عبرة من قصص السلف
أذكر قصة من حياة أسلافنا في حلس البيوت التي اليوم تشكو وتعاني من كثير مما يلهي ويغري ويصرف عن طاعة الله عز وجل، امرأة حبيب العجمي -وهو أحد السلف- تقول له في الليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سرت ومضت، ونحن بقينا.
هذه امرأة لم تشغل بطعام ولا بشراب، ولا بوصفات إعداد الأطعمة، ولا بالموضات وما ينزل خصيصاً في العشر الأواخر من الملابس والموديلات والموضات، لقد شغلتهم المشاغل الإيمانية، وألهتهم عن هذه الأمور الدنيوية.
يا نائم الليل كم ترقدُ قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ وخذ من الليل وأوقاته وِرْداً إذا ما هجع الرُّقَّدُ من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يزهدُ قل لذوي الألباب أهل التقى قَنطَرَةُ الَعْرض لكم موعِدُ ذلك ما يمليه العقل الراشد والقلب الحي والنفس المؤمنة والموسم العظيم والأجر الكثير الذي ينبغي لنا أن نجتهد فيه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يصرفنا عن الغفلة واللهو واللغو وفاحش القول وسيئ العمل في سائر الأيام والأحوال، وفي هذه العشر على وجه الخصوص.(38/7)
ليلة القدر هي الجائزة الكبرى التي لا تقارن بها الدنيا وما فيها
العشر الأواخر هي الفرصة الأخيرة، وكما نرى أهل الدنيا وهم يجعلون مواسم وأياماً للجائزة الكبرى، نراها قد ملئت بها صفحات الجرائد، وتتكرر على شاشات التلفاز، وأما الليلة الكبرى والجائزة الكبرى التي لا تقارن بها الدنيا كلها بما فيها فهي بين أيدينا، ولا يفصلنا عنها ونحن في العشر سوى أيام قلائل، ولا يبعدنا عن إدراك خيرها ونيل أجرها وحصول مثوبتها إلا أن نجدد التذكر ونحسن الامتثال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) اجعل هذه الجمل الثلاث نصب عيبك، فهي جمل موجزة رائعة بديعة تحكي حياة قلب وروح وعبادة ليل، لا يكاد يفتر فيها عليه الصلاة والسلام ما بين صلاة وتلاوة وذكر ودعاء، ولا يخرج من مصلاه كما في الصحيح، وكان ربما يدني رأسه إلى حجرة عائشة فترجله، أي: ترجل شعره وهو معتكف في المسجد عليه الصلاة والسلام، فليس هناك شيء يمكن أن يقال أبلغ وأوجز مما ذكرته عائشة وذكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
تلك عشر ليالٍ تتحول فيها الأحوال تحولاً تاماً نحو الانقطاع عن الدنيا والانشغال بالآخرة والتفرغ للعبادة، وترك الأحوال المعتادة، وليس هناك ما يقال إلا أن نذكَّر بأن كل ليلة من رمضان لله فيها عتقاء من النار، وقد ورد كذلك أنه إذا كانت الليلة الأخيرة كان من العتقاء مثلما أعتق الله من أول الشهر، ولا تغفل كذلك عن العبادة ليلة العيد التي ينشغل فيها الناس فلا يكادون يذكرون ولا يصلون ولا يدعون ولا يتهيئون لأن يودعوا شهرهم باستيداع مزيد من العمل الصالح في خزائن رمضان.
أيها الأخ الحبيب! ونحن نتذكر ونذكر أنفسنا بمثل هذه المعاني نتذكر أيضاً أحوال أمتنا، ولابد لنا ونحن نتذكر الحياة التي نحن فيها من الخير ومن نعمة الله عز وجل من أن نتذكر من حرموا تلك النعم، ومن يعيشون في كل يوم على صوت أزيز الرصاص، وقصف الدبابات، واشتعال النيران، وعدوان المجرمين الظالمين الغاصبين المعتدين في كل بقاع الأرض بدءاً من فلسطين، ومروراً بالعراق، وانتهاء بالشيشان، وتعريجاً على كشمير وفي غيرها من الجهات التي فيها جاليات مسلمة تضطهد أو تعذب، ولذلك ينبغي ألا نقتصر على الدعاء لأنفسنا ولأهلنا ولديارنا وبلادنا، وينبغي أن يكون لهم حظ من دعائنا، فندعو لأمتنا وإخواننا، ونسأل الله أن يصلح أحوال واقعنا، علَّ الله سبحانه وتعالى في هذه العشر المباركة أن يتداركنا برحمته، وأن يجعلها فرجاً لكل من به ضيق، ويجعلها سبحانه وتعالى نصراً لكل من له جهاد، ونسأله سبحانه وتعالى أن يقوي في هذه الأيام والليالي عزائمنا على طاعته، وهمتنا في طلب مرضاته، وأن لا نشغل عن ذلك بسفساف الأمور.
الصوم جُنَّة أقوام من النار والصوم حسن لمن يخشى من النار والصوم ستر لأهل الخير كلهم الخائفين من الأوزار والعار والشهر شهر إله العرش مَنَّ به ربٌ رحيمٌ لثقل الوزر غفار ينبغي لنا أن ندرك هذه الفضائل، وأن نتهيأ لها ولا نشغل عنها، ونسأله سبحانه وتعالى الرضوان، والعتق من النيران، ودخول الجنان برحمته فهو الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى.
اللهم! إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تسخر جوارحنا في طاعتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم! اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم! اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم! اجعلنا ممن يشد مئزره، ويحيي ليله، ويوقظ أهله، ويشغل أيامه ولياليه بالذكر والطاعات والدعاء والمناجاة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد.
اللهم! املأ قلوبنا بحبك، وأسجِد جباهنا لعظمتك، واجعل أقدامنا سائرة إلى طاعتك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكَّن لوعتهم، وفرَّج همهم، ونفس كربهم، وعجَّل فرجهم، وقرَّب نصرهم، وادْحر عدوهم، اللهم أمّن الخائفين، واكسُ العارين، وأطعم الجائعين، وسكنِّ المشردين، وانصر المجاهدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجعل لنا ولإخواننا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعْلِ رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، واجعل الأيام والليالي المقبلة أيامَ ولياليَ نصر وعز وتمكين برحمتك وقدرتك وعزتك يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(38/8)
أوضاع المسلمين والموازين الدولية
إن الناظر إلى القوانين الدولية ليرى العجب العجاب، فعندما تكون في صالح أعداء الإسلام فإنها تنفذ وبكل صرامة، وعندما تكون هذه القوانين في صالح المسلمين فإنه يكتفى بالشجب والتنديد، وهنا يظهر الكيل بمكيالين، فعلى الأمة إذا أرادت العزة والتمكين والنصر أن ترجع إلى شرع الله سبحانه وتعالى قولاً وعملاً واعتقاداً.(39/1)
مقدمة عن حال الأمة الإسلامية وواجب المسلمين نحوها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع والعشرون من هذه السلسلة من الدروس، وهو اليوم بعنوان: أوضاع المسلمين والموازين الدولية.
ويأتي هذا الدرس ربما في وقت يتزامن ويتناسب مع كثير من المستجدات والأحداث، التي تحيط بأمة الإسلام في كثير من ديارها وعلى كثير من أبنائها، والذي يلحظ الواقع المعاصر يرى أنه في خلال الأعوام القريبة القليلة الماضية علا صوت الشرعية الدولية، ولزوم احترام القوانين الدولية، ومراعاة مشاعر الأسرة الدولية، ونحو ذلك من المقالات التي تعود في جوهرها إلى لزوم مراعاة هذه الموازين والقوانين التي ترتبط بالأمم المتحدة وفروعها ولجانها ومجالسها.
والذي يتأمل بصورة سريعة يجد أن أوضاع المسلمين على وجه الخصوص، أعني الأوضاع المأساوية التي يصب فيها على المسلمين كل أنواع الأذى والعسف والظلم، نجد أن هذه الموازين إما أنها لا تفي بالغرض الذي يحقق العدالة أو يدفع الأذى، وهذا في كثير من صورها وأحوالها، وأما أنها تحيف وتميل وتكيل بمكيالين، سيما إذا كان الأمر يتعلق بالمسلمين.
وإما على أحسن الأحوال والظروف أنها تكون قرارات وأموراً لا تعدو أن تتجاوز الخطب أو القرارات المطبوعة والمكتوبة التي لا تغير في الواقع شيئاً، وفي حقيقة الأمر ربما لا تساوي المداد الذي كتبت به؛ لأنه ليس لها قيمة تأثيرية تغييرية في الواقع.
