أبي، هذا مصرع أمية بن خلف)، ويعين مواضع مصرعهم، قال الرواة في السير: فما أخطأ واحد منهم ما أشار به صلى الله عليه وسلم، لقد حكم عليه الصلاة والسلام بالنصر؛ لأنه كان يعلم من أصحابه قلوباً مؤمنة بالله، وجباهاً ساجدة لله، وصفاً موتد العرى بالمحبة والألفة في الله عز وجل، فتحققت أسباب النصر، فأعلنه عليه الصلاة والسلام قبل بدء المعركة.
وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين، اجتمع فيه عليهم شدة البرد، مع شدة الجوع، مع شدة الخوف، مع كثرة العدو، مع خيانة الذي كان نصيراً، وذلك في يوم الأحزاب الذي وصفه الله عز وجل وصفاً عجيباً فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] في ذلك الموقف العصيب، وقد اجتمعت قريش وغطفان ومن معهم من بعض القبائل والأحابيش، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وحاصروها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، ثم يرسل عليه الصلاة والسلام السعدين ليستجليا له خبر قريظة، قال: (فإن كانوا على العهد فأظهروا ذلك، وإن كانوا قد نقضوا فالحنا لي لحناً أعرفه ولا يعرفه غيري)، فلما بلغه الخبر عليه الصلاة والسلام بنقض قريظة للعهد، وكان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً، يوشك أن يسقط على الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه، عندما بلغه هذا الخبر كبر عليه الصلاة والسلام وقال: (الله أكبر، الله أكبر، أبشروا بالنصر)، في عمق المأساة، وفي شدة الكرب، يكبر عليه الصلاة والسلام ويجزم بالنصر، ولم يكن يعرف له سبباً، ولم يكن يعرف من وحي الله عز وجل ما سيقع بعد، ولكنه رأى أسباب النصر: أمة موحدة لله عز وجل، ما لانت ولا داهنت في دينها، ولا باعت مبادئها، ولا غيرت عهدها مع الله عز وجل، أمة متوحدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أبشروا بالنصر).
فجاء نصر الله عز وجل من حيث لم يحتسبوا، ولم يشعروا، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار، وتكفئ القدور، وإذا بـ أبي سفيان زعيم القوم ينهض ناقته ويقول: يا أهل مكة! لا مقام لكم فارجعوا، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، وبث في قلوب الكفار الرعب، وجاء النصر.
وقد يقول قائل: إن هذا الإخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة، ولكني أقول: إن هذا ليس من هذا النحو، وإن كان المصطفى عليه الصلاة والسلام مسدداً بالوحي، لكن الأمر كان منه عليه الصلاة والسلام نظراً في هذه الأسباب؛ ولذا قد وقع من غير الرسول عليه الصلاة والسلام من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية من جزم بالنصر، كما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في عام (702هـ) في موقعة (شقحب)، عندما تلاقى المسلمون والتتار، فقد كان شيخ الإسلام رحمة الله عليه يحرض المسلمين على القتال، ويحثهم على الجهاد، ويأمرهم بالدعاء، ثم يقول: والله! إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة، فيقولون له: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
سبحان الله! يجزم ويحلف، وإذا قيل له: قل: إن شاء الله يقول: إن شاء الله تحقيقاً، أي: أن ذلك واقع لا محالة، ولكنه بمشيئة الله عز وجل، لا تعليقاً كأنه يشك في نصر الله عز وجل، لم جزم شيخ الإسلام بذلك وليس هو ممن يوحى إليه قطعاً؟ هو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة، فعلم أن قوماً قد لجئوا إلى الله عز وجل، ونابذوا المعاصي، وتوحدت صفوفهم، سينصرهم الله عز وجل؛ لأن وعده لا يتخلف: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
هذه الومضة ليست هي مقصودنا في الحديث، إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرة، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب المعنوية الإيمانية التي فيها وفاء بعهد الله، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى.(82/2)
النصر بعد الهزائم الساحقة
ومضة أخرى تدلل على هذا وتقودنا إلى لب حديثنا.
النصر بعد الهزائم الساحقة، إن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية لم يتوقع لها أن تنهض من كبوتها، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس، لكننا سنجد كما سأضرب بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة، وذلك يدلنا على أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين مبلغاً إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم، ولم تنل من عزائمهم، ولم تزعزع صلتهم وثقتهم بالله عز وجل، ولم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم وفي مبادئهم وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم، ولذلك نجد هناك مواقع حاسمة في تاريخ الأمة: في عام (491هـ) اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها، ودخلوا إلى المسجد الأقصى، وقتلوا فيه من المسلمين كما يذكر ابن كثير نحو سبعين ألف نفس، حتى غاصت ركب الخيول في دماء المسلمين! هزيمة مروعة، وفظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ بعد عامين اثنين فقط في عام (493هـ) أنه التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها، ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن عدة جيش النصارى كان نحو ثلاثين ألفاً قتلوا عن بكرة أبيهم، وما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم، وجرح بعضهم، وهرب بعضهم! أولئك الذين هزموا لم يزل فيهم من أسباب النصر ما هيأ لمجموعة قليلة منهم أن يتحققوا بأسباب النصر، ارتباطاً بالله، وثباتاً على منهجه، فنصرهم الله عز وجل وهم لم تهدأ جراحهم بعد، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة.
وفي عام (656هـ) دخلت جيوش التتار بغداد، ونعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من الفظاعة والهول، ثم بعد عامين اثنين، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام (658هـ) تأتي موقعة عين جالوت، ويُهزم فيها التتار، وهم الجيش الذي لا يقهر كما يقال، الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس، يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل، لماذا؟ لأن بعض الأسباب كانت قد تحققت.
وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب أحد، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة، ومضى منهم إلى الله عز وجل سبعون من الشهداء، وأثخن البقية بالجراح، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، ثم رجعوا إلى المدينة، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا، لأي شيء؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا من آثار ما وقع بهم؟ أمرهم أن يخرجوا ليلحقوا بـ أبي سفيان ومن معه من مشركي قريش، هذا وجراحهم ما تزال تنزف دماء! وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة! وأمر ألا يخرج معهم أحد أبداً ممن لم يشهد أحداً، فماذا كان موقف الصحابة؟! ما تخلف منهم رجل واحد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172 - 173] خرجوا وما تخلف منهم رجل واحد؛ لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتضعفهم، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي، وهممهم أعلى من ذرى السحاب؛ ولذلك استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اعتبروا مهزومين، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام أو أربعة أيام بلياليها، ولما أنصرف أبو سفيان قال: ما بلغنا من القوم مبلغاً، ما قتلنا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا قتلنا أبا بكر ولا عمر، ولا استأصلنا شأفتهم، ولا غزونا مدينتهم.
وكان يفكر بالرجوع، فإذا بأحد الأعراب يمر عليه فقال: ما خبر محمد؟ قال: رأيته يجد هو وأصحابه في أثركم، فلاذ أبو سفيان بالفرار إلى مكة قناعة بالنصر الهزيل الذي وقع له.
إذاً: إذا لم تنل الهزيمة من الإيمان ومن النفوس والعزائم فإن الجولة القادمة وشيكة الوقوع بإذن الله سبحانه وتعالى، وقد فطن لهذا أعداء الأمة، فلم يكن اعتناؤهم -بعد دراسة طويلة للحروب الصليبية- بكسر المسلمين عسكرياً وحربياً فحسب، بل كانوا يريدون أن يطيلوا أمد الهزيمة دهراً طويلاً، وأن يعمقوا تأثيرها في النفوس والقلوب والعقول والسلوكيات والأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ حتى ينخروا في بنيان الأمة، فلا تقوم لها قائمة في تصورهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].(82/3)
بيت المقدس وما حصل فيه من هزائم وانتصارات
الوقفة الثالثة: وهي لب موضوعنا: نريد أن نقف في بعض المفاصل التاريخية؛ لنقرأ بين السطور ماذا وقع في الهزائم؟ وكيف وقعت الانتصارات في تاريخ الأمة المسلمة؟ هذه المفاصل كثيرة، وسأذكر منها اثنين بالتفصيل، وإن سمح الوقت ذكرنا ثالثاً.
الأول: ما يتعلق بحقوق بيت المقدس، والثاني: سقوط بغداد، والثالث: موقعة شقحب؛ لأن فيها دروساً عظيمة جداً.
في بيت المقدس لننظر كيف كان توجه المسيحيين في ذلك الوقت؟ وكيف توجهوا لقتال المسلمين؟ وبأي منطق وتحت أي مبدأ تجمعوا؟ نقرأ في سطور التاريخ وفي وقائعه ما ينبئنا عن أن في كل جولة لابد من تحقق أسباب، ومن رؤية معالم هي التي تكون بها الهزيمة أو يقع بها -بعد إذن الله عز وجل- النصر، تجمع المسيحيون تحت راية المسيحية، وتنادوا باسمها، وهذا المكمن الذي ينبغي أن يعلم المسلمون أنه لا نصر لهم إلا تحت راية الإسلام، وإلا أن يتنادوا باسم نصرة العقيدة والإيمان، أما غير ذلك فقد رأت الأمة هذه الصورة، وتجرعت مرارتها حينما تجمعت مرة باسم القومية، وأخرى باسم البعثية، وثالثة باسم الاشتراكية، فهوت بها كل واحدة إلى هاوية وبعد سحيق.
في ذلك الوقت ماذا كان من المسيحيين؟ إمبراطور القسطنطينية يبعث إلى ملك آخر من ملوك المسيحية في ذلك الوقت، ويناديه بنداء يستصرخ فيه الهمة لقتال المسلمين، فماذا يقول؟ يقول: إلى رجال الدين والدنيا تحية وسلاماً، أيها السيد العظيم! حامي حمى العقيدة المسيحية، أود أن أحيطك علماً بما وصل إليه تهديد الأتراك -يعني: السلاجقة المسلمون- للإمبراطورية الإغريقية المسيحية المقدسة، فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في أراضيها دون انقطاع، وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها ضد المسيحيين الإغريق -وهذا أكثره كذب- فضلاً عن السخرية والتحقير، فإنهم يذبحون الأطفال والشباب داخل أماكن التعميد، حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك المسيح؛ لذا أستحلفك بمحبة الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق العون والمساعدة، وذلك بتقديم جميع جنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن العامة ممن يتسنى جمعهم من بلادك.
فهذا تناد باسم الإيمان والعقيدة الباطلة، وتناد بالنصرة بالقوة الفعلية المؤثرة، وليس بمجرد القول أو الشجب أو الاستنكار أو البيانات، وليس تحت راية علمانية أو اشتراكية أو غيرها، فهكذا كان تجمعهم في ذلك الوقت، وكانت نظرة حديثهم.
بل إن الذين كانوا يقودون تلك الحروب ويؤججونها ضد المسلمين هم زعماء الدين، فهذا البابا أريان الثاني يوجه في مؤتمر كليرمونت في ذلك الوقت نداءه إلى أبناء الملة المسيحية كلها، فيقول: يا شعب الفرنجة شعب الله المحبوب المختار! لقد جاءت من تخوم الصين ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة، تعلن أن جنساً لعيناً -يقصد به المسلمين- أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب والحرائق، ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، وهم يهدمون الكنائس بعد أن دنسوها برجسهم.
إذاً: مرة أخرى نداء العاطفة العقدية الإيمانية، ثم يقول: ألا فليكن لكم من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! وهنا يربط بمبدأ مهم وهو القدوات التاريخية التي ترتبط بها الأمة لارتباطها بمنهج الله، فتثير فيها الهمة والعزيمة، واليوم يغير التاريخ ويدلس لتغيب القدوات الصالحة، ويغيب الأئمة من العلماء، ويغيب القواد من المجاهدين، وتظهر القدوات الفاسدة التي لا تقدم ولا تؤخر، بل حقيقة دورها أنها تشوه وتمسخ، وأنها تغتال وتقتل كل قيمة إيمانية، وكل همة وعزيمة وقوة في صفوف الأمة.
ثم يقول أيضاً لتتضح لنا الأسباب: طهروا -ولو قلنا هذا الكلام للمسلمين لكانوا أولى به وأحرى- قلوبكم إذاً من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث.
إذاً: طالبهم بأن يزيلوا الأحقاد، وأن يمنعوا الخلاف والنزاع لتتوحد الصفوف، ونصب لهم هدفاً يهمهم ويشغل بالهم؛ حتى تتلاشى الأسباب الثانوية العارضة للاختلافات التي يثيرها الأعداء ليفرقوا صفوف الأمة، هذه صورة موجزة لما كانوا يتنادون به.
فماذا كانت صورة الأمة المسلمة في ومضات؟ كان أحد ملوك المسلمين حاكماً للموصل في ذلك الوقت، وبعد سقوط بيت المقدس أراد أن يجمع بعض الجيوش لمحاربة النصارى، لكن الأسباب كانت غير مهيأة ولا مواتية فماذا حصل؟ قتل هذا الملك المسلم في يوم العيد بعد الصلاة في وسط المسجد غيلة، فماذا وقع بعد ذلك؟ كتب ملك الفرنجة إلى طغتكين الذي جاء بعده كتاباً فيه كلمات موجزة، لكنها تنبئ أن القوم كانوا ينظرون إلى أسباب الهزيمة لائحة أمام أعينهم، فقال كلاماً جميلاً ذكره ابن كثير رحمة الله عليه، يقول: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها.
كيف تنتصر وبينها هذه الخلافات؟ كيف تنتصر والأحقاد تتسلط عليها؟ كيف تنتصر وهي ليست موجهة نحو إعلاء كلمة الله ورعاية مصلحة الأمة المسلمة؟(82/4)
ما قام به صلاح الدين من الإصلاحات قبل تحرير بيت المقدس
ننتقل إلى الوقت الذي جاء فيه نصر الله عز وجل، وكلنا يعلم أن النصر وتخليص بيت المقدس جاء بقدر الله على يد صلاح الدين، والناس كلهم يقولون: جاء صلاح الدين وانتصر يوم حطين، وخلص القدس من الصليبيين، وكأن المسألة انحصرت في تلك المعركة التي خاضها صلاح الدين رحمة الله عليه، والأمر ليس كذلك، فإن صلاح الدين خاض قبل هذه المعركة أربع معارك هي أشد وأشرس وأقوى، وهي من أعظم ما هيأ النصر لذلك اليوم العظيم في يوم حطين، لم يأت صلاح الدين هكذا ليجمع جيوشاً بالقوة، ثم ينتصر بعد ذلك، بل حارب في مواقع أربع قبل أن يلاقي النصارى في حطين، حارب الكيانات الفاسدة، وحارب الجهالات الخاطئة، وحارب الانحرافات المفسدة، وحارب الفرقة القاتلة، وسأذكر ذلك بشيء من الإيجاز.
حارب الكيانات الفاسدة التي كانت تعمل في الأمة من الفساد والتدمير أكثر مما يعمله أعداؤها؛ لأنها في حقيقة الأمر أعدى من الأعداء، وكان مما هيأ الله عز وجل لـ صلاح الدين وأجرى على يديه أن قوض الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية التي أضاف إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء وصف اليهودية فقال: الدولة الرافضية العبيدية اليهودية.
فقبل أن يتوجه إلى بيت المقدس أزال هذا الورم السرطاني الذي ظل يرزح على الأمة المسلمة وفي بلادها دهراً طويلاً، وعاث فيها فساداً في الاعتقاد، وتخريباً لمقدرات الأمة، وممالأة لأعدائها، فتوجه صلاح الدين رحمة الله عليه ومهد له من قبل نور الدين زنكي، فتوجه أولاً ليستأصل هذه الدولة الرافضية، وبالفعل قوض ملكها ودخل مصر فاتحاً، وألغى وجودها من التاريخ، وجعلها صفحات مذكورة في طيات التاريخ، ولم تقم لهم بحمد الله عز وجل قائمة في عهده وإلى سنوات طويلة بعده رحمة الله عليه، وسيأتي لنا آثار ذلك جلية واضحة، ثم ماذا؟ كان من أشهر أعمال صلاح الدين رحمة الله عليه أنه رأى في الأمة انحرافات سلوكية كثيرة، كانت الخمور والخمارات والفساد والانحراف مستشرياً يضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله عز وجل، وارتفاع رحمته، وبعد نصره سبحانه وتعالى الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحوانيت، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه للعدو والسهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي التي ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن آثارها الوخيمة ليست على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الأمة والكون كله، وقد ذكر كلاماً عجيباً، لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه.
طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي، وكانت معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر.
ثم كانت هناك جهالات خاطئة، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك شطحات صوفية، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول وغير ذلك من الأمور، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة وتربطها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربطها بعلمائها وقادتها، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية، وبنى المدارس التي كثير منها في بلاد الشام ومصر يعود إنشاؤه أو إحياؤه لـ صلاح الدين رحمة الله عليه، كالمدرسة الأشرفية والصالحية والعادلية وغيرها، فكثير منها قوي أثرها في عهد صلاح الدين، فنشر علم الكتاب والسنة، وربط الأمة بسلفها وبعلمائها، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه.
ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة، حيث كان المسلمون إمارات مختلفة، وبعضها متنازعة، وبعضها متناحرة، فسعى إلى ضم بعضها إلى بعض، فضم مصر إلى الشام، ثم أرسل أخاه إلى اليمن، وأخذ اليمن معه، ثم جمع كثيراً من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، واجتمعت الكلمة عليه، وانضوى تحته الأمراء والقادة، فقدمت الأمة حينئذ أسباب النصر: صلة بالله عز وجل، وتحققاً بصدق الارتباط به، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى، ثم ارتباط بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علماً ونشراً ودعوةً، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين.
ولعلنا أيضاً نقف مع ومضات تاريخية نرى فيها هذه الصورة، كيف اجتمعت لـ صلاح الدين؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت، بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها؟ الملك المظفر كان ملك حماة، وبنى النصارى حصناً إلى جوار دمشق، وبدأوا يناوشونه ويؤذونه، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن، فقالوا: نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بنائه، فدفع لهم مائة ألف، فطمعوا وزادوا، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره.
إذاً: كان صلاح الدين مرجعاً لأولئك، فاستشاره في هذا الأمر، فماذا قال له صلاح الدين حتى نرى تأثيره رحمة الله عليه؟ يقول: إن هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله تعالى سيسألك عن إعطائهم هذا المال، كيف تعطي أعداء الله عز وجل المال وأنت قادر على المسير إليهم، والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد، وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله، فأعد العدة لذلك، وسر بعساكرك إليهم، والله تعالى في معونتك ونصرك.
ثم يصور لنا صلاح الدين وقد كاتب الأمراء والقواد ليحتشدوا لهذه المعركة (حطين)، فيقول في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة (579هـ): وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم -أي: يستعدوا لنستدعيهم- وأن يحزموا في جميع العساكر أوامرهم لأمرائهم.
فماذا كانت النتيجة؟ يقول: فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء، ويعشق -ولا عشق لقاء الأحبة- لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة.
إذاً: قد سرت في الأمة روح جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها؛ لأن سقوط بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هدت قواهم، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق، وجاءوا في صورة مرهقة وكانوا متعبين، ولكن وجدوا من هم أتعب منهم، وأضعف منهم، فانتصروا عليهم تماماً، مثل الجدار المتداعي المتصدع إذا وضعت يدك عليه سقط، وليس ذلك من قوة يدك، ولكنه من ضعف ذلك الجدار، وما انتُصر على أمة الإسلام يوماً إلا لضعفها لا لقوة أعدائها مطلقاً، فهنا ذكر لنا صلاح الدين هذه الصورة في استجابة الأمة.(82/5)
دور صلاح الدين والعلماء في تحرير بيت المقدس
ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين لما جعل لهم مكانتهم البارزة، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة، كتب القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يقول له: لأن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته -العالم يقول للقائد والأمير- والمعاصي في كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية.
يعني: لابد أولاً أن تصلح هذا الجانب، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة.
ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، ثم يقول له: ولا نغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلاناً، فكل هذه مشاغل، وليس بها النصر، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه، وأستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل.
هذه هي القيادة العلمية الراشدة الموجهة التي تكشف الخلل وتبين الخطأ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما بين الأمة وخالقها سبحانه وتعالى.
ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت، المسلمون في عكا حوصروا حصاراً شديداً، لكن ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم، وكانوا يستنجدون بـ صلاح الدين ليفك عنهم الحصار، فكتبوا إليه يقولون له: إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء، فانظروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا، ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون يقولون لـ صلاح الدين: فهذه عزائمنا، وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له، فأما نحن فقد فات أمرنا، نحن قد بعنا أنفسنا لله، وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداًَ.
ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين، وترابطهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، من ذلك ما تشير إليه أيضاً وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان، فأراد هذا الملك أن يكتب صلحاً مع صلاح الدين قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده، فكتب كتاباً فيه أنه إذا لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا فإنه سيضطر أن يشتي في هذه البلاد، وإذا أدركه الشتاء فلن يستطيع أن يتحرك وينتقل، فماذا كتب له صلاح الدين؟ كتب له كلاماً جميلاً ونفيساً، يقول: أما النزول عن عسقلان -يعني: ترك الحصار- فلا سبيل إليه، وأما تشتيته -يعني: بقاؤه وجنده في هذه البلاد في الشتاء- فلابد منه؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام إن شاء الله، -يعني: إن ذهب وإن بقي- سيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل، ثم يقول: وإذا سهل عليه أن يشتي هنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل علي -يقول صلاح الدين - أن أشتي وأصيف وأنا وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله سبحانه وتعالى نصره.
هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت.
ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا ولا بغوا ولا جحدوا نعمة الله عز وجل، ولا فسقوا ولا فجروا، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون، وبأي شيء فرحوا، لم يفرحوا بالأموال، ولا بالبلاد، ولا بالديار، وإنما فرحوا بنصرة دين الله، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث، فكتب القاضي الفاضل من مصر يهنئ صلاح الدين بحطين، ويخبره عن أهل مصر فيقول: والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها؛ شكراً لله عز وجل، وكلما فكر -يعني: يقول هو عن نفسه- الخادم أن البيع -يعني: الكنائس- تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة يقال فيه: إنه الإله الواحد، يعني: لا أعظم عندي من هذا الفرح، ولا أجمل منه، ولذلك لما كتب صلاح الدين يبشر أخاه بالنصر، قال له: وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه، وزال ناموس ناقوسه -زالت النصرانية- وبطل بنفس النصر قياس قسيسه، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن، ورواية الحديث وذكر الدروس، وحديث هدي الهدى، وزارها شهر رمضان مضيفاً لها نهارها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح.
وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في يوم جمعة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره، قال مخاطباً صلاح الدين: جددتم الإسلام أيام القادسية، والملامح اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ثم قال لهم: فاقدروا هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة.
إذاً: رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها.(82/6)
بغداد وما حصل فيها من هزائم وانتصارات
الموقف الثاني: سقوط بغداد أكثر تأثيراً وأبلغ وأعمق في تجلية صورة الهزيمة والنصر، ذكر ابن كثير هذه الحوادث في شهر محرم من عام (656هـ)، والحقيقة أن نص ابن كثير يغني عن كل تعليق، وكل ما نذكره هنا في هذه الوقائع ينبغي أن نربطه بواقع الأمة، ولا يحتاج ذلك لا إلى تعليق، ولا إلى تفصيل، بل إن الناظر يرى ذلك أمام عينيه، ويسمع أحداث ما يقع للمسلمين بأذنيه، فلا يكاد يخطئ شيئاً من ذلك أبداً، والتاريخ -كما يقولون- يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة؛ لأن الأمر مرتبط بسنة الله عز وجل قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].(82/7)
أسباب سقوط بغداد على يد التتار
يقول ابن كثير في وصف تلك الوقعة: جاء التتار إلى بغداد، وجاءت إليه أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة، ومعه أميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله! أول بلاء أن يكون من المسلمين من ينصر أعداء الدين على إخوانه المسلمين، وهذه البلية التي ما يزال المسلمون مبتلون بها في هذا العصر، فترى بعضهم يحالف أعداء الله ضد إخوانه من المسلمين ومن أولياء الله، قال: جاءت إليهم أمداد صاحب الموصل تقدم فروض الولاء والطاعة، وتقدم المعونة والنصرة لهم، فهذا أعظم بلاء وأعظم سبب من أسباب الهزيمة، ثم قال: وأحاطت التتار بدار الخلافة- يعني: قد دخلوا إلى بغداد- يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حضاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً -قبل ذلك لم يكن يعلم من أمره شيئاً- وأحضر السهم الذي رميت به الجارية بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم.
فأمر الخليفة عند ذلك بالاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة.
يعني: أنهم دخلوا البلد ووصلوا إلى دار الخلافة، والخليفة في مجلسه والجارية ترقص بين يديه، فلما جاءها السهم وقتلت فزع فزعاً شديداً، وأمر بالاحتياط والتحرز، وهذه يبين لنا أن هذا الداء من أعظم أسباب البلاء في الأمة المسلمة وكما يقول الشاعر: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص فعندما يكون الذي ينتظر منه الجد والتحفظ والتيقظ، والأخذ بأسباب مصالح المسلمين، ورفع رايتهم، وتحقيق أسباب عزتهم لاهياً ساهياً غافلاً نائماً لا يدري عن أمره شيئاً، فهذه صورة مفزعة، وبمجرد أن يتأمل فيها الإنسان يحكم عليهم بالهزيمة وهو مغمض العينين من غير تفكير.
يقول ابن كثير رحمة الله عليه في وصفه لخليفة الوقت في ترجمته: ولكن كان فيه لين، وعدم يقظة، ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعها إياه الناصر داود بن المعظم، كان قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير.
ولعل سائلاً أن يسأل أين الجيوش؟ كيف دخل التتار ووصلوا إلى دار الخلافة؟ فهذا جواب ابن كثير رحمة الله عليه يقول: وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش قد صرفوا عن إقطاعاتهم- الأجور والرواتب- حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لحالهم، ويحزنون على الإسلام وأهله.
هذا حال الجيش الذي كان في ذلك الوقت؛ لأن الخليفة لم يكن متفرغاً لتقوية الأمة، ولا لإعداد الجيش، ولا لتحقيق قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، ولا لتحقيق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) فكانت هذه جيوش بغداد، الجنود يستعطون ويطلبون العطايا من الناس في الأسواق وأبواب المساجد، فهؤلاء العشرة آلالاف البقية الباقية، إذاً: ضاعت الأمة عندما ضاعت قوتها وهيبتها وشوكتها.
لماذا كان جيش بغداد على هذه الصورة؟ هذا هو السبب الرابع وهو السبب الخطير الذي يسميه الناس اليوم: الطابور الخامس الذي يعمل في الأمة أكثر مما يحتاج الأعداء، ومما يأملون ويتوقعون.
قال ابن كثير: وكل ذلك عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي.
كان وزير الخليفة رافضياً شيعياً خبيثاً متمالئاً مع الأعداء، فهو الذي فعل هذه الأفاعيل، يقول ابن كثير: حصل هناك نزاع بين أهل السنة والشيعة نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك.
فكان هذا مما أهاجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ أن بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات؛ ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو هذا الرجل، وماذا كان قد صنع من قبل؟ قال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط أسمائهم من الديوان، فكانت العساكر في أيام المستنصر قريباً من مائة ألف.
وجاء التتار وهم عشرة آلاف من المتسولين! بسبب هذا الوزير الخبيث، قال: فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل ذلك عليهم، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال.
وهذا هو الداء الدوي الذي ينخر في جسم الأمة اليوم عندما يكون في صفوفها أصحاب العقائد المنحرفة التي تسعى جاهدة إلى أن تدمر الأمة، وفي قلوبها من الحقد والضغينة أعظم مما في قلوب الأعداء، وهم أكثر عوناً للأعداء وإخلاصاً من بني جلدتهم -أي: من الأعداء أنفسهم- وهذا هو الذي ذكره ابن كثير رحمة الله عليه.
وسبب خامس يذكره لنا تتمة لهذا السبب قال: لما ذهب الخليفة ليقابل هولاكو ومعه هذا الوزير الرافضي, ومعه أيضاً خادمه نصير الدين الطوسي، وكان هذا نصير الدين الطوسي عند هولاكو، وقد استصحبه عندما فتح بعض قلاع المسلمين.
وكان نصير الدين ممن ينسبون إلى المستنصر العبيدي، ويريدون أن يجددوا الدولة العبيدية التي أزالها صلاح الدين بجهاده الذي أشرنا إليه، قال ابن كثير رحمة الله عليه: وكانوا يريدون إبطال السنة، وإقامة الرفض، وإقامة خليفة من العبيديين، ولكن الله سبحانه وتعالى ما أمهلهم حتى مات هذا الوزير الرافضي في العام نفسه، ثم لحقه ابنه بعده بستة أشهر! ثم يقول ابن كثير: ولم ينج أحد من الناس سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ممن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي.
إذاً: كانوا صفوفاً وطوابير خامسة، ويمالئون الأعداء، ولذلك لم يصبهم ضرر، هؤلاء الذين يظهرون لنا أنهم أولياء وأحباء، لا يؤمن غير المسلم على أمة الإسلام أبداً، لا في دينها وعقيدتها، ولا في مقدراتها وثرواتها، ولا في أوضاعها وأحوالها وأخلاقها مطلقاً، وهذا التاريخ هو الذي يحدثنا بذلك حديثاً شافياً واضحاً.
ثم وصف ابن كثير رحمة الله عليه ما وقع من الهول الشديد، حيث كان الناس يقتلون ويبادون، أربعون يوماً والسيف يعمل في أهل بغداد، وكانوا يهربون إلى الأسطحة فيقتلونهم في الأسطحة حتى سالت ميازيب بغداد من دماء المسلمين! قال رحمة الله عليه: عدة من مات من المسلمين: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف -يعني: مليون- وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف.
وهذا يدل على عظيم الهول.(82/8)
معركة عين جالوت وما أحرزته من نصر عظيم
بعد سنتين نعود إلى جولة أخرى وهي جولة عين جالوت، وعندما نتأمل سنجد ومضات النصر ظاهرة أيضاً، فهنا المظفر قطز أجرى الله على يديه هذا النصر، ماذا كان من حاله؟ سمع بأمر التتار، وأخذهم لبلاد الشام، وأنهم يريدون أن يتوجهوا إلى مصر فماذا صنع؟ ما انتظرهم ولكن توجه إليهم بجيوشه، قال ابن كثير: وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام، يعني: اجتمعت الكلمة من بعض القواد والأمراء المسلمين، ووصف هذا الملك بأنه كان شجاعاً وصالحاً، قال ابن كثير: لا يتعاطى شيئاً مما كان يتعاطاه الملوك والأمراء في ذلك الزمان، أي: من المعاصي والمفاسد.
فاجتمع هو والتتار في عين جالوت في الجمعة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فكانت النصرة -ولله الحمد- للإسلام وأهله، فهزموا التتار المنتصرين قبل سنتين في بغداد، والذين فعلوا تلك الأفاعيل، فهزموا، وتتبعتهم جيوش المسلمين حتى بلغوا دمشق، ثم تبعوهم إلى حلب، وهم يفرون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوزت عشرات الآلاف، إلى ما يقرب من مئات الآلاف.
هذا النصر يدل على مثل هذه الصورة عندما تهيأت بعض أسباب النصر، قال: وقتلت العامة في ذلك الوقت في وسط الجامع شيخاً رافضياً مصانعاً للتتار على أموال المسلمين.
وهكذا وطهروا ذلك المجتمع من مثل هذه الانحرافات.
ثم قال ابن كثير في وصف قطز: وكان شجاعاً بطلاً، كثير الخير، ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيراً، قال: ولما كان في القتال قتلت فرسه، فظل يقاتل وهو واقف ينتظر الإمداد، فجاء بعض الأمراء ليعطونه فرساً بديلاً عنه، فرفض ذلك وظل يقاتل، قالوا: لماذا لم تقبل ونحن نريد ألا تهزم فينهزم بك الإسلام والمسلمون؟ فقال: أما أنا لو قتلت فكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه.
هذه المواقف تبين لنا ملامح الهزائم وأسبابها كما تبين لنا ومضات الانتصارات وأسبابها.
إذاً: أيها الإخوة! المقصد هو أننا عندما نرى نصراً فإننا ينبغي لنا أن ننظر إلى ما قبله، ونرى صورة الأمة وأحوالها في ذلك الوقت، وكذلك أمر الهزيمة، فإن مثل هذه الصور تبين لنا أن سبب الهزيمة التي تقع على المسلمين اليوم إنما هو بمثل هذه الأسباب التي ذكرت من ضعف قوتها العسكرية، ومن غياب القيام بالواجب من قياداتها السياسية، ومن وجود التفرقة والاختلافات والمنازعات فيما بينها، وكذلك في إعلانها للمعاصي ومجاهرتها بها، وإعلانها الحرب على الله سبحانه وتعالى بما تجهر به من معاصي، وهذا هو الذي ينبغي أن نفقهه وأن نفطن إليه، وأن نعرف توجه أعداء الأمة لترسيخ هذه المعاني والمعالم في حياة الأمة.(82/9)
أسباب الهزيمة الموجودة في الأمة
التغيير والنصر يأتي متأخراً، وحديثنا كان يقدم الهزائم على الانتصارات؛ لأننا إلى حد ما في ظلال الهزائم، والانتصارات هي الأمل المفتقد بإذن الله عز وجل، وقد بدت بشائره وتبدو هنا وهناك في عودة الأمة إلى دينها، ورجوعها إلى ربها، واعتزازها بشخصيتها وإسلامها وإيمانها وولائها لله، وبراءتها من أعداء الله سبحانه وتعالى، وأخذها بأسباب الوحدة والألفة والاجتماع، ونبذها لأسباب الفرقة، وإن كانت هذه الصور ما تزال جزئياً هنا وهناك باقية، ويسعى أعداء الله عز وجل إلى إطالة أمدها، وإلى تعميق آثارها، وإلى توسعة دائرتها حتى لا تقوم للمسلمين قائمة؛ ولذلك أكثر ما يبتلى به المسلمون الشقاق والنزاع، وأكثر ما يسلط عليهم ليفتنوا هو الفساد والانحراف؛ ولذلك أريد أن أوجز الحديث لأختم هذا اللقاء فيما يتعلق بتكريس أسباب الهزيمة في الأمة.(82/10)
أسباب الهزيمة في مجال السياسة
هناك أوضاع ومجالات تكرس أسباب الهزيمة في الأمة، والحديث عنها الأصل فيه أن يطول، لكن الإشارة إن شاء الله تغني عن الإفاضة والتوسع، وهي مجالات كثيرة سلط أعداء الله عليها الجهود؛ لتبقى في الأمة أسباب الهزيمة والضعف، وذلك في مجالات ثلاثة رئيسة ومهمة، ربما تكون هي أبرز وأظهر هذه المجالات.
أولها: في المجال السياسي، وذلك بزرع الفرقة بين المسلمين على مستوى دولهم، وتقطيع أوصالهم، وإثارة النزاعات العرقية، والخلافات الحدودية، وغير ذلك من هذه الأسباب.
ثانياً: تنحية شرع الله عز وجل في كثير من بلاد المسلمين، وتغييبه عن واقع الحياة.
ثالثاًًً: الموالاة لأعداء الله عز وجل، والسير في فلكهم، والتحقيق لأطماعهم في بلاد المسلمين، والموافقة لهم في مخططاتهم، والسير وراءهم فيما يخططون ويدبرون من كيد وتدمير وهدم لبلاد المسلمين، وكذلك أيضاً في صور أخرى متعددة يطول ذكرها.(82/11)
أسباب الهزيمة في مجال التعليم
المجال الثاني: مجال التعليم الذي يصبغ الأمة بصبغات شتى، بحسب ما يوجه ويصب في أذهان أبناء الأمة المسلمة في شرق الأرض وغربها، فإذا بنا نجد مظاهر منها: الفصل بين التعليم الديني والمدني كما يسمى.
التضييق على التعليم الإسلامي.
تغيير المناهج وإبعادها عن الروح الإسلامية، وربط الأمة بدينها وبتاريخها، وذلك ظاهر في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين، حتى إن كل توجه يصبغ أول ما يصبغ الأمة عبر مناهج التعليم؛ ولذلك نجد هذه الصورة واضحة حتى أن بعض البلاد اختزلت تاريخ الأمة المسلمة اختزالاً مشيناً، فنجد أن حظ تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتجاوز سبعة أسطر، وحظ تاريخ عثمان رضي الله عنه الطويل المديد لم يتجاوز خمسة أسطر في مناهج بعض البلاد العربية الإسلامية، وهكذا يسلط على الأمة في هذا المجال والميدان كثير من الأدواء والانحرافات التي تعمق هذا الجانب، وتغير الأفكار، وتشتت الأذهان، وتقطع الأمة عن تاريخها، والمجالات في ذلك كثيرة، حتى إن التعليم الإسلامي يجعل له منزلة أدنى من غيره، كما يعلم الجميع أن بعض البلاد لا تدخل المواد الدينية في النجاح والرسوب، يرسب الطالب أو ينجح في المواد الدينية فليست هناك مشكلة، أو لا تدخل في معدلات النسب والتقديرات من الامتياز وغيره، إضافة إلى اغتيال وإضعاف منابر التعليم الإسلامي ذات الأثر والتاريخ العريق، وتفريغها من مضمونها ومحتواها، وتحويرها وتحويلها إلى صور لا حقيقة لها أو إلى مظاهر لا باطن لها.(82/12)
أسباب الهزيمة في مجال الإعلام
أخيراً المجال الخطير: وهو مجال الإعلام الذي يغير في الأمة، ويرسخ فيها كثيراً من مجالات الانحراف والأخطاء العقدية والسلوكية والفكرية، ويظهر ذلك من صور شتى كثيرة، أبرزها وأهمها: وجود التناقض بين الحكم والواقع، فبينما يأتي البرنامج الذي يسمى برنامجاً دينياً وينشر فيه أن حكم الغناء الحرمة، وحكم الرقص الحرمة، ثم بعده يأتي هذا الغناء وهذا الرقص! فيشعر الناس بالتناقض أو أن يقبلوا هذين، على أن كلاً منهما له حكمه كما يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو أن يضطرب الناس فيظنون الحلال حراماً، والحرام حلالاً، إضافة إلى ما يسلط على الأفكار والمعتقدات من انحرافات، فضلاً عما يفتك بالمسلمين من قضايا الانحراف السلوكي عبر الخلاعة والمجون وغير ذلك.
ثم أمر مهم وخطير وهو: تعظيم الأجنبي غير المسلم، وإعطاؤه صورة من الحضارة والعلو والرفعة، حتى إنه لا يظهر إلا بصورة الممجد المعظم، بينما غيره من المسلمين لا يعطى مثل هذه الصورة.
وأيضاً: تسليط الأضواء في مجتمعات المسلمين ليس على الأخيار، ولا على الأبرار، ولا على الدعاة العاملين، ولا على العلماء المخلصين، وإنما تسلط الأضواء على من تاريخهم يشهد بخيانتهم للأمة، وانحرافهم عن نهج الله عز وجل، وإن كانوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، فهذه المجالات كلها تكرس أسباب الهزيمة وصورها في واقع المجتمعات؛ ولذلك البشائر التي تبدو في الأفق من هذه الصحوة الإسلامية ينبغي أن تعلم أن البداية هي في علاج هذه الانحرافات والأخطاء، وفي وقف سير الأضرار التي تجرف المجتمعات المسلمة من جراء هذه الميادين والمجالات، وأيضاً أن تعلو بإذن الله عز وجل راية الحق والجهاد.
وقد ظهر للمسلمين عياناً أن الأمة إذا ارتبطت بدينها، ورفعت شعار التوحيد، وأرادت أن تقاتل وتحارب، وأن تواجه أعداءها باسم الله، راجية من الله عز وجل أن يحقق لها النصر كما ظهرت صور ذلك أيضاً في كثير من المواطن والبلاد الإسلامية هنا وهناك.(82/13)
الأسئلة(82/14)
حكم من قال: لو ذهب بوش من الرئاسة فإنه لن يذهب من قلوبنا
السؤال
ما رأيك في قول أحد الصحفيين الكويتيين: لو ذهب بوش من منصب الرئاسة فإنه لم ولن يذهب من قلوبنا؟
الجواب
يعني: من قلبه هو وأمثاله، أما قلوب المسلمين والمؤمنين فلم يدخل إليها حب غير أولياء الله عز وجل حتى يخرج منها، وهذا لا شك أن مثل هذه الصور هي التي تعبر لنا عن صور الهزيمة النفسية التي هي مقدمة الهزيمة العسكرية والمادية.(82/15)
حكم الخلاف والتشهير بأخطاء العلماء
السؤال
ما تعليقكم على وجود بعض الدعاة الذين يشككون بتوجهات مشاهير الدعاة المخلصين؟ وما دور هذا في تفريق كلمة الأمة؟
الجواب
كل ما هو من أسباب الفرقة والنزاع ينبغي ألا يذاع ولا يشاع، وألا يكون من أبناء الأمة من يفت في عضدها، نعم هناك قضايا، وهناك أمور واجتهادات، لكن لا ينبغي أن تكون سبيلاً للتفرقة، وأذكر هنا نقطة؛ لأن هذا الموضوع أظنه يكثر الحديث عنه: مسألة الألفة والمحبة والائتلاف والاجتماع هي أساس التعاون والتناصح، والسعي والأخذ بأسباب نصرة الأمة، وتحقيق نشر الدعوة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا لم توجد الأولى لم توجد الثانية، وإذا تأمل الإنسان في تاريخ الأمة، وأنا أوصي الإخوة جميعاً أن يكثروا من قراءة التاريخ؛ لأن القراءة في التاريخ تفيد في الوعي، وتقوي أيضاً الإيمان؛ لأنه يرى الإنسان مصارع الكفر والبغي، وكيف تدور الدائرة على الكافرين، وكيف تقع الهزيمة بالمسلمين إذا تخلوا عن أمر الله عز وجل إلى غير ذلك.
أقول: هناك أمور ثلاثة هي التي يختلف فيها الناس إما على الإمارة والسلطة، وإما في مجال الحكم والتشريع والاجتهاد فيه، وإما في مجال وسائل العمل والدعوة، ولو تأملنا في تاريخ الأمة فإننا نجد أن القدوات كانوا يعرفون ما يقع فيه الاختلاف السائغ والاجتهاد المشروع، فلا يجعلونه سبباً للنزاع، وكان عندهم أمر مهم جداً هو الذي ينبغي أن نفتش عنه بأنفسنا وهو: صدق التوجه لله عز وجل والإخلاص له، وصدق النصح للمسلمين، وإرادة المصلحة العامة، وألا يؤثر في نفوسنا بعض الأهواء أو الانتصار للنفس أو النظر إلى مكاسب شخصية أو غير ذلك، عندما عهد عمر رضي الله عنه إلى الستة من العشرة المبشرين بالجنة بالخلافة وقال: أنتم ستة اختاروا من بينكم من يكون خليفة للمسلمين، لو قلنا الآن لستة: اختاروا من بينكم من يكون مسئولاً عن هذه الطاولة لاختلفوا، فكيف وهؤلاء يريدون أن يكون أحدهم خليفة للمسلمين؟! ماذا صنع عبد الرحمن بن عوف؟! وانظروا ذلك في سير أعلام النبلاء في ترجمته، خرج من بينهم وقال: اجعلوا الأمر لي فيمن يلي منكم، وليست لي يعني قال: أنا لا أريد الخلافة وليست لي، ولا أتعلق بها، لكن اجعلوني أنا الذي أختار من بينكم، إذاً: خرج هو من حب السلطة أو الميل إليها، وراقب الله عز وجل وأخلص له، ونظر في مصلحة الأمة، ولم يلتفت إلى هذا.
وعند الاجتهاد في الأحكام الفقهية قد اختلف العلماء والأئمة المعتبرون، وما كان اختلافهم ليؤدي إلى فرقة، وفي التراجم كثير من هذا الباب، فالإمام أحمد كان يدعو للشافعي، فحين يسأله ابنه عنه يقول: يا بني! الشافعي للناس كالشمس للدنيا، والعافية للأبدان، فانظر هل لهما من بدل أو عنهما من عوض؟! وهو بينه وبينه اختلاف في مسائل لا تعد ولا تحصى.
ويقول الشافعي: خرجت من بغداد ما خلفت فيها أورع ولا أعبد ولا أزهد ولا أعلم من أحمد بن حنبل.
وفي ترجمة الشافعي في سير أعلام النبلاء أنه تناظر هو ويونس الصدفي في مسألة حتى علت أصواتهما، وافترقا، فلما لقيه من قابل أخذ الشافعي بيد يونس وقال له: يا أخي! ألا يصح أن نختلف ونأتلف؟! يعني: نختلف في مسائل الاجتهادات، ونأتلف في القلوب ووحدة الأمة، بدلاً أن نفرق الصفوف، فعلق الذهبي على ذلك تعليقاً جميلاً، وأثنى على الشافعي بهذا الفقه، وهذا النفس النفيس.
وهذا بابه يطول كثيراً، وفي وسائل الدعوة والعمل للإسلام أيضاً يختلف الناس في آرائهم وفي تصوراتهم؛ لما قد يكون أولاً، وما قد يكون آخراً، والوسيلة مشروعة والأمر يعود إلى خير، ولا يمنع ذلك من بذل النصح، ومن التناظر والتشاور، فإن الإنسان القاصر بالحق يرجع إلى الأولى وإلى الأحق، ولذلك الإمام أحمد رحمة الله عليه في فتنة خلق القرآن كان موقفه معروفاً مشهوداً، وكان موقف الإمام أحمد بن نصر الخزاعي أيضاً معروفاً مشهوداً، فقد رأى أن هذه الفتنة عميقة وطويلة، فرأى أنه لا بد من مواجهتها بعمل علمي دعوي، فاختفى ومعه بعض تلاميذه يعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، ويبين لهم خطأ هذه العقيدة التي تزعمها المأمون في ذلك الوقت، وبلغ اختفاؤه خمسة وعشرين عاماً، ذكر الذهبي والخطيب البغدادي أيضاً في تاريخه أنه بلغ عنده عدداً كبيراً ممن عرفوا هذا المنهج الصحيح، وأنكروا هذا الخطأ، حتى كان له أمراء بالرصافة وبالكرك، وكادوا يثبون على الخلافة ليغيروا هذا الخلل تغييراً صحيحاً جذرياً، فبلغ أمرهم إلى الخليفة فقتل أحمد بن نصر الخزاعي وصلب جسمه في بغداد ورأسه في سر من رأى.
ولما كان يذكر أحمد بن نصر رحمة الله عليه عند الإمام أحمد كان يثني عليه ويمدحه، ويقول: ذلك رجل جاد بروحه في سبيل الله، وإن كان هذا رأى أسلوباً في مواجهة هذا الأمر، وذاك رأى رأياً آخر، لكن الكل كان ينافح عن دين الله، ويبغي مصلحة عباد الله عز وجل، وينصح لدين الله سبحانه وتعالى.(82/16)
الانتقام من صلاح الدين الأيوبي
السؤال
ألا تعتقد أن الحرب على إخواننا الأكراد وتفتيتهم شيعاً بواسطة البعثيين والغربيين وغيرهم إنما هو انتقام من صلاح الدين؟
الجواب
انتقام من صلاح الدين ومن المسلمين، وكل معلم إسلامي؛ لأن صلاح الدين كردي مسلم، وكرديته ما اشتهرت، ولكن إسلامه هو الذي اشتهر، وما كان يفتخر بكرديته، ولا نشر كرديته، ولكنه افتخر بالإسلام، والتزمه، ورفع رايته، فكتب الله على يديه النصر.
عندما دخل الجنرال غورو الفرنسي إلى دمشق في عهد الحروب الصليبية ذهب إلى قبر صلاح الدين وقال: يا صلاح الدين! ها قد عدنا، وهكذا الحروب الصليبية في البوسنة والهرسك، وفي الأندلس وفلسطين، وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن التاريخ يعيد نفسه، وقد عقدت مرة مقارنة بين أوضاع وأحوال المسلمين في البوسنة والهرسك، وبين ما كانت عليه أحوال المسلمين في الأندلس مقارنة متتابعة كاملة، واستشهدت فيها بأشعار الأندلسيين على أحداث اليوم، فكانت مطابقة بالكامل، واستشهدت ببعض قصائد وأشعار وأقوال المعاصرين اليوم، ووصفت بها أحداث الأندلس فلم تخطئها مطلقاً، وهذا موضوع محاضرة كاملة بعنوان (ما أشبه الليلة بالبارحة).
وقارنت أيضاً مرة بين أحداث فلسطين وبين أحداث البوسنة والهرسك، ومرة بين أحداث كشمير وبين أحداث أفغانستان؛ لأن التاريخ يعتمد على قضايا هي التي تسمى السنن الاجتماعية التي لا تتبدل ولا تتغير، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل والعقائد والأديان واضحة، وهذه كلها موضوعات مستقلة كل منها ألقي في محاضرة كاملة، ودرس مستقل، فيه هذه المقارنات بالشواهد التاريخية، والأقوال التي يذكرها مثل هذا السائل جزاه الله خيراً، مثل أن القوميين العرب وغيرهم من بعثيين قاتلوا في خندق واحد مع الصليبيين، فمن ترك دين الله فلا تسأل عنه بعد ذلك، فإنه يمكن أن يقع منه أي شيء.(82/17)
صنفان من الناس تصلح الأمة بصلاحهم
السؤال
من أهم أسباب التخلف في حياة المسلمين؟
الجواب
قال العلماء: صنفان من الأمة بصلاحهم يصلح الناس، وبفسادهم يفسد الناس: الأمراء والعلماء؛ ولذلك هذه المسألة من أهم مسائل المجتمعات كلها، ومعلوم أن الناس يتأثرون بمن يكون منصوباً للقدوة أمامهم؛ ولذلك لا بد أن يكون هذا الأمر، ومن فقه الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه كان يدعو دائماً لولي الأمر، وأن يصلح الله سبحانه وتعالى الخليفة، وأن يعيده إلى الله وإلى منهج الحق؛ لأنه بهذا الصلاح يعود أو يقع خير كثير، وهكذا كان أهل الإيمان يقومون بالواجب والدعوة والإصلاح والتغيير، وكذلك لا يغفلون عن الدعاء، ونحن أيضاً ينبغي ألا نغفل عن الدعاء.(82/18)
ترك اليأس والعمل بجدية لهذا الدين
السؤال
ألا ترى أننا مخطئون في نظرتنا التفاؤلية لحال المسلمين الآن مع هذه الفتن، فإنه مع هذه الرجعة الطيبة إلا أنك تكاد تجزم أنه لا يثبت في الصعاب إلا قليلون؟
الجواب
أقول تفاءلوا بالخير تجدوه، وأقول: إن في الأمة نبضاً جديداً قد سرى، وفيما يظهر وفيما يستقرئ الإنسان من التاريخ أن هذا النبض سيتنامى ويزداد بإذن الله عز وجل، مهما كثرت الصعوبات والظروف، ولكن ما قدر الله عز وجل من تغير الأحوال لن يتغير في غمضة عين وانتباهتها، ولا بين ليلة وأخرى، وفي الأمة من الأمراض والأدواء، وفيها من أسباب الفتنة والبلاء شيء كثير، لكن البداية تبشر بخير، وكما يقولون: طريق الألف ميل يبدأ بالخطوة، فلا تيأسوا من روح الله عز وجل، والإنسان مطالب بالعمل، والثمرة من الله سبحانه وتعالى.(82/19)
رؤية في كتاب التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر
السؤال
ما رأيكم في التاريخ الإسلامي لـ محمود شاكر؟ وما هي أبرز الملاحظات عليه؟ وهل الوثائق فيه محققة؟
الجواب
ليس عندي فيه كبير تفصيل حتى أحكم عليه، لكن فيه مزية جمع وإيجاز لهذا التاريخ، وتجميع لكثير من مشاهده، أيضاً مزية أخرى أحسبها له أنه لا يجمع فيه ما يجمعه غيره من المتأخرين الحاقدين من المواقف التي تشوه صورة الإسلام، والروايات التي يقصد بها أصحابها التشويه والغمز واللمز، ومع ذلك لا يخلو أن يكون فيه خطأ؛ لأن روايات التاريخ ينبغي أن نفهم أنها ليست مثل الروايات الحديثية، وأن فيها أموراً من الضعف وعدم التحري الذي يكون في روايات الحديث، وهناك من حرروا بعض المواقف واجتهدوا فيها، مثل محمد صادق عرجون في كتابه عن خالد بن الوليد وعن عثمان بن عفان، وفي كتابه عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث حاول أن يسلط الضوء على الروايات التاريخية بالتحقيق، وله في ذلك جهد مشكور، وكذلك كتاب العواصم من القواصم الذي سلط الضوء على فترات مهمة وقضايا خطيرة في تاريخ الأمة، وكشف عنها، وكذلك روايات الزبير بن بكار عن مسائل في تاريخ الفتنة التي وقعت في العصر الإسلامي الأول، وينبغي للإنسان ألا يتعجل بالنقد والإسقاط كلية، ولكن أحسب أن الكتاب فيه منفعة خاصة، وأنه جمع كثيراً من التاريخ واختصره وهذبه، بحيث يكون قريباً، وإن كان القارئ للتاريخ سيجد أنه لا غنى له عن بعض التفاصيل والوقائع المهمة، وله كما قلت حسنات، منها أنه يبرز جوانب مضيئة ومشرقة، فمثلاً في كلامه عن الخلفاء الراشدين ذكر في آخر سيرة وتاريخ أبي بكر رثاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر، ومدحه له مدحاً عظيماً، وثناءً عاطراً، كأنه يشير إلى ما كان بين الصحابة من الألفة والتعظيم، خلافاً لمن يريد أن يشكك في ذلك، ويثير بعض الروايات المغرضة هنا وهناك.(82/20)
كتب لابد منها في قراءة التاريخ
السؤال
تاريخنا قد نسي فلم يقرأ، فهلا دللتنا على كتاب نستطيع قراءته، ونفهم التاريخ منه فهماً صحيحاً بعيداً عن آراء الشيعة؟
الجواب
هناك كثير من الكتب التاريخية القديمة ينبغي ألا نغفل عنها، والرواة كانوا يروون كل شيء، وكلما عنده في هذا الباب يرويه، ما صح وما لم يصح، فينبغي للإنسان أن يتفطن ويتنبه، والفترة التي كتب فيها التاريخ في الأول كانت هناك تأثيرات سياسية وعقدية لها أثرها، وأنا أوصي من أراد أن يتوسع بتاريخ ابن كثير، ففيه كلام نفيس، ورغم أنه يسرد أحداثاً لكن له تعليقات وومضات كأنها خلاصات للدروس والعبر من غير أن تشعر، وفيه كثير من الأمور النفيسة، وحبذا من يستخرج منه بعض الأمور ويقربها في كتب صغيرة نافعة، وتاريخ نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي مذكور في كتاب الروضتين لـ أبي شامة الذي ذكر فيه أحوال الدولة الزنكية، والدولة الصلاحية الأيوبية، فإن فيه أيضاً كثيراً من الأمور المهمة والمفيدة.(82/21)
الحلول المخرجة من مأزق الأمة اليوم
السؤال
إذا كان هذا حال الأمة فما هو الحل؟
الجواب
الحل ألا ننام ثم نستيقظ وقد انتهت الأمور، ولا أن نجلس في المساجد وندعو وينتهي الأمر، ولكنها سنة الله عز وجل تحتاج إلى جهد وجهاد، وابتلاء، وصبر ومصابرة، حتى يأذن الله عز وجل بأن يحقق نصره، وأن تتكامل هذه الجهود.
وينبغي أن نعلم أن الأمر يمتد مع الزمن ومع من هنا وهناك في شرق الأرض وغربها من المسلمين في كل مكان، قد يهزم المسلمون في مكان وينتصرون وتقوى شوكتهم في مكان آخر، وهذا من رحمة الله عز وجل، ومن عجائب التاريخ أنه في الوقت الذي كانت تسقط فيه الأندلس كانت جيوش المسلمين العثمانيين تدق أبواب فيينا في أوروبا الشرقية، وفتحت البوسنة والهرسك في ذلك الوقت الذي سقطت فيه الأندلس تماماً! وحقائق التاريخ تشهد بذلك كثيراً، والله سبحانه وتعالى ناصر عباده، ومنجز وعده، والله نسأل أن يختم لهذه الأمة بالنصر والعز والتمكين في قريب الزمان بإذن الله عز وجل.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(82/22)
غزوة أحد مواقف وصور
السيرة النبوية العطرة معين لا ينضب، ونهر لا يجف، وبحر مليء بالفوائد والعبر والدروس، وإن سنة الله عز وجل قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين، وتضحية من أتباعه المخلصين، يسبق ذلك ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.(83/1)
صور من كيد الأعداء للمسلمين
الحمد لله ولي المؤمنين، ناصر الموحدين، كتب العزة لعباده المسلمين، وجعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين.
أوهن كيد الكافرين، وجعل الدائرة على المعتدين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله له عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فهذه وقفات مع كيد الأعداء لأمة الإسلام في العهد النبوي الكريم، نقفها من خلال بعض الأحداث في غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، والسيرة -كما نعلم- معين لا ينضب من الدروس والعبر والحكم والأحكام التي تجلت في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأصحابه، وهديه وإرشاده لأمته، كما تجلت في ذلك الصراع بين الحق والباطل، والكيد من أهل الكفر، وإعمال الفتك والنخر في جسد الأمة الإسلامية من قبل أهل النفاق، وسوف ننظر إلى بعض هذه المواقف لنرى أعداء الداخل والخارج، ليكون لنا بذلك نورٌ يكشف ما يحل بمجتمعات الإسلام اليوم، ولندرك في ضوء هذه القصص التي وقعت في السيرة النبوية وما تنزل في شأنها من الآيات القرآنية ندرك حقيقة أعدائنا ممن هم مزروعين بين صفوفنا، أو مقيمين بالعداء على خطوطنا، أعداء الخارج من أهل الكفر، وأعداء الداخل في داخل مجتمعات المسلمين من أهل النفاق، لننظر إلى هؤلاء وهؤلاء كيف كانت مواقفهم وأفعالهم في غزوة أحد، حتى يكون ذلك معيناً ومبصراً لنا لما نكون فيه وعليه في حياة أمتنا الإسلامية وقد امتدت بها كثير من صور العناء من كيد وإجرام الأعداء.(83/2)
التهييج والتحريض ضد المسلمين
روى ابن هشام وغيره من أصحاب السير بدايات نشوء التوجه لغزو المسلمين من قبل الكافرين في أحد.
قال ابن هشام: مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا.
ففعلوا ذلك.
إنها الدعوة والتحريض، والإثارة والتهييج، وإذكاء نار العداوة في القلوب، وإشعال جمر الغضب على أمة الإسلام، وزرع الخوف من المسلمين لأنهم الخطر الداهم والعدو الغاشم حتى تتوحد الصفوف في العداء نحوهم، وتتوجه القوى المادية والمعنوية بالكيد لهم، هكذا صنع صفوان وعكرمة وغيرهما ممن مَنَّ الله عز وجل عليهم بعد ذلك بالإسلام وصاروا من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة الحية المتحركة تبين لنا كيف يعمل أهل الكفر في صفوفهم ويأزون أصحابهم أزاً، ويدفعونهم دفعاً، ويستخرجون منهم العون والتأييد المادي والمعنوي، فإذا بهم يجوبون الآفاق، كما يقع اليوم في هذه الدنيا التي نرى فيها تكالب أعداء المسلمين على هذه الأمة المستضعفة في شرق الأرض وغربها.
فكم من دور لمثل ما وقع من عكرمة وصفوان وعبد الله بن أبي ربيعة وغيرهم يقع اليوم في التأليب على أمة الإسلام والمسلمين، وعلى مجتمعات المسلمين في كثير من بقاع الإسلام: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، انطلاق، ومشي، وسعي، وحركة، وتأليب، وعرض، وتقليب للحقائق، وتزوير للصورة، وتشويه لأمة الإسلام حتى ينشأ العداء في القلوب، وتتوجه القوى لحرب أمة الإسلام.
قال ابن إسحاق رحمه الله: ففيهم -أي: هؤلاء- كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
هؤلاء قد ذكر الله عز وجل شأنهم بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على تجدد فعلهم وتكرره في كل زمان، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بأية ملة كانت غير ملة الإسلام كفروا بالله عز وجل، وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، (إن الذين كفروا) بهذا الوصف المطلق العام الشامل {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} أي: في كل زمان ومكان وموقف، لماذا؟ {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، ويحولوا بين الناس وبين الإسلام.
ثم يخبر الله عز وجل عن العاقبة التي ينبغي أن نوقن بها، ولكن ينبغي أيضاً أن نعمل لتحقيقها {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}، وكم نرى من إنفاق الأموال وتدبير الخطط، واستغلال العقول والأفكار الخبيثة والمكر والدهاء الخبيث لكي تقع الدائرة على أمة الإسلام والمسلمين؟(83/3)
استغلال كل الطاقات لحرب الإسلام
انظر إلى مواقف أخرى حتى ندرك ما يحل بواقعنا الإسلامي اليوم، فهذا أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي أحد من أسروا في يوم بدر من الكفار، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، رق له قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يفيض رحمة، ونفسه التي تجود كرماً، فمن عليه بالفداء والعتق دون مال ودون شرط، ورده إلى أهل مكة سالماً غانماً من غير ما شيء، فأي شيء فعل هذا الرجل؟ لا شك أن إحسان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في نفسه، ولا شك أن هذه المعاملة الإسلامية العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلت سخيمة قلبه وشحناء نفسه، فجاءه صفوان بن أمية وقال له: يا أبا عزة! إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك.
استغلال لطاقات الكفر كلها، للطاقات الإعلامية والسياسية والقتالية وكل قوة أو قدرة يمكن أن تكون موجهة ضد الإسلام والمسلمين.
إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، واخرج معنا لتكون محارباً بلسانك لا بسنانك، فقال أبو عزة: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مَنَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه.
كان هذا هو الموقف المتوقع من أبي عزة، فقال له صفوان: أعنا بنفسك فلله عليَّ إن رجعت -أي: سالماً- أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.
تأجيج وإغراء وتثبيت لأهل الكفر ليكونوا في مواجهة واحدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين، فهذا رجل واحد لم يتركوه، كان واقفاً على الحياد فأتوا ليحرفوه، كان متردداً فدفعوه، وخامداً فحمسوه وشجعوه، ثم تعهدوا وتكفلوا له بأمور المادة والحياة الدنيوية: (فلله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر) كذا قال صفوان بن أمية رضي الله عنه، وهو في ذلك الوقت على كفره وشركه.
حتى هذا الرجل الواحد الذي ليس عنده من سلاح غير لسانه وشعره دعي إلى ذلك، فلما قيل له ذلك تزعزع عن موقفه، وتحرك ليكون حربة موجهة للإسلام والمسلمين، وليكون قوة تضاف إلى قوة أهل الكفر ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتحرك وانطلق في تهامة يدعو بني كنانة ليكونوا مع قريش ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام.(83/4)
استغلال الإمكانيات الفردية وانتقائها
هناك مواقف أخرى تستغل كل شيء، وكل طاقة، وكل صغير وكبير، لتحشد الحشود، وتجيش الجيوش، وتوجه القوى ضد أمة الإسلام، دعا جبير بن مطعم رضي الله عنه وأرضاه -وكان على كفره وشركه آنذاك- دعا غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي.
يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ، كان رامياً بالحراب شهيراً، وكان عبداً حبشياً حقيراً، وكان كماً مهملاً لا قيمة له، فجاء يستنهضه ويبعث همته ويعلي منزلته، ويعده بمستقبل زاهر ليسدد حربته إلى صدور أهل الإسلام، وليكون مع غيره ممن لهم سبق في عداء أمة الإسلام لينضم إليهم، فقال له: اخرج مع الناس، فإن قتلت حمزة عم محمد صلى الله عليه وسلم بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
أي: يعتقه ويخرجه من الرق إلى الحرية، فخرج وحشي ليست له مهمة إلا قتل حمزة رضي الله عنه، وقتله وحشي رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك من أعظم ما أثر في نفسه حتى هيأ الله له عملاً رأى أنه بإذن الله عز وجل يشفي غليله من ذلك الفعل الذي وقع عندما قتل بحربته مسيلمة الكذاب، ثم كان يقول: قتلت بحربتي هذه خير الناس وقتلت بها شر الناس.
يعني حمزة بن عبد المطلب لما كان وحشي كافراً وحمزة مسلماً، ويعني بعد ذلك مسيلمة الكذاب لما كان وحشي مسلماً مجاهداً ضد مسيلمة وقومه.
فهذا فرد واحد جيء به لتكون له مهمة واحدة وأمر محدد معين، المقصود أن يبلي في حرب الإسلام والمسلمين بلاءه، وأن يتحرك حركته بما يستطيع، وهكذا نرى هذه الصورة التي تدلنا على هذا التجييش والانتقاء للطاقات، ومعرفة كل إمكانية حتى توظف في اتجاهها الصحيح في حرب أمة الإسلام؛ لأن الذين كفروا لا يمكن أن يوادعوا، ولا أن يهادنوا، فضلاً عن أن يحبوا أو أن يناصروا، فضلاً عن أن يعينوا أو أن يوافقوا أمة الإسلام في شيء مطلقاً، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، حقائق القرآن تنطق، وآياته مخلدة إلى قيام الساعة تخبرنا بما علمنا الله عز وجل إياه من حقائق أهل الإيمان والكفر.(83/5)
استخدام النساء لبعث الحمية في القلوب
قال ابن هشام في غزوة أحد: فخرجت قريش بحدها وجدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة.
ليس ذلك فحسب، وإنما كما قال ابن هشام: وخرجوا معهم بالضعن -أي: النساء- خرجوا معهم بالنساء التماس الحفيظة وأن لا يفروا.
حتى يكون وجود نسائهم وأعراضهم مهيجاً لهم على الثبات والقتال، ومانعاً لهم من الفرار والنكوص، وقد رأوا ما رأوا في بدر من قبل ذلك، فأرادوا أن يخرجوا بالنساء ليكملوا تجييش جيوشهم، وليجعلوا كل قواهم في الرجال والنساء والعبيد والأحرار والصغار والكبار موجهة وجهة واحدة في حرب الإسلام والمسلمين، فخرج كبراؤهم بنسائهم، خرج أبو سفيان ومعه هند بنت عتبة، وعكرمة بن أبي جهل خرج بـ أم حكيم بنت الحارث، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بـ فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وكان والدها قد قتل في يوم بدر، وخرج صفوان بن أمية بـ بردة بنت مسعود الثقفية؛ خرج الكبراء بالنساء حتى يجيشوا ويقووا توجههم ضد الإسلام والمسلمين، ولا يكون هناك مجال للتراجع أو التخاذل، فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قام النساء بدورهن في حرب الإسلام والمسلمين، وقامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها على رءوس الرجال يحرضنهم على القتال ويقلن: ويهاً بني عبد الدار ويهاً حماة الأديار ضرباً بكل بتار ويقلن: إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراقاً غير وامق أي: غير محب.
فكن يحرضن على القتال ويؤلبن عليه، وكانت هذه أيضاً صورة من صور تكامل العداء الذي توجه به كفار قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وهي صورة تتكرر وتظهر بهذا التكامل الذي لا يخفى على عين البصير ولا على إدراك العاقل، فإن أمة الإسلام اليوم لا شك أنها تواجه مثل هذه الصور من العداء مع اختلاف وعظمة في الإمكانيات، وكثرة في أولئك الأعداء، وكيد ومكر في التخطيط والدهاء، كثيرة هي الصور التي تشابه في أصلها وتفوق في عظمتها وقوتها وشدتها ما كان عليه كفار قريش في حربهم وعدائهم للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلسنا نرى صورة تتجدد لتلك الحشود التي تحشد ضد الإسلام والمسلمين؟ أولسنا نسمع أبواق الإعلام التي تشوه صورة الإسلام وتتهم أمة الإسلام بالدموية ونحو ذلك؟ أولسنا نرى صور كل فتنة وسبيل من أسباب الكيد والإغراء، وصورة من صور المكر والدهاء وهي تحاك ضد الإسلام والمسلمين؟ وما أمور المسلمين في البوسنة أو كشمير عنا ببعيد، أو في غيرها من بلاد الإسلام، فإن الأمر جد واضح {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وهم على هذا النهج سائرون، وهذه صورة من الصور ومواقف قليلة في غزوة أحد فحسب، فما ظنك بغيرها؟ وما ظنك بحشود كانت قبل ذلك وبعد ذلك؟ وما ظنك بكيد وكيد كان مثله واضحاً بيناً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(83/6)
أثر عمل المنافقين بين صفوف المسلمين
حتى ندرك ما ينبغي أن نستخرجه ونتعلمه من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وندرك الحقائق القرآنية التي تبين أن أهل الكفر قائمون منتظرون لأية فرصة أو غفوة أو هفوة حتى يسددوا سهامهم، ويرموا بنبالهم، وينزلوا كيدهم وغضبهم وحقدهم على أمة الإسلام نتلوا قول الله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]، ينتظرون غفلة أو ثغرة أو ضعفاً، فلا تكن أنت ولا يكن غيرك من أهل الإسلام موضعاً يلج منه أعداء الإسلام ضد المسلمين، وقد أخبر الله عز وجل بحقيقة ما في قلوبهم لما قال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، هذا هو الشأن فيهم، وهذا هو الخبر الصادق القرآني عما في قلوبهم، وهكذا نجد الآيات القرآنية تكشف لنا كثيراً من هذا الذي ثبت وظهر في سيرة وأحداث ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وما كان بين أعدائه في ذلك الوقت.
ولإن كان هؤلاء الكفار هم الصورة الظاهرة للعداء فإن أهل النفاق هم الصورة الخفية المتلونة الشديدة في أثرها من صور العداء؛ لأن أولئك قد باينوا وفارقوا وواجهوا وأظهروا وأعلنوا، أما أهل النفاق فقد اندسوا بين الصفوف وأضمروا غير ما أعلنوا، وهم يطعنون من وراء الظهر كما يقال.
فننظر أيضاً إلى بعض الصور التي جاءت في غزوة أحد، لنرى صورة أكثر أهمية وخطورة فيما يتعلق بالأضرار التي تقع على المسلمين في كل زمان ومكان من أهل النفاق الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حديثه عن بعض صورهم في أحاديث كثيرة، وكان فيما قاله حديث آخر الزمان من حديث حذيفة: (هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، إن أمر النفاق بدأ ونجم بعد غزوة بدر لما علت راية الإسلام، وانتصر حزب الإيمان وحزب الرحمن، حينئذٍ قالوا: لا مناص من أن تدخلوا تحت الراية، وتندرجوا في الصف حتى لا تكونوا مفارقين مخالفين.
فدخلوا في صف الإسلام وهم على الكفر مقيمون، والبغضاء والحقد والكيد في قلوبهم قد انطوت عليه نفوسهم وأضمروه فيها، فماذا كان لما جاءت غزوة أحد؟ كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر أن يبقى في المدينة ويتحصن فيها، حتى إذا غزاها أهل الكفر كان للمسلمين قدرة على صدهم وردهم وإيقاع الهزيمة بهم، ثم كان بعض المسلمين من المتحمسين الذين لم يشهدوا بدراً وأرادوا شرف الجهاد وطمعوا في أجر الاستشهاد كانوا يرون الخروج، حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته ودرعه، ثم عزم على القتال.
وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين يرى الرأي الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء في المدينة، فماذا صنع؟ خرج مع الجيش المسلم حتى إذا كان الجيش بالشوط -مكان بين المدينة وأحد- انخذل عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه ممن وافقه من قومه على نفاقه، انخذلوا بثلث جيش المسلمين ورجعوا، وقال عبد الله: أطاعهم وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا؟ فلحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله رضي الله عنه، لحقهم ليردهم ويذكرهم بإيمانهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167]، وتعذروا بحجج أهل النفاق، ومضى عبد الله بن أبي يخذل الناس، حتى إذا آيس منهم عبد الله بن عمرو بن حرام دعا عليهم.
فانظر إلى هذا الموقف، فبعد أن تألبت قريش، وجاءت الأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الجيش العرمرم الذي جاءت به قريش، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومع ذلك ينخذل عبد الله بن أبي في اللحظة الحاسمة وفي الوقت العصيب، وهكذا هو شأن أهل النفاق، يختفون ويظهرون بمظهر الموافق، حتى إذا جد الجد، ودنت ساعة المواجهة، أو احتاج المسلمون إلى النصرة أو التثبيت كان دورهم الخذلان والتثبيط، وهكذا فعل عبد الله بن أبي بهؤلاء المسلمين.
ثم قد ذكر أهل السير من الأحداث ما يدل على أن أهل النفاق لم يرجعوا كلهم، وإنما رجع بعضهم، وبعضهم واصل المسيرة وظهرت مقالاتهم وأفعالهم في أثناء الغزوة، وكان من خبر أولئك ما ذكره بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] قال: المقصود بأولئك بعض أهل النفاق من الرماة الذين تركوا مواقعهم وانصرفوا إلى الدنيا؛ لأنهم كانوا قد خرجوا إليها.
وكذلك ما روي أيضاً في السير من أن بعضهم لما بلغه شائعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بدأت الدائرة في آخر المعركة تدور على المسلمين قال بعضهم وخرج ما في قلوبهم: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان.
ثم قالوا: إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
وهذا الزبير رضي الله عنه يروي أيضاً -كما ورد في أسباب نزول بعض الآيات التي جاءت في أحد- قال: إني لأسمع قول معتب بن قشير وأنا في الحلم كالنائم -عندما غشيهم النعاس لتثبيتهم وتطمينهم في غزوة أحد كما حصل في غزوة بدر أيضاً- قال: إني لأسمع قوله وهو يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154].
فكان هذا تثبيطهم في الغزوة، ثم جاء دورهم أيضاً بعد الغزوة، ووافقوا اليهود في المقالة التي أشاعوها بين أهل الإسلام توهيناً لهم وتثبيطاً، وزرعاً للزعزعة بين الصفوف، قالوا: لو كان نبياً ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه.
وقال المنافقون للمسلمين أيضاً: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذي أصابكم.
وهكذا نجد هذه المواقف التي تمثل صورة أكثر تأثيراً في العداء والخذلان في داخل صفوف المسلمين من أهل النفاق، ولو تأملنا لوجدناها تتكرر كثيراً في حياة الأمة الإسلامية اليوم، مما يستدعي أن يحرص المسلمون على معرفة حقيقة أعدائهم في داخل صفوفهم وخارجها، والله سبحانه وتعالى قد بين مصير أولئك وأولئك، فقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وهذه العاقبة الختامية، ولكن المسلمون مطالبون أن يرفعوا راية الإسلام، ويحموا حوزة الإسلام والمسلمين، ويحافظوا على حرمات المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالله نسأل أن يرد عنا كيد الكائدين، ويخذل عنا المعتدين، ويحمينا من شرور الكافرين والمنافقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(83/7)
حقيقة الولاء والبراء بين الكفار والمنافقين
وإن المسلم ينبغي له أن يتأمل في آيات القرآن وأحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليدرك الحقائق، ويتلمس طريق النجاة، والصراط المستقيم الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر الله عز وجل عنه في تلك الوصية الجامعة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وإن المتأمل يجد الحقيقة القرآنية في أمر مهم نذكر به، ولعلنا نختم به الحديث عن هذه الصورة الموجزة في غزوة أحد، وهو أمر التعاضد والتناصر والولاء الذي يجمع أهل الكفر وأهل النفاق، فقد أخبر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، فهم يوالي بعضهم بعضاً، ويناصر بعضهم بعضاً، ويعين بعضهم بعضاً، ويثبت بعضهم بعضاً، ويتبادلون فيما بينهم كل ما يعينهم على تحصيل حظوظهم الدنيوية، والنيل من أهل الإسلام في كل مكان، والله عز وجل أخبر أيضاً عن أهل النفاق فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، أخبر عن حقيقة فعلهم وحقيقة تعاضدهم وولائهم، وأنهم بعضهم من بعض، ولحمتهم واحدة، ودينهم واحد، وقد دعا الله جل وعلا أمة الإسلام إلى أن تحرص على موالاتها ومعاداتها فتجعلها لله سبحانه وتعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وكما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء عقيدة إيمانية، وكما دعانا القرآن الكريم بآيات تتلى إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وكما بينت الآيات القرآنية في غير ما آية ضرورة ولاء المسلمين بعضهم لبعض، وبرائهم من أعداء الله عز وجل، ولو تحقق ذلك في كل مسلم وفي كل مجتمع لبرئنا كثيراً من أضرار أولئك المندسين في الصفوف، ولبرئنا كثيراً أيضاً من الأوهام والأغلاط التي تجعل بعض المسلمين ربما يحسن الظن بالأعداء، أو يواليهم، أو يناصرهم، أو يكون معيناً لهم -والعياذ بالله- على غيره من المسلمين، وهذا أمر ينبغي أن نتفطن له، وهذه الغزوة يتجدد الحديث عنها دائماً، ونجد فيها وفي غيرها من أحداث السيرة مواقف ودروساً وعبراً تستحق التأمل، ولعل هذه الصورة المبسطة توقظنا إلى الحقيقة الواقعة الشاهدة الناطقة بها أحداث هذا العالم اليوم في تألبه وتكالبه على أمة الإسلام، وسعيه لحربها من داخل صفوفها ومن خارجها {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وكما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، لكنه جل وعلا قد اشترط الشرط فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فأروا الله عز وجل من قلوبكم وولائكم وبرائكم والتزامكم بدينكم ما يجعل أمر الله بالنصر يتنزل على أمة الإسلام، ويعود -بإذن الله عز وجل- لها سالف عزتها وعظيم مجدها ووحدتها وقوتها التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهود الإسلام الزاهرة في أوقات كثيرة.
وفي هذا المقام نذكر أنفسنا أيضاً بالأعمال الصالحة التي ندبنا إليها في الأوقات الطيبة المباركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)، وفي روايات توضيحية تفسيرية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحسنة بعشر أمثالها) فشهر بعشرة أشهر، وستة أيام تعدل شهرين، فيكون ذلك عدل السنة كلها.
فاحرص أخي المسلم على أن لا تفوت على نفسك هذا الأجر العظيم، وأن لا تجعل حظك من رمضان والصوم ينقطع بنهاية أيامه، والاستقامة أمر عظيم، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استوصاه ذلك الرجل قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، فالاستقامة على الطاعات والخيرات من مؤشرات القبول الذي نرجوه من الله سبحانه وتعالى لصيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا، ومن بشائر الخير التي يمنُّ الله بها علينا؛ لأن الطاعة تثمر الطاعة، والقبول يولد العمل الصالح بإذن الله عز وجل.
نسأل الله جل وعلا أن يتقبل أعمالنا، وأن يعيننا فيما بقي من أيامنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم! تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والنفاق والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تنزل سخطك وغضبك وعذابك على الكافرين، وعلى المعتدين على عبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم! اجعلهم عبرة للمعتبرين، لا ترفع -اللهم- لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! سود وجوههم، ونكس راياتهم، وأذل أعناقهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! وفق العلماء والدعاة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين في مكان يا رب العالمين، اللهم! وعليك بسائر أعداء الدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت إيمانهم، وزد يقينهم، وعجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(83/8)
غزوة أحد درس التضحية والثبات
ما زالت أمة الإسلام مذ وجدت الأمة الولود التي تضحي بأبنائها في مواقف الشدة، لتعلن بذلك مواقف الثبات على الدين، وتعلي راية المسلمين، وتقول للعالمين: نحن على درب الأنبياء لن نهين أو نستكين، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويشهد بذلك التاريخ من بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما وقع في غزوة أحد، حيث أبدى المسلمون أمثلة من التضحيات وكتبوا في صفحات التاريخ دروساً لا تنسى.(84/1)
وقفة مع تضحية أهل الباطل وثباتهم على باطلهم
الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل؛ أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً ننال به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، نحمده جل وعلا على كل حال وفي كل آن، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه وكان أبعدنا عنه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(84/2)
دروس السيرة معين لا ينضب
أيها الإخوة المؤمنون! حنين كثير وشوق كبير يشدنا دائماً إلى السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لنجلس في أفياء أحداثها مجلس التلاميذ الذين يتلقون العلوم والدروس النافعة المفيدة في أمور العقيدة والإيمان، والعبادة والأحكام، والسيادة والقيادة، والحرب والجهاد، والسلم وإدارة شئون الحياة؛ إنها مدرسة كاملة لإعمار هذه الدنيا على منهج الله عز وجل، وللسعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
وإن الوقفة التي نحب أن نقفها اليوم تتصل بأحداث غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، وقد كانت لنا وقفات كثيرة سابقة، وفي كل مرة نأخذ ومضة من ومضاتها، ونقف مع درس من دروسها؛ لأنها معين لا ينضب من هذه الدروس والعبر والفوائد والمنافع، وإن درس اليوم الذي نقف عنده هو: درس التضحية والثبات؛ فإن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.
إن هذا الدين لابد له من علم ينشر، ودعوة تبذل، وأموال تنفق، ومهج وأرواح تزهق في سبيل الله عز وجل، إنه ليس أمراً هيناً؛ إنها الرسالة العظيمة الخالدة، إنها الأمانة الكبيرة الماجدة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، ويخاطب الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، إنها أمانة هذا الدين والرسالة الخاتمة من رب العالمين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
هذه الرسالة العظيمة، وهذا الدرس الكريم نقف مع ومضات منه لنرى صورته في غزوة أحد، ولست معنياً بالوقوف مع الأحداث وترتيبها، وإنما نأخذ هذا الدرس الواضح الجلي في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين.
وقبل أن نأخذ هذا الدرس من الصحابة رضوان الله عليهم نقف وقفة مع الجانب المناوئ للمسلمين، نقف وقفة لنرى صوراً من تضحية أهل الباطل، ونماذج من ثباتهم على باطلهم لا لشيء إلا تشبثاً بحمية الجاهلية، وإعزازاً لمذاهب الكفر، وإرغاماً للإسلام وأهله، فإن الكفر أيضاً لا ينتشر إلا ووراءه جهود تبذل، وأموال تنفق، وجهود وأعمال كبيرة، أفيكون أهل الباطل أحرص على باطلهم، وأغير على كفرهم، وأبذل له من أهل الحق والإيمان؟ لم يكن ذلك أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بل كان أهل الإيمان هم السابقون في تضحياتهم، الشامخون في ثباتهم رضوان الله عليهم أجمعين.
لما انتهت غزوة بدر كانت جراح مشركي مكة عظيمة غائرة، ونكبتهم وخسارتهم فادحة، وعظمتهم قد مرغت في التراب، ونفوسهم تشتعل نيراناً للأخذ بثأر كفارهم وقتلاهم من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ولم يكن الأمر مقتصراً على بدر؛ فقد كانت بين بدر وأحد وما بينهما من السرايا ما أظهر الله عز وجل به كلمة الإسلام، وكان آخرها: سرية زيد بن حارثة، التي عرض فيها لقافلة من قوافل قريش التجارية، ورغم أنهم تجنبوا طريق المدينة إلا أن سرية زيد بن حارثة أدركتهم وسبت كل مالهم وتجارتهم وفروا هاربين، فما كانت صورة استعدادات أهل الكفر؟ وما هي تطبيقاتهم العملية في ميدان المعركة؟(84/3)
بذل أهل الباطل لأموالهم
لما نجت قافلة قريش الأولى في بدر ولقي المشركون الهزيمة، قال زعماؤهم وكبراؤهم: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم؛ فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً.
هذه القافلة التجارية التي كانت سبب غزوة بدر نريد أن تنفق لتجهيز الجيوش، وقيام الحملات الإعلامية، وتكتيل الصفوف لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام تجارة موسمية كاملة، وخاطب قريش كبار تجارهم: إن هذه الأموال نريد أن تحول لتكون وقوداً للتعبئة العسكرية علنا أن ندرك من محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً، فأجابوا إلى ذلك؛ فباعوها كلها وأنفقوها في حرب الإسلام والمسلمين، وكانت تلك القافلة كما ذكر أصحاب السير: ألف بعير كاملة، وخمسين ألف دينار؛ أنفقت كلها لحرب الإسلام والمسلمين، ونزل في ذلك كما ذكر بعض أهل السير والتفسير قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
المهم أنهم ينفقون ويبذلون ونراهم اليوم يجددون تلك السيرة، ونراهم اليوم وهم يتنادون من كل مكان، لسان حالهم كما أخبر الله عز وجل في كتابه المحكم الكريم في شأن الكافرين وندائهم لبعضهم البعض: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، ولذلك تنادوا فأنفقوا الأموال لتجهيز الجيوش وحرب الإسلام والمسلمين، وهم اليوم يتنادون لذلك، وتصب الأموال بالملايين لتكون حرباً وقنابل وقذائف تصب على رءوس المستضعفين من إخواننا في البوسنة أو الشيشان أو فلسطين أو الهند أو في أي مكان من بلاد الإسلام والمسلمين.(84/4)
تضحية أهل الباطل بأرواحهم
لننظر إلى صورة أخرى لنرى كيف يكون الباطل مدافعاً عن حقه وهو على باطل؛ حتى ندرك أن أهل الحق هم أولى بذلك.
قبل أن تبدأ المعركة كان من المتعارف عليه أن الراية دائماً في بني عبد الدار من قريش، وكان النضر بن الحارث هو حامل رايتهم في يوم بدر، وقد وقع أسيراً في أيدي المسلمين، ووقوعه في الأسر دليل على الخزي والذلة والجبن والخور، فلما جاءت معركة أحد جاء أبو سفيان القائد العام لجيوش كفار مكة يخاطب بني عبد الدار حتى يثير حميتهم، ويحضهم على التضحية والثبات، فيقول لهم ويناديهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إن زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
وما كانت العرب أبداً لترضى بالذل والصغار، فصاح بنو عبد الدار: أنسلم لك الراية؟ لترين غداً كيف نصنع؟ وقد ثبتوا ثباتاً يعجب المرء منه، ويأخذ منه في الوقت نفسه درساً وعبرة.
كان حامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة العبدري سيد بني عبد الدار، فلما بدأت معركة أحد خرج مختالاً يطلب المبارزة، وكان فارساً من أشجع الشجعان الأبطال عند العرب، فهاب الناس لقاءه، ثم تقدم له الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فلم يلبث أن وثب الزبير وثبة عظيمة حتى كان معه على جمله، ثم صرعه من جمله فألقاه في الأرض، ثم ذبحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا صنع بنو عبد الدار بالراية التي أعطيت لهم؟ تقدم لها أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ورفع الراية مرة أخرى، وصار ينادي: إن على أهل اللواء حقاً أن تخضب الصعدة أو تندقا وظل يقاتل حتى جاءه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بسيفه البتار ضربة على كتفه خلع بها يده، حتى بلغ سيفه إلى رئته فقتله، ثم جاء بعد ذلك أخوه أبو سعد بن أبي طلحة العبدري ورفع اللواء مرة أخرى وهو ينادي ويشمخ بلسان بني عبد الدار مرة ثالثة، ثم جاءه بعد ذلك سعد بن أبي وقاص فرماه بسهم فأصاب حنجرته، فاندلقت لسانه فمات من حينه، ثم حمل اللواء بعد ذلك مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة ثم جاءه سهم من عاصم بن ثابت رضي الله عنه فقتله، ثم حمل الراية أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ثم قتل، ثم جاء أخوه الثالث وهو الجلاس بن طلحة ثم قتل، ستة نفر من بيت واحد ثلاثة إخوة وثلاثة أبناء لواحد من هؤلاء الإخوة، ثم تنادى بنو عبد الدار فحمل الراية منهم أرطأة بن شرحبيل، فجاءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، فحمل الراية شريح بن قارض منهم أيضاً فقتل، ثم جاء أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتل، ثم جاء ولد لـ شريح بن هاشم فقتل حتى فني في هذه الراية من بني عبد الدار عشرة منهم متواليين من كبارهم وزعمائهم وأشرافهم، فحمل الراية بعد ذلك غلام حبشي لبني عبد الدار يقال له: صواب، وأبلى في حمل الراية أكثر مما أبلى أسياده من بني عبد الدار أنفسهم، حتى قطعت يداه فبرك على الراية بصدره وعضديه، حتى قطعت عنقه وهو يقول: اللهم آعززت؟ أي: هل قمت بحقها؟ فانظر رحمك الله كيف كان أهل الباطل يتوقدون غيرة وحمية وجاهلية يثبتون ويضحون لأجل باطلهم وجاهليتهم الزائفة وأمجادهم الباطلة، وأهل الإسلام يريدون أن ينالوا الشرف اليوم دون أن يضحوا، أو أن يبذلوا، أو يثبتوا، ويريدونها هينة سهلة وهم ينامون ملء عيونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ويضحكون ملء أشداقهم ما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم!(84/5)
صور من ثبات وتضحية أهل الإيمان
سنرى صور التضحية والثبات في سيرة الأصحاب رضوان الله عليهم، وها نحن نقف هذه الوقفات الأعظم والأجل والأجلى في أخذ الدرس والعبرة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم.(84/6)
أبو دجانة وعصابة الموت
هذا أبو دجانة نادى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد ورفع سيفه: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فتنادى له الصحابة رضوان الله عليهم وتسابقوا إليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه يا رسول الله! قال: أن يقاتل مقبلاً غير مدبر)، فتراجع بعضهم لا جبناً وإنما خوفاً أن يقصروا بالوفاء، فتقدم له أبو دجانة وقال: أنا يا رسول الله! وورد في بعض روايات السيرة أن الزبير تقدم له فمنعه منه النبي وأعطاه لـ سماك بن خرشة أبو دجانة رضي الله عنه، فلما أخذه عصب على رأسه عصابة حمراء فقالت الأنصار: عصب أبو دجانة عصابة الموت، وظل يمشي مشية مختالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)؛ لأنه موطن إعزاز للإسلام والمسلمين، فماذا صنع أبو دجانة رضي الله عنه؟ عندما أخذ السيف وبدأت المعركة صار ينادي: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن في السفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول ثم فلق به هام المشركين، وشق صفوفهم، وخاض في الموت، وفي حمام الهلاك وهو يجندلهم عن يمينه وشماله، قال: حتى خلصت إلى فارس يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب به امرأة، وكانت هذه هند بنت عتبة رضي الله عنها فقد أسلمت فيما بعد وحسن إسلامها، كانت قد تلثمت وحاربت، وكانت من أشجع المحاربين في تلك المعركة، قال الزبير في بعض روايات السيرة: فرأيت فارساً لا يجد أحداً من المسلمين يزفف -أي: في آخر الرمق- إلا وأجهز عليه، فقلت: لعله يلقاه أبو دجانة، فما زلت أنظر حتى التقيا، ثم رفع أبو دجانة سيفه ولم يمضه، فنظرت فإذا هي هند بنت عتبة.
وهكذا فعل أبو دجانة رضي الله عنه.(84/7)
أسد الله حمزة
نأتي إلى موقف آخر لـ حمزة أسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذاك الذي كان الموت يتربص به في ميدان المعركة، لكنه مات غيلة وغدراً، كان رضي الله عنه قد فلق الهام، وقطع الرقاب، وشق صفوف المشركين شقاً، ثم لم يصمد له أحد، ولم يستطع أحد أن يواجهه، حتى جاء وحشي رضي الله عنه وقد أسلم فيما بعد وصار من الصحابة، لم يكن عنده مهمة في هذه المعركة إلا أن يغتال غيلة وغدراً وخسة ودناءة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فظل يكمن في أماكن معينة حتى أصاب منه غرة فأنفذ فيه حربته فقتله لوقته رضي الله عنه وأرضاه.(84/8)
قمة من قمم الثبات النبوي
أما المثل الأعظم الذي سنجعل وقفتنا معه؛ فهو المثل الذي تتقاصر دونه الأمثلة، والشجاعة التي تظهر كل شجاعة دونها بمراحل، شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، القدوة العظمى في التضحية لهذا الدين والثبات عليه والدعوة إليه.
لما دارت الدائرة على المسلمين بعد نزول الرماة، وبعد أن كانت الجولة لهم، واشتد الاختلاط في صفوف المسلمين، وبدأت المعركة ينفرط عقدها، كان النبي عليه الصلاة والسلام في تسعة نفر من أصحابه، وكان من المتبادر إلى أذهان أهل الضعف والخور، أو إلى أذهان أهل السلامة أن من الأصلح له أن ينسحب بهذه الكوكبة حتى يرجع إلى المدينة، حتى يسلم أصحابه أو حتى يسلم هذه الأمة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضرب المثل والقدوة، كان علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا احمرت الحدق، وحمي الوطيس؛ نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان دائماً هو المقدم عليه الصلاة والسلام، فماذا صنع في ذلك الموقف؟ صاح: (يا عباد الله! هلموا إلي أنا رسول الله)، وهو يعلم أن صوته سيسمع عند المشركين قبل المسلمين، وكان الأمر كما كان، لقد سمع المشركون هذا النداء، وكان يعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا سيسمع وأن الجموع ستجمع، وأن الجيوش ستتوجه نحوه عليه الصلاة والسلام، لكنه أراد أن يبين للأمة أن الثبات في الجيوش بثبات قياداتها، وأن المضي بمضي كرامها، ولذلك نادى هذا النداء العظيم ليقول كما قال بعد ذلك في يوم حنين: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فما كان له صلى الله عليه وسلم أن يتخلف عند مواضع التقدم، أو أن يتراجع في مواضع الثبات عليه الصلاة والسلام.
نادى هذا النداء ثم تجمعت الجيوش من حوله، فكانت صورة رائعة من صور تضحية الصحابة وفدائهم قل أن يجود التاريخ بمثلها مطلقاً، لذلك تجمع أولئك القوم حول النبي عليه الصلاة والسلام، حتى شج وجهه الكريم، وسال دمه على جبهته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟).
درس لنا كيف ضحى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أجمعين؟ وبذل لأجل هذا الدين، وخاض غمار المعارك حتى سال دمه ولقي الموت؟ ونحن نريدها هينة سهلة، لو كانت هينة سهلة لكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الإكرام للصلاح لكان أحق المكرمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان النصر يهدى لأحد لأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه درس للأمة أنه لا يمكن أن ترفع لها راية، ولا أن تقوم لها قائمة، ولا أن ينتشر دينها، ولا أن تقوى قوتها وتعظم سيادتها إلا بالبذل والتضحية في سبيل الله عز وجل، والثبات على هذا الدين، فلذلك رسم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصورة المشرقة الرائعة في الثبات والتضحية في سبيل الله عز وجل حتى كان موئلاً تجمع حوله الصحابة من جديد، وانتهت المعركة نهاية مشرفة، وقد كان من الممكن أن تكون نهايتها أسوأ وأعظم شراً في الهزيمة على المسلمين، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة من نفسه.
فإذا كان الرسول قد دمي وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما على أحد بعده أن يصيبه في سبيل الله عز وجل ما هو أشد وأعظم وأنكى من هذا.
نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في رسوله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وأن يجعلنا ممن يتأسون بأصحابه رضوان الله عليهم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(84/9)
من أجلى صور الثبات في غزوة أحد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أبواب التقوى: التضحية لأجل هذا الدين بكل غال ورخيص، بالنفس والنفيس، بالأموال، بالوقت، بالجهد، بالفكر؛ فإن لهذا الدين علينا حقاً، وإن لهذه الرسالة في عنقنا أمانة ينبغي أن نؤديها ونحرص على تبليغها.
ونمضي أيضاً مع بعض الأمثلة الأخرى لنرى صوراً من الدروس في هذا الباب:(84/10)
أنس بن النضر مثال الإقدام والثبات
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه يقول قبل المعركة، وهو الذي فاتته غزوة بدر، وفاته شرف تلك الغزوة العظيمة، يقول: لئن أشهدني الله عز وجل يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع؟ قسم عظيم يُبرز فيه هذا الصحابي الجليل أنه سيبذل وسيضحي وسيثبت ويقدم لهذا الدين ما تقر به أعين المسلمين، وما يرضى به عنه الله رب العالمين، يقول ذلك لا قولاً رخواً وهو متكئ على أريكته، ولا يقول ذلك وهو في مجلس اللهو واللعب؛ وإنما يقوله مقسماً بالله عز وجل في مواطن الجد والعز.
فلما جاءت المعركة وجاءت هذه الدائرة، مر أنس رضي الله عنه ببعض الأنصار وقد سرت شائعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجمع حوله المشركون وحصل ما حصل، فمر أنس ببعض الأنصار وقد قعدوا على هامش المعركة، وسألهم: ما بكم؟ قالوا: أما شعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات؟ فقال كلمات تسجل في صحائف التاريخ، وتخلد في ذاكرة المسلمين، وتنقش في قلوبهم صوراً محفورة لا تنسى من صور الثبات والتضحية، ومعرفة المنهج، ووضوح الرؤية عند الصحابة رضوان اللهم عليهم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لئن مات النبي عليه الصلاة والسلام فما قيمة الحياة بعده؟ ولئن أهينت المقدسات، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين فما قيمة الحياة؟ هل يبقى المسلم في هذه الحياة ليأكل وينكح مثل بقية الأنعام والدواب والهوام؟ إن المسلم أجل وأرفع من أن تكون هذه غاياته، إنه صاحب مهمة ورسالة يقدم حياته كلها لأجل رسالته وإعلاء رايتها؛ فإن أصيب في دينه أو في رسالته؛ فإنه لا يمكن أن يرضى بالذل في هذه الحياة، ولا يمكن أن يبقى ساكناً وادعاً، بل ينبغي أن يتحرق قلبه، وتتحرك جوارحه، وينطق لسانه، وتنطلق أقدامه، وتنفق أمواله، ولو اقتضى الأمر أن تبذل مهجته وروحه في سبيل الله عز وجل كما فعل الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ونداء أنس رضي الله عنه ينادي كل المسلمين: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مضى أنس رضي الله عنه إلى ميدان المعركة، مضى إلى الغبار المثار، إلى السيوف التي تبرق في الضحى، إلى الأعناق التي تقطع، والدماء التي تسيل؛ فلقيه في أثناء مسيره سعد بن معاذ فقال له: إلى أين يا أبا عمرو؟! فسطر أنس رضي الله عنه أيضاً الجواب بكلمات عظيمة: واهاً لريح الجنة، والله إني لأجدها دون أحد.
قوم أيقنوا بما أخبر الله عز وجل به، واستيقنوا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن طريق مرضاة الله إنما تكون من طريق إعزاز دين الله عز وجل، ونصر عباد الله، وعدم رضى الذل لدين الله عز وجل.
واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد، ثم انطلق رضي الله عنه، قال سعد: فما استطعت أن أمضي مضيه، ولا أن أفري فريه، فمضى يقتل ويضرب حتى استشهد رضي الله عنه وفي جسمه بضع وثمانون ما بين ضربة سيف أو طعنة رمح أو موضع سهم، حتى ما عرف وجهه، وإنما عرفته أخت له ببنانة أو شامة.
لم يعرف من شدة ما أصابه من ضرب.
قال بعض الصحابة: فأحصيت ما به من ضربات فلم أجد في ظهره منها ضربة قط.