وأحوال المسلمين المضطهدين أكثر من أن يحيط بها درس أو محاضرة، بل إن كل قضية من قضايا المسلمين لا تكفيها دروس ولا محاضرات، وحال المسلمين مقارنة بغيرهم في الجملة ربما يعبر عنه قول الشاعر: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر وهذا الذي نراه في واقع الأمر إذا قتل فرد من أمة نصرانية أو يهودية، أو من دولة شرقية أو غربية تقوم له الدنيا ولا تقعد، وإبادة شعوب الإسلام هنا وهناك مسألة فيها نظر، تحتاج إلى التداول وإلى القرارات وإلى غير ذلك من الأمور، وحال المسلمين بالنسبة لكثير من دولهم أيضاً يصح فيها قول شاعر العرب: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود إذ لا يلحظ لهم قوة أو قدرة فاعلة، ولو ضمن هذه الموازين والمقررات الدولية التي يراد لها أن تكون مهيمنة وحاكمة على العالم، والمتأمل أيضاً يجد أن أوضاع الديانات والعرقيات والمبادئ الأخرى غير الإسلامية تشهد نشاطاً عند الملمات والمهمات، وهذا النشاط له دور فاعل تأثيري لا ينتظر المداولات، ولا يستجيب في الغالب للقرارات، بل يجعل لغة العمل والتغيير الواقعي هي اللغة المسموعة، ولذلك في غالب الأحوال يحظى هؤلاء بحوزة حقوقهم، وتكون لهم صورة من الهيبة والاحترام، بعكس من ينتظر الاستجابة للقرارات أو الوصول إلى الحلول وغير ذلك من الأمور، وكما قال الشاعر: كل الشعوب على الطريق توحدت وشعوبنا لما تزل أشياعا كم نستكين إلى الهوان وليتنا نشكو المهانة أو نحس صداعا كل الشعوب تنام ملء جفونها والسقف فوق شعوبنا يتداعى كل الشعوب إلى الشواطئ أبحرت هل يملك الشعب القتيل ذراعا حال الأمة في الحقيقة لا نذكرها تأييساً للأمة وفتاً في العضد وقتلاً لبوادر وبوارق الأمل، وإنما فائدتها على العكس من ذلك أنها توضح الصورة، وتكرس الولاء للإسلام، وتبدي الحاجة الشديدة الملحة لوحدة أمة المسلمين، وتناصر شعوب الإسلام فيما بينها، وأن يكون المسلمون -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- يداً على من سواهم، وأنه يسعى بذمتهم أدناهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، أما التبلد والسلبية والبقاء والانحصار في دائرة الأنانية، وعدم التفاعل والارتباط بأمة الإسلام والمسلمين في شرق الأرض وغربها، فهو دلالة على ضعف الإيمان، وعدم وضوح الرؤية والعلم بهذا الدين، بل هو في كثير من الصور وللأسف ربما يمثل صورة من قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، وينبغي أن يتخلى المسلمون عن هذه الصورة، ولا يكون حالهم كقول القائل: يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال ونحيا العمر أوتاراً وهزلاً ونحيي العمر في قيل وقال لماذا كل طائفة أغاثت بنيها غيركم أهل الهلال ترى الصلبان قد نفرت وهبت يهود بالدواء وبالغلال هبوهم بعض سائمة البراري هبوبهم بعض سابلة النمال هبوهم أي: هبوا إخوانكم المسلمين.(39/2)
حقوق الإنسان في الأعراف الدولية ونصيب المسلمين منها
حتى نلج إلى صلب الموضوع والقضية، فإننا نستعرض بعض هذه الموازين في نصوصها وقوانينها التي صيغت بها، ثم نرى تطبيقها في الواقع، لنرى حظ المسلمين منها، وهذه الموازين كثيرة جداً، والإحاطة بها يطول أمرها، ولذلك سأقتصر في كل قضية من القضايا على أمثلة محدودة، ربما تزيد في بعض الموازين لأهميتها وكثرة ما ينقضها ويعارضها، وتقل في البعض الآخر؛ لأن الأمثلة فيه قد لا تحتاج إلى ذلك التفصيل.
من أهم هذه الموازين والقوانين التي يكثر الحديث عنها: حقوق الإنسان التي تصم آذاننا في هذه الأيام صباحاً ومساءً، وفي غالب الأحوال لا تكون بالنسبة للمسلمين كما ينبغي أن تكون، أو كما ينص عليها قوانينها.
وأذكر لكم بعض المواد الرسمية في القانون الدولي المتعلق بحقوق الإنسان، ثم نرى بعد ذلك تطبيقاته على أوضاع المسلمين.
ينص هذا القانون في مادته الأولى بالنص القائل: يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق.
وفي مادته الثانية يقول: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات، دون أي تمييز من عنصر أو لون أو جنس أو لغة أو دين، وكذا فيما بين الرجال والنساء.
وفي المادة الثالثة يقول: إن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه.
وفي الخامسة يقول: إنه لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات الوحشية أو الحاطة بالكرامة.
وأنا أختار بعض المواد، ولا أذكرها كلها.
المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً.
المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً.
المادة الثانية عشرة: لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة، سواء في أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، أو أن يتعرض لحملات على شرفه أو سمعته، وكل شخص يحميه القانون من مثل هذه الاعتداءات.
المادة الثالثة عشر: لكل فرد حرية الانتقال، واختيار محل إقامته داخل حدود أية دولة، وله الحق في الخروج من بلده، كما له الحق في العودة إليه متى شاء دون أية قيود، إلا ما يتعلق بقيود القوانين التي فيها منع بموجب قانون الجريمة أو نحو ذلك.
المادة السابعة عشرة: لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً.
المادة الثامنة عشرة: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، وهذا الحق شامل لحرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية الإعراض عنها.
وسنعرض في آخر الحديث إلى هذه الموازين من حيث النظرة الشرعية، لكننا الآن نجاري هذه الموجة لنعلم أنه حتى هذه القوانين الوضعية التي في بعضها أو كثير منها مخالفة لشرع الإسلام لا تطبق التطبيق الصحيح كما يزعم واضعوها، أو ينادي واضعوها الناس إلى أن يحتكموا إليها.
المادة التاسعة عشرة: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأخبار والأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بدون تقيد بحدود جغرافية وبأية وسيلة.
المادة الثالثة والعشرون: لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، ولكل فرد دون أي تمييز الحصول على أجر متساو في العمل مع غيره، وله أيضاً الحق في أجر عادل مرضٍ يكفل له ولأسرته عيشه الكريم.
المادة الخامسة والعشرون: لكل فرد الحق في مستوى معيشي كاف يحافظ فيه على الصحة والرفاهية، ويضمن الغذاء والملبس والمسكن والصحة وتأمين المعيشة.
وللأمومة والطفولة حقوق خاصة في هذا أكثر من غيرها، وأن الدول ينبغي أن تكفل هذه الحقوق من الرفاهية، وأن يحصل الإنسان على الحد الأدنى من مستوى المعيشة المقبولة.
المادة السادسة والعشرون: لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم الأساسي مجاناً وإلزامياً، وأن يتيسر أيضاً التعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع دون أي فروق أو تمييز.
هذه بعض المواد فيما يتصل بالمواد الأساسية في قانون حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وهناك أيضاً اختيارات أخرى من قانون حقوق الإنسان في الشئون الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
نقتطف منها مادة واحدة وهي: تقر هذه الدول بحق الفرد في المشاركة الثقافية، والانتفاع بالتقدم العلمي، والانتفاع بحماية المصالح المعنوية والمادية الناتجة من الإنتاج العلمي والأدبي الذي يقوم هو بتأليفه.
هذا ما ذكرناه في مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي أول مواد الحقوق المدنية والسياسية يأتي الحق الذي يكثر ترداده كثيراً وهو موضوع حق تقرير المصير: تنص المادة الأولى: على أن لكل الشعوب الحق في تقرير المصير، وحرية كيانها السياسي، ومواصلة حرية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ثانياً: لجميع الشعوب تحقيق غايتها الخاصة في التصرف في حريتها وثروتها ومواردها الطبيعية، وجميع الدول الأطراف عليها العمل من أجل تحقيق حق المصير، واحترام ذلك الحق تمشياً مع ميثاق الأمم المتحدة.
وأيضاً نجد أن هذه المواد تكرس ذاك القول الذي ذكر في مسائل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ثم أيضاً بعد ذلك أضيفت قوانين أخرى تتعلق بهذا الباب، ومن أهمها قانونان مهمان: الأول منهما: جريمة إبادة العنصر، حيث أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر عام (1948م) اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، ثم أصبحت هذه الاتفاقية سارية المفعول في عام (1961م) وفي عام (1986م) صدقت عليها ستة وتسعون دولة، وأصبحت هذه الاتفاقية معمولاً بها.
وكذلك معاهدة أخرى وهي معاهدة منع التمييز العنصري، وأصبحت هذه الاتفاقية سارية المفعول في عام (1969م)، وصدقت عليها مائة واثنان وعشرون دولة، وفي كلتا المعاهدتين كانت إسرائيل إحدى الدول المصدقة على مثل هذه المعاهدة.(39/3)
حقوق الإنسان في الأعراف الدولية وأوضاع المسلمين في بورما
بمجرد أن نستعرض بعض أحوال المسلمين في بعض المناطق نجد بوضوح الصورة المعاكسة والمغايرة لهذه الإعلانات والمواد والقوانين، أوجز ما يتعلق بأحوال وأوضاع المسلمين في بورما في عشر نقاط؛ حتى تعلموا أن كل هذه المواد بتفصيلاتها وتفريعاتها لا أثر لها في واقع المسلمين في بورما.
بورما بلد إسلامي دخله الإسلام في القرون الأولى من عهد الإسلام، وحكم الإسلام مناطق بورما وبالذات منطقة أراكان نحو خمسين وثلاثمائة عام، وتعاقب عليها ثمانية من ملوك المسلمين، حتى جاءت بعد ذلك البوذية، واحتلت هذه المناطق، وقتلت وشردت، ثم بعد ذلك جاء الاستعمار البريطاني، ثم بعد ذلك ورث تركته وضم المسلمين إلى الحكومة البوذية في بورما، ومارست من جديد التقتيل والتشريد، وهذه الخلاصة نوع من مناقضة ما هو مذكور في هذه النصوص لحقوق الإنسان: أولاً: بموجب قانون المواطنة والجنسية الذي صدر عام (1982م) ألغيت الجنسية عن جميع مسلمين أراكان، وأصبحوا -كما هو مذكور في الصحف والمجلات- شعباً بلا وطن، وإلى الآن إخواننا الموجودون هنا في المملكة في مكة وفي جدة وفي غيرها من البرماويين لا يملكون أية جنسية، وليس عندهم أية جوازات، وهذا أحد النصوص التي لم نذكرها وهي: أن لكل فرد الحق في التمتع بجنسيته، ولا يسلب هذا الحق منه مطلقاً.
ثانياً: الحرمان من السفر والانتقال حتى إلى العاصمة التي يحتاج الناس إلى التردد إليها لبعض حاجاتهم.
ثالثاً: وجود الاعتقالات والقتل والتعذيب دون مبرر، والأعداد في هذا مهولة جداً، يكفي أن نقول: إنه قتل في بدايات هذه الفتنة والمحنة التي مرت بإخواننا هناك أكثر من ثمانين ألف مسلم في فترة واحدة لا تتعدى العامين فقط، ولما تجددت النزاعات في عام (1947م) قتل كذلك عشرات الآلاف من المسلمين، وأما المهجرون فتبلغ أعدادهم أكثر من (اثنين مليون) مفرقين في كثير من أنحاء العالم في شرقه وغربه.
رابعاً: الإجبار على أعمال الخدمة، وبدون مقابل وبدون أجر، وهذا أيضاً يناقض هذه القوانين.
خامساً: تهجير المسلمين وتوطين البوذيين البورماويين في أماكن سكناهم.
سادساً: نهب الأموال، وحصد المحاصيل، ومنع استيراد المواد الغذائية؛ سياسة تجويع وقتل تعارض جريمة الإبادة الجماعية أو الجنسية كما ذكرناها.
سابعاً: منع المسلمين من ممارسة التجارة بأية صورة من الصور.
ثامناً: الحرمان من الوظائف الحكومية مطلقاً.
تاسعاً: مصادرة أوقاف المسلمين وأراضيهم الزراعية.
عاشراً: إيجاد العقبات أمام التعليم بشتى صوره، وفي شتى مراحله.
ويكفي أن نقول: إنه لا يوجد لهؤلاء المسلمين الذين يبلغ عددهم نحو ستة ملايين، ولا ممثل واحد في البرلمان، ولا في مؤسسة مطلقاً، إضافة إلى حرمانهم من كل هذه الأسباب والحقوق، ومع ذلك لا تجد لهذه القضية حظاً من القرارات الدولية.(39/4)
حقوق الإنسان في الأعراف الدولية وأوضاع المسلمين في فلسطين
وهناك مثل آخر صارخ جداً يتعلق بأحوال المسلمين في دولة فلسطين السليبة، تجد أيضاً أن الوقائع أكثر من أن تحصى، وتجد أن هذه القوانين مجرد حبر على ورق.
سأفيض هنا قليلاً في بعض الإحصاءات والأرقام المتعلقة بهذا الشأن، فسنجد في فترة زمنية محدودة تبلغ نحو عشر سنوات أنه صدرت في حق إسرائيل نحواً من عشرة قرارات من لجان حقوق الإنسان، وهذه القرارات نوجز ما ذكر عنها في فترات متباعدة، وهي كلها تدين وتشجب وتبدي الأسف وتنظر بعين القلق وما يلحق بذلك، ولا ينفذ من هذه القرارات شيء مطلقاً، بل إننا نجد أيضاً أن الدول الكبرى التي تدعي حقوق الإنسان ونحو ذلك أنها تعارض حتى هذه القرارات الهزيلة بصياغاتها الضعيفة جداً، فمن بين هذه القرارات نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية امتنعت في قرارين عن التصويت، وفي أربعة من هذه القرارات صوتت ضدها، وهذا أيضاً يدل على أن مسألة موازين القوى متعلقة بالعقائد والمصالح، وأنه ليست هناك قضية العدل وتحري إقامة القانون بموجب ما هو منصوص عليه.
وهذه القرارات كما ذكرت تدعو دائماً إلى القضايا المنتهكة بالنسبة لحقوق الإنسان.
الذي قتل من المسلمين الفلسطينيين عشرات الآلاف، أما المشردون فيبلغ عدد المهجرين من الفلسطينيين منذ بداية (1948م) إلى اثنين مليون ونصف ما يزالون خارج ديارهم وأرضهم، سواءً الذين لازالوا في المخيمات أو استوطنوا في بعض الديار، أو هاجروا إلى بلاد الشرق والغرب وغير ذلك.
أحب أن أذكر وأشير إلى نص واحد من نصوص هذه القرارات حتى نرى هذه الانتهاكات المذكورة في نصوص قرارات الأمم المتحدة نفسها.
هذا القرار رقم (10) في الدورة السادسة والعشرين في (23/ مارس/ 1970م) وعنوانه: إدانة خرق إسرائيل المستمر لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، يقول: إن لجنة حقوق الإنسان إذ تذكر المبادئ التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإذ تذكر قرار المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان رقم (كذا) في تاريخ (كذا)، وإذ تذكر قرار مجلس الأمن رقم (كذا) وقراره رقم (كذا) وقرار الجمعية رقم (كذا) وتلخص مضامين هذه القرارات، وإذ تذكر أيضاً قرار الدورة الخامسة والعشرين التي قررت تأليف لجنة لتقصي الحقائق، وإذ تضع نصب أعينها أن الاتفاقية السالفة الذكر ملزمة لإسرائيل، وإذ تعرب عن قلقها العميق بسبب الظروف المتدهورة الخاصة بحقوق الإنسان في المناطق المحتلة، وإذ تشعر بالانزعاج الشديد من التقارير الحديثة عن قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلية بعملية طرد جماعي للاجئين، وقد تلقت ودرست تقرير فريق العمل، وتقرر الآتي: أولاً: تلاحظ بخيبة أمل رفض إسرائيل التعاون مع فريق العمل السالف الذكر الذي ألفته لجنة حقوق الإنسان.
ثانياً: تؤيد النتائج التي انتهى إليها فريق العمل بشأن تطبيق (اتفاقية جنيف) الخاصة بحماية المدنيين في وقت الحرب على كل المناطق المحتلة، وتفيد التقارير على أن هناك انتهاكات لتلك الاتفاقية في المناطق الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي.
ثالثاً: تدين إسرائيل لرفضها تطبيق تلك الاتفاقية وخصوصاً الانتهاكات التالية: - التدمير الكلي والجزئي لقرى ومدن في المناطق المحتلة.
- إقامة مستوطنات إسرائيلية في المناطق العربية الخاضعة للاحتلال العسكري.
- عمليات ترحيل وطرد السكان المدنيين غير القانونية.
- الأعمال القسرية لإرغام السكان المدنيين الخاضعين للاحتلال على التعاون مع السلطات ضد إرادتهم.
- إلغاء القوانين القائمة في المناطق المحتلة.
- كل سياسات وإجراءات العقاب الجماعي.
رابعاً: تأسف على السياسات والأعمال الرامية إلى ترحيل اللاجئين الفلسطينيين.
خامساً: تعرب عن قلقها العميق إزاء استخدام وسائل القسر لانتزاع المعلومات والاعترافات انتهاكاً لنصوص الاتفاقية المعنية.
- سوء معاملة وقتل المدنيين دون أي استفزاز.
- اعتقال الناس بأوامر إدارية لفترات تجدد تلقائياً إلى ما لا نهاية.
- حرمان هؤلاء المعتقلين من أي ضمان خاص في مدة الاعتقال.
- حرمان المتهمين من استشارة محام يختارونه.
- تدمير واغتصاب الممتلكات المنقولة وغير المنقولة.
سادساً: تدعو إسرائيل مرة أخرى إلى التقيد بدقة لتلك الاتفاقية.
سابعاً: تدعو إسرائيل إلى القيام حالاً بالآتي: - إلغاء جميع الإجراءات والكف فوراً عن القيام بأي عمل مناف للقوانين.
- الإحجام عن إقامة المستوطنات.
- أن تكف فوراً عن إجبار سكان المناطق المحتلة التعاون مع السلطات.
- ضمان العودة الفورية للمهاجرين إلى ديارهم.
- الكف فوراً عن ترحيل المدنيين.
تاسعاً: تثني على فريق العمل الخاص على ما قام به، وتقرر أن يستمر في التحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية لهذه الاتفاقيات، وتبحث بصورة خاصة عن الدلائل المتعلقة بحالات التعذيب، كالحالات الأخرى لانتهاك الاتفاقية مثل إقامة المستوطنات.
وأخيراً: تدعو إسرائيل لاستقبال فريق العمل الخاص والتعاون معه، وتقرر الاستمرار في إدراج مسألة انتهاك حقوق الإنسان في تلك المناطق في جدول أعمال اللجنة، وتطلب من الأمين العام نشر التقرير، وتطلب أيضاً أن يرفع تقرير فريق العمل الخاص إلى الجمعية العامة.
هذا نص القرار وكله إعراب وتنديد وشجب وأسف وحزن وغير ذلك، ثم نجد أن الذين صوتوا ضد هذا القرار كثير، ومن الدول التي امتنعت عن التصويت على هذا القرار: فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا وغيرها من الدول.
هذا الكلام الذي كما ذكرت لا يعدو أن يكون حبراً على ورق ومع ذلك نجد أن الدول العظمى التي تدعي رعاية حقوق الإنسان وبقوانين نفس الأمم المتحدة وبتقارير خبرائها وبإشرافها المباشر وتحقيقاتها المباشرة، نجد أن كل القرارات التي تقدمت بها لجان حقوق الإنسان لم تلق أبداً أية استجابة لا في قليل ولا في كثير، بل إن إسرائيل تندد بهذه القرارات وتعتبرها نوعاً من الظلم، أو استهلاكاً دعائياً كما ورد في تصريحات كثيرة لهم، حتى إن لجان حقوق الإنسان في تقاريرها السنوية أصبحت لا تستطيع أن تدرج تقرير إسرائيل ضمن التقرير العام، فتفرد لها كتيبات أو كتب خاصة بأحوال حقوق الإنسان في أرض فلسطين.(39/5)
حقوق الإنسان وأوضاع المسلمين في الهند
لو تأملنا لوجدنا أن الأمر ليس فقط في هذه الدائرة، فإننا نجد الهند على سبيل المثال وفيها أكثر من عشرين ومائة مليون مسلم، ويعتبرون أقلية في مقابل عدد سكان يقرب من ثمانمائة مليون، وهؤلاء أيضاً يسامون القتل والتشريد والاعتقال على الأيدي الرسمية الحكومية، وأيضاً لا تجد إلا بعض القرارات والمناشدات القليل أو كثير من الأسف، وتجد أيضاً أن هذه الممارسات تبلغ حداً يصل إلى اللا إنسانية كما يقولون.
إذ معلوم أحول المسلمين في الهند، وخاصة في أحداث محاولة هدم المسجد البابري وكذلك في الأحداث السابقة في أثام وغيرها حيث استباحت قوى الشرطة وقوى الجيش دماء المسلمين وأعراضهم وديارهم وأحرقتهم ودمرت كل شيء، ومع ذلك ليست هناك أي فاعلية بصورة قريبة أو بعيدة لهذا القانون أو هذه الموازين الدولية.(39/6)
حقوق الإنسان وأوضاع الدعاة والعلماء والملتزمين في تونس والجزائر
إننا نجد أيضاً حتى في البلاد العربية أن الدائرة تدور على دعاة المسلمين، وعلى من يلتزمون بإسلامهم؛ لا لشيء إلا لأنهم فقط يعلنون الالتزام الكامل التام بهذا الدين، فنجد أن الدائرة تدور عليهم وتمتلئ السجون بهم، على سبيل المثال: في تونس يبلغ السجناء من المسلمين ومن الدعاة أكثر من ثلاثين ألفاً، بل بعض الإحصاءات تبلغ بها إلى نحو خمسين ألفاً من المعتقلين، وليست لهم أدنى حقوق إنسانية مما ذكر في هذه الإعلانات، ومع ذلك لا تجد مثل هذه النداءات والصيحات؛ لأن القضية تدور رحاها على المسلمين، بينما في الأخبار نسمع أن الدول الأوروبية توقف مساعداتها عن ملاوي إلا المساعدات الإنسانية، لماذا؟ قالوا: بسبب أوضاع حقوق الإنسان المنتهكة، وبالتالي لابد من معاقبتها؛ لئلا تنتهك حقوق الإنسان، بينما نجد كثيراً من الانتهاكات التي تصب على المسلمين لا يكون لها أي إجراء عملي لا من قريب ولا من بعيد.