كان مقبلاً غير مدبر، ولم تأته الضربات من ظهره؛ لأنه لم يول ولم يهرب، وإنما كان مضحياً ثابتاً، ولذلك ضرب مثلاً عظيماً من أمثلة التضحية والثبات على دين الله عز وجل.(84/11)
أمثلة وصور متفرقة للثبات
وعن ثابت بن الدحداح رضي الله عنه: أنه مر بفئة من الصحابة الأنصار من قومه، ورأى بعضهم وقد تردد وتذبذب وحار وتبلبل، فقال: يا معشر الأنصار! إن كان محمد قد مات فإن الله عز وجل حي لا يموت، قاتلوا على دينكم فإن الله مظهركم وناصركم.
هكذا كانوا يعرفون أن المسألة مسألة منهج ومبدأ، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوسهم عظيماً فدين الله عز وجل أعظم، وإن كان ارتباطهم بالرسول عليه الصلاة والسلام وثيقاً فارتباطهم بالله عز وجل أوثق؛ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما أخبر ثابت أيضاً في هذه المقالة: قاتلوا على دينكم فإن الله مظهركم وناصركم.
ثم مضى ثابت رضي الله عنه، ولم يكن هذا الكلام منهم كلاماً عابراً، بل مضى وقاتل حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.
وهذه صورة ثالثة: مر مهاجري بأحد الأنصار وهو يتشحط في دمه وقد أصيب إصابة قاتلة، مر به وقال متسائلاً ومستغرباً: يا فلان! أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال هذا الذي يفارق الحياة ويستقبل الموت: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
صحابة يتواردون على معنىً واحد، مما يدلنا على أن تربيتهم وإيمانهم ومنهجهم كان واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، ولذا لم يتذبذبوا ولم يتراجعوا ولم ينخذلوا، وإنما كانت فترة من فترات الاضطراب والفوضى، ثم جاء نداء النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت القدوة المثلى لتجمع الصحابة رضوان الله عليهم، ولست بصدد ذكر الفداء والتضحية التي كانت من الصحب الكرام حول النبي صلى الله عليه وسلم، سبعة من الأنصار واحداً إثر آخر يقفون حول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، يفتدونه بصدورهم وظهورهم، يهلكون واحداً إثر واحد، وكان معه سبعة من الأنصار واثنان من المهاجرين فقضى الأنصار واحداً إثر الآخر حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا)؛ لأنهم تقدموا وكان الآخرون لم يكتب الله عز وجل لهم الشهادة في ذلك الوقت، كانوا ينضحون عنه النبل، ويتلقون عنه السيوف، ويذبون عنه الأعداء، وضحوا وثبتوا ثباتاً عجيباً في وقت كان الأصل أن يكون حالهم الفرار والهرب؛ فقد انفرط عقدهم ودارت الدائرة عليهم.(84/12)
حنظلة الغسيل وشوقه إلى الجهاد
مثل أخير أقف عنده؛ لأنه مثل يبين لنا الصورة التي تعيقنا عن الانطلاق لرضوان الله عز وجل، والمضي لنصرة دين الله سبحانه وتعالى، والعمل لأجل نصرة هذا الدين في كل مكان.
هذا حنظلة بن أبي عامر، كان أبوه يسمى أبا عامر الراهب، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق؛ لأنه كان من أشد أعداء الإسلام، أما ابنه حنظلة فقد كان صحابياً جليلاً من خيار الصحابة، كان عرسه في ليلة أحد، ودخل على زوجته وهو حديث عهد بعرس -في يوم الدخلة التي نسميها اليوم- وإذا به يسمع المنادي يقول: يا خيل الله اركبي! يسمع النداء إلى الجهاد، يسمع الانتقال من أحضان المرأة إلى الانتقال إلى أحضان الموت، يسمع الانتقال من العيش الرغيد إلى العيش الشظف الشاق، فإذا به لا يفكر ولا يتردد ولا يضعف ولا يركن إلى الأرض، ولا تلفته الزوجة الحسناء، ولا البيت المهيأ، ولا العطر والطيب بل يشتاق شوقاً عظيماً، ويتحرك حركة هائلة، وينخلع من بيته وزوجته، ويمتطي فرسه ويمضي مع المجاهدين إلى سبيل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، رسمها الصحابة صوراً حية.
ما متاع الآخرة في الدنيا إلا قليل! عرفوا ذلك فاشتاقت له نفوسهم.
ومضى حنظلة مقاتلاً ومجاهداً يشق الصفوف، كان يقصد أبا سفيان رضي الله عنه؛ لأنه كان قائداً لجيش المشركين في تلك المعركة حتى أوشك أن يصل إليه ويقتله، فإذا بـ شداد بن الأسود يأتيه من جنبه أو من خلفه فيضربه ضربة فيستشهد، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شأن حنظلة أنه كان لم يغتسل من الجنابة بعد، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الملائكة تغسل صاحبكم ما بين السماء والأرض) وتطهره لينتقل إلى الجنان وإلى الحور العين التي وعد الله عز وجل بها الشهداء.(84/13)
التضحية والثبات درب السلف الأوائل
إن كل صور التضحية بالأهل والديار والأموال والأنفس ظهرت في هذه المواقف التي كانت للصحب الكرام رضوان الله عليهم، وخطوا لنا بكلماتهم في سمع الزمان كلمات تدوي لا تنسى، وخطوا لنا بأفعالهم صوراً تحتذى وأمثلة يقتدى بها، نسوقها لنا، نحن الذين شغلنا بالدنيا، وأخلدنا إلى الأرض، وانصرفنا إلى مصالحنا وذواتنا، ونسينا أمتنا، وديننا، ودعوتنا، ورسالتنا، إلا من رحم الله.
ونبث هذه المواقف أيضاً إلى إخواننا المسلمين في البوسنة والشيشان وفلسطين وكشمير وكل مكان ليروا كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام، فقد لقي مثل ما يلقون؟ وكيف كان موقفه وموقف الصحابة رضوان الله عليهم؟ إنها صور تبعث القوة في نفوس المؤمنين، وتعيد الحياة إلى القلوب التي ذوت فيها الحياة، وإلى السواعد التي صارت كالأيدي الشلاء؛ ينبغي لنا أن نجدد هذا المعنى في نفوسنا، إنه لا يمكن لنا أن نحيي معاني هذا الدين، وأن نعلي رايته دون أن نضحي في سبيل الله عز وجل، فإذا لم نستطع أن نضحي بشيء من أوقاتنا، وقليل من أموالنا، وبعض من جهودنا فكيف سنضحي يوماً ما بأنفسنا في الجهاد في سبيل الله عز وجل، لابد أن نوطن أنفسنا على أن نكون على سنن الصحابة رضوان الله عليهم، أن نأخذ من هذه المدرسة النبوية هذه المعاني التربوية الإيمانية، وأن نحقق بعضاً من الشعور أننا من أبناء هذه الأمة، ومنتسبون لهذا الدين، ونحظى بشرف اتباع محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
أتباع محمد حملة رسالة، وناشرو دعوة، ومجاهدون في سبيل الله عز وجل.
أتباع محمد ليسوا من أهل الدنيا، ولا من أهل الانشغال عن الآخرة، ولا العمل لذوات أنفسهم والانشغال بمصالحهم الذاتية الأنانية؛ هذه لها حدها وقدرها ومشروعيتها، لكن النفوس العظيمة والإيمان العظيم يدعو صاحبه إلى ما دعا إليه أنس بن النضر، وحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنهما، وإلى ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم يوم أحد.
ينبغي أن نحيي هذه المعاني حتى نعالج هذا الفتور والخور والضعف والتعلق بالدنيا الذي في أنفسنا، فلئن كانت هذه صورة شامخة سامقة في حياة الصحابة ونحن في سفح سحيق فينبغي أن نحرك أنفسنا، نعم نحن بحمد الله اليوم في خير كثير، نعم قد دب الإيمان في القلوب، وشاع الإسلام في الصفوف، وتنادى المسلمون باسم الإسلام بوادر خير تحتاج إلى أن نرويها بتضحياتنا، ونغذيها بأرواحنا، ونحييها بكلماتنا ومواقفنا.
نسأل الله عز وجل أن يسخرنا لخدمة هذا الدين، وأن يجعلنا من نصرائه في كل مكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يسخرون أموالهم وجهودهم وأوقاتهم وأرواحهم في سبيل نصرة هذا الدين، وإعلاء راية الله في كل مكان.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم أبدل أمتنا من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلتها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة.
اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب، اللهم اجعلهم بكتابك مستمسكين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، وفي آثار الصحابة سائرين، نسألك اللهم أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم أبطل كيدهم، وأحبط مكرهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم ارزقهم الصبر والثبات واليقين، اللهم اجعلهم من أهل الصبر على البلاء والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت لهم زيادة في الإيمان واليقين ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم قرب نصرهم، وعجل فرجهم، اللهم إنا نسألك أن تثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تخفف عنهم وأن ترفع عنهم يا أرحم الراحمين! اللهم واجعلنا في نصرة دينك وسخرنا في الدعوة إلى دينك، نسألك اللهم أن توفقنا لكل ما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب ولا ترضى.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، واجعلهم مسخرين في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(84/14)
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم
لقد عظم الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ورفع مكانته ومنزلته على سائر الخلق، ورفع ذكره، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلاة والدعاء وغيرها من العبادات، وهذا يدل على علو منزلته صلى الله عليه وسلم وقدره عند ربه، فيجب على كل مسلم أن يعظمه، ويوقره، ويعزره، وذلك بالدفاع عنه، والاقتداء به، والصلاة عليه، وغير ذلك من أوجه التعظيم والتبجيل.(85/1)
مقدمة عن حقيقة العظمة ومعناها ونصيب النبي عليه الصلاة والسلام منها
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، له الحمد سبحانه وتعالى لا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، ولا يخيب من رجاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير أرحام تربطنا، ولا مصالح تجمعنا، أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم موضوع جليل، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام كان قمة سامقة تتقاصر دونها القمم، وكانت مكانته رفيعة تتوارى معها المكانة والمنزلة مهما علت وسمت، وكما نرى النجم مضيئاً مشعاً وله جماله وبهاؤه فإذا أشرقت الشمس لم يعد له أثر، فكذلك كل عظمة وكل قدر وكل مكانة لأحد من الخلق هي دون مقام وعظمة ومكانة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنه شرف عظيم لنا جميعاً المتحدث والسامع أن نطرق مثل هذا الموضوع، نشنف به آذاننا، ونسعد به نفوسنا، ونشرح به صدورنا، فإن ذكر الله جل وعلا وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حق ومقام وقدر ذات الله سبحانه وتعالى، والوقوف على مكانة وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم مما يحيي القلوب، ويهذب النفوس، ويقوي العزائم، وقد أسلفنا حديثاً في مفتتح هذه السلسلة المباركة عن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة، بل منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة؛ وذلك لأن كل محب ليس معظماً، فأنت ترى الوالد يحب ولده ولكنه حب تكريم وليس حب تعظيم، وحب حنو ورحمة وليس حب إجلال وتقدير وتبجيل.
فلذلك إذا جمع العبد المؤمن تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم المحبة التي أسلفنا القول فيها ثم توجها وكملها أو أسسها وبناها على قاعدة التعظيم والتوقير للمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكون قد نال حظاً عظيماً وشرفاً كبيراً، وأتى على أمر من الأمور التي هي من أصول إيمانه، وقواعد إسلامه، ومنطلقات التزامه، ولذلك ينبغي لنا أن نفرح وأن نسعد وأن نفخر بما وفقنا الله جل وعلا إليه من الحديث في مثل هذا الموضوع، والله جل وعلا قد نادانا وذكرنا في سياق آياته إلى أهمية تعظيم وتوقير وتعزير رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فالمعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمرة المفلحين بإذن الله جل وعلا.
والتعزير كلمة معناها التعظيم والنصر، والتوقير كما جاء في معجم مقاييس اللغة: أصل يدل على ثقل في الشيء، فإذا قلت: إنك توقر فلاناً فمعنى ذلك أنه ذا ثقل وذا مكانة، ومنه الوقار: وهو الحلم والرزانة التي تدل على رزانة الإنسان وعدم خفته وطيشه، ووقرت الرجل إذا عظمته، ومنه قوله جل وعلا: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] كما أسلفنا، والتوقير أيضاً بمعنى: التبجيل والتعظيم.
قال ابن جرير في تفسيره: فأما التوقير والتعظيم فهو الإجلال والتفخيم.
وقال ابن تيمية رحمه الله: التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه من كل ما يخرجه عن حد الوقار، ولذلك تأتي هذه الكلمات كلها بمعنىً مترادف.
أحبتي الكرام! إن الحديث عن عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا تمكن الإحاطة به، كما لا يمكن أن يجمع ماء البحر في كأس؛ فإن جوانب عظمته، ووجوه رفعة قدره وصور علو مكانته أكثر وأعظم وأشهر وأوسع من أن يحيط بها حديث في مثل هذا المقام، بل قد صنف العلماء ودونوا وتوسعوا وجمعوا وأوعوا، وما جاء ما فعلوه كذلك على ما كان وما ينبغي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما طرقت هذا الموضوع وجدت أنه لا بد لنا أن نقتصر ونختصر منه ما لعله يفي بهذا المقام، ويتناسب مع هذا الوقت، ومن هنا أردت أولاً أن نبدأ بشيء يتعلق بالمعنى والدلالة، وبالفائدة والأثر فهذا الذي أوجزناه من المعنى مقصودنا به بيان الكلام الذي يأتي عن هذه العظمة ووجوهها، ثم إن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أساسين اثنين سنقسم الحديث عنهما لاحقاً: عظمة في ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام، وما كان له من الخصائص، وما عرف به من الشمائل، وما سجلته سيرته من المواقف، وما سمت به شخصيته في كل جوانب الحياة المختلفة.
وجانب آخر -وهو في تصوري أعظم وأكبر- وهو جانب عظمة الإنجاز والثمرة، قد يكون لي خصيصة، قد يكون لي شرف نسب، قد يكون لي كثير علم، قد يكون عندي بعض الذكاء والفطنة، لكن ذلك وإن كان من وجوه العظمة لا يغني شيئاً ما لم يثمر ذلك كله نتيجةً وإنجازاً.
وفعله عليه الصلاة والسلام وأثره الباقي إلى قيام الساعة أعظم وجوه عظمته كما سيأتي.(85/2)
فوائد استشعار عظمة النبي صلى الله عليه وسلم
أما فائدة هذه العظمة وحديثنا عنها فإني أقول: إنه يمكن لنا أن نذكر فائدتين اثنتين تكفينا لنجعل هذا الموضوع موضع اهتمامنا ورعايتنا: الفائدة الأولى: المحبة والإجلال، فإنك لن تعرف شخصاً وتدرك عظمته، وتعرف علمه، وتلم بجوانب سماحته وخلقه وفضله، إلا غرست في قلبك محبته ومالت نفسك إليه.
الفائدة الثانية وهي مهمة أيضاً: التأثر والاقتداء، فالنفوس بطبيعتها مجبولة بالاقتداء والتأسي بالعظماء، ألا ترى الكثرة من البشر، لكنك في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل بلد ربما لا تجد إلا أعداداً قليلة هي التي تذكر في الناس وتشتهر بينهم، ويدور حديث الناس عنهم، أولئك الذين يتصدرون الناس لما لهم من وجوه العظمة، ولما لهم من بصمات وآثار الإنجاز والتأثير والفائدة والنفع، فحينئذ يكونون رواداً قواداً والناس على آثارهم مقتدون: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].(85/3)
وجوه العظمة الذاتية للنبي صلى الله عليه وسلم
لقد اقتصرت في كل جانب من هذه الجوانب على عشرة وجوه فحسب، والعشرة وراءها عشرات أخر، ولها من النصوص والشواهد القرآنية والنبوية من الأدلة ما هي عشرات وعشرات أخرى.(85/4)
أخذ العهد والميثاق من الأنبياء والرسل للإيمان به ونصرته
الوجه الأول: أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] روى أهل التفسير عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية قولهما: (ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره -أي: أمر الله ذلك النبي- أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث فيهم محمد عليه الصلاة والسلام وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) وهذا فيه رفعة للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لعظيم مكانته بين الأنبياء، وتعريف وتشريف بين البشرية جمعاء، إذ إن الله جل وعلا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا في آخر الزمان، وأنه خاتم الأنبياء، فعلام جعل الميثاق على كل نبي بعث أنه يقر إن بعث محمد وهو حي أو بعث في أمته بعد وفاته أن يأخذ العهد والميثاق على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى نصرته واتباعه؟ أفلا ترون ذلك عظمة بين العظماء وهم الرسل والأنبياء؟! أفلا ترونه يدل على النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودينه وكتابه؟! والأعظم الأكمل أن جعل الله عز وجل حكمته مستوفية لكل ما أراده من الهداية التامة والكمال في هذه الرسالة، فجعل كل رسل الله وأنبيائه عليهم العهد، وأمروا أن يأخذوا على أتباعهم وعلى أممهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه، ولا شك أن هذا وجه ظاهر واضح بين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم.(85/5)
إعلام أهل الكتاب بصفته
الوجه الثاني: إعلام أهل الكتاب بصفته صلى الله عليه وسلم والتعريف به، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى على وجه الخصوص، وفي رسالة موسى عليه السلام وما أنزله الله عليه من التوراة، وفي رسالة عيسى عليه السلام وما أنزله الله عليه من الإنجيل ذكر مفصل، ووصف دقيق، وسمات معنوية وأخرى حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا النبي الذي سيبعثه الله من بعد هو نبي عظيم، ومكانته عالية، وقدره رفيع، ومن هنا ذكرت هذه الأوصاف، قال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ما معنى (كما يعرفون أبناءهم؟) أي: كما لا يشك الرجل أن هذا الابن من صلبه لعلمه بحاله وحال زوجه، بل قد أحياناً لا يكون عنده من الجزم بهذا مثل ما عنده من الجزم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بما ذكر من أوصافه الدقيقة في هذه الكتب، والله جل وعلا قد قال أيضاً: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] التوراة ليست كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل الإنجيل على محمد صلى الله عليه وسلم، لكن ذكره فيهما مشع، وصفته فيهما ظاهرة، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص الحديث الذي يرويه البخاري حين سئل عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أكثر الصحابة علماً بكتب أهل الكتاب، فقال: (أجل، والله! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفض ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذناً صماً، وقلوباً غلفا).
ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في الكتب السابقة، لا شك أن فيه تنويهاً وإشادة به، وتشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم.(85/6)
ختم النبوات بنبوته
الوجه الثالث: ختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ودائماً نقول في حديثنا المعتاد: ختامه مسك، أليس آخر عمل تعمله يكون أكثر إتقاناً وأوضح كمالاً؟! قد تكون صاحب تجربة أو حرفة كنجار، ففي أول أمرك تصنع لكن بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة آخر عمل تقوم به يكون مستوفياً لوجوه الكمال والعظمة، ويكون على أحسن وأتم شيء؛ لأنك قد أتقنت وجربت وخبرت وعرفت.
قال ابن القيم رحمه الله في خلق آدم: فجعل الله خلق آدم وهو أبو البشر متأخراً عن خلق كثير من المخلوقات من الملائكة والجن وغيرهم، ولا يكون المؤخر إلا معظماً، ثم ذكر وجوه العظمة في خلق آدم.
والرسل والأنبياء صفوة الخلق قال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ومع ذلك هذه الصفوة لا شك أن خاتمها هو صفوة الصفوة عليه الصلاة والسلام، فلما جعله الله خاتم الأنبياء فمعلوم أن الخاتم هو الأفضل والأكمل، فكانت نبوته وكانت شخصيته وكانت عظمته أتم وأكمل شيء في سلسلة ذهبية مشعة مضيئة من رسل الله وأنبيائه عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وإن كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بتواضعه يقول: (لا تفضلوني على الأنبياء)، وقال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) لكنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة)، هذا بناء ناقص، وبقي شيء يكمله ويجمله، قال عليه الصلاة والسلام: (فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) وهذا من وجوه العظمة.(85/7)
عموم رسالته
الوجه الرابع: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، عندما يكون هناك إنسان له قدرات معينة كأن يكون مدرساً متخصصاً في علوم التاريخ، ماذا يدرس؟ إنه سيدرس مادة التاريخ أليس كذلك؟ لكن لو قيل لك: إن مدرساً معيناً جعلوه يدرس في التاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء ونحو ذلك ماذا ستقول عنه؟ ستقول عنه: إنه رجل عظيم؛ لأنه استطاع أن يفعل هذا كله أو استطاع أن يقوم بمهمات عديدة لا يقوم بها إلا أشخاص كثر.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم الله جل وعلا يقول الله في نبوته ورسالته: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] بعثه الله إلى الثقلين من الإنس والجن، كل البشر منذ بعثته وإلى قيام الساعة هم من أهل أمة الدعوة التي توجه إليها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعون إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر بن عبد الله المشهور قال عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم) إلى آخر الحديث.
إذاً: لن تكون هذه المهمة الواسعة لكل الناس، ليس هو نبياً ولا رسولاً لقوم معينين، ولا لرقعة معينة، بل للعالمين.
إذاً: هذه عظمة تتناسب مع هذه المهمة الكبيرة التي لا تحدها الجغرافيا، ولا يقطعها الزمن، ولا تتعلق ببيئة ولا بلغة ولا بثقافة، بل رسالة شاملة عامة أنيطت بخير الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو لها أهل، ولعظمتها كان هو كذلك عظيماً كعظمة ما أسنده الله عز وجل إليه، وما كلفه به، وما ابتعثه لأجله في هذه البشرية.(85/8)
إقسام الله بحياته وببعض الأمور المتعلقة به
الوجه الخامس: الأقسام الربانية المتعلقة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذه وجوه عظمة لم تكن لأحد من الخلق إلا له عليه الصلاة والسلام: لقد أقسم الله بحياته فقال جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر هذه الآية، رواه البيهقي وابن أبي شيبة.
ونحن نعلم وندرس في التفسير: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1 - 2] نقول: هذا قسم، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، ولا شك أن هذا القسم للفت النظر إلى تعظيم هذه المخلوقات التي أقسم الله بها، فكيف وهو يقسم بحياة محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن في ذلك دلالة على تعظيم الله لهذه الحياة ولصاحبها عليه الصلاة والسلام.
وأقسم الله عز وجل ببلده فقال سبحانه وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1 - 2].
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالأمور المتعلقة به كما في قوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3] القسم هذا كان لنفي القطيعة التي زُعمت عندما فتر الوحي قليلاً في أول ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومن القسم بالأمور المتعلقة به أيضاً قوله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2] هذا القسم متعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه عظمة لا تخفى ولا تحتاج إلى تعليق.(85/9)
رفع ذكره وتقديم اسمه على غيره
الوجه السادس: رفع ذكره وتقديم اسمه صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] ذكر القاضي عياض في كتاب (الشفاء في حقوق المصطفى) كلاماً نفيساً جميلاً يقول فيه: قوله: (ورفعنا لك ذكرك) أي: رفعنا لك ذكرك فلا يذكر الله جل وعلا إلا وتذكر معه.
فنحن إذا جئنا لندخل في الإسلام أو لنذكر الشهادة قلنا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وإذا ذكرنا توحيد الله وإخلاص العبادة ذكرنا نبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا جئنا في الصلاة نصلي فإننا نذكر الله ثم نصلي بالصلاة الإبراهيمية التي فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكاد تجد ذكراً إلا وفيه ذكر لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يمر بك أيها المسلم يوم إلا وأنت تذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام، في الأذان تذكره، في الصلاة تذكره، في كثير من الأذكار تذكره، كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم صليت عليه مع من يصلي عليه، فذكره مما لا يكاد ينقطع منه المسلم بحال من الأحوال، وهذا من عظمة ما أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن تعظيمه تقديمه لاسمه إذا ذكر الأنبياء في القرآن كما في قوله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء:163] إلى آخر الآية وكذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب:7] وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم.(85/10)
حفظ الله له وللوحيين الكتاب والسنة
الوجه السابع: التكفل الرباني بالحفظ المتعلق به، وقد جاء الحفظ له وجاء الحفظ لكتابه ولسنته صلى الله عليه وسلم.
أما حفظه عليه الصلاة والسلام فقد قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] كان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يحرس، كان الصحابة يتناوبون حراسته ليلاً ونهاراً؛ خوفاً عليه من الأعداء، فلما نزلت هذه الآية رفع الحرس.
ومن لطائف ما ذكر من محبة وتعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب بنت زعيم اليهود الذي كان من ألد أعداء الإسلام وقتل، فلما بنى النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الزوجة من أمهات المؤمنين كان في طريق عودته إلى المدينة، وعُملت له قبة ودخل عليها، فلما أصبح نظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عند قبته أبو أيوب الأنصاري وهو قائم بسيفه، فقال: مالك يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله! خشيت عليك من هذه المرأة، قد قتلت -يعني: في المعركة- أباها وزوجها وأخاها وعمها وقومها فخشيتها عليك يا رسول الله) يعني: أن الصحابة كانت قلوبهم معلقة به عليه الصلاة والسلام، فخاف عليه من ذلك، لكن نزلت هذه الآيات تبين عصمة الله لرسوله عليه الصلاة والسلام.
كذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:94 - 96].
أما حفظ الله جل وعلا لكتابه ففي قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، أما حفظ السنة التي بينت القرآن فهي تبع لذلك، وهذا لم يكن إلا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، أهل الكتاب قال الله عز وجل عنهم: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] معنى ذلك أن الأحبار أوكل إليهم حفظ كتاب الله، فما الذي جرى؟ قال الله عنهم: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، أما كتاب الله الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام وهو القرآن فقال عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].(85/11)
ربط الإيمان به وطاعته بالإيمان بالله
الوجه الثامن: ربط الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ومبايعته بالله رب العالمين، فإذا ذكر الإيمان بالله ذكر معه الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف:158]، وقال في الطاعة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال في المبايعة: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].(85/12)
التوقير الرباني له في مخاطبته وندائه
الوجه التاسع: التوقير الرباني في ندائه ومخاطبته له صلى الله عليه وسلم.
الرسل والأنبياء في القرآن ذكروا بالنداء بأسمائهم: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ} [هود:48] {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، ولا تجد في القرآن: يا محمد! أبداً إنما يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:28] خطاب الله جل وعلا لرسوله فيه دلالة على عظمة قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الخطاب الرباني كلام رب العالمين سبحانه وتعالى يظهر فيه هذا التعظيم، فأي تعظيم أعظم من تعظيم الله سبحانه وتعالى؟! وأي مكان ومنزلة يمكن أن تستنبط بأكثر مما تستنبط من الآيات القرآنية التي تنزلت في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ندائه ومخاطبته؟!(85/13)
إجابة الله عنه ودفاعه عنه
الوجه العاشر والأخير في هذه الطائفة من وجوه العظمة: الإجابة والدفاع الرباني عنه عليه الصلاة والسلام، إذا قرأتم الآيات في شأن الرسل والأنبياء تجدون أقوال خصومهم والذين عارضوهم والملأ الذين خالفوهم، ثم يأتي الرد على لسان النبي نفسه، على سبيل المثال: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:60 - 61]، ولو قرأتم في سورة هود وفي سورة الأعراف قصص الأنبياء لرأيتم أقوال الكافرين والجاحدين المناوئين وردود الرسل والأنبياء عليهم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكرت الأقوال عنه فإن الرد لم يأت منه، وإنما الرد من الله عز وجل فهو الذي رد عنه، وأجاب عنه، وهو الذي دافع عنه سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:22 - 28].
وكذلك في سورة الحاقة تقرءون الآيات وفيها الرد والإجابة الربانية، وفي هذا إشارة إلى رفعة ومكانة وقدر وعظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.(85/14)
عظمته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بأمته وغيرها من الأمم
نحن تكلمنا في طائفة متعلقة بذاته مباشرة عليه الصلاة والسلام، أما الآن فالحديث عن عظمته المرتبطة بأمته والأمم الأخرى.(85/15)
كونه أولى بالأنبياء من أممهم
الوجه الأول: كونه صلى الله عليه وسلم أولى بالأنبياء من أممهم، الله جل وعلا يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68] أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم أولى بإبراهيم من قومه حتى الذين آمنوا به؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو الذي أراد الله عز وجل أن يختم به هذه الرسالات، وهو الذي جاءت رسالته بالإيمان بكل الرسل والأنبياء؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح المتفق عليه: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة)، وكذلك عندما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك؟ قالوا: يوم نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون فنحن نصومه لذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بموسى منهم، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون من أمته هم أولى بالرسل والأنبياء من أتباعهم الذين حرفوا وبدلوا؛ لأننا نؤمن بكل رسل الله ولا نفرق بين أحد منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعظم رسل الله وأنبياءه ويقول: (لا تفضلوني على الأنبياء)؛ إجلالاً لهم، واعترافاً بفضلهم، ولأن سلسلة النبوة كلها سلسة التوحيد وسلسلة الإسلام التي بعث الله بها الرسل جميعاً.(85/16)
كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم
الوجه الثاني: كونه صلى الله عليه وسلم: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] وهذه منزلة عظيمة، أنت الآن قد تدعي أحياناً أنك أولى بابنك من نفسه، فتقول لابنك: أنا أولى بك من نفسك؛ لأني كنت السبب في وجودك؛ ولأنني أرعاك، ولأنني أعرف أموراً أكثر منك، ولأنني أسعى في الدفاع عنك، فأنا قد فعلت لك ما يكون حقي عليك أكثر من حقك على نفسك، قد يتصور الناس هذا، وإن كان لا أحد يقر بأن أحداً أولى بغيره من نفسه، لكن القرآن يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) متفق عليه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) [الأحزاب:6]) فهو أولى بنا من أنفسنا، من أين لنا الهداية؟! من أين لنا معرفة الحق؟! من أين لنا النور الذي نسير به في ظلمات هذه الحياة؟! أين حياة قلوبنا؟! أين زكاة نفوسنا؟! أين رشاد عقولنا؟! أين استقامة أعمالنا؟! أين صلاح أحوالنا؟ إن مرجعه إلى ما أكرمنا الله به من الهداية التي بعث بها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو أولى بنا من أنفسنا، وقد ذكرنا في حديثنا عن المحبة: أنه يجب علينا ويلزم أن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبنا لأنفسنا التي بين جنبينا.(85/17)
امتنان الله على عباده ببعثته
الوجه الثالث: منة الله جل وعلا ببعثته على العباد والخلائق؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أي: أن الله منّ على البشرية ببعثة هذا الرسول الكريم؛ ليستنقذها من الضلال إلى الهدى، وليخرجها من الظلمات إلى النور.
ومنّ الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة عليهم لما فيه نجاح أمرهم في دنياهم وفلاح أمرهم في أخراهم بإذنه سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] واستطراداً أقول: انظروا إلى الآيات التي جاءت في سياق القول الرباني، ففيها تقديم التزكية على التعليم، والآيات التي جاءت في سياق القول البشري في قصة إبراهيم عليه السلام قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]؛ لأن التزكية في المنهج الرباني هي أولى من العلم، وهي الثمرة التي ينبغي أن يركز عليها أهل العلم؛ لأن العلم إذا لم يثمر طهارة قلب وزكاة نفس فليس بعلم نافع للإنسان، بل قد يكون حجة عليه نسأل الله عز وجل السلامة.
أذكر أيضاً هنا حديثاً لـ عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه حيث يقول: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم الأموال في المؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح، وأعطاهم حتى يتألف قلوبهم ولم يعط الأنصار كما كان يعطيهم، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم شيئاً، لماذا أعطى الرسول هؤلاء ولم يعطنا؟ كأنهم رأوا أنه أعطاهم لقرابتهم منه؛ ولأنهم من قريش أو نحو ذلك، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فجاء إلى الأنصار وقال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟ وكانوا كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، ثم قال عليه الصلاة والسلام متأدباً ومعطياً الحق من نفسه لهم: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟! أجيبوني! قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: أما إنكم لو شئتم لقلتم: ألم تأتنا فقيراً فأغنيناك؟ وطريداً فآويناك؟ أما إنكم لو قلتم لصدقتم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكت الأنصار وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الناس دثار، والأنصار شعار، ففرح الأنصار وبكوا حتى اخضلت لحاهم من الدموع) وذلك من تأثرهم، وهذا من بيان وجه منة الله عز وجل على الخلق ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كانت منته ظاهرة في قوله لأصحابه رضوان الله عليهم، ومنته أعظم على من جاء بعد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.(85/18)
كونه أكثر الأنبياء أتباعاً
الوجه الرابع: كونه عليه الصلاة والسلام أكثر الأنبياء أتباعاً من الأمم والخلق، وهذا ظاهر في أحاديث كثيرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام منها: حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، وفي حديث أنس أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة) رواه مسلم، وفي حديث آخر لـ أنس أيضاً قال: (لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد) رواه مسلم، وهذا لا شك أنه من وجوه العظمة والإكرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث أيضاً مشهور من رواية ابن عباس: (عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم فقلت: هذه أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق فإذا سواد يمد الأفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء فإذا سواد عظيم قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب) متفق عليه.(85/19)
كونه رحمة للعالمين
الوجه الخامس: كونه رحمة للعالمين ليس للإنس فقط بل وللجن، وليس للبشر والجن وإنما للبهائم كما قال عليه الصلاة والسلام في شأن واحد: (إن الحيتان في جوف البحر لتستغفر لمعلم الناس الخير)؛ لأن أثر العلم ينتفع به كل الخلائق، ولا أريد أن أستطرد، لكن اليوم يقولون لك مثلاً: الحفاظ على البيئة، وتلوث الهواء، وغير ذلك من الأمور التي يراعون فيها الحقوق والمصالح التي تتعلق بحياة البشر وليس بالبشر أنفسهم، بينما لو رجعت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى هديه، وإلى أقواله، وإلى أفعاله لوجدت ذلك ظاهراً فيها بما هو أعظم وبما هو أسبق من كل ما يقال.
الله عز وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه الحاكم في المستدرك وصححه، والطبراني والبزار من حديث أبي هريرة: (يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) وفي حديث أبي موسى قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها).(85/20)
كونه أماناً لأمته
الوجه السادس: كونه أماناً وأمنة لأمته، وذلك ظاهر في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] رسل وأنبياء أهلك الله أقوامهم في وجودهم وفيهم ذوو قرابتهم، وفيهم من لهم به صلة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الله عز وجل عن أمته المحق الكامل أو العذاب العام؛ وذلك بسبب وجوده عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم أي: ما يكون من فتنة ومحنة وبعد عن دين الله، وابتلاء يقدره الله عز وجل لحكمته.(85/21)
ادخاره دعوته لأمته يوم القيامة
الوجه السابع: ادخار دعوته صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة، وهذا معروف في الحديث المشهور من رواية أنس: (لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيبت، وجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فهذه خصيصة لرسول الله عليه الصلاة والسلام لها أثرها على أمته.(85/22)
شهادته على الأمم والأنبياء يوم القيامة
الوجه الثامن: شهادته على الأمم والأنبياء يوم القيامة، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89] والآيات معلومة في هذا، ثم شهادة الأمة كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] مقام عظيم أن يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على البشرية كلها على اتباعهم لأنبيائهم أو مخالفتهم لهم.(85/23)
شفاعته للأمم عامة وأمته خاصة
الوجه التاسع: شفاعته للأمم كلها عامة ولأمته خاصة، وذلك حين يكون الفزع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتي ويسجد بين يدي الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (ويفتح علي بمحامد لم يفتحها علي من قبل، فيقال له: ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الخلائق فيقضي الله عز وجل بينهم، كل الخليقة والبشرية من أولها إلى آخرها يشفع لها محمد صلى الله عليه وسلم في يوم الهول الأعظم والكرب الأضخم يوم القيامة؛ ليقضي الله عز وجل بين الخلائق.
وأعطي أيضاً عليه الصلاة والسلام أنواعاً كثيرة من وجوه الشفاعة لأمته صلى الله عليه وسلم في أحاديث الشفاعة الطويلة، ولا يسمح المقام بذكر ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند مسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) صلى الله عليه وسلم.(85/24)
خيرية صحابته وأمته
الوجه العاشر: خيرية أمته وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فمن أثر هذا التعظيم لرسول الله انعكس الأثر على أمته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت من خير قرن من بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت فيه)، وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
هذه وجوه أخرى من وجوه العظمة، وهناك وجوه خاصة بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة، فمن عظمته في يوم القيامة حمل لواء الحمد، وأنه أول من يفتح له باب الجنة، وأول من يدخل الجنة عليه الصلاة والسلام، وهي نصوص كثيرة لعلكم ترجعون إليها وتطالعونها.(85/25)
عظمة الإنجاز والثمرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم(85/26)
سمو الدعوة
عظمة الإنجاز في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أتناولها من وجهين: الوجه الأول: العظمة في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، منذ أن نزل قوله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ثم تلا ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1 - 3] إلى قوله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] قام النبي عليه الصلاة والسلام فلم يجلس، وتحرك فلم يسكن، ونطق فلم يسكت، وجاهد فلم يداهن، كانت حياته من أولها إلى آخرها دعوة، وحمل أمانة الله، وبلغ رسالة الله، وأدى أداءً عظيماً هو أجلى ما يكون في صورة الآية القرآنية التي تأتي في الكلام على الرسل والأنبياء: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35].
ثم إذا رأينا سمو الدعوة في جانب آخر غير الجهد والجهاد والبذل والتضحية؛ فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ لكن كل الابتلاء الذي مر بالرسل والأنبياء، وكل الجهد الذي بذله الرسل والأنبياء كله موجود في سيرة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سيرته ما هو جامع لكل ما تفرق من دعوة غيره من الأنبياء من إسرار وإعلان، ومن دعوة ملأ ودعوة خواص، ومن موافقين ومخالفين، ومن ابتلاء بالهجرة، أو ابتلاء بالقتال، أو ابتلاء بالكيد، أو ابتلاء بالاستهزاء، أو ابتلاء بالإغواء، أو ابتلاء بالإغراء، كل ما تفرق في سير الأنبياء جمع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما نعلم على ذلك القدر العظيم في دعوته عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك سموه في دعوته على حظوظ نفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي سبى قلوب الناس وخطف أبصارهم وأمال نفوسهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأحداث في سيرته كثيرة جداً أذكر منها على وجه السرعة: الرجل الذي جاء والنبي عليه الصلاة والسلام نائم تحت ظل شجرة وأخذ السيف وقال: (ما يمنعك مني يا محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الله، فارتعد الرجل واضطرب قلبه وسقط السيف من يده فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ) فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
واتفق عمير بن وهب رضي الله عنه قبل أن يسلم مع صفوان بعد بدر على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يدعي أنه يطلب أسيراً له، وهو يريد أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام، فلما جاء قام عمر يستأذن ويقول: دعني أضرب عنقه، ثم أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به فأسلم، وقال: (خذوا أخاكم فعلموه دينه).
وثمامة بن أثال أسر، وتمكن النبي صلى الله عليه وسلم منه، وهو سيد بني حنيفة، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في سارية في المسجد، ثم قال: (مالك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تطلب الفداء يأتك المال، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام أطلقه، وجعل له كامل الحرية، وكانوا يكرمونه في أسره، فخرج فاغتسل ورجع وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم منع قريشاً أن تأتيهم حبة من الحنطة من بلاده حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وانظر إلى مسائل أخرى في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في إيثاره للحق، وفي تأليفه للقلوب عليه الصلاة والسلام، والمواقف كثيرة يضيق المقام عن حصرها.
كذلك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل؟! كيف كان رد أهل الطائف عليه عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؟! لقد ردوا عليه بأقبح رد، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم يرمونه بالأحجار حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
وانظروا كيف كان شأنه يوم أحد لما دمي وجهه الشريف، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ويوم أن جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله).
كانت الدعوة كل شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مع كل خفقة قلب ومع كل دفقة دم في عروقه، فدعوته ورسالته ودينه كان هو أوكد همه وأعظم شغله، لقد كان ذلك في كل حركة وسكنة، وفي كل لفظة وسكوت، كان كل همه كيف يغرس تلك الدعوة في القلوب! خذوا هذا الموقف الأخير: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على جار له يهودي، وابنه غلام في مرض الموت فقال له: قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله حتى تنجو من النار، فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم -حتى الذين لم يؤمنوا كانوا يرون عظمته صلى الله عليه وسلم- قال: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وخرج ثم لم يلبث أن مات، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد الذي نجاه بي من النار) فرح عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى فرحه يفرح بهداية الناس، نحن اليوم إذا رأينا مخطئاً دعونا عليه بالويل والثبور والعظائم، واكفهرت وجوهنا في وجهه، وأصبحنا عوناً للشيطان عليه، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يفتح صدره وقلبه للناس.
في مسند الإمام أحمد لما جاء ذلك الشاب يقول: (يا رسول الله! ائذن لي في الزنا)، أسلم ولكنه كان يمارس هذه الشهوة، وتعرفون قوتها وتمكنها من النفس، ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اغرب عن وجهي، لو جاءنا أحد اليوم وقال هذا الكلام لأحدنا لقال له على أقل تقدير: ألا تستحي؟! كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟! لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! والناس كذلك لا يرضونه، ثم وضع يده الشريفة على صدره ودعا له، قال الشاب: فما كان شيء أبغض إلي من الزنا).
انظر إلى هذا السمو العظيم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم!(85/27)
سمو التربية
الوجه الثاني: العظمة في سمو التربية، انظروا إلى الرجال الذين أخرجهم محمد صلى الله عليه وسلم، هذا عمر رضي الله عنه ماذا كان يعبد؟! قال: (كنا نعبد أصناماً أحياناً من تمر، يقول: فإذا جعنا أكلناها) ماذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته يعبدون؟! من هو أبو بكر؟! من هو عمر؟! من هؤلاء الناس؟ عرب لا يعرف الناس عنهم ذكراً، عندهم من الخصال الذميمة، وعندهم من الأحوال البغيضة، وعندهم من الجاهلية المستحكمة ما هو عظيم جداً لا يكاد يتصور من بشاعته.
يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه وقد ولي أمر مكة: (كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم والله ما لنا طعام إلا ورق الشجر في أيام الحصار، يقول: وما منا اليوم إلا وهو أمير على مصر من الأمصار) خرجوا قادة عظاماً، خرج الحزم في قيادة أبي بكر، وخرجت عدالة عمر، وخرج حياء عثمان، وخرجت شجاعة علي، ومن أعظم وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرف الرجال؛ فلذلك قال لـ عمر: (لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فج عمر) وفي ذكر صفات الصحابة عند الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (أشدهم حياءً عثمان، وأصدقهم لهجةً عمر، وأشجعهم علي، وأقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) كان يعرف خصائص كل رجل من أصحابه، كان يعرف كيف يدخل إلى القلوب، وكيف يغير العوائد، حتى أخرج لنا هذه الكوكبة العظيمة، التي لن يكون لها مثيل في جملتها في وقت واحد وزمن واحد أبداً في التاريخ، قد يكون آحاد من الناس له مراتب أو ربما مناقب أو ربما عبادات أو إيمانيات أو أعمال صالحة تقرب من بعض الصحابة، لكن لن يكون هناك جيل تجتمع فيه من الخصائص والصفات والخير والعمل مثل ما كان عليه الصحابة رضوان عليهم، نحن اليوم لو جاء أب وربى أبناءه وكانوا علماء وكانوا صالحين وكانوا ذوي أخلاق حسنة، ماذا يقول الناس عنهم؟ يقولون: فلان يكفيه هذا الابن من أبنائه، خلفه وجعله في هذا الوضع وهذا الحال، فكيف بهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال شوقي: يكفيه شعب من الأموات أحياه أي عظمة أفضل من عظمة تخريج الرجال وصناعة الرجال؟! وليس هناك أحد صنع مثل ما صنع رسول الله عليه الصلاة والسلام في مثل هذا.
فمن أعظم وجوه العظمة: هو ما أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه البشرية من أعيان أصحابه رضوان الله عليهم، وما كانوا عليه من إيمان وتقىً وهدى وصلاح، وما كانوا عليه من قوة وحسن عمل حتى شرقوا في الأرض وغربوا، وفتحوا القلوب والبلاد وأصلحوا العباد، وكان خيرهم رضوان الله عليهم أساساً مازلنا إلى يومنا هذا نتفيأ ظلاله، وننتفع بما صنعوه خدمة لدينهم وتبليغاً لدعوتهم واتباعاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك استمساكاً بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع، وهو حري وجدير أن يكون لافتاً للنظر، بل إن بعضاً من غير المسلمين، وخاصة من المعاصرين المستشرقين أكثر ما يذكرونه في وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه استطاع أن يحول أمة عابثة لاهية قصارى ما عندها حروب فيما بينها، وليس عندها طموحات ولا آمال؛ إلى أمة ملكت ثلثي المعمورة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، في زمن وجيز من عمر الزمان، حتى قام عقبة بن نافع يخاطب البحر ويقول: لو أني أعلم أن وراءك أرضاً وقوماً لخضتك في سبيل الله عز وجل.
وحتى بر الأمير المسلم قتيبة بن مسلم بقسمه وجاءوا له بتراب من الصين ليطأ عليه بقدمه إبراراً لقسمه.
وحتى وقفت جيوش المسلمين على أبواب النمسا في القرون القريبة الماضية، ودخلوا في عهد عبد الرحمن الغافقي التابعي إلى جنوب فرنسا.
إن هؤلاء الرجال العظام الذين خرجتهم مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبهم الصحابة رضوان الله عليهم هم أعظم ثروة وأعظم دليل على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.(85/28)
توجيهات ونصائح لتحقيق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم
أنتقل بكم أيها الإخوة إلى بعض التوجيهات المباشرة لنا في كيفية تحقيق تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(85/29)
توجيهات قرآنية تحث على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم
أولها: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، بعض الناس يقول: محمد بن عبد الله، وكأنه يتحدث عن محمد من أبنائه، أو صديق من أصدقائه، لا ينبغي ذلك، لا يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا بذكر نبوته ورسالته، لا يذكر إلا بذكر ما ينبغي له من التوقير والتعزير والتعظيم والتبجيل، لا يذكر إلا بذكر فضله عليه الصلاة والسلام.
قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: هذا نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع وألا يقولوا: يا محمد؛ لأن بعض الأعراب أجلاف كانوا إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهو في حجراته في عز الظهيرة في وقت الراحة: يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا، فنزلت الآيات: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
وأيضاً قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] لا ينبغي لك أن تسارع إلى الأشياء، وأن تبدي الآراء قبل أن تعرف ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات الجامعة في التوجيهات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53] فكلما يدخل في هذه الدائرة ممنوع منه.
وكذلك قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57] قال ابن تيمية رحمه الله في الاستدلال بهذه الآية: يستدل بها على وجوب قتل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن تيمية ألف كتاباً مشهوراً اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ودلل فيه على أن من اعتدى على رسول الله عليه الصلاة والسلام بالشتم والعياذ بالله فإنه مباح الدم؛ لأن هذا أمر عظيم وفيه دلالات كثيرة منها: أن الله عز وجل قرن أذاه بأذاه.
وأنه قرن طاعته بطاعته.
وأنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى بقية المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ورأيت في هذه الآية كلاماً نفيساً لبعض العلماء قالوا: ولا يجوز تبعاً لذلك رفع الصوت واللغط عند قبره صلى الله عليه وسلم، فإن حرمته ميتاً كحرمته حياً؛ ولذلك لما جاء اثنان من أهل الطائف إلى المدينة في عهد عمر، ورفعا أصواتهما عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بهما عمر فجيء بهما قال: (من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً؛ ترفعان أصواتكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألم تسمعا قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]؟).
وقد كان ثابت بن قيس خطيب النبي عليه الصلاة والسلام جهوري الصوت، ولما نزلت هذه الآية اعتزل مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عن ذلك فقال: إني جهوري الصوت أخشى أن أتكلم فيعلو صوتي على صوتك فيحبط عملي فأهلك، فكانوا يراعون مقام وقدر وعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الذي ينبغي أن يكون في حياتنا.(85/30)
أهمية تعظيم القلب واللسان والجوارح للنبي صلى الله عليه وسلم
التعظيم محله القلب، فأول تعظيم مطلوب منا هو التعظيم من القلب بالاعتقاد الجازم بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ومن تعظيم القلب استشعار هيبته عليه الصلاة والسلام، وجلالة قدره، وعظيم شأنه، واستحضار محاسنه ونحو ذلك.
ثم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم باللسان، وذلك بحسن ذكره، وبدوام الصلاة عليه، والثناء عليه عليه الصلاة والسلام.
ثم تعظيم الجوارح، وأعظمه العمل بشريعته، واتباع سنته، والتزام أوامره ظاهراً وباطناً.(85/31)
مدى ارتباط تعظيم آله وأزواجه وأصحابه بتعظيمه عليه الصلاة والسلام
من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم توقير وتعظيم أزواجه رضوان الله عليهن أمهات المؤمنين، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حق على أمة محمد أن يوقروهم ويعظموهم، ما كانوا مستقيمين على أمر الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك توقير أصحابه رضوان الله عليهم، قال النووي: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع؛ ولذلك من انتقص أحداً من أمهات المؤمنين، أو أحداً من الصحابة فإنه مغموز في دينه واعتقاده؛ لأنه طعن فيمن زكاهم الله عز وجل، وفيمن هم من ذوي قرابة النبي عليه الصلاة والسلام، وحسبك أن كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بقين في عصمته بعد أن مات عليه الصلاة والسلام، فلا يطعن في أمهات المؤمنين إلا من زاغ قلبه نسأل الله عز وجل السلامة!(85/32)
ومضات مشرقة رائعة من صور تعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام
أخيراً أختم بهذه الومضات المشرقة الجميلة الرائعة من صور تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي أيوب الأنصاري بعد أن وصل إلى المدينة قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفل وكنت وأم أيوب في علو -يعني: في الشرفة العليا- قال: فما طابت نفسي فقلت: يا رسول الله! كن أنت في علو ونكون نحن في السفل، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: إنه أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في السفل -يعني: حتى يأتي الناس والضيوف- فكان أبو أيوب يسير على حافة حجرته لا يسير في الوسط، يقول: حتى لا أطأ بقدمي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: انكسر إناء ماء، فجئت بلحاف ليس لي ولا لـ أم أيوب غيره فجعلنا ننشف الماء حتى لا يقع شيء منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم! وروى البيهقي في شعب الإيمان (أن الصحابة كانوا إذا كلموا الرسول صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، ومنهم أبو بكر حيث قال: لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله عز وجل أي: كأنني أتكلم مع صديق بهدوء، وهذا فيه نوع من التوقير والتعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
كذلك في حديث البراء يقول: خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير من السكون والهيبة والصمت؛ إجلالاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وعن بريدة بن الحصيب فيما رواه البيهقي قال: كنا إذا قعدنا عند الرسول صلى الله عليه وسلم لم نرفع رءوسنا إليه إعظاماً له.
وهذا عمرو بن العاص يقول: لم أكن أستطع أن أنظر إليه عليه الصلاة والسلام هيبة له.
وكانوا يقولون: ما كان أحد ينظر إليه صلى الله عليه وسلم ويملي عينه من نظره إلا أبو بكر وعمر وقلة من الصحابة، أما الباقون فلا يصنعون ذلك من هيبته.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير ينام عند خالته زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فيقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم حذاءه، وإذا به يتأخر قليلاً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما لك أجعلك حذائي فتتأخر؟! قال ابن عباس: يا رسول الله! ما ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك يكون معك، لا بد أن يتأخر عنك -أي: كيف أكون أنا في نفس الصف الذي أنت فيه- فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك) رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي حديث أنس: (أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير)، أما الآن فبعض الناس يأتيك، ويقرع عليك الباب بشدة، ويصيح عليك، ليس هناك أدب ولا توقير ولا احترام.
وروى مسلم من حديث أنس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحالق يحلقه ويطيف به، فما تقع شعرة إلا في يد رجل) أخذوا شعر النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك لما احتجم عليه الصلاة والسلام أخذ ابن الزبير الدم وشربه كما في الحديث المشهور.
وكان الصحابة في المدينة إذا رزقوا بالأولاد يذهبون بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكهم ويبرك عليهم ويدعو لهم بالبركة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء؛ حتى يغمس النبي صلى الله عليه وسلم فيها يده، ثم يرجعون به إلى ذويهم.
هذه وجوه من تعظيم الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يعظم مقام وقدر ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا، وأن يجعلنا معظمين له في قولنا، وفي اتباعنا لسنته والتزامنا بهديه عليه الصلاة والسلام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(85/33)
الأسئلة(85/34)
معنى قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]؟
الجواب
كلمة (أولى) نعرفها جميعاً، أنا أولى بهذا الشيء يعني: أحق به، بمعنى: أن النبي عليه الصلاة والسلام أحق بنا من أنفسنا، لو كان لنا مال فهو أحق به منا، وكذلك نفوسنا التي بين جنبينا هو أحق بها منا، وهذا ليس من قولنا، وإنما هو من قول الله عز وجل: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهذا أمر ظاهر.(85/35)
وجه تمني النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون امرأً من الأنصار
السؤال
ذكرت في حديث حنين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار) فهل يجوز مثل هذا التمني؟
الجواب
ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام جائز في حقه قطعاً، وهو دلالة لغوية بلاغية تربوية نفسية أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعر الأنصار بمكانتهم وبقربهم منه وبمكانهم عنده؛ حتى يزيل ما خالط نفوسهم من ذلك الحزن، لما رأوا تقسيمه للغنائم في غيرهم، فلا ينبغي استشكال مثل هذه الأمور التي أحياناً ترد؛ لأننا ليس في قلوبنا ونفوسنا من التعظيم والتوقير، وليس في أذهاننا من الفهم والإدراك ما ينبغي أن نكون عليه على الوجه الصحيح.(85/36)
صيغة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وأكملها
السؤال
ما صيغة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
أبلغ الصيغ وأكملها وأتمها الصلاة الإبراهيمية، وهي التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة بالروايات المختلفة، كرواية ابن مسعود وغيره رضي الله عنه، وأما ما وراء ذلك مما فيه تعظيم مطلق فلا بأس به على ألا تكون بصياغة معينة، بعض الناس يقول: هذه صلاة فلان، وهذه صلاة فلان، ويجعلونها على صيغة معينة ويقولون: لابد أن تقول: صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة، لا، ما تعبدنا الله بذلك، ولا تعبدنا بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن لنا أن نقول: اللهم صل على رسول الله عليه الصلاة والسلام ما تعاقب الليل والنهار، وما اختلف الملوان، وأمور تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا بأس بها إن شاء الله تعالى.(85/37)
حقيقة محبة وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
من الناس من يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه في قلبه، ولكنه من الناحية العملية يستحي أن يطبق سنته، وذلك مثل: تقصير ثوبه، وإعفاء لحيته، وأحيانا يصل الأمر إلى أن يقصر في الواجبات؟
الجواب
لكل شعور تصديق من العمل.
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع هذا ضرب من الضعف في اليقين والإيمان، وضرب من الضعف في العزيمة والإرادة، ما دمنا عرفنا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه يجب علينا تعظيمه، فما بالنا لا يقودنا ذلك التعظيم الذي في قلوبنا وفي ألسنتنا إلى أفعالنا وأحوالنا؟!(85/38)
التوفيق بين أخذ ابن عمرو للإسرائيليات مع نهي عمر عنها
السؤال
كيف نوفق بين أخذ عبد الله بن عمرو بن العاص للإسرائيليات وزجر النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان في يده صحف من التوراة؟
الجواب
ليس هناك إشكال ولا تعارض، النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمر وفي يده صحف من التوراة، فضرب في صدره وغضب وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! والله! لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) إنكاراً لذلك حتى لا يروج، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص اختلط باليهود بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف كثيراً من كتبهم، فهو عالم بذلك.(85/39)
الراجح من الأقوال في آخر ما نزل من القرآن
السؤال
كيف يكون ترتيب آيات القرآن حيث أن آخر آية كما يقول العلماء: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]؟
الجواب
القول الراجح أن آخر آية أنزلت من كتاب الله قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] وفي رواية عن ابن عباس: (أنها نزلت قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بتسع ليال)، وأنا أعلم وجه السؤال، حيث إنني ذكرت قوله: {اقْرَأْ} [العلق:1] إلى قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ولم أقصد أنها آخر آية ولكن أقصد أن معنى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي: الموت، وهو إلى آخر نفس من أنفاسه عليه الصلاة والسلام، فكان مرتبطاً بدعوته وتبليغها للناس أجمعين، ولذلك في مرض موته وعند آخر لحظات حياته كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تجعلوا قبري عيداً) إلى آخر ما هو معلوم مما كان من شأنه عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم الأجر والمثوبة والنفع والفائدة، وأن يعلمنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً ينفعنا، وأن يطهر قلوبنا، ويزكي نفوسنا، ويصلح أحوالنا، ويرشد عقولنا، ويهذب أخلاقنا، ويحسن أقوالنا، ويصلح أعمالنا، ويخلص نياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(85/40)
قمم ورجال
تاريخنا تاريخ مجيد، صفحاته من ذهب، وكلماته من نور، يضيء الطريق، ويزيل الغشاوة عن القلب؛ فهو يحكي حياة قمم شامخة ساطعة رائعة لمن تدبرها، وأراد أن يسير على منوالها، ويحذو حذوها، ففي كل ناحية قمة لها نور يملأ الأفق الرحب، والسماء الواسعة.(86/1)
سبب ذكر قصص السلف الأوائل
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة.
ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: فنسأل الله جل وعلا أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا للحق والصواب، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يملأ قلوبنا بحبه وحب نبيه، وحب كل من يقربنا إلى حبه، وأن يلهمنا طاعته، وأن يقينا ويسلمنا من معاصيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونحمد الله جل وعلا على تجدد هذا اللقاء، وموعدنا فيه مع الدرس الخامس والثلاثين بعد المائة الأولى، وعنوان هذا الدرس: قمم ورجال.
ونحن في هذه الأعصر قد ضعف في الغالب إيماننا، ووهت في الأكثر عزائمنا، وتخلخلت عند الكثيرين العزائم، وصار الناس -إلا من رحم الله- يرضون بالأقل الأدنى، ويتركون الأكثر الأعلى؛ لأنهم إما قد شغلوا بسفاسف الأمور وتوافهها، وإما أنهم لم يجدوا على الطريق قدوات تشعل في قلوبهم الحماسة، وتذكي في نفوسهم الغيرة للمبادرة إلى ميادين الخير والسباق إلى قمم العلاء والرفعة، وذرى المجد والعز التي تسنمها أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين.
وفي هذا المقام نطوف في صفحات التاريخ، وفي تراجم الرجال لنقف على بعض سير القوم الذين بلغوا الذرى في معالي الأمور ومهماتها، ونالوا قصب السبق في ميادين الخير وطرقاتها من أولئك الأسلاف الذين سجل التاريخ وقائع حياتهم وكلماتهم بمداد من ذهب على صفحات من نور، ذلك أنهم أثمر إيمانهم، وأزهر إسلامهم، وجاءت في سيرتهم تلك المعاني العظيمة والمواقف الكريمة التي ارتقوا بها قمماً كثيرةً في الإيمان والإخلاص والصبر والجهاد والإنفاق وحفظ الأوقات والثبات، ونحو ذلك من من الأمور الكثيرة.
فلعلنا أن نعرج على بعض هذه القمم، ونقف مع بعض رجالها؛ لننظر في هذه القيم والسير ما لعله يحيي قلوبنا، ويهيج إلى مثل هذه المعالي نفوسنا، ولعلها أيضاً قصص وسير تحسن في نفوسنا، وتبقى وتخلد في عقولنا، فنثيرها في مجالسنا، ونذكرها لأحبابنا، ونعلمها ونلقنها لأبنائنا بدلاً من أن تكون القمم اليوم هي القمم التافهة الدنية الرخيصة، والتي نستمع ونقرأ في أحايين كثيرة عنها، فإذا بقمة للفن، وقمة لكذا، وقمة لكذا، وتنصرف الأذهان إلى من شغل هذه القمة، ومن الذي سيخلف صاحب هذه القمة في قمته، وكلها ليس لها من القمم أصل ولا وصل ولا سبب ولا نسب، وإنما هي الموازين التي انعكست، والقيم التي ارتكست، والأهواء التي استحكمت في الناس وشاعت في مجتمعات كثير من المسلمين، نسأل الله عز وجل السلامة منها.
وكنت تصفحت كثيراً في كتب مختلفة من كتب التراجم، بعضها عام وبعضها خاص في مواضيع بعينيها، وكلما قرأت وجدت أن البحر ممتد، وأن الأمواج المتلاطمة كثيرة، وأن مثل هذه السير كبحر لا ساحل له ولا قعر، وأن من أراد أن يعيش في سير السابقين لينظر إلى تراثهم وأمجادهم فإنه ينقضي عمره دون أن يحيط بشيء يسير مما سطروه وخلدوه من المآثر العظيمة؛ ولذا سنمضي مع هذه السير والقمم والرجال على غير نسق ولا نوع من الضبط أو التركيز فيها، وإنما نمضي مع بعض قمم وبعض رجالاتها، ثم نخلص إلى غيرها؛ حتى ننتفع، وليس فيما سأذكره مجال كبير للتعليق، فإن مثل هذه القصص فيها من العظة والعبرة ما يغني عن كثرة التعليق عليها.(86/2)
قمة الإخلاص والتجرد لله تعالى
أول قمة نشرف عليها: قمة الإخلاص والتجرد لله سبحانه وتعالى؛ التي هي من أزكى ثمار الإيمان، ومن أدل دلائل صدق التوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أرجى أعمال العباد في الدنيا وفي الآخرة عند الله سبحانه تعالى؛ فكم كان أولئك القوم يسرون بأعمالهم، ويتجردون فيها لوجه الله الكريم، ولا يسمحون أن تخالط نفوسهم شيء من العزمات أو الهمم أو المقاصد التي تصرفهم عن وجه الله عز وجل، ولا يدعون إلى العجب بأعمالهم إلى نفوسهم طريقاً، وكما قلت: يضيق المقام عن ذكر مآثر أولئك القوم.(86/3)
قمم أخلصت لله طلب العلم
ذكر بعض أهل العلم: أن هشاماً الدستوائي -وهو من العلماء- قال: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط لأطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.
من شدة إخلاصهم كانوا ينكرون على أنفسهم، فعلق الذهبي على هذا تعليقاً ذكر فيه كثيراً من أصناف الناس الذين يخوضون ميدان العلم وليس لهم في الإخلاص حظ ولا نصيب، فقال الذهبي: والله ولا أنا، أي: ولا أنا أستطيع أن أقول: إني أخلص لله عز وجل في هذا.
وقد كانوا مخلصين، لكنهم من شدة إخلاصهم لم يكونوا يجزمون بإخلاصهم، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، وكما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا أيضاً حسن.
ثم نشروا العلم بنية صالحة، ثم قال الذهبي في أصناف من خلفهم ومن جاء بعدهم ممن لم يطلب العلم لله: ونرى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله، وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش؛ فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله بعلمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ فوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً؛ غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يريده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو.
كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً، وكان الذهبي يقول هذا وهو في منتصف القرن الثامن الهجري تقريباً، فكيف بمن جاء بعده في أعصرنا هذه؟! نسأل الله عز وجل السلامة.
وكما قلت فإن الأبواب كثيرة في مثل هذا الباب، ومما يؤيد هذا مقالات الأئمة، كما قال بعض السلف لما سئل: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن كلامنا لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
وهكذا تجد أن الإنسان يتأمل في سير أولئك فيرى مثل هذه المواقف العظيمة الجليلة التي تدل على مثل هذا الباب العظيم من أبواب الخير.(86/4)
قمم أخلصت لله العبادة
فهذا جعفر بن البرقان يقول: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح، وتقوى وورع، فكتبت إليه قائلاً: يا أخي! بلغني عنك فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه.
يعني: اكتب لي عن حالك وأعمالك حتى أنتفع بها.
فكتب له يونس: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد.
ثم عرضت عليها مرةً أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت أن الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر أيسر عليها من ترك ذكرهم.
فهذا أمري يا أخي، والسلام.
فهو يبين له أنه ما زال في مجاهدة نفسه في ترك الأمور التي يخرج بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وهذا علي بن الحسين كان يتخفى في ظلمات الليالي، ويخرج حاملاً على ظهره بعض الأقوات والأرزاق، فيتفقد بها فقراء المدينة؛ فيطرق عليهم أبوابهم بالليل، فيضع عندهم ما يتيسر من صدقته، ثم يختفي لئلا يعلم بشأنه أحد، فلما مات وانقطع هذا العمل الذي كان يتحدث الناس به عرفوا أنه من صنيعه رحمه الله ورضي الله عنه، وهكذا كانوا يفعلون الأعمال الصالحة التي لا يقدر عليها إلا النادر من الناس، ثم هم مع ذلك يتخفون بها، ويسدونها.
وهذا ابن المبارك إمام عظيم من أئمة التابعين، كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وينفق على طلبة العلم الأموال الطائلة.
قال محمد بن المثنى: حدثنا عبد الله سنان، قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرطوس، فصاح الناس: النفير! أي جاء وقت الجهاد، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب البراز، فخرج إليه رجل من المؤمنين فقتله، ثم طلب البراز، فخرج إليه ثان ثم ثالث حتى قتل ستةً من المسلمين، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت، فافعل كذا وكذا -أي: أنه يوصيه- ثم حرك دابته بعد أن تخفى وبرز للعلج فقاتله ساعةً ثم قتله، ثم طلب المبارزة، فخرج له علج آخر من الروم فقتله حتى قتل ستةً منهم، ثم طلب البراز فخافوا منه، فضرب دابته وغاب بين الصفين، ثم غاب فلم نشعر بشيء، ثم إذا به يقول لي -في الذي كان-: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحد وأنا حي، فذكر كلمةً - أي: من الوعيد الشديد- لأنه كان قد اضطر أن يشير إليه إشارةً إن قتلت فافعل كذا وكذا.
وهذا محمد بن كعب القرظي يروي لنا رواية عجيبةً فريدة عن رجل أغفل التاريخ ذكر اسمه؛ لأنه كان من الأتقياء الأخفياء، قال: أصاب الناس في المدينة قحط، فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، قال: فكنت متوسداً -متكئاً- على ساريتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الناس متزراً بإزار وعلى كتفه آخر، فطرح رداءه، ثم جعل يدعو فاستمعت إليه، فقال: يا رب! إن أهل مسجد نبيك صلى الله عليه وسلم استسقوك فلم تسقهم، فأقسمت عليك يا رب إلا سقيتهم، فقال- أي: محمد بن كعب -: مجنون هذا الذي يقسم على الله عز وجل، قال: فما لبثت أن سمعت صوت الرعد، ثم غشي الناس المطر، ثم إذا بالرجل يحمد الله عز وجل، ويقول: من أنا حتى تجب دعوتي، قال: ثم انتصب إلى ساريته، فقام يصلي، فلما خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح، فخرجت وراءه، فإذا به يرفع ثوبه -من كثرة الماء في الطرقات من المطر الذي أكرم الله عز وجل به العباد- فرفعت ثوبي وتبعته، ثم خفي عليَّ فلم أعرف موضعه.
قال: فلما كانت الليلة الثانية كنت متوسداً ساريتي في المسجد، فجاء الرجل فعرفته، فقام فصلى، فبقي حتى إذا خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح فتبعته حتى دخل داراً من دور المدينة فعرفتها وعلمتها، ثم جئت في صباح اليوم فإذا بالرجل إسكافي-يصنع الأحذية ويصلحها- فجئت فسلمت عليه فعرفني، فقال: هل لك من نعل فأصلحها، فنظرت إليه، فقلت: ألست صاحبي البارحة والتي قبلها، فغضب علي، وقال: إليك عني، ثم مضى ودخل داره، فذهبت عنه، فانتظرته الثالثة- أي: الليلة الثالثة- فلم يحضر، فذهبت إليه في اليوم الرابع، فما وجدت له أثراً في بيته، فقال لي بعض من حوله: ما صنعت بالرجل؟ قلت: أي شيء كان منه؟ قال: ما لبث بعد أن كلمته حتى دخل فجعل ما عنده من جلد ومتاع، فخرج فلم نعلم به، ولم نر له أثراً.
فكذلك كان أولئك القوم في شدة إخلاصهم لله سبحانه وتعالى وتوقيهم وطلبهم لأن يكون عملهم لوجه الله جل وعلا؛ ولذلك كانت لهم في هذا سير عجيبة عظيمة.
ومن ذلك: أن مسلمة بن عبد الملك جاء وسأل عن حسن أهل البصرة- الحسن البصري - خالد بن صفوان، فقال له خالد في وصف الحسن: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، يعني: أنا أعرف الناس به، فأي شيء وصف به خالد الحسن رحمه الله؟ قال: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.
فقال له مسلمة: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟ ومن عبر هذه المقالة: أن مما أصابنا قلة القدوات الذين يتأسى بهم الناس، ويكونون في القوم كالقلوب النابضة الحية تبث الحياة في الناس، وتعيد إليهم ما سلف من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، وثبات أقدامهم، ولجوئهم إلى ربهم، وافتقارهم إلى بارئهم سبحانه وتعالى.(86/5)
قمة الخشية والخوف من الله
إذا تأملت قمة أخرى وباباً آخر من الأبواب العظيمة التي افتقدناها وغابت عن حياتنا -إلا من رحم الله- وهي أمر الخشية لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى الذي أقض مضاجع أسلافنا، وأجرى مدامعهم، حتى خدت على وجوههم أخاديد، واسودت منها وجوههم، وكانوا على خوف دائم، وتذكر مستمر لله عز وجل وللآخرة، حتى إن المرء ليعجب مما كانوا عليه من الخوف والخشية رغم ما كانوا عليه من العلم والإيمان، وهكذا لا يزيد الإيمان المرء إلا خشيةً لله عز وجل، ولا تزيده الغفلة إلا بعداً عن الخشية وركوناً إلى قسوة القلب، عياذاً بالله عز وجل.
هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراوية أحاديثه الشهير؛ لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: بعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو النار.
وهذا الإمام أحمد، قيل له: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟ فحينئذ لابد أن ينزعج القلب، وأن يكون أقرب إلى الخوف والخشية من الله عز وجل إذا استحضر ذلك وتأمله، وكان ذاكراً له متأملاً فيه.
وهذه قصة فيها نموذج وقمة من قمم الخشية والبكاء من خشية الله عز وجل، وفيها بيان التأثير الذي يكون لأولئك الذين ملئت قلوبهم خوفاً وخشيةً، وذرفت عيونهم دمعاً ثخيناً من خشية الله عز وجل: هذا مخول يقول: جاءني بهيم العجلي يوماً فقال لي: أتعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني- يريد مرافقاً له ليكون معه في رحلة الحج، وقد كان السفر في تلك الأيام طويلاً-؟ قال: نعم، فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما، واتفقا على المرافقة، ثم إنه رجع وقال: كيف لي أن أرافق هذا؟ قلت: وما له؟ قال: حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا سفرنا كله، قال: قلت: ويحك! إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكر؛ يرق قلب الرجل فيبكي، أو ما تبكي أنت أحياناً؟ قال: بلى، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه، قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به، قلت: أستخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه وتهيئا، جلس بهيم في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض، قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق، قال: قلت: ارفق لعله تذكر عياله ومفارقته إياهم، ولما سمعه قال: والله ما هو بذاك، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، قال: يقول صاحبي: يا أخي! والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولهذا إنما كان ينبغي أن ترافق بينه وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعاً، قال: فلم أزل أرفق به، وأقول: ويحك! لعلها خير سفرة تسافرها، قال: وكان كثير الحج، رجلاً صالحاً إلا أنه كان رجلاً تاجراً إلى آخره.
فلما رجعا من الحج جئت أسلم على جاري الذي رافق العجلي، فقال: جزاك الله يا أخي عني خير الجزاء، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر العجلي، كان والله يتفضل عليَّ في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم، قال: فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذين كنت تكره من طويل بكائه؟ قال: ألفت والله ذلك البكاء، وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة- الذين كانوا معهم في القافلة- قال: ثم والله ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟ قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي.
فكان هذا من آثار أولئك القوم، وما كانوا عليه في مثل هذه السير العظيمة الجليلة التي كانوا فيها، والأمر في هذا كما أسلفنا يطول، وقد كان أسلافنا من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد عندهم من الأمر ما يضيق ذكره في مثل هذه العجالة.(86/6)
قمة الحفاظ على الوقت
ثم نطوف أيضاً بباب آخر من الأبواب الجليلة في حياة أسلافنا، وفي القمم التي ارتقوا عليها، ومن هذا: الحفاظ على الوقت: والوقت أشرف ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع عندما ننظر إلى سير أسلافنا رحمهم الله نجد أن الأمر في هذا عجيب غاية العجب، ونرى في سيرهم ما لعل بعض الناس ينكره ويعده من المستحيل، أو من الغرائب التي لا تصدق، أو مما يذكر على سبيل المبالغة، ولم يكن من ذلك شيء، ولكن القوم كانوا أهل جد وعمل، كما كانوا أهل إخلاص وورع وخشية، ومن ثم كانوا يشمرون عن ساعد الجد في حفظ الوقت، وطلب العلم، والأخذ بأسباب العبادة والطاعة لله عز وجل، حتى جعلوا أوقاتهم كلها مشغولةً بالخير والطاعة، ويجد المرء في ذلك عجباً في سير أولئك القوم.
من ذلك: ما روي عن بقية بن مخلد القرطبي صاحب المسند الشهير، وكان من أصحاب الإمام أحمد وأخذ عنه الحديث، يقول عنه حفيده في ترتيب يومه وعمله وعبادته واستثمار وقته: كان جدي قد قسم أيامه على أعمال البر، وكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف سدس القرآن، وكان يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره -أي: بعد ورد الصباح الطويل- وقد اجتمع في مسجده الطلبة، فيجدد الوضوء ويخرج إليهم -ليعلمهم ويحدثهم- فإذا انقضت الدروس صار إلى صومعة المسجد فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يسمع إلى العصر -يعني: يحدث الطلبة إلى العصر- ويصلي ويسمع إلى ما بعد صلاة العصر، وربما خرج في بقية النهار فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده ثم يصلي ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد فيخرج إليه جيرانه فيتكلمون معه في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء ويدخل بيته فيحدث أهله، ثم ينام نومةً قد أخذتها نفسه، ثم يقوم.
هذا دأبه إلى أن توفي، وكان جلداً قوياً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مظلمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيريا، ومشى مع امرأة ضعيفة إلى جيان، وهو من أهالي قرطبة.
فهذا يوم عملي من أيام أسلافنا رحمة الله عليهم.
وهذا مثل آخر للإمام عبد الغني المقدسي في شأن أوقاته، قال الذهبي في ترجمته: كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومةً ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ -أي: كتابة العلم- إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه، ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، وربما توضأ سبع مرات أو ثمانية في الليل، وكان يقول: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبةً، ثم ينام نومةً يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه.
وقال عنه ابن أخته: كان الحافظ جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا وطلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر.
وهذا ابن عساكر أحد كبار أئمة المسلمين في التصنيف، وقد صنف من الكتب ما يعجز كثير منا عن أن يقرأها في حياته كلها، فله تاريخ دمشق الذي تم طبعه بالطباعة الحديثة التي معنا، فإنه يبلغ نحواً من ستين مجلداً أو أكثر، وقد صنف من الكتب العظيمة الكبيرة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، وهذا الحافظ الجليل يدلنا عمله على ما كان عنده من اغتنام للأوقات، وما كان له من استثمار لها.
ومثله أيضاً ابن عقيل الحنبلي الشهير صاحب كتاب الفنون الذي يعد من أكبر كتب أهل الإسلام، كان يقول عن نفسه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عقد الثمانين -يعني: بعد الثمانين- أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سف الكعك -الكعك يجعله دقيقاً- وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على المطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة.
وابن الجوزي رحمه الله أيضاً هو من كبار المصنفين في تاريخ الإسلام، كان يروي عن ابن عقيل أنه كان دائم الاشتغال بالعلم، وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وهكذا نجد أن الباب في هذا يتسع، والمقام فيه يطول، والأخبار فيه كثيرة جداً.(86/7)
قمة الإنفاق في أبواب الخير
ننتقل إلى باب آخر من الأبواب الجليلة العظيمة التي تتصل بالإنفاق في أبواب الخير المختلفة التي كان أسلافنا رحمهم الله تعالى يحرصون عليها ويرون أنها من الأمور المهمة التي يحتاجون إلى تذكرها، والتواصي والعمل بها.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل الشهير يختبر بعض أصحابه يقول مالك الدار مولى عمر: أمرني عمر وأعطاني أربعمائة دينار، وقال: اذهب بها إلى أبي عبيدة، ثم امكث ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع بها، فذهب بها الغلام، فقال: يقول لك أمير المؤمنين خذ هذه، فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان.
حتى أنفذها -أي: حتى فنيت كلها- فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده قد أعد مثلها -أربعمائة أخرى- لـ معاذ بن جبل فأرسله بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بها إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك، وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
وهكذا نجد أن السيرة تتوالى في هذا، وتكثر وتعظم عند الصحابة ومن جاء بعدهم، ومثل ذلك ما ورد في سيرة طلحة عندما جاءه مال من حضرموت فجعل يقسمه، وجاءه مال آخر في آخر وقت النهار، فجعل يريد أن ينام حتى يصبح، فقال لزوجته: أي شيء يصنع إنسان معه مثل هذا المال؟ فقالت له: إذا أصبحت فاقسمه، فقال: إنك خيرة بنت خير، أو إنك فاضلة بنت فاضل، وكانت زوجته أم كلثوم بنت أبي بكر، فلما أصبح قسم حتى نسي نفسه وأهله.
ومن ذلك أيضاً ما كان يصنعه السلف في الإنفاق على طلب العلم، فإنهم لم يكونوا يدخرون المال للأثاث والرياش، ولا للطعام والشراب وإنما كانوا ينفقونه في سبيل الله ولطلب العلم وتحصيله، كما في سيرة عبد الرحمن بن أبي ربيعة الذي نعلم من سيرته أنه كان إماماً من أئمة أهل العلم بالمدينة، وكان شيخاً للإمام مالك، فقد خرج أبوه إلى الغزو والجهاد وخلف عند أمه ثلاثين ألفاً وقال لها: أنفقي بها على نفسك وعلى ولدك، ثم لما رجع من الغزو والجهاد بعد فترة من الزمن سألها عن المال، فقالت: يكون خيراً إن شاء الله، امض إلى الصلاة ثم عد، فلما ذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد حلقة من حلق العلم وفيها رجل يحدث والناس حوله يأخذون عنه ويتلقون منه، فسر بهذا المنظر وأعجب بهذا العالم، ثم مضى إلى زوجه ويسأل مرةً أخرى عن المال؟ فقالت له: ماذا رأيت في المسجد؟ قال: رأيت كذا وكذا، قالت: أيسرك أن يكون عندك ثلاثون ألفاً أو يكون لك ابن مثل هذا؟ قال: بل مثله عندي أعظم من أمثالها، فقالت: فإني أنفقتها كلها في تعليم ابنك، فهذا هو ابنك عبد الرحمن بن أبي ربيعة! وهكذا كانوا ينفقون في هذا الباب؛ حتى إن جل ما كان عندهم من تحصيل الأموال لا يؤخرونه إذا كان في سبيل تحصيل العلم وطلبه، فهذا علي بن عاصم كما في ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي، وهو علي بن عاصم الواسطي مسند العراق الإمام الحافظ الكبير كان يقول: دفع إليّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى وجهك إلا بمائة ألف حديث.
وهذا لا شك أنه من أعظم الأبواب المهمة التي تميز بها أسلافنا عما هو في واقعنا.
وهذه أيضاً سيرة أخرى للإمام هشام بن عبيد الله الرازي كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ، قال موسى بن نصر: سمعته يقول: لقيت ألفاً وسبعمائة شيخ، خرج مني في طلب العلم سبعمائة ألف درهم، أي: في تحصيل العلم وطلبه.
فتجد أن هذه الثروات الطائلة كانوا ينفقونها في طلب العلم؛ لما له من عظيم الأثر وعظيم الاهتمام والعناية عندهم، وربما تجد الناس اليوم ينفقون على أمور من الكماليات والتوافه التي ينبغي أن يترفعوا عنها ما هو أضعاف أضعاف مثل هذا، فإذا جاء الأمر للإنفاق في سبيل الله أو تحصيل العلم أو شراء الكتب أو نحو ذلك استعظموا هذا الذي ينفقونه.
وقد كان من عجائب السلف أنهم ربما أرملوا وبلغوا الشدة العظيمة من الحاجة والفاقة، ولم يكونوا يفرطون في شيء من العلم إلا في أشد الظروف وأحلكها.
هذا موقف فيه عظة وعبرة يبين لنا عظمة ما كانوا يحرصون عليه من العلم، وينفقون فيه من المال موقف من سيرة أبي الحسن الفالي المحدث الأديب الشاعر الذي كانت وفاته سنة ثمان وأربعين وأربعمائة للهجرة، تقول الرواية عنه: كانت عنده نسخة من كتاب الجمهرة لـ ابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم بستين ديناراً، وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي المذكور، وهذه الأبيات تقول: أنست بها: يعني بهذا الكتاب.
أنست بها عشرين حولاً وبعتها فيا طول وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شئوني فقلت ولم أملك سوابق عبرتي مقالة مكوي الفؤاد حزين وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين كأنما يكون فقد أحد أبنائه، فلما رأى الشريف هذه الأبيات مكتوبةً عليها رد عليه نسخته وترك له دنانيره.
وهكذا نجد هذا الباب من الأبواب في الإنفاق في طلب العلم قمة من القمم التي رقى إليها كثير من الرجال من أسلافنا رحمة الله عليهم.(86/8)
قمة في طلب العلم
هذه قمة أخرى تتعلق بالعلم وطلبه، والتعلق به، والتفرغ له، وإنفاق الأوقات في تحصيله حتى بلغوا العجب العجاب في مثل هذه الميادين، وحتى حفظ العلماء منهم ليس العشرات ولا المئات ولا الآلاف، بل مئات الآلاف من الأحاديث والروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بلغوا الغاية في دقة الحفظ وتجويده، والتفرغ للعلم والتعلق به، ولسنا بصدد ذكر ما يتعلق بالحفظ والعلوم وإن كان هذا باباً واسعاً، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن الحافظ هل يسمى حافظاً إذا حفظ مائة ألف؟ قال: لا، قالوا: مائتي ألف؟ قال: لا، حتى بلغوا أربعمائة ألف؟ قال، لا، قالوا: خمسمائة ألف؟ قال: لعله.
أي: لعله أن يكون حافظاً أو يسمى حافظاً.
وكان عند الإمام أحمد مائتا جراب كلها فيها نسخ من الأحاديث عن سفيان بن عيينة وليس فيها رواية، فكانوا يخرجونها له، فكان يعرف كل حديث منها، ويقول: هذا حدثني به فلان عن سفيان، وكلها عن سفيان، لكنه يحفظ إسناده لها عن سفيان ويميز بينها مع كثرتها، وكانوا يحفظون من العلوم والأحاديث واللغة - كما قلنا- ما لا تبلغه عقولنا تصوراً؛ لقلة هممنا وضعف عزائمنا في مثل هذه الأبواب، ولكني أذكر شيئاً مما يتعلق بتعلقهم بالعلم، وعظيم ارتباطهم به في صور وأحوال شتى، فهذا أبو علي الفارسي الحسن بن أحمد الفسوي الذي كانت وفاته سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة: وقع حريق ببغداد، فذهب به جميع علم البصريين، واحترقت كثير من كتبهم، قال هذا: وكنت كتبت ذلك كله بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً البتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن، قال: سألته عن سلوته وعزائه.
يعني: ما الذي حصل له عندما احترقت كتبه؟ واليوم ربما نجد بعض الطلاب بعد الاختبارات يمزقون الكتب بأنفسهم، أو يرمونها في الطرقات، وكأنها لا قيمة لها عندهم، بل هي في الحقيقة لا قيمة لها عندهم، قال: سألته عن سلوته وعزائه في هذا، فنظر إلي عجباً، فقال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت فيها مدةً ذاهلاً متحيراً.
من شدة حزنه كأنما فقد ابناً من أبنائه، وكما قال القائل: وفقد الكتاب كفقد الصواب فيا هول من قد أضاع الكتب وهذا لعل فيه تذكرة لطلبة العلم أن يحافظوا على كتبهم.
وهذا ابن جرير إمام من أئمة العلماء المشهورين، وصاحب التفسير والتاريخ، وصاحب الكتب العظيمة كتهذيب الآثار وغيره؛ الذي نعلم من علمه أنه قال: تنهضون لكتابة التاريخ؟ قالوا: كم يكون؟ قال: يكون ثلاثين ألف صفحة، قالوا: إن ذلك أمر تفنى فيه الأعمار، وتعجز عن مناظرته الأبصار، فلما رأى ضعف همتهم، اختصره في ثلاثة آلاف، وهذه الثلاثة آلاف هي تاريخ الطبري الذي بين أيدينا مطبوعة في نحو ستة أو سبعة مجلدات، هذا المختصر الذي اختصره لهم؛ لأنهم كانت همتهم ضعيفة في زمنه، هذا ابن جرير يروي عن نفسه ما قلت.
سنذكر بعض ما يتعلق بطلب العلم من القصص، وتعلقهم به، يقول ابن جرير: مضيت يوماً إلى النخاسين الذين يبيعون الإماء والرقيق في طريقي، ورأيت جارية تعرض للبيع، حسنة الصورة كاملة الوصف، قال: فوقعت في قلبي، ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله، فقال لي: أين كنت الساعة؟ فعرفته- بالخبر- فأمر بعض أسبابه-أي: غلمانه- فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى، فقلت لها: كوني فوق- حتى يتبين براءة رحمها من الحمل -قال: وكنت أطلب مسألةً من العلم، فإذا بها قد اختلت علي- تشوش فكره- فاشتغل قلبي عن علمي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاسين، فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها فقالت له: دعني أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تبين ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً، فعرفني ذنبي قبل أن تخرجني، فقال لها: ما لك عندي عيب غير أنك شغلتيني عن علمي، فقالت: هذا أسهل عندي.
بالنسبة لها هذا أمر سهل؛ لأنها ليست تعرف مثل هذه الأمور ولا مثل هذه المسائل.
ومن لطيف ما يذكر من تعلقهم بالعلم وحرصهم عليه: أن أبا عبيد القاسم بن سلام الإمام الشهير كان يفكر في مسألة؛ فأقضت مضجعه طوال ليله فلم ينم، فكلما اضطجع قام، حتى إذا فتح له فيها قام يقفز ويصيح فرحاً بها، وما زال كذلك حتى أصبح.
من شدة فرحهم بمسألة من مسائل العلم تفتح عليهم، أو أمر يتصل بهم في مثل هذا، وكانوا يعرفون للعلم قدره ومنزلته، وأنا كما ذكرت سأشير إلى ما يتعلق بالعلم من جوانب ليست هي من صلب العلم؛ لأن صلب العلم لو تحدثنا عنه لكان الأمر يطول بنا وهو أمر قد سلمنا فيه بعجزنا، ولكن أذكر بعض الملح التي تبين ما هو أعظم من مجرد الحفظ والعلم، وشدة تعلقهم به وكونه هو مدار حياتهم.
فهذا الحافظ ابن عساكر يروي هذه الرواية يقول: سمعت ابن الأكفاني يحكي عن بعض مشايخه أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا- منطقة قريبة من دمشق- فمات إمام جامع دمشق، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به- أي ليكون إماماً بعد الإمام الذي مات، فماذا صنع أهل داريا؟ - قال: فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن نصر وكان رجلاً حكيماً: يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمامكم، هذا فخر عظيم أن أهل دمشق جاءوا يطلبون إمامكم، وافتقروا إليه، فقالوا: قد رضينا، وهذه صورة من صور المجتمع الذي كان يعيش فيه أولئك القوم في سير وأماكن وتواريخ مختلفة.
ومن ذلك أيضاً: الضنك والعناء الذي لقيه بعضهم في تحصيل العلم، وهذا باب واسع عظيم قد أفرده بعض المعاصرين بالتصنيف، فأفرد فيه كتاباً هو من نفائس الكتب المعاصرة التي ينبغي لطالب العلم أن يقرأ فيها، وأن يحرص على اقتنائها، وهو صفحات من صبر العلماء على تحصيل العلم وشدائده للشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله، من ذلك قصة المحمدين الثلاثة، وقد أوردها الذهبي في السير، وهم: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، وهؤلاء كل واحد منهم إمام كبير من أعظم وأشهر الأئمة والعلماء، هؤلاء الثلاثة توافقوا في طلب العلم، حتى أرملوا وافتقروا، ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا، فماذا صنعوا؟ اجتمعوا ليلةً في المنزل الذي كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، وبينما هو في أثناء الصلاة إذا بالشموع ورجل من قبل والي مصر أحمد بن طولون يدق عليهم الباب، ففتحوا، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقالوا: هو ذا.
وأشاروا إليه، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ قالوا: هذا.
فأخرج صرةً فيها خمسون دينار وأعطاها إياه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق؟ قال: هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرةً فيها خمسون دينار، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ وكان رابعاً لهم أيضاً، فقيل: هو ذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نائم في وقت الظهر- فرأى في المنام قائلاً يقول: إن المحامد -أي المحمدين هؤلاء- طووا كشحاً جياعاً فأنفذ إليهم هذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم، فهذا أيضاً مشهد أو صورة من هذه الصور الكثيرة.(86/9)
قمة في الثبات عند الشدائد
ننتقل إلى باب آخر من الأبواب؛ وفي كل باب من هذه الأبواب قصص كثيرة، ولعلنا نقف عند باب من الأبواب العظيمة المهمة، وهو: باب الثبات والصبر عند الفتن والشدائد، ورب رجل صبر في الضراء، ولكنه عند السراء صار عكس ذلك، ورب رجل كانت له مواقف في الثبات عند الشدائد، ولكنه عند الإغواء والإغراء لا يثبت، ولكنا نقف هذه الوقفات لنرى بعض الصور التي في سير أولئك القوم مما يدلنا على أنهم بلغوا فيها الذروة والغاية في الثبات.
ومن أول ما نبدأ به: قصة عبد الله بن حذافة السهمي رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الصحابي الجليل المشهور الذي نعلم من قصته ما كان من أسره، ثم إن ملك النصارى عرض عليه أن يتنصر وأن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو كان ملكك ومثله معه وملك العرب ما رجعت عن ديني، فقال: اقتلوه، ثم أمرهم أن يصلبوه ثم يضربوا عن يمينه وشماله، فما تحرك عن موقفه وهو يعرض عليه، ثم أتى بأسيرين من أسارى المسلمين فغمسهما في قدر فيها زيت يغلي فيدخلان لحماً ويخرجان عظماً، فبكى رضي الله عنه ودمعت عينه، فقال: إلي به- لعله أن يكون قد رجع عن موقفه- فقال: كلا، وإنما هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعر رأسي أنفس تلقى كلها في سبيل الله عز وجل، فلما عجز عنه الطاغية قال له: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر فأخبره خبرهم، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقبل رأسه، رضي الله عنهم أجمعين، فثبت في مثل هذه المحنة العصيبة الشديدة.
وكذلك كان ثباتهم في مثل هذه المواقف العظيمة واضحاً وجلياً كما في قولة أخرى يذكرها لنا شريح القاضي الذي كان من أئمة التابعين ومن المشاهير المعروفين من السلف الصالح رضوان الله عليهم، ونجد أيضاً قصصاً كثيرة في هذا، ومن ذلك الثبات عند فتنة الإغراء، وخاصةً فتنة الإغراء بالمال.
هذه الرواية يرويها عبد الرزاق، عن النعمان بن زبير الصنعاني: أن محمد بن يوسف بن يحيى بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار أو خمسمائة دينار، وقيل للرسول: إن أخذها الشيخ منك فإن الأمير سيحسن إليك ويكسوك، يعني أن يقبل هدية الأمير، فقدم بها على طاوس، فأراده على أخذه فأبى، فغافله ثم رمى بها في كوة البيت؛ لأن الرسول يريد أن يقول: قد أخذها منه حتى ينال مكافئة الأمير، فرجع وقال لهم: قد أخذها، ثم بلغهم عن طاوس شيء يكرهونه من مخالفة أو قول، فقال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول، فقال: أين المال الذي بعث به الأمير إليك؟ قال: ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول، وعرفوا أنه صادق، فبعثوا إلى الرجل الأول وبعثوه إلى طاوس، قال: أين المال الذي جئتك به؟ قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، فنظر حيث وضعه فوجده، فإذا بالصرة قد بنى العنكبوت عليها، فذهب بها إليه، أي: ما نظر إليها ولا التفت، ولا رأى منها شيئاً.
وهكذا نجد أيضاً في هذا الباب قصصاً كثيرة لكثير من أعلام السلف رضوان الله عليهم.
ومن صور الثبات أيضاً عند مثل هذه الفتن: أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة إبان ولاية عمر بن عبد العزيز عليها، فصلى سليمان بالناس الظهر، ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم، فقال لـ عمر: من هذا، ما رأيت أحسن سمتاً منه؟ فقال له عمر: هذا صفوان، قال سليمان: يا غلام كيس فيه خمسمائة دينار، فأتاه به، فقال لخادمه: اذهب به إلى ذلك القائم، يعني: عند المسجد أمامه، فأتى حتى جلس إلى صفوان وهو يصلي، ثم سلم فأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟ قال: يقول أمير المؤمنين: استعن بهذه على زمانك وعيالك، قال صفوان: لست الذي أرسلت إليه، فقال له: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: اذهب فاستثبت، فولى الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة؛ حتى لا يتعرض لمثل هذا الموقف.
كما أن هناك جوانب أخرى من الثبات عند فتنة النساء على وجه الخصوص، فإن هذه فتن عظيمة كان فيها لأسلافنا من العباد وأهل الصلاح مواقف.
قال محمد بن إسحاق: نزل السري بن دينار في درب بمصر، وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة، فقالت: لأفتننه، فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: ما لك؟ فقالت: هل لك في فراش وطي، وعيش رخي، فأقبل عليها وهو يقول: وكم ذي معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوأتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا وأعجب من هذا قصة يذكرها أبو الفرج: أن امرأةً جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فقالت: هل يرى أحد وجهي وجمالي ولا يفتن بي، كانت تفرح بذلك، فقال لها: نعم.
عبيد بن عمير، فقالت: أتأذن لي في فتنته، فأذن لها، فأتت لـ عبيد بن عمير كالمستفتية في ناحية من المسجد الحرام، فكشفت عن وجهها، فقال: استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، فقال لها: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، فقال: أخبريني: لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو دخلت القبر وأجلست للمسائلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون -البطال: الذي ليس عنده عمل- فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، وكان زوجها يقول: ما لي ولـ عبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة.(86/10)
قمة في الجهاد
لعلنا أن نقف وقفةً يسيرةً فيما يتصل بالجهاد وأسلافنا وما كانوا عليه فيه، وهو أمر عظيم، وبابه واسع، ولكن نذكر بعض ذلك.
قال ثابت في شأن صلة -وهو من التابعين-: إن صلة كان في الغزو ومعه ابنه، فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك.
يقدم ولده للموت وللشهادة حتى ينالها، وحتى يصبر هو فيحتسب أجره، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتن جئتن لتهنئنني، وإن كنت جئتن لغير ذلك فارجعن.
فكانت تطلب التهنئة على شهادة زوجها وابنها.
وخالد بن الوليد علم المجاهدين القواد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يقول: ما ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب؛ أحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو.
فكان هذا دأب تعلقهم ومحبتهم ورغبتهم في الجهاد في سبيل الله.
وقصة الخنساء وأبنائها الأربعة مشهورة في ذلك، لما قالت لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم، والله ما نبت بكم الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، ولا أوطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم، فإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين بالله.
فانصرفوا بعد وصية أمهم، وشدوا على العدو، وكان كل واحد منهم عندما يشد يقول أبياتاً من الشعر، فقال قائلهم: يا إخوتا إن العجوز الناصحه قد أشربتنا إذ دعتنا البارحه نصيحةً ذات بيان واضحه فباكروا الحرب الضروس الكالحه فإنما تلقون عند الصائحه من آل شاسان كلاباً نابحه قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحه أو ميتة تورث غنماً رابحه ثم شد الذي يليه وهو يقول: والله لا نعصي العجوز حرفا قد أمرتنا حدباً وعطفا منها وبراً صادقاً ولطفاً فباكروا الحرب الضروس زحفا حتى تكفوا آل كسرى كفا وتكشفوهم عن حماكم كشفا إنا نرى التقصير عنهم ضعفا والقتل فيهم نجدةً وعرفا ثم شد الذي يليه وهو يقول: لست للخنسا ولا للأخرم ولا لعمرو ذي الثناء الأقدم إن لم تزر في آل جمع الأعجم جمع بني شاسان جمع رستم بكل محمود لقاء ضيغم ماض على الهول خضم خضرم إما لقهر عابر أو مغنم أو لحياة في السبيل الأكرم تفوز فيها بالنصيب الأعظم ثم شد الذي يليه وهو يقول: إن العجوز ذات حزم وجلد والنظر الأوفق والرأي السدد قد أمرتنا بالصواب والرشد نصيحةً منها وبراً بالولد فباكروا الحرب نماءً في العدد إما لقهر واحتياز للبلد حتى قضوا جميعاً شهداء، فحمدت الله سبحانه وتعالى على استشهادهم، وسألت الله عز وجل أن يلحقها بهم على الخير والثبات في الأمر.
والباب في هذا واسع، والمواقف كثيرة جداً، ويضيق المقام عن ذكرها وحسبنا أن طوفنا ببعض منها، والأبواب والتراجم في ذلك كثيرة، والفضائل لأسلافنا عظيمة، سواء منها ما كان في إيمانهم أو عبادتهم أو إخلاصهم أو خشيتهم أو إنفاقهم، أو انشغالهم بمعالي الأمور دون سفاسفها، أو اتباعهم للحق وانصياعهم له وارتباطهم به، وإيثارهم له، وكذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل إلى آخر المواقف العظيمة والميادين الفسيحة التي كان لهم فيها سبق عظيم.
فنسأل الله عز وجل أن يجعل مثل هذه السير باعثة لنا على الخير، ورائدة لنا في ميادين الخير والطاعة والسبق إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، وأن نسعى لنقتفي آثار أولئك الرجال، وأن نشمر عن ساعد الجد والعمل؛ لنرقى إلى تلك القمم العالية الشامخة، عَلَّ الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الأجر والثواب، وأن يجدد بنا بعض ما سلف من تاريخ أئمتنا وعلمائنا وقوادنا الصالحين العابدين المؤمنين المخلصين لله رب العالمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله جل وعلا أن يلحقنا بهم على خير، وأن يجعلنا ممن يتأسون بهم، ويأخذون من سيرهم، ويهتدون بهديهم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصَلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(86/11)
الأسئلة(86/12)
التدرج في بعث الهمم
السؤال
لا يخفى ما عليه بعض الناس أو أكثرهم من ضعف الهمم وخور النفوس في هذه الأعصر عن أن تصل إلى هذه القمم -إلا من رحم الله- فهل من تدرج مناسب نحث به نفوسنا الضعيفة شيئاً فشيئاً حتى تبقى على الطريق القويم؟
الجواب
لا شك أن المنهج في هذا مهم، وإن كان حديثنا لم يتعرض له؛ لأننا أردنا فقط أن نقف هذه المواقف ونستجلي هذه السير، ونخوض في هذه الميادين؛ حتى نهيج النفوس؛ ونبعث العزم -بإذن الله عز وجل- وإلا فإن الإنسان بالفعل يحتاج إلى شيء من التدرج، ويستعين ببعض الأمور، منها: أولاً: صدق الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وحسن الصلة به جل وعلا.