وكذلك بالنسبة لتونس أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً خاصاً عن تردي الأحوال للسجناء من الدعاة والخطباء والأئمة وغيرهم، ومثل تونس بعض الدول الأخرى، مثل الجزائر فأحوال المسلمين فيها سيئة.(39/7)
حقوق الإنسان وأوضاع المسلمين في سيرلانكا والبوسنة والهرسك
سيرلانكا قتلت قوات التاميل فيها المسلمين في مساجدهم، وانتهبت أموالهم، وهتكت أعراضهم، وبقرت بطونهم، وما أحداث البوسنة والهرسك التي تجري رحاها في هذه اللحظات عنا ببعيد، والمتأمل يرى الصورة واضحة لا تحتاج إلى تفكير.
كل الصور عداء على المسلمين رغم اختلاف المعتدين، في سيرلانكا التاميل، وفي بورما البوذيون، وفي البوسنة والهرسك الصربيون النصارى، وفي الهند: الهندوك، وفي إسرائيل يهود، والمعتدى عليه في كل الأحوال مسلمون يذبحون ويقتلون، ولا يسمع بهم أحد، ولا يكترث لهم أحد، وأكثر ما يمكن أن تقوم به المنظمات الدولية هي إصدار قرارات مثل هذه القرارات التي ذكرت بعضاً منها.
وهذا الأمر كما أشرت أوضح من أن يوضح، والإحصاءات والأرقام كثيرة جداً، حتى إنني لم أستطع أن أختار منها شيئاً، فآثرت الإيجاز والإجمال في هذه القضايا، هذه قضية واحدة من هذه القضايا وهي قضية الموازين الدولية.(39/8)
ضرورة الانصياع لقرارات مجلس الأمن والكيل بمكيالين
النقطة الثانية التي يكثر الحديث عنها الآن بشكل كبير جداً، هي: ضرورة الاستجابة والانصياع والرضوخ لقرارات مجلس الأمن، ومجلس الأمن في صورته النظامية أو القانونية هو عبارة عن المكتب التنفيذي لهيئة الأمم المتحدة، يعني: هو الذي يمارس دورها وأعمالها بشكل دائم.
بمجرد النظر في بعض قوانين مجلس الأمن يظهر من خلاله بعض التناقض مع أساس ميثاق الأمم المتحدة، التي تجعل الدول والأمم كلها على مستوى واحد من حق السيادة والتصويت والمركز المعنوي الاعتباري لهذه الدول، بينما نجد أن مجلس الأمن كان في أصل إنشائه يتكون من أحد عشر عضواً، منهم الخمسة الأعضاء الدائمون وهم الدول الكبرى أو العظمى، والآن تهاوت هذه الأسماء والألقاب، ولم يبق في الساحة إلا القوة العظمى التي تنسب إلى الولايات المتحدة في الوقت المعاصر، أما بريطانيا التي كانت لا تغرب عنها الشمس فقد أصبحت الشمس غائبة عنها طول عهدها وعصرها، والاتحاد السوفيتي أصبح أثراً بعد عين، وأيضاً فرنسا تزاحم، والصين في منأىً عن الخارطة السياسية في كثير من الأحوال، وتعاني كثيراً من المشكلات، ويوشك بإذن الله سبحانه وتعالى ألا تبقى في الأرض قوة عظمى إلا قوة الإسلام بإذن الله سبحانه وتعالى.
مجلس الأمن يقرر أنه لا تعتبر القرارات سارية المفعول إلا إذا صوت عليها تسعة من الأعضاء، بعد ذلك زاد أعضاء مجلس الأمن إلى خمسة عشر عضواً، تسعة من الأعضاء يشترط أن يكون بينهم الخمسة الدائمو العضوية في المجلس، وإذا لم يصوتوا أو امتنعت إحدى الدول عن التصويت فقانونياً هناك إشكال، لكن إجرائياً إذا لم تعترض بصورة واضحة يمكن أن يقر القرار، لكن هناك النظام المشهور وهو حق النقض الذي يسمى (الفيتو)، وهو تدمير وتحطيم وإلغاء لكل قانون، ليبقى قانون القوة أو قانون الهوى هو الذي يحكم.
وعندما يأتي قرار أو تأتي قضية إلى مجلس الأمن، ويتبنى مشروعاً أو قراراً مهما كان هذا القرار عادلاً أو منصفاً أو غير ذلك، ومهما أجمعت عليه دول أو أيدته دول، تأتي واحدة من هذه الدول الأعضاء الخمس الدائمة العضوية: أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو روسيا أو الصين، فتقول فقط كلمة واحدة: (فيتو)؛ ليسقط كل شيء، وينتهي الاجتماع، ويلغى القانون، ويتحطم كل شيء بكلمة واحدة، ورفعة يد واحدة، وينتهي الأمر! وهذا النقض يكرس هذا الضعف في صميم هذه القوانين فضلاً عن أننا بتجاوزنا لهذا الأمر فإننا نجد فاعليتها ضعيفة جداً.(39/9)
قرارات مجلس الأمن في كشمير أنموذجاً
أضرب أمثلة وجيزة لضعف قرارات مجلس الأمن: فكشمير كانت مع بقية مناطق شبه القارة الهندية واقعة تحت الاحتلال البريطاني، ثم لما انسحبت بريطانيا ورفعت انتدابها، كان من ضمن القرارات الرسمية في هيئة الأمم المتحدة أن تبقى الهند مستقلة، وباكستان مستقلة، وأن الإمارات التي كانت تسمى بالإمارات الهندية يبقى لها حق الاختيار، إما أن تكون مستقلة أو أن تنضم إلى الدولة التي تريدها إما الهند أو باكستان.
بالنسبة لكشمير كان غالبية سكانها من المسلمين، وهي أرض إسلامية عريقة، دخلها الإسلام منذ عهد مبكر في أوائل قرون الإسلام الأولى، بينما كان الحاكم الموضوع في فترة الانتداب البريطاني وفي فترة التسلط الهندوكي بوذياً، فأراد هذا الحاكم البوذي أن يضم كشمير إلى الهند، والمسلمون -وهم الغالبية العظمى في كشمير- أرادوا أن ينضموا إلى باكستان، فعرضت القضية على مجلس الأمن، والعجيب أن الهند هي التي عرضت القضية وقالت: إن هناك تحرشات تهدد الأمن والسلام العالمي، وفي القانون أن أي دولة تقدم شكوى لابد أن تستند إلى نصوص القانون، وتبين مدى خطورة الأمر الذي ينقض أو يعارض هذه القوانين أو المواثيق المتعلقة بالأمم المتحدة.
لنلاحظ ونتدرج مع هذه القضية كيف سارت؟ في عام (1948م) أخبر مندوب الهند في الأمم المتحدة عن وجود هذه المشكلة، ثم شبت الثورة، وبدأ القتال، فمجلس الأمن نادى جميع الأطراف بالامتناع عن كل ما من شأنه الإخلال بالمواثيق الدولية، ثم أعلنت الدولتان استعدادهما لتجميد المسألة.
ثم شكل مجلس الأمن لجنة تحقيق للتحري في القضية، وبذل الوساطة، وإجراء استفتاء للشعب الكشميري؛ حتى يختار حق تقرير مصيره بنفسه كما يقولون، لكن ما بدأت اللجنة أعمالها إلا وقد احتلت الهند ثلثي مساحة كشمير بقوة السلاح وبقوة الواقع مباشرة، وبعد ذلك اختير رجل عسكري أمريكي ليكون مفوضاً دولياً لإجراء الاستفتاء مع لجنة لإقامة هذا الاستفتاء حتى يتم إقراره واعتماده، ولم تنجح اللجنة ولم يتحقق تقدم، ثم في عام (1951م) و (1952م) -يعني بعد ثلاث سنوات من هذه القضية- بدأ بعض التقارب، وكرر مجلس الأمن نداءه بتوقف إطلاق النار، ولكن الهند رفضت.
في عام (1953م) أسست الهند جمعية تأسيسية مؤيدة لها، وأعلنت الولاية جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد الهندي، وضمتها إليها رسمياً كما ضمت إسرائيل في أوائل الثمانينات الجولان والمناطق الأخرى التي احتلتها في عام (1967م).
في عام (1957م) -يعني بعد أربع سنوات- اشتكت باكستان إلى مجلس الأمن، وطالبت بسحب جميع القوات الهندية الأجنبية من ولاية كشمير، وضرورة إرسال قوات دولية.
في (24) كانون الأول عام (1957م) قرر مجلس الأمن بأغلبية عشرة أصوات عدم الاعتراف بخطوات الهند وضمها لكشمير، وبقاء الحالة الراهنة في كشمير.
بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ أعلنت الهند في عيد استقلالها ضمها لكشمير ضماً رسمياً نهائياً، فيصبح مجلس الأمن وقراراته تحت حذاء الهند عملياً، ثم استخدم الاتحاد السوفيتي حق الفيتو عندما دعا مجلس الأمن لمعالجة الموقف.
ثم في عام (1965م) لم يكن هناك أي حل، بل ازدادت المسألة شراسة، وازدادت الحروب، وأصدر مجلس الأمن عدة قرارات بوقف إطلاق النار.
وفي عام (1966م) تم التوصل إلى الاتفاق بتشجيع الاتحاد السوفيتي، وتم توقيعه في طشقند، واستخدم في هذا الاتفاق (دبلوماسية)، بحيث يبقى جو النزاع مستمراً، ولا يزال الوضع حتى الآن متأزماً كما هو، ومتفجراً بين فترة وأخرى، ولم يحصل هناك أي حل.
يقول أحد خبراء القانون الدولي تعليقاً على مسألة كشمير: إن فيها أكثر من درس، منها: أنه خلال أكثر من عشرين سنة من بداية جهود الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يقدم إلى أقل القليل لإيقاف الفرقاء من قتل بعضهم البعض، وحتى ذلك القليل ما تحقق إلا في وقت متأخر جداً.