وثانياً: لزوم الطاعات والبعد عن المعاصي والمنكرات؛ لأنها ظلمة للقلب، وحاجب عن التوفيق، ومانع من المضي في طريق مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وثالثاً: استشارة الخبراء والعلماء وأهل الإيمان والتقوى والورع، وطلب الموعظة منهم، وطلب الرأي السديد منهم.
ورابعاً: مجالسة الصالحين والأخيار والعلماء ومن يتداولون هذه السير؛ حتى يسمع الإنسان منهم دائماً ما يحرك عزمه ويقوي همته في طاعة الله سبحانه وتعالى.
وخامساً: الحزم لحفظ الوقت وعدم تضييعه، وترك المجاملات التي تضيع الأوقات قدر الاستطاعة، وهذا لابد فيه من نوع من الجد والصرامة والتحفظ والاحتياط والاحتراز؛ لأن مراعاة الناس ومجاملاتهم تذهب الأوقات وتضيع كثيراً من الأعمال والمنجزات، فينبغي للإنسان أن يحرص على هذا.
وسادساً: أن يكثر الإنسان من قراءة سير العلماء والأئمة، من مثل هذه السير التي عرجنا على بعض منها، وهي نزر يسير من بحر كثير، متلاطم الأمواج كما أشرنا، فلو قرأ في سير أعلام النبلاء، أو تهذيبه، أو صفة الصفوة، ونحو ذلك من الكتب التي فيها تراجم للصحابة والتابعين وبعض العلماء والأئمة، وقرأ في صفحات التاريخ فإن هذا مما يقوي العزم، ويشد الهمة بإذن الله عز وجل.
وسابعاً: أن يكثر من الدعاء لله سبحانه وتعالى في أن يثبته ويعينه على مثل هذه الأمور، ولا شك أيضاً أن التدرج مطلوب سواءً في الناحية العلمية أو العملية، أي في ناحية تفصيل العلوم وحفظها، وفي ناحية العبادات والأخذ بها؛ حتى يكون الإنسان في الوسط بإذن الله عز وجل.
ومما أحببت أن أشير إليه مما يضيع الأوقات ويضعف الهمم، والقضية التي يضيع فيها وقت كثير من الناس في متابعات صحفية أو إذاعية، في أمور ليست من الأمور التي تعود على الإنسان بالنفع والفائدة في علمه أو إيمانه أو معرفة واقعه، وإنما هي في اللهو أو الترف أو نحو ذلك، فينبغي للإنسان أن ينتبه لمثل هذه الأمور التي تضيع وقته.
وهنا بالنسبة لحفظ القرآن وطلب العلم ليس هذا مقامه، وموضوعنا الذي طرقناه إنما هو للتذكرة والعظة، وليس هو موضوعاً علمياً، إنما أحببنا فيه أن نجول هذه الجولة في هذه الرياض النضرة، والأجواء العطرة لعلنا أن نقتبس ونأخذ منها ما ينفعنا -إن شاء الله عز وجل- ويقوي عزائمنا، ومن علم فالعلم حجة عليه، ومن علم كان حجة على من لم يعلم أن يبلغه وأن ينشر ذلك بنفسه، وفي إخوانه وأبنائه وخاصةً صغار السن متى تلقوا في مقتبل عمرهم هذه السير وتهيأت لهم الظروف المناسبة؛ لكي يقرءوا ويحفظوا ويجدوا ويعملوا ويتربوا على الطاعة والعبادة، فإنه يرجى أن يكون عندهم ما ليس عند آبائهم الذين قد فاتهم من الوقت، وفاتهم من الظروف المناسبة ما أقعدهم عن مثل هذه القمم، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للهدى والتقى والخير والصلاح، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.(86/13)
الأمة في مواجهة الغمة
إن ما نشاهده اليوم من تسلط الأعداء على المسلمين، والهيمنة الكاملة للكافرين، يجعل اليأس يدب إلى قلب المسلم، ويجعله يستسلم للواقع المرير، إلا أن ديننا علّمنا ألاّ نيأس، وأن نتحصن بالإيمان، ونتحلى بالصبر، ونقوي اليقين في قلوبنا، وأن النصر للإسلام وإن تأخر، وإلى جانب ذلك علمنا أنه لابد من الاهتمام بصلاح القلوب والنفوس، وتقوية الإيمان واليقين وغيرها من أسباب النصر، وأنه لابد من الإعداد التام لمواجهة الباطل وحزبه، حتى يندحر شرُّه، وتنكسر شكوته.(87/1)
نزول الملمات بالأمة وكيف تواجه
الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم في الأرض الاستخلاف والتمكين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(87/2)
وهن الأمة وضعف عزائمها
أيها الإخوة المؤمنون! أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، تحيط بأمتنا في هذه الأيام، ونحن نقف هذه الوقفة مع الأمة في مواجهة الغمة، ولعلنا نرى صوراً مخجلة إذ نجد أن الأمة في مجموعها كأنها لا تملك من الأمر شيئاً، وكأن الحال كما قال القائل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود ونرى أن الآراء ما زالت متباعدة، وأن الأفكار ما زالت متباينة، وأن الوحدة ما زالت بعيدة.
من جهة ثالثة: نرى صوراً من زيغ الفكر، وضعف اليقين، وانحراف السلوك، بل نرى حقيقة النفاق والممالأة والمصانعة التي تزيد الأمة ضعفاً ووهناً، والتي تزيد أعداءها تسلطاً وتمكناً.
إننا لا نشك أن كل أحد منا عليه واجب، وفي عنقه مسئولية، وليست المهمة قاصرة على دولة أو أخرى أو حاكم أو آخر أو عالم أو مؤسسة، بل كل واحد في عنقه أمانة، وعلى كاهله مهمة.
ومن ثم فإننا ينبغي أن نعيد القول ونكرره، وأن نعاود المدارسة والمذاكرة في أحوال أمتنا التي هي في حقيقة أمرها مجموع أحوالنا، وإذا أردنا أن نؤكد هذه المعاني فينبغي لنا أن نكون صرحاء لا نستخدم التعمية الإعلامية، ولا الألاعيب السياسية، ولا المداهنات والمنافقات التي نجدها ليس في حياة الأمة على مستوى الدول والحكومات، بل على مستوى الأفراد والتجمعات، فلا بد أن نكاشف أنفسنا من خلال أنوار اليقين في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نكتشف خللنا وعيوبنا من خلال النظر في سنن الله سبحانه وتعالى الماضية التي نقرؤها في صفحات التاريخ الغابرة، ونشاهدها ونراها في الوقائع المعاصرة.
وعندما نكون كذلك ربما يكون هذا أول طريق للإصلاح وتغيير هذه الأحوال، ولكن لا يمكن أن نتصور أن يكون طريقاً قصيراً ينتهي في غمضة عين وانتباهتها، أو في أيام قلائل أو أعوام يسيرة، ولا يمكن كذلك أن نعتقده طريقاً سهلاً مذللاً مفروشاً بالورود، بل فيه عقبات عظيمة، وهوائل جسيمة، وفيه ابتلاءات ومحن وفتن لا يصبر لها ولا يجتازها إلا الخلص من المؤمنين الصادقين، والمسلمين المستسلمين لرب العالمين.(87/3)
أهمية الإيمان واليقين لجمع الكلمة وتحقيق النصر
وهذه وقفات كلية جامعة في الأمور المهمة لمواجهة هذه الملمة.
أولاً: الإيمان واليقين: وقد نكرر القول ونزيده، وليس في ذلك من ترف ولا سرف، ولا شيء ممل، بل هو عين اليقين؛ لأن ثوابتنا لا تتغير، ولأن أسس ومناهج الحل والتغيير لا تتبدل، ولأن بين أيدينا كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وسنة هي وحي يوحى من رب العالمين.
ونحن قد قلنا في حديثنا عن القرآن -ولعل هذا الحديث يعد موصولاً به- إن واجبنا نحوه حسن فهمه، وقوة اليقين به؛ أن نحسن التدبر والتأمل والتفكر والمعرفة، والعلم والتعليم في كتاب الله عز وجل، وأن نرسخ الإيمان واليقين بكل حقائقه وبكل وعوده، وبكل سننه، وبكل أوامره وبكل نواهيه، لا بشيء دون شيء: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، تلك صفة أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، الذين كان إيمانهم زائغاً، بل لم يكن إيماناً حقيقياً ألبتة.
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، هل من يقين بهذا؟ وهل له أثر في الواقع، أم أنه يمر على أطراف الألسنة وتكاد تنكره العقول، أو تعافه النفوس، والله جل وعلا يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؛ القائل رب الأرباب وملك الملوك الذي بيده ملكوت كل شيء من إليه يرجع الأمر كله.
وبيده الأمر كله، ويقول جل وعلا متفضلاً ممتناً وهو المستغني عن العباد: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، فهل يكون الحق الذي أوجبه على نفسه باطلاً؟ حاشا لله جل وعلا، ومن كان في نفسه ذرة شك في ذلك فليراجع إيمانه ويقينه، وليتفقد إسلامه وحقيقة دينه، فإن الأمر عظيم، والخطب جليل! وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
مادام النصر لا تخفق راياته مادام جند الإسلام لا يظهر علوهم ولا تبدو غلبتهم، هل فيما جاء في كتاب الله شك، أم أن هناك ضعفاً في اليقين ومخالفة لشروط ذلك النصر؟!(87/4)
وعد الله بالعاقبة للمتقين
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49].
العاقبة هي نهاية الأمر، ولا بد أن تكون لأهل الإيمان والتقوى، رضي بذلك من رضي، وشك فيه من شك، لكن أهل الإيمان يوقنون به ويرونه رأي العين، ويؤكدون أنه قادم لا محالة.
نعم، قد يتأخر يومه، وقد يعظم البلاء قبله، لكنه قادم لا محالة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكما قص علينا، وبين لنا فيما جرى على رسله وأنبيائه صفوة خلقه عليهم الصلاة والسلام، حين قال أتباعهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
ماذا يرى الناس اليوم؟ وما الذي يتسرب إلى قلوبهم مما يرون؟ أليسوا يرون أصحاب الباطل والكفر أصحاب سيطرة وهيمنة أصحاب قوة وهيبة؟ أليست لهم الكلمة العليا في المشهد السياسي؟ أليست لهم القوة العظمى في الواقع العسكري؟ أليست لهم الهيمنة القوية في الميدان الاقتصادي؟ يتسرب اليأس إلى النفوس، ويدب الشك إلى القلوب، أين هذا من هذه الآيات؟ أين هذا الواقع الذي لا يرى فيه لأهل الإيمان شوكة قوية، ولا راية مرتفعة، ويرى الناس ويسمعون ويشاهدون القول في الأحداث التي تتعلق بأهل الإسلام وبلاد الإسلام، ويرون التفاعلات في الشعوب فما يكادون يسمعون لساناً عربياً مبيناً، ولا وجهاً مسلماً مشرقاً، يرون المتخاذلين في أمور الأمة وأحوالها كفرة فجرة من شرق وغرب.
ويدب إلى النفوس يأس، ويسري إليها شك، وينبغي أن يكون أول العلاج هو دفعه ونفيه ورفضه ومنعه بكل الأحوال؛ لأنه لا مجال له عند أهل الإيمان واليقين، بل يكون يقيناً مقابلاً.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، إنها نظريات ثابتة قاطعة جازمة، إنها بالتأكيد التي تصدر أن: {اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، والنصر ثابت مطرد، و (يصلح) صيغة مضارع مستمرة، والإفساد واحد في كل مذهب وملة ونحلة، فينقلب السحر على الساحر ويرد السلاح إلى نحر راميه، لا بد أن يوجد يقين بذلك ومن بعده عمل نتحدث عنه.(87/5)
مواقف من انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم باليقين
يقول الله جل وعلا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
لقد قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قبل بدر عندما خرج غير معد ولا مستعد، ثم واجه جيشاً يبلغ ثلاثة أضعاف عدده وعدته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم؛ هذا مصرع أبي جهل! هذا مصرع أمية! هذا مصرع عقبة بن أبي معيط!) فلم يخطئ واحد منهم المكان الذي عينه له صلى الله عليه وسلم.
إنه اليقين بنصر الله! قاله أبو بكر يوم رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يرفع يديه ويلح في الدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه، ثم يقول: (حسبك يا رسول الله! إن الله منجز لك ما وعد).
أفليس هذا اليقين الذي نفتقده؟! أوليس هذا الإيمان الذي إذا غاب من قلوبنا لم يكن لنا بعد ذلك قيمة ولا وزن، ولا كلمة ولا هيبة ولا عزة؟ ينبغي أن ندرك حقائق الأمور.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، أي شيء كانوا بنو إسرائيل وأي قوة كانت مع موسى عليه السلام؟! ألم يكن فرعون هو فرعون القائل: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟ ألم يكن فرعون هو صاحب القوة والبطش والجبروت؟ لكن لما قال أصحاب موسى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] نطق لسان الإيمان واليقين، فقال موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فانفلق البحر، فنجا موسى وغرق فرعون، وذهبت قوته بجند من جنود الله عز وجل.
أولم يقل أبو بكر رضي الله عنه يوم الغار: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله معنا)، لقد كان يقينه عظيماً عليه الصلاة والسلام يوم كانت حباله بالله موصولة، يوم كان قلبه بالله متعلقاً، يوم كان توكله على الله صادقاً، يوم كانت تقواه لله خالصة، يوم كانت إنابته إليه دائمة، عندما يكون ذلك كذلك تتحقق الأمور.
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] أفليس لنا يقين بذلك؟ أفنظن أنه سيصيبنا أمر إذا أرادت أمريكا أو روسيا أو غيرها؟ كلا والله، لا يبلغ أولئك القوم شيئاً إلا بإرادة الله وقدره الذي يشاؤه، لحكمة يعلمها جل وعلا.(87/6)
نماذج من انتصار المسلمين باليقين
ثم انظر إلى وقائع هذا اليقين في النخبة والصفوة الذين رباهم عليه الصلاة والسلام في يوم الأحزاب يوم الشدة، وقد كررنا المثل؛ لأننا نمر بهذه الحالة، ولأننا نراهم يتداعون علينا، ولأن الجيوش والجنود تحيط من كل جانب، ولأن الأحزاب تتحزب وتتألب، ماذا قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] ويوم قال لهم القوم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] قال الله في وصفهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
ولم يكن ذلك في عهد الأصحاب فحسب، بل تاريخنا ينطق بذلك وقد أسلفنا القول فيه، ألم يقل ابن تيمية في معركة (شقحب) عام (702هـ) أي بعد سبعة قرون من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبشر الناس ويثبتهم: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، جزماً لما يرى من اليقين، وما يظهر من الإيمان، وما يبدو من شمس الصلاح والاستقامة.
ننتبه إلى هذا، فإنه هو الذي يثبتنا بإذن الله عز وجل، إن هذا الإيمان واليقين يثبتنا ويعطينا عدة أمور مهمة أولها: الإدراك والوعي والفهم الذي ندرك به الحقائق، لئن كانت للباطل جولة بل وألف جولة فإن جولة الحق آخرها، وإنها جولة إلى قيام الساعة.(87/7)
تأخير النصر قد يكون للتمحيص
وإننا لندرك حين نكون على هذا الإيمان واليقين سنة الابتلاء: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179].
غيب الله فيه حكم، وفيه ابتلاء، عندما نكون موقنين ندرك أن هذه من صفحات الابتلاء تنقلب، ويأتي بعدها النصر والرخاء: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
وكذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، أفهذه القوى عجولة أن تهزمها قوة الله جل وعلا؟ كلا.
إن رعباً في القلوب إن خلفاً في الصفوف إن ريحاً تهب إن أرضاً تتزلزل إن بحراً ينشق إن أدنى شيء مما أراده الله عز وجل يدمر كل تلك القوى، ولكنها حكم الله عز وجل ينبغي أن نتأملها في الآيات والأحاديث والسنن.
ويأتينا من بعد ذلك الثبات وعدم التراجع: وهو أمر مهم، فلا يثبت إلا مستيقن، ولا يمضي في طريقه شامخ الرأس إلا مؤمن معتز بإيمانه، ولذلك لا تستغربوا عندما ترون المواقف المخزية؛ لأنها ليس لها رصيد من إيمان ولا أساس من يقين، كيف نرتقب لمن خلت قلوبهم من الإيمان ونفوسهم من اليقين أن يقفوا مواقف عزة؟! أو أن تكون لهم في المواجهة قوة؟! ذلك تفسير واضح بدهي من خلال الفقه الإيماني في آيات الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: الرجوع والالتجاء إلى الله: إن من عرف الخلل أدرك أنه لا بد من الإصلاح بالرجوع إلى الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
كل شيء تخافه تفر منه إلا الله، فإنك إن خفته فررت منه إليه، لا ملجأ ولا منجى لنا منك إلا إليك، وعجباً يرى المرء هذه الأحوال العصيبة وما زال الفن رافعاً راياته، والرقص ضارباً دفوفه، وما زالت الأمة كأنما هي نائمة نوماً لا تستفيق منه.
فمتى سيستيقظ أولئك الغافلون؟ هل يستيقظون إذا طرقت أبوابهم ووقعت السقوف فوق رءوسهم؟! أم إذا أصابتهم البلية في أنفسهم وأزواجهم وأموالهم؟! هل بعد هذا كله ليس هناك مدكر ولا معتبر، ولا منزجر ولا راجع إلى الله سبحانه وتعالى؟ ومن بعد ذلك الثقة والقوة: ثقة بالله، وقوة بقوة الله عز وجل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى.(87/8)
أهمية الإصلاح والاستقامة في مواجهة الملمات
الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم في الأرض الاستخلاف والتمكين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(87/9)
ضعف الاستقامة سبب لتأخير النصر
الأمر الثاني: الإصلاح والاستقامة: وهو أمر بدهي ونتيجة تلقائية للإيمان واليقين، ألم نقل: إنه يجعلنا نعي وندرك؟ ألم نقل: إنه يجعلنا نرجع ونلتجئ؟ ألم نقل: إنه يجعلنا نثق ونتقوى بالله؟ إذاً: أصلح حالك وحال أهلك، وحال مجتمعك، أصلح قلبك ونفسك، أصلح فكرك وعقلك، أصلح منطقك وقولك، أصلح حالك وعملك، يصلح الله عز وجل كل شيء من حولك، وقد جعلها الله عز وجل أسباباً منوطة بأخرى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] أين نصر دين الله في واقع حياتنا نحن الأفراد؟ لا تنظروا إلى الأمم، لا تنظروا إلى الحكومات، انظروا إلى ذوات أنفسكم، هل أقمتم الإسلام في نفوسكم؟ هل جعلتموه سمة ظاهرة في بيوتكم؟ من هي تلك المرأة المتبرجة؟ من هو ذلك الشاب الضائع؟ ما هي تلك المنكرات الظاهرة؟ ما هي تلك الكلمات الفاجرة؟ من أين تصدر في مجتمعاتنا وأممنا؟ إنها مني ومنك ومن هذا ومن ذاك، ونحن نعلم أن المعاصي حاجبة لرحمة الله، مانعة لتنزل نصر الله، ما يدريك أن تبرج تلك المرأة وأن تسكع الشباب من أسباب تأخر النصر، ومن أسباب تسلط الأعداء، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، بما كسبت أيدي الناس؛ فكل كلمة نابية مخالفة لشرع الله، وكل منكر مرتكب مخالف لما حرم الله، كل واجب متروك منقطع فيه عن الاستجابة لأمر الله؛ هو من أسباب هذا التأخير للنصر، ومن أسباب هذا الوهن في الأمة، ومن أسباب تضييع النصر، وتأخر التمكين، وتسلط الأعداء.(87/10)
كل فرد مسئول عن صلاح نفسه ومن تحت يده
قد يقول القائل: وماذا عساي أن أفعل؟ ولئن قال كل كذلك فنقول له: خذ آيات القرآن: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
ونقول له: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، ونقول له: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
هل هذه تنوب عنك فيها الحكومات، أم يحملها عنك العلماء، أم يخفف وطأتها في حسابك الدعاة؟ إنك مسئول بين يدي الله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
، وقد قال صلى الله عليه وسلم لفلذة كبده: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً).
فاعلم أنك مسئول! وهذه قضية مهمة، وهي مبدأ الطريق، ومفتاح الإصلاح والاستقامة، لا يكن أحدكم إمعة، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، لم نلغو مع اللاغين ونخوض مع الخائضين؟! ولا يكون لنا ممانعة نسلم بها أنفسنا، ونقوم فيها بواجبنا تجاه أبنائنا؟ إن شخصيتك إن كانت قرآناً يتلى، وإن زوجتك إن كانت نموذجاً أمثل، وإن ابنك إن كان مربى تربية إسلامية صحيحة، فهذا كله يصب في خدمتك لأمتك، ويصب في قيادتك لهذه الأمة، ونحن نرى أحوالاً كثيرة، فكم هناك من خلل بين الأزواج والزوجات؟ كم من ظلم وبغي وتسلط بغير حق من الأزواج على الزوجات؟ وكم من تفريط وتقصير من الزوجات في حق الأزواج؟ كم من عقوق من الأبناء للآباء؟ وكم من تفريط وتضييع من الآباء للأبناء؟ وكم من معاملات زائغة وكم من انحرافات فاجرة وكم وكم وكم؟ ثم بعد ذلك نسأل: أين نصر الله؟ ونسأل: لم يتسلط علينا أعداء الله؟! وهذا مما ينبغي لنا أن نتأمله وأن نتدبر فيه، وهذا هو الأمر المهم الذي نحتاجه ولا بد لنا منه، وكما قلنا: لا تكن إمعة، ولا نريدك أن تكون تابعاً، بل نريدك أن تكون قائداً وزعيماً في الخير والحق والدعوة إلى إصلاح القلوب، وقوة العزائم.
أرشد العقول ببيان وتعليم، حرك الهمم والعزائم بأمثلة مضروبة، لم لا يكون أحدنا كما قال الله عز وجل في دعاء عباده: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]؟ كل منا لو كان قائداً في الحق ورائداً في الخير وسابقاً إلى المعالي، لوجدنا هذه الروح وهي تلتهب، والمنافسة وهي تشتعل، والهمم وهي تعلو نحو التشبث بمرضاة الله وإصلاح أحوالنا، وكل منا مسئول، فنسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(87/11)
أهمية العمل والإعداد لمواجهة الأعداء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.(87/12)
أمر الله للمؤمنين بإعداد القوة
ثالث الأمور التي نتحدث عنها العمل والإعداد: فإن الصلاح والاستقامة في ميادين العمل الذي يصلح به المرء نفسه في عبادته وطاعته، وأما العمل والإعداد فعلى مستوى الأمة، وقد قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] قال ابن كثير: والمقصود بذل أقصى الطاقة والقوة في كل ما أمكن، والقوة المقصود بها كل ما يتقوى به على العدو.
(ترهبون به عدو الله) قال الطبري: تخزون به عدو الله، وقال ابن كثير: تخوفون به عدو الله.
وقال غيرهم: الخوف مع الاضطراب هو حقيقة ذلك الإرهاب، (وآخرين من دونهم) كل أعداء الإسلام.
وقد قيل لـ عنترة: بم نلت هذه الشجاعة حتى صار ذكر اسمك يرعب القلوب؟! قال: كنت أعمد إلى الرجل الرعديد الجبان فأضربه ضربة قوية ينخلع لها قلب القوي الشجاع، فهناك يكون الاعتبار بالأول لمن وراءه.(87/13)
فوائد إرهاب العدو
ذكر الرازي رحمه الله في هذا الإرهاب الإسلامي المطلوب وجوهاً من الفوائد والمنافع أولها: أن لا يجترئ الأعداء على ديار الإسلام، ومتى كان لهم في ذلك حلم لو كان هناك أهل إيمان وإحسان، وأهل قوة وهيبة.
ولذلك نقول كما قال الرازي رحمه الله أيضاً: إنه ربما يقودهم الخوف إلى الإذعان من غير قتال، ودفع الجزية مهادنة ومصالحة.
الأمر الثالث: أن هذه القوة والإرهاب قد تكون داعيةً لهم إلى الإيمان؛ لأنهم يرون أصحاب الإيمان وهم أهل قوة، وأهل بسط، وأهل هيمنة، وأهل عزة، فيرون أن ذلك ما يكون إلا لخير في هذا الدين فيؤمنون به.
كذلك من الفوائد: أنهم لا يعينون غيرهم من الكفار، إن كانوا قد امتنعوا بأنفسهم فإن الرهبة من أهل الإيمان تمنعهم أن يكونوا سنداً لغيرهم، وقد كان ذلك كذلك في عصور الإسلام الزاهية.
ومن ذلك أيضاً: العزة في أهل الإسلام كما قال الرازي: أن يثبت الإيمان في القلوب وأن يعتز المسلمون بإسلامهم.
والأحوال اليوم منقلبة، والقوة ضائعة، والرهبة لا وجود لها، ترى كثيراً من المؤمنين وهم مطأطئون برءوسهم، وهم يشعرون بشيء من الاحتقار والذلة لعدم يقينهم وإيمانهم الصحيح، ولعدم فهمهم ووعيهم التام؛ لكن ذلك واقع في حقيقة الأمر.(87/14)
فوائد القوة إذا كانت في جانب المسلمين
ينبغي لنا أن ننتبه إلى هذا الإعداد والقوة التي تؤمن المختارين لهذا الإسلام، فلها فوائد عديدة: أولها: أن أهل الإسلام والإيمان بحاجة إلى من يحمي بيضتهم من يذب عن أعراضهم من يمنع تدنيس مقدساتهم من يحفظ أرواحهم وأموالهم.
الأمر الثاني: إرهاب أعداء الله عز وجل.
الأمر الثالث: أنها إقعاد عن مواجهة دعوة الإسلام، فإذا عرف الناس قوة الإسلام تركوا له الطريق يمضي، وإذا به يغزو القلوب بالحق واليقين والبرهان، لا بالقوة والعنف كما يزعمون، وإذا بنا أيضاً نجعل القوة في آخر الأمر تحطيماً للقوى الباغية الظالمة الجائرة التي تصد عن دين الله، وتتسلط على خلق الله، وتظلم عباد الله.
وحق لأهل الإسلام أن يتولوا وأن يكونوا أهله، فذلك هو شأنهم، وذلك هو فرضهم وواجبهم، ولقد قالها ربعي بن عامر في كلماته التي تحفظونها يوم خاطب القوى العظمى في زمانه: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
واليوم نعرف أنه عالم القوة، فأي شيء يتحدث اليوم؟ هل هو العدل: كلا.
هل هو المنطق؟ كلا.
هل هو القوانين؟ كلا.
هل هي الإنسانية؟ كلا.
إن الناطق اليوم هو القوة، فلا قول ولا كلمة إلا لصاحب قوة.(87/15)
سنة الله في الأخذ بالأسباب
ينبغي لنا أن نبذل هذه الأسباب، والأسباب من سنن الله عز وجل ينبغي الأخذ بها معنوياً ومادياً قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، أمرت مريم وهي امرأة ضعيفة في وقت المخاض أن تهز جذع نخلة، وما عسى أن تهز فيه! لكنها أخذت بالسبب، وجاءت النتيجة من الله سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعقلها وتوكل)، وقد ضرب عليه الصلاة والسلام المثل في هجرته، فأخذ للأمر عدته وأهبته وتخطيطه الكامل التام، ثم جاءت بعد ذلك عناية الله عز وجل لتجبر كل نقص في تدبير المسلم، وكل خلل فيما أعده من الأسباب، وذلك هو الذي نرتقبه ونأمله.
أما بلا إيمان ويقين، وبلا صلاح واستقامة، وبلا عمل ولا إعداد، فإن سنن الله ماضية لا تحابي أحداً، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولى خلق الله بأن تنكسر أو تتخلف سنن الله عز وجل في حياته، ولكن لما خالف بعض أصحابه يوم أحد دارت الدائرة، وشج وجهه، وسال الدم على جبهته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، فلئن كان ذلك كذلك مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فكيف بمن دونه ممن هو بعده؟ نسأل الله عز وجل أن يرد الأمة إلى دينه رداً جميلاً، ونسأله أن يصرف عنها الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداةً مهديين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيهما، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وارفع درجاتنا، وضاعف حسناتنا، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك يا رب العالمين! وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنزل في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطئمناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(87/16)
غنائم العابدين وخسائر الغافلين
إن لله مواسم ونفحات، يغتنمها أهل الطاعات، ويضيعها أهل المعاصي والشهوات في اللهو والملذات، ومن أعظم تلك المواسم: شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، وخير ما في هذا الشهر العشر الأواخر، تلك الليالي المباركات، التي فيها ليلة هي خير من ألف شهر، وإن الناظر في أحوال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام وأصحابه في العشر الأواخر ليرى البون الشاسع والفرق الواسع بيننا وبينهم، وربما كان أكثرنا على العكس تماماً من نهجهم والسير على خطى دربهم، فينبغي الاهتمام والجد لاغتنام المواسم الكريمة، والأوقات الشريفة، فيما يقرب العبد من ربه ومولاه.(88/1)
فضائل رمضان وحال النبي عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر
الحمد لله، الحمد لله على ما أفاض من الخيرات، وما وهب من الرحمات، وما كتب من مغفرة السيئات، وما تمنن به وتفضل من مضاعفة الحسنات؛ له الحمد رب الأرض والسماوات، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، له الحمد سبحانه وتعالى دائماً أبداً ما دامت السماوات والأرض.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ علم الهدى ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ونور الرعاية الإلهية؛ أشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(88/2)
استحضار فضل الله وشرف الزمان
أيها الإخوة! غنائم العابدين وخسائر الغافلين في هذه الأيام الشريفة والليالي المباركة، ولم يبق من شهرنا إلا سبعة أيام، وهانحن إذا تأملنا واعتبرنا وجدنا أمرين لابد لنا من استحضار معانيهما، ومن تذكرهما: أولهما: فضل الله سبحانه وتعالى بما جعل من فضل الزمان، وما أكرمنا به من شرف المكان، وما وعدنا عليه من مضاعفة الأعمال والأجور، وما جعله في هذا الموسم من محو الخطايا والآثام.
والثاني: هو عقل العاقلين، وفطنة المؤمنين، وتلهف العابدين، كي لا تضيع بقية الأيام، ولا تذهب سائر الليالي التي هي أشرف أيام وليالي شهر في العام، وأفضل عشر في الشهر وفيها ليلة القدر، حتى تكون القلوب موصولة معلقة بالله راغبة في ثوابه، مقبلة على طاعته كلما فتر عزمها أو ضعف جدها وسيرها جاءها من نداء الإيمان ومن فضل الرحمن ما يشد العزم، ويضاعف العمل.
ونحن في هذه الأيام المباركة والليالي الفاضلة حري بنا أن نعيد التذكر لفضل الله، ونعيد الحساب لتقصيرنا في طاعة الله، وننتبه إلى أن الأيام والليالي إذا انقضت لا تعود، وأن مواسم الخير يوشك إذا تقوضت خيامها أن يرجع الناس فائزين رابحين، أو خاسرين محرومين، وكل مؤمن وعاقل يختار لنفسه الأمثل.
وإذا كانت الأيام والليالي فيها من شأن الدنيا والآخرة، وراحة النفس، ولهو القلب مع جد العمل في الطاعة والذكر؛ فإن هذه الأيام والليالي لا تنبغي فيها الشركة، ولا يحسن فيها الاختلاط، بل لابد أن تكون ممحصة خالصة للطاعة والعبادة، وأن تكون ذات انقطاع عن الدنيا وتعلق بالآخرة، وهجر للغفلة وانغماس في الذكر، وقطع للخلائق واتصال بالخالق، وحياة للقلوب والأرواح، وهجر لحياة الجسوم والأشباح؛ فإننا في سائر أيامنا وليالينا يكاد يكون حظ الطاعة ونصيب العبادة قليلاً إلا من رحم الله.(88/3)
حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر
لعلنا في أول وقفاتنا نرى الصورة المثلى والقدوة العظمى صلى الله عليه وسلم، أعظم الخلق عبادة لربه، وأشدهم خشية منه، وأكثرهم ذكراً له، وأعظمهم تعلقاً به، وأكثرهم وسعياً إلى رضوانه، فأي شيء كان حاله، وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم؟ ليس في رمضان ولا في عشره الأواخر بل في سائر الأيام والليالي.
ومع ذلك فلنا أن نتصور ونتدبر في حاله الذي وصف به في هذه الأيام والليالي الفاضلة، لعلنا ونحن نقف هذه الوقفات -التي نكاد نحفظها- ندرك تماماً أنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويلقننا درساً عظيماً ينبغي ألا ننساه أبداً، وألا ننساه في هذه الأيام خصوصاً؛ فمن حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)، وفي صحيح مسلم رواية أخرى تحتاج إلى مزيد تأمل: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).
ونحن نعلم ما كان اجتهاده في غيره: كان يقوم حتى تتفطر قدماه، ولا يدع قيام الليل في سفر ولا حضر، ويذكر الله في كل أحواله، ويستغفر الله في يومه وليلته مائة مرة، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم عباد الله عبادة له.
فكيف نتصور أنه كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره، أي اجتهاد فوق هذا الاجتهاد؟ وأي عبادة تزيد على هذه العبادة! إنها دروس عظيمة من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، إنه يقول لنا: لابد من الزيادة، لأجل فضيلة هذا الشهر، وإدراك ختامه في هذه الليالي العشر، والتعرض لموافاة وموافقة ليلة القدر، ونيل عظيم الأجر بما هو أعظم من ألف شهر، أنريد ذلك ونحن نائمون غافلون وفي الأسواق لاهون وسائرون؟! أنريد ذلك ونحن ما نزال نتحدث بلغو القول وباطله؟! أنريد ذلك ونحن ما يزال ليلنا مع القنوات والأحجيات والألغاز؟! أنريد ذلك ونحن لا نزيد عما مضى في شهرنا بل ننقص منه؟! أنريد ذلك ونحن في كل طاعتنا وعبادتنا لا نبلغ عشر معشار ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! لعلي أترك لكم فرصة أن تتفكروا وتتدبروا كيف كان اجتهاده في هذه الأيام؟ وأي شيء يزيده على ما هو عليه من طاعة الله وعبادته؟ وهذا حديث الترمذي من رواية أم سلمة قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه).
وفي رواية الطبراني من حديث علي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة).
وفي رواية أنس في وصف حاله في العشر: (إذا دخلت طوى فراشه، واعتزل النساء)، إنه إعلان أنها أيام غير الأيام، وليالي ليست كالليالي، وزمان يخرج عن زمان الدنيا إلى الآخرة، ووقت يستقطع من لهو الحياة وغفلتها إلى ذكر الآخرة والتعلق بها، ووقت لا تنبغي فيه الشركة ولا يحسن فيه الاختلاط بحال من الأحوال، فما بالنا نزيد من الاختلاط والتخليط حتى تقل العبادة، وتعظم الغفلة، ويندر الذكر، ويعظم اللهو، نسأل الله عز وجل السلامة.(88/4)
غنائم العابدين في رمضان
هذه امرأة من الصالحات تقول لزوجها في وصف أحوال المؤمنين: قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن بقينا.
تأمل هذا، وتأمل بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم سير الأصحاب، واذكر بكاء المتهجدين، وتأمل أحوال العابدين، وانظر إلى سير القائمين الركع السجود من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من الصالحين، وقل مثلما قالت هذه العابدة: يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنى الموعد وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد متى يكون حظنا من الذكر والقيام إن كنا في هذه الأيام من أهل الغفلة والنيام؟!(88/5)
التعرض لرحمة الله تعالى ومغفرته في أواخر رمضان
وإذا تأملنا وجدنا أن حالنا تحتاج إلى نوع من العزم والحزم والجد والشدة التي لا تسمح بقليل من التفريط فضلاً عن كثيره، ولا تسمح بشيء من الانشغال فضلاً عن سعته، وذلك ما ينبغي أن نتذكره ونحن ندرك تقصيرنا، ونعرف تفريطنا، ونستحضر عظمة وكثرة ذنوبنا، ونعلم كم هي غفلتنا ولهونا.
إذا ما أوجعتك الذنوب فداوها برفع يد بالليل والليل مظلم ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من ذنوبك أعظم فرحمته للمحسنين كرامة ورحمته للمذنبين تكرم من هذا المحروم الذي لا يتعرض للرحمة؟ من هذا الشقي الذي يعرض عن موسم المغفرة؟ من هذا الذي يغفل وينشغل بالأسواق في موسم يمكن أن نقول: إنه أعظم المواسم؟ عندما نتأمل أبواب السماء مفتحة، وأبواب الجنة متزينة، والموسم قائم، والرب سبحانه وتعالى قد وعد عباده بليلة القدر، فكيف لا تجري للمؤمن على فراق هذا الشهر الدموع؟ كيف لا ننتبه لذلك ونحن قد لا يكون لنا إليه رجوع؟ لابد أن ننتبه وندرك أن هذا الموسم وهذه الأيام جديرة أن نتأمل ما ذكر فيها من فضل الله، ومن ضرورة التعبد والتفرغ لطاعة الله.(88/6)
استدراك ما فات واغتنام رمضان قبل الفوات
إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، ومن كان قد أحسن فعليه بالتمام، ومن كان قد فرط، فليتدارك في حسن الختام، وإنما العبرة بالختام.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفاني حري بنا أن نبكي على أنفسنا دماً لا دموعاً إذا فرطنا في هذه الأيام، قد نقول بعد أسبوع أو بعد مضي الشهر: ليتنا فعلنا، ليتنا لم نفعل! قلها الآن وأنت ما زلت في هذه الأيام، وما زال بينك وبين الشهر سبعة أيام، قل ذلك قبل أن تقوله بعد فوات الأوان، وقبل أن تقوله بعد ألا يكون رمضان، أو بعد ألا تكون عشر ولا ليلة قدر، ولا عتق من النيران اختص به هذا الشهر لمزيد فضل وزيادة أجر وعظيم مضاعفة للثواب.
فهذه نعمة الله، وإننا أحياناً نصنع صنيع الحمقى والمغفلين، فنترك ما بأيدينا ونتحسر عليه من بعد، ونفرط فيما ساقه الله عز وجل من رحمته وفضله إلينا، ثم نعض أصابع الندم عليه، وليس ذلك مرة واحدة بل مرات، وليس موسماً واحداً بل مواسم، وليس عاماً واحداً بل أعوام، ونجدد القول مرة أخرى ونقول: سنجتهد في عام قادم.
ويأتي رمضان القادم، فلا أقول إنه يكون شراً من الذي قبله، لكن التغير والتغيير يكاد يكون غير ملموس، فهل عميت القلوب؟ هل ماتت النفوس؟ هل ضلت العقول؟ هل لم يعد لنا في حالنا وتذكرنا واتعاظنا ومواسم الخير التي يسوقها إلينا ربنا فرصة لنغير؟! ومتى يتذكر الغافل إن لم يتذكر في هذه الأيام؟ ومتى يقوم النائم إن لم يقم في هذه الليالي؟ ومتى يدع المذنب الذنب إن لم يدعه في هذا الموسم؟ ومتى يبكي الواحد منا على حاله وذنبه إن لم يبك في هذه الأيام والليالي؟ جدير بنا أن نتنبه حتى لا نندم بعد فوات الفرصة العظيمة من بين أيدينا: أتترك من تحب وأنت جار وتطلبهم وقد بعد المزار وتبكي بعد نعيهم اشتياقاً وتسأل في المنازل أين ساروا تركت سؤالهم وهم حضور وترجو أن تخبرك الديار فنفسك لُم ولا تلم المطايا ومت كمداً فليس لك اعتذار سنعض أصابع الندم عضاً شديداً إن نحن فرطنا في هذه الأيام التي نحن فيها، والليالي التي نحن نتفيأ ظلالها، ونستنير بأنوارها، ونترقب فيها ليلة القدر العظيمة.
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، وكان ذلك -كما قال العلماء- قطعاً لانشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجز حصيراً يتخلى فيه عن الناس فلا يخالطهم، ولا يشتغل بهم.
ومعنى الاعتكاف كما قال أهل الإيمان: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق.(88/7)
دعوة إلى عقد العزم على الاجتهاد والتعرض للرحمات
يا ليلة القدر وهذه أيامها يا موسم المغفرة وهذه لياليه إننا نعقد العزم في هذه اللحظات ألا نضيع الأوقات، وألا ننشغل بالشهوات والملذات، وألا ننصرف إلى الأسواق والمشغلات، وألا نعمي قلوبنا بمشاهدة المسلسلات في الفضائيات.
اعزموا الآن على أن نجعل عشرنا خيراً مما مضى من شهرنا، وأن نجعل ما بقي من أيامنا ليس فيها حظ إلا لطاعة ربنا بقدر طاقتنا وجهدنا.
ولذلك ينبغي لنا أن نجتهد حتى نتعرض لرحمة الله، ونوافي فضل الله، ونشعر بأننا قد بذلنا من جهدنا وطاقتنا ما نتعرض به لرحمة الله عز وجل.
يا ليلة القدر للعابدين اشهدي يا أقدام القانتين اركعي واسجدي يا ألسنة السائلين جدي واجتهدي يا رجال جدوا رب داع لا يرد لا يقوم الليل إلا من له عز وجد ليلة القدر ليلة الأنس بالطاعة والقرب، والمؤمنون يقبلون عليها، والغافلون يفرون منها بالغفلة واللهو والبعد؛ فاختر لنفسك يا أخي ما تحبه في أخراك، واختر لنفسك ما تظن أنه لا يكون وقد بقي من عمرك وأجلك لحظات، فاعلم أنها هذه هي اللحظات، فإن كنت ستفعل شيئاً، أو تستغفر من ذنب، أو تجد في عمل؛ فدونك هذه الأيام وهذه الليالي، واعلم بأنها موسم كل خير.
إن أردت سؤالاً أو حاجة أو تفريج كربة أو شيئاً من كل حاجات أخراك ودنياك، فاعلم أن هذه هي الأيام والليالي التي يخلص فيها الدعاء الذي أمرنا الله عز وجل به: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ادعوا ربكم تضرعاً وخفية دعاء ينبغي ألا ينقطع في هذه الأيام والليالي، وألا يتوقف في قنوت وسجود وخلوة واعتكاف حتى لا نكون من المفرطين في هذا الموسم العظيم، ولعلنا نتذكر أيضاً ونعتبر بأن هذا الموسم هو موسم المسارعة إلى الخيرات، وموسم عظيم في كل ما نحتاج إليه من الخير والذكر والاعتبار والادكار.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الاجتهاد في هذه العشر ما لم نجتهد في سائر الشهر، ونسأل الله عز وجل أن ينيلنا برحمته ليلة القدر، وأن يكفر فيها عنا الوزر، ويضاعف الأجر، ويمنّ علينا بالعتق في ختام الشهر.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(88/8)
خسائر الغافلين عن رمضان ولياليه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:(88/9)
من لم يزك نفسه في عشر رمضان فاته التوفيق
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإنه لحري بنا أن نتأمل في حالنا، وأن ننتهز هذه الفرصة العظيمة، وهذه الأيام والليالي الفاضلة، إنها أيام القلوب والأرواح لا أيام الجسوم والأشباح، اعتكاف ننقطع به عن دنيانا، وصيام وقيام ننقطع به عن طعام وشراب إلا في أقل قليل مما يقيم الأود ويعين على الطاعة.
إنها أيام من لم يجد فيها الفرصة ليزكي نفسه، ويطهر قلبه، ويمحو ذنبه، ويجدد عهده، ويؤكد توبته؛ أن يكون قد ضيع تضييعاً عظيماً وفرط تفريطاً كبيراً يخشى ألا يكون له بعده استدراك، لأنه مضى في غفلته، واستسلم لشهوته، وقعد مع كسله وعجزه وركونه إلى دنياه.
إن ما نحتاج إلى التدبر فيه هو: أن نجعل هذه الأيام خالصة لله عز وجل، وفرصة لعلاج أدواء القلوب وأمراض النفوس، تلك القلوب التي قد اسودت من كثرة المعاصي والآثام، وأظلمت بكثرة ما قارفت من السيئات والمحرمات، تلك الأحوال التي تكاد أن تغرقنا في دنيانا فلا نرى مساحة تذكرنا بأخرانا، تلك الأيام والأعوام المتعاقبة التي ليلنا فيها نوم دائم أو سهر عابث، أفلا نجعل لنا حظاً من ليل ذاكر خاشع متبتل يكون لنا فيه حظاً من تعرضنا لرحمة الله عز وجل؟(88/10)
التحذير من الانشغال عن العبادة بالأسواق
إن الأسواق التي تفتح أبوابها، والناس الذين يرتادونها، والشراء الذي يشغل الناس، واللهو الذي يعصف بكثير من إخواننا المسلمين جدير بنا أن نتعاون على منعه ودرئه وتغييره، ولو كان عند الناس معرفة حقيقية لرأوا أن أعظم شيء يحتاج إلى الإغلاق والقطيعة التامة في هذه الأيام هي الأسواق، انظروا ما كان يفعل أسلافنا، أتعرفون عن أي شيء كانوا ينقطعون عنه في هذه الأيام؟ إنهم ينقطعون عن دروس العلم، وعن السؤال والفتوى، وأعمال من البر كثيرة، لماذا؟ لأنهم يرون أن هذه الأيام والليالي ينبغي أن تكون خالصة، ليس فيها انشغال حتى بطلب العلم وتعليمه على ما فيه من الفضل، فإذا أغلقت الدروس وأغلقت الكتب لأجل القيام والذكر والتلاوة والدعاء، فما بال الأسواق مشرعة؟ وما بال الملهيات والمشغلات تتضاعف وتزداد؟ ونسعى إلى مزيد من الشراء والصفق في الأسواق، ونشتري ما نسميه حلوى العيد، ولباس العيد وغير ذلك.
نجمل ظواهرنا ولا نعنى ببواطننا، نجمل هذه الأجساد ولا نزين القلوب ولا الأرواح، كم هي هذه المآسي محزنة ومؤلمة؟ وكم هي وللأسف عظيمة وكثيرة، ومتكررة ودائمة؟ وكم تسمعون ذلك وربما تقولونه، فأي حال هذا الحال الذي لا يتغير فيه الخطأ الذي يجمع الناس على خطئه، والأمر الذي يوقن الجميع بأن غيره على أقل تقدير أولى منه؟ قد تقولون: لا نملك من الأمر شيئاً، فأسأل نفسي وإياكم: هل تملكون أمر نفوسكم؟ وهل تملكون أمر بيوتكم؟ وهل تملكون أمر نسائكم وأبنائكم وبناتكم؟ أم أنكم تفرطون فيما تملكون وتلقون باللوم على غيركم فيما لا تملكون، وأنفسكم تغرون، وبمثل هذه الترهات تنشغلون ولا تستيقظون.
كلنا ذاك الرجل الذي يحتاج إلى وقفة لابد أن تكون قوية وحازمة وشديدة ومؤكدة، وفي كل عام نقول ذلك، وسنظل نقول ذلك، وينبغي أن نقول ذلك، وينبغي أن نتواصى بذلك، حتى نغير في واقع أنفسنا، ونغير في داخل بيوتنا، ومن بعد نغير في دائرتنا ومجتمعنا، حتى تعود أمتنا إلى سالف عهدها.
في مثل هذه الأيام ليس هناك شعار ولا عمل ولا شيء يذكر إلا الطاعة والعبادة والاعتكاف، والختم والدعاء والتضرع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يصرف عنا الغفلة واللهو، وأن يجعلنا من عباده الذاكرين، وأن يكتبنا في الصائمين القائمين، وأن يمن علينا بأن نكون من أهل ليلة القدر المغفورة ذنوبهم والمرحومين.
اللهم إنا نسألك أن توفقنا للطاعات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، اللهم أحي قلوبنا بمعرفتك، وزك نفوسنا بعبادتك، اللهم أصح أبداننا بطاعتك، اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، وتزكي نفوسنا، وتخلص نياتنا، وتحسن أقوالنا، وتصلح أعمالنا، وتضاعف أجورنا، وترفع درجاتنا، وتمحو سيئاتنا، وتريننا برحمتك ورضوانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك في هذه العشر المباركة والأيام والليالي الباقية أن توفقنا لمزيد الصيام والقيام والذكر والتلاوة والدعاء والتضرع والابتهال، اللهم اجعلها أيام دعاء ومناجاة، واجعلها اللهم أيام قبول ومغفرة، واجعلها اللهم أيام تصحيح وتغيير لأنفسنا إلى ما تحب وترضى يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وميتة السوء يا رب العالمين، اللهم أعذنا من الغفلة وجنبنا المحرمات يا رب الأرض والسماوات.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، وبالعتق من نيرانك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم اجعل هذه العشر عليهم عشر تفريج هم وتنفيس كرب، اللهم يا رب العالمين، اجعلها غياثاً لقلوبهم ونفوسهم وأرواحهم، وتثبيتاً لأقدامهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل ما بقي من هذا الشهر أيام عز ونصر وتمكين لهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وأولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(88/11)
القنوات الجنائية
الغناء يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية الزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فهو ينبت النفاق في القلب، ويسلب الحياء أشد السلب، وهذا حال الغناء من حيث هو، فكيف إذا انضم إلى ذلك الاختلاط المقيت، والتعري المميت، ويبث ذلك على المسلمين ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وتوضع له عشرات القنوات؟! إن هذا لهو البلاء المبين.(89/1)
القنوات الغنائية وأضرارها
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، أحمده سبحانه وتعالى جعل الإيمان والإسلام طهارة للقلوب، وزكاة للنفوس، وعفة للجوارح، واستقامة للمسالك، له الحمد -سبحانه وتعالى- كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السموات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية.
وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن موضوع حديثنا هو: (القنوات الجنائية) وليس في ذلك خطأ، فإنها معروفة عند الناس بأنها القنوات الغنائية المختصة بالغناء والأنغام، ولكنها في حقيقة الأمر ومآله جنائية لا غنائية، ففيها جناية على الدين وعلى الخلق، وجناية على الصحة والمال، وجناية على الفرد والأسرة والمجتمع، جناية بالكلمات الماجنة، وجناية بالرقصات المثيرة، وجناية بالرسائل الفاتنة، فجناياتها متنوعة بعضها فوق بعض.(89/2)
إقامة الحجة والبرهان على خطر القنوات من الواقع ومن أقلام المختصين في ذلك
قبل أن نسترسل في الحديث أنبه أن حديثي سيكون بغير اللغة المعتادة من ذكر للأدلة من الكتاب والسنة؛ لأننا في هذا العصر نجد أن قول الخطباء، وأحاديث الدعاة، بل وربما فتاوى العلماء عند كثير من المتصدرين في وسائل الإعلام ليست مقبولة، بل هي ضرب من التشنج والتوتر، ولون من التشدد والتطرف، وصورة من صور الكبت والانغلاق، وقول يشتمل على الأوهام والاختلاق، ولذلك أعتذر عن مواصلة حديثي؛ لأنه قد يجرم عند أولئك القوم الذين تدثروا اليوم بدثار، وتكلموا بلسان لم نعد نفرق بينه وبين ما يقوله أعداؤنا الذين نعرف عداوتهم صريحة جلية واضحة.
ولذلك أرجو أن أُعذَر، فإني سأنتقل إلى موجة إعلامية، وإلى لغة تخصصية، وإلى أرقام إحصائية، وإلى حوادث واقعية، وهذه المذكورات لن تنطق لنا بالآيات القرآنية، ولن تروي لنا الأحاديث النبوية، ولن تنقل لنا الأقوال والنصوص العلمية، مع أن مثل هذا يكون للمكابرين والمغالطين، بل ولمروجي الفسق والمفسدين قولاً تقوم به الحجة عندهم إذا لم تقم -عياذاً بالله- بآيات القرآن وأحاديث المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم، ولعلها تكون ذات مصداقية في ثبوتها وقوتها أبلغ وأكثر مما لا يعترفون به من مصداقيات ما ذكرته الآيات في دلالات الواقع والمستقبل، وما بينته أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من أحوال وأخبار آخر الزمان.
سأترك حديثي ليتكلم الإعلاميون المتخصصون الأكاديميون، الذين هم أصحاب قول فصيح في مثل هذه المسألة، وليتحدث المتخصصون في مجالات العلوم الاجتماعية والنفسية، فإنهم بهذا أخبر منا معاشر المشايخ، أو الدعاة، أو طلبة العلم، وإن قولهم في مثل هذا لا يُرجس عليه بمثل ما يرجس على أقوال أمثالنا.
لقد عقد مؤتمر في عاصمة عربية كبرى، وفي جامعة إن لم تكن أعرق الجامعات العربية فهي من أعرقها، وفي كلية إعلامها على وجه الخصوص، تحت عنوان: (الإعلام المعاصر والهوية الوطنية)، وأصحاب هذا المؤتمر لا يتحدثون عن إسلام وإيمان حتى نتهمهم بالتطرف والإرهاب وغير ذلك كما هي التهمة الجاهزة على طرف الألسنة وأسنة الأقلام اليوم، إنهم قوم لم يذكروا لنا شيئاً مما نسمعه في الخطب والمواعظ، فسأنتقل إليهم لأستعرض شيئاً يسيراً من خلاصات هذه البحوث، وهي دراسة تطبيقية ميدانية قدمت في أحد هذه البحوث، وقد أجريت على مائة أغنية شبابية.
تقول هذه الإحصائية: إن مجموع اللقطات في هذه الأغنيات -وهي الأغنيات التي يحتشد فيها الراقصون والراقصات، والفتيات المغريات كما هو معلوم مما يشاهد، أو يقرأ عن هذه الأغاني- سبعة آلاف وخمسمائة وثلاثة وسبعون لقطة تصويرية، هكذا عددها عند علماء الإعلام والمحللين فيما هو مرصود إعلامياً، حتى لا يقال: إن الخطيب الذي يخطب يتكلم بما لا يعرف؛ لأنه لا يشاهد هذا فأنى له أن يصفه؟! وتقول هذه الدراسة -أيضاً-: إن هناك من بين هذه اللقطات ستة وخمسين وألفي مشهد راقص، وألفاً وأربعمائة وتسع لقطات لمناطق مثيرة، واجعل تحت هذه الأرقام خطوطاً، وافهم منها ما شئت، ثم إن أربعمائة وألفي لقطة قريبة من مناطق مثيرة، وستاً وأربعين ومائة لقطة تلامس، وستاً وعشرين ومائة لقطة عناق، ولست أدري أين مكان الغناء في الإعراب من هذه الحشود المتكاثرة والآلاف المتتابعة من اللقطات؟! وهناك دراسة أخرى لباحث إعلامي متخصص يقول: إنه قام بتحليل أربع وستين وثلاثمائة أغنية، أي أنه سمعها وشاهدها، وليس هو مثلنا في عدم سماع هذه الأمور ومشاهدتها، فبماذا خرج؟ قال: بلغت نسبة اللقطات المثيرة سبعاً وسبعين في المائة، ثم فصلها؛ لأنه باحث علمي، وليس داعية درويشاً كما يقول بعضهم، يقول في هذا التحليل: إن الرقص والحركات كانت نسبتها واحداً وخمسين في المائة، وإن الملابس -أي: جانب الإثارة فيها- كانت نسبتها اثنين وعشرين في المائة، والألفاظ عشرة في المائة، وفكرة الأغنية خمسة في المائة فقط، ليس هذا قولاً نرجم به نحن أو غيرنا ممن قد يتهمون في مقالاتهم.
وهناك عينة أخرى درسها الباحث ليرى عن أي بيئة تعبر، وأي سلوك تنقله إلينا، فأفادنا أن هذه الأغنيات تعكس البيئة الغربية بنسبة سبعين في المائة، والبيئة العربية بنسبة ثلاثين في المائة، والمراد بالعربية هنا غير الإسلامية، فهي عند بعض أولئك الباحثين لا تدخل في الاختلاط، ولا تدخل فيما هو معلوم أنه محرم ونصت عليه النصوص الشرعية.(89/3)
ضياع الغيرة والرجولة والجدية بسبب القنوات
أنتقل إلى موطن جناية أخرى، وهو الرسائل التي تمر عبر الأشرطة في هذه القنوات الغنائية، لقد كنا إذا جاءت بعض المعاكسات على هواتف المنازل فإن الشخص يتقدم إلى الجهة المختصة شاكياً، ويوضع هاتفه تحت المراقبة حتى يكتشف ذلك الذي يؤذيه، وكانت المسألة كبيرة وخطيرة، وأما اليوم فهذا كله على تلك الشاشات، مخاطبات، ومغازلات، ومعاكسات، وكلمات بذيئة، وأساليب نابية، تقول دراسة عن هذه الرسائل: إن ستا وسبعين في المائة منها رسائل متبادلة بين الجنسين، أي: بين الشباب والشابات، وعشرين في المائة هي الرسائل في التهنئات الأسرية، أنّ نسبتها قليلة في هذا الجانب.
وتنتقل دراسة أخرى إلى بحث القِيَم في هذه الأغاني من حيث كلماتها ومشاهدها هل تعلمنا الصدق والنزاهة؟! وهل تعلمنا العفة والحياء؟! وهل تشيع فينا روح الجدية والرجولة؟! وهل تُذكي فينا مشاعر الحماسة والفتوة؟! نسكت نحن ليتكلم الباحثون المختصون، فتقول هذه الدراسة: إن نسبة القِيَم السلبية ثمانية وخمسون في المائة، والإيجابية اثنان وعشرون في المائة، ولن ننازع فيها ولن نبحث في تفاصيلها.
وأما نسبة الثمانية والخمسين في المائة فتقسميها مخيف مرعب فثلاثة وثلاثون في المائة منها لقيم الخيانة، وخمسة وعشرون في المائة منها لتعليم قيم الغدر، واثنان وعشرون في المائة منها للتجاهل وعدم التقدير، وخمسة في المائة منها للكراهية.
ومن باب الإنصاف فإن القيم الإيجابية كان تقسيمها كالتالي: واحد وثلاثون في المائة للحب، وعشرون في المائة للوفاء، وثلاثة عشر في المائة لإخلاص المحب، وثلاثة عشر في المائة للانتماء.(89/4)
والحق ما شهدت به الأعداء
قبل أن أغادر مقام أولئك القوم أقف وقفة لباحثة من بنات حواء اللائي يعرضن في هذه الأغنيات كما كانت تعرض الجواري في عصر الرقيق والنخاسة، ويقول مدعو تحرير المرأة اليوم: إنّها باحثة مختصة في مجال علم النفس التربوي، تقول: إن الفن الحقيقي هو الذي يخاطب العاطفة، ويرقى بالمشاعر، فيؤثر هذا الرقي على السلوك والتعاملات بين البشر، وينعكس على المجتمع، فتعمه حالة من الأمن والسكينة، والبعد عن الجرائم، هذه رسالة الفن، أما الذي يحدث الآن فما هو إلا إفلاس فني، فلم يعد هناك من يقدر على كتابة كلمة تحمل قيماً نبيلة، أو رسالة فنية، ثم أشارت إلى أن الفنانين يعدون قدوة للشباب، ولكن للأسف فقد أصبحوا ضيوفاً على صفحات الحوادث بتهم مختلفة من دعارة، أو آداب، أو تهرب ضريبي، أو غير ذلك.
ومرة أخرى أقول: لسنا نحن الذين نقول مثل هذا، وإنما هي إحصائيات المختصين في تلك الجوانب، فهل نعدّ بعد هذا متجنين إذا سمينا هذه القنوات الغنائية بأنها جنائية؟! إن المسألة -معاشر الإخوة المؤمنين- في غاية الأهمية، خصوصاً إذا أدركنا أن مثل هذه القنوات ليست واحدة، ولا اثنتين، ولا ثلاثاً، بل قد أصبحت تعد بالعشرات، ثم تجد هذه القنوات تصدح بالغناء منذ انبثاق الفجر وإلى غسق الليل، وتمتلئ بالرقص، وتسمع منها الآهات، وترى فيها المعانقات، إلى غير ذلك من الأمور الفظيعة الخليعة المعلومة، والله عز وجل يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، بينما إذا قدّر لأحدنا أن يفتح قناة عند قرآن الفجر فلن يسمع إلا ما نعلم، ولن يرى إلا ما نعلم، وكذلك في كل لحظة وفي كل ثانية، وكل هذه القيم السلبية وكل هذه البيئة الغربية وكل هذه الإثارة الجنسية وكل هذه الرسائل الغرامية تبث على مدى أربع وعشرين ساعة، وفي قنوات متكاثرة، فلو قدِّر أنْ جاءنا غزو أو حرب -لا قدرٌ الله- في أي بلد من بلاد الإسلام لوجدنا أن الأمر جد خطير وأن الشر محدق بنا، فما بال كل هذه السهام والدبابات والصواريخ التي تقصف معاقل الإيمان، وتدك حصون الأخلاق، وتهدم بنيان المجتمع، وتفتك بكل المعاني النبيلة والقيم الفاضلة ونحن لا نستشعر خطراً، ولا نلمس ضرراً، ولا نتوجس من أثر؟! إن هذا الذي ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض، وهذه دراسات على عينات، وهذه أرقام وتحليلات لإحصائيات، وهي من حيث كمها، ومن حيث عددها، ومن حيث تناميها، ومن حيث مكاسبها تستدعي وقفات، وهذه الوقفات ينبغي أن تكون من قبل جهات مختلفة كثيرة، فوزارات التربية والتعليم ينبغي أن يكون لها موقف، ووزارات الإعلام ينبغي أن يكون لها موقف، والغرف التجارية والروابط التجارية ينبغي أن يكون لها موقف، وكل أب وأم ينبغي أن يكون لهما موقف، فكيف بالمنبر الذي هو منبر الجمعة ومنبر القرآن والسنة ومنبر الإيمان والخلق ومنبر الفضيلة والقيم يسكت ولا يتكلم؟! وكيف يقال له إذا تكلم: إنه يدخل في غير اختصاصه أو يتكلم في غير فنه؟! ولذا فإني استعرت في حديثي إليك حديث الآخرين.(89/5)
جنايات القنوات(89/6)
جناية القنوات على الدين
أعود ثانية لأقف وقفة قصيرة مختصرة موجزة لأسرد بعض هذه الجنايات، وأسوقها في لقطات وومضات، جناية القنوات الغنائية على الدين، وكيف تجني هذه القنوات على الدين؟ إن هذه القنوات من أسباب ضعف الإيمان واليقين، وهي كذلك من أسباب اختلاط المفاهيم، والتباس الحلال بالحرام، فعندما تأتي بعض المسائل التي قد يكون فيها لبعض أهل العلم مقال فإنهم يتتبعون فيها الرخص، ولا يبحثون عن الحكم الشرعي، وهذا هو الحاصل في مسألتنا هذه، فيقال: إن هناك من المتقدمين أو المتأخرين من أباح الغناء، فإذن هذا مباح.
ولعمر الله لا أعلم أحداً من المتقدمين ولا المتأخرين مطلقاً يقول بأن هذا الذي وصفناه حلال إلا إذا قلنا: إن الكفر بالله عز وجل هو الإيمان، وإلا إذا أصبحت التوراة المحرفة هي القرآن، وإلا إذا أصبحنا نمشي على السماء والأرض تظللنا من فوقنا، وإلا فأعيدوا إلينا عقولنا فقد أصبحنا بغير عقول، لكن هذا الإرجاف والتلبيس يؤثر في الناس، وفي الشباب خاصة؛ لأنهم ليس لديهم من العلم بالأحكام والنصوص ما ينجيهم من هذه الشبهات.
ومن جهة أخرى فهم أصحاب المشاعر الملتهبة، والغرائز المتقدة، وفي زمن أصبحت الغريزة تخاطب كل شيء، فقد كان الغناء يسمع فصار اليوم يرى ويسمع، ويلمس من خلال هذه القنوات وما فيها من المباشرة وغير ذلك؛ لأن بعض القنوات اليوم طورت الرسائل، فيمكن أن يرسل الشاب أو الشابة صورته مشفوعة برسالته إلى من يبعثها إليه، فأي شيء بعد ذلك؟! ونحن نعلم ونقرأ أن بعض الأغنيات العربية لا الغربية تعرض صور المغنيات وهن على أسرة النوم، بل قرأت نصاً صريحاً واضحاً تفصيلياً أن أغنية صورت فيها المغنية وهي في الحمام، أكرمني الله وإياك! فهل هذه القنوات لا تجني على الدين والإيمان؟! ولا تسبب تعلق القلب بغير الله عز وجل؟! ولا تضعف أثر سماع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟! إن الله تعالى يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، فما بال هذه القلوب لا تخشع ولا تخشى مما تندك له الجبال من كلمات الرحمن سبحانه وتعالى؟! إنها قد فتنت وعميت وأصيبت في مقتل من مثل هذه الجنايات الغنائية الفضائية.
وأما جنايتها على الأخلاق فإنا نجني منها ميوعة الشباب، ونجني منها انشغالهم بالشهوات وانصرافهم عن الأمور العظيمة والمهمات الجسيمة، ونجني منها قلة حياء الفتيات، واندفاعهن مع الإغراءات والشهوات.
ألسنا اليوم نرى شباباً نكاد أحياناً لا نميزه هل هو من جنس الذكور أو الإناث؟! ألسنا نرى اليوم في واقع مجتمعاتنا الإسلامية والعربية ظهوراً لما عرف عند غيرنا بالجنس الشاذ أو الجنس الثالث؟! من أين جاءنا ذلك؟! هل نبت من الأرض أو سقط من السماء؟! إنها أسباب تتعاظم وتتكاثر، وأبوابها العظمى ونوافذها الكبرى هذه القنوات، وإذا أصبنا في الأخلاق فالأمر كما قال الشاعر: فأقم عليهم مأتماً وعويلاً.
إنك لتعجب عندما يأتون إلينا بمثل هذه المرأة التي تتبرج، وتكشف المناطق المثيرة، وتتلوى في رقصاتها، ثم تأتينا في مقابلة لتحدث شبابنا وشاباتنا عن جهودها في خدمة الفن، وعن دورها في مسيرة الأمة، وعن إسهاماتها في تطور المجتمع وغير ذلك! وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فنقدم الفسق والفجور على أنه نموذج يحتذى، وأسوة تقتدى، ونقدم الخنا والانحراف على أنه سمة من سمات الأداء والعطاء والنماء وغير ذلك، فالأمر كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، إنها مسألة عجيبة!(89/7)
جناية القنوات على العلم
هل لهذه القنوات جنايات على العلم؟
الجواب
نعم.
وأولها الانصراف عن العلم بالنسبة للشباب والشابات؛ لأن المجد والشهرة والغنى والثروة طريقه طويل إذا أردنا أن نشقه عبر العلم، وقد يثمر وقد لا يثمر، أما من أرادها بطريقة مختصرة فما عليه إلا شيء من صوت وقلة حياء وإذا به على الشاشات، وعلى الصفحات، وفي العقود والتعاقدات، وكثير من الأسفار والرحلات وغيرها، حتى رأينا اليوم فنانين وهم دون العشرين من العمر، بل وجدنا أكثر من ذلك، وجدنا المسابقات والبرامج التي تقدم المواهب من سن السادسة والسابعة من العمر حتى ينشئوا نشأة غنائية جنائية مبكرة.
ولعل بعض الإخوة المسلمين يتساءل: لماذا تقول لنا هذا ونحن مصلون في المسجد؟! فأقول: لا يسلم أحد منا من مثل هذا، حتى الذي ليس في بيته قنوات، فإن الشر يعم ولا يخص، وإن البلاء إن سلمت منه فلا تدري هل سلم منه ابنك أو ابنتك، أم أنهم يشاهدون ما لا تعلم إما في أماكن أخرى، وإما عبر ما يتعاطوه الشباب والشابات من هذه المواد المسموعة والمرئية بكل الأحوال العجيبة والعظيمة، ومع ذلك فأنا أعلم أن من معاشر المصلين الخيرين من قد أصيبوا في مقاتل من هذه القنوات، فهم يدمنون مشاهدتها، ويتعلقون بها بعد أن سلبت قلوبهم وتعلقت بها شهواتهم، وهم مع ذلك يعودون إلى صلاتهم، ويشهدون بعض مجامع الخير، ولكن الأثر غير الأثر، واللغة غير اللغة، ويوشك من بعد أن ترى بعضهم وقد صار إلى ذلك القبيل، وانتهى إلى ذلك الفصيل، ولم يعد بعد أن كان من أهل المساجد من أهلها، ولم يعد بعد أن كان يتغنى بالقرآن يتغنى به، وذلك أمر معلوم، فالأوائل تؤدي إلى الأواخر، والمقدمات تقود إلى النتائج، نسأل الله عز وجل السلامة.
ومن جنايتها على العلم -أيضاً- سهر الطلاب على هذه القنوات، فيأتون إلى الدروس والمحاضرات وليس في عقولهم شيء من العلم ولا من الفهم، ولا في أبدانهم من القوة وحضور الأذهان ما يؤهلهم لأن يتلقوا العلم، لذا فإنا نرى انحدار المستويات العلمية.(89/8)
جناية القنوات على الأسرة
الجناية على الأسرة أمره خطير جداً، ولن أتكلم عن الأبناء، ولا عن الأطفال، بل أتكلم عن الرجال والنساء، والأزواج والزوجات، والآباء والأمهات، بل ولا أبالغ إن قلت: وعن الأجداد والجدات.
إن هذه الصور الفاتنة خلبت أنظار بعض الرجال فزهدوا في أزواجهم، ورأوا أنهن نساء ليس لهن حظ من جمال ولا نظر في ذوق، فتعلقوا بالحرام وتركوا الحلال.
ونساء فتن بما يرين من صور أولئك الرجال، فزهدن في الأزواج، ووجدت المشكلة، وقد ثبت في بعض الدراسات أن هناك حالات من الطلاق نشأت من خلال هذه القنوات، وإذا كنا نعلم مشكلات أسرنا فكيف نزيد الطين بلةً؟!(89/9)
جناية القنوات على المجتمع
أنتقل إلى جناياتها على المجتمع، فتلك جناية على الأفراد والأسر، وهذه جناية على المجتمع، هناك آثار كثيرة من جناية هذه القنوات على المجتمع نلمسها ونراها، ونحذر منها ونخشاها، فنرى التبرج والسفور والترخص في الاختلاط يتسع بعد كل هذه الموجات، ويصبح شبه مقبول أو معروف، بل المنكر له مستغرب فعله، والناظر إليه بتعجب ينظر إليه على أنه لا يعيش العصر، ولا يفقه الواقع، ثم رأينا صوراً أخرى أشد، وهي الجرأة في المعاكسات والمغازلات، والوقاحة فيها، بل والوصول إلى الاعتداء الفعلي، وقد مرت بنا -حتى في مجتمعنا- حوادث نشرتها الصحف، وتكلم عنها الناس، وهي ثمراتُ مثل هذه الإثارات.(89/10)
جناية القنوات على المال
وأخيراً أقف أمام جناياتها على المال، وقد يعجب المرء من ذلك، لكنني أقول: إنّ ما يصرف على هذه القنوات، وما يبذله الذين يرسلون الرسائل يقدّر بأموال كثيرة، ولا عبرة بقول بعضهم: إنني لا أدفع إلا القليل خمسة أو عشرة ريالات لا تضرني شيئاً.
فإنهم لا يعلمون أنها تتحول إلى الملايين وعشرات الملايين، بل قد قرأت في بعض الدراسات أن العائد على بعض القنوات من هذه الرسائل قد تجاوز مئات الملايين.
فأقول: إننا نحتاج إلى معالجة لأوضاعنا الاجتماعية، فكم يوجد من الأسر الفقيرة، وكم في البيوت من مرضى وعجزة، وينبغي أن تعلم أن ما يهدر في التدخين هو أضعاف أضعاف ما يصرف على التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد العربية والإسلامية، فأي إهدار هذا؟! وأي جناية أعظم من هذه في حق أمم تحتاج إلى تقدم علمي وإلى علاج اجتماعي، وإلى غير ذلك؟! نسأل الله عز وجل أن يصرف عنا الشرور والفتن، وأن يبعد عنا الشبهات والمحرمات، وأن يحفظ قلوبنا ونفوسنا من آثارها وأضرارها؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(89/11)
محاربة هذه القنوات ومقاطعتها
إنما كان حديثي عن هذه الأشياء لأننا أولياء أمور، وعندنا أبناء وبنات وبيوت، ولنا أقارب وجيران، فنخشى على أنفسنا وأبنائنا وبيوتنا من ذلك، فلم لا نجعلها حملة قوية حضارية راقية سامية في محاربتها؟! ولنقل: أيها المؤمنون! قاطعوها، وإلى بيوتكم لا تدخلوها، وحذروا من أخطارها وأوضارها، واملئوا أوقات الشباب والشابات بغير ذلك من الأمور النافعة والمفيدة، وحذروا من حرمتها التي ليس فيها أدنى شك على قول كل مذهب وعلى رأي كل عالم.(89/12)
الاقتناع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في إثبات الأحكام
إن ما استعرته من أقوال هؤلاء القوم ليس هو المنهج الصحيح، فلسنا في حاجة إلى كل هذا لنقتنع، نحن قوم مصدر إيماننا، وقوة يقيننا تجعلنا ندرك الحقائق من الآيات، ونعرف النتائج من الأحاديث، نحن قوم نعلم أن الله خالقنا قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقد بينت لنا آياته أحكام النظر، وأحكام السمع، وأحكام غير ذلك، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما روى البخاري من حديث أبي هريرة:- (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) وعند الترمذي: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وفي حديث أبي هريرة المشهور: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فالعينان تزنيان وزناهما النظر) إلى آخر الحديث، فعندما يقول: (العينان تزنيان) فنحن نؤمن بهذا، ولا ننتظر هذه الإحصاءات ولا هذه الأرقام، فأنبه على هذا؛ لئلا نقول في كل مسألة: هل أثبتت العلوم أو أثبتت الوقائع ضررها؟ فيكفينا أن ذلك ثبت في النص الشرعي، وإلا فإذا استسلمنا لهذا فكأننا لا نسلم بما ورد في القرآن والسنة، وكأننا لا نعظم ولا نقدر ما قاله المفسرون والمحدثون والفقهاء والعلماء في مثل هذه الأمور كلها في سالف الأزمان وحاضرها.
أقول هذا لأنه ينبغي لنا أن ندرك أن توجيه عقولنا وأن طمأنينة نفوسنا إنما هي في قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والربط بالواقع لا بأس به، والاستنباط منهما لتنزيل ذلك على الواقع هو المطلوب والمنشود، ولكننا قلنا هذا القول؛ ليكون حجة على الذين فقدوا هذه البوصلة الموجهة، وهذا النهج الذي تربى عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا بمجرد الأمر يمتثلون قبل معرفة الحكمة، أو السؤال عن الغاية، بل لزموا المبادرة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وقد أمر الله عز وجل بذلك فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فلا يصح أن يكون في الأمر حكم لله تعالى وحكم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم نأتي في مقابله ونسأل: ما رأيك في هذا؟! وكأن دين الله ليس له وجود وليست له قيمة.
إن هذه القضية خطيرة، وهي أعظم من هذه الانحرافات الخلقية والسلوكية التي أشرت إليها، وإن تهوين أمر الدين في النفوس وانتقاص عظمة النصوص من القلوب لهو أخطر من هذا الذي ذكرناه.
فلابد من أن ندرك هذا، وكل ما يضاف إليه إنما هو تأكيد لصحته، وإنما هو فرع عن ذلك الأصل.(89/13)
نماذج من مسارعة الصحابة رضي الله عنهم في الاستجابة لهذا الدين
روى أنس -كما في الصحيح- أنه عندما نزلت آية تحريم الخمر: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فمن كان من الصحابة في يديه كأس رمى به، ومن كان في فمه شيء من خمر مجه، وشقت الجفان، وأتلفت الخمر في لحظات، وانتهى الأمر كله.
وعندما نزل الحجاب لم يسأل النساء هل هو كذا أو كذا، وهل يمتثل من هذا الوقت أو ذاك، وإنما كان الأمر كما قالت عائشة: (ما جاء الفجر إلا وعلى رءوسهن كأمثال الغربان مما أسدلن من الحجاب)، فينبغي أن نؤكد هذا ونبينه، وأن لا نرى فيه مبالغات.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلس بين أصحابه، فذكر لهم حرمة الذهب والحرير على الرجال، وفي القوم رجل في أصبعه خاتم من ذهب، فنزعه مباشرة وطرحه، فلما انتهى المجلس قام، فقالوا له: خذ خاتمك فانتفع به، قال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الامتثال، واليوم قد يجادلك ويقول: هذا لأجل العقد، وهذا لأجل الخطبة ونحو ذلك.
وتحتاج إلى أن تتدرج معه، ولا بأس في ذلك، لكنني أقول: انظر إلى الفرق.
وورد في بعض المصنفات: أن حذيفة رضي الله عنه كان قادماً إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه بعض نفر من أصحابه، وكان بعضهم وقوفاً، فقال لهم: (اجلسوا، اجلسوا)، فسمع حذيفة ذلك فجلس وهو خارج المسجد! استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن أمره كان لمن في المسجد.
إنها الاستجابة للأوامر، وليس هذا من الصحابة انغلاقاً، بل هو إيمان، وليس هو تحجراً أو ضيق أفق كما قد يظن بعض أولئك الذين فتنوا، كلا.
وهذا علي بن أبي طالب وجهه النبي صلى الله عليه وسلم ليفتح خيبر وليقتحم بابها وحصنها، فقال له: (امض ولا تلتفت)، فأراد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف على دابته ولم يلتفت إلى الرسول، بل خاطبه دون أن يلتفت إليه، وقال: يا رسول الله! علام أقاتل الناس؟ لأن رسول قال له: (امض ولا تلتفت)، فالكلمة عندهم لها ميزانها ودلالتها، ويوم يعظم إيماننا نكون كذلك، ويوم نفقه ديننا نكون كذلك.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يعظمه في قلوبنا، وأن يظهره في واقع استجابتنا في حياتنا، نسألك -اللهم- أن تجعلنا بكتابك معتصمين، وبهدي نبيك صلى الله عليه وسلم مستمسكين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، ونسألك -اللهم- أن تصرف عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وأخلص نياتنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا يا أرحم الراحمين.
اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، وابعدنا -اللهم- عن المحرمات والشبهات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسموات.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! من اعتدى على أهل الإسلام وأمة الإسلام فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! لطفك ورحمتك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج كربتهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء.
اللهم! انصر جندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! وحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن تحفظ ولي أمرنا، وأن توفقه لطاعتك ورضاك، وأن ترزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(89/14)
رمضان والأمة بين عامين
من مزايا وخصائص شهر رمضان أن الأمة الإسلامية كلها تتحد فيه على أنواع من العبادات والطاعات، وهذا أمر يبعث الفرح والسرور في النفس، إلا أن أكثر الأمة يتركون ذلك بعد رمضان، ويعودون إلى غفلتهم ونسيانهم، فيجب على جميع الأمة أن تكون أحوالها مستقيمة طوال العام، وأن يتوحد صفها وتتكاتف فيما بينها.(90/1)
أهمية الاجتهاد في الطاعات في رمضان
الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب الرحمة، وبسط أسباب المغفرة، ووعد بمنته بالعتق من النيران في شهر رمضان، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من الرحمات، وما ضاعف من الحسنات، وما محا من السيئات، نحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء الأرض والسماوات، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، ويولي لنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اكتمل القمر، وانتصف الشهر، واقتربت العشر، وكل بداية تمضي إلى منتهاها، وتصل إلى غايتها، والعاقل المتدبر من يفكر في العواقب، ومن يستعد للخواتم، ومن لا ينقطع في أثناء السير، وكل مشمر له عزم ونية خالصة يوشك -بإذن الله جل وعلا- أن يتحقق له وعد ربه في قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
ولا شك -أيها الإخوة الأحبة- أننا ننتظر في مثل هذا المقام أن يكون مختصاً بالحديث عن مزيد الطاعة والعبادة، والأجر والفضيلة فيما بقي من هذا الشهر العظيم، وفي عشره الأواخر على وجه الخصوص، وهو أمر مطلوب ومرغوب، وجدير أن نتحدث عنه، ولكنني أعلم أن كثيراً مما يذكر في هذا الموضوع يكاد يكون محفوظاً.
لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر.
وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل عشر أخيرة من شهر رمضان.
وكان يخلي بينه وبين الخلائق؛ ليتفرغ لصلته بربه، ولما بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى.
وكلنا يعرف ويستطيع ويجيد أن يتحدث عن ليلة القدر وفضيلتها، وما ورد من أنها في أوتار الشهر، وذلك أمر نحتاج أن نتواصى به، وأن نتذكره، سيما وأن صوراً من الواقع -وللأسف الشديد- تعارضه وتناقضه وتخالفه، فمع عشر الذكر والتذكر والاعتبار نرى عشر اللهو والتسوق والانشغال، ومع عشر الليل الذي يُحيا بالتلاوة والدعاء والركوع والسجود نرى العشر التي تُشغل بشراء الأحذية، والبحث عن الأكسية، والاستعداد بالأطعمة إلى غير ذلك مما هو معلوم.
ومع كل هذه المقدمة التي أحدثكم بها فإنني لم أتحدث عن العشر، ولا عن فضلها، ولا عن ليلة القدر وأجرها؛ لما ذكرته من المعرفة؛ ولأنكم ستسمعون ذلك خلال الأيام القادمات في كل الكلمات والمواعظ، غير أن وقفتنا اليوم هي عن: (رمضان والأمة بين عامين).
أليس جديراً بنا أن نتفكر في دور رمضان، وأثر فريضة الصيام في أمة الإسلام، ليس في الأفراد لما يكثرون من تلاوة القرآن، وما يزيدون من صلاة الليل، وما يسعون إليه من أمور الخير هنا أو هناك؛ لكن في تغير أحوال الأمة كلها؟! أليس جديراً بنا -ونحن نمضي، وتمر بنا الأيام، وتتوالى الأعوام- أن ننظر إلى مسيرتنا، ونقوم ما اعوج منها، ونكمل ما نقص منها، ونستدرك ما فات منها؟ هذه نظرات عامة، ووقائع حاضرة، ومن بين صور الواقع المؤلم تبزغ أنوار وبشريات لمستقبل مشرق بإذن الله جل وعلا.(90/2)
أثر رمضان في وحدة المسلمين
رمضان والوحدة: في رمضان وحدة في العبادات، فالأمة كلها تصوم شهراً في وقت واحد، وعلى صفة وهيئة واحدة، ووفق متابعة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم واحدة، إنها أمة تصوم وتصلي، وتزكي وتعتمر، وتتلو القرآن، وتكثر الذكر، وتعظم الدعاء، وتجتهد في الابتهال، وتتواصل في التضرع.
إنها أمة يقول لها الله في رمضان ما جاء في القرآن: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].
إنها الأمة التي يذكرها رمضان بأن لها إلهاً واحداً لا تخضع إلا له، ولا تخشى إلا منه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تعتمد إلا عليه، ليس في قلوبها رهبة من الخلق وإن عظمت قوتهم، وليس في نفوسها ذل للمخلوقين وإن عظمت أعطياتهم، إنها أمة العبادة؛ أمة واحدة، يجمعها التعبد لله سبحانه وتعالى.(90/3)
وحدة مشاعر المسلمين في رمضان
رمضان ووحدة المشاعر: كلنا نردد هذا القول؛ فنقول: إننا في رمضان نشعر بشيء من ألم الحرمان، ونتذكر الفقير والمسكين، ولكننا كذلك في وحدة مشاعرنا تشدنا هذه المشاعر إلى أن نرتبط بكل مسلم على ظهر الأرض من أقصى الصين شرقاً إلى أقصى المغرب غرباً، ونذكر كل دمعة تذرفها أم فلسطينية، وكل دم يُراق على أرض العراق، وكل بيت يُهدم فوق رءوس ساكنيه، وكل جريمة تُرتكب في حق أمتنا هنا أو هناك.
إن لم يكن رمضان هو الذي يوحد مشاعرنا، ويربط قلوبنا، ويجدد وحدتنا، ويقوي آصرتنا، ويذكرنا بتاريخنا، ويلزمنا باستعادة ترتيب صفوفنا، فإن رمضان يمر علينا، وحينئذ لا نخرج منه إلا بآيات تُتلى، وأذكار تردد، وركعات تُصلى، وربما تكون القلوب ليست فيها حاضرة، والنفوس ليست بها متأثرة، فهل نرضى لأنفسنا ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس أن يكون حظها من فريضة من الفرائض وركن من الأركان هو هذا الزاد الضئيل، والتأثير الخافت الذي لا يكاد يبين؟! لننظر بين عام مضى وعام أتى ما الذي في أمتنا جرى، ولنتنبه إلى صور أخرى في رمضان.(90/4)
أثر رمضان في تكافل المسلمين فيما بينهم
رمضان والتكافل: ألسنا اليوم في مجتمعاتنا المحدودة نرى المال يُبذل للفقير، والمواساة تُبذل للحزين، وصور من التكامل والتكافل تجدد وتحرك المعاني المؤثرة المعبرة فيما وصف ومثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة الإسلام بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فأين تكافلنا خارج نطاق حينا، وخارج نطاق مسجدنا ومدينتنا وبلدنا؟ إنه تكافل أمة الإسلام كلها، فهل نسينا ما كنا نذكره من قبل، ونتحدث عنه بكل قوة وجرأة وحرقة عن فلسطين؟ واليوم تجددت لنا أحداث العراق، ولم تكن من قبل، وغداً وبعد غد، لكن الأصوات خفتت، والألسن خرست، والأقلام أُغلقت، ولا يكاد المرء يسمع شيئاً من ذلك، وإن سمع فعلى ندرة، وربما بتخوف، وكأن الأمور تحتاج منا إلى تأمل أكبر.(90/5)
انتصارات المسلمين في رمضان
رمضان والانتصار: إنها حقيقة مهمة لابد أن نقف عندها وقفات كثيرة: ففي رمضان يحصل انتصار على الشهوات والملذات، وانتصار على علل النفس والنزغات، وانتصار على الضغائن والخصومات، تلك هي حقيقة هذا الشهر في أمة الإسلام إذا وعت وأدركت المقاصد العظيمة والحكم الجليلة في مثل هذه الفريضة.
إنه انتصار لهذا الشهر على سلطان شهوة الجسد، وعلى الكبر والغرور في النفس، وعلى العادات والتقاليد المخالفة في المجتمع، وعلى السمعة والرياء في الأعمال، وعلى القوة والأذى من الأعداء.
إن رمضان الذي يحقق انتصار المؤمن في نفسه، وانتصاره على ضعفه، وانتصاره على شيطانه يحقق في حقيقة الأمر انتصار الأمة على ضعفها وذلها وخذلانها واستسلامها لأعدائها؛ وذلك الذي تجدد في يوم بدر؛ اليوم الذي سماه الله عز وجل يوم الفرقان.
وهكذا فتح مكة الذي كان نهاية لصورة الجاهلية والظلم والطغيان، وما جرى بعد ذلك من فتوح وانتصارات في رمضان، نعم قد يكون اتفاقاً في التاريخ، لكنه قطعاً تجدد في معاني الانتصار الحقيقية في أوصال الأمة، بدءاً من قوة إيمانها، ومروراً بقوة وحدتها، وانتهاءً بقوتها المادية العملية.
واليوم نتساءل: هل هذه المعاني موجودة في حياة أمتنا؟ وما هو الواقع بين عام مضى وعام أتى؟(90/6)
مآسي وأحزان من واقع إخواننا في فلسطين
أستسمحكم عذراً -ونحن في هذه الأيام التي تهش فيها النفوس وتبش، وتفرح القلوب وتطرب لما في هذا الشهر والعشر من الخير- أن نذكر شيئاً من المآسي والأحزان؛ لأن الواقع يفرض علينا ألا نكون أسرى لمجرد ما نحن فيه في ذواتنا أو مجتمعاتنا، فالدائرة أوسع.
نقف وقفة سريعة أمام أرقام لقضيتنا الأولى في أرض فلسطين خلال فترات الانتفاضة الجهادية المباركة، أريد منها في ومضات سريعة أن أشير إلى أن الأمر ما يزال متفاقماً، وهناك صور تزيده ظلمة وظلاماً وحيرة وأسىً وألماً.
أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيد، منهم نحو سبعمائة من الطلبة، وواحد وثلاثون جنيناً قتلوا على الحواجز التي منعت وصول أمهاتهم إلى المستشفيات، وقتل كذلك أكثر من مائة مريض.
وهكذا أصيب خمسة وخمسون ألف جريح وأكثر، منهم ألفان وخمسمائة وأربعون امرأة، وأكثر من ستة آلاف إعاقة، وأكثر من أربعة آلاف وستمائة إصابة للطلبة، ونحو من أربعمائة إصابة لأهل الإسعاف من الممرضين، وثمانية آلاف أسير إلى يومنا هذا يقبعون في سجون الظلم والإرهاب في الكيان الصهيوني، منهم سبعة وتسعون قد أمضوا عشرين عاماً، ومنهم فئات من صغار السن ما بين السادسة عشرة والسابعة، ومنهم ست فتيات قاصرات يُعتدى عليهن ويُؤذين بكل صور الإيذاء، وأضف إلى ذلك نحو ثمانمائة من الأطفال الشهداء، وأكثر من تسعين بالمائة من أطفال فلسطين يشعرون في كل لحظة بأنهم معرضون للأذى أو القتل، ونحو ستة آلاف وسبعمائة بيت مدمر تدميراً كاملاً، ونحو ذلك العدد بأقل من المباني التي هدمت، ونحو عشرة آلاف شردوا من بيوتهم، وأكثر من مليون ونصف شجرة دمرت، وأكثر من مائتين وثمانمائة وثمانين بئراً ردمت، وأكثر من آلاف وآلاف من رءوس الأغنام والأبقار أتلفت وقتلت، والمدارس التي أغلقت تجاوزت ألفاً، والمعاهد والجامعات العليا تجاوزت عشراً، وستة وأربعون في المائة من إخواننا في تلك الأرض الطاهرة لا يأكلون في يومهم إلا وجبة واحدة، ونحو ثلاثة عشر وأربعة من عشرة في المائة مصابون بسوء التغذية! والجدار الذي يسمى: جدار الفصل العنصري نسمع عنه، ولا نعلم أنه قد اقتطع نحو ستة عشر بالمائة من الأراضي، وأنه قد أفنى وأنهى وجود مائة قرية من قرى إخواننا في فلسطين، وأنه قد استولى على أكثر من خمسين في المائة من مصادر المياه في غزة! أقول -أيها الإخوة الأحبة-: أليس هذا جديراً بأن يكون حديثنا هذا أيضاً في رمضان، أم أننا نتحدث عن عدد الركعات، وأصوات الأئمة، وحسن الدعاء، وكأن عبادتنا ليست إلا في هذه الجوانب، وكأن دور هذا الشهر ليس إلا في هذه الميادين، وكأننا ننسى الحقائق؟! وليس هذا هو المؤلم فحسب؛ بل اليوم، وخلال هذا العام نجد تغيراً كبيراً، فالعمليات الاستشهادية أصبحت بنوع من شبه الإجماع انتحارية، ومساعدة الذين هدمت بيوتهم أو الذين قتل عائلهم هو تمويل للإرهاب، والتعليم الإسلامي وتعليم أحكام الشريعة ضرب من التطرف والتشدد، بل وحلقات القرآن وتحفيظه بؤر للإرهاب والعنف، وسيروا وراء ذلك؛ فإنكم ستجدون أن تغيراً كبيراً قد جرى في عام، وأصبحنا اليوم تمر علينا الأحداث ونسمعها كما يشرب أحدنا كأس الماء! ألسنا بالأمس سمعنا، واليوم سنسمع كم قتل في العراق! وكم استشهد في فلسطين! وكم حصل هنا! وكم جرى هناك! وكأن الأمر يمضي ولا يعنينا، بل ونحن نكرس عكسه وضده في واقعنا.(90/7)
الواقع الإعلامي المر في بلاد الإسلام والمسلمين
وأنتقل بكم إلى صورة أخرى ارصدوها خلال عام، ولست هنا براصد ولا محلل: الواقع الإعلامي: إنها قنوات أكثر، وفجور أكبر، وتطبيع أظهر، وإشغال وإلهاء، ألسنا نرى ذلك، ونتحدث به في مجالسنا؟! ولكنه يسري في صفوفنا، ويتسلل إلى بيوتنا، ويؤثر في شبابنا وشاباتنا، ويغير في كلماتنا ومصطلحاتنا، فلم نعد نسمع اليوم العدو الصهيوني، وإنما أصبحنا نسمع ونرى ونشاهد من يتحدث من أولئك المغتصبين والمحتلين، ويؤتى بهم على أنهم محللون، أو أنهم كذا أو كذا إلى غير ذلك، وأصبح الحال كما قال الشاعر: يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال ونحيا العمر أوتاراً وقصفاً ونحيا العمر في قيل وقال وننسى إخوة في الله دارت بهم كف الزمان على الرمال ألسنا نرى القنوات ترقص وتغني، ومن بعد في نشرة الأخبار الدبابات تقصف وتدمر؟! ألسنا نرى الفوازير والمسابقات المخزية والمخجلة في بعض القنوات، بل ونحن نسمع ونرى من يطعن في كل هذه المعاني مروراً بتعليمنا الإسلامي، وانتهاءً بحجاب نسائنا وعفة بناتنا بلسان عربي مبين في قنواتنا الفضائية الكثيرة الشهيرة؟! أليس ذلك جديراً بأن يلفت نظرنا؟!(90/8)
واقع كثير من المجتمعات الإسلامية
وأنتقل إلى واقع اجتماعي: ففي قضية المرأة: فهنا وهناك تبرج واختلاط، مصحوب بتبرير وتشريع قانوني أو تشريع من فتاوى وأقاويل باطلة.
وفي الأسرة: تفكك وانحلال.
وفي الشباب: تميع واختلال.
وفي العلاقات الاجتماعية: تقطع وانشغال.
وفي الوحدة المطلوبة: تنصل واستقلال، وذلك له حظ حقيقي في واقع الأمر.
ولسنا نقول ذلك توهيناً؛ ولكن لئلا نغفل عن واقعنا، ونعيش في لذة من أمور حسنة ممدوحة، لكنه لا ينبغي أن يكون الاقتصار عليها.
قال الشاعر: نحن يا شهرنا العظيم غدونا أرنبات تفيد من صياد وغدت خيمة الأخوة في الريـ ح بلا أعمد ولا أوتاد كتبتنا الأيام في هامش السـ طر روتنا من غير ما إسناد ولعل بعضكم يقول -وأنا قد قلت ذلك لنفسي-: لمَ مثل هذا الحديث؟ وهل أغلقنا نوافذ الأمل وأطفأنا أنواره؟ فأقول: لا؛ لكن الشق الأول: هو أننا لابد أن نفتح أعيننا، وأن نرى ما حولنا، وأن ندرك تعاظم الأخطار التي تهدد أمتنا، وأن نقول ذلك، وأن نذكر به، كما قال الشاعر: يا أمتي إن قسوت اليوم معذرة فإن كفي في النيران تلتهب وإن قلبي قد طاف الرجاء به وقد تدفق منه الماء والعشب فكم يعز بقلبي أن أرى أمماً طارت إلى المجد والعربان قد رسبوا(90/9)
مبشرات من واقع الأمة الإسلامية
ومع ذلك -أيها الإخوة الأحبة المؤمنون- ليست هذه هي الصورة، بل ثمة صورة أخرى تبشرنا بخير، تلك التي ننظرها في واقع أمتنا عموماً، وفي مثل هذه المناسبات والمواسم الإيمانية والعبادية خصوصاً.
فنحن بحمد الله اليوم نجد صوراً أخرى، نجد إيماناً في القلوب يقوى، وعزة في النفوس تزأر، وشموخاً في مواقف إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين تبدي لنا صوراً عجيبة فريدة! كل الذي ذكرناه يقابله أنهم أبلوا في العدو بلاءً حسناً، وأنهم أقضوا مضجعه، وأنهم خربوا تجارته، وأفسدوا سياحته، وأدخلوا الرعب في قلوب أبنائه، وخلطوا أوراقه السياسية، وأوقعوا من القتلى في صفوفهم ما لم يقتل بمجموع كل الحروب التي كانت مع العدو الصهيوني في الحروب العربية الرسمية كما يقال.
ونرى فيهم وفي نسائهم وفي شبابهم صوراً تذل لها أعناقنا إعزازاً وإكراماً لها، وكذلك خجلاً من مواقفنا أمام تلك المواقف الشامخة البطولية العظيمة.
ونحن نرى جيلاً من العقيدة والإيمان يبزغ في كل بقاع الأرض، وكلما اشتدت قبضة الظلم والطغيان على أمتنا تفجرت ينابيع اليقين والإيمان في صدور أبنائها، وكلما عظمت صور المقاومة والجهاد والمغالبة لأعداء الله، وصور الرجوع والتمسك بدين الله، ألسنا نرى اليوم المساجد تملأ أكثر مما كانت من قبل؟ ألسنا نرى القرآن يتلى أكثر مما كان من قبل؟ ألسنا نرى مكة -حرسها الله عز وجل- ومسجدها الحرام يغص بالناس في زحام شديد لم يكن مشهوداً منذ سنوات قريبة ماضية؟ كل ذلك من مبشرات الخير التي نراها في أمتنا، والتي نستشرف فيها أملاً مشرقاً، ونستشرف فيها تعرضاً لسنة الله عز وجل، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ونرى فيها اقتراباً من تحققنا لما أراد الله منا ليتحقق لنا ما وعدنا الله به: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وذلك ما لا نغفل عنه؛ لكننا -وللأسف الشديد- نغفل عن الجانب الأول، والإعلام يصرفنا عنه، والسياسة تلبسه علينا، ونحن ربما ننصرف أو ننجرف وراء هذا التيار أو ذاك.(90/10)
أهمية تصحيح الأخطاء
فحقيق بنا وجدير بنا في هذا الشهر أن ننظر إلى أحوال أمتنا، وأن نصحح مسارها، وتصحيح المسار يبدأ منا كأفراد، وذلك ما نقوله الآن ونحن في منتصف الشهر وقرب بداية العشر.
فما هي أوضاعنا التي كنا نشكو منها، والتي تحدثنا عنها بأسىً بعد رحيل رمضان الذي مضى؟ قولوها الآن، وأعيدوها مرة أخرى، وقلتم وقلنا جميعاً بعد انقضاء شهر رمضان الذي مضى: لئن جاءت العشر القادمة -إن شاء الله- فإنني لن أفعل ولن أفعل ولن أفعل، وإذا جاءت سأفعل وسأفعل وسأفعل! فهاهي الآن تأتينا من جديد، فهل نحن نقول ولا نفعل؟ وهل نحن نضحك على أنفسنا أو نخادع ربنا؟! أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يقوي عزائمنا في طاعته ومرضاته، وأن ييسر لنا فيما بقي من شهرنا جداً وتشميراً في الطاعات، ومغفرة في الذنوب والسيئات، ومضاعفة في الأجور والحسنات، ورفعة في المنازل والدرجات.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(90/11)
المفهوم الواسع للعبادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ونحن في موسم التقوى الأعظم، وفي أيامها ولياليها الأكثر والأكبر، فلنحرص ولنشمر عن ساعد الجد في طاعة ربنا سبحانه وتعالى وتقواه.