وكذلك ظهر تحدي الهند كعضو في الأمم المتحدة لقرارات الأمم المتحدة ومعارضتها لها معارضة مباشرة، دون أن يكون هناك أي إجراء عملي لمعاقبة الهند، أو كما يقال الآن: إلزامها بضرورة الامتثال لقرارات مجلس الأمن، وإلا فإنه ستكون هناك عقوبات إلى آخره.(39/10)
قرارات مجلس الأمن والقضية الفلسطينية
لو أخذنا مثالاً آخر وهو: القضية الفلسطينية التي تعد مثالاً صارخاً لتجاهل قرارات الأمم المتحدة، وأذكر فقط أنه في خلال عشر سنوات صدر من الجمعية العامة للأمم المتحدة نحو ثمانية وستين ومائة قرار في شأن قضية فلسطين، وصدر من مجلس الأمن في هذه الفترة التي تنتهي بعام (1974م) سبعين قراراً، وصدرت تسعة قرارات من مجلس الوصايا، وصدرت أكثر من خمسة عشر قراراً من لجان حقوق الإنسان، وقرار من المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان، وقرار من اللجنة الخاصة بحقوق المرأة، وكل هذه القرارات تبخرت وذهبت أدراج الرياح.
نلاحظ في قرارات مجلس الأمن أيضاً أن الضغوط التي تمارسها القوى الكبرى لها أثر كبير في إقرار الأمور، وقلب الموازين، وعدم إحقاق الحق بالنسبة للمسلمين.
فهذا قرار التقسيم برقم (181) إلى آخر القرارات التي ما تزال المطالبة بها مثل قرار (242) هذا القرار ينص على أن على إسرائيل أن تنسحب عن أراض احتلت في النزاع الأخير، وهذا السطر الأول من القرار هو الذي يشرق الناس به الآن ويغربون، وكما ذكرت مذكرة الضمانات الأمريكية قبل بدء المفاوضات أن لكل دولة أن تفسر القرار بالتفسير الذي تراه مناسباً لها، وإسرائيل تفسر القرار بأنها انسحبت من سيناء وانتهى الأمر وقد تحقق هذا الغرض.
وأما الأرض مقابل السلام فقد قالت إسرائيل: السلام مقابل السلام وهذا يكفي.
في حرب (1967م) في يوم (5) يونيو، ومع ذلك ما استطاع مجلس الأمن أن ينعقد في نفس اليوم ولا في اليوم الثاني ليصدر قراراً حتى صدر قرار في آخر يوم (6) يونيو، ثم في يوم (7) صدر قرار آخر بوقف إطلاق النار، ثم في يوم (9) صدر قرار ثالث بوقف إطلاق النار، وكلها تتحطم باستمرار إسرائيل وسياسة الأمر الواقع، تقدمت إسرائيل واحتلت سيناء واحتلت الضفة الغربية واحتلت الجولان، ثم بعد ذلك جاء التوقف وجاء حل النزاع، وجاءت المفاوضات والسنوات الطويلة سنة إثر سنة وقرار إثر قرار، وتبقى الأوضاع كما هي حتى الآن، وهذا يؤكد عدم وجود الفاعلية والواقعية.(39/11)
قرارات مجلس الأمن وقضايا المسلمين عامة
يتأكد لدينا أنه ليس هناك استخدام للمادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على ضرورة إجراء العقوبة وتعليق العضوية، واستخدام العقوبات الجماعية المقاطعة لكل من يرفض الانصياع لقرارات مجلس الأمن، بينما نرى الصورة الأخرى تجاه القضايا الإسلامية نجد أنها ما حظيت بشيء من الاهتمام ولا وصلت إلى أي صورة يمكن أن تكون محقة، أو تقدم وتكرس شيئاً من الحقوق للمسلمين، بينما على العكس من ذلك نجد مثلاً القضية المثارة الآن في ليبيا، أو حتى قضية العراق في أزمة الخليج بغض النظر عن أحقية وجدارة القضيتين نجد كيف كانت كثير من الدول العظمى تسعى وترغب في ذلك، كيف تصعدت المسألة ليس بسبعين قراراً بينما قرارات مجلس الأمن بالنسبة لإسرائيل أظنها تبلغ أكثر من مائة وخمسين قراراً أو نحو ذلك.
أما ما يتعلق بليبيا وأزمة الخليج فهي قرارات محدودة وفي فترة وجيزة ليس على مدى بعيد من عام (1948م) وقت قيام دولة إسرائيل وإلى الآن أكثر من أربعين سنة وكل القرارات لم يتخذ حيالها أي قرار إجرائي، بينما كانت هناك عدة قرارات من مجلس الأمن تنص آخر فقرة فيها على أنه في حالة عدم الاستجابة فسوف يتخذ المجلس إجراءات أخرى، وفي القرار الذي بعده يأتي بنفس الفقرة الأخيرة: في حالة عدم الاستجابة سوف يتخذ المجلس إجراءات أخرى، وهكذا يستمر الحال دون أي صورة لهذا الميزان أو لهذه القضية.(39/12)
التمييز العنصري في الموازين الدولية ونصيب المسلمين منه
النقطة الرابعة: التمييز العنصري الذي صدرت فيه الاتفاقية في الأمم المتحدة أيضاً، نجد أن التمييز العنصري دائماً يكون خاصاً بالمسلمين، سواءً كانوا في بورما أو كما هو الحال الآن في إسرائيل أو في كثير من البلاد مثل الهند ومثل سيريلانكا، إنها تميز المسلمين تمييزاً عنصرياً لا حق له، بل لا جنسية له، بل لا قيمة له في أي معنى من معاني الحقوق؛ بسبب شيء واحد فقط وهو أنه مسلم لا غير، وهذا أيضاً أمر واضح، ومن عجيب قرارات الأمم المتحدة التي تكرس انقلاب واختلال الموازين أن الجمعية قررت في الفترة القريبة الماضية إلغاء القرار الذي أصدرته في عام 1975م الذي كان يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ألغي هذا القرار وكأن إسرائيل تخلت عن عنصريتها، ومع أنها ما زالت تزداد في هذه العنصرية وتبالغ فيها، ومع ذلك بمجرد تصويت ثلثي المجلس على أن الأسود أبيض أو الأبيض أسود فإنه يصدر القرار بهذا وإن كان منافياً للحق والعدل، فالقضية باعتبار الموازين والأنظمة والقوانين التي يجعلونها أمامهم.(39/13)
إبادة الجنس ونصيب المسلمين منه
النقطة قبل الأخيرة: جريمة إبادة الجنس، وهي الآن تمثل واضحة جلية في البوسنة والهرسك، وهي ليس لها من تحليل ولا توصيف قانوني إلا أنها إبادة للمسلمين إبادة كاملة؛ لأنها تشكل كل أنواع البغي، سواءً بالقصف المدفعي أو بالأسلحة الرشاشة أو بالذبح بالسكاكين، كل الصور هي نوع من قتل لكل إنسان، الصغير والكبير، حتى الذين في بطون أمهاتهم بقرت البطون، وقتلت هذه الأجنة في بطون الأمهات، ومع ذلك كانت القوة التي أرسلتها الأمم المتحدة ثلاثمائة فقط من الجنود، انسحبوا قبل أيام قلائل؛ لأن الوضع الأمني قد تردى، فكان لابد من الانسحاب؛ حفاظاً على أرواح جنود الأمم المتحدة، وما يزال القصف والقتل والعسف مستمراً في هذه المناطق الإسلامية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرج الكرب ويزيل الغم.(39/14)
حرية الأديان والموازين الدولية
حينما ينظر الإنسان في بعض القضايا يجد أيضاً مسألة حرية التدين التي يذكرونها ويدندنون عليها، نجد أن في بورما يضطر المسلمون تحت التعذيب أن يدخلوا في البوذية، أو في صربيا الآن يضطرون إلى أن يدخلوا في النصرانية، وأذكر تأييداً لهذا خبراً من الدول الديمقراطية الغربية المتحضرة، فهذا الخبر يقول: قررت وزارة الخارجية الألمانية استدعاء سفيرها في المغرب واسمه ويل فرد هوفمان قبل انتهاء مدة خدمته والتحقيق معه؛ بسبب الكتاب الذي يستعد لإصداره باللغة الألمانية بعنوان: الإسلام هو البديل.
لا زال يستعد لإصدار الكتاب ومع ذلك استدعي للتحقيق معه، وبعث وكيل وزارة الخارجية لشئون الشرق الأوسط ببرقية سرية إلى السفير في الرباط حذره فيها من الوضع الخطير الناشئ عن دعوته للأفكار الإسلامية، وتجاهله لوظيفته كممثل لدولة ديمقراطية غربية، وحذر السفير من تأثير معتقداته الدينية على عمله الرسمي، ورفع عنه تقرير من قبل خبير في وزارة الخارجية، وهذه صورة من صور عدم إقرار هذه القضايا إلا فيما يوافق هوى تلك الدول.
وبالجملة نجد أن هذه الموازين في كثير منها لا يجد الإنسان لها صورة مقبولة في الواقع العملي إلا فيما ندر.(39/15)
حقائق واقعية لابد منها
أقف الآن أمام حقائق واقعية من خلال هذا الاستعراض وهي: أن المسلمين لابد أن يعلموا أن الاحتكام الكامل والاستسلام الكامل لا يكون إلا لشرع الله سبحانه وتعالى، ولا يكون استسلام وقبول لغير حكم الله سبحانه وتعالى من القوانين الوضعية؛ وذلك لأنها تتضمن بعض الفقرات التي تعارض الشريعة الإسلامية مثل: حرية التدين، وحرية الزواج رغم اختلاف الأديان، وغير ذلك من الجزئيات التي فيها معارضة تماماً لنصوص الشرع.
النقطة الثانية: أن هذه القوانين رغم أنها تريد أن تكرس العدل وسيطرة القانون وتحقيق المساواة وإقامة الحرية وإشاعة الديمقراطية، إلا أنها في جوهرها وفي نصوصها من التناقض ما يجعلها لا تستطيع أن تفي بهذا الأمر، بل في نفس قوانينها ما يزعزع الثقة بها، فنفس قضية أو قانون حقوق الإنسان يتضمن مادة عما يسمى بقانون الطوارئ يقول: يستثنى من هذه الحقوق ما يكون من انهيار الحالة الأمنية التي تستدعي الدول إلى إعلان حالة الطوارئ مع التأكيد على عدم زيادة الحد بحيث يكون هناك اعتداء على الحريات الشخصية أو غيرها.
قوانين الطوارئ هذه تفتك بالمسلمين في كل بلاد العالم وفي كثير من ديار الإسلام، وفي كثير من ديار العرب للأسف، وكما هو الحال في مصر قانون الطوارئ مستمر له أكثر من ستة عشر عاماً متواصلة، ويجدد مرة بعد مرة، بينما هذا ينقض هذا الأصل كما هو معلوم.