ولعلي -أيها الإخوة الكرام- هدفت من مثل هذا الحديث إلى أمرين اثنين مهمين: أولهما: أن نوسع المفهوم الصحيح للعبادة، فليست مقتصرة على الركعات، ولا الزكوات، ولا الدعوات، ولا التلاوات، بل هي أوسع من ذلك، فهي تشمل سائر جوانب الحياة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
والغاية التي خلقنا الله عز وجل لها وهي العبادة لا تنحصر في وقت قصير في المسجد، ولا في شهر واحد من عام، ولا في أوقات محدودة، ثم نمضي غافلين عن أننا عباد لله عز وجل القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إن هماً تحمله في قلبك إزاء ما يقع لأمتك هو ضرب من العبادة، إن تفكيراً تعمله في فكرك للخروج من أزمة أو مأزق في هذه الأمة هو ضرب من أعظم ضروب العبادة، إن سعياً تسعاه لتسد حاجة، أو تسد ثغرة، أو ترمم ثلمة هو ضرب عظيم من أضرب العبادة، وذلك ما أردت أن ننبه إليه أولاً.(90/12)
أهمية الانتباه لما يضعف مفهوم العبادة وأواصر الأمة
وثانياً: أن ننتبه إلى أمور تتسلل إلى قلوبنا وعقولنا وكلماتنا تضعف قوة هذه المشاعر التعبدية على هذا النحو الواسع في المفهوم، وتضعف الانتماء والارتباط بالأمة، فنعود ونحن نريد إصلاح حالنا ووضعنا، وننسى إخواننا هنا وهناك، وتتقطع الأواصر ليس بالمشاركة المباشرة؛ بل حتى بالمواصلة المالية؛ بل حتى بالمواصلة بالتذكر والدعاء وغير ذلك من صور كثيرة تحتاج منا إلى مثل هذه المراجعة.
وهذا هو الذي لعلي أردت أن أوصله إليكم، وأوصله إلى نفسي أولاً.
وأما حديثنا عن العشر والفضل والأجر فمبذول ومطلوب، ولكننا لا نريد فقط أن نريح أنفسنا، وأن نتحدث بذلك، ثم ننصرف وكأننا قد أكملنا واجبنا تجاه أمتنا، وكأننا قد أدينا ما علينا تجاه ديننا، وكأننا قد نصرنا الله عز وجل، وننتظر أن يتنزل علينا نصر ربنا، ذلك ما أحسب أنه جدير باهتمامنا.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبدل حال أمتنا من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة.
اللهم ألف بين قلوب المؤمنين، واجمع صفوفهم على كلمة الحق والهدى يا رب العالمين! اللهم اهدهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
اللهم وحد صفوفهم، واربط بين قلوبهم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل أمة الإسلام أمة واحدة على أعدائها، متآخية فيما بين أبنائها.
اللهم إنا نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة والدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، زلزل اللهم الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم.
اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
اللهم أذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل ما بقي من هذا الشهر لنا ولهم أمناً وأماناً، وسلماً وسلاماً.
اللهم وفقنا فيه لطاعتك ومرضاتك، واجعل ختامه ختام خير مختوم بالمغفرة والرضوان والعتق من النيران برحمتك يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم ثبت إخواننا المجاهدين، اللهم أنزل على قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، وحد اللهم كلمتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وعظم قوتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(90/13)
رمضان ضيفنا المنتظر
لقد فضَّل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض لحكمة يعلمها جل وعلا، ومما فضله الله عز وجل شهر رمضان؛ حيث أنزل فيه القرآن، وجعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفتح فيه أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، وصفد المردة من الجان، فعلى المسلم أن يستغل هذا الموسم العظيم في الاستكثار من الطاعات والعبادات، والانتهاء عن الذنوب والمخالفات.(91/1)
تفضيل الله عز وجل لبعض مخلوقاته
الحمد لله، الحمد لله العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، الذي لا يعجزه في الأرض ولا في السماوات شيء، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعمّ نواله، وعظم عطاؤه، فهو المحمود على كل حال وفي كل آنٍ، له الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، أتم به النعمة، وأكمل به الدين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأعز به من بعد ذلة، وكثر به من بعد قلة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وسقانا جميعاً من حوضه.
وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! رمضان ضيفنا المنتظر، تطوي الأيام مسيرتها اقتراباً منه، وشوقاً إليه، وتمر الليالي متواليات ليهل علينا -بإذن الله عز وجل- هلاله، وندعو الله عز وجل أن يجعله هلال يمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وهلال رشد وخير، ننال به من الله أجراً، ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا في موازين حسناتنا ذخراً.
كل ضيف لابد من معرفته قبل قدومه، وأحسب أن الجميع يعرف رمضان، وقد مر به على مدى أعوام وأعوام؛ ولكننا في كل مرة وعام نذكر من الصور المحزنة، والأحوال المؤلمة، والغفلة المستحكمة، والمعاصي المتكاثرة ما لعلنا نحتاج معه دائماً وأبداً إلى أن نجدد هذه المعرفة تجديداً يخلص إلى أعماق القلوب والنفوس، ويرشد خطرات وأفكار العقول، ودائماً نحن في حاجة إلى ذلك.
فوقفة مع الحكم والآثار في الخصائص والاختيار نبدؤها بحق الاختيار والتخصيص الذي جعله الله عز وجل له وحده من دون سائر الخلق أجمعين: قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فليس لأحد أن يصطفي أو أن يختار زمناً فيجعل له مزية أو فضيلة، ولا مكاناً فيجعل له حرمة أو حكماً، ولا إنساناً فيجعل له شرفاً أو فضلاً، بل الله جل وعلا هو الذي له الحق وحده في ذلك كله.
وقال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وقال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فاختار من بين الخلق صفوتهم، وجعلهم رسله وأنبياءه، وهو الذي جعل أيضاً من الأماكن أماكن خصت بالحرمة والأحكام في بلد الله الحرام ومدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم جعل من الأزمان أزماناً لها خصائص في الفضل ليس لأحد أن يعينها إلا هو جل وعلا، وأطولها مدىً وأكثرها زماناً وامتداداً شهر رمضان المبارك.(91/2)
رحمة الله في تخصيص بعض مخلوقاته بالفضل
الحكمة العامة في ذلك: رحمة الله جل وعلا بالخلق الذين يعلم سبحانه وتعالى طبيعتهم، وغفلتهم من بعد ذكرهم، وضعفهم من بعد نشاطهم، وفتورهم من بعد إقبالهم، فيدركهم الله عز وجل بحكمته ورحمته؛ ليقيل العثرات، ويمحو السيئات، ويضاعف الحسنات، ويفيض الخيرات، ويعمهم بالبركات، فإنهم ضعفاء ليست لهم قوة ولا حول إلا بحوله وقوته سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
والله تعالى جعل لنا من رحمته في أيام دهرنا نفحات نتعرض فيها إلى الرحمات، ونتطهر فيها من المعاصي والسيئات؛ لتتزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتقبل الجوارح على طاعة الله عز وجل، ولو لم يكن ذلك كذلك لاستولت الغفلة، ولأظلمت النفوس، وقست القلوب، وعميت العيون، وصمت الآذان، إنها حكمة الخالق ورحمته الغامرة! فمن ذا الشقي الذي لا يتعرض لها؟ ومن ذا الغبي الذي لا يفطن لها؟ فحاول قليلاً من التدبر والتأمل بالفكر والعقل التماساً للحكمة، وقليلاً بل كثيراً من التعرض للخير والطاعة والفضل والرحمة.(91/3)
ذكر بعض خصائص شهر رمضان
وهذا الشهر له خصائصه واختياره، وفيه من الخصائص والفضائل ما يضيق المقام عن حصره وذكره، فهو ركن مفروض، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وفي حديث ابن عمر الذي ذكر أركان الإسلام ذكر فيه الصيام.
وهو مخصوص في النهار بالصيام، وفي الليل بالقيام؛ ليجتمع فيه من العبادات ما قل أن يجتمع في غيره من الأيام والليالي.
وهو شهر مختص بالقرآن نزولاً ومدارسة، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، وكما قال ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون حين يلقاه جبريل يدارسه القرآن).
وله اختصاص في مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات، كما في الحديث المحفوظ المشهور: (كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به).
ويضاف إلى ذلك فتح أبواب الجنان في رمضان، وتخصيص باب الريان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان شهر رمضان فتحت أبواب الجنان، وأغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين) رواه أبو هريرة في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، ينادون على رءوس الأشهاد، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل دونهم أحد)، وغير ذلك مما تعلمون.
وصيام رمضان جنة ووقاية، ومباعدة من النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة كجنة أحدكم في القتال)، حديث صحيح عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وصيام يوم يباعد بينك وبين النار سبعين خريفاً.
كل هذه الخصائص وغيرها تجتمع في هذا الشهر، فما هي الآثار؟(91/4)
الآثار الإيمانية لشهر رمضان(91/5)
التدرج في العودة إلى الله والقرب منه في رمضان
أقف -أيها الأحبة الكرام- مع ثلاثة آثار مهمة، جدير بنا أن ننتبه لها، وأن نتواصى بها: الأثر الأول: الإقبال والإكثار من الطاعات.
ودعوني أذكر لكم ذلك ما يقع لي ولكم ولكل أحد في غالب الأحوال: أكثر الناس يصومون، فإن سألت أحدهم عن السبب يقول: لأنه ركن من الأركان، وفريضة من الفرائض، فيصومه وإن شق وثقل على النفس، وإن كرهه من القلب كما قد يحصل، لكنه يقول: لابد أن أصوم، فيشرع في ركن وفريضة هي مما افترضه الله عليه وأحبه منه، كما في الحديث القدسي: (إن أحب ما تقرب إلي به عبدي الفرائض).
ثم إذا صام ماذا يقول؟ يقول: هل أصوم وأؤدي فرضاً، ثم لا أصلي؟! وهل أترك فريضة الصلاة الواجبة في كل يوم وآخذ فريضة الصيام التي هي مرة في العام؟! فيجول في ذهنه ذاك، فيقول: لابد مع الصيام من الصلاة، فيصلي إن كان تاركاً لها، أو مقصراً فيها، أو متخلياً عن أدائها في أوقاتها، أو متخلفاً عن شهودها في أماكنها، فيبدأ بالصلاة.
ثم يقول: شهر رمضان شهر القرآن، وسأذهب إلى المسجد للصلاة، وسأمكث فيه أوقاتاً، فلمَ لا أرطب لساني بالقرآن؟! ولمَ لا أحيي قلبي بتلاوة كلام الرحمن؟! فيبدأ في تلاوة القرآن.
ثم يتذكر أن هذا الشهر شهر مخصوص بقبول الدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم، ومنهم: الصائم حين يفطر)، ويتذكر أنه في وقت الأسحار يكون مستيقظاً، ويتذكر أن هذا هو الثلث الأخير من الليل الذي ينزل فيه رب العزة والجلال إلى السماء الدنيا وينادي برحمته سبحانه وتعالى عباده: (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له، وذلك الدهر كله) فيبدأ حينئذ يلتفت إلى الدعاء، والدعاء مخ العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم.
فإذا بسجوده يطول ليكثر دعاؤه، وإذا بقنوته يطول ليكثر دعاؤه، وإذا به في أعقاب كل صلاة وفي كل وقت يرفع يديه إلى الله عز وجل متضرعاً وداعياً.
ثم يقول: رمضان أعظم مواسم الإحسان من الكريم المنان سبحانه وتعالى، فلمَ لا أصوم وأحسن؟ ولمَ لا أصوم وأنفق؟ ويتذكر أجر تفطير الصائم، وأنه يناله كاملاً غير منقوص، ويتذكر أجر الصدقة ومضاعفتها، فيدخل في عبادة جديدة، وإذا به من غير شعور، وربما من غير عزم سابق قد ألم بهذه الطاعات كلها، وإذا بها لا أقول: تخف على نفسه؛ بل تصبح محبوبة له، يرغب فيها، ويشتاق إليها، ويحس بلذتها، ويتذوق حلاوتها، وذلك أثر معروف من آثار الطاعات، فالطاعة تجلب الطاعة بعدها، والحسنة تقود إلى الحسنة التي وراءها، وبذلك نجد هذا الأثر لمن تأمل في هذه الخصائص.
ثم ينتقل إلى مرحلة أخرى -أيها الإخوة- وأريد أن يتصور كل أحد ذلك في نفسه، أليست هذه الخواطر التي ذكرتها تجول بالفعل، وتتدرج كما أشرت إلى تدرجها؟ ثم ينتقل إلى هذه المرحلة المهمة، وهي مرحلة الإتقان، فإذا صام يقول: لمَ لا أصوم وأخلص؟ وفي الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
فيرتقي إلى مرتبة عظيمة: إخلاص ليس فيه شائبة رياء، وتعلق بالله عز وجل يعظم محبته في خالقه ومولاه، ويعلق قلبه به، ويتدرج ليبلغ في بعض الأحوال إلى درجة الإحسان، التي هي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أليس ذلك أيضاً يجول في خواطرنا؟ ثم يقول -وهو الذي قد كان مفرطاً من قبل-: هأنذا أصلي، فلمَ لا أخشع؟ ولمَ لا أتدبر؟ ولمَ لا أحضر قلبي في صلاتي؟ ولمَ لا أكون فيها كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه في الحديث القدسي المحفوظ المشهور: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين.
قال الله عز وجل: حمدني عبدي) إلى آخر الحديث، فيستحضر حينئذ أنه بين يدي الله، وأنه في مناجاة وصلة مباشرة مع الله، فيتغير قلبه، وتتبدل نفسه، ويصبح غير الذي كان من قبل، وذلك حاصل لنا جميعاً بتفاوت واختلاف في الدرجات، وربما ينكر قبله الذي يعرفه فيقول: هل أنا هو؟ أنا برقة قلبي، ودمعة عيني، وخضوع نفسي، وشعوري بهذه الروحانية الإيمانية، هل أصبح في صدري قلب غير قلبي الأول؟ وهل بثت في نفسي روح غير روحي الأولى؟ إنها نعمة كبيرة! ثم إذا به يتدرج في الإتقان، فيقول: أنا أنفق، فلمَ لا أنفق من الطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، ولمَ لا أتيمم الأحسن من مالي فأنفقه؛ لأن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وكم من جولات فيها مشاحة للنفس في أول الشهر، لكنها تنفق، ثم إذا بها تكثر، ثم إذا بها تصطفي ما قد يكون عزيزاً أثيراً عندها فتنفقه في سبيل الله عز وجل؛ فيرقى العبد إلى مراتب الإتقان في هذه العبادات.
ثم يتلو فيقول: ولم أتلو هذًّا كهذِّ الشعر؛ ولا يهمني إلا آخر السورة؟ لمَ لا أتفكر وأتدبر؟ ولمَ لا أفتح قلبي لأنجو من صفة الكفر والنفاق؛ لقوله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]؟ وإذا بقلبه ينفتح، وإذا بأنوار القرآن تنسكب فيه، وإذا ببصيرته ترى ما لم يكن يرى من قبل، وإذا به يدرك في معرفة الأحوال والأوضاع ما لم يكن يعرفه من قبل، وإذا به يقارن حينئذ وهو يتلو، والقرآن يأمر، فيبحث عن نفسه هل هو حيث أمر الله في كتابه، والقرآن ينهى، فينظر في حاله: هل كان موجوداً في تلك الدائرة المنهي عنها.
وتلك خصيصة، وذلك أثر عظيم من آثار الفضائل الرمضانية، فتأملوا فيه وتدبروه، واجتهدوا في تذكره واستحضروه.(91/6)
مجانبة المعاصي والذنوب بالتدرج في رمضان
الأثر الثاني: مجانبة المعاصي والمحرمات.
ومرة أخرى نبدأ ذلك بالتسلسل الفعلي الواقعي: يصوم فيترك الطعام والشراب، وهو الحلال الزلال؛ لأن الله أمر بتركه وحرمه في أثناء النهار، فيقول: فما بالي لا أترك الحرام الدائم على مدى الأيام والأعوام؟ أليس هذا نظراً عقلياً حصيفاً، ومنطقاً واضحاً جلياً؟ ويقول: ما بالي إذاً لا أنتبه إلى الخطورة التي أقارف فيها ما حرم الله وأنا أترك ما أباحه من طعام وشراب امتثالاً للنهي هنا، وتخلياً عنه هناك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب).
ويفكر العقل فيقول: لمَ أجعل هذه الفريضة عناءً ونصباً وتعباً وأخرج منها بغير غنيمة ولا مكسب؟ إن العاقل لا يرضى لنفسه ذاك.
ثم يتذكر مرة أخرى، وهو يستمع ويسمع كثيراً من النصوص التي يكثر ذكرها في رمضان، كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم)، فيمسك لسانه ليتم صومه.
وإذا به يقول: ما لي لا أمتنع عن الغيبة؟ ولمَ لا أترك النميمة؟ ولماذا لا أقطع السب والشتم؟ ولماذا أذكر فاحش القول؟ يتذكر هدي وشمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم انظروا أيضاً مرة أخرى وهو يستمع إلى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فيقول: كيف أصوم وأكذب؟! وكيف أصوم وأغش في بيعي وشرائي؟! وكيف أصوم وسهام عيني تخترق المحرمات؟! وكيف أصوم وأذني وعاء لكل النفايات من الأقوال الباطلة، والأغاني الماجنة؟! إنها سلسلة تتوالى عند المسلم إذا كان يقظ العقل حي القلب، وتلك الآيات تأتيه مرة أخرى، والأحاديث تتلى عليه مرة وأخرى، ثم إذا به يتأمل بعد ذلك كله وقد بدأ يترك تلك المحرمات، ويلتفت حينئذ إلى عاداته المذمومة التي بدأ يتركها.
فالدخان الذي يواظب عليه، واللعب واللهو الذي يجعل له في كل يوم نصيباً، يقول: لمَ وقد تركت ذلك لا أترك هذا؟ وكذلك من علامة ترك المعصية: كره المعصية بعدها، ومن اجتناب المحرمات: نفرة القلب من المعاصي والسيئات.(91/7)
رمضان فرصة عظيمة للمراجعة والمحاسبة
وأثر ثالث عظيم لابد من ذكره والتنبيه عليه، وهو فرصة المحاسبة والمراجعة: المواسم هي كذلك، فالناس يريدون أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يراجعوا بعد ذلك مسيرتهم، لكن الذي يقعدهم عن ذلك أمران اثنان: الأول: الانشغال في زحمة الحياة؛ نهار عامل، وليل ساهر، ولقاء بالناس دائم، فلا يفرغ لحظة ليقف مع نفسه لمحاسبتها.
والسبب الثاني: ضعف العزيمة والإرادة، قد يجد الفرصة فيقول: لمَ لا أراجع؟ لكنه يعود مرة أخرى ويسير، يغض بصره ويصم أذنه حتى لا يواجه نفسه؛ لأنه يقول: من الصعب أن أترك هذا، من المستحيل أن أفعل هذا، من غير المتوقع أن أكون كذلك! فكيف تكون آثار رمضان في هذا الجانب؟ أولاً: زحمة الحياة التي نشكو منها.
ففي رمضان فرص كثيرة متاحة للهدوء والسكينة، وفيه فترة من الزمان تستطيع فيها أن تفكر، فهل ثمة من ينشغل في الدقائق القليلة قبل الإفطار من كل يوم؟ أليس هو جالساً في بيته؟ أليس هو فارغاً من شغله؟ أليس جسمه قد استراح؟ أليس هو متهيئاً لإفطاره؟ فهي دقائق قليلة معدودة، لكنها من أعظم الفرص في الهدوء والسكينة، ومن أعظم الفرص في خلو البال وهدوئه، وحينئذ تثور أسئلة المحاسبة، وتبدأ خطوات المراجعة.
وانظر أخي مرة أخرى في رمضان وقيام الليل، ووقت السحر، من عندك يشغلك؟ ومن معك يتحدث إليك؟ إنك وحدك في جوف الليل، بل في ثلثه الأخير، أفليس وقتاً خلصت فيه من ضجيج الحياة وصخبها إلى هدوء الليل وإلى مناجاة الله عز وجل ودعائه؟ أفليس ذلك الوقت مناسباً لجرد الحساب؟ قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر).
وأيضاً: ففي رمضان يسن الاعتكاف، وفيه تقطع الصلة بالخلق؛ لتفرغ نفسك للصلة بالخالق، وتقطع علائق الدنيا لتمد حبال الوصل بالآخرة، أفليست أياماً وليالي مقتطعة من العمر لتكون فرصة لهذه المراجعة والتذكر؟ حري بنا -أيها الإخوة الأحبة- أن ننتهز تلك الفرصة.
وأما العزيمة الضعيفة المهزومة في غير رمضان فهي فتية وقوية وأبية في شهر رمضان، فحينئذ تقول: قد انتصرت فتركت طعامي وشرابي، قد انتصرت فاستطعت أن أغلب شهوتي ولذتي؛ فحينئذ بإذنه جل وعلا تنتصر، فتجدد المسيرة، وتراجع طريقك الذي تسير فيه، وحينئذ تتنزل الخيرات والبركات.
نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وأن يجعلنا فيه من المقبولين ومن عتقاء الرحمن الرحيم في هذا الشهر الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(91/8)
صور مناقضة لما هو مطلوب في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ورمضان موسم التقوى الأكبر والأعظم؛ إذ تتزود فيه القلوب بهذه التقوى.
ما ذكرته -أيها الإخوة الأحبة- أحسب أنه استنباط يطابق الواقع، وأنه أمر من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتهيأ بها لاستقبال شهرنا.
ولعلي أقف هذه الوقفات في نوع من ذكر الجمل والكلمات مع قليل ويسير من التعليقات؛ لنرى كثيراً من صور التناقضات وأحوال المفارقات التي تباعد بيننا وبين تلك الآثار والخيرات والبركات.
شهر رمضان شهر الجد والعمل، أفليست صور كثيرة واستعدادات كثيرة تظهر الخمول والكسل؟ وشهر رمضان شهر الجود والإنفاق، أفليست في واقعنا صور من التبذير والإسراف؟ وشهر رمضان شهر المكارم والخصائص، فما بالنا في كثير من أحوالنا نجعله شهر المعايب والنقائص: فلا تضيق الصدور إلا فيه، ولا يشتد الغضب إلا في أيامه، ولا يعظم اللهو إلا في لياليه، ولا تكثر وتتعاظم بعض أسباب الإغراء والإغواء إلا فيه؟! أفليس هذا أمراً ظاهراً بين لا يحتاج إلى إقامة دليل ولا برهان؟ رمضان شهر التلاوة والذكر، والواقع لدى بعض الناس أنه شهر الغفلة واللهو، فتراهم ينامون حتى عن صلواتهم المفروضة، ويسهرون على المحرمات المقطوع بحرمتها دون أدنى شك.
رمضان شهر المناجاة والدعاء، وهو عند كثير من الناس شهر اللغو والغناء، حيث يجتمعون في كل ليلة ليكون لهم حديث ليس له خطام ولا زمام، ولا نفع ولا فائدة، بل هو حديث في كثير منه يكون عليهم لا لهم، وفي مضرتهم لا منفعتهم، فضلاً عما يكون في الليالي مما هو غير مباح.
رمضان شهر الصبر والانتصار، لكننا نجعله في بعض أحوالنا شهر الضيق والاندحار، فكم من شخص تراه في رمضان كأنما كتب على جبينه الهزيمة، وكأنما هيئته تمثل أعظم صور الاندحار والضعف والهوان، وتعجب من ذلك! ولا عجب إذا عرفنا أن فقه الصيام إذا لم يكن في القلوب والنفوس فلن تظهر آثاره على الأجسام والأبدان.
رمضان شهر الحمية والصحة، وإذا بنا نجعله شهر الشراهة والبطنة، فثمة أطعمة لا نراها ولا نسمع عنها إلا في رمضان، وكأن الصيام لا يتم على وجهه الحقيقي؛ بل ربما لا يصح الصيام عند بعض الناس على الوجه المشروع إلا إن كانت تلك الأكلة أو ذلك الشراب موجوداً، وهذا أيضاً من واقعنا.
رمضان شهر التراويح والتهجد، لكن يجعله كثير من شبابنا وشاباتنا بل -وللأسف- رجالنا ونساؤنا شهر التسكع والتسوق، فتبقى الأسواق ساهرة حتى تخلط ليلاً بنهار، وتعمي في حقيقة الأمر القلوب والأبصار.
أيها المؤمنون الأذكياء العقلاء! لا تكونوا من الحمقى والمغفلين، فاشتروا ما تريدون في الأيام الأولى من رمضان، ولا تكن النساء كذلك من المغفلات المضيعات للأوقات الشريفة الفاضلة في البحث عن الأكسية والأحذية، فأمة تصنع ذلك رغم ما حباها الله به من الفضائل والخصائص فعلها ذلك أقبح القبيح، وأشنع الشناعة! رمضان شهر الإخاء والوحدة، ونجعله في بعض أحوالنا شهر الأنانية والعزلة، وننسى أحوال إخواننا الذين يصومون معنا في أرض فلسطين، ولعلكم سمعتم ورأيتم ما مضى خلال هذا الأسبوع من تشديد الجرائم التي مع كثرتها تتعود عليها العيون والقلوب والنفوس، فلا شيء يتغير أو يتأثر، إنها حملة صهيونية باغية إرهابية على إخواننا في رفح من أرض فلسطين، فالبيوت المهدمة أكثر من مائتين وخمسين بيتاً خلال أسبوع واحد، وفي ليلة واحدة وباتصال هاتفي من تلك الديار كان عدد الذين باتوا في العراء أكثر من ألفين وخمسمائة نفس من الرجال والنساء والأطفال! وهناك صور كثيرة في العراق المحترق بدخانه وأمنه الغائب، ورغد عيشه المفقود! وهكذا أحوال أمتنا هنا وهناك، بل إلى جوار بيتك، بل في حيك، بل في قرابتك! أين هذه الروح التي توحد الأمة، وتذكرها بإخوتها؟ رمضان شهر القدوات والمنجزات، شهر كان من موتاه الشهيد الحي خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومن آثاره فتح الفتوح في فتح مكة، ويوم الفرقان في يوم بدر، ثم نجعله شهر التفاهات والسخافات، فنأتي بالمقابلات مع الفنانين والفنانات، ونسألهم: ماذا يأكلون؟! وأي شيء يشاهدون؟! ومتى ينامون؟! ومتى يستيقظون؟! وكأن تاريخنا وأمتنا قد انتهت إلى سقط المتاع، وإلى هذا القول الرخيص الذي ينبغي أن نتنزه عنه! وغير ذلك كثير.
أسأل الله عز وجل أن يعصمنا بعصمته، وأن يتداركنا برحمته، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك لأبداننا الصحة والسلامة، ولقلوبنا الصفاء والنقاء، ولنياتنا الإخلاص والتجرد، ولأعمالنا الصحة والصواب، ولأجورنا المضاعفة والكثرة يا رب العباد! اللهم إنا نسألك أن تبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اجعلنا اللهم من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وزد خيراتنا، ووفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! نسألك اللهم أن تذل الشرك والمشركين، والكفرة والكافرين، والطغاة المتجبرين، اللهم عليك بهم أجمعين، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغ لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم رد عنا وعن إخواننا المسلمين كيد الكائدين، وادفع عنا شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم وأموالهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تلطف بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى، والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم واجعلنا لهم مناصرين، ولهم مؤيدين، واجعلنا لهم معينين، وسخرنا لنصرتهم وإغاثتهم وإعانتهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! ثبت اللهم خطوتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(91/9)
روح العطاء والإباء
إن روح العطاء والإباء والاستعلاء بهذا الدين والعمل له مستمرة ماضية عبر الدهور والعصور، ولنا في كل عصر علماء ورجال كان لهم من صلابة الموقف، وثبات الأقدام، وقوة الجنان القِدْح المعلى، فحافظوا على الدين من عبث العابثين، واستهزاء المستهزئين، فحري بنا الاقتداء بهم، والاعتبار بمواقفهم في نصرة هذا الدين.(92/1)
صور ومواقف من العزة والإباء
الحمد لله حمداً يليق بجلاله، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: روح العطاء والإباء قضية ينبغي أن نبثها في القلوب، وأن نشعل نارها في النفوس، سيما وقد تحدثنا في الجمعتين الماضيتين عن أمور من التقصير والتفريط أوصلت إلى اعتداءات عظيمة على الأمة ومقدساتها، وأسلفت القول أن من أسباب ذلك أسباباً تتصل بتقصيرنا وبتفريطنا، ولعل ذلك كان له وقع شديد على النفوس.
ومن هنا رأيت اليوم أن نجول في قصص متنوعة وأخبار متفرقة، يجمعها أنها كانت تبذل لدين الله وتعطي لدعوة الله، وتسخر كل ما بين أيديها ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، ومواقف أخرى نرى فيها صلابة المواقف وثبات الأقدام وقوة الجنان في مواجهة كل ما قد يكون فيه امتهان للدين أو استحقار لقدر أهله، أو امتهان لدعوته، أو أي صورة لا يقبلها مسلم غيور أو مؤمن أبي، ولست في هذه القصص معتبراً لتاريخ متسلسل ولا لرابط معين، وإنما هي مواقف متنوعة، أحسب أن في تنوعها ما قد يربطنا بها، ويجعل لنا جميعاً حظاً منها، إذ لو قصصنا قصصاً عن العلماء فقد يقول كثير منا: نحن لسنا من العلماء، وإن قصصنا أخبار الأمراء فقد يقول كثير منا: نحن لسنا منهم، لكننا سننوع حتى يرى كل أحد منا أنه ينبغي أن يترجم حبه لدينه وغيرته عليه إلى صور من صور العطاء والإباء تبقي هذا الدين شامخاً عزيزاً، عالية رايته، خفاقة بنوده، لا يستطيع أحد مهما بلغ من قوته وجبروته وغطرسته وكبريائه أن ينال منه أو من أهله وأتباعه.(92/2)
سلطان العلماء وبائع الأمراء
وأبدأ بمواقف شهيرة لرجل عظيم عرفه تاريخ الإسلام وسجل سيرته ومآثره؛ لأنه أعطى ووقف المواقف المشرفة، وهو العز بن عبد السلام، سلطان العلماء وبائع الملوك كما اشتهر في التاريخ، رجل من أهل العلم يتوقد قلبه غيرة على الإسلام، وتفيض نفسه حمية لنصرته، وتأبى عزته وكرامته أن يذل أو أن يلين.
تلقى العلم حتى تفوق في أصوله وفروعه، ثم ولي الخطابة في الجامع الأموي بدمشق، فصار يبلغ دين الله ويحيي في القلوب المعاني الإسلامية الإيمانية العظيمة، لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه من قولة الحق خوف مضرة.
لما وقع من أمير الشام الملك الصالح إسماعيل انحراف عظيم لوضع يده في يد النصارى المسيحيين ضد ملك المسلمين في مصر الملك الصالح أيوب، وكان ثمن هذه الصفقة الخاسرة أن سلم للنصارى صفد وصيدا وغيرها من البلاد، فنطق لسان الحق وظهرت غيرة الإيمان، وتجلت حمية الإسلام في العز بن عبد السلام، فأنكر ذلك وصرح به، وجلّى موقف الإسلام وأبدى أحكامه في شأن هذا الولاء للأعداء والموالاة لهم ضد المسلمين.
وحين قال كلمة الحق عزل عن خطابته، وأقصي من منصبه، فما كان منه بعد ذلك إلا أن حمل متاعه وزاده، ورأى أن لا مقام له ببلد لا يستطيع أن يقول فيه الحق ولا أن يبلغ الدين، فانطلق إلى مصر، فبلغها واستقبله ملكها وأعظم قدره ورفع مكانه، وجعله قاضي القضاة، وجعله خطيباً.
ثم لما نظر في حال مصر وجد أن جل الأمراء الذين يستعين بهم الملك الصالح هم من المماليك الذين غلبوا على الحكم في مصر، وهم أرقاء عبيد، فقال قولة الحق: إن هؤلاء لا تصح لهم ولاية، ولا يصلح منهم في حكم الشرع تصرف في بيع ولا شراء، وسارت فتاواه بذلك، وبلغت إلى نائب الحاكم في مصر وهو من أولئك المماليك، فاشتاط غضباً، ثم مضى إلى الملك الصالح أيوب يشكو هذا العالم، فاستدعاه فسمع منه ولم يعجبه قوله؛ لأنه يعني أن جل المسئولين سيكونون تحت هذه الدائرة، وكان بينهما حديث، فكأن الملك زاد في غلظة قوله بأنه ليس هذا من اختصاصك ولا من شأنك، فخرج العز بن عبد السلام ولم يصنع شيئاً، إلا أنه عزم مرة أخرى على أن يشد رحاله ويضرب في أرض الله عز وجل، وأدرك ملك مصر فداحة الأمر وخطورته، وأن ذلك سيكون له في الناس أثر عظيم، فأرسل إليه يستعطفه ويستلطفه ويعتذر منه، فقبل بشرط واحد وهو: أن يمضي حكم الله في أولئك بأن يجعل حريتهم صحيحة بطريق شرعي.
وكيف ذلك؟ بأن ينادي عليهم بيعاً ويزيد في سعرهم، فيشتريهم الملك ويشتريهم بعض من يرى ذلك فيعتقهم، ويكون المال لبيت مال المسلمين، وجرى الحراج على الأمراء، وسمي من بعد: (بائع الملوك وسلطان العلماء)، وأنفذ أمره وقرر ما حكم به شرع الإسلام، ثم كان الأمر من بعد على ما كان من أمر العز بن عبد السلام رحمه الله ورضي الله عنه.
وهذه صورة تدلنا على المواقف العظيمة التي يقفها العلماء الصادقون المخلصون الذين ملئت قلوبهم بالإيمان واليقين، فلم يكن فيها مساحة لتمتلئ بالدنيا وتعظيم أهلها، أو الخوف من أمرائها وذوي السلطان فيها، وذلك ما كان منه رحمه الله ورضي الله عنه، حتى إنه عندما دعا الظاهر بيبرس لمبايعته أعاد عليه القول في صحة حريته، فأخرج له ما يثبت ذلك، فبايعه مع عموم الناس.
وذلك أمر بين، وسمت معلوم عند من يعرف حقيقة الدين، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وكذلك ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، ومن قبل جاء قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].(92/3)
مهندس مسلم يفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في الغرب
وأنتقل إلى صورة أخرى بعيدة في زمانها ومكانها، وفي طبيعتها وشأنها، إنها صورة مهندس مسلم أحسب بل أكاد أجزم أن أحداً منا لا يعرف عنه شيئاً.
عاش في دولة أوروبية في أوائل القرن الماضي، وأسس مجلة سماها: (بريد الإسلام) عام (1929م)، وفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في بلاد الغرب، ومراسلة القوم مراسلة متصلة أفضت في جملة جهوده إلى أن أسلم على يده نحو أربعة آلاف نفس.
كان في بعض طرقات تلك البلد لوحات صغيرة تعلق، مكتوب عليها: لقد عرفت خطأً عن الإسلام، فإذا أردت أن تعرف الحقيقة فراسل هذا العنوان، فستأتيك الكتب والتعريفات، فتأتيه المراسلات ويراسل ويرد ويجيب ويعيد ويزيد، حتى يكون من ذلك إما إسلام، وإما معرفة حقة للإسلام وبعد عن الصورة المغلوطة والحقد الأسود.
وفي تجربته حصل أن بعض المراسلات استمرت سبعة عشر عاماً، أخبر فيها: أن رجلاً من تشيكوسلوفاكيا كان يراسله على مدى سبعة عشر عاماً، ثم زاره بعدها، وعندما لقيه قال له: إن لي عندك مفاجأة، فقال: وما هي؟ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك فرحاً عظيماً.
وأي جهد هذا الذي يبذله عندما كان يكتب، لكنه يقول: إنه راسل نحو مائة ألف شخص عبر هذه المدة الطويلة، ومن لطائف ما ذكر من القصص: أنه كان يراسل رجلاً ألمانياً، وفي هذه المراسلات ذكر له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى الإسلام كان أول من أسلم على يديه من الصبية والصغار: علي بن أبي طالب، ومن الرجال: أبو بكر الصديق، ومن النساء: خديجة رضي الله عنها، وعندما راسله وطالت المراسلات كان له ابن يطلع على بعض هذه المراسلات، وعندها قرر الأب أن يسلم، وأعلن إسلامه في مراسلته، فأرسل له هذا المهندس يهنئه ويرسل له شهادة بإسلامه، وحينئذ راسل الصبي مرة أخرى، وقال: إني أريد أن ترسل شهادة باسمي حتى أوقعها، فأرسل إليه: إنك صغير حتى تكبر وتتعرف على حقائق الإسلام، فأعاد إليه الرسالة: وهل طلب محمد صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن يستأني ويتريث حتى يكبر ثم يدخل في الإسلام؟! فأرسل إليه بما أراد.
وذكر قصة عن صيدلي وامرأة من الديانة الكاثوليكية المسيحية، فراسلهما وقتاً طويلاً، ثم طلبا منه أن يحضر إليهما، فأعطاهما سمته وشكله حتى يعرفاه، وعند محطة القطار ذهب معهما إلى البيت، فكان أول سؤال عند دخوله: هل أنت متوضئ؟ فأجاب بنعم، فقالا: ونحن متوضئان، فصلِّ بنا، وذلك في أول صلاة لهما.
وهكذا نجد أن جهداً من فرد واحد يثمر في بيئة غير المسلمين مثل هذه الثمار، ولا يقول أحد إنني أعجز عن مثل هذا، ولكنه تلمح الأجر وابتغاؤه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة).
أفليس كل واحد يستطيع أن يصور صفحة من كتاب فيبعثها هنا أو هناك، أو أن يأخذ شريطاً لغيره من أهل العلم والدعوة فيرسله هنا أو هناك، أفلسنا نستطيع أن نكون من ذوي العطاء، ومن ذوي العلم، ومن ذوي القدرة على الحجة وإن لم يكن ذلك بأنفسنا فعن طريق هذه الوسائل الكثيرة التي يسرها الله لنا.(92/4)
امرأة تسببت في هداية حاكم
وأنتقل إلى صفحات تاريخية أخرى، وإلى نوع آخر حتى لا يبقى لأحد خروج عن دائرة ما نتحدث عنه، أنتقل إلى دور المرأة المسلمة لنرى مواقفها، لنرى أن أهل الإسلام كلهم يتحملون المسئولية، فليس ثمة فرق بين رجل وامرأة، فكلهم يحمل هم الإسلام ويبلغ دعوته ويذود عنه، ليس هناك فرق بين صغير ولا كبير، فلقد رأينا صغار الصحابة كيف كانوا يتنافسون ليدخلوا في صفوف المجاهدين وهم في نعومة أظفارهم وأول بلوغهم.
امرأة كانت سبباً في هداية حاكم، كان أحمد بن طولون حاكم مصر في زمن مضى، وفي أول عهده كان ظلوماً غشوماً، وفي سطوة جبروته وسكوت كثيرين عن الإنكار عليه خوفاً منه، اعترضت طريقه امرأة وسلمته ورقة هذا نصها: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وأنعم الله عليكم ففسقتم، ووردت عليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة -وتعني بذلك دعوات المظلومين- لا سيما من قلوب أجعتموها وأكباد أوجعتموها، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فوقعت الكلمات في نفسه موقعاً، وعاد من ظلمه عادلاً، وحسنت سيرته في الناس.
أفكان يعجز أن يقول هذا عالم مخلص أو داعية صادق أو رجل جريء، أفكان يعجز عن مثل هذا عموم الأمة حتى انتدبت له امرأة سجل التاريخ كلماتها وموقفها، وذلك دليل إخلاص وتجرد، فإن قول الحق ابتغاء وجه الله عز وجل ونصرة لدينه قد يكون له من الأثر أبلغ وأعظم مما قد يظن صاحبه.
وهنا أستحضر لكم حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه وسنده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، فلنكن من هذه الغراس التي تستعمل في طاعة الله.
لو أن كلاً منا قال كلمة، أو منا كتب رسالة، أو وقف موقفاً، أو رفع دعوة، أو سكب دمعة، أو زفر زفرة بحرقة؛ لوجدنا كثيراً من الخير يعم، ولوجدنا كثيراً من الحق يصل إلى الآذان ويبلغ القلوب، فلا بد من روح العطاء ولا بد كذلك من روح الإباء.(92/5)
الخليفة الخامس: عمر بن عبد العزيز
وأنتقل إلى صورة أخرى، فإن الخير في أمة الإسلام في كل إنسان، وهذه صورة لحاكم عادل منصف قائم بحق الله في رعيته، إنه الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، وكلكم يعرف خبره، وهذه ومضة من ومضات سيرته العطرة: عندما تولى الخلافة في أول أمره جاءه أقرباؤه من بني أمية يسلمون عليه ويباركون له ويهنئونه، وينتظرون منه الأعطيات والولايات، كما كان الشأن في عهد من سبقه، وكما درج على ذلك ملوك بني أمية، فوقف عمر بن عبد العزيز وقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم على جند من هذه الأجناد؟ فإني أجعلكم قواداً للجيوش المجاهدة في شرق الأرض وغربها، فسكتوا ونطق أحدهم: قال: ومالك تعطينا ما لا تأخذ لنفسك؟ أي: لم تجد لنا من الولايات إلا قيادة الجيوش التي فيها ما فيها من النصب وإزهاق الأرواح وسفك الدماء؟! فالتفت عمر بن عبد العزيز وقال: أترون بساطي هذا، إني أعلم والله إنه إلى بلى؛ لكني لا أريد أن تطئوه لئلا تدنسوه بما أنتم عليه، فكيف أكره ذلك وأكره أن تدنسوه علي بأرجلكم ثم أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم، هيهات هيهات! فقالوا له: لمه؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ فقال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل حبسه عني طول الشقة.
ولقد كان للأمراء وحكام المسلمين في عصور مختلفة دائماً وأبداً أمثلة رائعة، ليس في الزمن الغابر فحسب، بل حتى في أزمان متأخرة، كما كان من أوران الذيب عالم كبير في الهند، وكما كان من صديق خان في بهبال وفي غيرها من البلاد التي أثمرت تلك المواقف العظيمة.(92/6)
العلامة عاطف أفندي
ثم أنتقل بكم إلى صور أخرى يتجلى فيها أثر الإباء والاستعلاء بصورة أكبر وأكثر، حتى نرى أن العطاء له أثر، ولكن ربما كان لموقف إباء آثار أعظم من كثير من العطاء؛ لأن الإباء يدل على أن المؤمن الحق لا يرضى ولا يقبل أن يعطي الدنية في دينه.
أتاتورك الذي حارب الإسلام وقوض الخلافة وأعلن العلمانية، وغرب بلاد الإسلام، وفعل الأفاعيل في وقته، وفي زمانه خضعت كثير من الرقاب له وخافت من سطوته، لكن أبطالاً من العلماء وأئمة من أفذاذ الدعاة وقفوا له، ومنهم عالم مغمور السيرة لا يكاد يعرفه أحد، هو الشيخ الإمام عاطف أفندي.
قف هذا الإمام ضد هذه الموجة العاتية مع نفر قليل من العلماء أمثاله، فأصدر حينئذ الفتاوى التي تعلن وجوب إقامة الخليفة المسلم، وأن ذلك ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، في الوقت الذي قوضت فيه الخلافة، ثم أصدر رسالة أسماها: (التستر الشرعي)، تختص بشأن المرأة المسلمة وأحكام حجابها وضرورة حيائها، وأهمية عفتها في الوقت الذي نزع فيه الحجاب وأبيح الخمر وغير ذلك.
ثم سطر رسالة في تقليد الفرنجة ولبس القبعة؛ لأنه قد ألغي لباس المسلمين وصار محرماً بحكم القانون، فمن كان يلبس لباس أهل الإسلام أو لباس العلماء يحال إلى المحكمة ويسجن، وهذا يصدر رسالة يفتي بها بأن التقليد للغرب على سبيل التعظيم قد يخرج صاحبه من الملة، وعلى سبيل الافتتان معصية كبيرة، وما كان له بعد ذلك أن يترك، فقد أخذ وسجن وحوكم وحكم عليه بالإعدام وأعدم لقوله الحق في شأن قبعة أنكر على من يلبسها تعظيماً لغير أهل الإسلام وتبكيتاً لأهل الإسلام.
وهكذا سنجد الصور كثيرة، وهي عديدة حتى في زمننا الحاضر، وأردت بهذا التطواف اليسير أن ندرك تماماً أننا إذا أذكينا هذه الروح فسنجد أنهاراً متدفقة تبلغ كلمة الله وتبلغ دين الله عز وجل، وسنجد أيضاً سدوداً منيعة تقف أمام كل من تسول له نفسه أن يجترئ على حكم من أحكام الشريعة، أو أن يستهين بسنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لماذا إذا وجدنا شيئاً من ذلك لم تكن لنا ألسنة ناطقة ولا أيد كاتبة؟ لم لا نوصل أصواتنا ونوصل آراءنا ونوصل غضبتنا إلى كل من يحتج أو يعترض أو ينتقد فضلاً عمن يستهين أو يهين شيئاً من شعائر الإسلام؟ لو فعلنا ذلك لرأينا عجباً من أمور حياتنا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(92/7)
صور من الاستغناء مع الإباء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واستحضروا عظمة الله سبحانه وتعالى وحسابه والوقوف بين يديه في كل موقف يمر بكم في دنياكم.
ولعلي أستكمل بعض المواقف فيما نحن في أمس الحاجة إليه، فإن المواقف في الإباء مهمة إذ لو أننا أبينا أن ننصر الباطل بكلمة تؤيده، بل حتى بنظرة تشجعه، أو مال نبذله، لو أننا قاطعنا كل ما يؤدي إلى التهجم على ديننا، وتقوينا بمواجهته بإبلاغ الحق وتوصيله؛ لحصل لنا خير عظيم، ولرأينا أثر ذلك حسناً، ولعلي أشير إلى صور من الاستغناء مع الإباء في أمور يسيرة فكيف بما هو أعظم منها.(92/8)
الإمام المحدث عيسى بن يونس
فهذا عيسى بن يونس من أئمة الحديث، أرسل إليه المأمون بابنيه يستمعان الحديث ويأخذان عنه، فواظبا مع الناس في المسجد، ثم أرسل له من بعد بعشرة آلاف دينار، فردها وأباها، فظن المأمون أنه استقلها، فأرسل إليه بعشرين ألفاً، فردها.
وفي بعض الآثار: أنه عندما ردها سقطت وانتثرت هذه الدنانير وقال: ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ملأت هذا المسجد من أرضه إلى سقفه ذهباً، وذلك استعلاءً وإباء لأهل العلم حتى يكونوا حينئذ على قوة في الحق وصدق وجرأة في الموقف.(92/9)
مواقف أخرى
وعاطف أفندي الذي ذكرنا قصته قبل سقوط الخلافة دعي إلى إفطار عند الخليفة، وبعد ذلك أراد أن يقدم له هدية فاعتذر منه وقال كلمة جميلة قال: أرجو ألا تعودوني على قبول الإحسان، ثم دعي في وليمة لفراش صغير قد قدم له خدمة، فأجاب الدعوة، وذهب إليه وأكل من طعامه، وأراد هذا أن يكرم هذا العالم فقدم له هدية، فاعتذر منه ولكنه قال له كلمات أجمل: إن لمهمتي والقضية التي أعمل لها حساسية تمنعني ولا أستطيع معها تحمل مثقال ذرة من هذه الأعطيات المادية.
وهكذا كان هناك موقف مشابه للعز بن عبد السلام، إذ إن الملك الصالح إسماعيل عندما داهن ووالى النصارى وسمح لهم بالدخول إلى دمشق وشراء الأسلحة التي سوف يحاربون بها المسلمين، فأفتى بكل قوة ووضوح وجرأة بعدم جواز بيع السلاح لهم؛ لأنه يفضي إلى مضرة المسلمين وقتلهم.
وكم من أمور كثيرة قد نسهم فيها بالشراء ودفع الأموال وتعود هذه الأموال رصاصاً في صدور إخواننا المسلمين، أو تعود استعباداً لبلاد المسلمين، أو تعود امتهاناً لحرمات ومقدسات المسلمين، أفيكون قليل من تلك الأنواع التي نشتريها أحب إلى نفوسنا من ديننا؟ أفتكون حاجتنا إلى قليل من البضائع أو إلى قليل من الأشياء نحتاج إليها أعظم عندنا من حاجتنا إلى إعزاز ديننا؟ إن الإباء صورة قوية من صور العطاء والاستغناء والقدرة على بناء الذات ومواجهة الأعداء.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يرسخ يقيننا، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين! اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا اللهم لطاعتك ومرضاتك! اللهم أنزل علينا الخيرات، وأفض علينا البركات، وأنزل علينا الرحمات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، وضاعف اللهم لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم نكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء دينك فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(92/10)
الحرب الظالمة
الصراع بين الحق والباطل صراع قديم، ولا يزال مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذا كان للباطل في بعض الأزمنة صولة وجولة فإن للحق صولات وجولات.
وإن الظروف الحرجة التي تمر بالمسلمين في العراق، وتسلط الباطل وأهله لاسيما الأمريكان؛ إنها مؤذنة بالفرج القريب والنصر المرتقب، إن أخذ المسلمون بوسائل النصر وأسبابه، من العودة إلى الله، والاستعانة به، والأخذ بالأسباب المادية وإعداد القوة.(93/1)
الظلم والعدوان شريعة الأمريكان
الحمد لله المستفتح باسمه في كل أمر، المستعاذ به من كل شر، المستعان به في كل خطب، المستنصر به في كل حرب، الملتجأ إليه في كل بر، له الحمد سبحانه وتعالى هو المحمود على كل حال، لا نحصي ثناءً على نفسه هو كما أثنى على نفسه، هو أهل الحمد والثناء، وله الحمد ملء الأرض والسماء، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمةً للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في الحرب الظالمة مسائل ورسائل، نقف مع المسائل لمزيد من الكشف والبيان والإيضاح، ونوجه الرسائل لمزيد من الوعي والإدراك والعمل والإصلاح.
وما من شك أننا على يقين أن في قضاء الله وقدره حكمةً ورحمة، وأن فيه للمؤمنين خيراً ولو بعد حين، هذه أمور لا بد منها، وربما ظن بعض الناس أن هؤلاء الحلفاء من البريطانيين والأمريكان فاجئوا الناس ببغيهم وعدوانهم وكشفوا عن شيء مخبوء لم يكن معروفاً، أو أظهروا شيئاً كأنما جاء فلتةً من غير قصد، أو كأنما جاء بسبب عارض أو بظرف خاص، ونريد أن نؤكد غير ذلك.
المسألة الأولى: الظلم والعدوان شريعة الأمريكان، ولا بد أن نعرف الحقائق على وجهها حتى لا نظنها خاصةً بوضع أو بحال أو بزمان أو بمكان بعينه، بل هي أوسع من ذلك وأشمل، وهي أدق من ذلك وأعمق، وهي أخبث من ذلك وأكثر شراً وضراً.
يقول رئيسهم عند توليه الحكم قبل أن تحدث الأحداث التي يزعمون أنها سبب لما يجري، يقول في خطاب ترشيحه: إن لأمريكا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها، وطريق الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي، إنه السلام الذي يأتي بعد الانتصار الساحق.
هذا هو المفهوم: سيادة ثقافية وهيمنة اقتصادية، وفوق ذلك مواجهة وعدوان وظلم وبغي بالوسائل العسكرية؛ ليعم من بعد ذلك الانتصار الساحق كما يزعم من يهوى ذلك، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
ولئن تنزلت هذه الآيات وذكر أهل التفسير أنها في المنافقين فهي في وصف الكافرين من باب أولى وأظهر، وذلك يتجلى في هذه الكلمات التي سمعناها، وليس ذلك في فلتةٍ عابرة بل هو جوهر السياسة والتوجه، ففي وثيقة السياسة الخارجية التي اتخذها الرئيس سمةً ومنهجاً له وأقرها: أن هذه السياسة يمينيةٌ من حيث العقيدة لبعديها السياسي والديني، وتسعى لتحقيق مصلحةٍ قوميةٍ عُليا كونياً واقتصادياً وثقافياً، وتتجاوز كل تحركات أمريكا من أجل ذلك على مدى قرون سابقة، إنها الحركة التي تعكس كياناً إمبراطوريا يسعى للوجود في كل بقعة من بقاع الأرض يسعى للوجود سواء كان وجوداً مباشراً أو غير مباشر.
ومدير التخطيط للسياسة الخارجية يلخص في سطرين اثنين الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية في القرن الواحد والعشرين فيقول: هو إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات التي سوف تدعم عالماً يتسق مع المصالح والقيم الأمريكية، فهم لا يرون أحداً غيرهم ولا يعرفون قيمةً ولا مقاماً لثقافة أو حضارةٍ أو أمم أو شعوب غيرهم، ولسان الحال لسان فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] كذبوا وخابوا وخسروا! وإذا تأملنا فإننا نجد الأمر أوضح من ذلك في كثير من الجوانب التي ليس هذا مقامها.(93/2)
الغطرسة والطغيان منهج للأمريكان
مسألةٌ ثانية: الغطرسة والطغيان منهج الأمريكان.
إنهم لم ينفردوا عن العالم كما يقولون في هذه الحالة الشاذة، بل إنهم يريدون أن يقرروا ذلك ويكرسوه حتى يسيروا فيسير العالم كله من وراءهم، ويقولوا فينصت العالم كله لهم، ويأمروا فتستجيب الدنيا بأقطارها ودولها وأممها وحضاراتها لهم، وذلك يقولونه بألسنتهم ويقررونه في وثائقهم ويعلنونه في محافلهم، وليست الهدف بلداً بعينه، ولا نظاماً بعينه ولا مسألةً عسكريةً مكذوبةً مغلوطةً بعينها، بل كما جاء في إستراتيجية الأمن القومي التي عُرضت على المجالس السياسية: أمريكا ستعمل على حسم معركة العالم الإسلامي، وأمريكا لا زالت مستمرة في جهودها للحصول على دعم المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر، وسنشن حرب أفكارٍ لننتصر في المعركة.
وهذا كله قبل الأحداث وقبل ما جرى مما يدعون أنه السبب في كل ذلك، ونائب وزير الدفاع المتهود يقول: ينبغي منع أي قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل هذه القوة قوةً عظمى، كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول المتقدمة إزاء أي محاولة لتحدي زعامتنا، كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز يحمل منافسة لنا على مستوى العالم.
وهذا هو الطغيان والتكبر والتجبر والغطرسة التي ينال شرها وضرها أهل الإسلام وبلاد الإسلام بشكل خاص، ولا يسلم من حرها وقرها ولظاها شعوب الأرض قاطبةً كما نراها، وهي اليوم تُبغض هذه السياسة وحملتها وقيادتها وتسعى بجهدها قدر ما تستطيع وخاصةً الشعوب.
وفي إستراتيجية الأمن القومي: إن هناك نظاماً للقيم الأمريكية لا يمكن المساومة عليه وهذه هي القيم التي نتمسك بها، وإذا كانت هذه القيم خيرةً لشعوبنا فإنها خيرةٌ لغيرنا، لا نعني أننا نفرضها بل نعني أنها قِيم الهيبة! وهذه مغالطات في الألفاظ، فهم يقولون: لا نفرضها لكنها قِيم الهيبة! يعني ستفرضها الهيبة والهيمنة والإرهاب الذي يمارسونه مباشرةً أو غير مباشرة معلناً أو غير معلن، وهذا واضح وجلي في المواقف التي نراها اليوم والتي تقع في هذه الأحداث المؤسفة المؤلمة على إخواننا المسلمين في أرض العراق، وهذه سمة واضحة ومنهج أصيل سيما في هذه الإدارة الأمريكية الحديثة.
وإذا تأملنا وجدنا كيف تطبق هذه المسائل وهذه الأفكار في الواقع عندما صدرت فتوى من مجمع البحوث الإسلامي التابع للأزهر، وإذا بالتنبيه والطلب من وزارة الخارجية بأن يُلفت نظر الحكومة وأن يدرج الأزهر في قائمة المنظمات الإرهابية.
وهكذا ترون التشدق والكذب في قضايا كثيرة ليس هذا مجال حديثنا فيها، ونحن نرى كيف تُفرض أو يُفرض منطق القوة لا منطق العدالة، ومنطق الظلم والبغي والعدوان التي تسنده القوة بأنواعها المختلفة، وماذا يقول مجتمع الأمم المتحدة ومجلس أمنها؛ هل يعارضون الحرب أو يسعون لوقف الهلاك والدمار؟ إنهم يبحثون كيف يتعامل مع آثار الدمار! إقراراً للمدمرين والمعتدين وإيقاناً بأنها -أي: الأمم المتحدة- أعجز من أن تقول شيئاً، أو أن تفعل شيئاً وإنما تسير مع الركب وتمضي مع الهيمنة وتخضع للقوة وتصبح في ذيل القائمة، وهذا هو منطق القوة الذي يفرض.(93/3)
التحالف بين اليهود والأمريكان
ومسألة ثالثةٌ مهمة، وهي أخطر وأبعد فيما يتصل بالإسلام وأهله، وهي: مسألة التحالف بين اليهود والأمريكان: ولا يخفى على أحد تأثير اليهود في هذه السياسات والتوجهات، ولا يخفى أمر قد يظنه البعض غريباً: وهو أن تُقدم الخبرات من اليهود في دولتهم الغاصبة لهذه القوة العظمى، وقد تجلت هذه الأخبار وخرجت في الأوقات الماضية، فخبرات اليهود عليهم لعائن الله في قتال إخواننا المسلمين في فلسطين يهدونها إلى صُنعائهم وحلفائهم وأربابهم من الأمريكان، ويقدمون لهم خططاً في تجربتهم في اقتحام المدن في فلسطين حتى يتبعوها هناك، ويقول أحدهم وهو من الخبراء العسكريين الذين يبينون ذلك ويؤكدونه: إن القيادات في الجيش الأمريكي لا تخجل من الاستفادة من التجارب الإسرائيلية، بل إنها تدرس هذه التجارب بشكل علني ولديها كراسات عن كل حرب إسرائيلية، وآخر الكراسات التي صدرت في واشنطن هي تلك التي تتعلق باحتلال جنين ونابلس! فالأمر متصل والشبكة واحدة، وإلا فأين العيون والآذان والقرارات والأنظمة من الإجرام اليهودي وأسلحة الدمار الشاملة المعروفة المعلنة، ومنع التفتيش ومنع التوقيع على تلك المعاهدات إلى آخر ما يعلمه أصغر صغير وأقل الناس علماً في هذا الوجود، وهذا كله يؤكد لنا الحقائق الأساسية في حقيقة العداء بين أعداء الإسلام عموماً وحلف الصهاينة مع النصارى اليمينيين المسيحيين على وجه الخصوص وبين الإسلام وأهله، والأمر في هذا ظاهر بين ولا يخفى على أحدٍ ونحن ندرك كل هذه الوقائع التي تجري ولكن مزيداً من الإيضاح حتى لا يظن ظانٌ أن المسألة مخصوصة أو عارضة، وهاهي الأقوال تنطق فإنها ليست حرباً عسكرية؛ ولكنها غزوٌ ثقافيٌ وتغيير قيميٌ وتبديل أخلاقيٌ، ونقضٌ أساسي لواقع المجتمع في مناهج تعليمه وفي أسس بنائه، بل وفي نظام حكمه، بل وفي موارد اقتصاده، وذلك هو الذي تشهد به الوقائع.
ودع عنك ما يقال من الأقوال التي يزعمونها تحريراً للشعوب أو نشراً للحرية أو حفاظاً على ثروات الأمم أو غير ذلك من الكذب الذي تكذبه الصواريخ المدمرة والقنابل المحرقة، والجرائم المتوالية التي أصبح العالم اليوم يتعامل معها كأنها أمر واقع، وخير القوم من يستطيع أن يقول على استحياء: إن هذا ظلم وعدوان ينبغي أن يقف.(93/4)
توجيهات ووصايا يحتاج إليها المسلمون في مواقفهم من الحرب
ولسنا نريد أن نفيض في هذا القول ولكننا ننتقل إلى الرسائل التي نحتاج إليها نحن، رسائل نوجهها إلى عموم المسلمين ورسائل نوجهها إلى المخدوعين من الموالين، ورسائل نوجهها إلى الثابتين من المقاومين؛ علنا ندرك فيها كثيراً مما نحتاج إليه من أنوار القرآن وهداه وثوابته.(93/5)
وجوب الإصلاح والتغيير
ولا بد لنا أن ننتبه إلى أمور مهمة وإلى غايات عظيمة ومنها: الإصلاح والتغيير: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن مواجهتنا لأعدائنا وانتصارهم في بعض الميادين علينا ليس لقوتهم، فإنهم أضعف منا في جوانب كثيرة، وإنما انتصارهم بسبب ضعفنا، إنهم يصنعون ونستهلك، ينتجون ونشاهد، يروجون فنقبل، يكذبون ونصدق، ولو وجدوا غير ذلك لوجدنا غير ذلك.
لقد كان الغزو وإرادة التأثير موجوداً وفاعلاً منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه وجد إيماناً ويقيناً تكسرت عليه كل هذه الحملات، ولعلي أذكر مثلاً واحداً: يوم تبوك، يوم تخلف من تخلف وكان من المخلفين ثلاثة صادقون، ومنهم كعب بن مالك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاطعوا ولا يكلموا ولا يعاملوا، قال كعب: حتى ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت.
فسمعت الدولة العظمى أن فرداً في هذه الأمة ربما اعتراه ضعف وأصبح مهيئاً ليتم النفوذ من خلاله وأن يكون الغزو عبره ومن طريقه، فأرسلت القوة العظمى رسولاً يبحث ويسأل عن كعب بن مالك، قال: فدلوه علي فجاءني بكتابٍ من القائد والملك الأعظم في دولته العظمى، يقول فيه: قد علمنا أن صاحبك قلاك، فالحق بنا نواسك، ولم يجعلك الله في أرض مضيعة.
فماذا قال هذا المقُاطَع الذي لا يكلمه أحد، والذي عاش فترة من المعاناة النفسية الشديدة، هل لان وضعف؟ هل استجاب لإغراءات اللجوء السياسي أو لإغراءات المنهج الفكري؟ قال: (فعلمت أنها الفتنه)! كل ما سبق لم يكن شيئاً ولم يكن فتنةً بالنسبة له.
قال: فعلمت أنها الفتنة فعمدت بها التنور فسجرتها، أي: أحرقها حتى لا يبقى لها أثر ولا يبقى له ذكر ولا يعاود النظر إليها مرة أخرى، ورد أولئك على أعقابهم خائبين، واليوم يأتينا كثير وكثير ويتلقفه منا كثير! أين صلابة إيماننا؟ أين ثبات أخلاقنا؟ أين قوة دعوتنا؟ أين قوة مواجهتنا؟ ذلك أمر لا بد له من التغيير والإصلاح.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يثبتنا على الحق، وأن يرد أعداءنا على أعقابهم خائبين، وأن يردهم بغيظهم لا ينالون خيرا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(93/6)
وجوب المرابطة والجهاد في مختلف الميادين
ثالثاً: المرابطة والجهاد: فهذه معركة ليس ميدانها بقعةً معينة، وليست صورتها قتالاً بالأسلحة، بل هي أوسع من ذلك وأشمل، إنها تريد تقويض الاقتصاد والاستيلاء على الثمرات، إنها تريد تبديل المناهج وتغيير الأخلاق، إنها تريد نقض أساس الحكم بالإسلام وتغيير شريعة القرآن، إنها تريد فسخ عرى الأسرة المسلمة وتعرية المرأة المسلمة، إنها تريد أن تدخل إلى قلوب المسلمين فتغير ولاءهم وبراءهم، وإلى عقولهم فتغير أفكارهم وتصوراتهم.
أفليست هذه المعركة جديرة بأن يخندق المسلمون في ميادينها كلها ولا ينبغي أن تكون في ميدان واحد، بل لا بد أن تكون هذه الميادين فيها جهاد من أهل الإسلام، فمن ذلك جهادهم الثقافي، وفضحهم السياسي، وصدهم الاقتصادي، وحسبنا في ذلك أن نرى اليوم شعوباً بوذية وشعوباً غربية تنادي بمقاطعة أمريكا، وأهل الإسلام أولى بذلك وأحرى وأجدر، فلا نشتري بضائعهم، ولا نسوق ثقافتهم، ولا نشاهد أفلامهم، ولا نروج ما يقولونه ويزعمونه من هذه الأباطيل فلا نذهب إلى بلادهم ولا نستثمر في ديارهم.
ولا بد أن يكون هذا موقف مبدأ وإيمان لا موقف رد فعل آلي، ولا بد أن يكون ذا شمول في نوعه ومجالاته، وأن يكون ذا شمول في عموم أمة الإسلام؛ إن ثلاثمائة وألف مليون لو صرخوا صرخة واحدة لزلزلوا الأرض كلها، فما بالهم لا يجتمعون على أمرٍ قد ظهر وانكشف وصار أوضح من الشمس في رابعة النهار، وهذا أمر لا بد منه ولا بد من الأخذ به وهو ضرب من ضروب الجهاد.
ولا بد كذلك من الجهاد في ميادين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتثبيت عقائد الإسلام، وتوضيح شرائعه، والرد على كل من يعتدي على كتاب الله وسنة رسول الله، ورد الشبهات التي تبث وتذاع وتشاع عن دين الله وأحكام شرائع الله، وكل ذلك لا بد له من عمل وبذل، إنه لا ينبغي لنا أن نحصر الأمور في ميدان واحد، وإن كان ميدان الجهاد متعيناً في أوقاته وزمانه وأهله، ومتعيناً على عموم الأمة أن تعد له عدته، وأن تأخذ أسباب قوته وأن تهيئ النفوس بالتربية وبالعمل الجاد وبالأسلوب الذي ليس فيه هذا الترف والتميع والتمايل مع الغناء والرقص والانسلاخ من الأخلاق، والانحلال مع الأفلام الداعرة الماجنة وغير ذلك مما يروجه أولئك القوم وغيرهم.
فلا بد من رباط، والرباط يعني أن تواصل العمل وألا تترك الموقع، وإذا تركته فخلف بعدك غيرك ليأتي ويكمل الدور، وينبغي التواصي بذلك وأن تكون الأعين مفتوحة والقلوب واعيةً والعدة متأهبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] انفر وتوجه لميادين القتال المباشرة وغير المباشرة فالجهاد ساحته واسعة، وعداء أولئك القوم لنا لا يقتصر على جانب دون جانب بل في سائر ما يتعلق بإسلامنا، وإسلامنا يتعلق بالحياة كلها، ويحكم دنيانا كلها ويحكم ما في قلوبنا ونفوسنا من المشاعر والعواطف، وما في عقولنا من الأفكار والخواطر، وما تنطق به ألسنتنا من الأقوال والكلمات، فلذلك ينبغي أن يكون دأبنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم) وهذا أمره واضح، وقد سبق لنا حديث عنه.(93/7)
وجوب التحلي بالثقة والثبات
أولاً: الثقة والثبات: فلا ينبغي أن يفت هذا العدوان في عضد المسلمين، ولا أن يتسرب اليأس إلى نفوسهم، ولا أن يهزمهم في سويداء قلوبهم وأعماق نفوسهم وخواطر أفكارهم.
وللأسف أننا ربما نجد بعضاً من ضعاف الإيمان قد أصبحت أمريكا إلههم الذي يُعبد، وأنها القوة التي لا تُقهر، وكأنها هي التي تصرف أمور الكون وشئونه، ويقولون لك ما يقولون بألسنة تدل على خور وجبن وضعف، ولعلنا لا نطيل فنسوق من آيات القرآن وحسبك بها مثبتاً وموضحاً ومجلياً للحقائق، وذلك فيما ساق الله سبحانه وتعالى لنا من قصص بني إسرائيل وموسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] وذلك في أثناء المواجهة مع الطغيان ومع فرعون، فكان موسى يقول لهم: (استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين) جزماً قطعاً يقيناً لا شك فيه.
وكان عندهم شيء من التردد {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] أي: قد وقع لنا بلاء وحصلت لنا هزائم وحلت بنا نكبات، وتشردنا في الأرض وذقنا مرارة العبودية: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].
ثم ساقت الآيات صور الصراع والمواجهة، وكانت خاتمتها: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
إيجاز يلخص مواجهة الإيمان مع الطغيان عندما يكون الإيمان راسخاً في القلوب واليقين ثابتاً في النفوس، وينبغي أن يكون هذا تأكيداً لهذه المعاني وتوثيقاً لها في خضم هذه الأحداث، لا أن يكون سبباً في نقضها أو ضعفها، أفي شك نحن من آيات الله؟! أفي شك نحن من سنن الله؟! أفي شك نحن مما رأينا بأم أعيننا فيما نطالعه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أفي شك نحن من صفحات تاريخنا الإسلامي الوضيئة المشرقة، حين روت لنا معارك واجهت فيها فئة مؤمنة قليلة، في أحوال كثيرة، وميادين عديدة في مواجهات مختلفة مع أمم متنوعة، فيوم استمسكت بدينها واستنصرت بربها، عزت وعلت وسمت وانتصرت رغم ضعفها وقلة عددها وعدتها، ونحن نرى صوراً من ذلك وكان الناس يقولون: إنهم في ليلة وضحاها سينهون كل شيء، ونحن نرى ما نرى من صور يسيرة ولمحات وضيئة لا نستطيع أن ننسبها كليةً إلى الإيمان واليقين والجهاد والفداء لكننا نقول: إن من ومضات من ذلك، وكل شعوب الأرض وأممها تقول: من يقف أمام هذه القوة العظمى مع التحالف الذي يسندها؟! ونحن نعلم أنهم اليوم يضاعفون ويرسلون المزيد من الرجال والعتاد؛ لأنهم لا يزالون يجدون أن هذه المقاومة الهزيلة الضعيفة الخاوية من كثير من العدة والعتاد، استطاعت أن تصنع شيئاً يعده الناس والعسكريون أمراً فريداً يستحق أن يدرس وأن يدون.(93/8)
الخسارة والدمار لأهل الظلم والاستكبار
الرسالة الثانية: الخسارة والدمار لأهل الظلم والاستكبار: لا بد أن ندرك أن سنة الله عز وجل ماضية في أن الظلم عاقبته إلى خسار ونهايته إلى دمار: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الظلم في الدنيا حسرةٌ وندامة، أيَّا كان هذا الظلم حتى وإن كان المسلم هو الظالم فإن له عقوبة دنيوية وأخروية، كيف والظالمون من الكافرين! كيف والظالمون يظلمون أهل إسلام وإيمان في الجملة وفي بلاد الإسلام قاطبة؟! والله سبحانه وتعالى قد بين لنا ذلك في آيات كثيرة، وجلاه رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وفي المواقف العديدة من سيرته، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59] إن موعدهم آتٍ وإنه لقريب، و {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] ليل لا بد له من نهار، وظلمةٌ لا بد أن تنجلي عن إشراق وأنوار، لكن لا بد من اليقين بذلك ولا بد من العمل له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوذي هو وأصحابه وهاجر وقاتل ودمي وجهه الشريف، وقُتل بين يديه خلص أصحابه وأقربائه، ثم علت رايته وانتشرت عقيدته وعظمت في بلاد الأرض كلها دولته؛ لأنها قامت على هذا اليقين، وكل تكبر وطغيان فإن مصيره إلى الهلاك.
والله قد قص علينا في كتابه قصص أمم كثيرة طغت، وبغت، وتجبرت، وتكبرت، فأذلها الله عز وجل وأرغم أنوفها ومرغها في التراب، وجعل عاليها سافلها، وذلك عندما وجد الخلص من عباده معلقين حبالهم به، ملقين ولاءهم له ولأوليائه، متعلقين به في عبادتهم وطاعتهم، محكمين لشرعه في أحوالهم وعلاقتهم ومعاملاتهم؛ عند ذاك تتحقق هذه السنن وتمضي كما بينه الله سبحانه وتعالى، يقول الحق جل وعلا: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51].
هل تعجز قوة الله أمريكا أو غير أمريكا أو قوى الأرض كلها؟! ولكن بعض الناس لا يوقنون! فنحتاج أن ندرك هذا كما أخبرنا الحق جل وعلا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] ألا ترون أن هذا حال الكفار اليوم، ألا ترون أن هذا وصفهم؟! {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وهو قادر جل وعلا على أن يفضحهم ويهزمهم ويذلهم، وذلك وفق سنته جل وعلا.(93/9)
رسالة إلى الموالين لأعداء الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولقد أشرنا من قبل إلى كثير من المعاني التي يمكن أن تدرج في هذه الرسائل الموجهة إلينا جميعاً.
أصلح نفسك وادع غيرك، أمر لا بد منه، وهذه قضايا كثيرة وهي -كما قلنا من قبل- تحتاج منا إلى تذكر دائم وتناصح مستمر وعملٍ غير منقطع، في حرصنا على الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف، ومنع ترويج الشائعات وصد إخلال الأمن والتجمع على الثوابت من كتاب الله وسنة رسوله، وجعلها الفيصل والحكم في الأمور.
ورسالتان أخيرتان نوجههما: الرسالة الأولى: إلى الموالين لأعداء الله المشاركين لهم، ظناً منهم أنهم سيصدقون في وعودهم وأنهم سينفذون لهم ما وعدوهم به من حكمٍ أو مالٍ أو غير ذلك، يزعمون أنهم سينشرون الحرية ويقيمون العدالة ويحفظون الثروات لأهلها.
وقد وقعت العقود للشركات الأمريكية في هذه الأيام قبل أن تنتهي الحرب أو ينجلي غبارها، أولئك الموالون يرون أنهم يوالون لأنهم يواجهون البعث وهو حزب في مفرداته وعقائده كفر صريح محض، ولكن ينبغي أن يدركوا أن القضية فيها دماء المسلمين من الساجدين الذاكرين الموحدين، وهذا أمر خطير! وقد جاءت فيه الآيات الصريحة الواضحة، وجاءت فيه مقالات العلماء القاطعة، كما قال ابن جرير عند تفسير قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قال: من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم.
فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعليقاً على هذه الآية: أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ …} [المائدة:51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} [التوبة:23] والآيات في هذا كثيرة.
ولذلك ينبغي أن يعلموا هذا حتى وإن ظنوا أن في ذلك خيراً، فإن دم المسلم معصوم وحرمته عظيمة، فضلاً على أنه قد تجلى وانكشف لكل ذي عينين أن القوى الغازية لن تفي بوعدها، وحسبنا التجربة القريبة الماضية في أفغانستان، وأنها قد أعلنت أنها تريد من خلال ذلك أغراضاً أخرى وأهدافاً أخرى أكثر ضرراً وشراً وفساداً، وأنها تريد هيمنتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية كما هو معلوم لأكثر الناس، حتى وإن قال بعضهم: ربما يكون في ذلك ضرب من الإكراه.
فإنه مقرر عند أهل الإسلام أن مسلماً لو أكره على قتل مسلم لم يجز له ذلك حتى ولو قتل؛ لأن عصمة نفسه ليست بأحق من عصمة نفس أخيه المسلم، قال ابن تيمية: إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يُقتل مظلوماً، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام؟! لا ريب أن هذا يجب عليه إذا أُكره على الحضور ألا يقاتل، ولو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصومٍ فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل، فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس.
وحسبنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليتنا نكتب هذا الحديث ونعلقه في جميع الأماكن حتى نراه (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه) كيف تظلم أخاك المسلم وكيف تخذله في وقت يحتاج فيه إلى نصرتك فإذا أنت مع عدوه عليه! (ولا يسلمه) أي: لا يتركه لعدوه يتمكن منه، فهذه حقيقة الإسلام وأخوة الإيمان، وما وراء ذلك الخطر العظيم الذي ذكرناه في الآيات وأقوال العلماء.(93/10)
رسالة إلى المسلمين في أرض العراق
ورسالة أخيرة إلى المسلمين في أرض العراق: إلى الذين ثبتوا وقاموا وقاتلوا، نريد أن نحيي هذه الوقفة الشجاعة، ولكننا نقول لهم: اجعلوها باسم الله، وارفعوا راية دين الله، وكبروا الله وهللوا الله، لا ترفعوا راية بعث كافر ولا غيره، اعلموا أنكم في جهاد دفع، وأنكم إن قاتلتم حتى للدفاع عن أرواحكم، وعن أعراضكم، وعن دياركم، وعن أموالكم فأنتم شهداء، فأخلصوا نيتكم لله: (من قاتل دون ماله فهو شهيد، من قاتل دون عرضه فهو شهيد).
ولذلك ينبغي لنا أن ندعو لهم أن يصلح الله حالهم، وأن يثبت إيمانهم وأن يجعل رايتهم راية الإسلام؛ حتى يعظم الله ثباتهم ويقوي عزمهم ويفك أسرهم ويعينهم بإذنه عز وجل على عدوهم.
ولقد قدموا موقفاً يشير إلى مسألة مهمة: الوهن الذي يفت في النفوس من هول القوة العظيمة التي تتكسر بأسباب بسيطة، ولقد أسقط الأفغان من قبل قوة عظيمة! ونحن لا نريد أن نكون عاطفيين لكننا نقول: ما رأيتم، وما سمعتم، وما علمتم، وهو يدل على أن هذه الهيبة العظيمة والهالة الهائلة ليست في حقيقة الأمر كما يروج لها، كم خابوا وخسروا، كم توقفوا وترددوا، كم جبنوا وانسحبوا، كم وقع لهم ما وقع! ولئن انتصرت أعداد ضخمة وقوىً هائلة على ما هو أقل منها بكثير، فليست العبرة في هذا النصر بأنه قد تحقق ولكن كيف يكون الميزان المختل، ثم يكون الثبات والمواجهة، ولذلك نقول: إن هذا درس، نسأل الله عز وجل أن يكونوا فيه على أعلى درجات الإيمان والإخلاص لله عز وجل، درسٌ في أن مقاومة الظلم وأن حماية العرض أمر له أثره وقوته، وكأنما بشعارهم يرسلونه وبأقوالهم وقوة مواقفهم ينبهون بها المتخاذلين والخائفين، يقولون: نحن مع ضعفنا ببنادقنا بأحوالنا البسيطة استطعنا أن نصنع شيئاً عظيماً، ولعلنا نؤكد عليهم وندعو لهم أن يصحح الله مقاصدهم ونياتهم: غايتي العظمى التي محضتها كل جهودي هي أن أسبق خيل الموت للعيش السعيد وأغذي كربلاء العصر من نزف وريدي خنت من خانوا كتاب الله أرباب الجحود وتمردت بإيماني على الكفر العنيد ونحرت الخوف قرباناً بساحات الصمود وتماديت فأدمى جبهة العيب صدودي ما فرشت الخد يوماً للموالي والعبيد لا ولم أمدح حواة العصر حراس اليهود يخسأ اللص ومن يطري على اللص المريد ذاك نهجي واضح غيبي به مثل شهودي منه لا أبرأ لو حزوا على السيف وريدي نسأل الله عز وجل أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه دينه وينصر فيه أوليائه، نسألك اللهم أن تنزل سخطك على أعداء الإسلام والمسلمين، وأن تحل بهم نقمتك، وأن تشدد عليهم وطأتك، اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم خالف كلمتهم واستأصل شأفتهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(93/11)
على صعيد عرفات
يوم عرفة هو أعظم يوم تشهده الأمة المحمدية، ففيه تلتقي القلوب، وتنتهي العصبيات، وتذوب الشحناء والبغضاء، وفيه تسكب العبرات، وترتفع الآهات والأنات، وتختلج القلوب الفرحات والمسرّات إنّ يوم عرفة هو يوم التوبة والأوبة، ويوم الطاعة والحوبة، ويوم معرفة حقيقة الدنيا وحقارتها وأن ما عند الله خير وأبقى.(94/1)
عرفات دروس وعبر
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، نحمده سبحانه وتعالى، سبقت رحمته غضبه، وتعددت نعمه، وعم نواله، وزاد فضله، وعظم بره، ووجب شكره، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا على كل حال وفي كل آن، هو أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، ويوم القيامة إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد:(94/2)
في عرفات تسكب العبرات
أيها الإخوة المؤمنون! ننتقل معاً إلى حيث يجتمع الحجيج على صعيد عرفات، حيث ترفع الدعوات، وتسكب العبرات، حيث تلغى الطبقات، وتزول العصبيات والنعرات، على صعيد عرفات حيث تتوحد الأهداف والغايات رغم تباين الألوان واختلاف اللغات، على صعيد عرفات حين تهفو القلوب إلى خالقها وبارئها، وحين ترتفع الأكف إلى معطيها والمنعم عليها، حينما يتجرد المسلمون من كل حول وطول إلى حول الله وقوته، حينما يرى المسلمون حقيقة ضعفهم وفقرهم، فيلجئون إلى قوة الله، ويلتمسون عطاءه من غناه، حينما يعرف المسلمون أنهم ضعفاء لا حول لهم ولا طول إلا أن يمدوا أيديهم، ويصلوا حبالهم برب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى، على صعيد عرفات حينما يتجرد المسلمون من الدنيا ويتعلقون بالآخرة، حينما يعرفون حقيقة الدنيا وأنها دار مقر لا دار ممر، حينما يستشعرون المشهد العظيم، والحشر العظيم، والهول العظيم في يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، إنه يوم من أيام الله العظيمة، إنه مشهد من المشاهد التي تحيي القلوب الميتة، وتوقظ العقول الغافلة، وتحيي الأنفس التي كثر عليها الران، وانشغلت بالدنيا، وضربت عليها الغفلة.
إنه يوم من أيام الله عز وجل يجمع فيه عباده على صعيد واحد، متجردين من دنياهم، متوحدين في شعارهم، متوحدين في مقاصدهم ومطالبهم، ولذلك نشهد في هذا المشهد العظيم ما نحتاج إلى تذكره، والاتعاظ به، ودوام الإفادة منه لعل الله عز وجل ألا يحرمنا الأجر والثواب، وألا يحرمنا من فيض عطائه لأهل الموقف الذين اجتمعوا بقلوب خاشعة، وأعين دامعة، وأنفس ضارعة لله سبحانه وتعالى.(94/3)
يوم عرفة مشهد التوبة والإنابة
إن هذا المشهد هو مشهد التوبة والأوبة والإنابة لله رب العالمين، إنه وقفة مع الله سبحانه وتعالى في أراضيه الطاهرة المقدسة، وبين يديه سبحانه جل وعلا، وهو الذي يباهي بأهل الموقف الذين جاءوا من كل فج عميق، تركوا وراءهم الأهل وخلفوا الأولاد، وأنفقوا في طريقهم الأموال، وبذلوا الجهد، ولحقهم الإرهاق، انطلقوا بقلوبهم قبل أجسادهم، ولهجوا بخواطرهم قبل ألسنتهم، وعاشوا يبغون هذه اللحظة، وينتظرون تلك الوقفة بين يدي الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17 - 18]، التوبة التوبة يا عباد الله! {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
باب عظيم من أبواب الرحمة الإلهية، ومن أبواب العفو الرباني: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وذلك الدهر كله)، و (إن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، (يقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها)، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل ليلة وفي الثلث الأخير من الليل يتفضل رب الأرباب، وملك الملوك، الغني عن العباد بالنزول إلى السماء الدنيا، وينادي: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)، هذا نداء الله عز وجل، وهذه أبوابه مشرعة مفتوحة فأين المقبلون؟ وأين التائبون؟ وأين المستغفرون؟ وأين النادمون؟ وأين المتضرعون؟ وأين الباكون؟ إنهم اليوم على صعيد عرفات يبكون ويستغفرون، يلبون ويدعون، فالله نسأل ألا يحرمنا من أجره وثوابه، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عظمة هذا اليوم، وعن سعة التوبة العبادية، والمغفرة الإلهية في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟)
و
الجواب
أنهم ما جاءوا، ولا أنفقوا، ولا بذلوا، ولا تعبوا إلا ابتغاء غاية واحدة هي مغفرة الله عز وجل، ورضوان المولى سبحانه وتعالى.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في سنن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، فهذا موسم التوبة، وهذا موسم الإنابة والأوبة إلى الله عز وجل، تفكر عبد الله كم أسرفت على نفسك في المعاصي؟! وكم قصرت في حق الله عز وجل من الواجبات؟! وكم تركت من المندوبات والمستحبات؟! وكم غرقت في الشهوات؟! تفكر فإن هذا الموقف موقف تذكر واتعاظ واعتبار، تفكر عبد الله وارجع إلى الله قبل أن يبلغ الأمر إلى مداه، وقبل ألا ينفع الندم.(94/4)
يوم عرفة هو يوم الدعاء
اعلم أن هذا اليوم الأغر هو يوم الدعاء فمن رحمة الله بعباده أنه جل وعلا طلب منهم الدعاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وهذا هو طريق إجابة الدعاء: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] أي: لأمر الله عز وجل، مسارعة إلى الواجبات، ومسابقة إلى الخيرات، واجتناباً للمعاصي وبعداً عن السيئات.
{وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] ليكن توحيدهم لله عز وجل خالصاً لا شك فيه ولا شبهة، ولا رياء ولا طلباً للسمعة، حينئذٍ إذا أخلصت التوحيد لله، وإذا استجبت لأوامر لله، فإنك إذا دعوت الله أجابك الله سبحانه وتعالى وأعطاك من فضله سبحانه جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أنه يحب سؤال السائلين، وتضرع المتضرعين، كما صح في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي ستير، يستحي إذا رفع عبده كفه إليه أن يردهما صفراً)، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدعاء مجاب إما في العاجلة وإما في الآجلة، وإما أن يرد به من القضاء والبلاء ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عند ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم عرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، ويقول رب العزة والجلال سبحانه وتعالى: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاجين) أي: علت أصواتهم بالتلبية والدعاء، وضج بالدعاء: إذا رفع صوته، وفي بعض الروايات ضبطها: (ضاحين) أي: بارزين للشمس يلتمسون رحمة الله، ويرفعون أكف الضراعة والدعاء لله، (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاجين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يا رب! إن فيهم فلاناً عبد يرهق -أي: يرتكب المعاصي ويقترف السيئات- وفيهم فلاناً وفلانة! فيقول رب العزة جل وعلا: أشهدكم أني قد غفرت لهم)، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)، إنه يوم الله عز وجل، إنه يوم العباد ليغتنموا من فضل الكريم سبحانه وتعالى.(94/5)
يوم عرفة يوم إعلان الطاعة لله والحرب على المعاصي
انظر في المقابل إلى إعلان الطاعة أنه يقتضي إعلاناً لحرب المعصية، وأن إعلان الولاء لله يقتضي إعلان العداء للشيطان، فما إن ينصرف من عرفة حتى يرمي الجمار ليؤكد أنه لا سبيل للشيطان عليه بإذن الله، وأنه قد أعلن التوبة لله، وبدأ صفحة جديدة مع الله، فكلما عرضت له شهوة آثمة، وكلما عرضت له شبهة مشككة استعاذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، ودحر هذا الشيطان الذي جاء في حديث مرسل عند الإمام مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله سبحانه وتعالى عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: رأى جبريل وهو يزع الملائكة)، نعم إنه يوم لله عز وجل ويوم على شياطين الإنس والجن التي تتربص بهذه الأمة الدوائر، إنه يوم إعلان وحدة الأمة الإسلامية، أفترون الناس في ذلك الصعيد وهم من أصقاع مختلفة، ومن أعراق متباينة ينطقون بلهجات ولغات مختلفة؟ أفلا ترون أنهم في شعار واحد، وفي مكان واحد، وعلى صعيد واحد، وبأعمال واحدة، ليس لهم إلا غاية واحدة تنطق بها جميع الألسنة، وتهفو بها جميع القلوب؟ إنها غاية رضوان الله عز وجل، إنه تحقيق الهدف الأسمى من وجود هذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، إنها العبودية لله، إنه الاستسلام لأمر الله، إنه الاستمساك بمنهج الله، إنه الرضا بقضاء الله، إنه أن يكون العبد لله وبالله ومن الله وعلى الله، إنه أن تكون لله عز وجل في كل حال وفي كل آن، وأن تبقى مشدود القلب بالله، وأن تبقى مرتبطاً بأحكام الله عز وجل، إن المعنى في هذا الصعيد عظيم، وإن الدلالات في هذا الموقف عديدة، إنه أمر تحتاج الأمة أن تتنبه إليه وقد كثرت بينها الشقاقات، وتعاظمت الخلافات، وكثرت النزاعات، ذلك أن القلوب لم تكن مخلصة لله عز وجل، وأن الغايات لم ترتبط برضوان الله عز وجل، وهنا يكثر البلاء، ويعظم العناء، ولا حل ولا نجاة إلا بالعودة لله عز وجل.(94/6)
يوم عرفة تتجلى فيه قيمة الدنيا الحقيقية
وفي صعيد عرفات تتجلى الدنيا بقيمتها الحقيقية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها: (لو كانت تعدل عند الله جل وعلا جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، وفي الحج وفي مقام عرفة وغيره يشعر المسلم بقيمة هذه الدنيا، فلا تراه يبني في تلك المواقع دوراً، ولا يشيد قصوراً؛ لأنه يعلم أنها أيام قلائل ثم يأتي الرحيل، وحينئذ يستعد لما بعد ذلك اليوم، وإلى أوبته إلى دياره الأولى، وإلى معاقله الأصيلة، واعلم أنك في هذه الدنيا مرتحل كأنك غريب أو عابر سبيل، فما بالك بها منشغل، وكأنك عنها غير مرتحل؟! انتبه وتأمل! فإن الله عز وجل قد جعل لنا في هذه المواقف عظات وعبر كثيرة، فينبغي لنا أن نتأملها وأن نحيا معها، وأن نسأل الله عز وجل فيها أن يبدل فرقة الأمة وحدة، وضعفها قوة، وشتاتها لحمة وتوحداً، ونسأله جل وعلا أن يتقبل منا ومن عباده الصالحين، وأن يتقبل من الحجاج والمعتمرين: إلى عرفات الله يا خير زائر! عليك سلام الله في عرفات ويوم تولي وجهة البيت ناظراً وسيما مجال البشر والقسمات على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات فالله نسأل أن يوفقنا للصالحات، وأن يصرف عنا الشرور والسيئات، وأن يوفقنا للتوبة، وأن يتقبل منا خالص الدعوات، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(94/7)
مقاصد اجتماع الحجيج في عرفات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن هذا الموقف العظيم على صعيد عرفات ينبغي أن يهز القلوب هزاً، وأن يستجيش المشاعر الإيمانية التي تتضرع إلى الله عز وجل، وتتذكر التفريط في جنبه، وتعلن التوبة لله عز وجل.
ففي هذا الموقف دروس عظيمة فإنه في موقف عرفات إعلان للوحدة، وبيان لحقيقة الدنيا، وإعلان للتوبة، ورفع للدعاء إلى الله عز وجل، وبيان لوحدة المقاصد والغايات، وهذه كلها معان عظيمة ينبغي أن تتذكرها الأمة سيما الأوبة والإنابة لله عز وجل، والإعلان الصادق بالارتباط بالله، والسعي نحو رضاه، وأن الآخرة هي المبتغى والمقصد: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] فادعوا الله عز وجل، وأكثروا في هذا اليوم العظيم من الدعاء وأنتم صائمون متقون من فضل الله عز وجل، وقد جعل الله لكم ما يعوض تخلف من يتخلف عن الحج من أمر الصيام المكفر للذنوب والخطايا، ومن أمر الأضاحي التي تقدم لله عز وجل وما فيها من الأجر والثواب، فمدوا أيدي الضراعة وتكلموا بلسانها لله عز وجل: مددت يدي نحوك يا إلهي! وإني في حماك لمستجير غني أنت عن مثلي وإني إلى رحماك يا ربي فقير إلهي ما أقول إذا دعاني؟ لحين حسابي اليوم العسير فهل أوتى كتابي في يميني أو العقبى عذاب مستطير فحاسبني بجودك لا بفعلي فأنت بما أتى مثلي بصير(94/8)
أحكام الأضحية
وإن في هذا المقام لأمر يحتاج إلى التذكير والتنبيه، وهو في أمر الأضحية التي هي سنة مستحبة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا وبين لنا في سنته كيف نفعل ونصنع في هذه الأضحية، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أتم نسكه، وأصاب سنة المسلمين)، فالذبح للأضحية إنما يكون بعد صلاة العيد، وفي حديث البراء مثله: (من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله)، وإنما السنة الحقيقية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح بعد الصلاة، وقد بين العلماء توقيتها سيما لأهل الحج، أنه يمتد إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق، وأما سنها فقد اتفقوا على أنه لا يجوز من الإبل والبقر والغنم إلا الثنية، والثنية من الإبل ما كان عمره خمس سنين، ومن البقر والمعز ما تجاوز سنتين وطعن في الثالثة، وينبغي أن يأخذ من أوساط البهائم والنعم فلا يأخذ العرجاء البين عرجها، ولا العوراء البين عورها، ولا العجفاء البين عجفها، ولا المريضة البين مرضها، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي من حديث البراء.
وقد بين أهل العلم أنه يجوز للمرء أن يشترك مع غيره في أضحية واحدة بأن يشترك السبعة في بدنة أو في ناقة أو جمل، وكذلك يجوز أن يضحي المرء عن نفسه وعن أهله بأضحية واحدة، وإن كان يستطيع الزيادة فهي أجر وثواب من الله عز وجل عظيم، ويجوز الأكل منها والتصدق بها، وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام ما فيه حث على الأكل من الأضحية، وأن ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم، بل قد ورد في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم نبه على الادخار من لحم الأضحية حتى يؤكل ولو في غير يومها، فهذا يدل على هذه السنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز على الصحيح أن يضحي المرء عن غيره إذا أراد أن يهب له أجر ذلك، وقد قال بعض أهل العلم: إن غير ذلك أولى، فالصدقة أعظم أجراً من الأضحية بالنسبة لمن أراد أن يضحي عن غيره أو عن ميت، وهذا كله من الأحكام التي ينبغي التنبه لها، وقد ورد في بعض الأحاديث وفيها ضعف: (أن من أفضل الأعمال في يوم النحر إراقة الدم، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع إلى الأرض)، والله عز وجل قد قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، ولذلك فإن يوم العيد -يوم غد- هو اليوم الذي يضحي فيه المسلمون، ويتذكرون سيرة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ويشاركون أهل الحج في بعض هذه المعاني والمعالم التي يبتغون وينالون بها أجر الله عز وجل، ويشاركون فيها إخوانهم الحجيج، وهذا أيضاً معلم من معالم التراحم والتكافل بين أمة الإسلام، ليتفقد الأغنياء الفقراء، وليرحم الأقوياء الضعفاء، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي ثبتت عنه وداوم عليها، وقد فعل ذلك بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد قال أهل العلم: من السنة أن يذبح أضحيته بنفسه إن استطاع ذلك، بل قد نص بعضهم على أن المرأة تذبح أضحيتها بنفسها إن استطاعت ذلك، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بنفسه، ونحر بعض إبله التي ضحى بها بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام، وهذا من إعلان التوبة إلى الله عز وجل، ومن إعلان التقرب له سبحانه وتعالى، وأن كل شيء إنما يوهب ويقدم لله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
فاللهم نسألك أن تغفر ذنوبنا، وأن تكفر سيئاتنا، وأن تمحو زلاتنا، وأن تقيل عثراتنا، اللهم ضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وأعل مراتبنا، اللهم إنا نسألك غفران الذنوب، وستر العيوب، برحمتك يا علام الغيوب! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً، ودعاء مستجاباً، اللهم إنا نسألك الندم على ما سلف وفات من التقصير والتفريط، ونسألك اللهم العزم فيما يأتي على الخيرات والمسارعة إلى الطاعات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تجعلنا من جندك المجاهدين، وأن تتوفانا مسلمين غير خزايا ولا نادمين.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تقبل حج الحجاج والمعتمرين، اللهم أمنهم في حجهم، وسهل لهم أمورهم، ويسر عليهم مناسكهم يا رب العالمين! اللهم تقبل من عبادك المؤمنين، اللهم واجعل هذا الحج خيراً وبراً ورحمة على عبادك المؤمنين، اللهم واجعل من ورائه للمسلمين وحدة من بعد فرقة، وقوة من بعد ضعف، وعزة من بعد ذلة، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين! اللهم أصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجمعهم على كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم بكتابك مستمسكين، ولأوامرك مستجيبين، وعن نواهيك مبتعدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تطهرنا من الذنوب والخطايا، وأن تنقينا منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلنا من ذنوبنا وآثامنا، وطهرنا بالماء والثلج والبرد، اللهم إنا نسألك ألا تجعل لنا في هذه الأيام المباركة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا داعياً للحق إلا وفقته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولأعمالنا الصواب والقبول، اللهم اجعل ألسنتنا لاهجة بذكرك وجوانحنا عاملة بشكرك، اللهم فرج همومنا، ونفس كروبنا، واقض حوائجنا يا قاضي الحاجات! يا مفرج الكربات! نسألك اللهم أن تتقبل دعاءنا وألا تردنا خائبين، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم وأزل عنهم الشحناء والبغضاء والفرقة والخصام والشقاق والنزاع يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين أن ترحمهم، وأن تلطف بهم، وأن تعجل فرجهم، وأن تفرج كربهم وأن تقرب نصرهم، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، ورضهم بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت لهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم إنا نسألك أن ترفع عنهم السخط والبلاء والغضب يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئاً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وَأَقِمِ الصَّلاةَ! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(94/9)
مجتمعاتنا والصيف
تعتبر الإجازة الصيفية أكثر أيام الشباب فراغاً من شواغل الدراسة ونحوها، إلا أن كثيراً منهم يعمرها بالسهر والكسل واللهو والنوم وكل غث غير مفيد، مع أنه كان يعد هذه الأيام فيما مضى لكل سمين نافع، ومع ذلك ما إن تأتي هذه الأيام إلا وينسى أو يتناسى ما وعد به نفسه ومناها، فلابد من استغلال المواهب والطاقات، وتوجيه الشباب للنهوض بالأمة، واللحاق بركب الحضارة، والتخلي عن سفاسف الأمور وغثائها.(95/1)
مظاهر وصور التهاون في الصيف
الحمد لله، الحمد لله الموصوف بصفات الكمال، المتفرد بالعزة والجلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، حبب إلينا الإيمان ودعانا إلى صالح الأعمال، وكره إلينا الكفر وحذرنا من سوء الفعال، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافةً إلى الناس أجمعين، وجعله رحمةً للعالمين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! على أبواب الصيف يتجدد الحديث عن مجتمعاتنا والصيف، ذلك أن أموراً وأحوالاً وأوضاعاً كثيرة ربما يقع فيها كثيرون وهي مما ينبغي أن ينتبه له المسلم، وأن يحذر منه المؤمن، لأنه لا يليق به ولا يتناسب مع غاياته وأهدافه، ومع سماته وصفاته.
وكثير من الإخوة قد أشار إلى التنبيه على بعض هذه الأمور لأهميتها، وحرصاً على أن نكون -بإذن الله عز وجل- في موضع طاعته سبحانه وتعالى، وفي أسباب طلب العز والنصر والقوة لهذه الأمة التي لحق بها كثير من الضعف، وتمزقت أوصالها، واختلفت آراؤها، وحل بها كثير من غضب الله سبحانه وتعالى؛ بسبب تفريطها في طاعته، وتقصيرها في التزام منهجه.
إن هناك ظواهر كثيرة أحب أن أقف على بعض منها بشيء من الوضوح والصراحة، وبتسليط الضوء على الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظواهر، ومن خلال رؤية إلى بعض صور العلاج لها.(95/2)
إدمان السهر والانشغال باللهو
كثيراً ما يرتبط بالأذهان أن إجازة الصيف هي خلو عن أي عمل، وترك لأي طلب أو أخذ أو زيادة في العلم، وهذا يظهر أكثر في صفوف طلاب المدارس والجامعات الذين تتوقف دراستهم؛ فيرى أحدهم أن نظره في كتاب، أو مطالعته في مسألة، أو مراجعته لمنهج من المناهج كبيرة من الكبائر، وعظيمة من العظائم، وتسلط في أذهان كثير من أبنائنا وشبابنا أن هذه الفترة رغم امتدادها وطولها، ورغم وجود الفراغ فيها، ورغم تهيؤ كثير من الأسباب النافعة خلالها: أنه ينبغي لهم أن يكونوا عطلاً من كل علم وعمل، ونجد ذلك يتمثل في صور عمليه، وظواهر اجتماعية كثيرة: منها: السهر والعبث: فنحن نرى كثيرين في هذه الأوقات لا ينامون إلا بعد الفجر، أو ربما بعد انبثاق النور وبداية النهار، وذلك ليناموا بعد ذلك سائر يومهم، ونجد هذا السهر عابثاً ليس فيه شيء ينفع ويفيد في غالب الأحوال، بل فيه لغو باطل، وكلام لا نفع فيه، وربما وقع فيه اجتماع على بعض صور وأعمال من معاصي الله عز وجل، وربما يكون فيه كثير من أسباب الأذى؛ ولذلك نجد هذه الصورة تبرز لنا لتدلنا على هذا التعطل والبطالة.
وصورة أخرى نراها أيضاً تابعة لها، وهي النوم والكسل: فلا انشغال بعمل، ولا ارتباط بهدف، ولا سعي لإنجاز مهمة، بل لو كان هناك وقت غير النوم فإنه يقضى في الفراغ الذي لا جدوى فيه ولا نفع.
ونجد أيضاً صورةً ثالثة: وهي التفاهة والأذى التي نجد فيها كثيراً من الشباب والشابات، رغم سهرهم وعبثهم، ورغم نومهم وكسلهم، يفيض الوقت لكثرته، فلا يقضونه إلا في أمور تافهة، يفكر أحدهم في ملابسه أو سيارته، وتفكر الأخرى في زينتها أو أسواقها، أو غير ذلك، ويقع من وراء ذلك ما يقع من الأذى للناس، أو من التجريح لهم، أو ما يقع من آثار الاجتماعات والتجمعات التي يقضون فيها أوقاتهم، فنجد حينئذ تجسداً لهذه الصورة التي لا تليق بالمسلم، فضلاً عن شباب الأمة الذين هم أملها المرتقب.(95/3)
أسباب التهاون في إجازة الصيف
نحن نرى أن تلك المظاهر تدفعها أسباب، وتهيئها أوضاع، ذلك أن هناك تربية أسرية تكرس هذه المعاني، فنجد كثيراً من الآباء والأمهات يغرسون في نفوس أبنائهم أنه لا ينبغي له أن يقرأ، ولا أن يتعلم ولا أن يعمل شيئاً، ولا أن تسند إليه مهمة، ولا أن يقوم بأي شيء.
وكذلك نجد أمراً آخر يساعد على ذلك، وهو البيئة الاجتماعية -الدائرة الأوسع من دائرة البيئة الأسرية- فنحن نرى حديث الناس في الصيف عن قضاء الأوقات أو قتلها في اللهو والعبث، أو غير ذلك من الصور التي تكرس هذا المعنى.
وأمر ثالث أيضاً: وهو الدعاية الإعلامية التي تعمق هذا المفهوم، فهناك دعوة للسياحة، ولقضاء أوقات الفراغ، وللتنزه، وغير ذلك من الأمور التي قد يكون أصلها ليس محظوراً ولا محرماً، لكن تعميقها وجعلها غايةً، وصرف الأوقات والأموال فيها؛ هو الأمر الذي ينبغي أن يترفع عنه المسلم.
إننا حينما نجسد هذه الصورة نقف على خطر عظيم، ذلك أن هناك وقتاً طويلاً يمتد إلى أشهر، وشبابنا وشاباتنا وطلابنا وطالباتنا تصل أعدادهم إلى الملايين، وهناك أوضاع متنوعة متعددة تضيع بلا جدوى ولا ثمرة.
ونحن أمة نحتاج إلى مزيد من مضاعفة الجهد والعمل وتحصيل الثقافة والعلم؛ لندرك من سبقنا في أبواب كثيرة من أبواب التقدم والعلم، ولنحصل كثيراً مما فاتنا وسبقتنا إليه أمم أخرى، ومع ذلك نجد الأمر على هذا النحو.
بل إننا نجد شكوى مزعومةً من بعض الشباب في أوقات الدراسة، هذا وهم يأملون ويؤجلون كل آمالهم وطموحاتهم إلى هذه الفترة؛ فتجد أحدهم لا يجد فرصةً للعبادة والطاعة بحجة انشغاله بالدراسة، وآخر لا يجد متسعاً من الوقت للثقافة والاطلاع وزيادة المعلومات بسبب الانشغال بالتحصيل والاختبارات، وثالث لا يرى فرصةً لتنمية المهارات، أو ممارسة الهوايات، فأين هذا كله في هذه الفترة؟(95/4)
التهاون بالعبادات والطاعات وإهمالها
نحن نسأل عن الليل، أين قيام الليل من هذا السهر العابث واللهو التافه الذي تقضى فيه كثير من الأوقات؟ أين قول الله عز وجل: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]؟ أين أنت أخي الشاب المسلم من قول الله عز وجل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]؟ أفلا تذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصغار الصحابة، وتذكر الشباب الغض الطري كيف كان يقضي ليله، وهو في النهار من المجاهدين ومن العاملين، لا من النائمين والكسالى الذين تتاح لهم فرصة للراحة، مع ذلك كان دأبهم على ما نعلمه ويعلمه كثير منا لكنه لا يؤثر في واقعنا؛ فكلنا نعلم قصة ربيعة بن كعب رضي الله عنه لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمنيته ليدعو له بها، فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: ليس إلا هو، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فلم يكن رضي الله عنه يدع قيام الليل بعد ذلك وهو في الرابعة عشرة من عمره.
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في صحيح البخاري جاء إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: (ألم أخبر أنك تصلي فلا تنام، وتصوم فلا تفطر، وتقرأ القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم يا رسول الله)، هذا الخير بلغ النبي عليه الصلاة والسلام عن حال عبد الله بن عمرو وهو الشاب الذي كان في مقتبل العمر، فكان يصلي فلا ينام، يصوم فلا يفطر، ويقرأ القرآن في كل يوم، حتى رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال، وذكر له صيام يوم وإفطار يوم، وأن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه الأخير، وأن يختم القرآن في خمس، أو في سبع كما في بعض الروايات.
نحن نقول لإخواننا ولأنفسنا ولآبائنا: إن هذا الوقت الذي يفرغ فيه الإنسان أو الشاب من هذا الارتباط بالدارسة أو التحصيل وغير ذلك، ينبغي أن يقابله هذا الاستثمار في العبادة والطاعة.
أين الذكر والتلاوة؟ كثير من الشباب لا يجدون -كما يقولون- وقتاً لتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل في أوقات الدراسة، أفليس جديراً بهم أن يقرءوا جزءاً من القرآن في أول نهارهم، وجزءاً في آخر يومهم، أو أكثر من ذلك كما كان شباب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون؟ أين المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى المساجد والصلوات؟ أين هذا الذي كان يُترك بعضه أو كثير منه بحجة الانشغال بالدارسة والتفرغ لها؟ فما بالنا نشكو هذه الشكاوى المزعومة، وندعي هذه الدعاوى الموهومة، ثم إذا جاء الوقت وحانت الفرصة لم نجد الصورة الصادقة لهذه الدعوى.(95/5)
إهمال الثقافة والاطلاع في أوقات الفراغ
لماذا لا يستثمر الوقت في مثل هذا المجال لتحصيل مزيد من العلم، أو التهيؤ للعام القادم، أو مراجعة ما مضى من التحصيل، أو في زيادة في أبواب من الفهم والعلم يميل إليها الشاب أو الشابة، كأنه -كما أشرت من قبل- ينبغي ألا يكون خلال هذه المدة الطويلة في الإجازة الصيفية أي قراءة ولا اطلاع، ولا كتاب، ولا مقال.
نجد كأن الإنسان إنما جعل له هذا الوقت ليبدده من غير فائدة، ونحن نعلم ما كان من سلفنا رضوان الله عليهم كيف نقلوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف نقلوا لنا القرآن الكريم، كيف نقلوا لنا هذه الثروة الهائلة من العلوم الإسلامية، والمؤلفات الضخمة، حيث لم يكن أحدهم ينام ملء عينيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويطمئن إلى الدنيا، وينشغل باللهو والعبث، بل كانوا على جد وعمل.
فهذا ابن عقيل الحنبلي يقول: إنه لا يترك لحظةً إلا وهو ينشغل بقراءة، فإن لم يكن فبكتابة، فإن تعب تمدد وشغل فكره في مسألة من المسائل، وكان بعض السلف وبعض علماء الأمة من أمثال إمام الحرمين الجويني لا ينام إلا مغلوباً، فليس له وقت في النوم، وإنما يقرأ ويطالع ويدرس ويعمل، حتى يرهق فينام، فإذا نام نومةً قصيرةً كانت أو طويلة استيقظ وواصل عمله.
جد ودأب واستثمار واستغلال، فما بالنا نحن في هذه الظروف اليسيرة التي هيأ الله فيها أسباباً من النعم كثيرة، نفرط مثل هذا التفريط، وندع مثل هذه الفرص دون اغتنام.(95/6)
التقصير في التوجيه للشباب
ونجد أيضاً أن هناك ضعفاً فيما ينبغي أن يقدم للشباب في هذه الأوقات، فلا نرى كثيراً من البرامج التي تحثهم على القراءة والاطلاع، لا نجد مسابقاتٍ ثقافية تتناسب مع وقت الفراغ وتكون فيما ينفع ويثمر.
لا نجد أيضاً التوجيه الإعلامي المناسب الذي يعمق هذا التوسع الفكري والاطلاع الثقافي لدى شبابنا، حتى إننا نجد أحياناً صوراً ممسوخةً لا يعرف فيها أحدهم ما درسه من المناهج، بل لا يعرف أحدهم أن يجيد كتابة اسمه فضلاً عن أن يكون صاحب علم ومعرفة.(95/7)
دعوة إلى استغلال الأوقات في تنمية المهارات
كسب العمل التدرب على المهن الفرص التي تتاح في هذا الوقت للشباب، لماذا لا تستغل في العمل والجد وتحمل المسئولية؟ لماذا يبقى شبابنا حتى التخرج من الجامعة وهو لا يزال غير قادر على تحمل المسئولية؟ ألم يكن من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم من قاد الجيوش وهو في السابعة عشرة من عمره؟ ألم يكن منهم من تولى الإمارة، ومن عمل أعمالاً وقام بمهمات عظام، كمهمة نقل القرآن وكتابته التي قام بها زيد بن ثابت وهو شاب غض طري، فلماذا لا نعود أبناءنا على تحمل المسئولية؟ ولم يعيشون على كد آبائهم فحسب دون أن يتهيئوا لحمل المسئولية والقيام بالعمل؟ لقد كان عمر بن الخطاب ينظر إلى الرجل فتعجبه عبادته وطاعته، فيسأل عن عمله ونفقته، فيقال له: إنه لا عمل له، وإن أخاه أو أباه ينفق عليه، فيسقط من عينه؛ لأن الإنسان بلا عمل وبلا مسئولية وبلا مهمة لا قيمة له، كيف يعيش بغير كدح في الحياة واستثمار لها، وأخذ بالأسباب التي تعينه على طاعة الله عز وجل فيها.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أكل ابن آدم طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده)، ونعلم توجيهه عليه الصلاة والسلام عندما للرجل الذي جاءه يسأله فأعطاه، ثم جاء يسأله فأعطاه، ثم قال له: (أليس عندك من مال؟ قال: لا إلا قصعةً وكذا، قال: فائتني بهما، فنادى بهما النبي صلى الله عليه وسلم للبيع فبيعا بدرهمين، فقال: كل بدرهم واشتر بدرهم فأساً أو قدوماً، ثم اذهب فاحتطب، فذهب فعمل فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام)، وبين أن شرف العمل وقيمته في هذا الدين الإتقان فيه، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، لا بد أن نستغل هذا الوقت لنشغل أبناءنا وفتياتنا بما يعود عليهم بالفائدة والنفع.
ونحن نعلم أن هناك فرصاً من العمل تتاح للطلبة على وجه الخصوص ليشغلوا أوقاتهم، وليكتسبوا بعض الخبرات، ولكن أيضاً هناك بطالة مقنعة، بعضهم يأخذ أعمالاً أو وظائف لمجرد أن يأخذ بعض الأموال دون أن تكون هناك مهمة ولا عمل ولا اكتساب لخبرة، هذا أيضاً نوع ليس مرغوباً فيه.
ونجد أيضاً فرصاً أخرى تتيحها معاهد التدريب المهني للتدرب في مجال الكهرباء أو الميكنيكا أو غير ذلك من الأمور النافعة التي تجعل الإنسان عنده مهنة تدفع عنه الفقر إن شاء الله عز وجل، وهذا أمر متاح معروف، وقد رأيت له إعلانات كثيرة تدعو الشباب إلى أن يشتركوا في مثل هذه الدورات المجانية بغير مقابل، فاذهبوا وانظروا مدى الإقبال عليها، فإنكم واجدون حالةً تحتاج إلى إعادة نظر.
وهناك فرص أخرى كثيرة ينبغي أن تستثمر؛ لأجل العمل، ولأجل تحمل المسئولية، ومن ذلك المراكز الصيفية التي تجمع بين كثير من المنافع: في استغلال الأوقات، والدفع والتشجيع على العبادة والطاعات، وزيادة العلم والثقافة، واكتساب المهارة، وغير ذلك.
والرسول عليه الصلاة والسلام قد بين لنا أنه: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم)، وأخبر عن نفسه أنه كان يرعاها لأهل مكة على قراريط، ليبين لنا شرف العمل.
وكان علماؤنا منهم الفراء، ومنهم الخياط، ومنهم البزاز، ألقابهم تدل على مهنهم، فإنهم اشتغلوا بالعمل وبالعلم، وتحملوا المسئولية، فينبغي لنا أن نلغي هذه الصورة من ترك العمل والعلم، خاصةً في صفوف أبنائنا وشبابنا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(95/8)
صور للمضار والأخطار التي تقع في السفر الخارجي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على نعم الله عز وجل، وتقييدها بشكرها علماً وعملاً.
وأنتقل إلى صورة أخرى من صور واقعنا الاجتماعي، وهي صورة تتعلق بتبديد الثروات من مال ووقت وجهد، ويرتبط هذا التبديد إلى حد كبير بوقت الصيف والإجازة التي فيه، ونرى لذلك أيضاً صوراً عديدة: أولها: كثرة السفر إلى خارج البلاد.
وثانيها: كثرة الأفراح وما يقع فيها من إسراف.
وثالثها: بذل الأموال للأبناء في الهدايا والمصاريف وغيرها.(95/9)
أخطار عقدية وسلوكية ناتجة عن السفر إلى الخارج
وأقف وقفات سريعة ليس المقصود منها أن نفصل القول في هذه الجوانب، ولكنها ومضات يكفي القليل منها للتنبه إلى ما يقع من خلل، وما قد يستتبع ذلك من خطر.
فنحن نجد كثيرين يتنادون إلى السفر من هذه البلاد إلى غيرها من بلاد أخرى، وكثيرون يذهبون أيضاً إلى بلاد الكفر التي لا تقيم وزناً لخلق، ولا ترفع شعاراً لإيمان، ولا شيئاً من ذلك، وهنا يتعرض المسلم في سفره هذا إلى مخاطر عدة: أولاً: المخاطر الاعتقادية: حيث يفتن بعض الناس أو الشباب على وجه الخصوص بأهل الكفر فيعظمونهم، ويرون فيهم مثلاً يحتذى، ويرون في صورة حياتهم قدوة ينبغي أن تطبق في حياتنا، وقد يفتنون في دينهم فيتشككون في بعض عقائدهم.
ثانياً: المخاطر السلوكية: حيث يرون صوراً من التحلل، والإباحية، ووجود الخمور، وكثرة الخنا والفجور، ونحو ذلك مما نعلمه ولا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى بيان.(95/10)
أخطار أمنية واقتصادية ناتجة عن السفر إلى الخارج
ثالثاً: المخاطر الأمنية: نسمع بالاعتداء على الأموال بالخطف، أو الاعتداء بالضرب، ونحو ذلك مما وقع لكثيرين ولم يعتبر بهم غيرهم.
رابعاً: المخاطر الاقتصادية: حيث يتفنن كثير من الناس في تبذير الأموال في غير ما حاجة إلى السفر أو اللهو، ونحو ذلك، فينفعون بذلك أعداء الأمة، ويضعفون مواردهم المادية واقتصاد بلادهم، وهذا أيضاً كله صورة مصغرة.(95/11)
معالجة الأوهام الدافعة إلى السفر إلى الخارج
عندما تبحث عن الدعوى في ذلك، تجد أنها: نحن نريد أن نرفه عن أنفسنا، وأننا خلال فترة طويلة لم يكن عندنا فرصة لهذا الترفيه.
وأقول: هذا أيضاً تصور غير صحيح، فنحن في كل أسبوع عندنا يومان من أيام العطلة والإجازة، وعندنا عطلة في الربيع، وعطلة في الأعياد، وعطلة في رمضان، وأخرى في الحج، وكثير من الناس يقضون هذه العطل فيما يقولون إنه ترفيه عن أنفسهم، أو تجديد لنشاطهم، فهل يضاف إلى ذلك ثلاثة أشهر ربما تكون ربع العام، فيكون ترفيهنا أكثر من نصف العام، إذاً: فأين علمنا، وأين عملنا، وأين جهدنا وجهادنا؟! إذا كان نصف عمرنا يقضى فيما نجعله ترفيهاً أو نحو ذلك، وإذا كنا نجد أننا بحاجة إلى ذلك، فينبغي ألا يصاحب ذلك شيء من المحرمات، ولا الوقوع في معاصي الله عز وجل، وينبغي ألا يكون ذلك مبرراً لكل هذه التجاوزات والترخصات بحجة أننا نريد أن نرفه عن أنفسنا.
وإذا أردنا أن نرفه عن أنفسنا فإن هناك مواضع كثيرة في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد التي يقل فيها الفساد، ولا يوجد فيها ما في بلاد الكفر، فإن كنت فاعلاً ففي مثل هذا واقتصد في الوقت والإنفاق؛ لأن هذا كله ينبغي أن يقابل بأمر آخر نحتاج إليه ونستفيد منه أكثر من هذا.
ونحن نعرف أيضاً أحوال إخواننا المسلمين في بلاد كثيرة كالبوسنة والهرسك، وكشمير وغيرها، أفيكون لنا كل الاطمئنان والسعادة في أن نبذل وننفق ونلهو ونلعب ونمرح ونفرح، دون أن نتذكر إخواننا باقتطاع شيء من أموالنا، أو باقتطاع شيء من وقتنا لنتفقد أحوالهم، أو نزورهم في بلادهم، أو غير ذلك مما ينبغي أن نشغل به أنفسنا وأفكارنا وعقولنا.
أين نحن أيضاً من سفر العبادة؟ لم لا يكون هذا الموسم موسماً لمجاورة بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ولزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة؟ وقت هنا ووقت هناك، الانتقال والتغيير للمكان وللناس هو أيضاً نوع من التجديد، أفلا يكون ترفيهاً؟ أفلا يكون زيادة للإيمان؟ ألا يوجد صورة من صور الانتفاع إلا أن يكون السفر إلى خارج البلاد، هذا أيضاً أمر ينبغي أن يكون الإنسان منه على ذكر، علماً بأن المسلم ليس عنده في الحقيقة فراغ حتى يقول: أريد أن أبدد هذا الوقت، فالوقت هو الحياة: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع لم تفرط في هذا الوقت والله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، أي: إذا فرغت من شأن الدنيا وأعمالها، فانصب لطاعة الله عز وجل، فليس هناك فراغ في الحقيقة، فالدنيا مزرعة وحرث للآخرة، وكل وقت يمكن أن تستثمره في طاعة الله عز وجل؛ ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى هذا المعنى.(95/12)
صور للمضار الناتجة عن الأفراح وغيرها
ونجد الصورة الأخرى أيضاً في الأفراح وما يصاحبها من إسراف وتبذير بدعوة الأعداد الكبيرة، وتهيئة الأطعمة الوفيرة، واشتراط تغيير الملابس للنساء، وغير ذلك من أمور ينفق فيها من الأموال ما ينبغي أن يدخر ويبذل في أبواب الخير أخرى، أو ينتفع به لأمور أعظم من هذا وأشرف.
وإذا كان يقترن مع ذلك محرمات فيكون الإنفاق في هذا الباب إنفاقاً محرماً، وغير ذلك من الصور التي تقترن في أمور الأفراح وهي كثيرة جداً.
وكذلك الأموال التي يعطيها الآباء لأبنائهم؛ ليشتروا ويرفهوا عن أنفسهم دون أن يسألوهم في أي شيء صرفوا هذا المال، وقد يصرفونه فيما يضرهم، وقد يكون مدخلاً لهم إلى شيء من المحرمات، أو من المخاطر الكبرى كالمخدرات وغيرها: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة(95/13)
دعوة إلى اليقظة وشكر نعمة الله
فينبغي الترشيد والانتباه؛ ولذا ألخص قولي في دعوة صادقة لنا جميعاً أيها الإخوة: أن نحرص حرصاً أكيداً على طاعة الله، وأن نستثمر الأوقات التي أتاحها الله عز وجل لنا، لا لشيء إلا لذكره ولشكره سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62].
دعوة صادقة: أولاً: بترشيد الإنفاق والتبرع في سبيل الله؛ رشدوا في السفر والأفراح، وابذلوا في سبيل الله عز وجل.
ثانياً: المحافظة على الأوقات، والعمل بطاعة الله عز وجل: أكثروا من الذكر والتلاوة، وطلب العلم، واستغلال الوقت في هذه الفرصة المتاحة.
ثالثاً: ترك البطالة، والاشتغال بالأعمال.
رابعاً وأخيراً: تقوية الأواصر والتعاون على الخير: لم لا تكون الإجازة فرصة عظيمة لصلة الأرحام والتزاور، وتقوية الأواصر، وقيام المشاريع الخيرة بين أهل الحي والجيران؟ لم لا نستثمر هذه الأوقات في طاعة الله عز وجل؟ اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين يا رب العالمين.
اللهم استعملنا في طاعتك، وسخرنا في الجهاد في سبيلك، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن توفقنا للطاعات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت.
اللهم تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، ورزقاً طيباً، وعلماً نافعا، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرةً بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم اجعل دائرة السوء على الكافرين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المضطهدين والمعذبين، اللهم رحمتك بالمشردين والمبعدين، اللهم رحمتك بالأسرى والمسجونين، اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، اللهم ارفع عنهم البلاء، اللهم وارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت لهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.(95/14)
البطل الفريد والشهيد القعيد
ما زالت الأمة الإسلامية على مر العصور والدهور تنجب أبطالاً يعانقون الكواكب والنجوم رفعة وعزة، ومن هؤلاء الأبطال بطل شامخ عزيز، بطل شاء الله أن يجعل من حياته ومواقفه وهيئته صورة فريدة تلفت الأنظار، إنه البطل القعيد أحمد ياسين رحمه الله، ذلك الرجل الذي جمع الله بكلماته جموعاً متفرقة، وأحيا بها نفوساً ميتة، ذلك الرجل الذي أوقع في النفوس والقلوب أعظم التأثير بكلمته وخطابه، وصبره وثباته الذي شمخ به إلى العلياء، مقاوماً كل قوى الظلم والطغيان، ومستمسكاً بالوحي والقرآن، حتى منّ الله عليه بالشهادة والموت في سبيله، فإلى جنة الرضوان، بإذن الرحيم الرحمن.(96/1)
ومضات من حياة الشيخ المجاهد: أحمد ياسين رحمه الله
الحمد لله، لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحمل دعوته، ورفع رايته، وأسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما أبعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: (البطل الفريد والشهيد القعيد رحمه الله تعالى).
هذا هو موضوع حديثنا، وأحب بادئ ذي بدء أن أشير إلى أن خطيب المنبر يتعرض لضغوط نفسية كثيرة، فما عسى أن يقول في الأحداث العظيمة، والأمور ليست على ما يحب المرء ويرضى، وكيف يلبي ما قد يجول في خواطر ونفوس السامعين؟ وكيف يتلقى قبل خطبته وبعدها من الناس ما يقولونه من مشاعرهم أو ما يطلبونه من توجيه وإرشاد، أو حث وحظ وتحريض على ما يرونه فيما يحبون أن يكون عليه الحال؟ وثمة أمر آخر لا يجهله أحد: وهو أن المقام يكون فيه الحديث محزناً ومؤلماً، ومن جهة أخرى يجب أن يكون مؤثراً ومحركاً يقع فيه من تأثير العواطف وضبط العقل وحكمته ما يكون، وهذا لا يسير إلا بتيسير الله سبحانه وتعالى.
ولسنا -أحبتي الكرام- في مقام نريد فيه أن نثير العواطف، ونهيج المشاعر، ونذرف الدموع ثم نمضي مرة أخرى ونرجع إلى سيرتنا الأولى، ونعود على أعقابنا، ننشغل بدنيانا وننسى واقع أمتنا، ونتغافل عن سوء حالنا، ونتجاهل شدة هجمة أعدائنا.
من الممكن أن يتحدث الخطيب فتلتهب المشاعر فيبكي ويُبكّي، وقد قلت مراراً أنني لا أجيد هذا ولا أحبذه، وأحسب أن كل مؤمن غيور قد اعتصر قلبه حزناً وأسىً، وما أحسب أحداً إلا وقد بكى ما شاء الله له أن يبكي، لكن الأمر ليس على ما نريد من هذه المشاعر التي تسكن بها بعض أحزاننا وآلامنا، فرأيت أن أتنحى عن مقامي هذا في الحديث إليكم؛ لأنني أجد صعوبة فيه؛ فرأيت أن أتحدث إليكم في هذا المقام بمسيرة حياته، ومجموع متفرق من كلماته.
الرجل الذي نتحدث عنه اليوم حديثه إليكم أبلغ من حديثي، وكلماته أوقع في النفوس وأعظم تأثيراً في القلوب؛ لأنها ليست كلمات بلاغة وإنشاء ولكنها كلمات صدق وإخلاص، صدقتها الأفعال، وروتها الدماء، وشمخت بها إلى المراتب العليا من استعلاء الإيمان وثبات اليقين الذي نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا وإياكم منه.
مسيرة حياته في ومضات أرويها لكم وأقصها عليكم دون أن أعلق إلا باليسير.(96/2)
استشهاده رحمه الله
ومضى رحمه الله تعالى على هذه المسيرة حتى تعرض بعد الاعتقال إلى محاولة الاغتيال التي لم تكن بينها وبين استشهاده إلا نحو ستة أشهر، ثم جاءت الخاتمة الحسنة بإذن الله عز وجل في يوم الإثنين، وبعد صلاة فجر وبعد فريضة ووسيلة وورد ذكر؛ ليكون على موعد مع ما أراده الله عز وجل وتمناه هو لنفسه في هذه الدنيا، إنها الشهادة التي تمثل قمة الشموخ والإيمان وعظمة المسلم المجاهد، إذ كيف لهذا الرجل الضعيف الواهي الواهن أن يضرب بثلاثة صواريخ من طائرة تعضدها طائرات مقاتلة لا تستخدم إلا في حروب الدول، ولا تستخدم إلا في القصف المدمر العنيف؛ لأنهم كانوا يدركون عظمة هذا الرجل، وعظمة حركة رأسه، وعظمة كلماته، وعظمة حركة كرسيه!! ولقد كان في تدبيرهم حتف لهم بإذن الله عز وجل إذ أعطوه ما تمناه، وإذ جعلوا من شهادته وقوداً محركاً للأمة بإذن الله، وجعلوه يختم هذه الحياة بما صدقت كل كلمة من كلماته، وكل موقف من مواقفه، وجعلوا شهادته الأخيرة هي قمة عطائه، وأعظم جهاده، وأسمى درجات تضحياته وفدائه في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل نصرة دينه وأمته، وفي سبيل مواجهة أعدائه من أعداء الدين والأمة.(96/3)
خروجه من سجون الاحتلال
وفي السجن ومع التعذيب تذهب عينه اليمنى، ويضعف بصره في عينه اليسرى، وتزداد آلامه في أحشائه رحمه الله، ويأبى الله عز وجل لهذا الرجل إلا أن تكون حياته فريدة، وأن تكون شهادته أيضا فريدة، فيخرج رغم هذا الحكم في صفقة تبادل الأسرى في عام (85).(96/4)
تأسيسه لحركة حماس
وبعد هذا! هل تاب من فعلته؟ وهل أقعدته أمراضه مع شلله؟ كلا! فقد تحرك حركة أعظم مما كان يتحركها من قبل، وتحرك حينئذ وقد رأى ثمرة جهده وجهد إخوانه وهي تزهر في المساجد التي امتلأت بالشباب، وفي الرجوع والأوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فرأى الوقت مناسباً أن يجيش هذا الزخم الدعوي الإيماني ليكون فعلاً حركياً عملياً في مقاومة أعداء الله.
فنشأت حركة المقاومة الإسلامية حماس.(96/5)
المعتقل الأخير
وبهذه الجهود العظيمة التي تحرك فيها الشيخ أعيد اعتقاله بعد عامين تقريباً، وسجن نحواً من عامين، وحكم عليه بحكم فريد غريب، حكم عليه بالسجن مدى الحياة وزيادة خمسة عشر عاماً، فانظروا كيف هو الطغيان والعنصرية اليهودية البغيضة! كيف يحكم على امرئ مدى الحياة وزيادة خمسة عشر عاماً؟ هل سيعتقل بعد موته خمسة عشر عاماً؟ وقد خيب الله أملهم، فلم تكن وفاته في سجونهم.
ومرة أخرى وبقدر الله عز وجل وبسبب من أحد أبنائه وأبطاله ورجاله، يخرج الشيخ مرة أخرى بعد سنوات غير قصيرة عام سبعة وتسعين، ويخرج حينئذ وهو قائد عظيم، وهو الذي أخذ السمة العظيمة في تأسيس حركة الجهاد والمقاومة الإسلامية.(96/6)
أول اعتقال
اعتقل في العشرين من عمره أول اعتقال في زنزانة منفردة شهراً كاملاً، ثم خرج من بعد وواصل مسيرة الدعوة وتحريك الناس وتربية الشباب الذين لم يأتوا من فراغ، ولم يكن استشهاده ولا استشهاد أبنائه من حماس أمراً جاء فلتة من الزمان، أو جاء في اندفاع عاطفي؛ بل كان ثمرة تربية إسلامية إيمانية دعوية جهادية كان فيها هو الرائد القائد، ثم معه صحبه الكرام الذين قطعوا مراحل وعقوداً من الزمن قبل أن تأتي بطولاتهم، وقبل أن يسطروا بدمائهم تلك المآثر العظيمة والمواقف الجليلة.
مضى رحمه الله تعالى حتى نشط في الدعوة نشاطاً كان فيه المبرر لاعتقاله ومحاكمته بتهمة عجيبة: (تدمير دولة إسرائيل).
الرجل الذي كان يوم ذاك لم يتجاوز إلا منتصف الثلاثينات من عمره أو قريباً من الأربعين وهو على حاله المعروفة يواجه بهذا الاتهام، ويحكم عليه بالسجن ثلاثة عشر عاماً.(96/7)
خروجه إلى الضفة بعد الاحتلال
في العاشرة أو الثانية عشرة من عمره حلت النكبة العظمى باحتلال اليهود عليهم لعائن الله لأرض الإسراء عام ثمانية وأربعين، وخرج مع أسرته طريداً مهاجراً كآلاف ومئات آلاف وبضعة ملايين من أهل أرض الإسراء، وانتقل إلى الضفة والقطاع كما انتقل الكثير من هؤلاء الناس؛ انتقلوا إلى هناك حيث قسوة العيش ومرارته وشدته، حتى إن الغلام الصغير الذي كان يدرس في المرحلة الابتدائية اضطر إلى أن يقطع دراسته، وأن يعمل في أحد المطاعم ليسهم في إعالة أسرة كانت تتكون من سبعة أفراد.(96/8)
الشيخ المجاهد يصاب بالشلل
لقد رأى الحياة المرة والظلم والطغيان في أشد صوره وأقساها منذ لحظات حياته الأولى؛ فارتسمت على صفحات قلبه، وسطرت في مخيلته، وجرت مع دمائه في عروقه، وسكبت في نفسه ما سكبت من رفض الظلم والعدوان وقوة المواجهة للطغيان.
ومضى بعد ذلك ليكمل مراحل تعليمه في صغره ونعومة أظفاره، ومنذ فترة شبابه الأولى أراد الله عز وجل أن يكون في حياته عبرة عظيمة، وأن يكون في مواقفه وفي هيئته ما يجعله فريداً يلفت الأنظار، وقعيداً يشد الأبصار.
في السادسة عشر من عمره تعرض لحادث كسرت فيها بعض فقرات من عنقه، وأصبح مشلولاً قعيداً لا يتحرك إلا قليلاً، ولم تلبث بعد فترات اعتقال وتعذيب وإجرام أن زادت حتى صار ذلك الرجل العظيم لا يتحرك منه إلا رأسه، ولكن رأسه إذا تحرك أقام الدنيا وأقعدها، وحرك الجماهير وألهبها، وأوقع في الأعداء ما يوقع من رعب وخوف، وما ينزل بهم من خسائر فادحة في أرواحهم وممتلكاتهم رحمه الله رحمة واسعة.(96/9)
نشاطه رحمه الله في الدعوة إلى الله
في هذه الفترات من عمره لم يكن ذلك الفتى الشاب رغم هذه الحادثة ورغم الظروف القاسية قانعاً بأن يكون كغيره طريح فراشه، وقعيد كرسيه؛ بل كان في تلك الفترة من عمره داعية متحركاً، ومشاركاً في مواجهة الظلم والطغيان، فقد شارك في المظاهرات الاحتجاجية على العدوان الثلاثي في عام 1956م، وكان له دور ومشاركة دعوية، وعندما تخرج من الثانوية وقد تعلم عند الشيوخ في المساجد تقدم إلى مهمة التعليم؛ ليكون معلماً، وكادت أحواله الصحية أن تمنعه من ذلك، ولكن تيسير له ذلك؛ فعلم في التربية الإسلامية واللغة العربية، وبث روح العزة والمقاومة والجهاد، وبين حقائق الأعداء وطرائقهم في حرب الإسلام وأهله، وهذا من عجائبه.
وصار يخطب في الجماهير، وكان خطيباً مؤثراً معبراً بحاله قبل مقاله، وكان في العشرين من عمره خطيباً للمسجد العباسي في غزة، وشهد له المنبر بالمواقف العظيمة التي كان يؤثر فيها في الناس في هذه الفترات والمراحل الأولى قبل أن يكون هناك في تلك الفترات الزمنية دعوة أو صحوة إسلامية؛ بل كان الإسلام غريباً يوم كان مد اليسارية والقومية والاشتراكية والبعثية قد مد في أمة الإسلام والعرب على وجه الخصوص مداً كاد ألا يسلم منه أحد.(96/10)
وقفات وعظات من حياة الإمام المجاهد
أنتقل بكم أيها الإخوة بعد هذه المسيرة إلى وقفات: أولاً: لو أن واحداً منا أصابه شيء من زكام يسير ربما تخلف عن الصلوات، والشيخ القعيد بأمراضه الكثيرة التي يحملها إلى آخر يوم من أيام حياته كان يشهد الصلاة في المسجد، ويؤدي صلاة الفجر في الجماعة دون أن يتخلف بأعذار كثيرة ربما يكون له فيها مندوحة شرعية عند الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: انظروا إلى مواصلة المسيرة التي لا تتوقف لأجل الظروف العصيبة، والممانعة الرهيبة التي مرت بها مسيرة حياته، فلم يثنه عن مضيه في دعوته ورفع راية الإسلام اعتقال ولا تعذيب، فضلاً عن أصل ما هو فيه من الإعاقة الظاهرة البينة.
ثالثاً: لننظر إلى الأهم والأهم وهو: أن وقود كل قوة إسلامية، وكل عزة إيمانية، وكل انتصار في ميادين المعارك، وانتصار في ميادين النفس المثبطة إنما هو منهج التربية والدعوة الدعوة إلى الله التربية على الإسلام تنشئة الأجيال على القيم والمبادئ والمفاهيم والعقائد الإسلامية، هذه هي الركيزة الأساسية والقاعدة المتينة التي يشاد عليها حينئذ كل بناء قوي، وكل شموخ علي، وكل عزة قعساء، وكل مقاومة قوية، وكل قضية يراد لها أن تستمر، ولا يمكن بحال من الأحوال إلا أن نوقن بما كان عليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلى معركة وغزوة جهادية إلا بعد مضي خمسة عشرة عاماً من بدء دعوته، فهل كان فيها نائماً عليه الصلاة والسلام؟ هل كان فيها لا يؤدي دوراً؟ لقد كان يسكب الإيمان في القلوب، كان يغرس اليقين في النفوس، كان يصحح المسار في الأفكار، كان يقوم الممارسة في السلوك، كان يبين التصورات والمبادئ والعقائد والعلائق كيف تكون، كان يعلم شموخ الإيمان وقوة اليقين.
فلما خرج إلى ميدان الدولة بعد الدعوة، ولما خرج إلى ميدان الجهاد بعد التربية؛ أخرج أمة عظيمة من أصحابه رضوان الله عليهم؛ فشرقوا وغربوا، وانتصروا أعظم انتصار في كل ميدان، فتلك هي القضية الأساسية في أمة الإسلام!(96/11)
أهمية التربية الإيمانية في إعداد الأمة
ماذا نعمل؟! إن الطريق الطويل الذي رسمه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ورسمه كل قادة الأمة وأبطالها إنما يمر عبر التربية والتعليم، والدعوة الإيمانية الإسلامية التي لا بد أن نأخذ بها، وأن نأخذ بالحظ الأوفى والأوفر منها، وأن نشيعها في أبنائنا ومجتمعاتنا، وأن نغير بها القلوب والعقول؛ لتكون قلوباً إيمانية، وعقولاً إسلامية؛ فحينئذ ستكون بإذنه عز وجل مقاومة إيمانية، وجهاداً إسلامياً، ومنهجية شرعية، ورؤية واضحة، ومواقف مشرفة.
ليست القضية انفعالاً عابراً، وقد حدثني أحد الإخوة قبل الخطبة، وهو يريد أن يؤسس لهذا المعنى، فقال: قد حزنا وتفاعلنا يوم مقتل الدرة ذلك الغلام الصبي الصغير، ورأيناها جريمة بشعة تحركت لها القلوب والعواطف، ثم مرت أيام وعدنا إلى ما كنا عليه! قال: وسيكون هذا مثل هذا.
وأقول: بإذن الله عز وجل لن يكون هذا، لكنه لا بد أن ندرك أن معركتنا هي معركة الإصلاح في أعماق النفس أولاً، ومعركة الإصلاح في واقع المجتمع ثانياً، ومعركة التغيير في مجموع أحوال الأمة، فإذا توافر ذلك تحقق الوعد الرباني: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وتحققت النتيجة التي لا يشك فيها مؤمن: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، أما أن نقول: ماذا نصنع؟ ونصيح ما الذي يمكن أن نفعله ونحن نشعر أننا مقيدون؟ فأقول: إن من يقول ذلك عنده أمران ينبغي أن ينتبه لهما: الأول: تفريط وقعود عن ميادين عمل كثيرة مفتوحة أمامه، ويريد أن يخفف عن نفسه بهذه العاطفة الجياشة؛ فنقول له: انتبه! كن صادقاً مع نفسك، وإن كنت مؤمناً مسلماً تريد خدمة أمتك فأنت أعلم بما تقيمه في نفسك وأهلك.
انظروا إلى أنفسكم واسألوها: كم منا صلى اليوم الفجر في مسجد جماعة؟ ومن تخلف كيف يقول: ماذا أصنع؟ ويقول: كيف أنصر ديني وأمتي؟ كيف تنصر دينك وأمتك وأنت من أسباب ضعفها، وأنت من أسباب بلاء الله عز وجل عليها؟! المحن التي يقدرها الله على الأمة هي بسبب تخلفها عن أمره، أو ارتكابها لنهيه، وهذا أمر واضح بين.
الثاني: وهي قضية أخرى من القضايا المتعلقة بالعاطفة: أن الناس يريدون أن ينفسوا عن عاطفتهم، ولو أنني صحت لهم، وبكيت لهم، وبكوا؛ لخرجوا مطمئنين مرتاحين! كلا.
لا نريد ذلك، نريد أن تترجم كل شعور بالرغبة في خدمة الدين، وكل شعور بالنقمة على أعداء الدين تترجمه إلى عمل طويل إلى التزام صادق إلى تغير حقيقي في حياتك إلى البذل لدينك من وقتك وقولك وفعلك وحالك ومالك وولدك ما استطعت؛ فإن المسألة أعظم من مثل هذه العواطف العابرة، واستمعوا لقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
أين كفة الأزواج والأبناء، والعشيرة والأموال، والدور والقصور، والتجارات من كفة محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج الإسلام، والجهاد في سبيله وإعزازه، والتضحية لأجله؟! إذا تساوت الكفتان فلا فائدة ولا نفع، وإن لم ترجح كفة الإيمان والإسلام في نفسك على خاصة حظوظك الدنيوية وحياتك اليومية فلا نفع من ذلك، فلذلكم حاسبوا أنفسكم.(96/12)
من كلمات الإمام المجاهد
أنتقل إلى كلمات أتمم بها حديث الشيخ إليكم، فقد كان ذلك حديث حياته، وإليكم حديث كلماته: بعد محاولة اغتياله الأولى كان مما قاله رحمه الله: (ألا تستحي الأمة من نفسها وهي تطعن في طليعة الشرف منها؟! ألا تستحي دول هذه الأمة وهي تغض الطرف عن المجرمين الصهاينة والحلفاء الدوليين دون أن يعطفوا علينا بنظرة تمسح عنا دمعتنا وتربت على أكتافنا؟! لا تنتظروا أن نستسلم، وأن نرفع الراية البيضاء؛ لأننا تعلمنا أننا سنموت أيضاً إن فعلنا ذلك، فاتركونا نمت بشرف المجاهد إن شئتم، أو كونوا معنا بما تستطيعون، فثأرنا يحمله كل واحد منكم في عنقه، ولكم أيضاً أن تشاهدوا أمواتنا، وتترحموا علينا، وعزاؤنا أن الله سيقتص في كل من فرط في أمانته التي أعطيها، ونرجوكم ألا تكونوا علينا، بالله عليكم لا تكونوا علينا يا قادة أمتنا ويا شعوب أمتنا).
وأقول: إن من يعصي إن من يقصر إن من يفرط إن من يترك الأمر والواجب قد يكون وبالاً على نفسه وعلى أمته بهذه الحال.
يقول الشيخ: (اللهم إنا نشكو إليك دماءً سفكت، وأعراضاً هتكت، وحرمات انتهكت، وأطفالاً يتمت، ونساء رملت، وأمهات ثكلت، وبيوت هدمت، ومزارع أتلفت، ونشكو إليك تشتت شملنا، وتشرذم جمعنا، وتفرق سبلنا، ودوام الخلف بيننا، نشكو إليك ضعف قومنا، وعجز الأمة من حولنا، وغلبة أعدائنا).
كلمات فيها منهج لا يتسع المقام للتعليق عليه.
ثم أنقل إليكم ما يريده منكم الشيخ وأمثاله من قادة الأمة ودعاتها وأبطالها.
يقول: (إن القرآن هو منهج المسلمين، جهاداً بالنفس والمال، وبالعلم والتربية، فإذا تخلف المسلمون وتركوا العمل بهذا المنهج استبدلهم الله بقوم يحبهم ويحبونه) وهو يشير إلى قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]).
ويقول لكم الشيخ أيضاً: (أؤكد لكم أن الله غالب على أمره، وأن ثقتنا في الله أولاً، ثم في شعوب أمتنا المسلمة، الشعوب المؤمنة كبيرة وعالية -أي: ثقتنا كبيرة وعالية- وأننا بفضل الله ثم بدعائكم ودعمكم سننتصر، وسيجعل الله لنا ولكم بعد عسر يسراً).
وها هو يؤكد لكم قائلاً في ثبات يبثه في أرواحنا ونفوسنا (سنسير على الدرب حتى الوصول إلى التحرر والعودة، وإقامة الدولة الفلسطينية المسلمة، وعاصمتها القدس الشريف مستعينين بالله أولاً، مهتدين بمبادئنا الإسلامية وعقيدتنا الغراء، ومطمئنين على الوصول إلى الحرية والنصر؛ لأن معركتنا نهايتها إما النصر وإما الشهادة: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]).
لقد كانت رؤيته واضحة، وكان يقينه كاملاً، وكان فهمه لمبادئ الإسلام ولسنن الله عز وجل عظيماً! ثم هاهو يقول لنا في ثبات عظيم عندما سئل بعد المحاولة الأولى لاغتياله: هل أخذت الاحتياطات اللازمة؟ فأجاب إجابة فيها شيء من الاستهزاء لمثل هذا السؤال فقال: (بالتأكيد قد أخذت الاحتياطات إلى أقصى درجة الحيطة والحذر، ودليل ذلك أنني أجلس في بيتي ولم أغادره).
ولقد كان كذلك رحمه الله، ثم هو يقول في هذه الحادثة: (المقاومة وحماس ستسير في حياتنا وبعد مماتنا، واغتيالي لن يؤثر على مسار الحركة، ولا على مسار المقاومة، وهذه التهديدات تزيد من قوة وإيمان هذا الشعب والتفافه حول خيار المقاومة).
ويقول في كلمات كأنما يقولها وهو يعلم هذه العاقبة: (لا أخشى الموت، وشهادتي لا تعني نهاية المعركة مع الإسرائيليين).
هذه الكلمات أسوقها إليكم وهي غنية عن التعليق.(96/13)
من أقوال من يعرفون الشيخ المجاهد
ما قاله بعض الناس ممن يعرفون الشيخ هو موضع درس وعبرة واتعاظ؛ لأننا نحتاج إلى أن نعرف الرجال ليس في آخر مشهد من حياتهم، ولكن في مسيرة حياتهم في مبادئهم في أعمالهم في منهجيتهم في طريقة تأثيرهم وتغييرهم فيما أنشئوه وعملوه.
وقد سئل رحمه الله سؤالاً: هل ألفت كتباً؟ فقال: (لا.
لست كاتباً ولا أؤلف كتباً؛ لكنني كنت لا أعلم شيئاً إلا عملته وعلمته، فما من آية أعلمها أو حديث إلا عملت بها جهدي وعلمتها).
لقد كان هذا منهجه؛ ولذلك سيذكر الشيخ لا بطبعات من الكتب يعاد طبعها، وإنما بأجيال تتتابع على طريق الجهاد والاستشهاد، وكما سبقه من أبنائه سيلحقه من أبنائه من يجدد سيرته وذكره رحمه الله.
أحد المقربين إليه يقول: (لم أر إنساناً في حياتي فوض أمره إلى الله مثل الشيخ رحمه الله، كان عظيم التوكل على الله عز وجل والاعتماد عليه) ويقول آخر: (القعيد الذي أقام العالم حين تراه ثم تسمع عن إنجازاته تدرك تماماً قول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)).
قال بعضهم بلسان حاله: (إن الروح إذا سمت فعلت الأفاعيل، ولو كانت قعيدة كرسي متحرك، وإن كانت حبيسة شلل بين؛ فإن الروح وسموها يرتفع إلى الله عز وجل، ولن يقطع حبلها بربها أحد، ولم يمنعها من الانتصار حبس)، انتصر الرجل -والله- رغم هزيمة الأمة، فحق أن يقال عنه: إنه كان وحده أمة! نسأل الله عز وجل أن يتقبله في الشهداء، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعل دمه لعنة على الظالمين والطغاة المجرمين من اليهود وأعوانهم أجمعين، وأن يجعله وقود حركة وإيمان، وغيرة ووحدة، ونصرة وعزة، ومقاومة في أمة الإسلام والمسلمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(96/14)
دروس من جريمة الاغتيال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن أمتنا الإسلامية أمة عظيمة، ولن ينقطع خيرها ولا أبطالها ولا رجالها، وقد أكدت الأحداث الماضية وتؤكد حادثة الشيخ هذا المعنى، وكلنا مدعوون إلى أن يكون لنا إسهام ودور، وأرجو ألا يسأل أحد سؤال التائه المتحير بعد كل هذه المعاني.
وأحب أن أشير إلى أن هذا الفعل يجلي كثيراً من المعاني والدروس، والمقام لا يتسع لها، لكنه يظهر بوضوح وجلاء ما يلي: أولاً: الخسة والدناءة والإجرام والإرهاب لشذاذ الأرض وأفاكيها من عصبة الإجرام من الصهاينة في أرض الإسراء.
ثانياً: التآمر والتأييد المطلق لهذا الكيان الصهيوني الباغي بدعمه مالياً، وإعطائه الأسلحة التي يفتك بها، ثم بالتستر والتأييد على جرائمه؛ حتى لا يكون هناك أدنى شك في مواقف أمريكا وما تقوله وما تزعمه لدى أي إنسان مسلم مؤمن عاقل رغم كل الحوادث التي سبقت، ورغم هذه الحادثة التي وقعت.
ثالثاً: ألا تعويل على ما يقال من الرأي العالمي، ومن الموقف الدولي، ومن الضغوط الدولية رباعية أو سداسية أو سباعية أو أهرامية، أو ثلاثية كما نسمع حتى مللنا السماع.
رابعاً: هناك وضوح في أن هذه المسيرة السلمية التي ما زال الحديث عنها رغم كل شيء يتكرر أنها محاولة لإحياء ميت قد نزعت روحه وفاضت إلى بارئها؛ فإن كان بالإمكان إحياء الميت فبالإمكان أن نصدق أن هذا الأمر حقيقي وواقع كما يقال ويروج له.
خامساً: فإن هذا ليس دليل قوة عند تلك الدولة الباغية، بل هو دليل ضعف وهلع وخوف وجزع من أثر أولئك القوم الذين تحركوا ونهضوا.
سادساً وأخيراً: الاعتزاز بالإيمان والالتزام بالإسلام هو الذي يعطي لصاحبه القيمة العظمى، والمكانة الكبرى، والقدر الكبير في الدنيا، والنجاة والفوز في الآخرة بإذن الله، وإلا فما قيمة رجل مشلول اليدين والرجلين، أعمى إحدى العينين، قعيد لا يتحرك، لكن الدنيا كلها حتى الدول العظمى تحدثت عنه سلباً أو إيجاباً، فرض نفسه ووجوده على العالم كله، أما في قلوب المسلمين والمؤمنين فكأنما فقدوا أعز من آبائهم وأبنائهم، وكأنما فقدوا أملاً عظيماً، لكنه على هذا النحو الذي أجراه الله عز وجل وقدره أصبح مساراً جديداً، ونوراً على الطريق، نسأل الله عز وجل أن يكون له أثره الميمون والمبارك، وهكذا ينبغي أن نكون جميعاً.
هلل الشعب وكبر قائلاً الله أكبر شرعة الحق لها نصر من الله مؤزر فلتعد أيام مجدي وليعد تالي المؤزر قد دنا فوج جهاد دربه صعب مغدر كرم الله شهيداً جاد بالروح وشمر لم يكن يخشى الأعادي لا ولا في الحرب أدبر فهو في جنات عدن وبنعم الله يفخر ينبغي لنا أن نعظم يقيننا بإيماننا وإسلامنا وشموخنا واستعلائنا بعزتنا الإيمانية والإسلامية، ولن ترهبنا القوى العظمى ولا الصغرى ولا التحالفات ولا التصنيفات الإرهابية التي توزع يميناً ويساراً؛ فإن كذبها وفضحها قد صار ظاهراً لكل ذي بصر وبصيرة.
نسأل الله عز وجل أن يخلف الأمة في شهيدها خيراً، وأن يجعل في شهادته نفعاً وأثراً، وأن يلحقنا به وبغيره من الصالحين والدعاة والمجاهدين كما يحب ربنا ويرضى، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يستخدمنا في نصرة الدين، وأن يكتبنا في ركب المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يردنا إلى البر والتقوى، وأن يجعلنا من عباده الذين يحبهم ويرضى! نسأله سبحانه وتعالى أن يحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة! نسألك اللهم أن ترد كيد الأعداء في نحورهم، وأن تجعل كل جريمة عليهم شؤماً ولعنة وزلزلة وهزيمة نكراء بإذنك وعونك وقوتك ونصرك وتأييد يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تدمر قوتهم، وأن تخالف كلمتهم، وأن تستأصل شأفتهم، وأن تجعل بأسهم بينهم، وأن ترد كيدهم في نحرهم! اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعل كل ما يفعلونه من الجرائم وبالاً عليهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر قلوبنا ونفوسنا بنصر الإسلام والمسلمين في أرض فلسطين عاجلاً غير آجلٍ يا رب العالمين! اللهم اقذف الرعب في قلوب اليهود، واجعل الخوف في صفوفهم، اللهم فرقهم كل مفرق، وشتتهم كل مشتت يا رب العالمين! اللهم عليك بهم وبأعوانهم من الصليبيين المناصرين، اللهم عليك بهم أجمعين، اللهم إنا نسألك أن ترد كيدهم في نحرهم، وأن تؤيدنا وتعزنا بنصرك وقوتك وعزتك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم اجعل في هذا الحدث خيراً، واجعل لنا فيه عبرة وأجراً، ونسألك اللهم يا أرحم الراحمين أن تعز وتنصر إخواننا في أرض فلسطين، وأن تثبتهم على الحق يا رب العالمين وفي كل مكان رفع فيه جهاد ومقاومة للعدوان يا رب العالمين! نسألك اللهم أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا يا رب العالمين، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين! عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا عن الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر أصحاب القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر، وعثمان، وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(96/15)
الشباب بين الحماسة والكياسة
من الأمور التي خص الله عز وجل بها الشباب: الحماسة، والحماسة سلاح ذو حدين، إن استخدم باتزان وتعقل نفع، وإن استخدم بتهور وطيش ضر وأفسد، ولهذا كان لزاماً على الشباب أن يربطوا حماستهم بشريعة الله عز وجل، حتى لا تحصل أمور لا تُحمد عقباها في الدنيا والآخرة، وواجب كذلك على الآباء والعلماء والدعاة وغيرهم توجيه وترشيد وتهذيب هذه الحماسة عند الشباب، حتى تؤتي ثمارها بإذن الله تعالى.(97/1)
اختيار الموضوع وإشكاله
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي أتم النعمة وأكمل الدين، وجعل الحجة على كل أحد لكتابه المبين، وجعل العصمة في كل أمر لرسوله الكريم، نحمده سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يخيب من رجاه، ولا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى.
والصلاة والسلام التامان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب هذا الكلام في موازين حسناتنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وأن يجعل لنا به أجراً، وأن يجعل لنا من ورائه نفعاً.
إن اختيار هذا الموضوع لم يكن بطلب من أحد ولا بتحديد منه، وإنما كان بمبادرة مني، وإذ أعترف بذلك فإني أقر بأن الموضوع مشكل، وكان بعض الأساتذة يقولون: إنه موضوع شائق.
فقلت: هو بالكاف لا بالقاف.
فهو شائك، وربما بين طرفي الموضوع يغضب من قد يظن أنه انتُقِصَ شيءٌ من تلك الحماسة، أو تكون لفئة أخرى غضبة مقابلة إن رأوا أنه قد جاء الحيف على الكياسة، وبين الأمرين دائماً يكون شيء من التوازن المطلوب الدقيق الذي لا يؤمن أن يكون فيه شيء من الخلل، فنسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد.
وأول ما نبدأ به من حديثنا حديثنا عن عنوان هذا الموضوع، ولا شك أننا سنحاول أن نجعل حديثنا في نقاط محددة وفي تعليقات مختصرة؛ لأن الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعاب كثير الفروع دقيق المآخذ، مما يجعل الاسترسال في بعض فروعه يحيف باستكمال الموضوع في بقية جوانبه.(97/2)
تعريف الشباب
في معاجم اللغة يقولون: الشباب: الفتاء والحداثة.
وذكر صاحب تاج العروس عن محمد بن حبيب تحديدات للفئة العمرية التي تتصل بالشباب، ومن محاسن ما ذكره أنه قد وسع في بعض الأحوال فجمع من هم في المصطلح العام خارج دائرة الشباب، فقد نقل عن محمد بن حبيب أن الشباب يمتد من سن السابعة عشرة حتى الحادية والخمسين، وبعد ذلك هو شيخ، لكنه أردف بعد ذلك الأقوال الأخرى، فمما قاله: إنه من البلوغ حتى يكمل الثلاثين.
وقيل: ابن ست عشرة سنة إلى ثنتين وثلاثين، ثم هو كهل.
لكننا باقون على العهد الأول لنكون جميعاً شباباً إن شاء الله، ولنا عود إلى معنى الشباب في بعض نقاطنا الأخرى.(97/3)
تعريف الحماسة
أما الحماسة فهي في اللغة تدل على الشدة، والحماسة: الشجاعة والشدة.
والتحمس هو: التشدد، ويقولون في اللغة: حمس بالشيء إذا تعلق وتولع به.
والأحمس: هو الورع من الرجال المتشدد في دينه.
وكذلك جاء في لسان العرب أن الأحمس هو الشديد الصلب في الدين والقتال.
والكلام في هذا يطول، وخلاصته التي يمكن أن نخلص بها إلى تعريف محدد أو واضح أن الحماسة: تعلق وولع بالأمر يدعو إلى التشدد فيه، والجرأة والشجاعة في إنفاذه.
فهو يبدأ بشعور وعاطفة وتعلق ينبثق منه حينئذ تغير وسلوك نفسي يتولد من خلاله جرأة تترجم إلى شجاعة في إنفاذ الأمر وعدم التساهل أو الترخص فيه.(97/4)
تعريف الكياسة
وأما الكياسة فهي أصل يدل على ضم وجمع، ومنه الكيس الذي تجمع فيه الأشياء، والكيس في الإنسان ضد الخرق أو ضد الحمق؛ لأنه -كما قال ابن فارس في معجمه- مجتمع الرأي والعقل، والكياسة: هي خلاصة الرأي والعقل، ولذلك يقولون: الكيس: العقل والفطنة والفقه.
والكيس في الأمور يجري مجرى الرفق فيها، والكَيّس هو: الظريف الخفيف المتوقد الذهن، ورجل كيس الفعل: أي: حسنه.
ومن هذه الومضات أيضاً ننتهي إلى خلاصة نقول فيها: إن الكياسة هي عقل وفطنة تقود إلى الرفق في الأمور والإحسان في أدائها دون حمق.
وإذا نظرنا إلى هذه المعاني فسيتبين لنا أنها ليست متقابلة، بمعنى: ليست متضادة، وإنما كل منها يعطي دلالة في جانب من الجوانب، فجانب الحماسة متعلق بالعاطفة والشعور والحمية، وجانب الكيس والكياسة متعلق بالعقل والرفق والرشد، ولا يعني أن يكون العاقل ليست له عاطفة، ولا يعني كذلك أن يكون المتحمس طائشاً لا عقل له ولا رشد عنده، وهذا هو الذي نريد أن نعالجه، أو هذه -إذا صح التعبير- هي المعادلة التي نحب أن يكون في طرفيها اتزان كما هو شأن المعادلات كلها.(97/5)
الصلة بين الشباب والحماسة
عندما نخص العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة المجتمعة في عنواننا لابد أن يثور
السؤال
ما صلة الشباب على وجه الخصوص بالحماسة؟ والجواب أن الشباب فيه قوة وفتوة، ونحن نرى ونعلم جميعاً أنه إذا ذكرت الحماسة جاء في الذهن الشباب، وأنه إذا ذكرت الكياسة جاء في الذهن الشيوخ، وهذا انطباع تغليبي، ولكنه ليس إقصائياً كما أشرت من قبل.
وأما لماذا يتحمس الشباب، وهل الحماسة في الشباب عيب أو شيء طارئ أو أمر غريب فنقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي، لعناصر كثيرة، منها أن الشباب فيه حيوية وقوة، والله سبحانه وتعالى قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]، فالشباب قوة بين ضعفين، وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين، وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما، حتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما تزال الخلايا والأعضاء تزيد فيها وتنمو وتعظم وتتكاثر، وهذا أمر بين، وإذا رجعنا إلى اللغة فإنها تسعفنا بهذه المعاني بشكل واضح؛ لأن الاشتقاق اللغوي للأصل (شب) يبين أن مادة الشين والباء في اللغة تدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه، وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطبيعة الشباب، ومن ذلك قولهم: شبت النار.
أو: شبت الحرب.
ويقول ابن فارس: ثم اشتق الشباب منه، وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته.
ولذلك نرى هذا الأمر واضحاً، ونرى أن من طبيعة الشباب الفطرية -بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيلوجية، أي: الطبيعية الفيزيائية- أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة، وهذا مما يزيده قوة وحماسة، ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تقلب لأسبابها، بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.(97/6)
الشباب والتحدي
هناك جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر، وهو قضية إرادة التحدي، فإن من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية.
ومن خصائص الشباب قبول التحدي، بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه، وسوف نأخذ أمثلة على ذلك، والأمثلة ستكون دائماً محدودة؛ لأننا لو تشعبنا فيها سيطول المقام عن ذكر ما وراء ذلك، ومن هذه الأمثلة قصة لـ ابن مسعود رضي الله عنه، كان ابن مسعود من صغار الصحابة وشبابهم، وكان حين ذلك نحيل الجسم، دقيق الساقين، وكان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه، وكان ذلك في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين، وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتحدثون فيما بينهم عمن يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في منتدى قريش، وهي عملية تحدٍ كبيرة، وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة، فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل، وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن، وقام يقرؤها بين ظهرانيهم، ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم، بل كان يعرف ما قد يترتب على ذلك، فعمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح، ولعلنا نقول بعد هذا الحدث: إنه قد أخذ درساً كافياً.
لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها).
فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي؛ لأن نفس الشاب دائماً فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو تهادن أو تتراجع، بل تريد دائماً أن تثبت نفسها، وأن تظهر قوتها، وأن تصر على رأيها، وأن تثبت على مبدئها، وأن تكون نموذجاً ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمر بها النفس.(97/7)
الأمل والطموح عند الشباب
هناك سمة ثالثة، وهي الأمل والطموح؛ لأن الشباب هو في مقتبل العمر، فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعاً، وقد يرسم طريقاً في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم، وأنه سيحصل فيه كذا، وأنه سيكون له كذا وكذا وكذا، وقد يرسم طريقاً في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية، لكن لو أننا تصورنا المرء في الخمسين أو في الستين فلا شك أن الأمل موجود لكنه قطعاً سيكون محدوداً، ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم.
ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس، وكيف يزكي تلك الآمال، وكيف يشحذ تلك الهمم، فهذا ربيعة بن كعب كان يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام، فأراد النبي أن يكرمه فقال: (يا ربيعة! سلني ما شئت -والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاب الدعوة-.
فقال: أنظرني يا رسول الله) إننا عندما نقول الآن للشاب ماذا تريد؟ وما هو أملك؟ وما هو رجاؤك؟ اطلب ما سنحققه لك ويكون رهن إشارتك وبين يديك فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشئونها، لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظماء لربما قصروا عن أن يأتوا بمثل ما قال؛ فإنه أوجز وأبلغ في أمله وطموحه فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة).
فلم يسأل الله الجنة، بل سأل مرافقة الرسول في الجنة، ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب، فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتداً والطموح متواصلاً.
ونعلم قوله لـ عبد الله بن عمر يوم أَوَّل رؤياه فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، والأمر في هذا واضح وجلي وكثير.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكلٍ ما كان يناسبه، حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله، كما هو معروف في الحديث الذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة، وذكر في كل منهم خصيصة تميز بها فقال: (أقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام.
ثم إن الشباب وهو في مقتبل العمر يتردد: هل يتزوج الآن؟ أو هل يكمل دراسته؟ أو هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة، وربما نرى نحن أننا نضيق الآن في المجال، فلا يبقى فيه مساحة إلا لمعاشر الشباب الذين يدخلون في جميع التعريفات، أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه فإنه تبدأ تضيق الدائرة عليه كما قلنا.(97/8)
بعض الخلال والسمات الحميدة التي تنتج عن الحماسة
لما كانت الحماسة من طبيعة الشباب كان دورنا أن نرحب بها ولا نعارضها، ولا نقول: إنها شيء شاذ أو أمر غريب.
ولكننا نواصل أيضاً في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها، لتكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.(97/9)
الهمة والعزة
الحماسة تورث خلالاً كثيرة وسمات عديدة، أولها: الهمة والعزة، فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية، والعزيمة ماضية، والعزة قضية، والروح فتية، بحيث إن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تُعد من مظاهر القوة الإيجابية، فليس في الشباب رخاوة، وليس في الشباب ضعف، وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا أنه قد صارت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء، ولكننا نقول: إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائماً في قصب السبق والتقدم، كما سيأتي في المراحل التالية.
ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في صور الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال، لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج، فعند البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أُخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتقرأ القرآن في كل ليلة؟ فقال: بلى يا رسول الله)، فهذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو، فانظر إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر، ولا ينام ليله، ويختم في كل ليلة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رده إلى الاعتدال المعروف في الحديث، لكن الشاهد هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.(97/10)
العمل والإنتاج
الأمر الثاني المتولد عما سبق هو العمل والإنتاج، فالهمة والعزة تتحول إلى عمل وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل، لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة؛ لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود، ولا يرضى بالكسل والخمول، ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه، ولذلك نرى شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كانوا دائماً يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة، حتى في مجالات مختلفة، وأذكر على ذلك مثالاً في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو الذي كان غلاماً صغيراً في نحو السادسة عشرة من عمره، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام -كما في المسند عند الإمام أحمد -: (اقرأ حرف يهود) أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة، فتعلم السريانية، وفي بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوماً، وفي بعض الروايات سبعة عشر يوماً، فكان يقرأ للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب له.
وأيضاً زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جُعل من مؤهلاتها الشباب، ففي صحيح البخاري في الحديث المشهور في جمع القرآن قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: (إنك شاب عاقل لا نتهمك، كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأول هذه الخصائص أنه شاب، والمهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة، وتحتاج إلى عمل متواصل، فوكلها إلى هذا الشاب الفتي، مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال، ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته، ومع أن الذي كان يحدثه هو أبو بكر خليفة المسلمين، ومعه عمر وزيره، وهما أفضل الصحابة وأكبرهم سناً إلى غير ذلك، ومع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشاب: (كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية، لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: (فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي)، ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة، وأعانه عمر، ووضع الشروط والضوابط، والشهادة المطلوبة على كل ما هو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته، وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمكن صورة ذكرت، ليستفاد من هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب، والأمر في هذا يطول الحديث عنه.(97/11)
الثبات والإصرار
النتيجة الثالثة: الثبات والإصرار، فكثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن، ومع استمرارية العمل، والنفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالباً ينقطع صاحبها عن عمله، وينقطع بعد ذلك أثره، ويطوى خبره؛ لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير، فمن مزايا الحماسة في الشباب أنها تعطيهم قوة وثباتاً بشكل منقطع النظير.
فهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرأ القرآن في مسجده كل يوم مدة أربعين عاماً، وهو أمير، وهو يتولى الحكم، لكنه كان في صفته وسمته ظل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل، فالقضية ليست قضية ردود أفعال، ولا سحابة صيف تنقشع، ولا أمراً أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها، كما نرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات العاطفية، خاصة ونحن في عصر عولمة وإعلام وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثاً كبيراً.
وحبيب بن زيد رضي الله عنه -وهو من أمثلة الشباب- لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب ثبت، وكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فيقول له مسيلمة: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله.
فيقول: لا أسمع.
وإذا بـ مسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه، فيقطع أذنه، ويقطع أنفه، وجعل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه.
وهذا مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتىً أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة، ولم يتغير له موقف، ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه، حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل، بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنوات طوالاً بعد استشهاد مصعب بن عمير رضي الله عنه، كما ورد من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائماً، وأتي له بطعام الإفطار، وكان فيه صنفان من الطعام، فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فتعجب الناس وقالوا: ما يبكيك؟! قال: (ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد، ويوم مات لم نجد ما نكفنه به إلا بردة، إن غطينا رأسه بدت رجلاه، وإن غطينا رجليه بدا رأسه، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا).
وهكذا بقي موقف جعفر في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه، فقطعت فضمها بعضديه، حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ.(97/12)
النجدة والإعانة
وينتج عن هذه الحماسة في الجملة أيضاً نجدة وإعانة؛ لأن المتحمس يأبى أن يرى الظلم ويسكت، ويأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون، وإلى أن يسابق، وإلى أن يكون في الصفوف الأولى في كل بيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة.
مثال ذلك قصة حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه، ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهداً في سبيل الله ناسياً أنه لم يغتسل من جنابته، حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي.
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء، وانتفاع من حولهم بهم بدلاً من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.(97/13)
سلبيات الحماسة
لا شك -أيها القارئ- أنك الآن قد تكون متحمساً، وأننا قد زينا الحماسة، ولكن إلى أي مدىً نمضي مع الحماسة؟ وهل الحماسة أمر ما تزال تشتعل ناره وتزيد وتعظم من أمره دون أن يكون هناك ما يرشده أو يكمله أو يسدده؟ إن طبيعة الأمور الساخنة أنها إذا اشتدت وزادت يكون فيها ما لا يتفق مع المطلوب منها، ولا يتكامل مع الثمرة المنشودة أو المرغوبة فيها، ومن هنا فإن الحماسة في صورتين -إما زيادة عن حدها، وإما اختلال في مسارها- لا تكون حماسة محمودة، وتعود تلك الثمرات لتكون حشرات.
وكما قلت: فالموضوع شائك لا شائق، وإن كان قد يصدق فيه الوصفان، فهنا انعطافة ينظر بها إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المختلفة؛ لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائماً أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه، بل بالعكس، فالإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى، وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك، فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد.
ونحن لا ينبغي أن نفرح عندما نجد من يضرب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء، وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك، بل الذي نحبه ونأنس به هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول، ويسايرنا في كل ما نعمل، ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عنده أدنى تحفظ حتى ولو أخطأنا، وحتى لو توقع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات بوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك، لذا لابد أن نأخذ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة لما سبق.(97/14)
الفتور والإحباط
أول هذه الحسرات الفتور والإحباط، فعندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم، وغير مستوعبة للواقع، ولا مدركة للإمكانيات، ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب فإن هذه الاندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها، فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور، ويترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية، بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم يعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساساً للانطلاق أو العمل.
ولعلي أضرب مثالاً يدور أو يقع في صفوف الشباب كثيراً في بعض الجوانب الحياتية: ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم، وتأتي هذه المقالات وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة، ولم يكن له سابق تجربة، ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة، فيندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة، ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها، فإذا به لا يحصل على شيء.
ذكر البغوي في كتاب العلم في (شرح السنة) عن الزهري رحمه الله قال: من رام العلم جملة فقده جملة.
وهذه طبيعة وظاهرة موجودة في الشباب، فترى أحدهم يقبل ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم، ويحفظ هذا المتن باندفاعة ليست متكاملة، فكثيراً ما يئول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله.
وهكذا في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات قد يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه، ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت، ثم يرجع إلى ما وراء ذلك.
ونجد في هذا من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة، والتجربة فيه واضحة.(97/15)
التعطيل والإعاقة
الجانب الثاني: التعطيل والإعاقة.
كثيراً ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما؛ لأن الاندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يجعل ردود أفعال كثيرة، وردود الأفعال سوف تكون أداة تعطيل ومنع وإعاقة.
وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضاً فيه أمثلة كثيرة من ذلك، ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الاندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير، وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيراً بدلاً من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة، وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيراً وكثيراً من الخير عنه وعن الآلاف المؤلفة من ورائه.
ولعلنا لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها، واختلت فيها الموازين، وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضاً ذكر بعضه عندما نأتي به.(97/16)
الإتلاف
الجانب الثالث: الإتلاف، فقد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ، ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحياناً قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية، ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم، وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة، ولا الشعور، ولا ردود الأفعال، ولا الانتصار للذات، وإنما الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها: الأول: حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان واجباً أمضيناه، وما كان محرماً تركناه، ويلحق به ويكمله مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر؛ فإن من الأمور ما قد يكون واجباً أو قد يكون مباحاً لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم، وقد يكون فعله في هذا الموطن محرماً وإن كان في أصله واجباً، وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها، وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة.
فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها.
ولعلي هنا أيضاً أركز على هذا المعنى؛ لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف فلا تكاد تفهم حقائق النصوص، وإذا تأملنا في هذا الجانب فثمة أمر مهم سوف نذكره لأنه من دين الله، ولابد أن نفقه ديننا، وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل، وأنه لابد لنا من أن نتأمل في حكمة الشارع؛ لأن الشارع معصوم، سواء أكان ذلك في كتاب الله أم فيما ثبت من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولعلي أخص هنا موضعاً محدداً من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين، فهناك طائفة كبيرة وكثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم، وكيف يكون التعامل في هذا الشأن.
وأقول: إن الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فليست القضية قضية عاطفية، وقد ذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام، وهذه الأحاديث فيها ضبط شديد، وفيها تحوط كبير، وربما كان في صورتها الظاهرة أنها تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون، فعلى سبيل المثال في بعض ما صح من هذه الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر).
وفي الرواية الأخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله).
وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة فقال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث: يا رسول الله! أرأيت إن أتي به إلى الصفين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني: فليتلف سيفه.
حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال.
ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها بعض الناس على أنها سلبية مطلقة، وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عمومات أخرى في دين الإسلام، ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع.
وقد نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتابه " الاعتصام بالكتاب والسنة " -وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذه الأوامر- أنه قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء؛ لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة، وتكونت البلية، وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجوداً بمثل هذا الأمر.
ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية، كلا! فدين الله عز وجل واضح لا يغيره أحد، وما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وذلك من فضل الله ونعمته علينا، فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع، وانظر إلى هذه الأمثلة: فهذا حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب ليرى خبر الأحزاب، خبر أبي سفيان ومن معه من قريش والقبائل، فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة، يقول حذيفة وهو يصف ذلك: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي، إلا أني ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحدث شيئاً حتى ترجع).
وأبو سفيان يومئذ كان رأس الكفر، وكان هو قائد الأحزاب، وكان في مرمى سهمه ومناله، لكنه التزم ذلك الأمر، والأمر قطعاً كانت فيه الحكمة، وهو إرشاد بوحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد، وبعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا أتته رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض في نفق فيه ماء، فقال سعد لـ مجزأة: (انظر لي رجلاً من قومك خفيفاً جريئاً شجاعاً).
فقال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير.
فقال له: (لا تحدث شيئاً) فدخل وخاض الماء، قال: فخلصت حتى رأيت الهرمزان، ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قولك.
فرجع وأخذ ثلاثمائة كلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا الحصن من الداخل.
فالقضية ليست اندفاعات عاطفية، وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولية، فينبغي أن نعرفها.(97/17)
الضياع والخسارة
كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يحصلون على شيء؛ لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة، ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج، فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، أو تنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة.
ولعلي أضرب مثالاً في قضية العلم مرة أخرى: بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف، وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويبدأ يتحدث بها: فلان مخطئ، وفلان كذا.
ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولم يعرف الصحيحة بعد، ولم يحفظها، ولم يكوّن من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة، وابن القيم رحمه الله -كما ورد في القواعد- قال: من تتبع شواذ المسائل قلّ أن يفلح.
يعني من تتبع المسائل التي فيها الخلافات فقط.
ويقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم.
وقال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل.
ويقول عن تجربة: وقلّ من رأيته يفلح في هؤلاء.
أي: لا يخرج بثمرة؛ لأنه -إذا صح التعبير- يأخذ من كل بحر قطرة، وينتهي بعد ذلك بدون أي قطرة، وليس في ذلك تحقيق للصورة الإيجابية المرجوة، والتي تتمثل في تجميع هذه الجهود لنصل إلى ثمرة، وإنما ضياع وخسارة.
ولا شك -أيضاً- أن من الحسرات موضوع التضخيم والاختلال، فهناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى أضعاف حجمها، فمن حماسة الناس أن أحدهم أحياناً إذا تحمس لأمر جعله كل شيء، وجعله هو مبتدأ الأمر ونهايته، وهو أوله وغايته، وهو الذي لا يمكن أن ينشغل أحد إلا في أوله وغايته، وهو الذي لا يمكن أن ينشغل أحد بسواه، وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور، وهكذا تندفع العاطفة تماماً، وهكذا هي العاطفة بطبيعتها، كما يعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب، كما قيل: ولو قيل للمجنون ليلي ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبار من تراب ديارها أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها يقول ابن الجوزي معلقاً: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف، فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها.
فالمسألة الاندفاعية العاطفية قضية عظيمة، ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل، فمن أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب، أما علمه فغزير، وأما رأيه فسبيل، وأما منطقه ففصيح، وأما تصرفه فحكيم، وكأنما لم يكن فيه عيب مطلقاً، ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر، هو الذي ينبغي أن يكون، فأين هذا من ذلك الاتزان؟ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، ويقول: (قولوا ببعض قولكم) فيجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام، وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى! ومما رواه أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته، فإذا أقبل علينا لم نقم له؛ لأنا نعرف كراهيته لذلك) ونحن أحياناً إذا انتقصنا إنساناً أو كان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات، كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا وهذه قضية واضحة.
إذاً فهل نحن الآن مع الحماسة أم نحن ضد الحماسة والمتحمسين؟
الجواب
نقول: لا للتهور، وأما الحماسة التي قلناها فلنظل باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.(97/18)
أسباب الحماسة المتهورة الضارة
ننظر مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة، ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ إذ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها، فالوقاية خير من العلاج.(97/19)
القصور في العلم
أول هذه الأسباب: القصور في العلم.
فمشكلة الجهل هي آفة الآفات، ومن الجهل جهل بسيط وجهل مركب كما نعلم، والجهل الذي نقصده غياب كثير من الأصول العلمية المهمة، وعدم معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة، وعدم معرفة القواعد الشرعية التي هي خلاصة استقراء للأدلة النصية، وعدم معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غايات هذا الدين وأهدافه، وعدم معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة وطبيعة قيام الدول وسقوطها، وطبيعة مآل المتقين وعاقبة المكذبين والكافرين، وهناك قضايا كثيرة لابد من أن ندركها، وأن نعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل، كما قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، فلابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني، حتى لا نندفع مع العاطفة بعيداً عن هذه الأصول العلمية المهمة، وعندما نتلوا قول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقوله: {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] نجد أن هذه المعاني المهمة قد طبقها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم، فعلى سبيل المثال: في سنن أبي داود أنه كان نفر من الصحابة في سفر، وشج أحدهم، فأصابته جنابة.
فاستفتى أصحابه فقالوا له: لابد أن تغتسل، مع أن الجو بارد والرجل به جرح، ولكنهم قالوا: لابد أن تغتسل.
فاغتسل فمات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فكم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين، وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها، ويفتي فيها، ويعطي القول الحاسم والجاد، ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله! وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي، وإنما هو عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيد من هذه التجاذبات التي تجتمع لذا أو ذاك.(97/20)
النقص في الوعي
السبب الثاني: النقص في الوعي.
والوعي هو إدراك المسائل من جميع جوانبها، ومعرفتها من كل وجوهها، وكثيراً ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفق أن رأوا الفيل، فأحدهم وقعت يده على خرطومه، والآخر وقعت يده على أذنه، والثالث على جزء آخر، فكل واحد عندما وصف الجزئية التي رآها كان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح.
فمعرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل، وهذه المسألة طويلة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) فصولاً نفيسة في هذه المسألة، وقال: إن كل عالم ينبغي أن يكون عالماً بالشرع وبصيراً بالواقع، حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك.
فنقص الوعي بما وراء هذه الأمور وما يترتب عليها من المفاسد والمصالح والرؤية التكاملية نقص ذلك في غالب الأحوال يقع به مثل ذلك الذي أشرنا إليه.(97/21)
الضعف في التربية
السبب الثالث: الضعف في التربية.
لقد كثرت أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية، وقد كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا، أو ربما كنا قد سرنا في طريق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك عدنا، أو كانت لنا ثقافات مختلطة، ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة، وهذا الخلط فيه ضعف التربية، وليس فيه تعويد على منهجية متكاملة على سير واضح وعلى تخطيط بين، وعلى صبر وانضباط، وكثيراً ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية، وكثيراً ما نرى الجوانب المتضادة، فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط، وهذا أيضاً مشاهد في كثير من الجوانب.(97/22)
الإحباط في المشاعر
الجانب الرابع -وهو من أخطرها وأكثرها تأثيراً في الشباب الذين يتهورون- الإحباط في مشاعرهم، وذلك من نواح عدة: أولى هذه النواحي: تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع وبلاد الأمة الإسلامية، في عجز فاضح، وتخاذل واضح، وسلبية مؤلمة ومحزنة، فيرى الشباب المتحمس ذلك فتغلبه عاطفته، وتتقد حماسته، وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية، ويطيش العقل، وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح، وهذا نحن نعرف واقعه، ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها، ليس لسنة ولا لسنتين، ولا لعقد ولا عقدين، بل أكثر من ذلك، ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات للمسلمين على مستويات عدة، بل على المستويات الحضارية والعلمية، ومن تتقد نفسه غيرة وحمية لابد من أن يكون لهذا أثره عليه، فإذا زاد حجم هذه القوة وحجم هذا العدوان وحجم هذه العزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه، فيخرج إلى غير حد الاعتدال وإلى التصرف بغير اتزان، وهذا أمره أيضاً واضح.
الناحية الثانية: كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل، فنحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات، وكم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها، وكم فيها مما هو مخالف لشرع الله، ويمنع شرع الله، ويبيح ما يخالف شرع الله.
وهذه قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها، وتغلي نفسه، ويشتعل قلبه حزناً وألماً، لكن عندما تفقد دعوة هذه الصور يكون أيضاً ما ذكرناه.
الناحية الثالثة: سوء المعاملة، والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب، سواء أكان ذلك في بيئة التعليم من أساتذتهم أم ممن قد يكون في موقع التربية، فإنهم قد لا يجدون منهم إلا تخطئتهم واتهامهم بالنزق والطيش ونحو ذلك، أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه، وربما كذلك أحياناً في المعالجات والمعاملات الأمنية على مستوى الدول، فكثيراً ما كانت هذه المعالجات بذوراً لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر، ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير، وهذه قضية مهمة.(97/23)
رداءة الاستيعاب
أخيراً: الرداءة في الاستيعاب، فهذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف؟ وأين مجالها الصحيح؟ وكيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ليصل إلى غاية محددة ومعروفة؟ إن طاقات الشباب اليوم إما أنها مستنفدة في أمور تافهة وضائعة، وكم يُستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال! وكم من حماسة وقوة وصراع وتعصب وقدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة! وإما أنها مستنفدة في جوانب أخرى أيضاً ليست في الاستثمار الصحيح، والرياضة جيدة، والتشجيع في أصله ليس شيئاً مذموماً، لكن هذه المبالغات تصل في آخر الأمر إلى أنها لا تقنع، وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر.
وأيضاً هناك غياب وقلة وندرة في المحاضن الاستيعابية لهؤلاء الشباب وحماستهم.(97/24)
الحماسة المعتدلة هي المطلوبة
ولعلي أصل إلى نقطة أخيرة مهمة، فكما قلنا: لا للتهوين نقول: لا للمتهورين.
وقد تتساءل: ما الذي تريد؟ وأين سنصل ونحن ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها؟ وهنا نكمل بالشق الثاني من عنوانها، ونقف هذه الوقفة الأخيرة في حماسة الأكياس، والمقصود بالأكياس ذوو العقول، وهنا نكون قد جمعنا بين الأمرين.
والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي هو بطبيعته حيوي، والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان كثيرة، ففي الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان، ثم هو بعد ذلك يكون خاملاً وقاعداً وكسولاً! هذا لا يتطابق، لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت هي الحماسة الإيجابية التي نمدحها ونريدها، وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة، فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصفاً لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة، وكما ذكر الحسن البنا في كلمات جميلة يقول فيها: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة.
وهذه كلمات جميلة تبين أننا نحتاج إلى المزج، فذلك العقل الذي دائماً هو منطوٍ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها، وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض قيود العقل حتى يرشدها، فذلك التعقل والاتزان مهم جداً، فالاتزان لا يعرف طغيان جانب على جانب، كما في قصة سلمان وأبي الدرداء، فإنه لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء فقالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا، وإنما هو صائم نهاره قائم ليله.
فنزل ضيفاً عليه، فأراد أبو الدرداء أن يصلي فقال له سلمان: لا.
وكان صائماً فقدم لـ سلمان الطعام فقال: كل معي.
قال: أنا صائم.
قال: افطر.
وجعله يفطر، ثم لما جاء الليل أراد أن يصلي، فقال: نم.
ثم قال: أريد أن أصلي.
قال: نم.
حتى إذا كان نصف الليل قال: قم فصل.
ثم جادله في ذلك، فلما بلغ الأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقاً، وإن لزورك -أي: ضيوفك- عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه).
وهناك موقف أيضاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه لما كان في فترة خلافته بدأ بعض المرجفين يشيعون انتقادات على عثمان رضي الله عنه، فلما جاء موسم الحج جمع عثمان جمعاً من خيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقال عنه، فقال: (لأقومن في الناس مقاماً لا أدع شاردة ولا واردة إلا أتيت عليها) يريد أن يبين للناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: (يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس، ورب كلمة يطيرها عنك مطير).
فتتلقاها عقول لا تستوعب تلك القضايا، وإذا بها بعد ذلك تطيش، وهذا يأخذها يمنة وذاك يأخذها يسرة، وهذا يفهمها على وجه، وذاك يفهمها على وجه آخر.
والكلام في موضعه جعله الشاطبي رحمه الله من السنة، وجعل الكلام في غير موضعه من البدع، كما ذكر ذلك في (الاعتصام)، واستدل بقول علي رضي الله عنه عند البخاري: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟).
وهكذا حديث ابن مسعود في صحيح مسلم قال: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهذا أمر واضح.
وفي الحديبية وقع موقف كبير للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لما أراد أن يكتب الصلح قال: (أكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل بن عمرو: لو كنا نعرف أنك رسول الله ما جادلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا.
ما نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب: باسمك اللهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي بن أبي طالب: (اكتب) وعلي غير مستسيغ لهذا، أي: لا يرى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع فهماً وعقلاً أن يدع هذه الصغيرة من الأمور، فقال صلى الله عليه وسلم: (امحها)، فقال علي: لا والله لا أمحوها.
فمسحها رسول الله بيده، وفي بعض الروايات: (بنفسه)، وكأنه يقول لـ علي: اكتب ودعك من هذه القضية الصغيرة؛ فإن هناك ما هو أكبر منها، ولا تقف عند هذه المسألة وتعطها أكبر من حجمها، وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية، فتقيم فيها معركة ضخمة هائلة.
كما نرى من بعض الشباب عندما ينكرون أمراً ليس من الشرع ولا سنة من السنن، حيث يجعلون النكير عليها كأنها أصل الدين كله، وربما جعلوا من ذلك ما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير، إلى غير ذلك مما نريد أن ننبه الناس إليه.
ثم أقول: لابد من الضبط والإحكام لمعالجة مثل هذه القضايا، وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جداً، ولعلنا نستحضر مثالاً واحداً: ففي بيعة العقبة قبل أن يبايع الصحابة رضوان الله عليهم جاء أبو الهيثم بن التيهان -وقبل غيره- فقال: اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود، فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن، أراد أن ينبئهم ويحذرهم، فبايعوه، فقال العباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنه: يا رسول الله! لو شئت أن نميل على أهل هذا الوادي ميلة واحدة لفعلنا.
أي: على أهل منى؛ لأن هذا الكلام كان في الفترة المكية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نؤمر بذلك).
ولما جاءه خباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى قال: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض ثم يوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فينشر نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه! ما يصده ذلك عن دينه.
ثم قال: والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).(97/25)
أهمية التدرج والاستثمار لعاطفة الحماسة
لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا سنحصل أكثر مما نحصل عليه بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان، ومن أحسن الأمثلة في هذا قصة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فإنه لما تولى أبوه الخلافة كان عند الخلافة ورعاً وزاهداً، وكان يأخذ بالجد في الأمور، فجاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول: كيف تلقى الله عز وجل بمثل كذا وكذا؟ فقال له: ألا ترضى ألا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة؟ ذاك الشاب يريد أن تكون كلها في يوم واحد، ولكن أباه لحكمته -وأيضاً لقوة إيمانه وحماسته- كان يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب.
وهكذا ما كان من شأن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة، حيث طاف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم، والرسول يطوف بها بعد صلح الحديبية ولم يشتمها، ولم يتعرض لها أبداً؛ لأن هذا له مجال آخر، وبعد عام واحد فقط عند أن جاء لفتح مكة جاء ومعه محجنه عليه الصلاة والسلام، فجعل يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى، ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
فكل شيء بأوانه، والإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير، ويستعين بالله عز وجل ويستخير، وأما التعجل فلا ينبغي أن يكون.
وأيضاً الدوام والاستمرار هو طبيعة ذلك التدرج، فخير الأعمال أدومها وإن قل، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل ما داوم صاحبه عليه، ولكي نحافظ على هذه الحماسة وتأتينا ثمرتها فنحن لا نريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة، وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر.
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما كان له صاحب من الأنصار، قال: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نطلب العلم.
فقال له: ومن ينظر إليك يـ ابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان؟ قال: فانطلقت وتركته، وبدأت أتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذ عنهم).
وتدرج رضي الله عنه حتى أصبح بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن، فرضي الله عنه وأرضاه.
وفي الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى حبلاً متدلياً فقال: (ما هذا؟ قالوا: حبل لـ زينب تصلي فإذا تعبت تعلقت به.
قال: مه! عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا تعب فليرقد)، فخذ أمراً تستطيع أن تواصل فيه؛ فإن هذا من الأمور المهمة، وينتج عن هذا أننا لو أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر، وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي.(97/26)
أهمية ربط الحماسة بالكياسة
ولعلنا نختم ونقول: إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة، ونحن نقول: لا للتهجين والترويض.
ولكننا أيضاً نقول: لا للإثارة والتهييج، وإنما نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية وبعكسه إيجابياً علماً بالشرع، وبصراً بالواقع، وصبراً في المعالجة، وعدالة في المواقف، وأناة في الممارسة، والله سبحانه وتعالى قال: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].
أكتفي بهذه الومضات، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العالمين بديننا البصيرين بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا النهج القويم والصراط المستقيم، وأن يثبتنا على الحق ويتوفانا عليه.(97/27)
الأسئلة(97/28)
أهمية التدرج في الإعداد لمواجهة الأعداء
السؤال
كيف تطالب الشباب بالاتزان ونحن نعيش في عصر تكالب علينا فيه الأعداء من كل جانب، وأعراضنا تنتهك في كل أرض، وآباؤنا وإخواننا يقتلون في كل أرض، فكيف السبيل إلى هذه الكياسة وهذا الاتزان؟!
الجواب
ما ذكر لم يحصل في عشية وضحاها، ولم يتوصل إليه في يوم وليلة، وبالتالي فإن مقاومته وتغييره من باب أولى، ولم يكن كذلك في غمضة عين ولا في لحظة سريعة من الزمن، والنبي عليه الصلاة والسلام ظل يدعو في مكة ثلاثة عشر عاماً لم تتهيأ له الفرصة ليقيم الدولة، ولا ليعلن أو ليقيم الشعائر، ومع ذلك كان ينظر إلى المدى الأبعد، وخرج من مكة فالتمس أنصاراً في الطائف فلم يجد، فهاجر إلى المدينة، وصنع ما صنع عليه الصلاة والسلام، ثم رجع فاتحاً مكة وما بعد مكة.
ولا شك أن في نفوس الشباب إحباطاً وأن ما يتعرض له المسلمون ليس بالهين، ولكنني أقول: إذا أخذنا بحماسة غير منضبطة وغير متزنة فما الذي سيحصل؟ ألسنا نريد أن نغير هذا الواقع من هزيمة إلى نصر ومن ضعف إلى قوة ومن فرقة إلى وحدة؟ إن كانت هذه الحماسة ستحقق ذلك فلنكن جميعاً كذلك، وإن كانت هذه الحماسة على صورتها التي صورناها لن تحقق هذه الغايات وستكون سبباً إلى مزيد من ذلك الضعف والهوان والهزائم فلا شك أن الحماسة نفسها -فضلاً عن العقل- تدعو إلى أن تضبط هذه العواطف، ولا ينبغي أن توأد، ولا ينبغي أن نضيق عليها بحيث ترتد إلى عكس ذلك، فتعود خنوعاً وخمولاً وركوداً إلى الأرض أو انصرافاً إلى الشهوات والملذات أو تنفيساً لتلك الطاقات في مجالات تافهة وعارضة، ولذلك نحن في امتحان صعب؛ لأننا لا نريد أن نطلق هذه الحماسة، ونريد أيضاً أن نبقي عليها، ومن هنا لابد من أن توسع دائرة استثمار هذه الحماسة، فحاسب نفسك وأصلحها، وزد علمك وأكثر عبادتك، وقو عزيمتك، وأتقن دورك ومهمتك، وادع غيرك، واعمل وتحرك حتى لا تكون طاقتك مكبوتة وحماستك موءودة، وبالتالي تخرج ولا تنفع فيك الجدوى أو تنصرف إلى غيرها.
لذلك نحن نقول: طريق الألف يبدأ من خطوة واحدة، كما قيل: من لي بمثل سيرك المدلل تمشي الهوينى وتجي في الأول وأعداؤنا لا يحاربوننا بهذه الاندفاعات فقط، وإن كنا رأيناها في هذه الصور، لكن أقول: نحتاج إلى أن ندرك هذه الحقائق، ونعرف كيف ضبطها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة والمسلمون في كثير من فترات التاريخ التي مرت بهم، وبعضها فترات ليست بعيدة عن فتراتنا هذه، وإن كانت هذه الفترات تتصور على أنها من أشد الفترات على أمة الإسلام، لكن أقول: استطاع المسلمون بفضل من الله عز وجل أن يلتزموا التزاماً صحيحاً، وأن يُكونوا جسداً واعياً بحقيقة واقعه، ونحن في يقين جازم بأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للمسلمين، ولكن لهذا النصر عربونه ومطالبه وواجباته ومستحقاته لابد من أن نبذلها، وإن كنا عاجزين عن أن نضبط أنفسنا أو أن نضحي بوقتنا أو بجهدنا أو بمالنا فلن نضحي بما هو وراء ذلك من أرواحنا، وليست القضية هي التضحية بالأرواح بذاتها، وإنما بما يترتب عليها من المصلحة في النكاية بالأعداء وتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، وهذا أمره واضح وبين، فنسأل الله عز وجل أن يعين؛ لأن المسألة فيها صعوبة شديدة.(97/29)
الإصلاح والدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء مسئولية الجميع
السؤال
هل على العلماء من مسئولية لأنهم انزووا فاضطر الشباب إلى أن يأخذ بزمام المبادرة؟ وهل من كلمة لتذكير العلماء بواجبهم في النزول إلى الشباب لمناقشتهم ومحاورتهم؟
الجواب
هذه مسألة جيدة، وقبل أن أعلق عليها أريد أن أجيب بإجابة لا تعجب في الغالب، ولكن لي فيها مقصد أن يلتفت نظرنا إلى هذا المعنى.
أريد أن أقول: لنجعل دائماً الجمع بين أمرين: إذا وجهنا التهم والتقصير للآخرين فلنكن أيضاً على نفس القدر من القوة والصرامة والصراحة في نقد أنفسنا واكتشاف قصورنا ومطالبة أنفسنا بما نطالب به غيرنا؛ لأن مسئوليتنا عن أنفسنا ودورنا ومن هم تحت أيدينا أكبر وأبلغ وأعظم، وإذا لم نؤدها فلا يعني ذلك أن لا نذكر نقصاً وخللاً عند غيرنا، لكن نحن -إلى حدٍّ ما- قد تعودنا -بل ربما أقول: إننا تخصصنا وأبدعنا- توزيع التهم على الآخرين وعدم الالتفات إلى حالنا نحن.
كما في حديث أبي هريرة: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه).
وقبل أن أعلق على هذا أحب أن أقول: لنكن صرحاء مع أنفسنا، فنحن من أسباب بلاء هذه الأمة بما عندنا من تقصير، وبما نرتكب من مخالفات، وبما يقع منا من منكرات، فلو كل منا كان عنده صراحة مع نفسه لا نحسم جزء من الداء، ومع ذلك لا يعني هذا أن الحكام والأمراء أو الدعاة أو العلماء ليسوا مقصرين، لكن نقول: خذ ما تستطيع من ذلك، واهتم بأمرك، وليكن سعيك في ذلك أيضاً بما هو واجب عليك.
أما دور العلماء فلا شك أنه دور أساسي مهم، وأن التقصير فيه وغيابه الجزئي أو النسبي -خاصة في أوساط الشباب- كان له أثر كبير في كون العلم والبصيرة والحكمة لم تكن جرعتها بالقدر الكافي؛ حيث إن تلك الحماسة والعاطفة لم تقابلها تلك الصدور الرحبة والعقول الواعية والأيدي الحانية التي تستطيع أن تضبط العقل، وأن تؤثر أيضاً في حماس النفس، وأن تدل على الدرب وعلى الطريق، ولذلك أقول -والله أعلم-: إن هذا هو جزء من القصور في مجتمعاتنا وفي أمتنا الإسلامية بوجه عام، ولا شك أيضاً أن هذا جزء مما سعى إليه أعداؤنا، لكن أعداءنا من البديهي أنهم يواجهوننا ويحاربوننا، ولن نتوقع من الأعداء أن يعينوننا أو أن يخلصوا لنا النصح.