وهذه القوانين في ذاتها ما ينقضها كما أشرنا إلى حق الفيتو في مجلس الأمن.
النقطة الثالثة: أن الناظر يرى في هذه القوانين عند تطبيقها أنها بالنسبة للمسلمين إما أن قضاياهم لا تحظى بالاهتمام، أو أنها بالعكس تحظى باهتمام مغاير ومعاكس، ويكون التمييز ضدهم واستغلال هذه القنوات والقوانين لسلبهم حقوقهم ولإيقاع الظلم بهم، وهذا ظاهر إلى حد كبير.
النقطة الرابعة: أن هذه الصورة التي عرضنا كثيراً منها في حقيقة الأمر تعطل القضايا وتجعل كسبها لغير صالح المسلمين، وتجعل هذه المباحثات والمداولات نوعاً لكسب الوقت، ليتمكن الأعداء كما حصل في الهدنة الأولى والثانية في فترة النزاع أو القتال بين العرب وإسرائيل في عام (1948م).
النقطة الخامسة: أنه بعد استقرار الأوضاع لغير صالح المسلمين تكرس هذه الأنظمة صعوبة التغيير، بمعنى: أن استقرار الأوضاع يبقى التغيير لابد له من قرار، والذي يحاول التغيير المباشر في الواقع العملي لوقوف الطرف الآخر باستصدار قرارات أو باستدعاء الأمم المتحدة مرة أخرى.
النقطة السادسة: أنه ليست هناك جدية في الممارسة التغييرية عند صدور هذه القرارات، بل في الغالب الأعم أنها تكتفي بإصدار قرارات خاصة في قضايا المسلمين، وهذا أمر ظاهر.
النقطة الأخيرة: أن القرارات تتأثر تأثراً كبيراً بالميول العقائدية والمصالح الذاتية للدول وخاصة الدول الكبرى، فلذلك إذا لم تكن للمسلمين قوة في دولهم وقدرة على التأثير فإنه لا يرجى من وراء ذلك خير.(39/16)
حقائق إيمانية
أختم ببعض الحقائق الإيمانية التي لابد من استحضارها في ضوء هذه الصورة، التي فيها نوع من السواد أو الشدة والظلمة.
النقطة الأولى: لابد من وضوح الحقائق الإيمانية القرآنية، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120]، وكما في قوله سبحانه وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82]، وكما قال الله سبحانه وتعالى في شأن الكفار جميعاً: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10].
النقطة الثانية من الحقائق الإيمانية: ضرورة تكريس حقيقة الولاء والبراء في ضوء قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
النقطة الثالثة: أن هذه الظروف والأحوال والأوضاع والظلم والموازين المختلة تدفع المسلمين إلى معرفة الحقيقة المهمة، وهي أنه لا قيمة لهم مالم تكن لهم وحدة ومالم يكن لهم نصرة فيما بينهم، وهذا يدفع إلى تحقيق الوحدة الإسلامية ونصرة المسلمين لإخوانهم في كل مكان بشتى الوسائل والسبل، سواءً كانت النصرة المعنوية أو الإعلامية أو بالمال أو بالنفس أو بكل صورة من الصور؛ لأنه ينبغي أن يعلم أنه لن ينصرهم بعد الله سبحانه وتعالى أحد إلا إخوانهم المسلمون المؤمنون: كل الشعوب لها سيف تصول به عند الملمات لما يعصف الغضب كل الشعوب لها وزن وقافية لها شراع لها سمت لها أرب ونحن مثل هشيم ضل وجهته فحيثما قلبته الريح ينقلب هذا الوضع الذي يمر بالمسلمين الآن حينما يرون الهجمة الشرسة، حينما يرون العداء للإسلام فيه فوائد منها: أنه يتولد في النفوس شعور بضرورة الالتزام بالإسلام، والتوحد على هذا الإسلام، والتقوي بالوحدة الإسلامية في مواجهة هذا العداء المتكالب.
النقطة الرابعة: معرفة أن القوة اللازمة في هذا الصراع هي قوة الإيمان والعقيدة؛ لأن الآخرين إنما ينطلقون من منطلقات عقائدية، وينبغي أن نلغي فكرة أن الصراعات مبنية فقط على مجرد اختلافات أو مجرد نزاعات أو عرقيات، أكثر هذه النزاعات منبثق من الناحية العقائدية ثم المصالح الذاتية.
النقطة الأخيرة: هذه الأمور تدفع المسلمين إلى ضرورة تكريس العمل على الالتزام بالإسلام والدعوة إليه وإحياء مفاهيمه وربط الناس به، وأن تكون الجولة القادمة بإذن الله سبحانه وتعالى هي جولة انتصار الإسلام والمسلمين بفضل تمسكهم بدينهم.
المسلمون ما هزموا إلا بتخليهم عن الدين، ولن ينصروا إلا بتمسكهم بهذا الدين.
وأخيراً أقول: إن بشائر النصر رغم سواد هذه الصورة كبيرة وكثيرة جداً إن شاء الله تعالى، سواءً ما تحقق في أفغانستان، ونرجو أن يتمه الله سبحانه وتعالى بفضله، وسواءً الأخبار الجديدة في طاجيكستان التي رفعت لواء الإسلام وبدأت تمارس هذا التطبيق بالقوة بعيداً عن القرارات، وأيضاً بظهور الحركات الجهادية الإسلامية التي ينبغي أن تدعم وتقوى؛ لأنها هي الأسلوب الأمثل في إقرار الواقع، بدلاً من المداولات والقرارات التي رأينا صورتها كما تجسدت وهي صورة هزيلة لا أثر لها في الواقع، وينبغي أن يكون لسان الحال كما قال القائل حينما استفرغ جهده وصبره، وعلم الناس كلهم اليوم خاصة في بعض قضايا المسلمين، مثل: قضية فلسطين أنه لا أمل يرجى من الأقوال والمداولات والمؤتمرات؛ لأنها مرت بها ليس سنوات ولا عشر سنوات بل عشرات السنين ويرى أنه ستستمر هذه السنوات باستمرار هذه الممارسات، ولذلك قال القائل: غص المفاوض صوته فتكلم بلسان نار يا كتائب! أو دم لم يفهم المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم ما أيد الحق المضاع كمنطق تدلي به شفة السلاح الأبكم تتحرر الأوطان بالدم وحده إن الخطابة رأس مال المعدم قد دق ناقوس الجهاد فأنصت ودعا الحمى أبطاله فتقدم من قال إني أعزل وبكفه حجر فليس إلى الكنانة ينتمي هكذا هذه الحركات الجهادية في أريتريا وفي الفلبين وفي غيرها، هي أيضاً نوع أمل جديد لهذا الإسلام ولهذه الأمة المسلمة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتمه وأن يكمله، وأن الله سبحانه وتعالى يفرج الهم والكربة عن إخواننا المسلمين، وأن يجعل العاقبة للمتقين والدائرة على الكافرين والمجرمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(39/17)
الأسئلة(39/18)
طلب إصدار فتوى للقنوت في الصلوات للمسلمين
السؤال
أيضاً بعض الإخوة يذكرون أن مآسي المسلمين كثرت وخاصة الآن بالنسبة في البوسنة والهرسك، ويذكر الأخ أنه لو ذكر لكبار العلماء بإصدار فتوى أو نداء للقنوت في الصلوات؟
الجواب
الحقيقة أن القنوت كما سبق أن أشرت وحضر ذلك بعض الإخوة في الجمعة الماضية أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لأفراد قلائل من المسلمين كانوا يضطهدون في مكة، فأولى وأجدر بذلك هم المسلمون الذين يبادون، وهذا اقتراح حسن إن شاء الله تعالى يعمل به مباشرة بالاتصال الهاتفي أو الكتابة.(39/19)
أخبار البوسنة والهرسك
السؤال
يسأل بعض الإخوة عن آخر أخبار البوسنة والهرسك؟
الجواب
أخبار الليلة الماضية أن القصف المدفعي متواصل باستمرار وبشدة على سراييفو العاصمة، وما تزال الأوضاع متردية، وأعلن الصرب الموجودون في البوسنة والهرسك نوعاً من تشكيل حكومة في بعض المناطق التي أرادوا أن تكون ملكاً لهم، وجعلوا هناك تقسيمات منها: أن يجعل (15%) من هذه البلاد فقط للمسلمين والباقي للصرب، والجزء الباقي للكروات، وهددت هذه القوات الصربية الأمم المتحدة بأنه ينبغي أن تتخذ اللازم نحو الاعتراف بهذا، وللأسف نما إلى علمي أن بعض الدول الإسلامية اعترفت بهذه الصورة الجديدة التي سميت بيوغوسلافيا الجديدة، أما الأوضاع المأساوية فللأسف كما هي، ولذلك ندعو إخواننا للتبرع مرة أخرى، والدعوة اليوم موجهة من لجنة البر للتبرع للبوسنة والهرسك، والصناديق أيضاً عند أبواب المسجد، وهناك أيضاً يذكر الأخ أن قضية الجهاد هي حل أمثل لكثير من قضايا المسلمين، وقد أشرت أن نداءات الجهاد التي بدأت في كثير من بقاع الإسلام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكلل جهودها بالنصر، وأن يقوم المسلمون أيضاً لدعمها ونصرتها بكل سبب ووسيلة.(39/20)
أخبار أفغانستان
السؤال
بعضهم يسأل عن آخر الأخبار في أفغانستان؟
الجواب
الأخبار الأمنية مستتبة، وليس هناك اشتباكات مطلقاً، وأخبار المفاوضات كثير منها يبشر بالخير بين قادة المجاهدين، وفيها كثير من التقدم والإيجابية، إلا ما نشر في صباح هذا اليوم مما لم أعلم حقيقته بعد، أما ما نشر من الأخبار وما بلغ من الأخبار بالأمس والذي قبله، فإنها كانت تدل على كثير من التقارب في وجهات النظر، وإزالة لبعض خلافات الرأي بين المجاهدين، وهذا إن شاء الله تعالى يحقق الأمر الذي يأمله جميع المسلمين في أن تتفق الكلمة، وهي الآن في صورة شبه إجماعية حتى يأذن الله سبحانه وتعالى بأن يتمموا ما أرادوا بعد المجلس الانتقالي والذي من المفروض أن تنتهي مدته بعد نحو أربعة أسابيع.(39/21)
فوائد الثقة بنصر الله
السؤال
من الدروس لما يذكر الأخ: الثقة بنصر الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
هذه الثقة دروسها كثيرة، من كان يصدق أن طاجيكستان التي ظلت تحت الشيوعية أكثر من أربعة وسبعين عاماً، ثم سقطت الشيوعية ورأى الناس أن الحكم الباقي مثل الشيوعية فثاروا عليه، واستطاعوا رغم هذه السنوات أن تبقى روح الإسلام وحب الإسلام والمناداة بالإسلام في نفوسهم، حتى يكون مطلباً عاماً لكل الناس، ثم يقرونه، والأمر أعظم من أن تحيط به قوى الشرق أو الغرب أو القوى العظمى والصغرى، فإن الله سبحانه وتعالى بالغ أمره، وهو جل وعلا قد جعل لكل شيء قدراً، لكن لابد للعباد أن يبذلوا الأسباب الإيمانية المعنوية وكذلك الأسباب المادية.(39/22)
مبشرات في زمن الاستضعاف
السؤال
يريد أحد الإخوة شيئاً من أحاديث البشارات؟
الجواب
قلت في أول الحديث: إن الوضع مأساوي، لكن البشارات موجودة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر لنا: (أنه ما من بيت مدر ولا حجر إلا ويدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)، وأنبأنا النبي عليه الصلاة والسلام بفتح قسطنطينية ورومية وقد فتحت القسطنطينية، ويرجى أن تفتح بإذن الله سبحانه وتعالى يقيناً في وقت لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى روما عاصمة إيطاليا، والجولة القادمة جولة الإسلام بإذن الله، ولكن كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولكنكم قوم تستعجلون)، والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحص المؤمنين وأن يميز صفوفهم، وأن يقوي عزائمهم، وأن يرفع من مستوى التزامهم واستحقاقهم لنصر الله سبحانه وتعالى.(39/23)
دور المرأة المسلمة في المجتمع المسلم
السؤال
تجاه ما ذكرت من أحداث وأوضاع ما هو دور المرأة المسلمة؟
الجواب
أهم دور للمرأة المسلمة أن تربي لنا الجيل المسلم، الذي نأمل أن يكون في المستقبل القريب أحد أسباب التغيير الإسلامي الذي يرجح كفة المسلمين، وأن تنأى بنفسها عن التفاهات والسخافات والمحرمات التي يروج لها أعداء الله سبحانه وتعالى ليصطادوها ويصطادوا من ورائها الأمة المسلمة والمجتمع المسلم، وأن تساهم بكل ما تستطيع في مجال الدعوة النسوية.(39/24)
كثرة اختلال الموازين الدولية بالنسبة للمسلمين
السؤال
هنا يستدل على مقاييس أو اختلال الموازين بالنسبة للبوسنة والهرسك وعدم وجود قرارات وإن وجدت فإنها لا تنفذ في مثل هذه القضية التي تتعلق بدولة في قلب أوروبا كما يذكر؟
الجواب
الأمثلة كثيرة جداً، وهذا لا يمكن استقصاؤه وحصره، وأيضاً أسئلة قريبة من هذا المجال في كثير من البلاد الإسلامية.(39/25)
حقيقة وجود الحركات الجهادية في كشمير
السؤال
هل هناك حركة جهادية في كشمير؟
الجواب
نعم حركة التحرير الكشميرية، وهناك أكثر من منظمة جهادية إسلامية ويحظى بعضها بالدعم من قبل الجهاد الأفغاني كما كان في السابق من الناحية المعنوية والتدريبية إلى آخره.(39/26)
أوراق عمل
إذا كثرت الأقوال ولم تصدقها الأفعال دل ذلك على الضعف والخور، والفراغ والهزل، وتردت الأوضاع، ولم تتغير مهما تكاثرت الأقوال، وإن المنهج الصحيح هو المنهج العلمي العملي، فهو أفضل طريقة لعلاج الأخطاء، وفي هذه المادة أوراق عمل يجد فيها القارئ بغيته.(40/1)
أهمية العمل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
(أوراق عمل) هذا هو عنوان هذا اللقاء مع الدرس التاسع والثلاثين، في يوم الجمعة الموافق الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام (1413)، وهذا الموضوع أحسب أن له أهمية وفائدة جيدة في الناحية العملية، وأول ما أبدأ به هو التنبيه على فوائد العمل، وأعني بالعمل: الخطوات الواقعية الفعلية، إذ القول عمل، والنية عمل، لكني أعني بالعمل: ممارسة الجوارح، والحركة الواقعية في مضمار من المضامير أو ميدان من الميادين.
لماذا نؤكد على أهمية العمل؟ أولاً: لأن القول وحده لا يؤثر، بل من المعلوم أنه إذا كثرت الأقوال ولم تصدقها الأفعال دل ذلك على الضعف والخور، وأشار إلى وجود الفراغ والادعاء، وربما كان سمتاً من سمت المنافقين والفارغين، ولذلك الذي يكثر من الأقوال بلا أعمال يسقط قدره وتذهب مصداقيته عند الناس، سواءً كان هذا القول صادراً من فرد أو من هيئة أو من دولة أو حتى من منظمات تجمع دولاً عديدة، إذا تكاثرت الأقوال بلا أعمال فإن ذلك دليل الضعف، ويبث في النفوس الخور والعجز، وكما قال القائل: غض المفاوض صوته فتكلم بلسان نار يا كتائب أو دم لم يفهم المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم والخطابة كما يقولون: (رأس مال المعدم) ولذلك قال القائل: إن ألفي قذيفة من كلام لا تساوي قذيفة من حديد فالعمل هو الذي يؤثر في الواقع بشكل أكبر.
والأمر الثاني: هو أن السؤال الأكبر والحساب الأعظم يتعلق بالأعمال أكثر منه تعلقاً بالأقوال؛ لأن الأعمال هي الشواهد الناطقة، والمعالم الشاخصة، فأنت لا تعرف الإنسان كثيراً بأقواله قدر ما تعرفه بأفعاله، والأعمال هي التي دعانا الله سبحانه وتعالى إليها، وندبنا وبين لنا أنها المنظور إليها والمعول عليها، كما قال الله جل وعلا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، لم يقل: قل تكلموا ولا انووا، وإن كانت النية مطلوبة والقول مطلوباً لكن تصديق العمل هو الأهم، ولذلك قال جل وعلا: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، وأيضاً قال جل وعلا: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:93]، فالعمل هو الأساس.
الأمر الثالث وهو أكثر أهمية: أن العمل أبلغ أسلوب لعلاج الأخطاء، فكثيراً ما نذكر الخطأ ونردد القول فيه ونقول: هناك سلبيات وهي كذا وكذا ولا يتزحزح هذا الخطأ، ولا يتغير بهذه الأقوال مهما تكاثرت إلا إن كانت هذه الأقوال أحد طرق العمل ووسائله التي تؤدي إلى التأثير الفعلي، وكما يقال: (بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة)، فإن إيجاد المنهج الصحيح متمثلاً في نموذج عملي متحرك هو أكبر طريقة لعلاج الأخطاء، فلو تصورنا أننا نقوم بالتربية الإسلامية وبإظهار القدوة العملية فإن تأثيرها يكون أعمق بكثير من الخطب القولية والمواعظ المنبرية.
الأمر الرابع: أن العمل أعظم مواجهة لكيد الأعداء، كثيراً ما نذكر مؤامرات وخطط الأعداء، وأنهم يريدون كذا، وهم يتآمرون بالليل والنهار ويدبرون كذا وكذا، وكل هذا القول لا يغني شيئاً ولا يغير واقعاً، لكننا إن أسسنا حياتنا وممارساتنا بأعمال تناهض وتخالف مراد الأعداء فإن هذا يكون أبلغ مواجهة وأعظم صفعة في وجه العدو، الذي يرى أنه يدبر ويبذل وينفق ويخطط لكنه لا يجد استجابة، فهو ينشر بيننا الإعلام الفاسد، والأدب المأجور، والفكر المنحرف ثم يفاجأ بأن الجيل الذي يصعد أو الجيل الذي يظهر في هذه الأيام بإذن الله عز وجل جيل لا يميل لهذا الإعلام، ولا يتأثر بهذا الفكر، ولا يتعلق بهذا الأدب، بل عنده من منهج الإسلام وتربية القرآن ما يجعل العقول تأبى هذا الإعلام وترفض هذا الفكر.
كيف تبذل هذه الجهود ثم تأتي الثمرات مخالفة؟ ذلك ناتج عن العمل وتركيزه الذي هو أبلغ شيء في مواجهة كيد الأعداء.
الأمر الخامس: العمل يفجر الطاقات، ويشعر النفس بالرضا والارتياح، وبعض الاستشعار لأداء جزء من الواجب، والذي يقول ويبكي ويصيح لا يشعر أنه قد نفس ما في نفسه حتى يرى أنه قد ساهم في علاج الأمر الخاطئ، أو ساهم في جلب الخير المقصود أو المنشود، فالعمل يجعل النفس راضية، ويبرأ العامل ذمته بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وأخيراً: العمل يقضي على الجدل: فكثيراً ما تدور المجادلات والمناقشات والمحاورات، ويمتد أمدها ويزداد ويعلو الصوت فيها، ولو أن هؤلاء المتجادلين التفتوا إلى العمل لشغلهم التفكير فيه، والممارسة له، والبذل لأجله، عن مثل هذا الجدل، وأنساهم مواضع الخلاف الهامشية، وأعانهم على الاجتماع على الخير، وتوحيد الجهود، والتعاون على البر والتقوى.
ومن هذا المنطلق نريد أن نعرض بعض أوراق العمل التي تجعل المسلم قادراً من خلال هذه الآفاق أن يقدم وأن يساهم؛ لأن المشكلة التي نواجهها ونسمعها كثيراً هي: ما العمل؟ هذه مشكلات ومآسي المسلمين: ما هو العمل؟ هذه المفاسد الموجودة، ما هو العمل؟ هذا القصور الذي نريد أن نتجاوزه ونتلافاه: ما العمل؟ وكل إنسان يظن أن هذا العمل هو كما قيل: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل يظن أن هذا العمل لا يمكن أن يقوم به إلا جبار من الجبابرة أو عبقري من العباقرة، وأنه يقصر عن هذا ولا يستطيع أن يساهم في مثل هذه الأعمال أو حل هذه المشكلات؛ وذلك لأن تضخيم المشكلات الكبيرة، وتصور أن العمل لابد أن يبدأ من آخر الخطوات لا من أولها، وأن يعالج أعظم المشكلات لا أصغرها؛ هذا الذي يجعل كثيراً من الناس يحجمون عن العمل، ويرون أنهم غير قادرين، ولذلك هدف هذه الأوراق التي سنعرض بعضاً منها هو أن نبين أن بإمكان كل أحد منا أن يقدم ما يستطيع، وأن هذا القليل يتجمع فيصير كثيراً، فإن الجبال من الحصى.