وأقول أيضاً: قد نكون نحن مقصرين، فلمَ لا نطلب من هؤلاء الدعاة؟ ولمَ لا نخاطب أولئك العلماء؟ ولم -أيضاً- لا يكون لنا بكمال الرشد وحسن الأدب والتزام الشرع دور في أن نصلح هذا الجانب فيما مضى أنه مفيد؟ ولا شك -في الحقيقة- أن الحاجة تتزايد بشكل ملح، وأن الصورة تظهر بشكل واضح في أن هذه الشقة وهذا البعد وهذه الفجوة إن لم يكن هناك مبادرة جادة وإيجابية ومنهجية وحقيقية واقعية وليست شكلية وظاهرية فسوف تزداد هذه المشكلة تفاقماً، ولعلنا -إن شاء الله- نؤمل مع كل ما يجد من أحداث في أمتنا أن هذه الأحداث لها أثر في إيقاظ الجميع وتحريك الجميع للقيام بأدوارهم المنشودة والمطلوبة، ولعلنا نأمل في الله عز وجل وفيما يجري بقضاء الله أن يكون فيه خير يقودنا إلى إصلاح هذه الأوضاع في سائر الميادين والجوانب كلها إن شاء الله.(97/30)
أهمية الاعتدال في جميع الأمور
السؤال
الإحباط الذي أصاب الناس بسبب الأوضاع قادهم إما إلى التهور أو إلى اللامبالاة، فما هو توجيهكم؟
الجواب
ليس هناك حل سحري أو وصفات من الدواء تأخذها ثلاث مرات في اليوم أو كذا؛ لأن هذا كان له فترة طويلة، ويحتاج كذلك إلى فترة طويلة، وإن كان هذا السؤال ربما يسأله بعض الشباب، فأنا أقول من تجربتي وأنا أمارس الإمامة والخطابة أكثر من عشرين عاماً: إن الذي يلقاه الشباب هو أقل مما يلقاه من هو في غير هذا، ففي كل مرة يأتيني ناس صغار وكبار، فأحدهم عندما يسمع كلاماً في الخطبة يقول: لماذا نسمع؟! وكيف يكون هذا؟! ولماذا لا يكون كذا؟ وهذه في الحقيقة أمور محرجة، ولذلك أقول: لابد أن تتوسع وتتنوع آفاق ترجمة هذه الحماسة والطاقات إلى ميادين عمل حقيقي، وإذا لم يكن ذلك كذلك فلابد أن نتوقع هذين الأمرين: إما لا مبالاة أو انصراف إلى الطرف والتلف والسفه وأي شيء آخر، وكذلك الجهة الأخرى، وهي جهة الذين تضيق صدورهم ويخرجون عن طورهم، ويفقدون رشدهم، وأحسب أن هذا الواقع أراد الله فيه بعض هذه الضرائب التي لابد أن نصرفها من هذا التيار ومن هذا التيار، ولكن إن كنا نحن -بإذن الله عز وجل- على وعي وبصيرة فلعلنا نغلب السواد الأعظم ليكون في مسار صحيح يعمل وينوع هذه الأعمال، ويدخل في الميادين المختلفة، ويأخذ إشارة بشعرة معاوية كما هو معروف، ويشتد في بعض المواطن ويسرع السير في بعض المواطن، وإذا وجد أموراً أخرى هدأ، وإذا وجد فرجة أسرع، وإذا وجد زحاماً توقف، بأسلوب من المداراة والحكمة لا يفتقد فيه الإنسان مقاصده وغاياته الشرعية، ولا يلين في مواقفه ومبادئه الإيمانية، ولا يضعف أيضاً من حماسته النفسية، ولكنه يراعي المصلحة الشرعية والسياسة الشرعية التي تدرأ المفاسد وتحصل المصالح بإذن الله عز وجل.(97/31)
أهمية الجد في الإنتاج والإبداع
السؤال
أعمل أستاذاً في الجامعة وألمس -كما يلمس غيري من الأساتذة- ضعف همة شريحة كبيرة من الطلاب في التحصيل العلمي والجد والاجتهاد والحصول على العلم، أو على الأقل في الحصول على الشهادة العلمية التي يبتغيها، فما هو تعليقكم ونصيحتكم؟
الجواب
ليتنا نكون صرحاء مع أنفسنا، فبعض الشباب الذي يقفز هنا وهناك ويتكلم في هذا الموضوع وذاك تجده -كما يقولون- بيته من زجاج.
فمن مهمة الطالب أن يكون جيداً في دراسته متفوقاً فيها؛ لأنه في مهنته طالب، ومفترض أنه في كل سنة يتخصص في جانب، ثم إذا به يفشل في هذا الجانب، فأنا أعتبر أن هذا نوع من الضياع والخسارة، ونوع من الاختلال في بناء الشخصية، فالذي يريد أن يكون جاداً في أخذه والتزامه بدينه وجاداً في نصحه وإصلاحه أوضاع أمته وجاداً في مواجهته ومجابهته لأعدائه لابد من أن يكون جاداً في واجبه الذاتي ومهمته الشخصية، فالمرآة التي أمامنا إذا نظرنا إليها نرى فيها صورة أنفسنا كما هي، فإن كانت الصورة فيها سوء أو نحوه فإننا نستفيد من المرآة أنها تكشف لنا الخطأ فنصلحه، لكن نحن نتصرف تصرف الحمقى، إذا وجدنا في المرآة خطأً وتلوثاً في الثياب أو نحوه نغضب ونكسر هذه المرآة، وما ذنبها إلا أنها أرتنا حقيقتنا، فنحن أحياناً لا نريد أن نعرف حقيقتنا، وإنما ننظر من طرق في جوانب بعيدة، والشباب يقع منهم ذلك كثيراً، وأما ما هو من واجبه ومهمته مباشرة فلا يتقنه أو لا يريد أن يجد فيه، ويهتم بجوانب أخرى ويشغل نفسه بها، ويغطي خلله وعيبه وعجزه في هذا الجانب بأنه منشغل بأمور أخرى، ولا أدعو -قطعاً- إلى أن يعتمد على قضية الدراسة فقط وكأنما هي دنياك وأخراك، لا، فما سمعنا اليوم من بعض المصطلحات التي تدرس في الجامعة أمر جيد، وهي جديدة علينا، لكن أقول: لابد هنا من الملازمة الجادة التي يحصل بها التفوق، وكثيراً ما رأينا أن المتفوقين والجادين في دراستهم هم أيضاً السابقون في ميادين كثيرة من الميادين الإيجابية الشبابية.
ومرة أخرى -وأنا أقول هذا كثيراً في الخطابة- أريد دائماً أن أكثر من الحديث المباشر الذي يتوجه لي ولك قبل أن يتوجه الحديث لغيرنا؛ لأننا إذا أكثرنا من هذا ربما وجدنا أننا نحتاج إلى بذل جهود أكثر مما نتكلم ومما ننتقد، وأيضاً حينما نتكلم مع الآخرين أو عن الآخرين سوف يكون كلامنا باتزان؛ لأننا لو طالبناهم بالكثير فنحن قد جربنا أننا لا نستطيع هذا الكثير ولا نتقنه، فنعذر الآخرين حينئذٍ.(97/32)
حكم التعصب لشخص أو لمذهب
السؤال
من الملاحظ في أوساط الشباب من آثار الحماسة التعصب لمذهب معين أو منهج معين وما يأتي تبعاً من تمسك بالرأي وتتبع للرخص في المسائل الشرعية، نرجو تبيين ذلك؟
الجواب
هذا سؤال طويل، ونحن عندنا من فضل الله عز وجل دين كامل وشريعة واضحة سمحاء، وعندنا علوم كاملة ليس في تاريخ الأمم مثلها في أصول الفقه وفي علوم الحديث وكيف نعرف الدليل وكيف نعرف صحته وكيف نستنبط منه، أما خبط العشواء فليس من منهجية الإسلام في شيء.
وأما المتابعة لأحد الناس فإن المعروف أنه ليس هناك عصمة لأحد من الخلق إلا لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وكل الأئمة نقل عنهم أنهم قالوا المقالة المشهورة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم قولي يخالف قول الحديث فأضربوا بقولي عرض الحائط.
وكفانا عاطفية، حتى في الجوانب الدينية لا ننساق وراء من أحسنا به الظن أو رأينا منه الخير؛ لأنه ليس هناك كامل ولا معصوم إلا من عصمه الله عز وجل وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي سير أسلافنا من هذا ما يضيق المقام عن ذكره.(97/33)
موقع الشيخ علي بادحدح على شبكة الإنترنت
السؤال
ما هو عنوان موقع الشيخ وبريده الإلكتروني؟
الجواب
موقع الشيخ هو: ESL
الجواب
MY
الجواب
T.
COM ، وفيه البريد الالكتروني.(97/34)
توجيه عام في بعض الأحداث
السؤال
هل من كلمة حول بعض الأحداث التي تحصل في البلاد؟
الجواب
هي أحداث جديدة، وأعتقد أن حديثنا الذي ذكرناه في الموضوع يبين الموقف من ذلك، وهو موضوع متفق على عنوانه ومضمونه، وإن كان الموضوع الدقيق في الحقيقة ينحصر في مسألتين أساسيتين فيهما من الناحية الشرعية تفصيلات كثيرة ومسائل دقيقة جداً، هذان الأمران والبابان العظيمان هما: باب الجهاد في سبيل الله عز وجل، وباب الصلة بولاة الأمر.
وليس هذا الباب ولا ذاك ولا أي باب من أبواب الشريعة الإسلامية يعتمد أو يتصل بقضية العاطفة أو ردود الأفعال، إنما المطلوب مرجعية شرعية نصية بقواعدها وأصولها وضوابطها.
وأقول: من جملة ما نعلم أن من أصول وقواعد هذا الدين أن ما يترتب على مثل هذه الأعمال من مفاسد ومضار أكبر من المصالح التي تحققها، فضلاً عن أن تنزيل الدليل الشرعي على الحدث الواقعي أقل ما يقال فيه: إنه من المسائل التي فيها خلاف كبير، ولا يصح ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يستقل بنا الاجتهاد في هذه المسائل الضخمة، وكثير من الناس ليس لهم خبرة ومعرفة بالعلم والرسوخ فيه، ثم يكون لهم اجتهادهم المطلق ورأيهم المفرد وتطبيقهم لهذا الاجتهاد! هذه قضية خطيرة ودقيقة.
وقلت: هما بابان فيهما من المسائل الشرعية الدقيقة ما يحتاج إلى أن يكون القول فيه لأهل العلم مع اجتماعهم واتفاق آرائهم؛ لأن المسألة لا تتعلق بنص وظاهر معناه، وإنما بما وراء ذلك من قواعد وترجيحات، ومن معرفة بالواقع وأمور كثيرة، ولعلنا ندرك أن المخاطر التي تحيط بأمتنا أكثر من أن نجعل هذه المعاني والمسائل والأحداث تفرط العقد وتعيق الانطلاق وتتيح الفرصة للأعداء لأن يكون لهم المزيد من المآخذ والمداخل التي يحاولون من خلالها أن يسيئوا إلى أمتنا ومجتمعاتنا وبلادنا.
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا من زيغ الآراء وفتنة الأهواء، وأن يعصمنا بعصمة كتابه، وأن يلزمنا هدي رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.(97/35)
شموس الخيرات وظلم العثرات
لقد تطاول كثير من الناس -وخاصة أمراض القلوب- في أعراض المسلمين بألسنتهم، والأدهى والأمر أن يقع هذا الفعل ممن انتسبوا إلى العلم، فتصدروا المجالس ورموا العلماء وطلاب العلم بالنقائص، ولبسوا الأمر باسم الدين، والذب عن حمى السنة، وما وقع ذلك إلا بسبب سوء فهم، ونقص علم، وقلة فقه، وعدم إدراك لقواعد وضوابط الجرح والتعديل، وعدم النظر إلى سير السلف وإنصافهم للعلماء.(98/1)
مسائل ينبغي التنبه لها
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، الحمد لله على ما شرح به الصدور من الإسلام، وعلى ما طمأن به القلوب من الإيمان، وعلى ما لفظ به الألسنة من القرآن، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! وبعد: أحييكم بتحية الإسلام الطيبة المباركة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأبدأ بشكر لجنة التوعية على ما هيأت من هذا اللقاء، وأبشكر الحاضرين على ما أسرفوا من حسن الظن، سائلاً الله سبحانه وتعالى في أول الأمر وفي مبتدأ القول أن يرزقنا الإخلاص في الأعمال، والصدق في الأقوال، والحسن في الأحوال، والنجاة عند المرجع والمآل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(98/2)
الرجوع إلى المنبع الصافي في العلم
من المهم في بداية هذا الحديث أن نبدأ بذكر مضمون هذا الموضوع؛ لأنه ربما لا يستشف من عنوانه المضمون الواضح الذي يرتسم في ذهن السامع أو في ذهن القارئ ابتداءً، وأحب أن أضرب لذلك مثلاً يجعله إن شاء الله مدخلاً إلى الحديث عن مضمون هذا الموضوع.
لو تصورنا إنساناً بلغ به العطش غايته، وليس له من شراب ولا غيره أمداً طويلاً، فلنتصور حالته إذا أقبل على واحة أو على نبع من الماء، لا شك أنه يندفع اندفاعاً قوياً ويعب من الماء عباً، وهو يقصد في ذلك خير نفسه وصلاحها، ولكنه ربما لا يلتفت حينئذ إلى ما على هذا الماء، وما جاء إليه، وما اختلط به من بعض الأكدار التي جاءت من خارجه، وربما أيضاً أسرف في شربه بما قد يضره مع أن قصده المنفعة.
ولو أنه تروى قليلاً، فأزاح ما قد يكون من الماء من الشوائب أو الأخلاط، أو عمد إلى منبع الماء الصافي، فأخذ قدر حاجته شيئاً فشيئاً لكان ذلك أصح له وأنفع له بإذن الله سبحانه وتعالى ولا شك.
في الفترة الماضية من الزمان هاجت رياح التغريب، وجنح كثير من الناس في مزالق الشيطان، وأهواء النفوس، وضلالات العقل، وكثر البعد عن دين الله سبحانه وتعالى، ثم يسر الله سبحانه وتعالى هذه الصحوة المباركة التي نشاهد فيها الإقبال العظيم على الخير، والرغبة الجامحة في الاستزداة والاستفادة، والحمية والغيرة القوية على هذا الدين، وهذه كلها مقاصد حسنة، لكن كما أقبل العطشان، ربما لم يلحظ شيئاً من الأكدار، وربما أخذ بمقدار أكثر من الحاجة، وربما يقع له في مثل هذه الحال ما يقع لذلك الرجل.
هذا هو مدخل موضوعنا، أن نحاول أن نرجع إلى النبع الصافي، وأن نحاول أن نستوضح من كلام الأئمة والعلماء ما يبين بعض مواطن الخلل التي قد نقع فيها، وبعض مواطن الزلل التي قد تزل الأقدام فيها، وهذا يتعلق بالذات بالأكثر وروداً، والأكثر تداولاً، وهو ما يتعلق بالتقويم والنصح والإرشاد، أو بالدفاع عن الدين والذب عن حياض الإسلام، فإنه ربما كان في مثل هذا الأمر ما يقع فيه الخلل، حتى قد يسرف الناقد فيأتي بما لا ينبغي، وبما لا يجدي، وقد يسرف أيضاً المتغاضي فيتهاون فيما لا ينبغي وفيما لا يجدي.
وبالجملة: فإن مسألة التقويم ومسألة النقد والتصويب والتخطئة لا شك أنها من أدق المسالك ومن أصعبها، ومن أكثر المسالك التي قد يرد الخطأ فيها، ومن هنا فإنا أحببنا أن نبين بإذن الله سبحانه وتعالى ما ينبغي في مثل هذا الأمر من القواعد والضوابط، ومن الاسترشاد بالآيات والأحاديث، ومن ضرب الأمثلة من واقع تطبيقات الأئمة الموثوقين والمتبوعين والمرضيين من سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الخير له نور، وإن للطاعة حلاوة، ونجد لصاحب تصويباً وتوفيقاً من الله سبحانه وتعالى يوقعه على الصواب، ويجنبه الخطأ والزلل في غالب الأمر، كما أن للمعصية ظلمة وسواداً في القلب، وربما تورث فساداً في الرأي، وخطأً في العمل؛ لأن لذلك آثار، ولذلك آثار وبهذا قضت سنة الله سبحانه وتعالى، ولكن الخير إذا كثر وكثرت أنواره فإن قليل الظلام من العثرات يعفى، بل قد يعم النور فلا يظهر لتلك العثرات أثر إلا لمن نقر وبحث في هذه العثرات، ومن هنا فإن حديثنا وموضوعنا هو فيما يتعلق بهذا الجانب المهم والخطير، الذي ربما يكثر مساحة الاختلاف والتنابز، أو التنافر، فعلينا أن نسعى جاهدين إلى قصد الحق، ورؤية ميزان العدل في مثل هذا الأمر، فنسأل الله جل وعلا الإعانة والتوفيق، وهو سبحانه وتعالى ولي هذه الأمور، وما يكون للإنسان فيها إن شاء الله من توفيق فمن الله، وما يكون من خطأ فمن الشيطان أو من نفس الإنسان، ومن إحسان ظن الناس به أن يلتمسوا له عذراً.(98/3)
لا عصمة لأحد من الخلق غير الأنبياء
أول قضية مسلمة عند الجميع أنه لا عصمة لأحد من أهل الحق أبداً إلا للأنبياء والمرسلين، وأن الخطأ يجوز على بقية البشر من صغير أو كبير أو من جاهل أو عالم أو من تابع أو متبوع، بل هو محتم الوقوع، فينبغي أن نعلم ابتداءً هذه القضية، وأن نعلم أيضاً قضية أخرى لازمة لها، وهي أن منشأ وجود الخطأ إنما هو حكمة الله سبحانه وتعالى، وسنته في تباين الفهوم، واختلاف مدارك العقول، ويجوز في الدين الاجتهاد في كثير من المسائل التي يحتاج إليها، فلا عصمة لأحد، وهذه الأخطاء غالبها يقع بالاجتهاد الذي هو سائغ في هذا الدين، وله ما يؤسسه ويبينه، قال الشاعر: سامح أخاك إذا خلط منه الإساءة بالغلط من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط فجميع الناس -غير الرسل والأنبياء- لا يسلم أحدهم من نوع خطأ أو قليل هفوة أو بعض زلة يقع فيها، لكنها تغتفر في كثير حسناته، ويلتمس له فيها العذر؛ لأنه سار فيها وفق نهج الدين بالاجتهاد السائغ وفق شروطه، والله سبحانه وتعالى بين هذه الحكمة بقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] أي: في موارد الاجتهاد، وكذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم يبين ذلك فيقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فهو في كلا الحالين مأجور، سواء أصاب أو أخطأ، لكن الأجر لا يتعلق بالإصابة والخطأ، وإنما يتعلق بالقصد الذي في قلبه، والنية التي بين جنبيه في أنه أراد إصابة الحق، وموافقة أمر الله سبحانه وتعالى، وسعى إلى قصد ما يحصل له به الثواب والأجر ورضا الله جل وعلا، وما يتجنب به من الوزر والإثم وسخط المولى سبحانه وتعالى.
وهذا الموضوع طويل، والنقول فيه كثيرة، وما يسر الله لي جمعه قليل من كثير، وما سيقال لكم مما جمع قليل منه، فلعل هذا القليل من القليل يكون فيه إشارة إلى ما وراءه، ويكون مؤسساً إن شاء الله لما نهدف إليه من التبصير بهذا الأمر.(98/4)
ليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه
الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فهذه الآية نأخذ منها أن كل أمر من قدح أو تزكية ينبغي فيه التبين والتثبت، لا التعجل والتسرع الذي قد يفقد الدقة في تصويب الأمر أو تخطئته.
ونجد أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبصرنا في إطار عام إلى بعض الأمور والقواعد التي توضح مسار هذا الأمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (من ستر على مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة) وهو جزء من حديث طويل في الصحيح، فليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه، وليس كل زلة ينبغي نشرها وإذاعتها، وإلا لم يكن لهذا الحديث معنى عملياً ولا تطبيقياً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المدح، وعقب عليه بثبوت الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولذلك شواهد يأتي ذكرها.
ثم إن قصد التنبيه والتبيين لا يقتضي بالضرورة التشهير والتوبيخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه كان إذا رأى أو سمع ما لا ينبغي أو ما ليس بصواب يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا كذا؟ ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟) فيحصل المقصود الأعظم -وهو بيان الخطأ والتنبيه من الوقوع فيه- مع تجنب التجريح، ومع تجنب ما قد يكون فيه نوع جرأة على حرمة المسلم، ونوع توغير للصدور، ونوع منافرة بين القلوب، ونوع تفرق في الصفوف، مما قد تكون آثاره أعظم وأخطر من هذه الزلة التي تم التنبيه عليها أو التشهير بصاحبها إذا صح التعبير.
ونجد في هذا أحاديث وتطبيقات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: الحديث المعلوم في الصحيحين في قصة ماعز الأسلمي الذي زنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلوم أنه جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام معترفاً بزناه يقول: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً، وفي الرابعة رأى إصراره على الاعتراف فلم يبادره رغم تكرره منه، وإنما قال له ملقناً له للحجة التي قد يدرأ بها الحد عن نفسه، ويبصره بأنه ربما لم يفهم ما يوجب عليه الحد، فقال له: (لعلك قبلت أو لعلك فاخذت، فقال له: لا يا رسول الله!) حتى في الرواية التي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح باللفظ الصريح في معنى الجماع! فلما حصل كل هذا من الاعتراف أربع مرات ثم تعيين الفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) لأنه يكون مسقطاً للحد عنه، ثم بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنكهوه)، يعني: شموا رائحته لعله يكون قد شرب خمراً خالط عقله فلم يدر ما يقول، (فاستنكهوه، فقالوا: ليس به شيء يا رسول الله، فحينئذ أمر به فرجم)، وفي بعض روايات مسلم أنه لما رجم هرب من شدة الرجم لكنهم لحقوه ورجموه حتى مات، فورد في بعض الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلا تركتموه؟) قال بعض الشراح: أي: لعله يتوب ويرجع، فهذا يبين لنا عظيم ما ينبغي من الستر على المسلم.
وفي رواية أنه جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فاعترف بالزنا فقال له: (استر على نفسك وقد ستر الله عليك)، فلم يكن منه تشهير، بل حتى لم يكن منه إبلاغ للحاكم أو الإمام، لأنه داخل في مفهوم الستر متى ما تحصل المقصود، وهو وقوع الندم، وصدق التذلل لله سبحانه وتعالى، وعظيم الإخلاص في قصد التخلص من آثار هذا الذنب ولو بإقامة الحد الذي فيه إزهاق النفس، ثم إنه ذهب إلى عمر فقال له مثل ما قال له أبو بكر إنه ذهب إلى هزال فأخبره؛ فقال له: اذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقيم عليك الحد، فجاء في الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ هزال: (هلا سترته بردائك؟) وهذا يبين لنا أن الستر مطلوب، ما دام أنه لا يكون فيه الضرر العام الذي تحصل به الفتنة، والذي يستلزم الوضوح وتبيين الأمر، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترفاً على النحو الذي أشرنا إليه أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الحد تنفيذاً لحكم الله سبحانه وتعالى، وبياناً لقضية أن الحد إذا بلغ الإمام فلا بد أن يقام.
وكذلك قصة الغامدية نحوها، مما يبين لنا أن الأمر إذا كان يحتمل الستر، ومما لا يشيع أثره، ولا يعم ضرره؛ فإنه يكون الستر أولى، مع تقديم النصح والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أنه لا يقر بالذنب، ولا يفضح أحد نفسه عند غيره إلا وقد حصل له من حرارة لسع أثر الذنب ومن حرارة قصد إرادة التوبة ما يحصل به المراد من إقامة الحد، وهو الرجوع إلى الصواب، والتطهير من الذنب.(98/5)
من قلت أخطاؤه غمرت في بحار حسناته
نمر ونعرج من خلال نصوص السنة النبوية المشرفة على قضية أخرى وهي: أن كثرة الخير تغمر وتغطي قليل الخطأ والزلل، بل ربما كان للخير الأعظم والأكبر ما يغفر زللاً قد سبق، وزللاً قد مضى، ولذلك شواهد عظيمة في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الأول: ما جرى من أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما أرسل إلى أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتحها، وأخبر الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فأرسل علياً ومعه نفر من الصحابة وقال لهم: اذهبوا إلى روضة خاخ فإنكم تجدون امرأة معها كتاب فخذوه، فذهبوا فلما وجدوا المرأة أخذوا الكتاب قبل أن تصل به، وعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاطب في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بالظنة رغم وضوح الفعل، ورغم صراحة وثبوت القضية -كما يقولون- بالأدلة المادية المحسوسة، ولكنه قال له عليه الصلاة والسلام مبيناً منهجاً عظيماً: (ما حملك على ما فعلت؟) ليبدي عذره، وليبين تأوله أو اجتهاده، أو ليعترف ويقر بذنبه، فقال ما معناه: إنه مؤمن بالله ورسوله، وأنه ما غير ولا بدل، ولكن الأمر أن له مالاً وأسرة، وليس له عند قريش من يحميهم، فأراد أن يجعل له يداً عندهم ينتفع بها، فحينئذ قام عمر رضي الله عنه بغيرته المعروفة، وبشدته الظاهرة المعلومة فقال: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا عمر! ما أدراك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؟ وقد كثرت أقوال الشراح لهذه المقالة وكلها تجمع على أن فضيلة التقدم في الإسلام، وشهود بدر، والمنافحة عن دين الله؛ كان لها الأثر أن تكون معفية لذنوب سبقت أو لذنوب تلحق، أو أنها تكون سبباً لصاحبها فلا يقع في العظائم، وربما يقع له بعض الهنات التي يغفرها الله سبحانه وتعالى له، وهكذا من كان له قدم صدق، ومزيد فضل، وغزير علم، وسابقة خير في الناس؛ ربما يكون له من الخير ما يعفي عنه أو ما يغطي عنه أو ما يقلل أثر الذنب القليل أو الخطأ اليسير بعون الله تعالى.
ومن ذلك حديث عند الترمذي حينما جهز عثمان جيش العسرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) وهذا شاهد على ما قلنا من قوله صلى الله عليه وسلم.
ما جاء في صحيح البخاري ومسلم أن رجلاً كان اسمه عبد الله ولقبه الحمار، وفي بعض الروايات لم يسم، وفي بعض الروايات أنه نعيمان أو ابن نعيمان، كان يؤتى به وقد شرب الخمر، ثم يجلد، ثم يؤتى به مرة أخرى، وتكرر منه ذلك كثيراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) وهذه قاعدة عظيمة أنه قد يجتمع حب الله ورسوله وثبوت الإيمان مع حصول الخطأ والمخالفة، وهذه من المزالق العظيمة التي وقع فيها الخوارج وغيرهم حينما كفروا مرتكب الكبيرة، ونفوا عنه اسم الإيمان، فهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عن رجل تكرر منه شرب الخمر، وحد فيه، أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن لعنه، قال العلماء: إن كان مراد لاعنه اللعن المعروف -وهو الطرد من رحمة الله- فلا شك أنه منهي عنه بالجملة؛ لأنه يكفره به، وقد يقصد بلعنه توبيخه أو التشنيع عليه كما يكون بين الناس عندما يلعن إنسان إنساناً ولا يقصد الحكم عليه بالطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات لهذا الحديث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) فإن مثل هذا الجرح أو مثل هذا السب أو مثل هذا التشنيع ربما يسبب أن الإنسان تأخذه العزة بالإثم فينجرف وراء الإصرار على المعصية، وقد كان يوشك أن يكون قريباً من حبل التوبة فيعتصم وينجو به بإذن الله سبحانه وتعالى.
وهذه مقالة نفيسة لـ أبي الدرداء رضي الله عنه، فإنه كان يقول: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ولكن كونوا عوناً لأخيكم على الشيطان)، وهذه مسألة من المسائل التي نستشفها من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه.
الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) والمقصود بذوي الهيئات الذين اشتهر فضلهم في الناس، والذين بزغ نجمهم في المجتمع، والذين كثر خيرهم، فإذا وقعت لهم عثرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أن تقال عثرتهم، وألا تكشف سوأتهم؛ لئلا يذهب كثير خيرهم في الناس، ولئلا تنعدم قدوتهم في كثير من الخير الذي هم عليه عند الناس، ونص الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) إلا ما كان موجباً للحد، فإذا بلغ الحد الحاكم فلا تقال مثل هذه العثرة، إلا ما كان في باب التعزيرات، أي: ما يكون موجباً للعقوبة دون الحد، فللحاكم -عندما يكون الواقع في هذا الأمر من ذوي الهيئات- أن يسقط عنه التعزير الذي هو مقدر من عند الحاكم أو القاضي، ولذلك قال الشافعي في ذلك: ذوو الهيئة من لم يظهر منه ريبة.
وقال العلماء في الاستنباط من الحديث: وفيه دليل على جواز ترك التعزير، وأنه غير واجب، يعني: لمن كان عليه هذا الأمر.
وقد روى الترمذي وضعفه بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) وهي قاعدة مقررة عند الفقهاء، وهي درء الحد ولو بشبهة، وهذا حديث من الأحاديث التي نستشهد ونستأنس بها في هذا الباب، وقد ذكر الماوردي في الحاوي الكبير في فقه الشافعية هذه القضية، وضرب لها أمثلة كثيرة.(98/6)
تجويز الكذب للإصلاح بين الناس
عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب -فإن الحرب خدعة-، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك) رواه الترمذي وأحمد.
وشاهدنا منه أنك في بعض الأحيان قد تلطف القول، وقد تسعى للإصلاح، فتقول ما ليس بواقع حقيقة، فتجد من ينتقد ذلك أو ربما يشنع على هذا الفعل؛ لأنه يرى فيه تجاوزاً، ويرى فيه بعداً عن الغيرة عن الدين، ونحو ذلك مما يتوهمه، وهذا ليس بصحيح، فإن سفيان بن عيينة قال تعليقاً على هذا الحديث: لو أن رجلاً اعتذر إلى رجل فحرف الكلام وحسنه ليرضيه بذلك لم يكن كاذباً، لماذا؟ قال: يتأول الحديث: (ليس الكذاب من أصلح بين الناس) فإصلاحه ما بينه وبين صاحبه أفضل من إصلاح ما بين الناس.
عمر رضي الله عنه وهو من نعلم شدته، ومن نعلم حرصه على إقامة الحق بكل وجه من الوجوه، روي أن رجلاً في عهد عمر قال لامرأته: نشدتك بالله هل تحبينني؟! قالت: أما إذ نشدتني بالله فلا، أي: ما دام المسألة فيها يمين وفيها قضية فاصلة فلا؛ لأنها لا تريد أن تكذب، فخرج حتى أتى عمر فأخبره، فأرسل إليها عمر فقال: أنت التي تقولين لزوجك: لا أحبك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! نشدني بالله، أفأكذب؟! قال: نعم فاكذبي، ليس كل البيوت تبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب.
هذا الموقف صح عن عمر وهو الشديد وهذا يبين لنا أثر المقاصد الحسنة في تجويز الكذب أحياناً، ما لم يكن في ذلك مخالفة لحكم صحيح أو تغيير لحكم من حل إلى حرمة أو نحو ذلك، فالمقصد الحسن يعفو عن قليل الكذب؛ ليصلح بين الناس، مع بيان الحق، والنصح للمسلمين.(98/7)
وجوب الذب عن عرض المسلم
روى أحمد وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله وأبي سهل الأنصاريين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته).
قد يمر بك الطعن فيمن له خير وفضل، وفيمن لا يكون هذا الأمر الذي وقع فيه موجباً للتشهير به؛ فيكون هذا الحديث شاهداً لك، ودليلاً لك إن انتصرت له، وذببت عن عرضه، وبينت ما يلزم من الستر، مع التنبيه على أن الخطأ لا يصوب بحال من الأحوال، وأن الحلال لا ينقلب حراماً بحال من الأحوال، والتنبيه يكون مع لزوم الأدب، ومع الحرص على هذا الأمر.
كان بين خالد بن الوليد وبين سعد بن أبي وقاص كلام، كما يحصل بين الناس عند الاختلاف، فتناول رجل خالداً عند سعد، أي: ذكره بأمر، ومعلوم أن المذكور خالد، والسامع سعد، فربما يظن الظان أنه قد يفرح بذلك أو يسكت عنه؛ لأن بينهما شيئاً من الخلاف، فقال سعد: إن الذي بيننا لم يبلغ ديننا.
فينبغي أن يكون الخلاف بيننا لا يؤدي إلى ما هو أبلغ منه وإلى ما هو أعظم منه في هذا الشأن.(98/8)
المسلم مرآة أخيه المسلم
حديث عظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، ويروى عن أبي هريرة موقوفاً، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: (المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيباً أصلحه) وأما الرواية المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه) ومعنى (المؤمن مرآة أخيه) أنه مقوم له ومصحح لمساره؛ لأن الإنسان إذا لبس ثوبه نظر في مرآته ليصحح من وضعه، وليرى خطأه في ذلك، ويرى في المرآة ليستكشف ما لا يحب الاطلاع عليه؛ لأن العين لا تبصر جبهته، ولا تبصر وجنته، فيستعين بهذه المرآة، ولا شك أنه يحتاج إليها، ويفتقر إليها، فلو تصورنا أن في المرآة غبشاً أو نوعاً من الضباب أو نوعاً من الغبار فما تراه يصنع؟ هل تراه يعمد إليها، فيكسرها فيفقد خيرها فلا ينتفع بها ألبتة أم تراه يتلطف بها ويمسح عنها غبارها، وينظفها بكل أسلوب حسن يستطيعه حتى ينتفع بها؟ إن كان فيها الغبار ولم يزله بقي عليها، وإن كسرها أو استغنى عنها لم يزل مفتقراً إليها؛ وكذلك الأمر ما بين المؤمن والمؤمن، ينبغي أن يكونا على مثل هذا الأمر.
هذه جملة يسيرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبئنا عن منطلقات مبدئية لولوجنا حول هذا الموضوع، وقد قال الله سبحانه وتعالى في أقسام الناس: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] فرجا الله سبحانه وتعالى العفو لمن خلط ذاك بذاك.
وقد عمم العلماء حديثاً من قاعدة فقهية تطبيقية إلى قاعدة معنوية في التقويم، وهو حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، ما معنى لم يحمل الخبث؟ قد يكون فيه خبث ولكنه لا يضره، وكذلك من غلبت محاسنه وكان فيه قليل خطأ؛ فإن قليل الخطأ لا يضره مع كون الخطأ يبقى خطأً، ولا يفهم من قولهم: (لا يضره) أنه ينقلب إلى صواب.(98/9)
قواعد وضوابط أسسها العلماء
من المنطلقات السابقة نأتي إلى لب القضية، وجوهر الموضوع، وهي بعض الضوابط والقواعد التي أسسها العلماء من الأئمة الفضلاء، والسلف الصالح رضوان الله عليهم، الذين جمعوا غزير العلم، مع وافر التقوى وجليل الورع، وكان لهم -ولا شك- تميز عن كل من جاء بعدهم رضوان الله عليهم، وكما أشرت دأبنا إن شاء الله الاختصار والتعريج على المهمات قدر المستطاع.(98/10)
أعراض المسلمين حفرة من حفر النار
يقول القاسمي: المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى، وأعظم استجابة، لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل من كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد، ولذلك كثر ما قد يكون بين المتباينين في الفرق حول هذا الأمر.
ولا شك أن هذه القضية -قضية التقويم- مسألة فيها خطورة عظمى، نبه عليها الإمام ابن دقيق العيد في عبارة مهمة وقوية فقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام.
ولماذا وقفت عليها هاتان الطائفتان؟ وقفت مضطرة لأن طبيعة عملها واللازم منها أن تكون فيها، لكنها وقفت على الشفير، فهي على خطر، فلذلك انتبهت لنفسها، واستعصمت بالحق حتى لا تزل قدم فتقع في هذه الحفرة الخطيرة، ولذلك يذكر ابن دقيق العيد وجوهاً من الآفات التي قد تعتري قضية الجرح والتعديل، أو التقويم والتصويب، فقال: هذه لها وجوه خمسة من الآفات: أحدها: الهوى والغرض وهو شرها، وكم من جرح نعلم أن مبعثه هو الهوى! قال: وهو في تاريخ المتأخرين كثير.
يقول ذلك وهو من المتأخرين، فكيف بالمتأخرين جداً في عصرنا؟ فلا شك أن هذا التأخير -كما يقول أهل الرياضيات بالمضاعفات العددية- يسبب كثرته عندنا.
الثاني: المخالفة في العقائد، فإن كل متخالفين في بعض الاعتقاد أو في بعض الاجتهاد يحصل منهم ذلك، أي: يحصل منهم التعدي بما يقع فيه مجانبة الحق والصواب.
الثالث: الاختلاف بين أهل الباطن وأهل علم الظاهر في نقد بعضهم بعضاً في بعض الأحوال.
الرابع: الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم.
الخامس: الأخذ بالتوهم مع الورع، بمعنى: الأخذ بالظنة.
ولذلك نبه أيضاً القاسمي على ما وقع في آخر الزمان، والقاسمي قريب منا في نهاية القرن الماضي، يقول: فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم أمثال البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار، وقطعوا رحم الأخوة الإيمانية الذي عقده الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله، ولم يفرق بين أحد من رسله.
فإذاً: كل من ذهب إلى رأي محتجاً عليه، ومبرهناً لما غلب على ظنه، وقد بذل فيه قصارى جهده، مع صلاح نيته في توخي الحق، فلا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه، واتضحت الحجة في غيره أن يجادله بالتي هي أحسن، ويهديه إلى الرشاد، مع حفظ الأخوة، والتظافر على المودة والفتوة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي} [العنكبوت:46] ما قال بالحسنى وإنما: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وهم أهل كتاب، فكيف تكون مجادلتنا لمن هم أهل الإيمان وليسوا أهل كتاب؟! فإن كان عندكم لفظة هي قوله: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فهي مرادة ومطلوبة فيما بين أهل الإيمان.(98/11)
الحالات التي يجوز فيها الجرح
النقطة الأهم في قواعد الجرح والتعديل هي: متى يصح أن ننقض؟ ومتى يجوز الجرح والتعديل؟ من المعلوم أن الغيبة محرمة، وأن الوقوع في الأعراض من أعظم الذنوب، وقد بين العلماء المواطن التي يجوز فيها ذلك، ثم بينوا القواعد التي تضبط هذه المواطن أيضاً.
هذه المواطن ستة ذكرها الإمام الغزالي والإمام النووي رحمة الله عليهما، قالا بتوافق بينهما: الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، يعني: إذا ظلمه إنسان لا يمكن أن يسكت ويذهب فيمدحه، فهو صاحب حق فله أن يقول: فلان ظلمني أخذ مالي فعل كذا وكذا فيذكر ما وقع من ظلم منه، فهذا لا شيء فيه.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو منه إزالة المنكر: فلان يفعل كذا إن كان لا يستطيع أن ينكر عليه هو، أو قد استفرغ جهده ولم يقدر عليه.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي بكذا فما سبيل الخلاص؟ أو فعل فلان معي كذا وكذا فما أفعل معه؟ الرابع: تحذير المؤمنين من الشر ونصيحتهم، وهذه مسألة مهمة، وهي متعلق كل من يخوض في هذا الباب، فإنه يدعي أنه ينصح للمسلمين، وأنه يذب عن حياض الإسلام، قالا: ومن هذا الباب المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته في عمل، أو إيداعه وديعة عنده، أو معاملته أو غير ذلك.
ومنه جرح الشهود عند القاضي، وجرح رواة الحديث، فهذه كلها هدفها النصح للمسلمين، وتحذير المسلمين من الشر، وهو جائز بالإجماع، بل واجب للحاجة، لكن سيأتي تفصيل الحديث عنه، ومنه ما إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فينصحه ببيان حال الذي يذهب إليه، بشرط أن يقصد النصح ولا يحمله على ذلك الحسد والاحتقار، وهذه القضية دقيقة وحساسة: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك يعني: كل إنسان يعلن أنه يريد نصح المسلمين، والذب عن الأخطاء التي تقع، لكن ينبغي أن يحاسب نفسه، هل هذا هو المبعث الصحيح أم أنه قد خالطه بعض الأخلاط والأغلاط مما لا يسلم منه من هوى أو منافرة ومخالفة أو شيء من الجفوة والغلظة التي تكون في الطبع أحياناً كما سيأتي الحديث عنه؟! الخامس: أن يكون الرجل مجاهراً بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به دون غيره من العيوب: وانظر إلى هذه المسألة، يقول: ما جاهر به نذكره، وما كان مستتراً به نستره على غرار ما فعل، فإذا جاهر، وهتك ستر الله عليه، وأتاح للناس أن يواجهوا ذلك بالتحذير منه؛ فلا ستر له حينئذ؛ لأنه قد هتك الستر بفعله، لكن هل نتجاوز هذا الحد ونخوض في كل أمر؟ لا.
السادس: التعريف، أن يكون المقصد بذكر هذا العيب أو تلك العلة التعريف، كأن يكون الرجل معروفاً بوصف يدل على عيب، كالأعمش والأعرج والأصم والأعور والأحول وغير ذلك، إن كان لا يعرف إلا به، أما إن كان له اسم يعرف به أو شهرة تدل عليه فلا يصح هذا.
فهذه الضوابط العامة التي يكون فيها مجال الجرح والتعديل، أو التقويم، أو ذكر المساوئ، أو بيان العثرات، هذه هي المجالات، لكن أين المجال الأكثر؟ التظلم معلوم، وطلب النصح معلوم، لكن الدقة في مسألة النصح للمسلمين، ومسألة الحرص على بيان الخطأ، ومسألة الحرص على ألا يلبس على الناس، هذه هي التي يكثر فيها الكلام، وتكثر فيها الدعاوى؛ ولذلك نأتي بكلام العلماء في التفريق الدقيق، وذكر القيود الضابطة الحساسة، كما أشرت إلى صاحب المثل حيث يحتاج إلى أن يزيح الأكدار حتى يصفو له النبع، فيأتي الأمر على وجهه، فيترك هذه الأخلاق ويذهب إلى النبع، فيحصل له المراد إن شاء الله.
فرق الإمام القرافي في كتاب الفروق بين قاعدة الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم، وذكر هذا عند أحد الأسباب المجيزة للغيبة وهي النصح للمسلمين، فقال: ويشترط في هذا القسم أن تكون الحاجة ماسة لذلك، يعني: يكون هناك احتياج لأن تذكر هذا العيب، أما هكذا لمجرد التفكه والتندر وشغل الأوقات أو ظهور الفضل بذكر نقص الآخرين فهذا لا شك أنه من أخطر الوجوه، يقول: وأن يقتصر الناصح في ذكر العيوب على ما يخل بتلك المصلحة الخاصة التي حصلت المشاورة فيها دون غيرها، كأن جاءه رجل يشاوره في أمر الزواج، فيذهب ويذكر له عيوبه في البيع والمعاملة وو، والسؤال كان عن دائرة معينة، فينبغي إذاً في مسألة المشاورة ألا يتجاوز في ذكر العيب القضية التي سئل عنها، والتي يحتاجها السائل، فإن حفظ مال الإنسان وعرضه ودمه عليك واجب، وإن لم يعرض له بذلك، ثم ذكر الشروط فقال: الأول: احترازاً من ذكر عيوب الناس مطلقاً، وإنما على قدر المطلوب.
الثاني: احترازاً أن يستشار في أمر الزواج مثلاً فيذكر العيوب المخلة بمصلحة الزواج، والعيوب المخلة بالشركة أو المساقاة، أو يستشار في السفر معه فيذكر العيوب المخلة بمصلحة السفر والعيوب المخلة بالزواج، كما يقال: ما صدق أن يفتح له الباب، فذكر كل ما يعرف، بل كل ما يسمع، فالزيادة على العيوب المخلة بما استشرت فيه حرام، بل تقتصر على عيب ما أراده منك السائل، فمثلاً يقول: إن كفى منك قولك لا يصلح لك، لم تزد عليه، إن كان الرجل أصلاً ما جاءك يستشيرك إلا وهو واثق بك، وقابل لحكمك، فإن كان يكفيه ويغنيه أن تقول: والله هذا لا يصلح لك، فليس لك أن تزيد على ذلك، فتقول: لا يصلح لك؛ ولأنه وتفتح قائمة طويلة لها لا منتهى لها! كلا، قال: إن كان يكفي قولك: لا يصلح لك، لم تزد عليه، وإن توقف على ذكر عيب وبيانه ذكرته ولا تجوز الزيادة عليه، أو على ذكر عيبين مثلاً اقتصرت عليهما، بمعنى: أنه لو كفى ذكر عيب واحد كان ذكر الثاني حراماً، فهذه من وجوه التفريق الدقيقة حتى لا يقع الإنسان غير المتنبه في المحظور.
ومثل ذلك ما يقع أحياناً من كلام الناس فيما يقولون مثلاً: فلان الله يصلحه، أو دعونا منه، أو إنه عجيب، فيظن أنه لم يغتابه بشيء من ذلك! وما يظن أن ذلك من أقبح الغيبة.
كذلك يذكر الزبيدي في مسألة جواز الغيبة أموراً أخرى أضافها على تلك الشروط السابقة: أن يكون ذلك مشروطاً بقصد الاحتساب وإرادة النصيحة، أي: تكون نيته الباطنة أنه يحتسب ذلك، ليس تحقيقاً لغرض آخر، وأن يخلص النصح لله سبحانه وتعالى؛ دفعاً للاغترار به، فمن ذكر أحد من تجوز غيبته في بعض الحالات تشفياً لغيظه أو انتقاماً لنفسه ونحو ذلك من الحظوظ النفسانية فهو آثم، ثم ذكر قصة عن ابن السبكي وعن والده، وهي قصة قد يراها بعض الناس مبالغة، وهي تبين أنه إذا ذكرت الجرح وفي نفسك شيء من الازدراء والاحتقار لهذا المخطئ، فقد وقعت في شيء من الحرام، يقول: صرح بذلك تاج الدين ابن السبكي عن والده، يقول: كنت جالساً في دهليز دارنا، فأقبل كلب فقلت: اخسأ كلب بن كلب، وهو صحيح، فزجرني الوالد من داخل البيت، يعني: نهاه، والسبكي ووالده من الأئمة والعلماء، فقلت: أليس هو كلب وابن كلب؟ قال: شرط الجواز عدم قصد التحقير، فقلت: هذه فائدة، فهذا الإمام ينبه ولده في حق الحيوان الذي لا عقل له: ألا يخالط قصده شيئاً من الاحتقار؛ لأنه من خلق الله، أو لأن فيه جزءاً من نفع أحياناً، ونريد بضرب هذا المثال أن يطبق هذا في الناس، ونريد أن نبين دقة السابقين في محاسبة أنفسهم، وتورعهم واحتياطهم.(98/12)
ضوابط الجرح والتعديل
يقول القرافي أيضاً في التفريق بين الأمور المباحة والمحرمة في كتاب الفروق، وهو كتاب محتو على مباحث نفيسة: الأمر الأول: التجريح والتعديل في الشهود عند الحاكم إنما يجوز عند توقع الحكم بقول مجرح ولو في مستقبل الزمان، أما عند غير الحاكم فيحرم؛ لعدم الحاجة إلى ذلك، يعني: إذا جئت للحاكم أو القاضي لتشهد لأن شهادتك لها أثر في الحكم، فلك أن تشهد، وأما إن لم يكن لها أثر فلا، فإذا لم يكن ثمة قضية ولا حكم فليس من داع لأن تذكر هذا الأمر، قال: وكذلك رواة الحديث يجوز وضع الكتب في جرح المجروح منهم، والإخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به، وهذا الباب أوسع من أمر الشهود؛ لأنه لا يختص بالحكم أو بالحكام، بل يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله، يعني: هذه قضية عامة، فيها مصلحة دينية، فتذكر العيوب والجرح؛ لما يترتب عليه من النفع، قال: يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله وإن لم تعلم عين الناقل؛ لأنه يجري مجرى ضبط السنة والأحاديث، وطالب ذلك غير متعين، يعني: لا نعلم من الذي يحتاجه، فتبينها لكل أحد يأتي ليأخذ الحديث، فينتفع بها ليعلم الصحيح من الضعيف، ويشترط في هذين القسمين أيضاً: أن تكون النية خالصة لله سبحانه وتعالى في نصيحة المسلمين عند حكامهم في ضبط شرائطهم، أما إذا كانت لعداوة، أو تفكه بالأعراض، أو جريان مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصالح عند الحكام والرواة، يعني: قد تحصل به المصلحة، لكن هو في ذاته قد يأثم إن لم يكن في نفسه هذا الأمر؛ لأنه قال: فإن المعصية قد تجر للمصلحة، وضرب مثالاً قال: كما يقتل الرجل كافراً ويظنه مسلماً، فإنه عاص بظنه؛ لأنه قصد قتل المسلم في نيته، وإن حصلت المصلحة بقتل الكافر، فالمعول عليه عند الله هو ما يستقر في النية، فأنت قد تجرح المجروح بشيء ينتفع به الآخرون، ولكنك إن لم تكن جرحته لذات الله سبحانه وتعالى، وللنصح الخالص دون هوى فإنه يقع عليك الإثم.
الأمر الثاني: قال: اشترط أن يكون هذا في الاقتصار على القوادح المخلة بالشهادة أو الرواية، إن كنت في أمر الشهادة فتذكر ما يقدح في شهادة الشاهد، وإن كنت في أمر الرواية فتذكر ما يقدح في روايته، أما ما وراء ذلك من أمور خاصة أو من أمور لا تعلق لها بهذا فلا يجوز، فلا يقول مثلاً: هو ابن زنا، ولا أبوه زان، ولا غير ذلك من الأمور التي لا تتعلق بالشهادة ولا بالرواية.
إذاً: لاحظ هذه الملامح الأولية لمسألة الجرح أو التقويم أو الكلام عن الناس، فهي مسألة دقيقة، وهي -كما قال القرافي:- كأكل الميتة، الميتة لا تؤكل إلا عند الاضطرار، وكذلك لا يخاض في هذا الأمر إلا عند الاضطرار، عند شدة الاحتياج وترتب المنفعة، الميتة إذا اضطر إليها إنسان هل يصنع منها وليمة يأكل منها ويطعم؟! لا، وإنما يأكل منها بقدر ما يرد به عن نفسه الهلكة، فإن غلب على ظنه أنه بما أكل منها قد اندفع الضرر عنه لا يحل له أن يزيد على ذلك، فهي مقدرة بقدر محدد، فكذلك هذه الحاجة والمصلحة إن وجدت فإنما يؤخذ منها بالقدر الذي يحقق المصلحة ولا زيادة، كما هو في شأن الميتة، ولذلك يقول الإسنوي: يعتبر الجرح أمراً صعباً، فإن فيه حقاً الله مع حق الآدمي، أنت تريد الإخلاص لله، والنصح لله، وكذلك هناك حق لهذا الإنسان، فإذا أخطأت في حق الله سبحانه وتعالى عنك يعفى، ولكن حق الآخرين إذا تشبثوا به فلا بد أن يؤخذ منك، قال: وربما يورث مع قطع النظر عن الضرر في الآخرة ضرراً في الدنيا، من المنافرة والمقت بين الناس، وإنما جوز للضرورة الشرعية، وحكموا بأنه لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، ولا الاكتفاء بذكر الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما، يعني: ينبغي ألا يقتصر على ذكر المعايب أو المثالب أو وجوه الجرح، ويترك جانب التعديل وذكر المناقب والفضائل، بل إن كان قاصداً للنصح فليذكر كلا الأمرين، فإن كان من أهل العلم فله أن يجرح، وقد يخالفه غيره، وإن لم يكن كذلك فليبسط المسألة ليكون للناظر موضع تأمل وفرصة للتقويم والميزان، فلا يقع في ذكره جزء من الجزأين دون الآخر، حتى لا يزكي من لا تكون له تزكية أو يخطئ من لا تكون له تخطئة.
العلماء أصلاً ما لجئوا إلى هذه المسألة إلا عن حاجة وضرورة ملحة، فما هو السبب الذي حملهم على أن يكتبوا في الجرح والتعديل، وأن يصنفوا في المآخذ على الناس؟ قال: وإنما ألزموا -العلماء- أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث، وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا؛ لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل وتحريم، أو أمر ونهي، وترغيب وترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته؛ كان آثماً بفعله، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع، أي: أنهم اضطروا لذلك لأن هذه المسائل يترتب عليها دين وحل وحرمة، ولكن وضعوا في ذلك القواعد مثل: لا جرح فوق الحاجة، ولا بد أن يكون الجرح بدافع ملح، وحاجة ماسة.
الأمر الثالث: لا جرح إلا لمن يحتاج إلى جرحه لترتب أمر على جرحه، فلذلك قالوا: لا جرح إلا للرواة وأما غيرهم فلا، ولذلك ابن دقيق العيد تعقيب على ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدحه فيهم فقال: إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يزده، لماذا تقدح فيه؟ هل هو صاحب رواية؟ هل هو ممن نقل الأحاديث فنحتاج إلى أن نعرف حاله؟ لا، فإذاً: لا نجرحه بذكر حاله ما لم يترتب عليه أمر يحتاج جرحه وقال الذهبي في الميزان ناقداً ابن الجوزي: قد أورده أيضاً العلامة ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وثقه، وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق! الأمر الرابع: لا بد أن يذكر الجرح والتوثيق، قال الذهبي في ترجمة ابن المبارك: من غلبت حسناته فينبغي ألا تذكر سيئاته، ومن غلبت سيئاته فينبغي ألا تذكر حسناته، وكلا الأمرين لحكمة بالغة؛ لأن من غلبت حسناته إذا سلط الضوء على سيئاته ربما كان ذلك صارفاً للناس عن الانتفاع بتلك الحسنات، ومن لم يكن له حسنات ولا فضائل وإنما غلب عليه الفساد أو الخلل وله النادرة من الحسنات، والقليل من الأقوال الصائبات، فإذا أشيعت وأعلنت وشهرت فإنها ربما تكون مزكية له عند من لا يعلم حاله، ثم يتبعه ويقتدي به وهو على خلل أو خطأ كبير فهذه من القواعد المهمات.
الأمر الخامس: أنه لا يصح الخروج والانتقال عن دائرة الجرح، بمعنى نحن في قضية معينة فلا نخرج إلى غيرها، فلذلك قال صاحب الرفع والتكميل: من عاداتهم السيئة أنهم كلما ألفوا سفراً في تراجم الفضلاء ملئوه بما يستنكف عنه النبلاء، فذكروا فيه المعايب والمثالب كما في ترجمة من هو عندهم من المجروحين المقبوحين، وإن كان جامعاً للمفاخر والمناقب، وهذا من أعظم المسائل، تفسد به ظنون العوام، وتسري به الأوهام في الأعلام.
الأمر السادس: أنه ينبغي أن يكون الجرح في موطن الخصومة فقط ولا نزيد عليه، ولذلك ذكر بعضهم عادات بعض المخطئين فقال: من عاداتهم الخبيثة أنهم كلما ناظروا أحداً من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، نحن في مسألة علمية فما لنا ولذكر عقله أو تعامله مع أبنائه أو بيعه وشرائه؟! قال: وبحثوا عن أعمال عرضية، وخلطوا ألف كذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل شخص، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقل مقابلهم بالتعدي والظلم، بجعل المناظرة مشاتمة، والمباحثة مخاصمة، وهذا من أقبح العادات التي ينبغي التنبه عليها عند التعرض لمسألة التقويم، أو ذكر المحاسن والمثالب، فربما نجد أن بعض المتأخرين في مسألة علمية يطعن في ذات الشخص الذي خالفه أو في هيئته أو كذا ولو كان مصيباً فيه فهذا مما ينبغي ألا يخوض فيه؛ لأنه يتحدث عن مسألة فيها نصح للمسلمين.(98/13)
من الذي يقبل جرحه وتعديله
من القواعد الخطيرة: من الذي نقبل جرحه وتعديله، ونقبل تقويمه وتصويبه، ونعتمد على توثيقه وتوهينه؟ هذه المسألة مما كثر الخلط فيها، وكلما نجم ناجم أو تحدث متحدث بجرح تلقفته الألسن دون معرفة بناقله أو بقائله، حتى نعرف من الذي يتأهل لأن يكون متكلماً في التقويم، وفي ذكر الأخطاء والإصابات، لذلك شرطوا في الجارح والمعدل شروطاً، ليس كل أحد له أن يخوض في هذا الجانب، ومعظم هذه الشروط من الشروط النفيسة الدقيقة الغالية التي لا تتوافر لكل أحد، قالوا: يشترط في الجارح والمعدل العلم والتقوى والورع، والصدق والتجنب عن التعصب، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية.
إذاً: أولاً: العلم والتقوى والورع.
الثاني: الصدق والتجنب عن التعصب، حتى لا يخالط هذا المقصد الأول.
الثالث: معرفة أسباب الجرح والتزكية؛ لأنه إذا لم يعرف السبب الجارح فربما يجرح بما ليس بجارح كما سيأتي التمثيل له، ربما تجد إنساناً تسأله عن إنسان فيقول لك: لا يصلح بحال من الأحوال، لماذا؟ فتجده يذكر لك عيباً ليس من الكبائر، بل حتى لا يعد من الصغائر، بل ربما حتى يخرج عن دائرة السنن، وإنما هو من المتعارفات عند بعض الناس أو عند بعض أهل الخير من الناس، وهذا من أخطر المزالق، قالوا: ومن ليس كذلك لا يقبل منه الجرح والتزكية، يعني: لا يعتمد عليه؛ لذلك قال السبكي: من لا يكون عالماً بأسبابهما -يعني: أسباب الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد.
يعني: سواء قال: فلان لا يصلح، أو قال: لا يصلح لأنه كذا وكذا لا يقبل منه؛ لأنه ليس بعالم بالسبب الذي به يجرح أو يخطأ الإنسان.
وقال بدر الدين بن جماعة: من لا يكون عالماً بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بتقييد.
وقال ابن حجر رحمة الله عليه: إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به.
يعني: كأنه لم يتكلم، وقال: تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف، وينبغي ألا يقبل الجرح إلا من عدل متيقن، ولذلك ذكروا بعض التقويمات أو بعض الأمثلة، يقول الذهبي أيضاً مؤكداً على هذا الباب في تذكرة الحفاظ: حق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف -أي: الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم- جهبذاً إلا بإدمان -وهذه عبارة جميلة جداً- الطلب، والفحص عن هذا الشأن -يعني: حتى يكون صاحب خبرة بمواطن الخطأ، وكيف يقوم- وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف، والتردد إلى العلماء، والإتقان، وإلا فلا تفعل -يعني: إذا ما أخذت بهذه الأسباب- فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ثم يكمل مؤكداً فيقول: فإن آنست من نفسك فهماً وصدقاً، وديناً وورعاً وإلا فلا تفعل، وإن غلب -انظر التتمة وهي أهم- عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تفعل، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك.
هذا كلام الذهبي في تذكرة الحفاظ، وهو كلام مهم ينبغي أن يتوقف عنده المقدم أو الداخل إلى هذا الأمر والمتكلم فيه.(98/14)
متى يقبل الجرح والتعديل
متى يقبل الجرح والتعديل؟ قد تتفق الشروط، وقد يكون المتكلم وهو من أصحاب الجرح والتعديل، فهل يقبل من كل أحد كل قول بلا استثناء أم أن هناك ضوابط لهذا الأمر؟ ومن دقة العلماء وحرصهم على تمييز الخطأ من الصواب حتى يدخل الحلال في الحرام وضعوا لذلك ضوابط فقالوا: يقبل التعديل من غير ذكر السبب، أما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً، عندما تقول: فلان لا يصلح، لماذا لا تبين لنا؟ إن لم يكن هذا الجارح من الأئمة المعروفين بتقواهم وورعهم، وعلم الناس دقتهم في معرفة أسباب الجرح والتعديل، فلا يقبل هذا الجرح على الإبهام، فكونك تقول: فلان لا يصلح أو ليس فيه خير، أو في دينه شيء، ثم لا تبين لنا ما نستطيع به أن نصحح قولك أو نخطئك في قولك؛ لا يقبل منك، لماذا؟ قالوا: لأن الجرح يحصل بأمر واحد فلا يشق ذكره، لو كنت صاحب حق فبين علة هذا الجرح بكلمة ليست طويلة، أما التعديل فيقبل بدون ذكر سبب؛ لأنك إذا أردت أن تزكي إنساناً فتقول: يصلي الصبح ويصلي العصر ويتصدق، وتعدد كثيراً من المناقب، فهذا يشق، والجرح يكفي فيه أسباب معدودة، فلذا يلزم عندهم التفصيل والبيان، وقد ذكروا أمثلة لبعض الأمور التي تبين لنا أنه قد يجرح بما ليس فيه جرح، فمنها: أنه قيل لـ شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث، ومن أوائل من تكلموا في الجرح والتعديل: لم تركت حديث فلان؟ يستفسر منه سبب تركه لحديث راو، هذا القول! قال: رأيته يركض على برذون فتركته! فجعل هذا سبباً لأن يتركه، رآه يركض على البرذون يعني: أتى بأمر قد يعد من خوارم المروءة، ومما لا يليق؛ فتركته، قال الذهبي: ومن المعلوم أن هذا ليس بجرح موجب لتركه.
ومن الأمثلة أيضاً: أن شعبة أتى المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور في بيته، وهذا مثال قد يتكرر عندنا؛ فتركه، فلم يقبل منه العلماء جرحه، وقالوا: قد يكون عمل بغير إذنه وهو ليس موجوداً، وهو مباشرة جعل هذه القضية من باب التورع، نعم تورع لنفسك، لكن هل يعد ذلك جرحاً مؤثراً؟
الجواب
لا.
ومنها أنه سئل الحكم بن عتيبة: لم لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام، فهذا كان عنده من أسباب الجرح.
ومنها أيضاً: أن جريراً رأى سماك بن حرب يبول قائماً فتركه، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى سباطة قوم فبال قائماً، وقد ذكر بعض العلماء أنه لعلة أو لعذر، والشاهد أنه أدخل هذا في أسباب الجرح، والتنبيه على مثل هذا كثير، قال الملا علي القاري: التجريح لا يقبل ما لم يبين وجهه، وقال ابن دقيق العيد بعد أن يوثق الراوي من جهة المزكين ثم يجرح جرحاً مبهماً غير مفسر، فمقتضى قواعد الأصول عند أهله أنه لا يقبل الجرح إلا مفسراً، ولكن نص علماء الحديث على أن الأئمة المنتصبين لهذا الشأن من المتقدمين -أي: إلى رأس المائة الثالثة- ينبغي أن يؤخذ كلامهم مسلماً؛ لأننا عرفنا علمهم واضطلاعهم واطلاعهم، واتصافهم بالإنصاف والديانة، مع الخبرة والنصح، وخاصة إذا توافقت آراؤهم في رجل، فلا شك أنا لا نحتاج إلى معرفة السبب، وبهذا قال كثير من الأئمة والعلماء.(98/15)
من ثبتت إمامته لا يضر جرحه
من القواعد المهمة في الجرح والتعديل قاعدة ذكرها السبكي وقال عنها: إنها ضرورية ونافعة، قال: إنك إذا رأيت الجرح والتعديل، وكنت غير عالم بالأمور؛ فلا تحسب أن العمل على جرح هذا الرجل، فإياك وإياك! وذكر القاعدة المهمة، فقال: بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره؛ فإنا لا نلتفت إلى جرحه فيه، ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون.
وبذلك ينحسم كثير من الفساد بهذه القاعدة، وهي: أنه إذا كثر المزكون فينبغي أن نكون على حذر من الجرح الوارد، فإذا انضم إليه نوع شبهة من خلاف أو تعصب أو غير ذلك غلبنا جانب التزكية المتكاثرة، وأسقطنا جانب هذا الجرح اليسير.
يقول أبو عمر بن عبد البر: الصحيح في هذا الباب أن من ثبتت عدالته، وصحت في العلم إمامته، وبانت ثقته، وبالعلم عنايته، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، وأيضاً يقول السيوطي: أن الذهبي لم يذكر أحداً من الصحابة ولا الأئمة المتبوعين في كتابه ميزان الاعتدال، وهذا قد صرح به الذهبي فقال: وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً؛ لجلالتهم في الإسلام، وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة والشافعي والبخاري، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس؛ أي: لأن عنده من الخيرات الشيء الكثير، ومثل هذا الأمر يكثر الحديث فيه كما سيأتي في سرد الأمثلة في آخر حديثنا إن شاء الله سبحانه وتعالى.(98/16)
مسألة توجيه الجرح إلى الراوي
من القواعد مسألة توجيه الجرح، وهذه مسألة نبه عليها ابن الوزير الصنعاني، وهي من القضايا المهمة قال: واعلم أن التعارض بين التعديل والتجريح إنما يكون عند الوقوع في حقيقة التعارض، أما إذا كان ليس هناك تعارض لو تمعنت فليس هناك إشكال، مثال ذلك: أن يجرح إنسان بفسق قد علم وقوعه منه، ولكن علمت توبته أيضاً، فحينئذ هذا الجرح لا قيمة له، لأنا علمنا أنه قد زال وقد رفع بتوبته وباستقامته على غيره، أو كان يقول بقول أو فتيا ثم رجع عنها، فلا تسارع بتلقف قوله دون أن تعرف ما استقر عليه حاله يوم أن تغير قوله؛ فلذلك ينبغي حين يتعارض الجرح والتعديل أن نعرف وجه الجرح ووجه التعديل، فربما يكون ذاك في أول الأمر وهذا في آخره، وذلك في قول، وذاك في قول آخر؛ فحينئذ ينحسم التعارض.
قاعدة أخرى: إذا كان هناك نوع مخالفة فينبغي التروي والتحرز من قبول الجرح، فلذلك قال العلماء: إذا علم بالقرائن المقالية أو الحالية أن الجارح طعن على أحد بسبب تعصب منه عليه، فلا يقبل منه ذلك الجرح، وإن علم أنه ذو تعصب على جمع من الأكابر -يعني: على كثير من العلماء والأئمة- ارتفع الأمان من جرحه، وعد من أصحاب القرح، يعني: لا يصبح من أصحاب الجرح، ولكنه من أصحاب القرح، وهذا مما ينبغي التنبه إليه عند مسائل النقد أو التقويم.(98/17)
اختلاف العقائد بالنسبة إلى الجارح والمجروح
مما يؤثر في الجرح اختلاف العقائد، قال بعض العلماء: ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما يخالف الجارح المجروح في الاعتقاد، وبسببها قد يظنه على زيغ كبير، والمسألة قد تكون فيها مندوحة أو مما يجوز فيه الاجتهاد، كما نعلم أن الاجتهاد موجود في نوعي المسائل العلمية والعملية، يعني في بعض مسائل الاعتقاد وفي بعض مسائل العمل، والذي يكون فيه الإجماع ويكون فيه التبين والمفاصلة -كما قال ابن تيمية - المسائل التي هي معلومة من الدين بالضرورة، ويندرج فيها بعض المسائل العلمية، وبعض المسائل العملية، والمسائل الأخرى يسوغ فيها الاجتهاد، وقد يقع فيها الاختلاف، وهي من دقائق الأمور، ويدخل فيها النوعان، فإذا كان هناك اختلاف بين الجارح والمجروح في هذا فينبغي التنبه والتيقظ، ولا يقبل جرح هذا مباشرة، ومن أمثلة ذلك قول بعضهم في الإمام البخاري إمام المحدثين: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ، فقد نسبوا إليه هذا الأمر، وإذا كان البخاري نسب إليه أنه قال في مسألة قريبة من خلق القرآن وهي مسألة اللفظ، فيا لله وللمسلمين! أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك وهو حامل لواء الصنعة، ومقدم أهل السنة والجماعة؟! ثم يا لله وللمسلمين أتجعل ممادحه مذام؟! فإن الحق في هذه المسألة معه، وهذا قد يقع في كثير من المسائل، وقد مثل له الأئمة كثيراً، ونحن نعلم أن البخاري وكثيراً من الأئمة أوردوا ووثقوا بعض أهل البدع من المعتزلة أو الشيعة أو الجهمية أو القدرية، وأخرجوا لهم أحاديث في كتبهم، وزكوهم من جانب الأخذ بالرواية، والصدق مع الصيانة والديانة، ولكن مع ذلك كانوا قد وقعوا في خطأ في العقيدة، لكن هو يظن نفسه على صواب، وهو من جانب الاحتياط في الرواية قد استوفى الشروط، فلذلك كانت رواية المبتدع لا ترد إلا إن كان داعية إلى بدعته، أو كان ما يرويه مما يشهد لبدعته؛ فحينئذ يكون مظنة الكذب أو مظنة تغيير الحقيقة عن وجهها.(98/18)
معرفة مدلولات ألفاظ الجرح
من أهم المسائل في قضية الجرح والتعديل: مسألة المعرفة بمدلولات الألفاظ، وهي مشكلة خطيرة، تجد الإنسان يقول كلمة: فلان فيه كذا، وهو لا يعلم ما مضمونها، وعندما تحللها وتبين له أن هذه الكلمة قد تدل على كفر أو نحوه يقول: لا، أنا لم أقصد بها هذا، ما دمت لا تقصد بها هذا، فاعلم كلامك واعلم مدلولاته، ولا تلقي الكلام على عواهله، ولذلك تجد من السابقين والمتقدمين من الأئمة والأجلاء من قد يكون في ترجمته، بأنه كان من المرجئة، أو بأنه كان يتشيع، فليست هذه الكلمة على إطلاقها لها دلالة واحدة، فينبغي أن يعرف المدلول الذي تنتظمه هذه الكلمة، فإنه قد أطلق نوع من الإرجاء سمي إرجاء أهل السنة، وليس هو الذي فيه المذمة والمغبة، لأنه كان فقط مصادمة للخوارج، كان إرجاؤهم المقصود به إرجاء أهل الكبائر إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الحكم بتكفيرهم، فليس في وصف هذا بكونه مرجئاً شيئاً من ذلك.
وكذلك كان يوصف الأئمة من السلف من أهل الكوفة بشيء من التشيع، وليس مقصودهم به التشيع الغالي، وإنما كون بعضهم كان يقدم علياً على عثمان، وهو من أقوال بعض أهل السنة، فينبغي أن يعرف الموطن أو الكلمة وما مدلولها، ومثل ذلك أيضاً كلمة الصوفية، فإنها قد تشمل الحلول والاتحاد وهو من أعظم الكفر، بل هو أكفر من كفر النصارى كما ذكره ابن أبي العز، وقد يكون مقصود المتكلم بها أحياناً مزيد الحرص على العبادة، ومزيد الزهد في الدنيا، ومزيد المواظبة على الأذكار مما قد لا يكون فيه بأس أبداً، أو يكون الغلط فيه يسير لا يقارن بما يكون مخرجاً عن الملة أو موجباً لكفر أو مقرباً إلى خطر عظيم، فينبغي التنبه لهذه المسألة، وهي من المسائل المهمة.(98/19)
كلام الأقران يطوى ولا يروى
مسألة مهمة يؤكد عليها العلماء، يجب أن نقف عندها، وهي: كلام الأقران بعضهم في بعض، وكلمة الأقران: تعني: الأضداد المتساويين المتعاصرين، ومعلوم أن هذه القضية فطرية وبشرية، فالناس لا يخلون من اختلاف، حتى ولو كانوا من العلماء فقد يقع بينهم الاختلاف، وقد يكون الخلاف موجباً لنوع من الجرح الذي فيه نوع من القدح البالغ، ولذلك قال العلماء: كلام الأقران بعضهم في بعض لا أثر له، فاطرحه ولا تلتفت إليه، إلا إن كان ببيان، وتحقيق بقدر معين، وإلا فالغالب في كلام الأقران أنه لا أثر له سيما إذا عورض بجرح وتعديل آخر.
مثال ذلك: قال الإمام مالك رحمة الله عليه عن محمد بن إسحاق: دجال من الدجاجلة، وهو من أهل العلم الصالحين، وأخطأ مالك في جرحه، قال الذهبي وغيره: فلا تلتفت إلى ذلك، فإذا كان لم يلتفت إلى كلام مالك في جرحه هذا مع ما هو عليه من غزارة علم وجلالة قدر، وقدرة استنباط، ومزيد ورع، فغيرهم من المعاصرين من باب أولى، فإن كلام الأقران والمتعاصرين في بعضهم لا يقبل، وذلك كثير جداً، كما كان بين السيوطي والسخاوي وكما كان بين ابن مندة وأبي نعيم حتى أجلة العلماء يحصل بينهم شيء من ذلك فما ينبغي التنبه له، حتى لا يقع الإنسان في الخطأ، وهذه مسألة مهمة، قال الذهبي في ترجمة عفان الصفار في ميزان الاعتدال: كلام النظراء والأقران ينبغي أن يتأمل فيه، ويتأنى فيه، وقال أيضاً في ترجمة ابن ذكوان: قال ربيعة فيه: ليس بثقة ولا رضا، مع أنه ثقة!(98/20)
يحكم على الإنسان بالأمر المعتاد لا بما طرأ عليه
قال ابن حجر رحمة الله عليه في حديث: (ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق): في هذا الحديث جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، بمعنى: من كان عادته الإحسان فيحكم عليه بالإحسان، وإن طرأ عليه بعض الإساءة، يقول: فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، فلولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لعذرهم في ظنهم، فوقف ابن حجر مع ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم في قول الصحابة عنها: خلأت القصواء، ليستنبط أن الأمر المعتاد الشائع هو الذي يحكم به، ولا يلتفت إلى الخطأ اليسير، فيجعل هو الحكم المميز، وهذا مما يشهد لما قلنا في هذا الباب.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً نعرج على بعضها سريعاً: ترجم الذهبي لـ قتادة بن دعامة السدوسي فقال عنه: إنه كان يرى القدر، يعني: في بعض المسائل قدري، والقدرية -كما في حديث- مجوس الأمة، ثم قال الذهبي: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وأيضاً يقول حينما ترجم لـ محمد بن نصر المروزي: ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين.
ثم ذكر ترجمة ابن خزيمة، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو صاحب كتاب التوحيد الذي قرر به أكثر مسائل الصفات على مذهب أهل السنة والجماعة، ومع ذلك تأول قال الذهبي: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة: (يخلق الله آدم على صورته) ثم قال بعد ذلك تعقيباً على هذا: فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه.
فهذه مسألة قد يكون الخطأ فيها ظاهراً، وقد يعتبرها الإنسان كبيرةً، لكنه قالها مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق، فيعذر، وأمثلة هذا الجانب بالذات على وجه الخصوص كثيرة، فإنه قد وقع من بعض أئمة العلماء من أهل السنة والجماعة تأويل في بعض المسائل، ويمكن أن ينظر ذلك في كتاب: المفسرون وموقفهم من التأويل والإثبات في آيات الصفات، فإن فيه أمثلة مطردة وواضحة في هذا الباب.
أبو حامد الغزالي رحمه الله ترجم له الذهبي، فذكر بعض إنصافه، بعد أن ذكر أخطاءه ومناقضته له ومخالفته له قال: قلت: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، وقال أيضاً: قلت: ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض، ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل.
وقال أيضاً: فرحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليده في الأصول، نعم؛ نخطئه فيما أخطأ، ولكن لا ننكر فضله، ولا نغير القول فيه.
وقد قال ابن تيمية عنه: وهذا الرجل -مع حسن قصده، ووفور ذكائه- لم يكن له حظ من السنن، فوقع في بعض الأخطاء.
والسبكي مع كونه من محبيه ومن المنتصرين له عقد في ترجمة الغزالي في طبقات الشافعية فصلاً طويلاً ذكر فيه كل الأحاديث الموضوعة التي في إحياء علوم الدين، مع كونه أثنى عليه، وبين كثيراً من محاسنه.(98/21)
مسائل وقواعد مهمة في قضية التبديع
لا بد من الإشارة إلى مسألة لها أهمية كبرى، وهي: قضية الدوائر التي تدخل في مسألة الجرح والتعديل، فإن بعضها أهون من بعض، لأن الناقد قد يشمل دائرة غير مقبولة وهي دائرة التفسيق أو ذكره بفسق أو كذا، ولكنها دائرة سهلة بالنسبة لدائرة أخرى أعظم وأخطر: وهي التبديع ورميه بالبدعة، والأخطر والأعظم -وهي على قمة الخطورة- دائرة الرمي بالتكفير والإخراج من الملة، وفي كل هذه المسائل جملة من الأقوال ربما يكون الوقوف عليها مطيلاً للحديث، لكن نكتفي بذكر قضية التبديع؛ لأن قضية التفسيق قد ذكرنا كثيراً مما يتعلق به، وقضية التكفير يبدو أن التعظيم لها في القلوب حاصل، ولكن قضية التبديع يحصل منها تساهل، فنذكر منها أموراً مهمة:(98/22)
كيفية التعامل مع صاحب البدعة إن حكم ببدعته
كيف يجب التعامل مع صاحب البدعة إن حكمنا ببدعته؟ كان القاسمي رحمة الله عليه يسميهم المبُدَّعِين، قال: لأنهم قد يرمون بالبدعة وليسوا أهل بدعة، فمن أول هذه الجوانب: لزوم أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، ونصحه لدلالته على الخير، وشاهد ذلك ترجمة موسى بن حزام شيخ البخاري، كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم هداه الله تعالى بـ أحمد بن حنبل، فانتحل السنة وذب عنها، وقمع من خالفه، فكانت صحبة أحمد بن حنبل موجهة له للصواب.
الأمر الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا كان هذا مبتدعاً تدعوه إلى السنة، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلى شر منه، فتنهاه عن هذه البدعة، وإن كنت تعلم يقيناً أنه سيقع فيما هو أعظم منه فاتركه، وقد ذكر هذا الكلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم.
الأمر الثالث: يجب أن يقر له بالإسلام، وأن ينصر على الكفار، وأن يعان على من يظلمه، وأن يفضل على من هو أكثر منه ضرراً، فإن كان هو صاحب بدعة صغيرة فهو خير من صاحب البدعة الكبيرة، وينبغي التنبه لهذه المسألة، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] قال شيخ الإسلام: فنهى الله أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع من أهل الإيمان، فهو أولى ألا يحمله ذلك على ألا يعدل فيه وإن كان ظالماً له، وهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا إلى أن قال: والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة.
والأمثلة على هذا في تراجم العلماء كثيرة جداً، ومن هذه التطبيقات تطبيق للإمام ابن تيمية رحمة الله عليه حينما لم يخض في أعراض وتجريح من كانوا سبباً في إيذائه! وتفضيل المبتدع على من هو أكثر منه ضرراً شاهده قول الله سبحانه وتعالى -وهو استنباط لطيف من الإمام ابن تيمية -: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ من يشاء} [الروم:1 - 5] ففرح المسلمين بانتصار الروم على الفرس -وكلهم كافر- دليل على هذه المسألة، فينبغي التنبه لهذه المسائل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيدينا إلى طريق الحق والصواب، وأن يلزمنا الميزان العدل، وأن يجعل في قلوب كل من يتصدى للتصويب والتخطئة الإخلاص لله، والتجرد عن كل ما لا يكون مقبولاً في مثل هذا الأمر من نوع مخالفة أو هوى مما ذكرناه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما ذكرنا نفعاً وفائدة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وجزاكم الله خير الجزاء.(98/23)
الأسئلة(98/24)
حكم التوضيح عن بعض الدكاترة في الجامعة
السؤال
كثيراً ما يدار السؤال بين الطلاب عن الدكاترة، وعن طلب النصح عن كيفية سلوك هذا الدكتور من الناحية العلمية أو شيء من هذا القبيل، فهل الجواب بالحق -وإن كان قدحاً سيئاً- يكون من باب الغيبة المحرمة، مع أن ذلك من باب النصيحة للسائل مع الصدق؟
الجواب
سئل بعض المشايخ عن هذه المسألة فقال: لا تخرج هذه المسألة من عموم النهي عن الغيبة، ولكن المسألة قد تكون في أنه يستنصح في مسألة معينة، أي: فيما يتعلق بالتجربة أو الفهم، هل هذا المدرس يحسن الطرح والإلقاء أو لا؟ فلا بأس في هذا، أما أن يخرج إلى شيء آخر، كأن يقول لك: هذا الدكتور دائماً مقطب الجبين، ودائماً هو كثير الصياح، فهذه مسألة أخرى، ولكن إن استشاره في ما قلنا، وكان يحصل الجواب بمجرد أن يقول له: هذا لا يصلح لك، أو لا تسجل عنده، فيكفيه ذلك، وإن كان يبدو لي أنه إن سأل أو لم يسأل فنظام التسجيل يلجئه أن يدرس حتى عند من لا يرغب فيه، والله أعلم.(98/25)
موقف طلاب العلم من كلام العلماء في بعضهم البعض
السؤال
هناك بعض الشباب صغار السن وقليلي العلم يقومون باتهام بعض الشيوخ والعلماء، أو يقومون بالتشهير بهم أو ببعض مؤلفاتهم، وهناك بعض الكتب تخرج في الرد على بعض العلماء من بعضهم الآخر، فما موقفنا تجاه هذه القضايا؟
الجواب
من لا يحسن السباحة لا يذهب إلى الأماكن العميقة، بل يسبح على الساحل، وقد ذكرنا أنه لا يقبل الجرح إلا من عالم به، وعالم بأسبابه، وعالم بمدلولات ألفاظه، مع التيقظ والتنبه، إضافة إلى الورع والتقوى، وحينئذ لا يقبل بحال من الأحوال قول من لا علم له، أو ليس له بصيرة، أو من لا يعرف هذه الأمور، سواء جرح عالماً كبيراً أو صغيراً، بل ينبغي أن ينصح ألا يقع في هذا الأمر، وكما ذكر ابن دقيق العيد حيث قال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، يقف على شفيرها المحدثون والحكام.
فإن استسهل ذلك وتجرأ عليه فإنه في خطر عظيم.
وأما كلام العلماء فيما بينهم، فكما ذكرنا: إن كان الجرح في العلماء من غير بيان وتفصيل يستطيع الإنسان من خلاله أن يستنبط أن هذا قد أخطأ فعلاً أو جانب الصواب؛ فإنه كما قيل في كلام الأقران: لا يؤخذ قول بعضهم في بعض، وكذلك إن لم يكن المطلع على المسألة ممن يعرف المسائل، وممن يعرف دلالات الألفاظ، فإنه لا يفهم أيهما أحق، وأيهما ينتصر له، فلذلك ليس له أن يعلو إلى فوق مقامه، فهو لا يريد الآن فقط أن يرتقي إلى مقام هذا العالم وهذا العالم، بل يريد أن يرتقي إلى منزلة أعلى منهما لينظر من علم، فيرجح بين هذا وهذا، فإن لم يكن بالغاً منزلة واحد منهما فكيف له أن يحكم بينهما؟! فلا شك أن كلام العلماء فيما بينهم ينبغي أن يتورع الإنسان عن الخوض فيه، إلا إن كان قد تمكن من العلم أو استقصى في المسألة، أو ركن إلى من يثق بعلمه وتقواه ممن قد يرجح له الصواب على الخطأ، مع اعتقاد أن وقوع الخطأ ممن أخطأ لا يعني إهداره بالجملة، ولا يعني القدح فيه؛ لأن موارد الاجتهاد كثيرة، ولأن العصمة ليست لأحد، ولأن الخطأ وارد ومطرد على الناس.
وهذه الخلافات فيها نوع من الآفات التي تشوش ذهن الشباب أو من ليس له حظ من العلم، فينبغي أن يعرف الأصول التي يحتاج إليها، ومما يذكر في هذا المقام قصة المزني مع شيخه الشافعي، لما سأله فقال: مسألة حاكت في نفسي من أمر التوحيد قلت لا يجيبني عنها إلا أنت، وجاءه وهو في المسجد في مصر، فسأله عن هذه المسألة، وهي مسألة غريبة، فقال: هل تعلم نجماً في السماء متى يطلع؟ ومتى يبزغ؟ قال: لا، قال: هل تعرف متى النجوم كذا؟ قال: لا، فسأله مسائل وهو يقول في كل منها: لا، ثم قال: فهذه مخلوقات الله تعلمها ولا تعرف كيفية بزوغها وأفولها، فكيف تسأل عن فعل الله سبحانه وتعالى؟! ثم سأله بعد ذلك وهو شاهد الحال عن مسألة في الوضوء، فلم يحسن الجواب فيها، قال: ففرعها لي على أربعة أوجه فما أصبت فيها، فقال: مسألة تحتاج إليها في كل يوم خمس مرات لا تعلمها، وتتكلف علم ما ليس لك به علم! فهذه الخلافات ينبغي ألا تشوش على المبتدئ، وينبغي أن يأخذ الأصول، وأن يعرف ما قد يكون جاهلاً به من أركان صلاته أو أركان وضوئه أو ما يتعلق به، وهذا أمر مهم.
الأمر الثاني: ألا يؤدي ذلك إلى فرقة، وإلى تنازع بين الأمة، وتشتيت لجهودها.
الأمر الثالث: ألا يصرف هذه الملاحظات، وهذا النقد عن توجيه سهام النقد، وبيان الزيف والخطأ فيما هو خارج عن دائرة كلام العلماء، بمعنى: أن يصب في دائرة كلام الأعداء الذين يثيرون على الإسلام الشبهات التي يلقونها، والرد على من نعلم جميعاً أنه لا يقصد خيراً، وأنه صاحب هوى، وله غرض سيء، فينبغي ألا يشغل مثل هذا عما هو أهم وأعظم من ذلك الأمر.
قال العلماء: الإنسان ينبغي دائماً أن يكون مخلصاً لله، فحينئذ يبصر بإذن الله سبحانه وتعالى مواطن الصواب في مثل هذه الأمور، وهذه المسائل قد عمت بها البلوى إلى حد كبير، لكن من رجع إلى كلام السابقين، وإلى تصرفاتهم، وإلى جرحهم وتعديلهم، وإلى مواقفهم عند الاختلاف ربما لاح له كثير من النور والضياء، والمواقف التي يستطيع -إذا استمسك بها واسترشد بها ورجع إليها- أن يكون إن شاء الله على الحق، ولا يخوض في مثل هذه الأمور بما يشغله عما هو أعم له وأنفع له، والله أعلم.(98/26)
كيفية التعامل مع الكفار والمبتدعة في المعاملات الدنيوية
السؤال
أضطر في بعض الأوقات أن أتعامل في عملي مع من هم مخالفون لي في عقيدتي أو من أهل الكتاب من النصارى، فكيف أعاملهم؟
الجواب
على ما ذكرناه عن ابن تيمية في استنباطه من قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فلا بد من إعطاء الحق الذي للإنسان، وإعطائه الأمر الذي له دون أن يكون نوع الخلاف داعياً إلى الظلم والاعتساف، وهذا أمر مقرر، فمثلاً أهل الكتاب لهم ذمتهم في دولة الإسلام، ولهم أحكامهم، وأيضاً لهم نوع من المعاملة كما قال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وفي بعض الأحاديث: (اضطروهم إلى أضيق الطرق) أي: حتى لا يكون مظهراً لعزة، ولا متعالياً في مجتمع المسلمين، حتى قال بعض الفقهاء في الجزية حينما تؤخذ: ينبغي أن تكون يد المسلم من أعلى عندما يأخذ الجزية من الذمي، وتكون يد الكتابي أدنى، حتى يتحقق قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فمثل هذا من أحكام الإسلام، لكن لا نتجاوزه إلى غير ذلك، فقد ثبت إحسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليهود الذين عاصروه في المدينة، بل ثبت في الصحيح في قصة الغلام اليهودي الذي حضرته الوفاة، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: (أسلم وقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأبوه عند رأسه فقال له: أطع أبا القاسم) فشهد شهادة الحق فتوفاه الله على الإسلام.
وكذلك قصة عمر رضي الله عنه مع اليهودي حينما رآه وهو كبير في السن يطلب الناس فقال: أخذنا منه جزيته في شبابه، وما أنصفناه في شيبته، فأمر له بعطاء من بيت المال.
ومعلوم في شرع الله سبحانه وتعالى أن من مصارف الزكاة المؤلفة قلوبهم، ومن أصنافهم قوم غير مسلمين يرجى تألف قلوبهم وتحبيبهم في الإسلام، وتعرفون قصة صفوان بن أمية رضي الله عنه حينما أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام من غنائم حنين فقال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني ويعطيني حتى صار أحب الناس إلي).
فينبغي التنبه لهذا، ولا يكون الإنسان فقط مندفعاً بحكم الغيرة أو بحكم الدفاع عن الدين فيتجاوز حدود ما حده له الدين، وعلى هذا فقس: فكل من خالفك في أمر اعتقادي، فإنه ربما يكون معذوراً عند الله سبحانه وتعالى، وأنت لا تعلم نيته، وربما يكون قد استفرغ جهده، فعليك بنصحه وإرشاده، وعليك بإثبات الإسلام له إن لم يكن قد ذكر أو قال القول الذي يكفر به كفراً صريحاً عندك من الله فيه برهان، وعليك أيضاً بتفضيله وتقريبه على من هو أشد منه ضرراً، وعليك أيضاً ألا تؤدي معاملتك له إلى بدعة أعظم، كما قال الإمام ابن تيمية: ترك الصلاة خلف المبتدع إذا كان فيه مصلحة لأن يتغير حاله أو أن الناس سيغيرونه أو كذا فالأولى هجره، قال: وإلا فهجره ورد بدعته بالهجر يكون فيه نوع ابتداع؛ لأنه ما أدى الفائدة التي يريد بها التقويم والإصلاح.
كذلك ألا يؤدي هذا التعامل إلى ما هو أعظم من بدعته، وأكثر شراً، وهذه مسائل دقيقة إذا استطاع الإنسان أن يحسن فيها فهو توفيق من الله عظيم، وينبغي أن يراعي إصابة الحق وأن يراقب الله سبحانه وتعالى ما استطاع في مثل هذه الأمور، والعلماء قد غضوا في مسائل الاختلاف في العقائد عن بعض المسائل الكبيرة، قال القاسمي: وقد روى البخاري عن رءوس من المعتزلة والشيعة والقدرية والمرجئة لأنه وثقهم، ولم يكونوا دعاة بدعة، ولم يكونوا يستحلون الكذب، وكان عندهم صيانة وورع، وربما كان لهم في هذا ما يعذرون به عند الله سبحانه وتعالى إن قصدوا الحق، فينبغي التنبه لهذا فإنه أمر عظيم، والله أعلم.(98/27)
شهر الصلة والإصلاح
لا غنى للمرء عن ربه عز وجل طرفة عين ولا أقل من ذلك؛ ولهذا يجب على المرء أن يحسن صلته بربه عز وجل وخاصة في شهر رمضان؛ لأنه شهر الطاعة والعبادة والصلة، والتوبة والإنابة، وهو شهر تكفير الذنوب والسيئات، ونزول المغفرة والرحمات، فعلى العبد في هذا الشهر أن يحسن صلته بأرحامه وأقاربه، وأن يقوي علاقته بأصحابه وإخوانه، استغلالاً لهذا الموسم الكريم، وحرصاً على الفوز بجنات النعيم.(99/1)
أهمية إصلاح النفوس ووصلها بالله عز وجل
الحمد لله، الحمد لله خص رمضان بنزول القرآن، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وتصفيد مردة الجان, وتخصيص باب الريان لعباده الصائمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المصطفى والرسول المجتبى، علم التقى ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلى هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! سلف لنا حديث عن رمضان بوصفه شهر القلوب والأرواح، وحديثنا اليوم عن رمضان بوصفه شهر الصلة والإصلاح؛ صلة لما انقطع، وإصلاح لما فسد صلة شاملة تعم حسن وقوة الصلة بالله، كما تشمل حسن وامتداد الصلة بعباد الله في مراتب كثيرة، وفي إصلاحات نفسية وعملية واجتماعية متنوعة، تجعل الصلة بالإقبال إصلاحاً للإدبار، وتجعل الصلة بالطاعة إصلاحاً للغفلة الموقعة في المعاصي.
إنها صلة عظيمة تتجدد وتقوى، وتتجذر وتمتد، وتصبح في هذا الموسم العظيم سمة ظاهرة للمسلم وحده وللأمة كلها في نوع من التربية الإيمانية السلوكية الفكرية التي يصوغ بها هذا الدين العظيم أتباعه؛ ليردهم إليه من بعد شرود، وليقيمهم على منهجه من بعد انحراف، وتلك مزية هذا الدين في مواسم الخير، وعبادات التذكر والاتعاظ التي تتعهد القلوب بالزكاة والنفوس بالطهارة، وتتعهد العقول بالرشد والإيضاح، كما تتعهد الجوارح بالاستقامة وتهذيب السلوك، وتتعهد العلاقات والصلات بتحسينها وقطع ما يسوء ويضر منها، وتلك هي المزية العظيمة التي تتجلى لنا في شهرنا هذا وفي صيامنا هذا.(99/2)
رسائل الصلة بالله المتاحة في رمضان(99/3)
الإخلاص بداية الصلة بالله عز وجل
والصلة بالله تبدأ بالإخلاص له، وتجريد القصد لطاعته ومرضاته، وتحقيق التحلي بمراقبته والحياء منه؛ امتثالاً لأمره: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وتحذيراً واجتناباً لوعيده وتهديده في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).(99/4)
الاهتمام بالصلاة من الصلة بالله عز وجل
حسن الصلة ظاهر في ركن ركين وأساس متين وهو العمل بالطاعات والقيام بالفرائض؛ ذلك أن المسلم في هذا الشهر الكريم أحرص ما يكون على تكميل إيمانه وعلى تحقيق إسلامه، فصلاته يشهدها في الجماعات، ويبكر إليها مع الأذان، ويحرص على اغتنام الأوقات مع حضور القلب والخشوع والتذكر والاتعاظ والاعتبار، فإذا به يأتي بها على صورة أكمل وعلى هيئة أفضل، فيكون له من أثرها ومما فيها من حسن الصلة بالخالق ما يحدث له امتلاءً بعظمته في القلب وشعوراً بصدق توقيره وإجلاله في النفس.
مع ما يكون فيها من الخضوع له والذل بين يديه والانكسار في السجود، وإخضاع الجوارح كلها انكباباً على الأرض وتعظيماً للرب سبحانه وتعالى، والعمل بالفرائض لفضيلة الزمان ومضاعفة الأجور يجعل المرء يحسن صلته بالله عز وجل في صلاته، فيتلو الآيات وقلبه يخفق بالتعلق، وعقله متدبر فيها، وجوارحه خاشعة ساكنة معها، ويشعر حينئذ بلذة ما بعدها لذة، وحلاوة ليس فوقها حلاوة، ويستحضر ذلك المثل العظيم والنموذج الأعظم في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فكم في هذه الصلة العظيمة من وصل عظيم! فإننا نحرص في هذا الشهر على كثير وكثير مما سيأتي ذكره.(99/5)
إخراج الزكاة في رمضان من الصلة بالله عز وجل
وهكذا ركن الزكاة، فجل الناس يحرصون على إخراج زكاتهم في هذا الشهر إدراكاً لفضيلة الأجر ومضاعفته، مع حرصهم على التعرض لرحمة الله برحمة خلقه، كما ورد عند الترمذي بسند فيه مقال: (إن أفضل الصدقة صدقة رمضان)، وغير ذلك من الأسباب التي نرى فيها إظهار هذا الركن والتزامه والقيام به وإخراج الأموال من النفائس ومن شتى الأموال التي وجبت فيها الزكاة.(99/6)
أداء العمرة في رمضان والاستكثار من النوافل من الصلة بالله عز وجل
وذلك أيضاً مشعر بأمر ثالث في شأن الحج، وإن كان في غير موسمه، لكن يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان كحجة معي)، فيعظم حينئذ إتيان الإنسان المسلم بالأركان والفرائض على شيء عظيم من التمام والكمال.
ثم هناك أمر آخر في هذه الصلة وهو الاستكثار من النوافل، وذلك فيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فبهذه النوافل الكثيرة مع الفرائض العظيمة تصبح ربانياً، وتصبح وأنت تدب على هذه الأرض لكنك معلق في السماء، وتنطق بلسانك لكن الحكمة تجري عليها، وتنظر بعينك لكنك تتدبر وتتأمل، ويصبح كل شيء فيك وبك ومعك مع الله وبالله ولله عز وجل، ولا ينقطع عن فكرك ولا عن قلبك ولا عن نفسك ولا عن لسانك ولا عن خاطر عقلك أمر الله عز وجل والصلة به.
وكن صاحب قلب معلق بالمساجد، ولسان رطب بالذكر، وقلب مملوء بالحب، ونفس متعلقة بالطاعة، فأي شيء هذا؟! إنها صورة عظيمة في حسن الصلة بالله؛ تجعل المؤمن في حياته غير لاهٍ ولا عابث ولا غافل، فضلاً عن أن يكون معانداً أو جاحداً أو معرضاً، نسأل الله عز وجل السلامة.(99/7)
قيام الليل من الصلاة بالله عز وجل
تلك هي الصورة الحقيقية التي يتمها الله عز وجل علينا في هذا الشهر الكريم، وتزيدنا الصلة أيضاً من الأبواب المختلفة، ومنها قيام الليل، ذلك الذي هو دأب الصالحين، والذي فيه مفاتيح من مفاتيح الخير في الدنيا والآخرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تنزل عليه الوحي في مبتدئه وفي أوائل أمره وفي مفتتح رسالته قال الله له: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، وكانت التهيئة قبلها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4]، فقيام الليل زاد لمواجهة الصعاب، وزاد لحمل الرسالة، وزاد لأداء الأمانة، وزاد للثبات على الطريق، وذلكم هو الزاد العظيم في حسن الصلة بالله عز وجل.
روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، مكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم، ومطردة الداء عن الجسد).
وعندما رأى ابن عمر رؤياه الشهيرة كان قول النبي صلى الله عليه وسلم تعليقاً عليها: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وكانت الرؤيا جولة في رياض الجنان ووقوف على شفير النار والعياذ بالله! فكان توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من أراد الوصول إلى هذه والنجاة من تلك فذلك دأبه وتلك طريقه، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟! قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام) رواه الطبراني في معجمه والحاكم في مستدركه بسند صحيح.
وكلنا يعلم خصيصة هذه النافلة العظيمة في هذا الشهر الكريم؛ لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).(99/8)
الاهتمام بالقرآن الكريم من الصلة بالله عز وجل
وهناك زاد آخر من حسن الصلة بالله، وهو: الصلة بكتابه جل وعلا، فهذا هو الشهر المختص بهذا القرآن نزولاً، والمختص به مدارسة، كما ورد في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدارسه جبريل القرآن في رمضان، وكان يدارسه في كل ليلة من ليالي رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
قال ابن رجب تعليقاً على هذا الحديث: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، واستحباب كثرة تلاوة القرآن في شهر رمضان.
وذكر الله عز وجل متصل بهذا، فنحن في هذا الشهر -بحمد الله- نكثر من ذكره، ونكثر من الدعاء والتضرع إليه، فلا نزال دائماً متقلبين ما بين تلاوة وذكر ودعاء، وهذه كلها من أبواب الصلة العظيمة بالله سبحانه وتعالى.
وكل هذا لو تأملنا إنما هو إصلاح لما فسد من أحوالنا من غفلة جاء بها الران على القلوب، ومن شهوة تعلقت وانصرفت إليها النفوس، ومن شبهة حارت وضلت فيها العقول، وأصبحت قلوبنا -إلا ما رحم الله- ليس فيها شيء يربطها بالله، ولا يصلها به، ولا يذكرها بأمره ونهيه، ولا يعظها بوعده ووعيده، وأصبحت أحوالنا كأنما نحن صورة من مسخ لا يتحقق فيه الإيمان الحي ولا الإسلام الحق ولا الصلة القوية ولا الرابطة الوطيدة التي تربط المخلوق بالخالق، والتي تربط المؤمن بمولاه، والتي تربط المسلم بربه وخالقه سبحانه وتعالى.
ولئن وجدنا هذه الصلة ولئن سعينا إلى تقويتها فلنعلم أن كلاً منا يصبح إنساناً آخر، يصبح ذلك الإنسان المؤمن الموقن الذي يواجه الخطوب والصعاب والذي يستطيع -بإذن الله عز وجل- أن ينتصر في كل معركة، بدءاً من معركة نفسه وهواها، وانتهاءً بمعارك الشيطان ووسواسه، وإلى ما بين ذلك من مزالق شياطين الإنس ودعاواهم الباطلة وزخرف قولهم.(99/9)
بعض آثار الصلة بالله عز وجل(99/10)
لا ينفع الإنسان في الضراء إلا صلته بالله
ولنتأمل! فإنه ليس لنا إلا هذه الصلة بالله، وليس لنا من شيء يمكن أن ينفعنا ويعيننا في دنيانا وأخرانا إلا الصلة بالله، فإذا اشتد الكرب وعظم الخطب، فليس إلا تلك الصلة، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، فعندما أعرض عنه المعرضون، واستهزأ به المستهزئون، وكانت حبال وصله ممتدة إلى ربه، وكانت مناجاته دائمة في حياته، وكان لسانه لهجاً بذكره، التجأ مباشرة إلى مولاه، فتغير الكون كله، وتغيرت الدنيا كلها، كما قال جل شأنه: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12].
فسخر الله كل شيء، وغير كل شيء؛ لينجو أهل الإيمان بعصمة إيمانهم وحسن صلتهم بربهم، ويهلك كل معرض عن أمر الله وكل جاحد بالله عز وجل.
فلابد أن يكون يقيننا قوياً؛ لأننا إذا قوّينا صلتنا بالله فنحن أقوى خلق الله وأقوى ممن يملكون الصواريخ والطائرات والأسلحة النووية وغير النووية؛ لأننا حينئذ نرتبط برب الأرباب وملك الملوك وجبار السماوات والأرض الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي هو على كل شيء قدير.(99/11)
نماذج من اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم على الله في الضراء
فقد رأينا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان اعتماده عليه الصلاة والسلام عليه واستناده إليه واستمداده منه، يوم رجع من الطائف قائلاً بعد أن لقي ما لقي: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي).
وعندما جاء يوم بدر وجاءت الجموع الغفيرة بثلاثة أضعاف ما هو عليه عدد المسلمين قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وكبريائها)، فتنزل النصر على محمد صلى الله عليه وسلم.
ويوم اجتمع الأحزاب كبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وجاء المدد الرباني، فأكفئت القدور، وأطفئت النيران، وقلعت الخيام، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال.
تلك هي الصلة القوية، فهي في كل خطب نجاة، وفي كل معركة نصر، وفي كل مواجهة تفوق؛ لأن القلب الموصول بالله لا يُهزم، وإن كانت جولة في معركة أو هزيمة في مواجهة فما يزال القلب الموصول بالله يستمد نصراً من بعد نصر وقوة من بعد قوة، ويرى في ذلك بلاءً هو امتحان وتمحيص له، كما قال عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
وإذا وجدنا اشتداد الضر وما يحيط بنا من كرب، فإنه ليس لنا إلا تلك الصلة، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، لا أحد سواه، فكيف تدعوه وكيف تلجأ إليه وقد قطعت حبال الوصل، وأعطيت ظهر الإعراض، وسرت بقلب الغفلة، وبنفس الشهوة بعيداً عنه سبحانه وتعالى؟(99/12)
الصلة بالله نعمة من نعم الله
تذكر تلك الوصية العظيمة للغلام المؤمن الفطن اللقن، يوم قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، احفظ الله يحفظك).
وهذه الصلة هي من نعم الله عز وجل علينا، فإذا تكاثف الهم وتعاظم الغم، فأنزل ذلك بالله عز وجل الذي وصل حبالك به، قال عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فكُشف الهم، وزال الغم، وتغيرت الأمور، وفتح بطن الحوت ليكون قصراً ومسكناً، ونبتت شجرة اليقطين لتكون زاداً وظلاً.
فكل شيء في الكون يتغير متى كنت مع الله؛ لأن الله يكون معك بإذنه عز وجل.
فلنفقه في هذا الشهر الكريم وفي هذه الفريضة الجليلة عظمة صلتنا بالله عز وجل وعظمة انتفاعنا بها واستفادتنا منها، وكلما حلت نقمة أو وقعت فتنة فالعصمة هي الصلة بالله عز وجل، ويوم أحيط بيوسف عليه السلام في تلك الفتنة العظيمة نادى ربه سبحانه وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:34].
وهكذا إذا أردت المدد والإعانة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فالمدد والنصر والإعانة من الله، وكل شيء لا يكون بالله لا يستمر ولا يدوم إلا به، وكل شيء يستند إلى غير الله فهو إلى خراب وضياع، وكل اعتماد على غير الله فهو إلى هزيمة، لكن الدنيا شغلت الناس، والقلوب تعلقت بغير مرضاته، والنفوس تاقت إلى غير ما وعد به جل وعلا، فصار الناس كأنما هم في شك من هذه الصلة، فتجيء هذه المواسم الخيرة لتعيدنا إلى حسن صلتنا بالله، أفلا نشعر بأثرها؟ أفلا نشعر براحة في نفوسنا وسعادة في قلوبنا وطمأنينة وهدوء بال في خواطرنا؟! أفلا نشعر بأننا اليوم أكثر طمأنينة وراحة وسعادة؟! تلك هي آثار الصلة في نفوسنا، وهي من بعد ذلك شفيعنا ومقربنا إلى رحمة الله عز وجل، وما يعرضنا إلى فضله وكرمه وجوده جل وعلا، فكل يوم ندعو، وكل يوم نذكر، وكل يوم نتلو، وكل يوم نصلي، وكل يوم ننفق، وكل يوم نصنع تلك الأمور التي تقوي صلتنا بالله.
فما أعظم هذا الموسم؛ غير أنه ينبغي لنا أن ننتبه إلى هذه الصلة، وأن نفعها الأعظم وفائدتها الكبرى دنيا وأخرى إنما تكون بامتدادها واستمرارها، وغرسها في سويداء القلوب، وبذرها في أعماق النفوس، حتى تكون دماً يجري في العروق، وحتى تكون نوراً مع كل نظرة، وتكون حية في كل خطرة، وتكون ظاهرة في كل كلمة، وتكون بادية في كل حركة وسكنة، وحتى تصبح ذلك المؤمن الرباني والمسلم الذي يسير بنور الله وعلى منهج الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(99/13)
أهمية إحسان الصلة بذوي الأرحام وخاصة في رمضان
وهناك وسيلة أخرى عظيمة أيضاً: وهي الصلة بعباد الله.
قال القرطبي رحمه الله: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وقطيعتها محرمة.
وقال في بيان هذه الصلة وسعة رحمه الله: وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، فيجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله، ونصرتهم، والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والإنصاف في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، وأما الرحم الخاصة فهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق العامة والخاصة، أي: تجب لهم الحقوق العامة وزيادة كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عنهم في أوقات ضروراتهم.
وتلك أيضاً صلة نرى أثرها في هذا الشهر عندما يتفقد الناس أقاربهم، ويصلون أرحامهم، ويجددون علائقهم، وينهون قطيعتهم، ويتغافرون فيما بينهم، ويعفو بعضهم عن بعض؛ لأن القلوب عمرت بالإيمان؛ ولأن النفوس غمرت بالمحبة والرحمة والمودة؛ ولأن الجميع يريد أن ينال من رحمة الله، ويريد أن يعمل كل ما يقربه إلى الله عز وجل.
وتلك الرحم نعلم أن لها في ديننا أهمية عظيمة، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، وكما أمر جل وعلا بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26].(99/14)
تقديم صلة القربى على غيرها من القربات
وفضل الصلة عظيم، حتى قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في جوانب كثيرة من جوانب الحياة المختلفة: (لما سمع أبو طلحة قول الحق جل وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء -وهو اسم بستان عظيم كبير له- وإني خرجت منه لوجه الله عز وجل، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أرى أن تجعلها في الأقربين).
ولما جاءت ميمونة رضي الله عنها تريد سبقاً في ميدان الخير وكانت لها وليدة -أي: أمة- فأعتقتها، فلما جاء دورها في مكوث النبي صلى الله عليه وسلم عندها قالت: (أما شعرت أني أذهبت أو أطلقت وليدتي؟ فقال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(99/15)
الآثار الدنيوية للصلة بذوي الأرحام
ونجد أثراً لهذا في دنيانا، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما أنه قال: (من أراد أن ينسأ له في أثره ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)؛ فإن بركة الرزق والوقت والعمر والصحة والعافية من أعظم أسبابها صلة الرحم، ودوام هذه الصلة في الله سبحانه وتعالى.
ونعلم جميعاً ما ورد في ذلك من شأن عظيم وأجر كبير وأثر ظاهر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن التين رحمه الله: صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية.
وذلك من الآثار المهمة التي نشعر بها في صلة الرحم مع هذه الفريضة وهذا الموسم العظيم.
ونجد هذا أيضاً بيناً في أن ذلك له أثر أوسع في دائرة أوسع، كما ورد في سنن الترمذي وعند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلة الرحم، وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار).
بل إن الأمر أعظم من ذلك؛ فإن صلة الرحم التي قد يراها الناس من باب المجاملات أو يراها الناس من باب العلاقات الإنسانية التي لا صلة لها بالدين، يجعلها إسلامنا من أعظم أسباب دخول الجنة، كما تكون الفرائض، وكما تكون الطاعات كلها لله عز وجل، فهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرويه أبو أيوب الأنصاري يذكر فيه: (أن رجلاً جاء إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال له عليه الصلاة والسلام: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم).
وفي صحيح مسلم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفف)، الشاهد قوله: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فما أعظم هذه الصلة! بل روى جبير بن مطعم في الحديث المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع)، أي: قاطع رحم، والمقصود: لا يدخلها مع أول الداخلين، وذلك أيضاً مذكور في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الحق جل وعلا: نعم، فإن لك أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك).
وكذلك وردت في هذا أحاديث كثيرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، منها ما روى عبد الله بن أبي أوفى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم)، رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان.
حتى إن الدائرة تتسع في الحرمان والعقوبة إذا فشت قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين منها، وهو أعظمها والعياذ بالله! فهذه صلة تمتد أواصرها -بحمد الله- في هذه الفريضة في هذا الموسم، فلماذا تحرم نفسك وتبقى على قطيعتك مع رحمك: الأجل خلاف مادي أو لأجل موقف تافه، أو كلمة عابرة، أو كبرياء فارغة، أو عصبية وحمية جاهلية؟! وكم نعرف ونعلم وللأسف الشديد أن صلات مقطوعة بين أشقاء من أم وأب! وكم نعلم أن بين الأقارب ما بينهم! فكيف تريد أن تحسن صلتك بالله وصلاتك بعباده مقطوعة مخالفة لأمر الله؟(99/16)
مراتب صلة الرحم
ومراتب الصلة كثيرة: أولها وأعلاها: الواصل لمن أساء إليه، كما ورد في حديث مسلم عن الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، فقال: لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل -أي: الرمل الحار- ولا يزال لك عليهم من الله ظهير).
المرتبة الثانية: الواصل لمن قطع وإن لم يسئ إليه.
المرتبة الثالثة: المكافئ، وفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)، أي: ليس الميزان إذا زارني زرته، وإن لم يزرني لم أزره، كدائن ومدين، وإن أعطاني هدية أعطيته، وإن أعطاني كلمة أعطيته، فأي معاملة هذه؟ وأين هذا من قول الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]؟ قال الشاعر: وذي رحم قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم أما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، يوم أن رأى أعداءه الألداء الذين ناصبوه العداء وأخرجوه من بلده واستهزءوا به، وتعرضوا لمقامه وجلاله وذاته وشخصه صلى الله عليه وسلم؛ فأي شيء فعل بهم؟! إنه صاحب القلب الرحيم، وصاحب معرفة حق الوصل حتى لغير المسلم تأليفاً لقلبه واستمالة له وإظهاراً لمحاسن هذا الدين.
وقد عرفنا الله سبحانه وتعالى بذلك، وأمر بحسن صلة الوالدين وإن كانا كافرين، ولما جاءت أسماء تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلة أمها الكافرة وقد جاءتها راغبة، فقال: (صلي أمك)، ولما أتى أبو هريرة يطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لأمه فدعا صلى الله عليه وسلم لأمه فأسلمت.
تلك هي صلة الرحم، فكيف بنا وأمهاتنا وآباؤنا وذوو قرابتنا مسلمون مؤمنون مصلون عابدون صائمون؟! فهذا موسم عظيم تمتد فيه هذه الأواصر، وتقوى لحمة أمة الإسلام، فالصلة الصلة بالله! والصلة الصلة بعباد الله! نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الواصلين، وأن يحسن ويقوي صلتنا به، وأن يجعل أخوتنا فيه وصلتنا وعلاقتنا في مرضاته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(99/17)
أهمية إحسان الصلة بعموم المسلمين وخاصة في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وبقي لنا من صلتنا وصلاتنا التي تمتد وتقوى وتحسن في هذا الشهر الكريم الصلة بعموم إخواننا المسلمين، فإن صلة الرحم لا تقتصر على ذوي القربى فحسب، كما ذكر ذلك القرطبي وغيره، وكما نعلمه من ديننا بالضرورة، قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم).
وهذه الفريضة أيضاً لها أثر في مد حبال الوصل بالمسلمين شرقاً وغرباً؛ لأننا نستشعر وحدة المسلمين، فهم يصومون جميعاً في فريضة واحدة، على هدي نبي واحد، لمقصد ومقاصد واحدة، إنها صورة للأمة التي تأتي الفرائض لتؤكد وحدتها في أصولها ومقاصدها وغاياتها، وفي أعمالها وفرائضها وعباداتها، وفي مناهجها وأحكامها وتشريعاتها، فكيف تختلف بعد ذلك في قلوبها ونفوسها؟! وكيف ينسى المسلم إخوانه المسلمين في أرض العراق أو فلسطين؟ ألسنا اليوم نستشعر أحداث الزلازل في باكستان وفي كشمير؟! فإخواننا مسلمون صائمون وقعت عليهم النكبات، وحلت عليهم الكوارث، ومات منهم من مات، نسأل الله أن يتقبلهم شهداء.
وابتلي بالعناء والمرض والإصابات من ابتلي، أليس لهم حق علينا أن نذكرهم ولو بدعوة؟! أليس لهم حق علينا أن نذكرهم ولو بدمعة؟! فضلاً عن أن نهب لإعانتهم وغوثهم، ليس في تلك الديار فحسب، بل في كل الديار وفي كل صقع؛ لأن المسلم لا يكمل إسلامه إلا بذلك، كما صح عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ولذلك فإن هذه الصلة ينبغي ألا تكون غائبة، لأننا وللأسف الشديد في الآونة الأخيرة هبت علينا رياح الإقليمية، بل هبت علينا من بعد ذلك رياح وطنية لا ننكر أصلها، لكننا نكر أن تكون حجراً على امتداد آفاقنا الإسلامية إلى أقاصي الصين وإلى أدغال أفريقيا وإلى أوساط أوروبا وأمريكا، فكل أرض فيها مسلم تجعلنا نرتبط به، ونتصل به، ونعطيه حق أخوته، ونحسن الصلة به بكل ما يستطاع من الأحوال، ولا تحدنا الحدود، ولا تقطعنا أحاديث ولا أحابيل ولا ألاعيب ولا مشكلات سياسة، بل لا يصدنا عن ذلك الموجات والهوجات الإعلامية التي تهب علينا لتقطع أواصرنا.
فنحن اليوم إن مددنا يد العون لمبتئس مكروب قد أصابته كارثة خفنا أن يكون ذلك تهمة أو إدانة بالإرهاب، فهل ننكر فريضة كاملة من فرائض دنينا -وهي الزكاة- ونعطل شريعة الله عز وجل لأجل أقاويل أهل الأباطيل؟! ينبغي لنا أن ندرك أن هذه الموجات إنما غرضها أن تقطع الأواصر، وأن تجعل كل مسلم في أضيق دائرة ممكنة، وذلك كله مما يهدف إليه أعداء الله.(99/18)
أهمية الصلة بالمساجد وخاصة في رمضان
واليوم أحبتي الكرام! نقف على مفتتح الثلث الثاني من الشهر، فلقد مضى ثلث والثلث كثير، وبقي ثلثان والثلثان أكثر، أليست مناسبة لوقفة في المراجعة ونحن نتحدث عن الصلة، أيحسن بنا مع امتداد الشهر أن تعظم الصلة بالأسواق، وتقل الصلة بالمساجد؟! وأن نترك التضرع ونتلهى بالبيع والشراء؟! أيحسن بنا ترك تلك العبادات والانشغال بالشاشات والمسلسلات والمسابقات وغيرها من الأمور الصارفة عما هو أولى منها في أقل تقدير؟! ألسنا نرى ذلك في كل عام؟ ألسنا نعرفه من الأحوال التي نلامسها؟ وأنا أسأل نفسي كل مرة: لماذا لا يكون الشراء إلا في العشر الأواخر؟! ولماذا لا يكون شراء الأشياء من هذه الأوقات بل ربما من قبلها؟! ولماذا لا ينزل الناس بضائعهم الجديدة إلا بعد انتصاف الشهر؟! وهل جعلنا هذا الموسم موسم الغفلة بدل الذكر، وموسم القطيعة بدل الصلة؟! مع أن شريعتنا وسنة نبينا كلما مر شيء من الشهر كان الهدي هو زيادة العمل الصالح، وزيادة الخيرات والطاعات، حتى ينتهي للاعتكاف انقطاعاً عن الدنيا في العشر الأواخر، فما بالنا نمد حبال الوصل لما يجب قطعه، ونقطع حبال الوصل لما يجب وصله؟! هذه صور من المفارقات.(99/19)
أهمية صلة المرأة المسلمة بربها عز وجل
وهناك صلة للمرأة المسلمة بالله، وصلة المرأة المسلمة أن تستجيب لأمر الله في كل هذه الأنواع من الطاعات، فما بالها تتبرج وتخرج إلى الأسواق، وتعافس الرجال فيها، وتخاطبهم، وتلين في قولها معهم؟! بل ما بالنا نسمع في هذه الأوقات وفي هذه الأيام الدعاوى المحمومة التي تدعونا إلى أن نعيد الطريق من أوله، ذلك الطريق المظلم الذي سار فيه كثير من المسلمين والعرب في ديار وبلاد مختلفة، طريق حرية المرأة المزعومة على المفهوم الغربي غير الإسلامي، الدعوة للتحرر وحرية الذات، والدعوة للندية والمساواة، والدعوة للاختلاط والمشاركة؟! ولعلي أختم هنا بكليمات لنا ولأخواتنا المسلمات، أنقلها في آخر الأمر على لسان غربيات مسلمات خرجن من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الإباحية إلى العفة، وهن بأقوالهن هذه يخاطبن أخواتنا المسلمات اللائي يقلن اليوم أقوالاً ويقمن بأفعال؛ أحسب أن أول من سيعض أصابع الندم عليها هن أنفسهن وليس غيرهن، وذلك مما ينبغي التدبر والتأمل فيه: تقول دنماركية أسلمت: لم أسعد في حياتي بقدر ما سعدت في الإسلام بقوامة الرجل، أنا سعيدة جداً بهذه القوامة، فخورة بها، أنا امرأة يهتم بي رجل أعيش معه في سكينة وهدوء، ولا أصدق نفسي أنني لم أعد مسئولة عن لقمة العيش، ولا عن الشراء ومعاكسة الباعة، ولا طوارق الليل والنهار، معي رجل يحميني، وبه أتحدى العالم بقوته، ونتحداه بإسلامنا! واليوم يقال للمرأة المسلمة: إن هذه القوامة تسلط وسجن وإكراه، بدلاً من أن يقال: إنها حماية وإعزاز وإكرام وتقدير وغير ذلك، وهكذا نجد الأقاويل والكلمات تتردد في هذا.
وهذه مضيفة هندية أسلمت في بلد عربي تقول عن الإسلام: إنه الوحيد الذي يرد للمرأة إنسانيتها، ويعترف لها بكرامتها التامة، ويحترمها ويمنحها كافة الحقوق، جذبني قول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: (ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم)، لقد علمت أن الإسلام يحض على الإحسان للمرأة، فقد كانت آخر وصية للرسول صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت: (استوصوا بالنساء خيراً)، أسلمت لأسترد كرامتي، وأستعيد إنسانيتي! وهكذا نجد الأقوال كثيرة من أولئك النسوة اللاتي قد سرن في تلك الحضارة ما سرن، وأدركن العلقم الذي شربنه، وأدركن الداء العضال الذي خرب دواخلهن وبواطنهن وأفسد عليهن عيشهن، ففئن إلى ظلال الإسلام ورحاب الحجاب والعفة والصيانة ونعيم الأسرة.
أسأل الله عز وجل أن يردنا جميعاً إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا.
اللهم إنا نسألك أن تعظم الإيمان في قلوبنا، وأن ترسخ اليقين في نفوسنا.
اللهم زد إيماننا، وعظم يقيننا، وطهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع مراتبنا، وامح سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية المعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك أن تمكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، وأن تقمع أهل الزيغ والفساد، وأن ترفع في الأمة علم الجهاد، وأن تنشر رحمتك على العباد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمتي الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه.
اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها، ورغد عيشها يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، ووفقنا لما تحب وترضى يا حي يا قيوم.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.(99/20)
درس من أُحد
ما نزل بلاء إلا بذنب، وما أصاب المسلمين من المحن والشدائد هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وما حصل للمسلمين في غزوة أحد أكبر دليل وشاهد على ذلك، فيجب على المسلمين جمعياً أن يحذروا من الذنوب والمعاصي، وأن يوحدوا صفهم وكلمتهم، وأن يتيقظوا لمخططات أعدائهم وكيدهم، وأن يستفيدوا من غزوة أحد الدروس التربوية في مواجهة الباطل، والثبات على الدين.(100/1)
انتفاخ وكبر أهل الباطل عند نيلهم من أهل الحق
الحمد لله العزيز المجيد، نصره للمؤمنين ثابت أكيد، وبطشه بالكافرين أليم شديد، هو يبدئ ويعيد، وينشئ ويبيد، وهو على كل شيء شهيد، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى؛ هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كما نقول، وخيراً مما نقول، وله الحمد كما يقول سبحانه وتعالى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً رسوله المجتبى، ونبيه المصطفى، علم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! درس من أحد في مواجهة العداء العظيم والكيد الكبير الذي يحيط بأمتنا، والذي نراه في واقعنا.
كانت معركة أحد في شوال من العام الثالث للهجرة، ونحب دائماً أن يكون لنا فيها ومعها وقفات، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مصدر نور لا يخبو، ومنبع ري لا ينضب، ومعالم هدىً لا تلتبس، إنه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كما قال عنه ربه عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، أتم الله به النعمة، وأكمل به الدين، وأقام به الحجة، وأظهر لنا في سائر الأحوال معالم الإسلام.
سنقف هنا وقفة مع نهاية المعركة؛ لنرى ملابسات جولة من جولات انتصار الباطل: روى البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب في سياق كلامه في قصة غزوة أحد، قال: (إن أبا سفيان -وكان زعيم المشركين- وقف وأشرف في آخر المعركة على أطم من الآطام، وقد أخذه الزهو والكبر ونشوة الانتصار الذي يظن أنه حققه؛ فقال: أفي القوم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: لا تجيبوه.
فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه.
قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ قال: لا تجيبوه.
فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه -وفي رواية عند غير الصحيح: فأخذت عمر الحمية- فقال: كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك).
ثم إن أبا سفيان قبل هذه المقالة -كما عند البخاري - قال: إن هؤلاء قد ماتوا، ولو كانوا أحياء لأجابوا.
وفي رواية ابن سعد: فرجع إلى أصحابه فقال: قد كفاكم الله هؤلاء.
فحينئذ أخذت عمر الحمية فقال مقالته.
ثم إن أبا سفيان عندما سمع ذلك عاد منتشياً منتخياً فقال: (اعل هبل.
فقال عليه الصلاة والسلام: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: العزى لنا ولا عزى لكم، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال.
وفي رواية ابن سعد: فأجاب عمر رضي الله عنه فقال: لا سواء؛ قتلاكم في النار، وقتلانا في الجنة).
هذه صورة مرت في آخر الغزوة، ولعلي أكمل صوراً أخرى حتى يكون الحديث عنها مجتمعاً: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إثر ذلك علي بن أبي طالب، وقال: (اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن جنبوا الخيل وركبوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن جنبوا الإبل وركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة، والله لأناجزنهم فيها، ولأسيرن إليهم فيها، فذهب علي، فإذا بالقوم قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل، وتوجهوا إلى مكة).
ومما قاله أبو سفيان كذلك قبل رحيله: (موعدنا بدر في العام القابل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد).
والسيرة تروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في العام الرابع خرج لموعده إلى بدر، غير أن أبا سفيان وكفار قريش لم يأتوا لموعدهم، ولم يخرجوا للقاء المسلمين.
ووقفتنا هي مع هذه الأحداث، فقد أصاب منا أعداؤنا اليوم ليس جولة واحدة، بل جولات، وقد انتفخ سحرهم ونحرهم، وارتفعت أنوفهم، وشمخت جباههم، وعظم كبرهم، وتجلت غطرستهم، وكأن أبا سفيان -قبل إسلامه- إنما هو تلميذ غر في مدرسة الاستعلاء الكفري والكبر الطغياني الذي نراه في أعداء أمة الإسلام اليوم، وهذا بسبب ما وقع في أمتنا من ضعف وخور وذل وهوان، لتركهم لأمر الله ودينه، وتخليهم عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.(100/2)
الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة لمعركة أحد(100/3)
أثر الذنوب والمعاصي في هزيمة الأمة
وكلنا يعلم أن الذي وقع في أحد كان بسبب تلك المعصية بنص صريح واضح في كتاب الله عز وجل، وهو قوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وكما أخبر الحق سبحانه وتعالى في سياق بيان تلك الأحداث في غزوة أحد فقال: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152]، عصيتم يا معاشر الرماة! وعصيان البعض قد عم أثره الكل.
وقوله سبحانه: (من بعد ما أراكم ما تحبون)، أي: من النصر على عدوكم، وقتلهم، وبدء فرارهم، واضطراب صفوفهم، وذلك بأثر دنيا التفتت إليه قلوب بعضهم.
وقوله: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، قال بعض الصحابة: ما كنت أحسب أن فينا معشر أصحاب محمد من كان يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
ولم تكن إرادتهم للدنيا أنهم قد توجهوا لها بكليتهم، ولكنها ومضة من بريقها ولمعانها بدت لهم عند هزيمة المشركين، فتحركت لها قلوبهم ونفوسهم، فكانت هذه النزعة وتلك الخطيئة هي التي ترتبت عليها تلك الجولة التي كان فيها ما كان، وحل فيها ما حل بالمسلمين ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
واليوم ما زال كثير من المسلمين يسألون ويقولون: لمَ احتلت ديارنا؟ ولمَ اُستلبت أموالنا؟ ولمَ ضاعت هيبتنا؟ ولمَ تمرغت عزتنا؟ وكأنهم لم يدركوا أن خطأً محدوداً واضحاً من فئة محدودة ترتب عليه أن سبعين من صفوة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مضوا إلى الله عز وجل شهداء، فيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مصعب بن عمير درة شباب الإسلام، وفيهم مجموعة من عظماء الصحابة، ودميت جبهة النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه.
فما بالنا لا نتأمل في ذلك؟ فكل ما يجري له أسبابه وعلله الواضحة التي يبصرها بمقياس الإيمان ونور القرآن يبصرها كل مسلم مؤمن ذي قلب حي وعقل راشد وفطرة سليمة.(100/4)
غرور أهل الباطل وعاقبة أمرهم
وسنقف وقفة مع أبي سفيان، ومع ما قاله، وذلك أمر واضح، فإن كل تقدم أو نصر في جولة يحققها أعداء الإسلام تصيبهم بغرور يعمي أبصارهم، ويطمس بصائرهم، فيمضون على غير هدى يتخبطون، ويشتدون في عدوانهم مما يؤدي إلى حتفهم يقيناً لا شك فيه؛ لأن الله عز وجل قد جعل العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، وذلك يعرفه أهل الإيمان واليقين.
ولذلك انظروا إلى كل الطغاة والمتجبرين الذين قص الله علينا خبرهم في القرآن الكريم، لقد ساروا من خلال قوتهم وطغيانهم إلى حتفهم، أليس فرعون الكافر الأعظم الذي ادعى ما لم يذكر ولم ينسب لغيره فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
وفرعون كانت مواجهته مع موسى، فجاء بالسحرة، ثم أراد بعد ذلك أن يظهر قوته، وأن يستعلي بعظمته، فأراد المواجهة معلنة، وأرادها أن تكون أمام الناس، فظهر الحق، وبطل الباطل، وسجد السحرة ساجدين مؤمنين، وأسقط في يد فرعون فلم يجد إلا بطشه وجبروته.
وهكذا ما وقع للغلام في قصة أصحاب الأخدود التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم في الحديث الطويل، فبعد أن نجى الله الغلام بمعجزات ظاهرة قال لهذا الملك الطاغية الأحمق: إن أردت قتلي فاجمع الناس على صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي وقل: باسم الله رب الغلام، وارمني بالسهم؛ فإنك إن فعلت قتلتني.
وفعل المغرور الذي يريد الانتصار بأي وسيلة ذلك الفعل، وقال أمام الملأ كلهم: باسم الله رب الغلام.
ورمى بالسهم فقتل الغلام، وأحيا الإيمان في قلوب الآلاف المؤلفة، وظهر الحق بضيائه المشع، وظهر اليقين بثباته القوي الراسخ، فلم يجد إلا حفراً يحفرها، وناراً يشعلها، وجحيماً يلقي فيه الناس، ثم انتهى أمره وخبره، وذلك متكرر ظاهر.(100/5)
تركيز الأعداء على القيادات الفاعلة في الأمة الإسلامية
وأبو سفيان هنا في أول الأمر كان يركز على القيادات الفاعلة، وعلى القدرات الرائدة القائدة المؤثرة في حياة الأمة، ولهذا سأل عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعن عمر؛ لأنه كان يعلم أن هذه القيادات لها أثرها في الأمة تماسكاً ووحدة، ولها أثرها في الأمة امتثالاً وقدوة، ولها أثرها في الأمة يقيناً وعزة، ومن ثم لابد أن ندرك أهمية القيادات من الولاة والعلماء والدعاة، وكل من له وجاهة في مجتمع المسلمين، وله التزام وامتثال بأمر الدين، وله تجرد لمصلحة المسلمين؛ فإن الله جل وعلا ينصر هذا الدين برجال يختارهم الله عز وجل ويصطفيهم لما يكون عندهم من إيمان ويقين وتضحية وإخلاص لله رب العالمين.(100/6)
حنكة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المجاوبة مع الكفار
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ألا يجيبوه، قال ابن القيم في تعليقه على هذه الواقعة: إنما أمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وشركه تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة من عبده المسلمون، وقوة جنابه، وأنه لا نغلب ونحن حزبه وجنده.
ولماذا لم يكن يريد أن يجيبوه عندما سأل السؤال الأول عن وجود النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لأنه لم يكن قد برد بعد في طلب القوم، أي: ما زال غبار المعركة ثائراً، ما زالت النفوس والحمية للقتال مشتعلة، ونار غيظهم متقدة، فلما سأل ولم يجد جواباً، وثنى وثلث، ثم قال لأصحابه ما قال، وقال: إن هؤلاء قتلوا، ولو كانوا أحياء لأجابوا.
حينئذ كان جواب عمر له في غاية الروعة! كما قال ابن القيم: كان السكوت في ذلك الوقت هو الأحسن، وكان الجواب من بعد هو الأحسن.
قال: فكان في هذا الإعلام -أي: قول عمر - من الإذلال والشجاعة، وترك الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يضعفوا، وأنهم لم يهنوا، فأصبح فيه من المصلحة بإعزاز الإسلام، وغيظ العدو وحزبه، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم أولاً بأول.
وفي ترك إجابته في أول الأمر إهانة له، وتصغير لشأنه، فلما منى نفسه بموتهم، وظن أنهم قد قتلوا، وحينئذ أصابه الكبر والأشر، وحصل له ما حصل؛ كان في جوابه إهانة وتحقير وإذلال.(100/7)
أهمية إظهار شأن الإيمان وثباته وقوته
وهنا درسنا المهم أيضاً، وهو أننا في شأن إيماننا وعقيدتنا وإسلامنا ومبادئنا ينبغي أن نعلن العلو والاستعلاء، وأن نظهر الثبات والقوة.
قد تكون هناك جولات تراجعنا فيها؛ لكن المبادئ والأسس والعقائد لا يمكن بحال أن يكون فيها إظهار تلون أو ضعف، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل.
كان
الجواب
( الله أعلى وأجل)، واليوم قد يقولون: إن الديمقراطية تنتصر، وإن الإسلام يندحر، وبعض الناس من بني جلدتنا صاروا يتكلمون بألسنتنا، ولكن بعقول وقلوب غيرنا من أعدائنا، فيروجون إلى ضرورة مراجعة في أصول ديننا، وثوابت عقائدنا، وأسس حياتنا الاجتماعية المبنية على هذا الدين، وثقافتنا وتصوراتنا المنبثقة من نور القرآن وهدي النبي العدناني صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما قال أبو سفيان: العزى لنا ولا عزة لكم، كان رد النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً: (الله مولانا ولا مولى لكم) إنه الركن الركين الذي يفيء إليه المسلمون، والقوة العظمى التي إليها يلتجئون، وإذا عرفوا ذلك فلا خوف عليهم، فلئن كسروا في جولة فإنهم في أخرى منتصرون، ولئن تراجعوا في موقف فإنهم في آخر متقدمون.(100/8)
الحرب بين الإسلام والكفر حرب عقائدية
ونحن نعلم أيضاً أن مسائل أعدائنا في غزوهم وحربهم لأفكارنا ومبادئنا وقيمنا وأخلاقنا ونظمنا الاجتماعية ومناهجنا التعليمية أكثر وأشد شراسة وأعظم ضراوة من هجومهم العسكري، أو احتلالهم العسكري، أو نحو ذلك من الأمور المادية.
ولذلك لما رأى أبو سفيان أنه لم يقتل محمد عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر، أراد أن يظهر أن هذه الجولة إنما هي انتصار لمبدئه، وإنما هي علو لمعتقده.
إن الحقائق تثبت أن المواجهات العسكرية أسسها عقائدية، ومنطلقاتها مبدئية، وقد تكون فيها مصالح مادية، وقد تتخللها أهواء شخصية، لكن منطلقاتها وجذورها يقيناً هي دين ومبدأ، والحرب إنما تنبثق من رؤى وتصورات وثقافات وديانات شاء من شاء هذا التفسير وأباه من أباه، فإن الواقع يثبته قديماً وحديثاً وإلى يوم الناس هذا.
وكم سمعنا اليوم من الحملات على القرآن الكريم، وعلى شخص النبي العظيم صلى الله عليه وسلم! من يقولها؟ إنه ليس مفكر، ولا مستشرق، بل يقولها جنرالات عسكريون، إنهم يخوضون حرباً من هذا المفهوم ومن ذلك المنطلق، فلماذا نغالط أنفسنا، ونحن نعلم أن اليهود في دولة الكيان الغاصب الذي يسمى (إسرائيل) يعلنون صباح مساء أنهم دولة دينية، وأنهم منافحون عن دينهم، وأنهم يدافعون عن بني دينهم، وأنهم إنما يقومون على أساس توراتهم وغير ذلك مما نسمعه ونراه صباح مساء؟! ثم يراد لنا من بعد أن نقول: لا، نحن لسنا أهل دين، ولسنا متمسكين أو متشبثين بعقائدنا ومناهجنا الإسلامية الإيمانية، وإنما نحن قوم متحضرون، ونريد الديمقراطية، ونريد ذلك على ما يريده أولئك القوم! وكل خير قد نجده في أقصى الأرض أو غربها نحن أحق وأولى به، وكل تجربة إنسانية مفيدة نافعة نحن أحرى الناس أن نأخذ بها، وأن نراجع أنفسنا لذواتنا؛ فإن من منهج ديننا أن نحاسب أنفسنا، وأن نتبادل النصح فيما بيننا، وأن يقوم مستقيمنا معوجنا، وذلك أمر ليس فيه غضاضة، بل هو من محاسن ديننا وعظمته، ولقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يكثر من مشاورة أصحابه وهو من هو! يقول أبو هريرة في حقه: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
عجباً له يشاور بهذه الكثرة العظيمة وهو النبي المسدد بالوحي، الراجح في العقل، الخبير الذي ليس أحد من أصحابه بل ولا أحد في هذه البشرية كلها مثله عليه الصلاة والسلام!(100/9)
أهمية الثبات على الدين
القضية الثانية المهمة وهي: أنه لابد لنا أن نثبت دائماً على ديننا، وأن قضيتنا الأولى التي يستهدفنا فيها أعداؤنا ليست ثرواتنا، وليست أن مواقعنا في بلادنا إستراتيجية أو غير ذلك، وإنما هو ديننا، كما أعلنها أبو سفيان صريحة واضحة جلية، فإن هذا الدين هو الذي يفرق بيننا وبين غيرنا، فيجعل لنا من تصوراتنا ومعرفتنا ما قاله عمر: (قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار)، فلا سواء بيننا وبين غيرنا؛ لأن عندنا من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ما يميزنا.(100/10)
واجب المسلم تجاه الصراع مع الباطل
أشير هنا إلى مسالة مهمة في الموقف الثاني، يوم قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (انظر خبر القوم)، إنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن المعارك مع الباطل ليست جولة واحدة، وأنهم لا يكتفون بانتصار محدود، وأنهم مستمرون، فقال: انظر ماذا سيفعلون؟ هل انتهى الأمر؟ وهل نغلق الأبواب وننهي القضية، ونعود إلى ديارنا لنأكل ونشرب وننام؟ لا، ليس الأمر كما يظن كثير من الناس أنها جولة، وأنها حملة، ولم ينتبهوا إلى أنها متواصلة مستمرة، وأنها متنامية متنوعة، وأنها تمتد حتى لا تكاد تخلو منها بقعة من الأرض، وتتغلغل حتى لا يكاد يخلو منها مجال من مجالات الحياة سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو تعليمياً أو غير ذلك، ولذلك قال: (انظر ماذا سيفعلون)، أي: ما هي خطوتهم الثانية؟ ومعاشر المسلمين اليوم كثير منهم نائمون غافلون، وكلما جاءت ضربة صحونا لها في وقتها، أما التي تليها فكأنها ليست واردة في حسباننا، ولا معروفة عندنا، ولا هي خاطرة ببالنا؛ ولذلك ما يزال كثير من المسلمين يأخذون الضربة تلو الأخرى، وكأن الأولى تهيئهم أن يأخذوا الثانية، ونسوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني، إنما يهلك الناس إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، تلك مقالات لابد من معرفتها.
وعندما قال أبو سفيان: موعدكم بدر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم من يجيبه: (هو بيننا وبينك موعد)؛ فإن عزة الإسلام تأبى الانهزام، وإن قوة اليقين لابد أن تقبل إرادة التحدي؛ لا رغبة في الصراع؛ فإن الإسلام لا يسعى إليه ابتداءً ولا يقصده، وليس كما ينسبونه له من قتل أو دمار، بل التاريخ حديثه وقديمه يشهد أنه عند غير المسلمين أكثر منه عند المسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ ديننا وأمتنا، وأن يحفظ بلادنا وأمنها وسلامتها ووحدة صفها، وأن يدفع عنا وعن المسلمين كل سوء ومكروه، وأن يخذل أعداء الإسلام والمسلمين في كل مكان.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(100/11)
وجوب الحذر من كيد الشيطان والاستمرار على الطاعة
الحمد لله العظيم في شأنه، العزيز في سلطانه، أحمده سبحانه وتعالى على جزيل بره وإحسانه، وأشكره على وافر فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أقام الدين وأحكم بنيانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: إن في هذه الوقفة السريعة التي وقفناها في آخر معركة أحد ما يكشف لنا عن ضرورة يقظتنا لمواجهة أعدائنا، وعن أهمية التزامنا واستعلائنا بديننا، وعن أهمية قوة نفوسنا وثقتنا بخالقنا، واستعدادنا لمواجهة عدونا في كل حال.
ولعلي هنا أربط ربطاً لطيفاً، وقد يكون عند البعض بعيداً: كنا في رمضان في معركة مع الشيطان، ومع أهواء النفس، ومع المعاصي التي قد استحكمت في واقع حياتنا، ولعلنا قد حققنا نجاحاً، وأدركنا فلاحاً، وحققنا -ليس في جولة واحدة بل في جولات كثيرة- انتصاراً، فهل انتهت معركتنا مع الشيطان؟ نحن قد فرحنا بما وفقنا الله له من الطاعات، وبما سلمنا منه من المعاصي والشرور والآثام والسيئات، ولكن هل أغمد الشيطان خنجره؟ وهل أوقف وسواسه؟ وهل انتهت معركتنا فاستقمنا على الصراط المستقيم أم أننا ما زلنا في المعركة؟ إننا الآن قد ركنا إلى ما سلف من صالح أعمالنا، وعدنا شيئاً فشيئاً لتستحكم الغفلة فينا، وليعاود عدونا مرة أخرى انتصاره علينا، فتكون جولتنا تلك كأنها لا قيمة لها، وكأن انتصارنا يذبل ويضعف ويذوي ويزول! وهذه معركة حقيقية مع النفس التي بين جنبيك، ومع الشيطان الذي يوسوس لك، ونحن -وللأسف الشديد- نرى في أيام عيدنا، وبعد انتهاء شهر صيامنا ما نعرف أنه أظهر صور الهزيمة الإيمانية، وأجلى صور الخذلان بعد الطاعة، فكم نرى في حياة أمتنا وفي أعيادها من لهو يمسخ أثر الذكر والذكرى، ومن عبث يضيع آثار البر والتقوى، ومن معاصٍ تعيد الظلمة إلى القلوب والكدر إلى النفوس! وهذا لا يحتاج منا إلى كثير كلام ولا إلى أمثلة؛ فإن الشواهد واضحة نراها في الشاشات الفضائية، ونسمعها في الإذاعات، ونلامسها في الشوارع والطرقات، بل -وإن كنا صادقين- نلمسها ونعرفها في أنفسنا وفي بيوتنا التي كان القرآن يدوي فيها، وكان الذكر يصدح في جنباتها، وكنا فيها قائمين أو ساجدين أو متسحرين أو مفطرين، واليوم قد قل ذلك وضعف، ولا أود أن يكون حديثي مؤيساً أو محبطاً ومثبطاً لما سلف من الخير والطاعة؛ ولكنه إنذار وتنبيه؛ حتى نعاود حمل أسلحتنا الإيمانية، ونعود إلى التترس بالطاعات والذكر الحافظ من وساوس الشيطان، والوقوع في الآثام، ونعود مرة أخرى لنكون على أهبة الاستعداد؛ ليعلو إيماننا على وسواس شيطاننا، ولتنتصر إرادة الخير والطاعة في نفوسنا على أهوائنا وشهواتنا وجوانب دنيانا في معاصي ربنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على دينه، وأن يرزقنا الاستقامة على الطاعات والمواظبة عليها، وأن يعيننا على أهواء أنفسنا، وأن يقينا من وساوس شياطيننا.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يقيمنا على الحق، وأن يلزمنا إياه، وأن يبصرنا به، وأن يسلكنا طريقه.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم وفقنا للطاعات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ومكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، وهيئ للأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم أبدل أمتنا من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلتها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة، اللهم اجمعها على كتابك وسنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلها بكتابك مستمسكة، ولهدي نبيك مقتفية، ولآثار السلف الصالح متبعة.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
تول اللهم أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وارفع درجتهم، وأعل رايتهم.
اللهم يا أرحم الراحمين! اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذه الأيام المباركة والأعياد العظيمة خيراً وبراً ونصراً وعزاً للإسلام وأهله في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تكفينا شرور أعدائنا، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم فرق كلمتهم، وابذر الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم.
اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، وفر اللهم أمنها، وابسط رزقها، واحفظ وحدتها برحمتك وعزتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! ثبت اللهم أقدامهم، وأفرغ الصبر واليقين في قلوبهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(100/12)
التفريغ النصي - - للشيخ - صوتيات إسلام ويب function audiosearch() { if (kword.
value.
length Deutsch | Espanol | Francais | English
إسلام ويب | مقالات | فتاوى | استشارات | صوتيات | بنين وبنات | المكتبة
مكتبتك الصوتية
تسجيل مستخدم جديد
تفعيل الاشتراك
استرجاع كلمة السر أو رمز التفعيل
اسم المستخدم
كلمة السر(101/1)
أوروبا السوداء
لقد كشف الغرب عن حقيقة الحضارة التي يدعيها، وعن حقيقة المحافظة على حقوق الإنسان التي يزعمها بما يمارسه برابرة الصرب ضد شعب البوسنة والهرسك: من قتل وذبح وتشريد وتهجير جماعي، فإنهم يكيلون بمكيالين في كل شيء، مكيال خاص بالمسلمين يعاملونهم فيه أقل من معاملة الحيوانات، ومكيال خاص باليهود والنصارى وأعوانهم، بل رفعوا بهذا المكيال قدر كلابهم، وجعلوا لها حقوقاً، ووضعوها في صفوفهم!!(102/1)
حقيقة الحضارة الأوروبية
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وتعالى، وأستعينه وأستغفره، وأتوب إليه وأتقرب إليه، هو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! عباد الله! اتقوا الله حق تقاته، فإن الله جل وعلا قد أمركم بذلك في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم عن أوروبا السوداء، وليس في هذا العنوان أي خطأ، إذ تعودنا أن نسمع عن أوروبا البيضاء، وليس في ذلك السواد أو البياض ما يتعلق بالأمور المادية، بل إن هذه الأوصاف اللونية يربطون بها المعاني والمبادئ، فيصفون إفريقيا بالسوداء، ويصفون العالم الإسلامي وبلدان العالم الثالث بالسوداء ليشيروا إلى أنها متخلفة، أو ليبينوا أن فيها أسباب الظلم، وانتهاك حقوق الإنسان، إضافة إلى العنصرية والطبقية، أو إلى الهمجية والعدوانية، وينسبون إلى البياض: التقدم والحضارة، والعدالة الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان، وغير ذلك من المعاني الشريفة، والحق أن المسلم ينبغي أن يفرق دائماً بين الأسماء والمسميات، لينظر مدى انطباق الاسم على المسمى، فإن الباطل لا يغيره عن حقيقته أن نلبسه لباس الحق، أو أن نطلق عليه أسماء الحق، فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً، والعكس صحيح أيضاً، فلا يمكن أن يتغير الحق إن وصف بأوصاف الباطل أو سمي بأسماء باطلة، فإن الحق يستمد شرعيته من مطابقته لما جاء في كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحق أن كثيراً من الوقائع المعاصرة والأحداث المتتابعة كان من منافعها أن أذهبت غشاوة كانت تضلل كثيراً من العيون، وأنارت طريقاً مظلماً كانت تسير فيه كثير من العقول، إذ إن الحقائق المجسدة الواقعة لها من إثبات الحق أو الباطل، ومن توضيح الموقف أكثر مما يقال أو يكتب أو يزور عبر وسائل إعلامية أو ثقافية، ولذلك حديثنا اليوم عن أوروبا السوداء بمبادئها وموازينها الجائرة، ومواقفها الشائنة، وصورتها الحقيقية التي تسترها وراء أسماء لامعة، وأقنعة براقة، تخلب بها العقول، وتسد بها الأنظار، وتغري بها كثيراً من السذج، وتغير بها كثيراً من الأفكار.(102/2)
ضاع مسلمو البوسنة بين التواطؤ والتباطؤ
لقد كشفت الحقائق -وهذه القضية على وجه الخصوص- أوروبا السوداء بحقيقة عنصريتها، وعدائها الدائم، وحقدها الأسود ضد الإسلام والمسلمين، كما كشفت أن دعاوى حقوق الإنسان دعاوى كاذبة لا ترتبط إلا بالمصالح، وأن الموازين الدولية ومجلس الأمن والأمم المتحدة إنما تخضع للقوى التي تسيرها وفق مصالحها، وليس وفق المبادئ ولا القوانين حتى وإن كانت وضعية، وهذا شاهد حال واضح.
ولئن كان موقف الغرب مقبولاً ومفسراً عند الإنسان المسلم الذي يعرف حقيقة الإيمان والولاء والبراء، فكيف يفهم المسلم البسيط في شرق الأرض الإسلامية وغربها مواقف الدول الإسلامية؟ إنه يقول بلسان بسيط ولكنه فصيح، وبلغة بدائية ولكنها قوية: ضاع مسلمو البوسنة بين التواطؤ والتباطؤ، بين تواطؤ الغرب وتباطؤ المسلمين! لك أن تسأل وأن تتعجب: إن كان هذا موقف تلك الدول فلا شأن لنا بها ولا نتوقع منها إلا مثل هذا، فأين الدول الإسلامية التي تزيد على الخمسين؟ وأين قواها المادية والمعنوية؟ وأين ضغوطها السياسية؟ إن المسلم اليوم يشعر أن كثيراً من مقدرات المسلمين ليست في أيديهم، وإنما في أيدي من يتسمون بأسماء إسلامية، وينطقون بلغة عربية، ويعلنون شعارات إسلامية، ولكنهم في حقيقة الأمر هم أنفسهم حرب على الإسلام والمسلمين.
وإنك تجد كثيراً من الدول قد شغلت عن هذه المأساة والمعركة بمعارك أخرى، فنحن نسمع عن دول أنها مشغولة بمعركة الحجاب، وأخرى تشغلها معركة الإرهاب، وثالثة تخوض معركة حاسمة في إرساء الديمقراطية، ورابعة تشتد همتها في المعركة الشرسة ضد الفتنة الطائفية، ولك أن تسمع معارك أخرى كمعركة السلام، ومعركة الكلام، ومعركة الإعلام، معارك وهمية لو كشفت عنها فإنك تجد أنها تدور رحاها على الإسلام والمسلمين إلا ما رحم الله عز وجل، ويصرخ المسلمون وينادون بكل صوتهم وبكل صراخهم، دون أن يجدوا حتى من إخوانهم من يلبي التلبية الصادقة المؤثرة في الواقع، التي تجعلهم يشعرون شعوراً قوياً بأنه يمكنهم أن يواصلوا ثباتهم وصمودهم، بل أن يبدءوا في جهادهم وهجومهم، ولذلك قد أصبحت هذه الصور واضحة ناصعة، لا تحتاج إلى إغفال ولا إلى إيهام.
صاح صائح المسلمين -وأرجو أن يكون الصائح كل مسلم في كل مكان- ليكشف الحقيقة التي غابت عنه دهراً طويلاً ويقول: يا ساسة القمع الرهيب تفننوا بالقتل والتعذيب والإعسار واستخدموا الإعلام في ترويجكم للفسق والتضليل والإسكار إني صحوت فلملموا أشياءكم الله أكبر منهجي وشعاري هاتوا معاول هدمكم ودماركم واستجمعوا طاقاتكم لحصاري اسفك دمي اقتل فلست بمسجد لك جبهتي اقتل فلست براجع تياري اسفك دمي تأتيك آخر قطرة برسول جيش قادم جرار فالله نسأل أن يحفظ إخواننا المسلمين، وأن يدرأ عنهم كيد الكائدين، وأن يرزقهم الصبر والرضا واليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(102/3)
البابا يبارك لزعيم الصرب الإبادة الجماعية ضد المسلمين
زعيم الصرب المجرم يذهب إلى اليونان، ويستقبله رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية، ويقبل المجرم يد المجرم الآخر، ثم يبارك الأسقف على رأس كراجيتش مباركاً له ومهنئاً صنيعه في إبادة المسلمين، وتنشر صور هذه المقابلة في الصحف مع حملة دعائية كبرى لجمع التبرعات لصالح الصرب في حربهم العادلة ضد مسلمي البوسنة، وليس ذلك سراً، بل يظهر على الشاشات والصفحات، وعبر التصريحات في صورة وقحة واضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل.
ثم يعقد مؤتمر آخر للكنيسة الأرثوذوكسية، ومؤتمر ثان عقد في الأسبوع الماضي في تركيا المسلمة في البلاد التي فتحها محمد الفاتح باسم الإسلام، تعقد هذه المؤتمرات ويشارك فيها دول كثيرة، منها: روسيا، وأوكرانيا، ورومانيا، وبلغاريا، وسلوفاكيا، وصربيا، وأرمينيا، وكرواتيا وغيرها تحت شعار: الكنيسة الأرثوذكسية لمواجهة الصحوة الإسلامية في البلقان وفي آسيا الوسطى، وتتولى اليونان أمر البلقان، وتتولى روسيا أمر آسيا الوسطى والجمهوريات الإسلامية؛ لتطوق ما يسمونه بالمد الإسلامي، وما أحداث طاجكستان عنا ببعيد، ونعرف حينئذ كيف يتحرك أولئك القوم! إنهم لا يتحركون من منطلقات سياسية، بل من مبادئ عقائدية، وتذكي ذلك الكنيسة الأرثوذكسية لتقوم بهذه المهمة في شرق أوروبا، وتقوم الكنسية الأخرى بالمهمة ذاتها في غرب أوروبا، وتظهر أوروبا البيضاء على حقيقتها السوداء وعنصريتها الواضحة، وهي التي تتهم المسلمين بالإرهاب والجهاد، والعذاب للجنس الأبيض، وغير ذلك من التهم الكاذبة، وهذا كله يظهر في صور واضحة لا تحتاج إلى شيء من التعليق، ولذلك تنظر اليوم فإذا بهذه الأحداث الرهيبة لا تحتل من الأخبار العالمية إلا آخر الصفحات أو آخر النشرات الإذاعية، وكأنها ليست مأساة إنسانية غاية في الفظاعة، وليست ذات أهمية فيما يتعلق بإحقاق الحق، أو إقامة الموازين الدولية والقوانين، أو الشرعية الدولية أو غير ذلك من المسميات، وهذا يدلنا على أن هذا التواطؤ الرهيب ينطلق عن عمد وتخطيط، والوثائق التي نشرت، والمخاطبات والمكاتبات التي كتبت ونشرت تظهر ذلك بشكل واضح فاضح لا يحتمل الشك ولا الريب.
أولئك هم الغرب والغربيون والحضارة الغربية بمبادئها وموازينها، فأين العدالة التي يريدون تطبيقها؟! وأين حقوق الإنسان التي يدعون الانتصار لها؟! أين المواقف؟! لم نر موقفاً -حتى كاذباً- يمكن أن يكون مقبولاً أو معقولاً حتى عند المجانين فضلاً عن العقلاء.(102/4)
حظر الأسلحة وفرض التقسيم على أبناء البوسنة والهرسك
ما أسرع موقف الأمم المتحدة -في غمضة عين، وبسرعة رهيبة، وبإجماع سريع- لحظر الأسلحة على المتقاتلين في البوسنة والهرسك مع بدايات أول انطلاق الرصاص في تلك البلاد الإسلامية، ثم وعلى مدى عام كامل تظل قضية رفع حظر الأسلحة على إخواننا المسلمين قضية شائكة، يخشى منها أن تزيد من دائرة الحرب، وأن توسع من دائرة الدمار، وكذلك أن تجعل هناك حرباً عنصرية عرقية دائمة، وهذا هو الميزان الذي يزن به الغرب، وهذا هو المكيال الذي يكيل به، فهم يكيلون بمكيالين وبميزانين وبنظرتين وعينين، يكيل فيها لمن يحب ويوالي ويشترك معه في العقيدة والدين والمصالح بكيل يعطي ولا يبقي، وإلى من يخاصمونهم ويعادونهم في العقيدة والدين يكيلون لهم بكيل المنع والحبس والمصادرة والتضييق، حتى إن مجلس الأمن عندما صوت على قضية رفع حظر الأسلحة ظهرت مواقف أوروبا والدول الغربية عموماً تبين موقفها الشريف أمام هذه القضية الواضحة، ثم جاءت اليوم خطة التقسيم التي كان الإعلان الأوروبي رافضاً لها، ثم بعد ذلك وبتدرج ماكر خبيث عاد مقراً لها.
ثم في آخر الأمر هو اليوم يفرضها فرضاً فإما أن يقبل بها المسلمون، وإما أن يكون استمرار القتل والقصف والتدمير والاحتلال، وتتساوى القضية في وقت واحد، تبدأ محادثات السلام، ويزداد القصف على العاصمة سراييفو، ثم يزداد الحصار، وتقف الدول العظمى كلها عاجزة عن أن توصل طعاماً أو شراباً أو غذاءً أو أية نجدة إلى ثمانين ومائتي ألف محاصرين داخل هذه المدينة، يموتون جوعاً، حتى بدءوا في أكل القطط والكلاب والجيف المنتنة؛ لأنهم لا يجدون ما يأكلون، وأخشى -ولا أستبعد ذلك- أن يصيح صائح في الغرب الأبيض المتحضر ليعترض على مثل هذا؛ لأن فيه انتهاكاً لحقوق تلك الحيوانات، ومعارضة للرفق بها، أما الإنسان إذا كان مسلماً فهو عندهم وفي ميزانهم العملي لا القولي لا قيمة له، وقيمته أقل وأحقر من الحيوان، وهذا هو ميزانهم الذي أخبرنا الله عز وجل به، قال جل وعلا: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا أنهم يسرعون بالبغضاء والعداء إلى المسلم في كل مكان، لا يمنعهم من ذلك إنسانية ولا مبدأ ولا قانون؛ لأن حقدهم الأسود في قلوبهم السوداء في نفوسهم المريضة، وفي عقولهم الكليلة يدفعهم إلى هذا الأمر دفعاً لا يملكون له منعاً، ولذلك نجد اليوم خطة التجويع التي يشارك فيها الغرب أيضاً، الذي كان يزدهي بأنه يساعد المسلمين بالمبدأ الإنساني، ويرسل الإغاثات في هذه الأيام، حتى هذه الغلالة الرقيقة التي كان يستر بها سوءاته وعوراته بدأت تنكشف اليوم، ومندوبة الأمم المتحدة لشئون الإغاثة تصرخ بأن الإغاثات انخفضت إلى أقل من (50%) مع تعاظم الحاجة إليها في ظل الحصار الرهيب، والقصف المتواصل، والعسف المستمر، ومع ذلك حتى هذا الغذاء وهذه الإغاثات متوقفة ولا تتقدم مطلقاً، وهذا كله يدلنا على حقيقة المواقف، تشتد وتظهر وتفصح عن نفسها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، كان الأمر في أوله نقداً لتلك الهجمة الصربية الشرسة، على اعتبار أنها يمكن أن تنتهي في ظرف قصير كما تم ذلك في مواقع أخرى من بلاد إسلامية اعتدي عليها، ثم لما امتد أمد الأزمة بوقوف إخواننا وصمودهم، ظل بعد ذلك الموقف يتراجع شيئاً فشيئاً، حتى صار اليوم موقفاً واضحاً معلناً يؤكد حقيقة الولاء والبراء، وحقيقة ما علمنا الله عز وجل إياه، فلم نتعلم منه التعلم الحقيقي، ولم نطبقه التطبيق الكامل عندما خاطبنا الله عز وجل بنداء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وهكذا يتحقق ولاؤهم بصورة عملية، ويعيش إخواننا اليوم في مأساة لا أظن أن أحداً يمكن أن يجد لها مثيلاً أو مشابهاً في كل ما حل بالمسلمين في كثير من البقاع، بل في كل ما حل بكثير من الناس حتى في ظل الكوارث الطبيعية الإلهية التي يقدرها الله عز وجل، إذ إنهم -وخاصة في العاصمة سراييفو- يموتون موتاً بطيئاً، ومع ذلك بفضل الله عز وجل عندما أجريت مع بعضهم مقابلات فإنهم قالوا: نحن صامدون، ونموت موت الشرفاء، ولا نموت موت الأذلاء! وذلك الموقف هو الذي يعجب منه الغرب الكافر النصراني، الذي يشحذ قوته، ويريد أن يجهز على ذبيحته في هذا الوقت، ومع ذلك كله ربنا سبحانه وتعالى يبث في قلوب إخواننا المسلمين رضاً وسكينة وطمأنينة، ويبث في نفوسهم صبراً وثباتاً وجلداً، ونسأل الله عز وجل أن يديم عليهم هذه النعمة، وأن يثبتهم في وجه هذه الهجمة، وقد اتضحت لهم الصورة، وينبغي أن تتضح لكل مسلم في شرق الأرض وغربها، وأن يعرف المواقف على حقائقها، فالبوسني كان ولا يزال من شعوب أوروبا، وهو ابن تلك البلاد والديار، فعاش حضاراتها ولا زال، ولكنه عرف حقيقة الولاء والبراء، وحقيقة الحروب الدينية العقائدية، اليوم ينكشف له الزيف، ويعرف جيرانه الأوروبيين أنهم نصارى وأنه مسلم، وذلك فرق كبير بينه وبينهم، يجعلهم يتألبون بالعداء عليه، ويسعون لإهلاكه وتدميره، رغم أنه لا يملك حولاً ولا قوة.
وانظر إلى المواقف العادلة لهذه الحضارة الجائرة: تمنع السلاح عن العزل، وتحيطهم بقوى مدججة بالسلاح، وتسوف في المؤتمرات والقرارات، وتمنع الإغاثات، ثم بعد ذلك يقال: إن الذي يعرقل السلام هم البوسنيون، ورئيسهم الذي يمتنع عن المفاوضات التي هي في حقيقة الأمر نوع من العداء السافر، ونوع من الإجبار القاهر، ونوع من الصورة الوقحة لتلك القوى التي تتستر وراء العدالة والقوانين الدولية، ولذلك كشف المسلم في البوسنة الحقيقة، وينبغي أن يكشف هذه الحقيقة كل مسلم، وأن ينادي كما نادى مسلمو البوسنة: يا ساسة القمع الرهيب تأهبوا وتسلحوا بحديدكم والنار إني صحوت فلا تخدرني حلاوة منطق ومهارة استعمار إني صحوت فجردوا أسيافكم وتجسسوا وتحسسوا أخباري إني صحوت ولست أخدع بعدها يوماً بزيف خادع الأبصار ينبغي أن نكشف الأمور، وانظروا إلى حقيقة العقائد كيف تصنع!(102/5)
الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك
إن قضية إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك التي تقترب مأساتها اليوم من عام ونصف العام تقف أحد أبرز الشواهد والمعالم على حقيقة الحضارة الأوروبية الغربية، وعلى حقيقة مواقفها ومبادئها وموازينها، وعلى حقيقة دوافعها ومصالحها التي تلبس على الناس فيها، وتغير فيها وتغير، حتى صدق الناس كثيراً من الكذب لتكراره واستمراره، إن هذه المأساة التي بلغت ما لم تبلغه مأساة إنسانية خلال قرون طويلة مضت، والتي لا يمكن أن يصدق إنسان -لولا أن الواقع ينطق بذلك عبر الصورة وعبر الخبر وعبر السماع وعبر المعاينة- أن مثل هذه الوقائع تقع في القرن العشرين الذي يوشك أن يستقبل القرن الحادي والعشرين، تقع في ظل الأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد! تقع هذه الأحداث في ظل المناداة التي صمت الأذان بمراعاة حقوق الإنسان، والمناداة التي تسعى إلى تطبيق العدالة الدولية في كل مكان، رغم ذلك كله تقف هذه القضية الإسلامية لتعري المواقف على حقيقتها، وتبين المبادئ في زيفها وكذبها، ولست في مقام كثير من الوقائع، إلا أن ما استجد من الأحداث يدمي القلوب ويحرك الغيرة في النفوس المسلمة المؤمنة: لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان قد سمعنا وعرفنا، ثم تكرر ذلك علينا حتى نسينا وألفنا، سمعنا عن مئات الألوف الذين قتلوا ليس القتلة الشريفة في الحرب والميدان الواضح، وإنما قتلوا غدراً، ومثل بهم.
وسمعنا وعرفنا عن عشرات الآلاف من الأعراض المنتهكة، وعن عشرات الآلاف من أبناء الزنا من إثر ذلك الاغتصاب في أحشاء وبطون المسلمات البسنويات، وكل ذلك ربما صار في طي التاريخ عند بعض الناس! إلا أن ما استجد من الأحداث أيضاً يبين ويؤكد أن ذلك الصمت المريب، وأن ذلك التباطؤ والتواطؤ إنما يكشف عن حقيقة الدوافع والمبادئ، وكثيرة هي الأحداث والوقائع التي تكشف هذا، وحسبنا أن نعرف أخبار الحصار الأخير الرهيب على (سراييفو) عاصمة البوسنة التي تشتد القبضة حولها، ويعظم الهجوم عليها، ويبلغ الحال بالناس فيها أن يعيشوا في ظلام دامس إذ لا كهرباء، وفي جوع قاتل مميت إذ لا غذاء، وفي عطش قاتل مميت إذ لا ماء ولا رواء، كل ذلك تحت سمع الدنيا كلها، وتحت نظر أوروبا والغرب والحضارة الغربية التي دعمت المواقف الصربية، والتي وقفت أمام المسلمين وقفة شجاعة قوية في نصرة دينها وبني جلدتها ومصالحها، ولم تكن في ذلك تداري إلا بقدر ما تخدع به بعض الناس.
سأذكر بعض الوقائع القديمة، ونقف عند وقائع أخرى حديثة؛ لنرى حقيقة هذه الحضارة الزائفة الجوفاء، ونعرف حقيقة العداء المبني على الولاء والبراء، والمؤسس على العقائد والأديان، وليس على شيء غير هذا مطلقاً، عرفنا جميعاً موقف قائد قوات الأمم المتحدة السابق الذي كان يطبق المثل القائل: (حاميها حراميها)، ذلك الذي شارك الأعداء الصرب في جرائمهم باغتصاب المسلمات، والتمكين لهم فيما يريدون من الفتك بالمسلمين واحتلال الأراضي.
وكذلك نرى موقفاً آخر: عندما كان قائد القوت البريطانية المشاركة ضمن قوات الأمم المتحدة، رأى الهول والفضائع والجرائم؛ فاستيقظت إنسانيته، وصور هذه الجرائم، وصرخ بأعلى صوته، ونشر ذلك في كل مكان، ثم كان الجواب والعمل الذي قامت به دولته المتحضرة البيضاء أن سحبته من موقعه، وجعلت بدلاً عنه آخر لا يتكلم، بل ينظر ويسكت، أو ينظر ويشارك، وذلك هو الأمر الحقيقي الذي تمارسه هذه القوى والجيوش في بلاد الإسلام والمسلمين.(102/6)
صرخات ضد واقع المجتمع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى الشعور بمآسي المسلمين، والدعاء لهم، والاستنصار لهم، وبذل العون الممكن لهم بكل سبب ووسيلة مستطاعة.
وإن هذه المأساة الإسلامية -الماثلة أمام العيان- لتهز قلب كل مؤمن، وتثير الحمية في نفس كل مسلم، وتبصر كل عقل كان مخدراً أو غافلاً، وتنبه كل إنسان كان ساكناً راكداً، أنه لابد له أن يدرك أن الحرب دائرة على الإسلام والمسلمين، وأن أولئك المسلمين في البوسنة الذين لم يكن يظهر عليهم سيماء الالتزام، ولم يكن يظهر عندهم ما يسمى -كما يقولون- بالتطرف والإرهاب، ومع ذلك ومع كونهم بيض البشرة وزرق العيون، ومع كون نسائهم شقراوات وحمراوات مثل الأوروبيين إلا أن عندهم علة واحدة هي التي أورثتهم هذا العناء الرهيب، تلك العلة أنهم مسلمون، وهذا الإسلام وإن كان عندهم اسماً فحسب أو عند بعضهم فإنه كاف لأن تكون التهمة التي من أجلها تستخدم معهم صنوف العذاب من أجل الإبادة، ولذلك تنادي سراييفو: سراييفو تقول لكم ثيابي ممزقة وجدراني ثقوب وأوردتي تقطع لا لأني جنيت ولا لأني لا أتوب ولكني رفعت شعار دين يضيق بصدق مبدئه الكذوب هذه هي الصورة الواضحة للمواقف في هذه القضية، وإخواننا هناك بحمد الله عز وجل -رغم ما يعانون- قد أفرغ الله عليهم صبراً عجيباً، ورضاً بقضائه وقدره، وهم ثابتون رغم المعاناة والمقاساة، ورغم الهجمة الشرسة، والمؤامرة الرهيبة، والأعداء المتكالبين، وكثير من الأصدقاء المتخاذلين، رغم ذلك كله يقفون ويسألون الله عز وجل -ونسأل الله معهم- أن يثبتهم، وأن يفرج همهم، وأن يفرج كربهم.
وبقي أن أصرخ من هذا المقام صرختين لكثير من الممارسات الواقعة في مجتمعنا، والتي لا تتفق مع ما ينبغي أن يكون في قلوبنا ونفوسنا وأعمالنا تجاه مثل هذه المآسي التي تحل بإخواننا: صرخة ضد الإسراف والبذخ والتبذير الذي يقع في الأموال والأطعمة والأشربة، ونحن نعلم أن إخوة لنا يموتون هناك جوعاً، فلا أقل من أن نشاركهم في هذا، هذه الأفراح التي تتوالى في أوقاتنا في كل ليلة وفي أكثر من مكان، ثم نرى فيها صوراً من التباهي والمباهاة والإسراف الذي ذمه الله عز وجل، وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]، والله سبحانه وتعالى قد بين أنه لا يحب المسرفين، ثم هذه الأطعمة والنعم التي لا نقدر قدرها نخشى والله أن يحرمنا الله عز وجل منها! ثم ألا من مشاركة؟ ألا من إحساس بهذه المآسي؟ نحن لو شاركنا بأقل القليل فإننا نظل في نعم عظيمة من أمن وأمان، ورغد عيش ورخاء، وكثير من أسباب الحياة الرغيدة لو أننا اختصرنا شيئاً كثيراً فسنظل أيضاً في رغد وبحبوحة من العيش، وأقصد من هذا أن نشعر بهذه المعاناة، وألا نكون كافرين بنعم الله عز وجل، ولا جاحدين بفضله سبحانه وتعالى مما ساقه لنا من هذا الخير، ينبغي أن نسمع صرخات إخواننا وهم يقولون وبلادهم تقول: لكم يا إخوتي أكل وشرب وأكسية لها نسج عجيب لكم دار مشيدة وظل يظللكم به غصن رطيب لدى أطفالكم لعب وحلوى وعند نسائكم ذهب وطيب وما والله نحسدكم ولكن نقول أما لإخوتكم نصيب وصرخة أخرى لكثير من المسلمين الذين يسافرون باسم السياحة والنزهة إلى بلاد الغرب، فيدعمون قوتها واقتصادها باسم السياحة، ويعلنون أننا بصورة عملية غير غاضبين ولا مؤاخذين ولا عاتبين، بل وكأننا محبون أو مؤيدون أو مناصرون أو مشاركون لا سمح الله، فإن المال الذي تبذله إلى تلك الديار لا تستبعد أن يكون هو ذاته الذي يرتد رصاصاً في صدور إخوانك المسلمين في شرق الأرض وغربها، ولا تستبعد أن يكون هو الذي يرتد في صورة مؤامرات وجرائم وفضائع تنتهك هنا وهناك، فلماذا لا نفطن ولا يكون عندنا إحساس إيماني؟ ثم بعض أولئك الذين يغادرون إلى تلك الديار يريدون من أوروبا البيضاء بلحم نسائها الأبيض، ومخدراتها وسمومها البيضاء، ودخان سجائرها الضبابي الأبيض، يريدون أن يعيثوا في الأرض فساداً، فيعلنوا بذلك انسلاخهم عن سمت الإسلام، وأخلاقيات الالتزام، ويكونوا بذلك سبة وعاراً وسمعة سيئة على المسلمين، ويؤدوا بذلك مزيداً مما يرضي أعداءنا من التغرير والتضليل بأبنائنا.
فهذه صرخة ينبغي أن توقظ الناس أجمعين، ينبغي لنا بالفعل أن نستشعر في هذه الآونة -مع ضراوة الهجمة الشرسة- أنه ينبغي لنا ألا نكون سبباً -ولو من طريق غير مباشر، ولو بصورة ضئيلة- فيما يؤدي إلى تقوية أعدائنا وإضعاف إخواننا، من أعان على دم مسلم ولو بشطر كلمة لا يقبل الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً.
كيف تكون هذه المواقف منا ونذهب هناك نسيح، ونجول، ونقابل، ونعانق، ونهش، ونبستم، ونبذل، وندفع، وننفق، ثم نعود ونقول: إن مواقف الغرب، أو مواقف الحضارة الغربية، أو الدول الفلانية مواقف لا تتسم بالعدل والإنصاف، ونحن قد عبرنا عملياً عن نوع من التضامن معهم، أو على الأقل السكوت وغض البصر عنهم! لابد لنا أن نفطن وأن ندرك هذا وأن نصيح في بني الإسلام: بني الإسلام هذي حرب كفر لها في كل ناحية لهيب يحركها اليهود مع النصارى فقولوا لي متى يصحو اللبيب أراكم تنظرون وأي جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب ستطحنكم مؤامرة الأعادي إذا لم يفطن الرجل الأريب لابد أن ندرك حقائق الإيمان التي بينها الله عز وجل لنا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وقوله سبحانه وتعالى: {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، والآيات القرآنية التي تبين أن نصر الله عز وجل مرتبط بشرطه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، و {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، وتطبيق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وأن نعرف الحقائق في أضواء الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والسنن الربانية، وأن ندرك أنه لا تغيير إلا بتغيير، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فأروا الله عز وجل تغييراً في نفوسكم صادقاً، وأوبة وتوبة نصوحاً، وصدقاً ورضاً ويقيناً بوعده سبحانه وتعالى، وغيرة وحماساً وحمية لنصرة الإسلام والمسلمين، وبغضاً وكرهاً وبراءً من المشركين والكافرين، فحينئذ يؤذن الله عز وجل إذا تغيرت القلوب والنفوس أن تتغير الأفكار والرؤى والتصورات، وأن تتغير من ورائها السلوكيات والأعمال والأخلاقيات، ومن بعد ذلك يتحد المسلمون على قلب رجل واحد، ويكون وقوفهم صفاً واحداً تجاه أعدائهم، ولذلك ينبغي أن نفطن وأن نفقه هذه الحقائق.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يبصرنا بحقائق ديننا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا أوثق الواثقين به، وأغنى الأغنياء به.
اللهم لا تجعل لنا إلى سواك حاجة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا أفقر الفقراء إليك، وأغنى الأغنياء بك، اللهم اغننا بفضلك عمن أغنيته عنا، اللهم إنه لا حول ولا قوة إلا بك، فأمدنا بحولك وقوتك وتأييدك يا أرحم الراحمين! اللهم مكن في بلاد المسلمين لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع وأقم في الأمة علم الجهاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في البوسنة والهرسك وفلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم.
اللهم تقبل موتاهم في الشهداء، اللهم وأعنهم على الكرب والبلاء، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد عنهم كيد الكائدين، وتآمر المتآمرين، اللهم إنا نسألك أن ترزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم.
اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج كربتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم عليك بسائر أعداء الدين من الكفرة والطغاة والمتجبرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي! يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل ولاة أمورنا في هداك، ووفقهم برضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّه(102/7)
الدين في حياة المسلمين [2]
الإسلام منهج حياة، وكما أنه يجب على الفرد الالتزام به، يجب أيضاً على المجتمع بأنظمته المختلفة وعلاقاته الدولية أن يلتزم به، وأن يجعله مؤثراً في مجريات الحياة، ولكننا اليوم وللأسف نعاني من قصور كبير في هذا الجانب، فنرى إعلامنا وسياساتنا تخالف تعاليم الإسلام مخالفات صريحة، وتتجاوز أحكامه صراحة وكفاحاً.(103/1)
تأثير الدين في مجتمعات المسلمين
الحمد لله له الفضل والمنة، ومنه الرزق والنعمة، وعليه التوكل والاعتماد، وبه الهدى والرشاد، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته صلى الله وسلم وبارك على آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الدين في حياة المسلمين موضوع مهم، عندما كان الحديث عنه في الجمعة الماضية وجدت له عند كثير من الإخوة أصداء حسنة، وتعليقات كثيرة، ومطالبات عديدة، ذلك أن مثل هذا الموضوع يخصنا في أعظم الأمور التي تهمنا، وهو في واقع الأمر قطب رحى حياتنا، ومحور انطلاقنا إلى مرضات ربنا، ولقد وقفنا في الجمعة الماضية مع ذلك في حياة الأفراد، ولكن اكتمال الموضوع يحتاج إلى أن نرى الدين في حياة المسلمين على مستوى الأمة والدولة والمجتمع؛ لأن لذلك صلة وطيدة، وعلاقة قوية بما يؤثر على الأفراد، ويغير في أفكارهم، ويوجه من مشاعرهم، ويحول من سلوكهم، ولسنا بصدد استعراض ذلك كله، فإن المقام يضيق عنه، لكنها الأمور الكبرى، والمعالم العظمى التي تهم المجتمعات من خلال هذه المجالات.(103/2)
التعليم وبيان صلته بالدين
الجانب الآخر: جانب التعليم، وما أدارك ما التعليم! كل طفل وطفلة، كل فتى وفتاة يمر عبر هذه القنوات ويدرج في تلك المناهج السنوات والسنوات، فبأي شيء يخرج لدينه ولإسلامه، ولمعرفة فرائض الله وشرائعه، ولمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله؟! كم هي الحصة الوافرة في ذلك ونحن نتحدث على مستوى عام للبلاد العربية الإسلامية في جملتها، ونحن نعرف كثيراً من أحوالها.
إن بلاداً عربية وإسلامية كانت ولا زالت تفاخر بأنها أنجح من طبق سياسة تجفيف المنابع، وذلك في وأد الآيات، وتقليص الأحاديث، ومنع المعاني الإيمانية، والدراسات الإسلامية، وأكثر الدول إلا ما رحم الله تجمع مناهج الدين كلها في مقرر واحد، يكاد من هزاله ألا يرى بين كتب كثيرة ضخمة تعلم اللغات الأجنبية، والعلوم التقنية الأخرى، بل تعلم من الحضارات والثقافات الكفريه والجاهلية ما هو جدير بأن يكون بديلاً عنه حقيقة التاريخ الإسلامي في تلك البلاد، حتى إنه من المعلوم أن بلداً عربياً مسلماً كبيراً اختزل منهج التاريخ فيه في المراحل المتقدمة إلى الثانوية، حتى كان نصيب تاريخ عمر بن الخطاب وفترة خلافته وفتوحاته وإنجازاته لا يتجاوز نصف صفحة، وأما سيرة عثمان وخلافته فكانت بالعد والحصر سبعة أسطر لا غير.
وإذا مضينا نجد كثيراً من الأمور الأخرى، كالتشويه والتبديل والتحريف لمفاهيم الإسلام واجتزائها، بل وتحريف وتغيير وتبديل الأحكام الشرعية، بل وأحياناً عرضها في صورة الانتقاص والازدراء.
ثم هناك جزئية واضحة: إنه مجرد تعليم لوضوء وصلاة لا يذكر فيه كثير من جوانب الحياة الأخرى التي يتناولها الإسلام في شموليته العظيمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكما روى أبو هريرة: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة)، هذه الشمولية لا يكاد يكون لها أثر في كثير من مناهج البلاد العربية والإسلامية، وحينئذ يمكن أن نرى كيف تكون النتائج.(103/3)
النظم الداخلية وصلتها بالدين
ثم ننتقل إلى النظم الداخلية في كثير من بلادنا الإسلامية، ما الذي تقره وتبيحه؟ ما الذي تمنعه ولا تجيزه؟ إنها في كثير من هذه البلاد تبيح شرب الخمور وبيعها، بل إن بعض البلاد العربية والإسلامية اشتهرت بصناعة الخمور الجيدة التي هي من أعظم صادراتها.
ثم تنظر فتجد في بلاد أخرى ترسيماً للبغاء والزنا والخنا برخص رسمية، وضرائب تدفع إلى خزائن الدولة، وذلك أيضاً ليس خافياً ولا مجهولاً.
ثم هناك عدم اعتبار ولا احترام لمعنى الدين وفرائضه، فهل ترون الأسواق تغلق كما هي عندنا إذا أذن المؤذن للصلاة؟! وهل ترون أحداً يكترث لأمر يتعلق بالدين في واقع الحياة من حيث النظم والتقريرات؟! كنت مرة في بلد مسلم عربي، ودخلت للمسجد في صلاة الجمعة، وبجواره الأسواق مفتوحة، والناس يرتادونها، والمطاعم مفتوحة، والناس يأكلون فيها، وعند الأبواب ليس بعيداً من هنا من يتناول الشيشة، ويدخن السيجارة، وكثيرون لا يدخلون المسجد ألبتة، وهم عرب أقحاح ومسلمون بالهوية، وذلك من أثر هذه النظم.
أما إذا أراد مسلم أو مسلمون أن يقيموا مركزاً إسلامياً أو يؤسسوا جمعية دعوية، فدون ذلك خرط القتاد إلا ما شاء الله، وأما إذا فعل أحد شيئاً من ذلك فإنه قد تجاوز الحدود، واخترق الخطوط الحمراء، أما إذا أراد أن يقيم حفلاً غنائياً، أو أن يؤسس نادياً ليلياً، فذلك أمر ميسور ومباح ومشجع عليه، ولذلك لوائح ونظم، وله أسس يحاكم بموجبها الناس في تلك الديار.(103/4)
العلاقات الخارجية وصلتها بالدين
وأخيراً: العلاقات الخارجية والصلات الدولية، هل ترونها قائمة على أسس إسلامية ومنطلقة من المبادئ القرآنية ومهتدية بالسياسة النبوية؟! هل ترون فيها تجديداً للسفارة الإسلامية الأولى التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة يدعو ويبشر ويظهر محاسن الإسلام، ويذكر مآثر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويكشف في حكمة وحنكة معايب الجاهلية ومساوئها؟ وهل ترونها كذلك فيما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم في اليوم والليلة خمس صلوات، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
ويوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله).
كيف بعث النبي علياً وسلمه الراية في يوم خيبر لمهمة قتالية وقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
أين سياسة أمتنا وبلادنا ودولنا العربية والإسلامية من هذه المنطلقات الإيمانية والإسلامية؟ إننا نجد صوراً مغايرة، إما ارتهان وركون وارتماء في أحضان غير المسلمين خوفاً منهم ورهبة أو مصانعة لهم، ومجاملة أو مسايسة يظن كثيرون منهم أنها هي التي تعطي أسباب البقاء والرقي والتحضر أو القوة والتمدن، ولا نقول بأن هناك دعوة لقطع علاقات أو لمنع هذه الصلات، لكن منطلقاتنا الإسلامية تدعونا إلى أن نعرف من نحن وإلى أن نحافظ على هوية الأمة ديناً وتاريخاً ولغة، وأن نحافظ على مكونات قوة الأمة ثروة وأرضاً وخلقاً، وأن نحافظ على كل ما يحفظ لهذه الأمة خصوصيتها من مناهج تعليمية، وسبل اجتماعية، ونظم أخلاقية.
ونحن في عصر العولمة كما يقولون، وهم يريدون أن لا يبقى أمة تتميز بدين عن غيرها، ولا بلغة عن غيرها، ولا بثقافة عن غيرها، ولكنهم يريدون لما لهم من قوة مادية في الإعلام وغيره أن يقولوا لكم: دعوا هذه الخصوصيات وسنملؤها بما لدينا من الكثير والكثير الذي كله في معظمه لا يكون فيه الخير، ثم نجد في هذا كثيراً وكثيراً من الصور.(103/5)
النتائج المتوقعة لإهمال الدين من قبل المسلمين
هل نريد أيها الإخوة بهذا أن نوهن عزائم النفوس، أو أن نشعل شيئاً من معاني التذمر والتمرد غير الواعي، أو أن ندخل إلى النفوس يأساً مقعداً أو هماً عظيماً؟ كلا، ولكننا نريد أن ندرك ما هو واقعنا، ثم ندرك بعض النتائج وكيف يكون لها أثر علينا نحن جميعاً وذلك ناتج عما يصنعه أعداؤنا، وما قد يطبقه بعض أبنائنا إما بمصانعة سوء قصد، وإما بمتابعة وعدم معرفة وانتباه والله عز وجل يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وقد أخبرنا الحق عز وجل بذلك: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
تلك إرادة الله لا يمكن لقوى الأرض كلها أن تقف في وجهها، ولكن الله جل وعلا جعل في هذه الحياة سنناً ماضية لا تتخلف: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ما هي النتائج المتوقعة لذلك الهم والكم والغم الذي ذكرنا بعض صوره؟ كثيرة هي النتائج المتوقعة: غربة للدين، وجهل بالإسلام، وانحراف في السلوك، وغلو وتطرف في الفهم والمعالجة، ذلك هو الذي يمكن أن يقع، ولكننا ونحن نريد أن نشعل الأمل دائماً في نفوسنا، وأن نزرع بذور التفاؤل في قلوبنا، وأن نرى الخير الذي يسوقه إلينا ربنا، ونرى المنح في ثنايا المحن مما تجري به أقدار الحق جل وعلا، نجد أن ذلك الذي يصنع لا يحقق ثماره وآثاره إلا بقدر، وثمة آثار أخرى يسوقها الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] إنه تقرير إلهي بصيغة التوكيد الجازمة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ) وبصيغة المضارع الدائمة، فينفقون أموالهم للغاية القبيحة التي تختلف صورها مرة من السياسة، وأخرى من الاقتصاد، وثالثة هي الغزو العسكري، والنتيجة والهدف واحد: (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، قال: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)؛ ولكن ذلك لا بد وأن يكون ببذل وعمل وإخلاص وصدق، نرى بعض آثاره بحمد الله في بلاد الإسلام في جملتها زيادة في التدين، رغم كل هذه الوسائل العظيمة، نرى المساجد اليوم وهي أكثر رواداً من ذي قبل، نرى حلق التحفيظ وهي تجمع الشباب والفتيات منذ نعومة الأظفار ومنذ الطفولة الأولى.
حدثني قبل يومين مدرس هنا لتحفيظ القرآن يدرس بعض الأبناء في بيوتهم، وأخبرني أن طلبته من البنات والأبناء يبلغ عمر أصغرهم ثلاث سنوات، وهو يتقن تلاوة وحفظ جزء عم، وبعضهم في الخامسة والسادسة وقد أنهى نحو عشرة أجزاء وهلم جراً ونحن نعرف الأمثلة والدورات القرآنية المكثفة التي يحفظ بعض الطلبة فيها نصف القرآن وأكثر في نحو شهرين.
ومرة أخرى زيادة في الوعي أثمرته كثير من هذه الهجمات الشرسة، فأصبح المسلم اليوم يدرك من أحوال أعدائه ومقاصدهم ومكرهم وكيدهم ما لم يكن يدركه من قبل، وأصبح يعرف من حال إسلامه وحقائق إيمانه ومحاسن دينه ما لم يكن يكشف له من قبل، وذلك من فضل الله عز وجل.
ثم زيادة الوحدة؛ ونحن نرى اليوم التنادي والنداء داخل المجتمعات الإسلامية، بأن تنبذ أسباب فرقتها واختلافها، وألا تجعل اختلاف الآراء والاجتهادات داعياً لتفرق الصفوف، لماذا؟ لأن الجميع يقول: لا بد أن نكون صفاً واحداً في وجه الهجوم الخارجي الشرس، بل لا بد أن يكون هناك وحدة وتكامل بين العلماء والدعاة وعامة المجتمع، بل لا بد أن يكون كذلك وحدة وتعاون وتآزر لسد النقص ومنع الخلل مع الحكومات والشعوب؛ لأن الأمر أكبر وأخطر من أن يكون معه ذلك التفرق أو التناحر، أو أن نجعل القوى موجهة إلى داخل صفوفنا، والسهام مدفوعة إلى صدورنا ونحورنا.
نسأل الله عز وجل أن يدرأ عن أمتنا الشرور والمخاطر، ونسأله عز وجل أن يحفظ ديننا وإيماننا وعقيدتنا وبلادنا وديارنا وأهلنا، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(103/6)
هيا بنا نؤمن [1]
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالغفلة والذنوب والمعاصي والسيئات، فعلى المسلم أن يتفقد إيمانه، وأن يجدده بين الحين والآخر؛ فإنه يبلى كما يبلى الثوب، ومن أهم ما يجدد الإيمان ويزيده طاعة الله عز وجل ورسوله، وتجنب المعاصي والمنكرات، واتقاء الشبهات.(104/1)
أهمية تجديد الإيمان
الحمد لله، الحمد لله جلت عن الإدراك صفته، ووسعت كل شيء رحمته، وعظمت على كل شيء عظمته، له الحمد سبحانه وتعالى، جعل الإيمان به أماناً من كل فتنة، وثباتاً في كل محنة، وزاداً في كل كربة، فله الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، فكم نحن في حاجة إلى هذا النداء؟ ولعلنا مباشرة يدور في أذهاننا: هل نحن غير مؤمنين حتى نؤمن؟ ومباشرة يأتينا الإيضاح ربانياً ونبوياً في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136]، فهذا خطاب للمؤمنين أن آمنوا بالله ورسوله.
قال ابن كثير رحمه الله: ليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه.
وقال السعدي رحمه الله: الأمر يوجه إلى من دخل في الشيء، وهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه، ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات، ويقتضي الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله.
فكم هو المفقود في حياتنا من علم الإيمان وأعماله؟ جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق -أي: ليبلى- في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
رواه الطبراني من حديث عمر بن الخطاب، وقال الهيثمي: إسناده حسن.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن عمرو ورواته ثقات، وأقره الذهبي، وقال المناوي في شرحه: شبه الإيمان بالشيء الذي لا يستمر على هيئته، والعبد يتكلم بالإيمان بكلمة الإيمان، ثم يدنسها بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر فقد جدد ما أخلق، وطهر ما دنس.
وقوله: (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) قال: حتى لا يكون لقلوبكم وجهة لغيره ولا رغبة لسواه، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، أي: نذكره ذكراً يملأ قلوبنا، فهل كانوا في حاجة لذلك ونحن في غنى عنه؟ وهل كان ينقصهم من علم الإيمان وعمله مثل ذلك الذي ينقصنا؟(104/2)
وجوب الثبات أمام الفتن والشهوات
نحن اليوم في زمن الشبهات وفي عصر الشهوات وفي أوان المغريات وفي حين الملهيات التي تكاد تطعن القلوب فتدميها، وتمرض النفوس فلا تحييها، إن المرء اليوم يدرك أننا في عصر محنة تحتاج إلى زاد الإيمان، وفي عصر فتنة تحتاج إلى ثبات ورسوخ اليقين والإيمان، وفي عصر أصبح القابض فيه على دينه كالقابض على جمر، يرى في كل يوم من المحرمات، ويسمع في كل آنٍ من المحرمات ما لا يكاد يسلم معه أحد، إنها صور نحتاج فيها إلى تجديد إيماننا، وذكرى أحسب أننا نحتاج إلى وصل الحديث فيها مرة بعد مرة، وإلى تكرار الموعظة حولها كرة بعد كرة، فإن تجديد الإيمان في زمن الفتنة يحتاج أن يكون دأباً دائماً وهماً شاغلاً وعملاً متصلاً وتذكيراً غير منقطع بحال من الأحوال، إنها فتنة الأغراء بالمحرمات والمغريات والملذات: أجساد عارية، وكلمات ماجنة، ومشاهد فاتنة، ومواقف ساخنة، وشاشات داعرة، وإذاعات ساقطة، وروايات هابطة، وأسواق متبرجة، وجامعات مختلطة، وشهوات مستعرة، ونتيجتها: عيون معلقة بالمحرمات، وآذان مصغية إلى الباطل والغي من الكلمات، وقلوب مفتونة معلقة بتلك الملذات والمغريات، ونفوس قطعت وانقطعت عن التعلق بالمهمات، ألا يدعونا ذلك إلى أن نتذكر صور الإيمان أمام الإغراء؟ ألا يدعونا ذلك أن نستحضر السيرة العطرة لنبي الله يوسف عليه السلام الذي حكى الله عز وجل قصته في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] ثم ماذا؟ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، ويوم اجتمعت الصفوة من نساء النخبة في مجلس واحد وأتمرن على حسن يوسف بالإغواء والإغراء، أليس ذلك هو زاد الإيمان العاصم من ذلك؟ أليس يُفضل السجن وحبسه ووحشته على لذة محرمة ومشاهد فاتنة ومناظر مغرية؟ ألا نذكر الحديث العظيم لرسول الهدى الكريم صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله حيث ذكر منهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)؟ فخوف الله أحرق مواضع الشهوات، وجعل صورة أخرى للمحبوبات والملذات.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قال النووي في شرح الحديث -أي: لماذا خصت ذات المنصب والجمال؟ -: لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وكان الصبر عنها بخوف الله تعالى وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فكيف ننظر إلى هذا؟ واليوم ربما تصرع الفئام من أهل الإيمان حسناء بكلمة غنج ودلال، أو بأغنية فساد وانحلال، أو برقصة عهر وابتذال، أوليس ذلك هو واقع الحال؟ فأين نحن من علم وعمل الإيمان؟(104/3)
وجوب التحرز في المطعم والمشرب والملبس وجميع أنواع الكسب
وهناك مصرع آخر ومهوىً ردي آخر أمام المال؛ وما أدراك ما المال؟ فكيف هو اليوم مع فشو الربا وانتشار الرشوة وكثرة المحرمات في المفاسد والمطاعم حتى كأن البراءة من ذلك عند بعض ضعاف الإيمان اليوم هي في نطاق المستحيل الذي لا يمكن بحال من الأحوال؟! أليس اليوم قد تدنست المشارب والمطاعم، واختلطت المآثم بالمكاسب؟ ألسنا اليوم نرى أن الناس قد استحلوا ما حرم الله من المكاسب المالية حتى كأنهم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من ذلك، ولا تنقبض له نفوسهم، ولا تضطرب له قلوبهم، ولا يرون فيه إلا أنهم يأخذون بأسباب الحياة، وقصارى ما قد تجده عند أحدهم أن يفسر ذلك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ويعملون القواعد في غير مكانها؟! عجباً لنا معاشر المؤمنين! وزادنا من القرآن، ونصيبنا من هدي المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم يفيض عذباً زلالاً ليس فيه شائبة ولا كدر، يدعو إلى نفوس نقية وقلوب زكية وأيدٍ طاهرة ومكاسب ليس فيها أدنى شبهة.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة مطعم) رواه أحمد وغيره بسند حسن.
فقوله: (وعفة مطعم) أي: أن تعف عن كل شبهة وحرمة في الكسب من طعام وشراب ولباس.
عجباً لنسائنا اليوم! لا يتذكرن أن على المرأة المؤمنة أن تقف عند باب بيتها توصي زوجها وهو خارج لعمله وكسب قوته وتقول له: يا هذا! اتق الله في رزقنا؛ فإننا نصبر على الجوع، ولكننا لا نصبر على النار، فما بالها اليوم تقول له: حصل وحصل، واكسب واكسب، ولا عليك من قول هذا ولا ذاك، وكأنما استطعم الناس أن يأكلوا في جوفهم النار، والعياذ بالله! ألسنا نتذكر ما روى البخاري من قصة أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان له غلام يخدمه، فجاءه يوماً بطعام فأكل منه، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: ما هو؟ قال: كسب كسبته في الجاهلية من كهانة كذبت فيها عليه وخدعته، فأدخل أبو بكر أصبعه في فمه واستقاء كل ما أكل، أراد ألا يدخل جوفه شيء من حرام رغم أنه لم يكن به عالماً، ورغم أن الكسب كان في جاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والإسلام يجب ما قبله)، لكنهم عرفوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنه أمر المؤمنين بما أمر به الأنبياء والمرسلين: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51])، ذلكم ما أخبرنا به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فكسب الحرام يعمي البصيرة، ويطمس القلب، ويذهب نوره، ويوهي الدين، ويضعف أثره، ويوقع في حبائل الدنيا، ويحجب إجابة الدعاء، فإن وجدتم كثيراً من ذلك فلا تعجبوا؛ فإذا عرف السبب بطل العجب.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً من دلائل وعلائم نبوته صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذه منه -أي: من المال- أمن الحلال كان أم من الحرام!)، وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم نحن نرى الغصب رأي العين، والرشوة في كل مكان، والسحت والربا له قوام وكيان، ألا يصدق في ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ فأين إشراق الإيمان في القلوب؟! وأين رسوخ اليقين في النفوس؟! وأين التعلق بما عند الله من نعيم يعظم ويفوق كل الدنيا وما فيها وما بها من نعيم أهلها؟! ألسنا نذكر أهل الإيمان؟! استمع لفقه الإيمان وهو يعطينا الميزان الذي ينبغي أن نلتفت إليه، هذا ميمون بن مهران يقول لنا: لا يكون المرء تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه؟ ووهيب الوردي رحمه الله يقول: لو قمت في العبادة قيام سارية -أي: واقفاً منتصباً غير متحرك قائماً لعبادة ربك- ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.
فأين الإيمان الذي يدفع إلى الورع والتحري في المكاسب والمطاعم والمشارب؟! قال الشاعر: المال يذهب حله وحرامه يوماً وتبقى في غد آثامه ليس التقي بمتقٍ لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي ويكسب كفه ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي به عن ربنا فعلى النبي صلاته وسلامه(104/4)
كيفية مواجهة الهموم والمشكلات التي نواجهها في واقع حياتنا
هناك أمر ثالث من واقع حياتنا وهو: الهموم والمشكلات التي تضيق بها الصدور، ويعظم همها وكدرها في القلوب، ففي أي الأوبئة هي؟ وفي أي الميادين هي؟ وما الذي يشغل البال؟ وما الذي يطأطئ رءوس الناس؟ وما الذي يجعلهم يخلون بأنفسهم في الليل والخلوات ينفثون من صدورهم زفرات، ويطلقون من أصواتهم آهات؟ فأي شيء حمل الهم في قلوبهم، بل ربما أجرى الدمع من عيونهم؟ إنها أمور من الدنيا فاتتهم، ونعيم من شهواتها لم يصلهم، ومشكلات في حالهم وذاتهم لا تعدوهم إلى غيرهم! عجباً! لمثل هذا الهم والفكر عند مؤمن بالله، ومؤمن بانتهاء الحياة، ومؤمن بالوقوف بين يدي الله، ومؤمن بأن عليه واجباً في دين الله وتجاه دعوة الله وتجاه نصرة دين الله وتجاه التصدي لأعداء الله، فأين همه في دينه؟ وأين همه لأمته؟ وأين همه لدعوته؟ وأين هو من الفاروق عمر رضي الله عنه يوم كشف باله وعظم حزنه وانشغل فكره؟ فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فقال مقالته الشهيرة: (لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لم لم أسو لها الطريق؟) أتعبت من بعدك يا فاروق! ولا نقول اليوم: إلا إن بيننا وبينك ما بين الثرى والثريا، لم يعد يشغل بالنا مثل هذه الأمور الدقيقة؛ فقد صارت ليس في ذيل القائمة من الاهتمامات بل عدمت ونسخت من الذاكرة، ومحيت من القلوب والنفوس إلا ما رحم الله.
هذا أبو هريرة راوي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الصفة يبكي في مرض موته، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة! وقد نلت شرف الصحبة، وحزت الرتبة العليا في رواية السنة؟ فإذا به يقول: (إنما أبكي لبعد المسافة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إما إلى جنة أو نار)، ذلكم هو الإيمان الحي في القلوب، ذلكم هو اليقين الراسخ في النفوس، تلك هي علوم الإيمان العملية القلبية النفسية، تلك هي الدنيا التي تقزمت وتقلصت وتلاشت حتى كاد ألا يكون لها موضع في القلوب ولا مكان في النفوس.
وهذا الضحاك بن مزاحم التابعي الجليل يبكي في يوم من أيامه، فقيل له: (ما بالك تبكي؟ فقال: لا أدري اليوم ما صعد من عملي!) فكل يوم جدير بنا أن نبكي فيه على أنفسنا، فهل ندري ما صعد من أعمالنا؟ ألا نعرف كم في صحائفنا من سواد، ومن كلمات لاغية، وآذان للباطل مصغية، وأقدام لغير مرضاة الله عز وجل ساعية؟ كم يطول همنا وفكرنا لو أننا تدبرنا مثل هذا، وعشنا مع مثل هذه المعاني؟ عجباً لنا! ورسولنا صلى الله عليه وسلم قدوتنا العظمى وأسوتنا المثلى عليه الصلاة والسلام يخبرنا فيقول في دعائه: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)، يقولها عليه الصلاة والسلام وهو الذي ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع يوم الأحزاب.
يقولها ويدعو بها وهو الذي قالت عائشة عن حالته: (كان يمر الهلالان والثلاثة ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار).
يقولها صلى الله عليه وسلم وقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
يقولها وقد نزل عليه الملك فقال: لو شئت أن تدعو فيجعل الله لك الصفا والمروة ذهباً فيقول: (لا، ولكن أطعم يوماً، وأجوع يوماً)، بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(104/5)
حاجتنا إلى التجديد الإيماني
ولو مضينا لوجدنا من ذلك كثيراً، ونحن اليوم في هذا الزمان نحتاج إلى مثل هذا التجديد الإيماني، ليس علماً نقوله ولا قصصاً نرويها، ولكن حياة قلب نحياها ويقظة نفس لا تغفل عن طاعة الله عز وجل، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروي لنا عجباً من أمر حبيبها صلى الله عليه وسلم فتقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم عُرف في وجهه الكراهة فتعجبت منه أم المؤمنين فقالت: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته رأيت في وجهك الكراهة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح، ولقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]).(104/6)
أثر الإيمان في القلب
انظروا إلى النظر الإيماني كيف يجعل هم الآخرة في القلب، وخوف الله في النفس؟! انظروا إلى مثل هذا الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه وقد رأى الشيب في شعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لصديقه وحبيبه ونبيه: شبت يا رسول الله! فقال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، و ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ))، و ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)))، قال الشراح: لما جاء في هذه السور من شديد الآيات في أهوال يوم القيامة.
نسأل الله عز وجل أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يعظم رسوخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا، وأن يصرفنا عن كل ما لا يحب ويرضى.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(104/7)
أهمية تجديد الإيمان في باب الأشواق والأمنيات، وحال السلف في ذلك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تجديد الإيمان تجديده في باب الأشواق والأمنيات، فبأي شيء تتعلق أشواقنا؟ وإلى أي أمر تتوق نفوسنا؟ فكم هي ملذاتنا مرتبطة بشئون دنيانا، في مال وفير، وامرأة حسناء، وذرية كثيرة، وقصور ودور، ومراكب وغيرها! تأمل صورة أخرى يقولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (متع الدنيا ثلاث: إكرام الضيف، والصوم في الصيف، والضرب بالسيف).
ويزيدها إغراباً وإبعاداً عن أهل الدنيا وأمنياتهم سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه حين قال: (ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أُصبح فيها العدو).
تعلقت القلوب والأمنيات بطاعة الله ومرضاته ونصرة دينه حتى بتنا اليوم نقول: أين تلك الأشواق؟ أين أشواق عبد الله بن رواحة يوم كان في مؤتة ينادي: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علي إذ لاقيتها ضرابها إنه شوق عجيب إلى الجنان، وقد ترجمه من قبله أنس بن النضر في يوم أحد يوم قال: (واهٍ لريح الجنة؛ إني لأجد ريحها دون أحد).
وقدوة الكل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علمهم وغذاهم وعرفهم وغرس ذلك في قلوبهم ونفوسهم يوم قال: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية قط)، ثم قال: (ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت، ثم أحييت فقتلت، ثم أحييت).
رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
فأي شوق هذا؟! وأي توق هذا؟! وأي أمنيات هذه؟! إنها اليوم يا رسول الله أمنيات إرهابية، إنها اليوم أمنيات مجرمة، إنها اليوم مما يستتر به المسلمون ويخفونه، فلا يكاد أحدهم ينطق بكلمة جهاد ولا شوق إلى استشهاد إلا ما رحم الله.
نسأل الله جل وعلا أن يجدد الإيمان في قلوبنا، وأن يعظم اليقين في نفوسنا، وأن يحيي قلوبنا بمعرفته، وأن يشرح صدورنا باليقين به.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم املأ قلوبنا بحبك، ورطب ألسنتنا بذكرك، وثبت أقدامنا على نهجك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا ساعية إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك، وألسنتنا لاهجة بالتضرع إليك، وقلوبنا مملوءة بالخشية منك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين! اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا بالقول الثابت يوم يقوم الأشهاد يا رب العالمين! ويا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تصرفنا عن السيئات، وأن تباعد بيننا وبين الشبهات والشهوات، اللهم إنا نسألك أن تعلق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، وأن تجعل ضمأ نفوسنا إلى رضوانك وجنانك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم لا تجعلنا نضل وأنت رجاؤنا، ولا نحرم وأنت أملنا، ولا نخيب وأنت معطينا، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وسلمنا وإسلامنا وسعة رزقنا ورغد عيشنا، واجعلنا لك شاكرين ذاكرين يا رب العالمين! برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(104/8)
هيا بنا نؤمن [2]
الغفلة عن الله عز وجل هي سبب البلاء؛ إذ الغافل يرتكب الذنوب والمعاصي التي بسببها يحصل فساد البلاد والعباد، وبها تتنزل العقوبات، فيجب على العبد أن يرجع إلى الله عز وجل، وأن يراقبه في السر والعلن، فلا نجاة لأحد في الدنيا والآخرة إلا بذلك.(105/1)
حقيقة الإيمان وفائدته
الحمد لله، الحمد لله جلت قدرته، وتجلت حكمته، ونفذت مشيئته، وعمت رحمته، وتقدست أسماؤه، وتكاثرت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، نداء نعيد ذكره ورفعه، فنحن مؤمنون؛ غير أننا نريد أن نكمل النقص، وأن نقوي الضعف، وأن نعظم الأثر، وأن يكون إيماننا هو ذلك الإيمان الذي غرسه النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه فعمرت بالتقوى، وأشاعه في نفوس أتباعه فنضحت بالخير والهدى.
إن الإيمان منبع كل خير، ومصدر كل هداية، وأساس كل إصلاح، إنه نور كل قلب، وطمأنينة كل نفس، ورشد كل عقل، إنه إخلاص كل نية، وصلاح كل عمل، إنه خير الدنيا وفلاح الآخرة، إنه عند كل مؤمن محور وقطب رحى حياته؛ لأجله يعيش، ولأجل نشره والذب عنه يقضي ويضحي، ولأجل نشره والتعريف به يجهد ويبذل.
الإيمان في حقيقة أمرنا وحياتنا ومنهجنا الإسلامي هو قضية القضايا، فهو القضية الكبرى التي لأجلها خلق الله الخلق، وخلق السماوات والأرض، وخلق الجنة والنار، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كل ذلك لأجل قضية الإيمان.
وقد وقفنا وقفات ماضية مع صور إيمانية نحن في أشد الحاجة إليها وفي أعظم الافتقار إليها في زمن الفتنة والمحنة وغلبة الأهواء واضطراب الآراء، في الزمن الذي تغيرت الأمور، وصار بعض المعروف منكراً وبعض المنكر معروفاً، في الزمن الذي توالت الدعوات في تغيير الشرائع والأحكام حتى وصلت إلى طلب تغيير الأحاديث والآيات! إن هذا أمر في غاية الأهمية، ونحن قد استعرضنا صوراً من فتنة النساء، أو فتنة المال، أو الاهتمامات التي وقعنا في كثير من جواذبها ولا عصمة لنا منها ولا قوة لنا في مواجهتها إلا بالإيمان بالله جل وعلا.(105/2)
الغفلة وأثرها على الفرد والمجتمع
نمضي اليوم إلى صور أخرى نرى فيها قصوراً ونقصاً، ويظهر من خلالها حاجة ماسة إليها وفقر، إنها الغفلة عن الله، وإظهار الاستغناء عن الله، وعدم الشعور بالضعف والذل والانكسار بين يدي الله، وعدم الشعور الدائم بالحاجة الماسة إلى أن يفضي بهمه وغمه بين يدي مولاه، وعدم الرجوع عند كل خطب وأثناء كل كرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن المؤمن هو الذي يتوكل على الله، وينيب إليه، ويخلص له، ويستمد منه ذلكم الأمر المهم؛ لأن القلب المؤمن موصول بالله، ولأن اليقين الراسخ في النفس يجعل الثقة لا تعطى إلا لله، والقوة لا تطلب إلا من الله، والنصر لا يستنزل إلا من عند الله، ولأن المؤمن الحق يعرف أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا هدى ولا تقى إلا في منهج الله، ولا صلاح ولا راحة ولا حياة طيبة إلا باتباع شرع الله.
إن الأسئلة المهمة التي نرى ضعفها في واقع حياتنا وتجعلنا نتساءل هي: أين الالتجاء إلى الله والدعاء له؟ وأين الافتقار إلى الله والقنوت له؟ وأين الركون إلى الله والقنوت له؟ وأين نحن في واقع الحياة من هذا الأمر، ونحن نرى المؤمنين والمسلمين في كثير من أحوالهم يلتمسون القوة عند أهل الأرض في شرق أو غرب، ويلتمسون العون عند هذا المخلوق أو ذاك؟ كأنما خلت قلوبهم من صلة عظيمة بالله وافتقار شديد إليه، وكأنما لا يستحضرون المعاني الإيمانية التي ضرب الله عز وجل لنا بها المثل في أعظم الخلق وأشرفهم وهم رسله وأنبياؤه، فالرسل والأنبياء مع كل ما آتاهم الله عز وجل ضربوا لنا المثل في أنهم كانوا القدوة في افتقارهم إلى الله؛ فهم الذين صوروا لنا في واقع حياتهم لجوءهم إلى الله، وكثرة دعائهم وتضرعهم وانكسارهم وذلهم وإخباتهم لله، لقد كانت ألسنتهم رطبة بذكر الله، وأيديهم مرفوعة بالدعاء إلى الله، وأعينهم دامعة من خشية الله، وقلوبهم مملوءة بحبه وخوفه سبحانه وتعالى.
فهذا نوح عليه السلام تكالب عليه قومه، وحاصروه من كل جانب مع ثلة قليلة من أهل الإيمان كانوا معه، ولكنه كما قال الله عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، وجاء الجواب سريعاً: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فما التمس عوناً من هنا أو هناك، بل كان يعرف القوة ومصدرها والنصر ومنزله فمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نبي الله يونس قال عنه سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وجاء
الجواب
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88].
وهكذا في قصة أيوب عليه السلام قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
وهكذا في قصة زكريا قال عز وجل: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89].
وهكذا في قصة يوسف عليه السلام نجد استنجاده واستعصامه بالله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
ففي كل الصور: صور العداء، صور الفتنة، صور الإغراء، صور الفقر، صور الغنى، كان الاستمداد واللجوء والتضرع والابتهال والصلة الدائمة بالله دليلاً على إيمان حي في القلوب، وعلى نور مشرق في النفوس يدفع الإنسان دائماً وأبداً إلى أن يستشعر فقره وضعفه وذله وانكساره وحاجته لله سبحانه وتعالى.(105/3)
أهمية الرجوع إلى الله عز وجل في جميع الأمور
فكروا أحبتي! وليدر كل في نفسه هذا السؤال وفي خاطره تلك الصور من حياته: كم مرة في يومه، أو في أسبوعه، أو في شهره بل ولا أبالغ إن قلت: في عامه انكسر بين يدي الله، وشعر أنه في شدة الحاجة إليه، وأن ليس عنده ما يفضي به إلى الله؟ فكم نحن في غفلة نلتمس أسباب نجاتنا وعون حياتنا وشفاء أمراضنا من الأسباب البشرية دون أن تتعلق قلوبنا برب البرية سبحانه وتعالى؟ يقول ابن القيم رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به سبحانه وتعالى، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه.
إنها نعمة يسوقها الله لمن أحب؛ فيجعله لا يرى أحداً، ولا يتعلق بأحد، ولا يرجو أحداً إلا خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؛ لأنه قد ملئ قلبه بهذا الإيمان، واستشعر دائماً من إيمانه أهمية الصلة بربه، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مرة.
قال الشاعر: فقيراً جئت بابك يا إلهي ولست إلى عبادك بالفقير غنياً عنهم بيقين قلبي وأطمع منك بالفضل الكبير إلهي ما سألت سواك عوناً فحسبي العون من رب قدير إلهي ما سألت سواك هدياً فحسبي الهدي من رب نصير إذا لم أستعن بك يا إلهي فمن عوني سواك ومن مجيري لسان حال المؤمن افتقار إلى الله يستحضر به قول الله جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، فلمَ لا نلجأ إلى الله إلا إذا ادلهمت الخطوب، وتوالت الكروب، وعظمت الرزية، وكبرت البلية؟ ولمَ لا تكون القلوب دائماً مفضية إلى خالقها، منيبة إليه، موصولة به، راجية منه؟ ذلك هو حال المؤمن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يشجع كل مؤمن ويحيي هذه المعاني في قلبه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً، حتى يضع فيهما خيراً).
رواه الترمذي.
لا يخيب من دعا الله، ولا يضل من استهداه ولا يخذل من استنصر بالله سبحانه وتعالى، دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في غير وقت الصلاة فوجد أبا أمامة جالساً، فسأله: (ما لك يا أبا أمامة! في المسجد في غير وقت صلاة؟ فقال: يا رسول الله! هموم لزمتني، وديون أثقلتني، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على ما يفرج الهم ويقضي الدين؟ قل: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد ذكره واستحسن العلماء أن يذكره المسلم في أذكار صباحه ومسائه، فكم كرب يمر علينا؟ وكم من ظروف وهموم تنزل بنا؟ فهل لجأنا فيها إلى الله؟ إن دعوة ضارعة خاشعة في خلوة وظلمة تسكب في نفسك من الرضا ومن السكينة والطمأنينة ما يذهب همك، ويزيح غمك، ثم يفرج الله عز وجل، فإنه مفرج كل كرب وميسر كل عسير سبحانه وتعالى.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
إن الله سبحانه وتعالى بيده مفاتيح كل شيء، بيده الخلق والأمر، فما بالنا نغفل عن هذا ولا نجعل إيماننا دافعاً لأن نستحضر هذا المعنى بكل ما جاءت به الآيات وما وردت به الأحاديث؟ قال عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، فمن يملك الملك حتى يعطيك؟ ومن يملك العز حتى يعزك؟ فما بالنا قد التجأنا إلى أسباب الدنيا وركنا إليها، واعتمدنا عليها كأن لا إيمان في القلوب ولا يقين؟ فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا المعنى الذي تجلى دائماً وأبداً في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وأسلافنا من المؤمنين إلى يومنا هذا عندما جعلوا قلوبهم معلقة بالله سبحانه وتعالى!(105/4)
علاج أحوال الأمة والأفراد في الإيمان بالله عز وجل
هناك صورة أخرى من صورنا المحزنة المؤلمة التي علاجها جزماً وقطعاً في هذا الإيمان وروائه ونوره وإشراقه وآثاره: كم نرى صوراً فيها القلوب متنافرة، والنفوس متشاحنة، والصفوف متخالفة؟ كم نرى الخلاف وهو شائع، والاعتداء وهو ذائع؟ كم نرى صوراً من القتل باسم الإسلام يحصل؟ كم نرى صوراً من التدمير بدعوى الإصلاح تقع؟ كم نحن في حاجة إلى أن نؤكد معنى الإيمان الأعظم ودلالته الكبرى في أخوة القلوب واتحاد النفوس وارتباط الصفوف وتكاتف المؤمنين؟ كم نحن في حاجة إلى أخوة الإيمان وعصمة الإسلام؟ كم نتساءل اليوم: أين القلوب المتآخية؟ وأين النفوس المتصافية؟ وأين الرحمة الغامرة؟ وأين المودة العامرة؟ وأين نحن من قول الله جل وعلا: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]؟ وأين نحن من قوله جل وعلا في وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وأين نحن من القصر الذي يتضح من قوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؟ لا يكون إيمان كامل إلا بأخوة صادقة، ولا تقوم أخوة حقيقية إلا على إيمان صادق.
أين نحن من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)؟ وأين المعنى المتجلي في الصورة العظيمة الفريدة التي لم يسطر تاريخ البشرية مثلها أبداً، صورة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؟ فالمهاجرون تركوا ديارهم فنزلوا على قلوب إخوانهم قبل أن ينزلوا في دورهم، إنها صورة تجلت في آيات القرآن، كما في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فهل رأت الدنيا صورة من الوحدة والألفة والمحبة مثلما كان بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرون وأنصار، وأوس وخزرج، وفرس وروم وأحباش، كلهم إخوة مؤمنون تربطهم رابطة الإيمان، ومحبة تتدفق من القلوب، ومودة تشيع في النفوس، وأكف بعضها بأيدي بعض، ليس بينهم اختلاف ولا شحناء ولا بغضاء، ذلك هو داعي الإيمان الذي يدعونا ويجعل المؤمن عندنا والمسلم أولى أحد نحبه ونواليه، ونسأل عن حاله، وننصره وندعو له، ونهتم لهمه ونغتم لغمه، وندفع عنه بقدر استطاعتنا وجهدنا وطاقتنا.(105/5)
تحريم أذية المسلم والإضرار به
إن أمر المؤمن عظيم، وإن الإضرار به وإلحاق الأذى به صغيراً كان أو كبيراً أمر خطير وعظيم في الإسلام؛ ألم نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يحزنه)؟ أي: أن مجرد هذا الفعل البسيط بأن تهمس لأخ لك دون الثالث الذي ليس في المجلس غيره قد يدور في ذهنه أن الكلام عليه، فيدخل حزناً في قلبه، ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ونبه إلى أهمية مراعاة مشاعر أخيك المؤمن وعدم فعل أي شيء يحزنه أو يغضبه، في الحق وبموافقة الشرع، فإذا زاد الأمر فإن الخطب عظيم، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى مسلم بحديدته فهو يتوجأ بها في نار جهنم إلى يوم القيامة)، هذا بمجرد الإشارة، فكيف بنا ونحن تتجدد في بلادنا وفي بلاد المسلمين أفعال من القتل والتدمير والأسلحة الكثيفة الكثيرة التي أعدت لتحصد أرواح مؤمنين، وتدمر ممتلكات مسلمين، وتثير الرعب في أهل الإيمان والإسلام، وتجعل الضغينة والأحقاد هي العلائق والصلات بين المجتمع المسلم! أين هذا من الإيمان؟! وأين هذا من حقائق الإسلام وتشريعاته؟! وأين هو من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن هم فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى)، هذه صور هي من حقيقة إيماننا، وليست قضية إرهاب ذكره لنا الساسة وشاع بين العالم، بل هذه هي حقائق أخوة الإيمان؛ فبمجرد هذه الإشارة بالحديدة أو الإخافة للمسلم يأتيك وعيد شديد وخطر عظيم، بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل إلى مسجد ومعه سهام فليأخذ بنصالها)، أي: لا يجعل السهم موجهاً للناس وإن كان سائراً لا يقصد لهم أذىً، فكيف بإهراق دم مسلم؟ نسال الله عز وجل السلامة.
وقد مرت بنا أحاديث كثيرة في هذا المعنى إلا أن تجدد الأحداث يعيد إلينا حقائق الأحكام التشريعية الإسلامية وضوابطها التي تعظم حرمة المسلم والتي تعظم وحدة المسلمين وأخوتهم.(105/6)
وجوب التكاتف مع إخواننا المسلمين في فلسطين
ومن جهة أخرى ننظر إلى هذا المعنى في حدث أيضاً مهم، أحسب أن كثيراً من الناس لم يلتفت إليه، ولم يسترع انتباهه، من دواعي هذه الأخوة الإيمانية ومن أثار الإيمان ودلائله: أن نهتم بأمر كل مسلم في شرق الأرض وغربها، وأن ندعو له، وأن نتذكر حاله، وأن نستشعر كربه، وأن نمده ونعينه بما نستطيع، فهل لا يوجد في أهل الإسلام من يحل به كرب أو يحيط به خطب أو يقع عليه اعتداء؟ إن ذلك يقع لا أقول: في كل يوم بل في كل لحظة وساعة، فأين نحن من حبال الود الإيمانية والرابطة الإسلامية ولو استشعاراً بالقلوب وتأثراً في النفوس؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم رأى قوماً من مضر دخلوا المسجد وعليهم علائم الفقر وثيابهم مرقعة تمعر وجهه صلى الله عليه وسلم -أي: تغير حزناً على حالهم وتأثراً بمنظرهم- ثم دعا الناس لعونهم ولإغاثتهم، فتجمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه بهذا المنظر الذي فيه التكافل والتكامل والتعاضد الذي جسد قلوباً مؤمنة حية وأخوة صادقة عملية، فأين نحن اليوم من هذا؟ وأين نحن من أحوال إخواننا المسلمين في أرض فلسطين؟ وإن الحدث الجلل تقترب ساعته وتتوالى أحداثه، إنه حدث وخطب جلل من اعتداء قريب على المسجد الأقصى تنادى إليه من يسمونهم هم بأنفسهم المتطرفين من اليهود عليهم لعائن الله، فإنهم يتجمعون في يوم الأحد بعد غد ليقتحموا المسجد الأقصى وساحاته، ويتنادى أهل فلسطين في أرض القدس وفي الأراضي التي يستطيعون فيها الوصول إلى المسجد الأقصى لكي يكونوا فيه هناك على مدى أيام ثلاثة ليلاً ونهاراً؛ ليذودوا عنه، أفلا يستحقون أن نتذكرهم، وأن نتذكر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نغتم لذلك ونحزن، كما أبى صلاح الدين رحمه الله أن يتبسم والمسجد الأقصى في قبضة النصارى في عهده؟ ألا يستحق ذلك منا أن نتابع وأن نهتم وأن نعرف أن القضية خطيرة؟ لأن إخواننا في أرض فلسطين ممنوعون من دخول المسجد الأقصى منذ أربع سنوات، فمنذ انطلاق انتفاضة الأقصى أهل غزة وأهل الضفة لا يستطيعون الوصول إلى المسجد والصلاة فيه، أليس هذا هو مقتضى الإيمان؟ فليس الإيمان كلمات تقال فحسب، وليس هو مجرد صلاة وصيام وأذكار وتلاوات فحسب، بل هو هذه الروح الإيمانية التي تتجاوز الحدود، وتتجاوز الأعراف والقوانين الدولية؛ لتكرس الأخوة الإيمانية.(105/7)
واقع شباب الأمة المحزن في ظل هذه الأوضاع
ويحزنني -وأظنه يحزن كل مؤمن منكم- أننا في هذا الوقت بالذات ومع هذا الخطب بالذات تطالعنا صحف هذا اليوم بقضية تشير إلى أنها موضع اهتمام كبير، وأنها موضع اهتمام الشباب والشابات في المدارس والجامعات والكليات، وأنهم يوصي بعضهم بعضاً، وأنهم يتحفزون ويحتشدون ويتجمعون؛ لكي يقوموا بمهمة عظيمة، يا ترى ما هي؟! إنها مهمة التصويت لإنجاح مشارك في برنامج الغناء المعروف: استار أكاديمي!! أين نحن من هذا الذي يجري في واقع أمتنا، وذاك الذي يريد أن يصرفها عن كل أمر مهم، وعن كل قضية عظيمة، وعن كل مسألة ينبغي أن تهتم وتغتم وتنشغل بها قلوب المؤمنين، ويتدارسونها فيما بينهم؟ عجبت لذلك ولا عجب في مثل هذا الأمر الذي يجمع النقائض ويؤكد لنا مرة ثانية وثالثة أننا بحاجة إلى هذا النداء: هيا بنا نؤمن، وأننا بحاجة إلى أن نجدد نداء بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نؤمن ساعة.
نسأل الله عز وجل أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(105/8)
أهمية الخشوع الإيماني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن من تقوى الله تجديد الإيمان وإحياؤه في القلوب؛ حتى تُعمر هذه القلوب بتقوى الله سبحانه وتعالى، وإن الصور التي نجد فيها المفارقات الإيمانية بين ما هو مطلوب منشود وما هو واقع محزن كثيرة.
ولعلي أختم هذا المقام بقضية مهمة خطيرة لا تقل خطراً عن كل ما ذكرناه، وهي متعلقة بالإيمان وحياته في القلب، تلكم هي الصفة المهمة: صفة الخشوع الإيماني، فالقلوب الخاشعة تتبعها العيون الدامعة والجباة الخاضعة والألسن الضارعة، إن أمراً يملأ قلب المؤمن بهذا الإيمان يجعله دائماً يستحضر عظمة ربه جل وعلا، ويستحضر خوفه، ويستحضر تعظيمه وإجلاله وتقديره سبحانه وتعالى كما ينبغي، قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67].
إن هذا أمر مهم؛ لأنه يتعلق بصلواتنا اليومية وفريضتنا الثانية بعد التوحيد والشهادة، هذه الصلاة التي جوهرها الخشوع تدعونا اليوم -ونحن نعرف حالنا، ولا نحتاج أن نكشف أو نهتك سترنا- إلى أن نسأل: أين القلوب الخاشعة؟ تلك القلوب التي يصفها ابن القيم رحمه الله فيقول: الخاشع لله عبد، قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهواته، وصار مخبتاً لربه، والله جل وعلا يقول في وصف المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فجعل ذلك الوصف أول الأوصاف؛ لأنه يتعلق بأعظم العبادات، ويتعلق بالجوهر العظيم في هذه العبادة، وروى الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً).
إنه أمر لو تدبرناه وكنا صرحاء لقلنا عن حالنا: إننا نصلي وقلوبنا لاهية، وعقولنا منشغلة، وأجسادنا خاوية من حقيقة استحضار عظمة من نقف بين يديه، قال بعض السلف كلاماً نفيساً أحسب أننا لو تأملنا فيه فقد يزيد حزننا؛ لكننا نحتاج إلى ذلك، قال: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك، فما الظن بمن يُهدى إليه جارية شلاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد أو الرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح؟ فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها.(105/9)
الخشوع جوهر الصلاة
إن الخشوع جوهر هذه الصلاة التي يحصل بها حقيقتها وجوهرها، كما روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن في وقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه).
وفي حديث عند البخاري وغيره جدير بأن نطبقه، وأن نبحث عن الخلل الكبير الذي سنكتشفه عند تطبيقه، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه -وفي رواية: لا يحدث فيهما نفسه- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، إنهما ركعتان جرب صلهما وحاول ألا يكون فيهما خاطر ولا فكر ولا انشغال بغير الصلاة وما فيها مع استحضار عظمة من تناجيه بها؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي ويسمع لصوته أزيز كأزيز المرجل من خشوعه وبكائه صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس قالت عائشة: (يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف إذا صلى بكى، فبكى الناس لبكائه).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن الفاروق رضي الله عنه بكى في صلاة الفجر حتى سمع بكاؤه من وراء الصفوف).
وهكذا سنجد الأمثلة كثيرة، فكم نحن في حاجة إلى إحياء الإيمان؛ لتحيا قلوبنا، ونخشع في صلاتنا؟ وكم هي الأمور كثيرة؟ وكم هي حاجتنا إلى هذا النداء عظيمة؟ فهيا بنا نؤمن، وهيا بنا نجدد إيماننا، وهيا بنا نتواصى بقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم عظم إيماننا، ورسخ يقيننا، واملأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واشغل جوارحنا بطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا اللهم ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في أرض العراق وفي أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم احفظ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، اللهم نجه وسلمه من اليهود المجرمين المعتدين.
اللهم هيئ لإخواننا في أرض الإسراء من أمرهم رشداً، اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، واجعلهم للحق ناصرين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! وحد اللهم كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه.
اللهم أدم عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين عن بلاد الإسلام والمسلمين.
اللهم احفظ دماء المسلمين، واحفظ اللهم أعراضهم، اللهم واحقن دماءهم، واصرف عنهم الشر والبلاء والأذى وكيد الأعداء يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(105/10)
هيا بنا نؤمن [3]
الأمانة أمرها عظيم، وشأنها كبير، ولهذا أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها، وحملها الإنسان لظلمه وجهله، فيجب على الإنسان أن يؤدي الأمانة، وليحذر كل الحذر من الخيانة؛ فإنها بئس الضجيع، صفة من صفات المنافقين والعياذ بالله!(106/1)
الأمانة بين النظرية والتطبيق
الحمد لله، الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وعم نواله، وكثر عطاؤه، وتقدست صفاته وأسماؤه، له الحمد سبحانه وتعالى جعل الأمانة قرينة الإيمان، وجعل الاستقامة شقيقة الإسلام، أحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من النعم وما صرف ووقى من الشرور والنقم، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، نداء يتجدد؛ لأن فيه علاج كل مشكلات الحياة، وفيه صلاح كل أمور الأحياء، وفيه طهارة القلب وزكاة النفس ورشد العقل واستقامة الجوارح وحسن الصِلاة، وكل خير نبحث عنه فإنا واجدوه فيه، وكل شر نتأذى منه فإنا واجدون السلامة منه في هذا الإيمان وعصمته وحمايته ووقايته.
زارني شاب من رجال الأعمال، في واقعة أحسب أنكم تدركون أنها تتكرر كثيراً؛ غير أن جزءاً منها هو النادر الذي يكاد أن يختفي، لقد جاء سائلاً عن شركة يملكها تقدم عرضاً في موضوع مهم يعم البلاد كلها، والفوز به يعني الفوز بالملايين من الريالات، وعنده من الإنجاز في ذلك ما هو مستحق أن يكون صاحب العقد، وعندما التقى مع من بيده ترتيب هذا الأمر كان الأمر في مبدئه تلميحاً ثم صار تصريحاً: إن فريق العمل يحتاج إلى عونك ودعمك، ثم لم يكن ذلك فحسب، بل كان الأمر في صراحة -وإن شئت قل: في بجاحة- إن المطلوب لكل فرد مبلغ محدد وهو كذا وكذا، ليس عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الريالات، وإن ذلك سيكون تمهيداً لإنهاء الأمر ورسو العقد وغير ذلك! جاء هذا الرجل وفي قلبه إيمان، وفي نفسه زكاة، وهو يقول: في النفس من هذا شيء؛ والحرمة فيه بادية؛ لأن هناك منافسين قد سبق وأن أعطوا هذه الأموال، وهو أحق منهم بحسب ما عنده من الإنجاز، وعندما أوضحت له أن الأمر فيه وضوح في الحرمة وأدنى درجاته أن يكون عالي الرتبة في الشبهة وفي الكراهة أجاب: بأنه قد وطَّن نفسه على ترك كل شيء مما حرم الله، وعزم على ذلك أمره، وقال به، ووقف عنده.
الشق الأول أحسب أنكم ستقولون: بماذا جئت؟ فإن عندنا عشرات ومئات من القصص التي لا تجيز أمراً ولا تبرم عقداً حتى تدخل إلى بطونها سحتاً، غير أن الشق الآخر هو الأقل الأدنى الذي قل فيه من يتورع عن الحرام، ويتوقف عن مصلحة دنيوية ظاهرة رعاية وحفاظاً على مصلحة أخروية أعظم وأبقى، وذلكم ما أحسب أنه مظهر جلي ودليل واضح على وجود قوة وحيوية الإيمان، أو على ضعفه وذهاب أثره وغياب حقيقته.
وهنا نداء إيماني جاء بالنهي عن مخالفة الأمانة؛ لأن ذلك يعارض حقيقة الإيمان، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]، إنه نداء لأهل الإيمان إن بقي في قلوبهم إيمان، ففي قوله سبحانه: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال:27] اقتران خيانة الله وخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيانة الأمانة، وفي ذلك تعظيم لشأنها ودليل على علو رتبتها وعلى قوة وشدة صلتها بالإيمان بالله جل وعلا.
ونحن نعلم أنه ما من أحد إلا وفي علمه بشرع الله وفيما يجيش في نفسه أثر يدل على حرمة ما يقترف من معصية الله.(106/2)
الأمانة من صفات المؤمنين والخيانة من صفات المنافقين
قال السعدي رحمة الله في تفسيره: فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته ومنتقصاً لنفسه؛ لكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات.
أي: صفة الخيانة.
ثم قال: فلما كان العبد ممتحناً بأمواله وأولاده فربما حمله محبته ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته.
أي: أن رعايته ومحبته لأهله وأولاده وماله وثرائه مما يجعله يميل بهواه فيغلب إيمانه، ويطمس بصيرة يقينه، فينطلق إلى لعاعة الدنيا، وإلى ثرائها ومظاهرها وشهواتها وفتنتها، وهو يئد الإيمان في قلبه، ويطفئ إشراقة اليقين في نفسه، وهو يضعف أثر إيمانه، كما أشار إلى ذلك أهل العلم في مثل هذا المعنى، ولو تأملنا لوجدنا اقتران الإيمان بالأمانة جلياً واضحاً فيما أورده الحق جل وعلا من صفات المؤمنين، فلم تقتصر الصفات على صلاة خاشعة ولا على زكاة مؤداة ولا على حفظ للفروج فحسب، بل جاء في الصفات قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، أي: يحافظون عليها، ويقومون بحقها، ويراقبون الله فيها، ويخشون الله جل وعلا من خيانتها، وهذا يدل على أنهم أهل إيمان، ولذا استحقوا صفة الإيمان، ووصفوا بصفة الإيمان؛ لأنهم: (لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، وأما الذين هم لأماناتهم وعهدهم خائنون فقد سلبت منهم هذه الصفات الرفيعة السامية، ونالهم من كدر أضدادها وصفات المنافقين من غير المؤمنين ما نالهم، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، أفيرضى مثل هذا الإنسان أن يكون متصفاً بصفة نفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، ومن كانت فيه تلك الخصال كان منافقاً خالصاً).(106/3)
معنى الأمانة
قال القرطبي في معنى الأمانة: والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً.
فهو أمانة في عنقك وعهد من الله بينك وبين الله لا ينبغي إخلافه ولا نقضه.
وقال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: كل ما استودعك الله وأمرك بحفظه فيدخل في هذه الأمانة، ويدخل فيها حفظ جوارحك عن كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما اؤتمنت عليه من حقوق الناس.(106/4)
حكم خائن الأمانة
وتأملوا من بعد هذا الحديث العظيم الذي فيه صراحة ووضوح في لفظه من رواية أنس عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه بسند صحيح.
أي: لا يكمل إيمانه، ولا يصدق إيمانه، ولا تتجلى ولا تظهر آثار إيمانه، فذلك الذي خان أمانته، وذلك الذي أكل الحرام، وذلك الذي ضيع المسئولية، وذلك الذي ظلم فنحى صاحب الحق وقدم غيره لمصلحته، وذلك الذي أشاع الفساد في المجتمع بتضييعه للأمانة، وذلك الذي جعل الحقوق ضائعة وجعل الأمانة مهدرة، إن فعله ليس مقتصراً على أنه أخذ مالاً في جيبه من سحت أو حرام، بل إنه في حقيقة الأمر يفسد في الأرض فساداً عظيماً، ويورث ويوجد في النفوس وفي القلوب قبل الأحوال والأفعال والأقوال فساداً خطيراً وانحرافاً عظيماً وشراً مستطيراً وبلاءً يخشى على الناس جميعاً من آثاره وعقوبته الربانية.
فحديث: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) قائله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فإن رأيت مضيعاً للأمانة فاعلم ما قاله أهل العلم في ذلك، وما بينوه في حقيقته فإن في ذلك أموراً كثيرة، والأمر بهذه الأمانة ظاهر جلي واضح مرتبط بالإيمان في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58].(106/5)
ضياع الأمانة من علامات الساعة
فانتبه لهذه المعاني، وتأمل ذلك الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري وغيره عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فجاء رجل من الأعراب والرسول ماض في حديثه، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض الصحابة: فكأنما كره قوله، وقال بعضهم: كره أن يقطع حديثه، فلما فرغ من حديثه قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فتلك إضاعتها).
وفي لفظ ورواية عند البخاري: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله).
عجباً! أنّا لا نلتفت إلى الخطر المحدق بنا وإلى الآيات والعلامات الدالة على قرب القيامة ووجود آخر الزمان، مع أن الناس قد شغلوا بأمور أخرى من هذا في شأن بعض الصفات والأوصاف والمعارك وغيرها، ولم يلتفتوا إلى المعاني، فضياع الأمانة دلالة من دلالات آخر الزمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فعجباً لنا ونحن لا نلتفت إلى هذا! قال ابن بطال في شرح الحديث: إن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله إياها.
وروى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه في شأن الأمانة وضياعها وغيابها، وهو حديث طويل جاء فيه: (فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أظرفه! ما أعقله! ما أجلده! وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، أليس مثل هذا الوصف يصدق في أحوال كثير وكثير من بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية؟ ألسنا اليوم نتبايع فلا يكاد أحد يأمن أحداً في وفائه وأمانته وصدقه وبره وإنصافه؟ ألسنا اليوم قد نبحث عن الأمناء فلا نكاد نحصي إلا الواحد أو الاثنين في الفئام من الناس أو في القبيلة أو في القوم؟ أليس هذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في المدح والثناء على من ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وتجده قد ضيع الأمانة، وأخذ حقوق الناس، وانتهب أموالهم، واستباح ما حرم عليه من حقوقهم، وضيع أماناتهم؟ ومع ذلك هو المشار إليه بالبنان، الممدوح بعظيم الصفات على كل لسان، أليس ذلك دليلاً على خلل كبير في الإيمان لا يخص أفراداً بأعيانهم بل يعم أحوالنا ومجتمعاتنا إلا ما رحم الله ومن رحم الله؟ نسأل الله عز وجل أن يرحمنا.
قال ابن التين في هذا الحديث: الأمانة: كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله.
فالآخذ للرشوة والقابل للهدية المغموسة بالحرام يحتاط لنفسه، ويجعل الأمر في أشد صور الخفاء، ولا يجعل هناك وثيقة تدينه، ويحسب لكل قضية حسابها، ويضيع حساب الأمر الأعظم، وهو أن الله مطلع عليه وعالم به وكاتب عليه كل صغيرة وكبيرة من أقواله وأعماله، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من صاحبه، فأقضي له بنحو مما أسمع -أي: يقدم بينات ويقدم أقوالاً يكون الحكم فيها لصالحه وهو على غير حق- فمن اقتطعت له شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع)، فكل ريال تأخذه حراماً فهو قطعة من جنهم، وإن رشيت به فقبلت به فاستكثر؛ فإنما تستكثر -والعياذ بالله- سيئات مضاعفة، وإنما تستكثر عذاباً منتظراً، نسأل الله عز وجل السلامة.
كم في واقع حياتنا وفي واقع حياة كل فرد منا شبهات في معاملاته المالية! فهل توقف عندها، وتحرى فيها؟ وهل راقب الله جل وعلا فترك عرض الدنيا وزينتها وزخرفها إيثاراً للآخرة الأبقى والأعظم جزاءً وثواباً أم أن الإيمان قد ضعف حتى صار أمر الآخرة ونعيمها نسياً منسياً، وأمر الدنيا وزخرفها هو الذي ملأ القلوب والعقول والأبصار فلا تسمع إلا ما يرغب فيها، ولا تقول إلا ما يؤدي إليها، ولا ترغب إلا فيما يزيد منها؟(106/6)
الصلة بين الأمانة والإيمان
عجباً لنا! وكأن ذلك في حسنا ليس له صلة بإيماننا، ولا بمراتبنا عند ربنا وقد نكون في الصفوف الأولى في المساجد، وقد ندمن شيئاً من تلاوة القرآن، وكل ذلك خير، لكن الذي يجعلنا مستقيمين في المعاملات وتمحيص التوجهات ومخالفة الآراء والأهواء والشهوات ومعارضة المغريات والملذات ذلكم هو الإيمان الحق الذي يذكر لنا ابن العربي في شأنه أمراً عجيباً فيقول: الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب.
وهذا من فقه علمائنا رحمهم الله، ولذلك قال بعض أهل العلم: الأمانة هي عين الإيمان.
فإذا ضعفت الأمانة فقد ضعف الإيمان، كما ذكر أهل العلم.(106/7)
مطالبة الأمانة بحقها يوم القيامة
وهذا حديث آخر من الأحاديث العظيمة رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة وهو مما أحسب أنه لا يندرج على ألسنة الناس، ولا يكاد يحفظه كثير منهم، وهو في حديث الشفاعة وفي حديث الفصل بين الناس يوم القيامة، وفي أوله طول في ذهاب الناس إلى آدم وإلى إبراهيم وإلى موسى عليهم السلام جميعاً، ثم انتهاؤهم إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، قال حذيفة في حديثه في شأن استفتاح الجنة: (فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيستأذن، فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان على جنبتي الصراط) أي: على جانبيه، ثم ذكر بقية الحديث وفيه: (فمن الناس من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطير)، ثم قال في آخر الحديث: (ومنهم من لا يمضي إلا زحفاً).
والنووي رحمه الله في شأن كون الأمانة والرحم على جنبتي الصراط قال: لعظم أمرهما، وكبر موقعهما، فيصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله.
ونقل عن صاحب (التحرير) قوله: في الكلام اختصار، والسامع فهم أنهما تقومان -أي: في هذا المقام- لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما.
أي: أن كل من يريد أن يمضي على الصراط تأتيه الأمانة أولاً فتطالب بحقها، والرحم تطالب بحقها فإن كان مؤدياً لحقهما كان من أسباب سرعة جوازه على الصراط، فالأمانة المضيعة اليوم تلقاك يوم القيامة على الصراط، فهل أنت قادر يومها على أن تجوز الصراط وقد فرطت في الأمانة وخنتها، وضيعت إيمانك، وأضعفته، وأذهبت أثره، وجعلته وراء ظهرك؟ أليس كل هذا مما جاء في كتاب الله ومما ورد في سنة رسول الله؟(106/8)
الصحابة رضي الله عنهم وأداء الأمانة
ألسنا نذكر ذلك الموقف العجيب الفريد يوم فتح الله على المؤمنين والمسلمين في معركة القادسية على يد سعد بن أبي وقاص، ولما انتهى الفتح أخذ سعد ما في إيوان كسرى -أي: مكان قصره وملكه- من الذهب والجواهر وتاج كسرى المرصع بكل ما هو غالٍ وثمين، فجعله في أشولة، وأعطاها لأعرابي أو لرجل من عرب المسلمين لم يذكر التاريخ اسمه، ولم يعرف الناس نسبه، وأمره أن يمضي إلى المدينة من ذلك المكان البعيد؛ ليبلغ عمر بن الخطاب بخبر الفتح والنصر الإسلامي، ويعطيه ما في إيوان كسرى من الذهب والفضة والحلي والتاج، فذهب الأعرابي، ولم يقيد عليه ما استلمه، ولم يكن هناك جرد لما سلم له، ولم تكن الأختام موجودة، ولم تكن أجهزة الحاسوب راصدة، لكن رقابة الله في القلب حية، لكن أمانة الإيمان في النفس يقظة مؤثرة، فمضى الأعرابي يجر بعيره وعلى ظهره ثروة تطيش لأجلها ولأجل عشرها عقول كثير من ضعاف الإيمان، لكنه لم ينظر إليها، ولم يلتفت إليها، وربما ما علم بها، ووصل إلى المدينة، ووقف بين يدي الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن سعداً يقرئك السلام، ويبشرك بنصر الله لأهل الإسلام، وهذا تاج كسرى وإيوانه، فطأطأ عمر رأسه متأثراً قائلاً: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء).
فجاء التعقيب -كما ورد في بعض روايات التاريخ-: عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا.
فقد كان عمر رضي الله عنه يحاسب نفسه وأهله على أقل القليل.
ويوم تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة مضى من يومه يريد أن يعمل ويتكسب من تجارته، فقالوا: قد وليت أمرنا فافرغ لنا، فقال: (قوتي وقوت عيالي)، قالوا: نفرض لك من بيت مال المسلمين، فقدر لنفسه أقل القليل من طعام وشراب فحسب، وليس خزائن مفتوحة ليس لها حصر ولا عد، وليس مالاً سائباً لا يسأل عنه أحد، بل كان فعله وفعل غيره من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيه مراقبة لله وأداء للأمانة.
إن صوراً من تضييع الإيمان وضعفه تتجلى في حياتنا كثيراً، وتتجلى في ضعف خوف الله، وقلة مراقبة الله، وضعف الحياء من الله، وضعف الأمانة في أداء حقوق الله وحقوق عباد الله، فالله الله في إيمانكم! فإنه ليس محصوراً في صلاتكم وزكاتكم وتلاوتكم ودعائكم، بل هو في سائر جوانب حياتكم.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يجعلنا من المراقبين له والمستحيين منه والمؤدين لأمانته.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(106/9)
وجوب التحرز في الكسب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى: البعد عن الحرام، وأداء الأمانة، والتنزه عن كل ما فيه خيانتها وتضييعها.
وكنت قد طالعت قبل مجيء هذا الرجل بالأمس قراراً ونظاماً حول هذا الأمر أقر بعضه مجلس الشورى، ويدرس بعضه الآخر، وعزمت أن أجعله حديثاً في جمعتنا هذه، فجاءت قصة الرجل تدفعني إليه دفعاً، وتؤملني وتدخل في نفسي سروراً أنه ما زال فينا من يخاف الله، ويترك عرض الدنيا الملوث بالحرام ابتغاء مرضاة الله، ويريد ألا يدخل إلى جيبه وكسبه شيئاً من الحرام؛ لأنه إنما يأخذ في هذه الحالة ناراً، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به).
فرحت أن يكون فينا ومنا من يحيي معاني هذه الإيمانيات، ونحن بحاجة إلى ذلك، وما حديثنا هذا لكي نستمع إلى هذه الكلمات، ونظن أن المقصود بها من يتولون المناصب العليا أو الكبرى فحسب، بل الحقيقة أن كل فرد منا عنده ضروب من الأمانات قد يخونها ويضيعها، وعديد من المواقف التي لا يستحضر فيها عظمة الله ولا مراقبة الله جل وعلا.(106/10)
بعض الأنظمة البشرية في مكافحة الخيانة
وهنا وقفة قصيرة لنرى كيف تكون المشكلات إذا ضعف الإيمان، وبالتالي ضاعت الأمانة، فقد وضع نظام كامل اسمه: الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والرشوة، ثم هناك مشروع نظام يدرس اسمه: نظام مكافحة الاعتداء على المال العام وسوء استعمال السلطة، لم؟ لأن الأمر قد اتسع خرقه على الراقع، فاحتجنا إلى مثل هذا، وفي هذا النظام أن ثمة أمر ملكي سابق صادر بهذا الخصوص عما يأخذه المسئول من الأموال وضرورة محاسبته وسؤاله عنه، والعجب أن هذا الأمر صادر في عام (1382هـ)، أي: قد تجاوز ثلاثين عاماً، ولكنه غائب مغيب في حياة الناس إلا ما رحم الله.
ثم يقول في نصوص هذا النظام أو بعض فقراته: إلزام كل من يشغل وظيفة قيادية تنفيذية في الجهاز الحكومي وكذا المسئولين في الشركات المساهمة التي تساهم فيها الدولة بالتصريح عن ممتلكاتهم المنقولة والثابتة وأفراد أسرهم -أي: قبل تولي الوظيفة- حتى لا يدخل إليها وهو قليل المال ويخرج منها وهو كثير المال.
ومن الأنظمة كذلك: تقليص التعامل بالنقد في المسئوليات الحكومية والعامة، ووضع قواعد لتنظيم الهدايا والإكراميات حتى لا تعتبر صوراً من الرشوة والإغراء، وفي ذلك حديث ابن اللتبية رضي الله عنه عند البخاري وغيره في الصحيح: (أنه كان جابياً للزكاة، فجاء عن حسن نية وعدم معرفة بالحكم فقال: يا رسول الله! هذا لكم -أي: الزكاة التي جبيتها- وهذا أهدي إلي) أراد أن يبرز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: (ما بال أقوام يقولون: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى يهدى إليه؟!)، فما سبب هذه الهدية لو لم تكن في هذه الوظيفة؟ ولو كنت في بيتك هل سيأتي إليك أحد ويهديك؟ وهل يهديك لأجل سواد عينيك؟ إنه إنما يهديك لمصلحته، وذلك ظاهر، وهذه هي الضوابط المهمة في شرعنا وفي هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا النظام أيضاً وضع معايير لاختيار القيادات الإدارية حتى تختار على أساس من الكفاءة وتطبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أنظمة تفصيلية كثيرة منها: إيجاد أجهزة رقابية مالية، ومنها: التعاون الدولي في هذه الشئون، وأخذ الأنظمة والاستفادة منها، وكل ذلك حسن، لكن الأحسن منه والأعظم تأثيراً هو أن نكون مؤمنين صادقين ومسلمين مخلصين، فإننا لو زرعنا الإيمان وأحييناه في القلوب لاستغنينا عن كثير من كل هذه الأنظمة ولما كنا في حاجة إليها؛ لأنه إذا وجد الإيمان في القلب ورقابة الله عز وجل فأي شيء يمكن أن يضبط الإنسان غير هذا؟ وشواهد التاريخ وأحداث الواقع دليل على ذلك.
ومن هنا جاء في النظام أيضاً فقرات مهمة أحب أن أشير إليها، منها: أن الإسلام هو أساس ضبط النزاهة ومكافحة الفساد، وأن المملكة وهي تطبق الشريعة الإسلامية ترى في الإسلام الآيات والأحاديث والتشريعات الدالة على وجوب الأمانة ومنع الخيانة.
ومن الفقرات: توعية السلوك الأخلاقي وتعزيزه عن طريق تنمية الوازع الديني للحث على النزاهة ومنع الفساد، والتأكيد على دور الأسرة في تربية النشء، وحث المؤسسات التعليمية على وضع مفردات في التعليم عن الأمانة وحماية الأموال العامة ومكافحة الفساد.
إن العلاج الحق هو في هذه المعاني الإيمانية وفي التربية الأخلاقية والأسرية والمناهج التعليمية التي إذا أردنا الخير فينبغي أن نربطها بدين الله عز وجل وبهذه المعاني؛ حتى يكون لها أثر.
وجاء في النظام أيضاً: تحسين الأوضاع الأسرية والمعيشية للمواطنين عن طريق توفير فرص العمل، والعمل على وضع برامج تثقيفية في هذا الشأن.
وهذا يدلنا على شدة الاحتياج إلى مراعاة الأمانة من خلال المنهج الإيماني الإسلامي التربوي السلوكي الأخلاقي الأسري الذي إذا أصبح طبيعة الإنسان وصيغة حياته وصبغتها فإنه حينئذٍ يحتاج إلى هذه الرقابة.(106/11)
وصية نافعة لبعض السلف
وأختم بكلمة خماسية في وصية سلفية لأحد علماء الأمة: سئل ذو النون رحمه الله: بمَ ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمسة أمور: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله تعالى في السر والعلن، وانتظار الموت والتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان، وأن يعمر نفوسنا بالتقوى، وأن يملأ قلوبنا بالخوف منه والمراقبة له والحياء منه والتوكل عليه والإنابة إليه والرغبة فيما عنده.
اللهم اجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، وأغننا اللهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأغننا اللهم بفضلك عمن أغنيته عنا، واجعلنا اللهم أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل غنانا في نفوسنا وقلوبنا، واجعل غنانا بإيماننا وإسلامنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وامح عنا السيئات، وتقبل منا الصالحات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واجعلنا اللهم من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها، واجعلها اللهم بلد أمن وإيمان وسلامة وإسلام يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ارفع الأذى والبلاء عن عبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(106/12)
هيا بنا نؤمن [4]
دين الله عز وجل منهج كامل شامل لكل جوانب الحياة؛ ومن أهم الأمور التي حث عليها الدين الإسلامي الإيمان بالله عز وجل ووحدة الصف، فإن فقدان الإيمان أو ضعفه يسبب الفرقة والخلاف، وإذا حصل الخلاف بين المسلمين تسلط عليهم أعداؤهم، كما هو الحال في زماننا هذا.
فيجب على كل المسلمين أن يجددوا إيمانهم بالله عز وجل، وأن يوحدوا صفهم؛ حتى تعود لهم عزتهم وكرامتهم.(107/1)
أهمية الاجتماع وتحريم الفرقة والاختلاف
الحمد لله، الحمد لله العزيز القهار، القوي الجبار، الرحيم الغفار، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، له الحمد على ما وعد به المؤمنين من النصر والتمكين، وله الحمد على ما بسط وجعل من ولايته لعباده المؤمنين الصالحين، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، أرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وجعله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(107/2)
الفرقة مخالفة للمقصد الذي جاء لأجله الأنبياء
قال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال القاسمي: أي وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد، وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم.
أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، تلك هي الأمة الواحدة.
وثمة آراء واجتهادات يمكن الاختلاف فيها مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن عصمة الإيمان ورابطة الائتلاف على معاقد الإيمان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عاصمة من التباس الحق واضطرابه في أذهان الناس من جهة، وعاصمة من افتراق يؤدي إلى احتراب من جهة أخرى.
قال القاسمي رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213]: بدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، فقد أنزل الله الكتاب، وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، ليكونا مرجعاً حاسماً لكل خلاف وجامعاً كاملاً للآراء الاجتهادية في المقاصد الكبرى والمعالم العظمى، فجعل بعض الناس ذلك الذي جعل لنزع الخلاف مثاراً للخلاف، وما ذلك إلا من ضعف الإيمان واستبداد الأهواء في القلوب؛ لأن الله جل وعلا قد بين أن ما وقع من الاختلاف لم يكن لقصور في وضوح الآيات والبينات، بل كما قال جل وعلا: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213] فأي سبب كان سبب هذا الاختلاف؟ قال: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، إنه الحسد والهوى والفتنة التي أوجزتها الآيات في هذه الكلمات البليغة.(107/3)
لا اجتماع للأمة إلا بالكتاب والسنة
أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول ونداؤنا مستمر: هيا بنا نؤمن، ولعلنا في وقفتنا الأخيرة هذه نكمل معاني بدأناها، ونزيد مقارنة مهمة توقفنا على ذلك الفيض الرباني والعطاء الإلهي الذي اختص به الله جل وعلا أهل الإيمان، وميزهم به عن غيرهم من أهل الجحود والنكران، ونذكر ما جعله الله سبحانه وتعالى من إشراق النفوس وطمأنينة القلوب لأهل الذكر والطاعة، وما كتبه كذلك من طمس البصيرة وقسوة القلب على أهل الغفلة والمعصية.
ونمضي مع الإيمان لنرى بجلاء ووضوح أن فيه جواباً لكل سؤال، وحلاً لكل مشكلة، وتذليلاً لكل صعب، وإنارة لكل ظلمة؛ فإن الله جل وعلا خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، ولم يدعهم سدى، بل أتم عليهم نعمته بنور الإيمان وهدي الإسلام وتشريع الأحكام، وبيان ما بعد هذه الحياة الدنيا مما يترتب عليه الثواب والعقاب.
وهنا ومضة مهمة في أمر عظيم كبرت فيه الرزية وعظمت فيه البلية، ذلكم هو أمر خفاء الحق والتباسه بغيره من الباطل، وضلال الآراء وعدم وضوح الرؤية، وهذا أثر من آثار ضعف الإيمان وضعف الاستقاء من نبعه العذب الصافي، وضعف الاستنارة بنوره المشرق الوضاء.
إن الهداية في الأمور المختلف فيها أمرها عظيم، ومرجعها إلى الإيمان.
ونحن نعلم أن الأمر المهم لأمتنا هو الاجتماع لا الافتراق، والائتلاف لا الاختلاف، والتوحد لا التمزق، ولا يصلح شيء من ذلك إلا بعصمة الإيمان وهدى الرحمن سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]، هذه نعمة الله الابتدائية التي أراد الله عز وجل أن يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى؛ فأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ووضح جل وعلا للخلق طريق الحق وسبل الباطل، ثم وقع اختلاف الناس من بعد، قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213]، فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف في واقع الحياة في أمم سابقة وإلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ كانت النتيجة هي كما أخبر الله عز وجل بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
إن الهداية لمعرفة الحق رغم وجود الشبهات وكثرة الشهوات مرجعها إلى الإيمان، والعصمة من ضلال الآراء واستبداد الأهواء إنما تكون بعصمة الإيمان.
ذلكم مبدأ مهم في واقعنا اليوم، فالأمة هي الجماعة على المقصد الواحد، كما ذكر ابن عطية في تفسيره، فلن نكون أمة إلا باجتماع وائتلاف له قاعدة راسخة وأساس متين ومعالم واضحة، تلكم هي معالم الإيمان في القرآن والسنة.(107/4)
كيفية العصمة من الفتن والشبهات
ونبقى هنا مع المقصود الأعظم في حديثنا: ما العصمة في هذه الفتن الملتبسة، والآراء المختلطة، والشبهات المتكاثفة؟ قال عز وجل: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213]، فليست مجرد هداية علم بأن نعرف ونعلم، بل هي هداية توفيق؛ لأن النفوس متجردة، ولأن الأرواح مخلصة، ولأن القلوب في إصابة الحق راغبة، ولأن التعصب للشخص وللحزب وللمذهب لا يكون مع الإيمان الذي يقصد الحق ويرغب في إصابته، ويراه سبيلاً إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فإننا ندرك أن هذا الأمر هو المعول عليه.
أورد ابن كثير عند هذه الآية حديثاً من رواية عبد الرزاق في مصنفه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة؛ نحن أول الناس دخولاً الجنة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق)، وذلك في شأن أمة الإسلام مقارنة بمن سبقها من أمم أهل الكتاب، وقد ذكر ابن كثير في شيء من الإيجاز أنواعاً من ذلك الاختلاف: اختلفوا في قبلتهم، واختلفوا في رسلهم، واختلفوا في آراء متفرقة، واختلفوا في كتبهم، وعصم الله أمة الإسلام في جملتها بما جاء به رسول الله الهدى صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا نستشعر عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في دعائه الخاشع الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
فكم نحن في حاجة إلى إحياء إيماننا ليكون نوراً هادياً وبصيرة مرشدة في ظل هذا الاحتراب والاختلاف والتنازع الذي وصل في أيامنا هذه إلى أن يشكك في آيات القرآن، وإلى أن يعتدي على ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أن تنكر أحكام أجمعت عليها الأمة عصوراً متتالية وقروناً متتابعة، وإلى أن تستحدث أحكام ما قال بها أحد من الأولين والآخرين من أهل الإيمان المسلمين! حتى صار الناس اليوم في حيرة واضطراب.
ولا عصمة لهم إلا أن يعظموا الإيمان في القلوب؛ لأن القضية ليست قضية معرفة وقراءة وجمع أدلة، فكم نرى اليوم فيما ينشر من كتب أو صحف من تكاثر أدلة وأقوال مختلفة! لكن يوجد في القلوب دخن؛ وفي العقول زيغ، ذلك أنها لم تخلص إلى أن يكون نبع الإيمان من مصدر الكتاب والسنة، وأن ترى أنه هو الذي يحقق لها الأمن النفسي والطمأنينة القلبية والرشد العقلي والبصيرة الربانية.(107/5)
أثر الجهل في تكثير الخلاف
روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن علي رضي الله عنه قال: (العلم قطرة كثرها الجاهلون).
فكم نفرح في كل المسائل عندما نشعبها، ونذكر فيها أقوالاً عدة، ونسرد فيها أدلة مختلفة! ويظهر لنا من بعد أن صاحب ذلك عالم نحرير، وكثيراً ما يكون وراء كل ذلك نور مشرق في آيات موجزات وفي أحاديث جامعات، لكن ذلكم يغيب عندما يغيب نور الإيمان من القلوب، ولذلك لو رجعنا إلى المتقدمين من أسلافنا ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا ما وصف به ابن مسعود ذلك الجيل بقوله: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أعمق هذه الأمة علماً، وأقلها تكلفاً، وأعظمها إيماناً، وأرسخها يقيناً) أي: كان عندهم مع عمق العلم قلة التكلف؛ وذلك أثر إشراق الإيمان والتعلق بالله، فلا مكان لجدال القصد منه إثبات القوة العلمية أو إصابة المصالح والمكاسب الدنيوية، وإنما تنزل عن الرأي إن كان ذلك يؤدي إلى جمع للأمة ابتعاداً عن الافتراق والاختلاف.
أما رأينا ابن مسعود رضي الله عنه وهو الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر رضي الله عنهما يصلي في الحج قصراً، فبلغه أن عثمان أتم، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم حج بإمرة عثمان رضي الله عنه، فلما صلى أتم مع عثمان، فقيل له: بلغك القصر فاسترجعت، ثم صليت فأتممت؟ فأشرق نور الإيمان وظهرت معالم الهداية والتوفيق عندما قال ابن مسعود: (الخلاف شر) أي: أتفرق الأمة لأجل ترجيح في مسألة خلافية؟ ذلكم لا يكون إلا ببصيرة الإيمان والهداية الربانية التي يرتفع أهلها إلى مستوى تقديم المصالح العامة على المصالح الجزئية، والمقاصد الكلية على المسائل الجزئية.
إن نور الإيمان يجعل الإنسان على مثل هذا الهدي الذي كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكم رأينا في سيرهم وفي سير أئمتنا من بعدهم من التابعين والعلماء والأئمة ما يكشف هذه البصيرة الهادية؛ فليس العلم كثرة مسائل ولا تشقيق فروع، وليس العلم مجادلة ولا مناظرة، بل العلم كما قال شعبة رحمه الله: (إنما العلم الخشية).
إن العلم هو خشية الله، إنه وازع الإيمان في قلب المؤمن، إنه بصيرة ونور يوصل إلى الحق من أقصر طريق بلا نزاع ولا شقاق ولا خلاف، ولذلك رأى علماؤنا وأئمتنا ذلك فظهر في أحوالهم.(107/6)
ولاية الله عز وجل عصمة من الخلاف والفتن
ومن الهداية إلى الولاية تلك التي نفتقر إليها اليوم، والمسلمون يرون أحوالهم وأحوال أمتهم وهي في ضعف، والأعداء وهم في تسلط، والمعارك وهي تدار رحاها على رءوسهم وفي بلادهم، والهزائم على الأقل من الناحية المادية وهي تتوالى في بقاعهم وأصقاعهم، فما المنجى من ذلك؟ وأين هو طريق النصر؟ وأين هي الولاية العاصمة التي يجد فيها المؤمنون طمأنينة وأمناً، ويجدون فيها مستنداً وقوة واعتزازاً يجعلهم أثبت قدماً، وأقوى يقيناً، وأكثر قدرة على أن يستغلوا قليل ما في أيديهم من الإمكانات المادية؛ ليكون -بإذن الله عز وجل- عظيماً في المواجهة الإيمانية مع أعدائهم وخصومهم، وذلك ما ينبغي أن ننتبه له.
قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]، إن ولاية الله تعني حفظه ونصره، فإن أردنا حفظاً من الأعداء ونصراً عليهم فليس إلا أن نراجع ذلك الإيمان في قلوبنا، ونزيده في نفوسنا، ونحييه في واقعنا، ونجعله الحاكم على أحوالنا وأوضاعنا، والرابط فيما بيننا وفي علاقتنا وأواصرنا؛ فذلكم هو الذي يجعل الأمر ينتقل إلى أن نكون في هذه الولاية الربانية التي استشعرها المؤمنون في كل زمان ومكان.
قال عز وجل: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]، قال الحسن البصري رحمه الله: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته، فهذا ولي الله، وهذا حبيب الله.
وقال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، فانظروا إلى إفراد النور؛ إنه أمر جامع موحد ليس فيه تعدد، وليس فيه اختلاف، أي: في كلياته الجامعة ومقاصده العظيمة ومراميه وغايته الكبرى.
إنه نور واحد وظلمات متعددة: ظلمات فيها الهوى والشهوة، وظلمات فيها الاضطراب والحيرة، وظلمات فيها الكبر والاستعلاء، وظلمات فيها النفاق والرياء، فسبل الباطل متنوعة وسبيل الحق واحدة، قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، والله جل وعلا وحد الإيمان والنهج الصائب والنور واليمين، وعدد ما يقابل ذلك؛ لأنه لا ينتهي إلى حد، ولأنه يتجدد في كل زمان ومكان من أنواع الضلالات وبروز المذاهب وطرق الأهواء وتعدد الآراء ما لا يكون معه عصمة إلا بكتاب الله، كما بينت آيات الله سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، قال السعدي: هذا يشمل ولايتهم لربهم بأن تولوه فلا يبغون عنه بديلاً، ولا يشركون به أحداً، قد اتخذوه حبيباً وولياً، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه؛ فتولاهم الله سبحانه وتعالى بلطفه، ومنَّ عليهم بإحسانه؛ فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل، إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور.
وانظروا إلى المقابلة الربانية في المواجهة المنهجية، وكيف طبقها نبي الله صلى الله عليه وسلم في الحقائق الواقعية.
هناك حقيقة لابد أن تكون مستقرة في اليقين، وهي في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، مولاهم: حافظهم وناصرهم ومؤيدهم.
وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، إنها حقيقة لا ترسخ إلا عند من عظم إيمانه، ورسخ يقينه، واستشعر كلاءة ربه وحفظ مولاه، واستشعر أنه يستمد قوته من قوة الله، وأنه يستنزل نصره من نصر الله، كما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، فبعد أن دارت الدائرة على المسلمين، ووقع ما وقع، واستشهد سبعون منهم، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وسال الدم على وجنته وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، وجاء أبو سفيان يستعلي بباطله، ويستعظم بكفره، ويفتخر بما ظنه من نصره، ويخاطب المسلمين صائحاً من على مرتفع: أفيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فيأمرهم النبي أن يسكتوا ولا يجيبوا، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم.
فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة، وكان مما أجاب به النبي ولقنه للفاروق عمر: (الله مولانا ولا مولى لكم).
قالها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظرف العصيب، وفي تلك اللحظة التي كانت ربما تشير إلى أن المسلمين لم يكونوا في موقع المنتصر، ومع ذلك فالحقيقية واحدة، واليقين ثابت، واستشعار كلاءة الله عز وجل حي في القلوب وإن كان الوقت وقت هزيمة أو تراجع؛ لأن اليقين حاصل بأن كل أمر بقضاء الله وقدره، وأنه مرتبط بتقصير أو تفريط، كما قال عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فكيف يكون ذلك حياً في قلوبنا ونحن اليوم نرى أمتنا والسهام تتوجه إليها من كل حدب وصوب، والدماء تسيل على أرضها في العراق وفي فلسطين وفي غيرها، وكيف نستشعر كلاءة الله ما لم نكن من أوليائه، وما لم نكن قد توليناه بنصره، ونصره: طاعته وإقامة شرعه والتعلق به، وأن يكون هو أحب شيء إلى قلوبنا، ويكون أعظم ما نتعلق به ثوابه جل وعلا ورضاه سبحانه وتعالى.
وأعظم ما نستنزل به النصر أو القوة إنما هو استمدادنا بالتضرع إليه، وأخذ الأسباب في ذلك هو من ضمن نهج الإسلام، لكنه ليس المعول عليه، ولكن ذلكم أمر مهم، فعلينا أن نجعله في ذاكرتنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل لحظة وسكنة إنما يظهر لنا أن أثر الإيمان في الولاية حفظاً من كل سوء ومكروه، وسلامة من كل عدوان واعتداء، ونصراً على كل قوة مهما عظمت، وذلكم من أعظم آثار الإيمان التي نحتاج إليها في وقتنا هذا.
نسأل الله عز وجل أن يعظم إيماننا، وأن يرسخ يقيننا، وأن يجعلنا ممن يستشعر كلاءة الله ورحمته وولايته ونصرته، وأن نستمد كل حول وقوة من خالقنا ومولانا جل وعلا، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(107/7)
الإيمان هو الحل للمشكلات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وإن قضية الإيمان هي قضيتنا الأولى والأخيرة في حياتنا، وهي التي تكشف لنا كل ما يلتبس علينا، وهي التي نستمد منها قوة تعيننا على مواجهة كل ما يعترض طريقنا.
ولعل وقفتي الأخيرة تأكيد لكل المعاني التي ذكرناها من قبل؛ لتكون واضحة وقوية وحقيقية نستشعرها تماماً، ذلك أن مما يقع به الاضطراب أو اللبس عند بعض الناس المقارنات التي تفقدهم مع ضعف الإيمان واليقين الرؤية الصحيحة، إنهم يرون غير المؤمنين أقوى وأولئكم أضعف، ويرون غير المؤمنين أكثر تماسكاً أو اتحاداً، ويرون المؤمنين أكثر اختلافاً وافتراقاً، فيظنون أن في الأمر شيئاً على غير ما هو مذكور أو معروف في أصول ديننا.
وما ذلك في غالب الأحوال إلا لضعف اليقين والبصيرة من جهة، وضعف العلم والمعرفة من جهة أخرى، ولذلك كانت الآيات القرآنية تقارن وتؤكد المقارنة لصالح الإيمان وأهله باطراد لا يمكن معه أن يكون هناك أمر قابل لاختلال هذه المعادلات بأي حال من الأحوال، قال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، أي: لا يمكن ذلك بحال، حتى وإن رأيت أموراً لا تتفق مع ذلك فاتهم عقلك، وعد إلى إيمانك، وانظر إلى حقائق قرائنك، وتبصر مواقف رسولك صلى الله عليه وسلم؛ لتدرك أن وراء الأمر كثيراً من الغبش الذي كان على العيون، فلم تعد تبصر، وهذه قضية تكررت في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقوله سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58].
فكل مقارنة ينبغي أن يكون يقننا فيها راسخاً، وينبغي أن تكون كفته الراجحة، وجانبها المصيب، وعاقبتها المحمودة هي للإيمان وأهله، وإن كان الواقع في ظاهره يخالفها، وهذه المقارنة هي التي تدعونا وتستحثنا، وهي التي ترغبنا وتشوقنا، فلن نجد مصلحة ولا خيراً ولا نفعاً إذا رجحنا ما قد نراه من أسباب مادية ظاهرة، وهكذا إن ركنا إلى قوة أرضية وتركنا قوة الله جل وعلا، وهكذا إن ذهبنا إلى مذاهب وضعية وتركنا منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تلكم قضية مهمة؛ فبعد أن تحدثنا كثيراً عما يعطينا إياه الله جل وعلا بهذا الإيمان من الأعطيات التي هي مفاتيح الحلول لكل مشكلاتنا والتي هي علاج كل أدوائنا، ينبغي أن ندرك هذا في ضوء المقارنة، ولو أن بصراً وبصيرة مشرقة كانت تنظر بنور الإيمان لرأت أن كل مظاهر القوة، وأن كل صور العزة، وإطار الوحدة الذي قد يكون لغير أهل الإيمان أن فيه ما فيه، وأن وراءه ما وراءه، فقد تعرت وتكشفت كثير من الصور التي كانت ملتبسة، فظهرت ما عند الأمم والدول العظمى من الشعارات البراقة، وظهرت حقيقة حقائق حقوق الإنسان، وحقائق الديمقراطية والعدالة، وحقائق المساواة والحرية؛ ظهر ذلك جلياً اليوم بحيث لم يعد يخفى إلا من طمست بصيرته إلى غير حد ينتهى إليه.
أحبتنا الكرام! كلمات أخيرة: نبع الإيمان عذب صافٍ، متدفق مستمر، ليس بيننا وبينه إلا أن نذهب إليه، ونغترف منه لنروي ظمأ القلوب، ونشفي أمراض النفوس، وننير ظلام العقول، ونقوم معوج السلوك، ونقيم العلائق والروابط على أساس هذا الإيمان، فتتجدد من جديد كل آثاره وجميع خيراته وبركاته التي جعلها الله عز وجل لكل مؤمن صادق مخلص.
أسال الله عز وجل أن يردنا إلى الإيمان به واليقين به والرجوع إليه والتضرع إليه والإنابة إليه.
اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل اللهم لنا إلى سواك حاجة، وأغننا اللهم بفضلك عمن أغنيته عنا، وأغننا بحلالك عن حرامك، واجعلنا اللهم أوثق بما عندك مما في أيدينا، واجعلنا اللهم منيبين إليك وقاصدين رضاك وطالبين عفوك وخائفين من عقوبتك وآملين في رحمتك.
اللهم علق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، واملأها بحبك وتعظيمك.
اللهم اجعل في قلوبنا حب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وحب كل ما يقربنا إلى حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنا لإخواننا المؤمنين محبين ومعهم وبهم متآلفين ومتوحدين.
اللهم اجمع أمة الإسلام على كلمة الحق والهدى، واجمعها على سلوك الطاعة والتقى، اللهم ألف على الحق قلوبنا، واجمعنا اللهم على طاعتك ومرضاتك.
اللهم أزل من قلوبنا الشحناء والبغضاء، وأبعد عن صفوفنا الفرقة والاختلاف برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واجعلنا اللهم من ورثة جنة النعيم، واجعلنا اللهم من عبادك الصالحين، ومن عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أدم عليها أمنها وإيمانها وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها.
اللهم يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! نسألك اللهم اللطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(107/8)
سهام المعاصي
للمعاصي والذنوب آثار سيئة على الكون والفرد والمجتمع، فالذنوب تتأثر بها الدنيا بأسرها، ولو فقه العباد هذه الحقيقة ما سعى أحد إلى ذنب، فإنها سبب إهلاك الأمم السابقة في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر أفضع، والعذاب أشنع، ألا فليدع كل مسلم الذنوب والمعاصي، ولا يستهن بصغيرها فإن الجبال من الحصى.(108/1)
المعاصي جروح نازفة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا موعدنا مع الدرس الثاني والخمسين بعنوان: سهام المعاصي والدواء الشافي، في يوم الجمعة منتصف شهر رجب من عام ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، وهذا الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعب، ولذلك ينبغي لنا أن ندرك أن الحديث في مثل هذه الموضوعات يحتاج إلى دقة في النظر، وجمع للمتفرقات، وتركيز حتى يكون جامعاً لأكثر ما يحتاج إليه، ولذلك إذا تأملنا في معنى العنوان: سهام المعاصي، نجد أن المعصية سهم جارح؛ فإذا وقعت هذه السهام على اليد شلتها، وإذا جاءت على الأذن أصمتها، وإذا جاءت على العيون أعمتها، وأما إذا جاءت على القلوب فإنها تقتلها، ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل.
فهي جروح، لكن قد يكون الجرح في مكان قاتل فيؤدي إلى ما لم يكن يتصور أنه يؤدي إليه.
الأمر الثاني: إن المعاصي قد كثرت وتفشت، وقلّ من سلم منها، بل قل من سلم من كثرتها، وقد شملت أضراب الناس وأصنافهم، كما قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): والناس على ضربين: عالم يغلبه هواه فيتوانى عن العمل، وجاهل يظن أنه على الصواب، وهذا الأغلب على الخلق.
ثم استعرض أنواع أجناس الناس ومخالفاتهم فقال: فالأمير يراعي سلطنته، ولا يبالي بمخالفة الشرع، أو يرى بجهله جواز ما يفعله، والفقيه همته ترتيب الأسئلة ليقهر الخصم، والقاص همته تزويق الكلام ليعجب السامعين، والزاهد مقصوده تزيين ظاهره بالخشوع لتقبل يده ويتبرك به، والتاجر يمضي عمره في جمع المال كيف اتفق؛ ففكره مصروف إلى ذلك عن النظر إلى صحة العقود، والمغرى بالشهوات منهمك على تحصيل غرضه تارة بالمطعم وتارة بالوطء وغير ذلك، فإذا ذهب العمر في هذه الأشياء، وكان القلب مشغولاً بالفكر في تحصيلها؛ فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه، ومحاسبة النفس في أفعالها، ورفع الكدر عن باطل السر، وجمع الزاد للرحيل، والبدار إلى تحصيل الفضائل والمعالي؟! فالظاهر قدوم الأكثرين على حسرات، إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل، فالله الله يا أهل الفهم! اقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع الاختلاف بغتة على شتات القلب وضياع الأمر، وهذا حال أكثرنا إلا من رحم الله عز وجل.(108/2)
طبيعة الإنسان وبيئته
أول ما أحب أن أبدأ به هو ما يتعلق بطبيعة الإنسان وفطرته وبيئته: الإنسان خلقه الله عز وجل قبضة من طين ونفخة من روح، فلذلك يجتمع فيه ما يكون داعياً إلى التصاقه بالطين ودنوه وتسفله إلى الأرض والدنيا الدنية، وفيه كذلك نفخة روح الرحمن سبحانه وتعالى التي تسمو به إلى عليين وإلى ملكوت السماوات وإلى الترفع والتحليق في آفاق الرفعة بعيداً عن الدنايا والرزايا والأقذار والأوساخ.
والإنسان بين هذين الجذبين وبين هذين المتنازعين إما أن تغلب روحه وتحلق فيكون في مصاف الملائكة، بل ربما كان أعلى، لأن الملائكة مفطورة على الطاعة، وربما مال إلى شهواته وإلى غذاء بدنه وإلى طينيته ودنيويته وأرضيته فيكون أسفل من الحيوانات، كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].(108/3)
الدين لا يخالف الفطرة
الأمر الثاني: أن هذا الدين العظيم لا يصادم الفطرة ولا يعارض ما استكن وما استقر في نفوس الناس على ما خلقهم الله عليه، فإن في الفطر ميلاً طبعياً إلى الشهوات، وإن فيها حباً للنساء والأزواج وأنساً بالبنين ورغبة في جمع الأموال، وكل ذلك ليس محظوراً ولا ممنوعاً في الشرع، لكنه مضبوط بضوابط تسمو بالإنسان، ولا تجعله يقع فيما فيه مغبته وفساد حاله في الدنيا وخسرانه في الآخرة، إضافة إلى ما يقع عند التعدي على حقوق الآخرين وعلى أنظمة المجتمع، فلذلك كل فطرة وميل ورغبة لها في تشريع الله عز وجل ما يحققها بالقدر الكافي وبالأسلوب الطاهر النظيف وبالتشريع المحكم البليغ، فليس هناك مصادمة ولا معارضة.(108/4)
أثر البيئة والنوازع على الإنسان
الأمر الثالث الذي ينبغي أن نفهمه هو: أن الإنسان يتأثر بالبيئة وتدعوه نوازع كثيرة، قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] كل هذه في آثار البيئة تدعوه وتغريه وتزين له بعض ما قد يكون من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.
وكذلك هناك أمر ثانٍ وهو: أن طبيعة النفس البشرية غير المهذبة بالإيمان وغير المنضبطة بشرع الرحمن فيها غرس يميل إلى المعصية، ويهوى الهوى، ويرغب في الشهوات.
وهنا أشير إلى أن أكثر الكلام أنقله عن ابن القيم، وقد كنت عزمت أن أجعل عنوان الموضوع: ابن القيم وكشف المعاصي؛ لأنه فيما رأيت ممن أكثر في هذه الموضوعات، وفاض فيها، وغاص في أغوار النفس، واستقرأ خطرات العقول، واستنطق شواهد الكتاب والسنة، ودقق في الاستنباط في معانيها، وضرب الأمثلة من الوقائع، فكان إحكامه لمثل هذا الأمر ومعالجته له على أبلغ ما يكون رحمة الله عليه، فيقول في شأن البيئة المحيطة: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن عداوته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوىً مردٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه؟ فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
وكم من بيئة كلها قواطع وموانع من الطاعة والثبات عليها، وفيها مرغبات ومغريات ومنزلقات للوقوع في المعاصي والركون إليها.(108/5)
طبيعة النفس البشرية
ووصف ابن القيم الأمر الثاني وهو طبيعة النفس وما فيها من بعض العلل التي لا تبرأ منها إلا بالتزام الشرع وبتهذيب الإيمان وبتطهير وتمحيص الطاعات لله سبحانه وتعالى، فقال: "في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل "، وهذه كلها هي من أوصاف من كانوا بارزين في أبواب عظمى من المعاصي.
ثم قال: "وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك كله، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند -يعني: من جند هذه الحيوانات وشاكلتها- ولا تصلح سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة:111] "، أي: أن النفس الخبيثة لا يمكن أن تكون ثمناً للجنة، ولا أن تكون جزءاً من هذا العقد الرباني.
ثم قال: "فما للمشتري إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون".
إذاً: لكي نفهم أصل المسألة نعلم أن طبع النفس البشرية تميل إلى المعصية، والبيئة تحض أو تسهل أمرها، ومن هنا نعلم أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة كبيرة، ولذلك من هذا المنطلق ومن حكمة هذا التشريع قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
وليس للإنسان عصمة من المعصية إلا ما قضى الله عز وجل من عصمة الرسل والأنبياء، وإلا فإن كل إنسان قد يقع في المعصية قليلاً أو كثيراً نادراً أو غالباً، ولذلك إذا قُرر هذا فإن العلة والمصيبة والخطورة ليست في مجرد الوقوع في المعصية بقدر ما هي في استمرائها والاستمرار عليها وعدم الحذر منها إلى غير ذلك.(108/6)
أصول المعاصي
أشير إلى نقطة مهمة أيضاً في طبيعة المعصية وصلتها بالنفس الإنسانية: ينبغي أن نعلم أن هناك مداخل عظمى وبوابات كبرى إذا فتحت فقد انفتحت أبواب وأنواع وأصناف وألوان من المعاصي على الإنسان؛ لذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه: أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: أولاً: تعلق القلب بغير الله.
ثانياً: طاعة القوة الغضبية.
ثالثاً: طاعة القوة الشهوانية.
ثم فصلها فقال: وهي الشرك، الذي هو التعلق بغير الله، والظلم وهو القوة الغضبية، والفواحش وهي القوة الشهوانية.
ثم قال: فغاية التعلق بغير الله الشرك، بأن يدعو معه إلهاً آخر، وغاية طاعة القوة الغضبية القتل، وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ ولذلك جمع الله بينها في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68].
فهذه أسس هذه المعاصي: تعلق بغير الله، اندفاع مع القوة الغضبية يقع به الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، اندفاع مع القوة الشهوانية يحصل به إغراق وإسراف في الشهوات والملذات دون مراعاة للمنهيات والمحرمات، وهذه نماذجها: شرك، وظلم، وفواحش، نسأل الله عز وجل السلامة.(108/7)
كيفية تسلل المعصية إلى الإنسان
كيف تتسلل المعصية إلى الإنسان، وتدخل عليه، ويقع فيها دون أن يشعر في بعض الأحوال؟ أشار إلى ذلك ابن القيم أيضاًَ، وهذا من الأمور المهمة التي لها أثر كبير في فهم العلاج والوقاية من المعاصي، قال رحمة الله عليه: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها.
فانظر ما هو أول الإدمان: هو تلك الخاطرة التي تجول ولم تستقر في العقل، فإذا بالإنسان يردد نظره فيها، ويعمل فكره فيها، ويجيء بها ويذهب، فإذا بها تنتقل من خطرة إلى فكرة تعشعش في العقل وترسخ فيه، ثم إذا به يعمل عقله في تلطف الأسباب الموصلة إليها، وفي تخيل اللذة الحاصلة منها، فإذا بها تختلط بقلبه، فإذا بها شهوة قد أنست النفس إليها، ومال القلب إليها، وإذا بها بعد ذلك تصبح همة وعزيمة قد تهيجت مشاعره لها، وتحركت نفسه لفعلها، بل ربما قد شغلت عليه فكره كله؛ فلم يعد يسمع إلا ما يوصله إليها، ولا يرى إلا ما يربطه بها، ولا يتذوق إلا ما يعينه عليها، وعند ذلك في هذه اللحظات يحتاج إلى قوة حاسمة وإلى ردع قوي، وإلا فإنه يقع في الفعل، يعني: يقع في المعصية، قال: فتداركها بضدها؛ بالحسنات والاستغفار والتوبة، فإن لم تفعل صارت عادة يصعب عليك الانتقال عنها.
ولينظر كل واحد إلى ما وقع فيه من المعاصي، فإنه سيجد أنها كانت على مثل هذا التسلسل، فالفطن اللقن والحريص المؤمن هو الذي يقطع الطريق من أولها؛ فلا يسمح للخواطر الرديئة ولا للأفكار الدنيئة أن تخالط عقله، ولا يشغل بها فكره.
ثم أفاض ابن القيم في مثال طويل فقال: مثال هذه الخواطر: كرجل يطحن برحى، فيضع فيها الحب والأشياء التي يطحنها، فينتفع بها ويأكل، فيأتيه رجل ومعه تبن وحصى وتراب يريد منه أن يطحنه في طاحونه، فإذا قبل ذلك أفسد ما كان يطحن من حب وطعام، وفسد الأمر كله، وإذا منعه فإنه يبقى سليماً، وذلك مثل الخواطر إذا جاءت وطحنها في العقل طحنت، ثم نزلت وتسربت إلى القلب، ثم انقلبت إلى فعل.
أي: أن الأفكار هي كل ما يطحن، فإن طحن تبناً جاء تبناً، وإن طحن حصىً جاءت حصىً، وإن طحن حباً نقياً نظيفاً جاء دقيقاً نقياً نظيفاً، فمن كان مفكراً في الخيرات، ودائماً تكون خطراته في الطاعات، فإن طاحونه ينتج همة لها، ورغبة فيها، وتعلقاً بها، وممارسة لها، وإدماناً عليها، ومبالغة في الاستكثار منها، ومن كان على غير ذلك في شأن المعاصي كان أمره إليها، وركونه وسكونه ومحبته وملذته فيها، نسأل الله عز وجل السلامة.
ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة الكرام! هذا الذي أشرت إليه، هدفت منه إلى أن نعرف طبيعة الإنسان في فطرته وبيئته ونفسه التي بين جنبيه، والتسلل الذي تدخل به المعاصي إلى نفسه وقلبه فترديه، نسأل الله عز وجل السلامة.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون حاسماً في هذه الأمور، فإن علاج الأمر والمرض في بداياته سهل يسير، أما إذا تمكن فإنه يحتاج بعد ذلك إلى وقت طويل، وإلى طبيب بصير، وإلى جراحة واستئصال، وربما فوق ذلك كله يكون قد استشرى المرض بحيث لا تنفعه كل الأدوية والعلاجات.(108/8)
حكمة تقدير الذنوب
النقطة الثانية: فلسفة الذنب، وأعني بالفلسفة -حتى لا يعترض معترض- التحليل والتعليل لتقدير الذنب؛ فإن من الناس من تعرض له شبهة، فيقول: لأي أمر قدر الله وقوع الذنوب وحصول المعاصي؟ ولأي شيء يبتلي بها العباد؟ ولأي شيء زين الدنيا وزخرفها حتى خطفت الأبصار وسبت القلوب؟ نقول: كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر، وكل قدر له حكمة، وكل حكمة فيها رحمة ولطف منه سبحانه وتعالى، فلا يعجلن المرء في مثل هذا، وينبغي أن يعلم أن هناك حكماً كثيرة لتقدير الذنوب، وما ذكره أهل العلم منها إنما هو بقدر ما استنبطوا، وإلا فإن الإدراك لحكمة الله في أقداره أمر يعجز البشر أن يكونوا محيطين به إحاطة كاملة، ومن هذه الحكم: أن مجاهدة المعاصي من أعظم ما يقوي خوف العبد وذله لربه سبحانه وتعالى الذي ابتلاه بالشهوات والنزوات، فهو معها في حرب طاحنة، وكلما رأى عظم أثرها وخطورتها لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وخاف من العقوبة، وهذا في حد ذاته لون من ألوان العبودية لم يكن ليحصل لولا تقدير الذنب، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ ولذلك جاء من حديث أبي هريرة عند مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وبعض من ليس عنده بصيرة يقول: كأن دلالة الحديث تدعو من لم يكن عاصياً إلى أن يعصي حتى يرضى الله عنه؛ لأنه يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، وليس الأمر كذلك، بل هي أقدار الله التي تجعل العبد يعرف مقام عبوديته، ثم يعرف مقام ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ويعرف عجزه، فيلجأ إلى قدرة الله عز وجل، ويعرف ضعفه فيلجأ إلى قوة الله سبحانه وتعالى، ويعرف قلة حيلته فيلجأ إلى مكر الله وكيده، ويعرف فقره فيلجأ إلى غنى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الأمر حكم كثيرة؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
ومن حكمة تقدير الذنوب إظهار تأييد الله سبحانه وتعالى ونصره لأوليائه، وإظهار معجزاته في قهره وعقوبته لأعدائه، فنحن نرى حكماً وعبراً ودروساً عظيمة نشهدها، لكننا ربما نغفل عنها أو لا نعطيها حقها من التأمل، أفلسنا نرى أرباب المعاصي وعلى وجوههم ظلمة! ونرى كيف تحل بهم القواصم التي لم يكونوا يحسبون لها حساباً، ولا كان الناس يقدرون لها قدراً؟! ألم نسمع ونقرأ في كتاب الله عز وجل عن قارون الذي بغى وطغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ثم خرج على قومه في زينته فكان العقاب: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]؟! وعلى مرأىً من الناس أظهر الله عز وجل قدرته، وفي ذلك ما فيه من المنافع والمصالح التي تجعل الناس يعرفون الحق فيقبلون عليه، ويعرفون الباطل فيحذرون منه، ويعرفون آثار المعاصي الوخيمة وآثار الطاعات النافعة المفيدة، فهذا أيضاً من الحكم.
ومن ذلك ظهور أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما أفاض في ذلك ابن القيم وابن تيمية وصاحب شرح الطحاوية وغيرهم، فإن من أسمائه سبحانه وتعالى التواب، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الغفار، كما أن العزيز والجبار والقهار من أسمائه سبحانه وتعالى، فكيف يكون غفاراً وليس ثمة مذنب؟ وكيف يكون تواباً وليس ثمة تائب؟ فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في تقدير الذنب من الحكم أن فيه إبطالاً لدعوى القائلين بالجبر، وهم الذين يقولون: إننا مجبورون، فإذا كنا كذلك فلا حساب علينا! فهذا الاختيار جعله الله عز وجل امتحاناً وابتلاءً، كما قال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وتقدير المعصية والطاعة فيه بيان لهذا الابتلاء والامتحان، وإلغاء وإبطال لشبه أهل الجبر والاضطراب؛ ولذلك كتب ابن القيم مقالات نفيسة تبين مثل هذا الأمر، وفيها ما نحتاج بالفعل إلى أن نعيد النظر فيها، لا تهويناً لأمر الذنوب، ولكن فهماً لحكمة تقديرها وابتلاء الناس بها، يقول ابن القيم وكان الله يخاطب آدم عليه السلام: يا آدم! كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك، أي: قبل أن تسبق من آدم معصية ما كان يشعر بأنه مفتقد إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، وزاد ذلك توضيحاً فقال: يا آدم! لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك؛ فطنت فيها لعدوك، وعرفت مكمن الخطر الذي يتربص بك.
وهذا أيضاً من حكمة تقدير الذنب، فقد استخرج الله منك داء العجب، وألبسك خلعة العبودية.
وأضرب لذلك مثالاً: لو أن مدرساً يدرس طلاباً على مستوىً عالٍ من الفهم والذكاء والحفظ والفطنة، وكان لا يسأله أحد منهم ولا يخطئ واحد منهم في إجاباته، فهل ترون هذا المدرس يكون سعيداً بهذا؟ إذا لم يكن منهم خطأ مطلقاً، ولا سؤال أبداً، فكأنه لا قيمة له، وكأن هؤلاء قد استغنوا عنه، لكن قيمته تظهر عندما يكون هؤلاء على مستوىً عال من الفهم والإدراك والحفظ والفطنة والذكاء وغير ذلك، ثم هم يفتقرون إليه ولو في أقل القليل، فإن ذلك يشعره بمنزلته كأستاذ لهم، ويعرفون أنهم طلاب له، ولله المثل الأعلى فإن العبد إذا لم يكن عنده شيء من الغفلة ولا المعصية فإنه يدل بطاعته على ربه ومولاه، ويقول: أنا لم أعص، وإنما أفعل دائماً الطاعات، فكأنه يستشعر -عياذاً بالله- منة منه على ربه ومولاه سبحانه وتعالى، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تستكثر شيئاً تعمله في طاعة الله تمن به على الله سبحانه وتعالى، فالله أمن وأجل.
قال أهل العلم: إن في تقدير الذنب ما يشعر الإنسان بأن نعم الله عليه أكثر مما يستحق، فإنه عندما يرى ذنوبه يقول: كيف لطف الله بي، أنعم علي، وأنا على مثل هذه المخالفات؟! فإذا وفق للطاعات رأى أن ما أنعم الله به عليه أكثر مما قدم من هذه الطاعات، فلا يزال مستشعراً نعمة الله حال طاعته وحال وقوعه في الذنب، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه في الحديث عن آدم: تالله ما نفعه عند معصيته عز: (اسجدوا) العز الذي جعله الله له عندما قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34]، ولا شرف: (وعلم آدم) الشرف الذي ناله عندما قال الله له: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، ولا خصيصة: (لما خلقت بيدي) لما قال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولا فخر: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] كل هذه المزايا ما نفعته، وإنما انتفع بذل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فتأمل كل تلك الأمور التي كانت أمور علو ورفعة، فقد يدخل العجب فيها إلى نفس الإنسان، أو إلى ما كان من آدم عليه السلام، حيث علمه الله عز وجل وخصه بأن خلقه بيديه، وشرفه بأن نفخ فيه من روحه، وعظمه بأن أسجد له ملائكته، كل ذلك أمر آخر، لكن عندما وقع في المخالفة والمعصية جبلة وفطرة وقضاءً وقدراً وحكمة من الله بالغة رجع إلى ربه كما حكى الله عنه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وكما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37].
يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لما كان وقوعه في الذنب -أي: العبد- ليس اجتراءً على سيده، ولكنه ضعف النفس وغفلة الهوى واستزلال الشيطان علمه كيف يتوب إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] فالذي عصى هو آدم عليه السلام حيث وقع في الاجتراء والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، لكن لما وقع حصول الندم والذل لله عز وجل من قبل آدم علمه الله سبحانه وتعالى الكلمات التي يتوب بها إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يذلوا له، وأن يفتقروا بين يديه، وأن يتضرعوا إليه، وأن يكونوا مستشعرين دائماً لعبوديتهم له، ولربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى، وأن نفهمه، ولذا قال ابن القيم: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
وانظروا الآن إلى من كانت عنده بعض الطاعات وقلت عنده المعاصي، فإن لم يكن حذراً وإن لم يكن متيقظاً فإنه يعلوه العجب، ويخالط نفسه الغرور، ويكون غروره وكبره هو حتفه وخسارته، ولا تنفعه تلك الطاعة التي رافقتها هذه الخلال الذميمة، كما أن المذنب عندما يستشعر الخطأ والاجتراء على عظمة الله عز وجل فيندم يكون أقرب إلى الله عز وجل من ذاك الطائع إذا تكبر، ولذلك قال ابن القيم: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
وذنب يذل به العبد أحب إلى الله تعالى من طاعة يدل بها عليه، ولذلك قال ابن القيم: شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار، إذا لم تنكسر لله عز وجل وتمرغ الجبهة وتذرف الدمعة ندماً وخوفاً ورغبة فيما عند الله عز وجل فما وقعت من أمر العبودية على الأمر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه.
وليس فيما ذكرت تهوين للذنب، وإنما بيان للحكمة البالغة التي جعلها الله عز وجل فيه.(108/9)
أسباب المعاصي
ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة وهي ما تتعلق ببعض أسباب المعاصي، ولست أريد أن أفيض في الأمور المعروفة من مثل ضعف الإيمان ووهن اليقين الذي يكون في نفوس العاصين، فإن ذلك أكبر وأظهر من أن يشار إليه، ولكني أشير إلى بعض ما أظنه دارجاً في حياتنا ومتمكناً في سلوكياتنا ومستولياً على نظراتنا تجاه هذه المعاصي، ولعل من أخطره إلف المعصية، فإذا ألفها الإنسان، فإن ذلك يكون مثل قضية الإدمان؛ فإن الذي يشرب كأساً -عياذاً بالله- من الخمر تجره إلى غيرها وإلى غيرها، ثم لا يرى بعد ذلك هذه الأمور إلا سهلة هينة، وكذلك إذا ألف هذه المعصية فإنه يكون من أعظم أسباب وقوعه فيها، ومن أعظم أسباب بقائه عليها، ومن أعظم أسباب منعه من فعل الأسباب التي تجعله يقلع منها، والتي تحمله على أن يبتعد عنها، ولذلك كان بعض السلف رحمة الله عليهم يقول: والله! لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قل أن تتأثر به، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: شيئاً فشيئاً، وفي بعض الروايات: (عَوداً عَوداً) يعني: مرة بعد مرة (فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) ثم في آخر الحديث ذكر أن القلوب تصير قلبين: (أحدهما أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والعياذ بالله!(108/10)
إلف العقوبة سبب في للوقوع في المعاصي
ومن أسباب المعصية أيضاً: إلف العقوبة، ليس إلف المعصية فحسب، بل إلف العقوبة، فهو يقع في المعصية ويبتليه الله عز وجل ببعض العقوبات فيألفها ويقبلها ولا يلتفت إلى كونها عقوبة، فيكون هذا كحال المريض الذي يعلم خطورة المرض ويعلم ما سيؤدي إليه، ثم يستمر فيه، ومثل هذا لا شك أنه أحمق، ولذلك يقول ابن الجوزي: "واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض"، يرى نفسه -عياذاً بالله- قد عصى وما مسخ قرداً ولا خنزيراً، ولا خسف به ولا أحرق ماله، ولا وقع له شيء من ذلك، فيظن أنه قد أمن العقوبة، وما يعلم أن هناك عقوبات قد جاءته من حرمان علم ومن منع رزق وغير ذلك دون أن يفطن لها، بل تقبلها على أنها أمر معتاد لا شيء فيه، وهذا لا شك أنه من الأمور الخطيرة.(108/11)