لا تحقرن من الذنوب صغيرة إن الجبال من الحصى وأول الغيث قطر ثم ينهمر ونعلم جميعاً أن الأمر القليل إذا دام وتكاثر من عديد من الأفراد يغدو شيئاً عظيماً، ولو تصورنا أننا طلبنا هنا أو أردنا هنا أن يرفع كل منا صوته بنداء معين لتجلجل المسجد بهذا الصوت، وربما سمعه من هم خارج المسجد، وكان له صدىً كبيراً.
فهل ترى هذا الصوت صدر منك؟
الجواب
لا.
لكن كان لك فيه دور ومشاركة، وهذا هو المطلوب، أن نوسع دائرة المشاركة لكل إنسان على قدر طاقته، فلا يعجز العامي ويقول: لا أستطيع، والذي يستطيع هو العالم، ولا يعجز الشيخ الكبير ويقول: لا أستطيع والذي يستطيع هو الشاب، ولا تعجز المرأة وتقول: لا أستطيع والذي يستطيع هو الرجل، ولا يكون هناك أي إنسان مسلم إلا وله مشاركة ومساهمة بقدر ما يستطيع.(40/2)
من أوراق العمل: التوعية والتعريف بقضايا المسلمين
أول هذه الأوراق: صور المآسي وقضايا المسلمين كيف يمكن أن نخدمها؟ كيف يمكن أن نقوم بواجب جزئي على أقل تقدير تجاهها، وذلك هو واجب التوعية والتعريف والدعم والتأييد، أذكر في ورقة نقاطاً يسيرة حتى أجعلها بمثابة فتح للأبواب لا أقل ولا أكثر، وسأشير في آخر الحديث إلى بعض المعالم المهمة التي تتعلق بهذه الأوراق.
الدائرة الأولى التي يمكن لكل إنسان أن يقوم فيها بدور وممارسة هي: دائرة الأهل والأقارب والجيران، هذه الدائرة التي تعيش معها سحابة يومك، وتقضي معها معظم وقتك، وتخصها بأكثر حديثك، وتتعامل في أكثر احتياجاتك اليومية مع أهلك وأقاربك وجيرانك، لِمَ لا تجعل حظاً من هذه المعاملة يكون في خدمة قضايا المسلمين، ونقل صور المآسي التي يعيشونها؟ ويمكنك أن تقوم بالتوعية عبر هذه الخطوات:(40/3)
الحملات التعريفية في القرى والمدن
رابعاً: الحملات التعريفية: وهذه واسعة جداً، يمكن أن نقوم بذلك من خلال الآتي: 1 - أن تكون هذه الحملات في القرى والمدن الصغيرة؛ لأن التعريف والتوعية في المدن الكبيرة واسع، وربما يغطي قطاعات كبيرة، لكن يمكن لبعض الشباب ولبعض المتطوعين أن يزوروا بعض الأماكن القريبة من بلدهم، ويأخذون معهم هذه الأشرطة والأوراق والتقارير، ويتحدثون في المساجد بكلمات قصيرة موجزة حتى يبثوا في الناس هذا الوعي، ويحركوا فيهم المشاعر الإسلامية، ويجعلون لهم طريقاً للمساهمة والمعاونة مع إخوانهم، ومشاركتهم في مآسيهم.
2 - الحملات التعريفية من خلال المدارس عن طريق تنظيم زيارات لطلبة المدارس للهيئات واللجان الخيرية ومشاهدة الصور والتقارير والوقائع التي تتحدث عن قضايا المسلمين، ويمكن إقامة بعض المعارض داخل هذه المدارس، وهذا يمكن أن يقوم به بعض الطلبة بالتنسيق مع إدارة المدرسة عبر نشاط التوعية أو عبر النشاط الاجتماعي، وهذه كلها فرص متاحة يستطيع أن يقوم بها الطالب الصغير الذي ربما يحتقر نفسه وهو في المرحلة المتوسطة أو في الثانوية، ويرى أنه لا يستطيع أن يقدم شيئاً بينما هذه فرص أعمال متاحة.
3 - الحملات من خلال المراكز التجارية والمؤسسات والمكتبات، فيمكن وضع ركن صغير في بعض المراكز التجارية، فيه بعض هذه التقارير، وبعض ألبومات الصور التي تبين هذه المآسي؛ ليراها الإنسان وينصرف، وهذا قد قامت به بعض الهيئات الخيرية، وله أثر كبير وجيد.
4 - استغلال لوحات الإعلان الموجودة في المؤسسات والمراكز بحيث توضع فيها هذه التقارير ذات الأرقام الكبيرة والحقائق الظاهرة؛ ليراها كل إنسان ويقرأها كل عابر، فيكون فيها فائدة كبرى بإذن الله سبحانه وتعالى.
5 - في المحلات التجارية الصغيرة والمكتبات يمكن أن يوضع عند المخرج أو عند المحاسب بعض التقارير والأوراق التي تلخص هذه القضايا، وبالتالي تتوسع دائرة التعريف بهذه القضايا بشكل كبير.
بل أقول: يمكن أن تكون هناك حملات لتعريف غير المسلمين بقضايا المسلمين؛ لأن الكثير من غير المسلمين واقعين تحت تأثيرات الإعلام، وتحت الصورة المشوهة للإسلام، ويمكن من خلال هذه الوسائل وغيرها أن يصل إليهم هذا الصوت.
وهذا نموذج أولي للورقة الأولى التي أرى من خلال هذا العرض أن كثيرين سيدركون أن بإمكانهم أن يقوموا بجزء لا بأس به إن لم يكن بكل هذه الخطوات، كل بحسب طاقته وفي ميدانه، وكل هذه الأوراق إنما المطلوب فيها الجانب العملي والتذكير بأن هناك فرصاً وإمكانات يمكن أن يحقق من خلالها الإنسان شيئاً يرى أنه يخدم به أمة الإسلام.(40/4)
التعريف والتوعية في دائرة الحي
النقطة الثانية في التعريف والتوعية: دائرة الحي، وتأتي بعد دائرة الأسرة، ويمكن أن يكون هناك تعاون للتوعية والتعريف بصور المآسي وقضايا المسلمين، ومن ذلك خطوات عملية: أولاً: إعداد مركز إعلامي مصغر من خلال المسجد أو غيره، ومن خلال المسجد يكون أفضل، حيث يتوافر فيه: 1 - التعاون والإشراف من قبل الهيئات واللجان الخيرية، وهناك بعض الهيئات تمارس هذا العمل، فتقيم مثلاً في جوار المسجد أو في المكان المناسب خيمة تضع فيها بعض المواد الإعلامية التي تعرف بهذه القضايا.
2 - تحريك بعض المتطوعين من الشباب والرجال في هذا المركز حتى يتفاعلوا مع هذه القضايا.
3 - أن يوفر في المركز النشرات والوسائل المرئية والسمعية، حتى يستطيع الزائر أن يرى ويسمع ويقرأ، بكل وسيلة يمكن أن تصل إليه المعلومة.
4 - توفير التقارير، وجعلها ميسرة ليستفيد منها الأئمة والخطاب والكتاب، ومدهم بالمعلومات من خلال التعاون مع تلك الهيئات.
5 - تتاح الفرصة للنساء في أوقات معينة أو في أيام معينة تخصص ليكون المركز أو هذا المكان مخصصاً لهن.
ومن خلال هذا كله تجمع التبرعات باسم أهل الحي، وتكون المشاريع باسمهم، وهذا يشجع الناس، فقد تجمع تبرعات لتبني مدرسة في مكان ما من مناطق العالم الإسلامي، ويكون اسمها مدرسة مسجد كذا وكذا أو مدرسة أهل الحي الفلاني؛ ليكون هذا أدعى إلى التنشيط والمساعدة والدفع في عمل الخير.
ثانياً: أشرطة الفيديو والكاسيت: وقد ذكرناها فيما مضى، لكن هنا نقطة مستقلة، ويمكن أن تفيد بشكل أكبر، وذلك من خلال الآتي: 1 - توفيرها لدى التسجيلات وأماكن البيع.
2 - عرضها بأسعار مخفضة من خلال جمع التبرعات والمساهمات الخيرية.
3 - استبدال الأشرطة -وهذا مهم-، فبعض المشاريع في استبدال الأشرطة تُعطى الجهة المستقبلة أشرطة للغناء أو أشرطة غير نافعة فتسجل عليها محاضرات، ولو سجلت عليها محاضرات ذات موضوعات متعلقة بقضايا المسلمين لكان هذا أفضل وأولى؛ لأن ذلك أكثر تأثيراً.
4 - الاستفادة من توزيع هذه الأشرطة في المناسبات إذا توافرت منها الكميات الكافية للتوزيع.
ثالثاً: الممارسة العملية، وهذه لعلها من أبلغ الصور التي يمكن أن يمارسها الكثير من الناس وذلك من خلال الآتي: 1 - تنظيم زيارات لمواقع المآسي التي تقع بالمسلمين عن طريق الهيئات واللجان التي لها نشاطات في تلك المناطق، فأنت تستطيع أن تدعو الناس إلى أن يجهزوا مجموعة منهم ممن يتيسر وقتهم ليذهبوا إلى زيارة المسلمين في الصومال، عن طريق هيئة الإغاثة أو لجنة أفريقيا أو غيرها، وهذا له أكبر الأثر، ولا أظنه أمراً شاقاً أو صعباً؛ فإن كثيراً من الناس يسافر هنا وهناك، ويبذل أموالاً هنا وهناك.
2 - عند عودة هؤلاء الزائرين يستضافون في المناسبات الاجتماعية في المسجد، أو في دعوة ووليمة في منزل كبير، ويعرفون بالقضايا والمشاهدات التي رأوها؛ لأنهم رأوا، وكما قيل: (ليس المعاين كالمخبر، وليس راءٍ كمن سمع)، والذي يتحدث عما رأى يكون منفعلاً ومتأثراً فينتقل تأثيره إلى الآخرين.
3 - أن يتدرب هؤلاء الذين زاروا هذه المناطق على صياغة التقارير، ومن أهم النقاط: أن يحددوا مجالات الاحتياج بتفصيل يشمل الناحية المادية والمعنوية والأرقام، بمعنى أنهم يقولون: يحتاج المسلمون في الصومال إلى أطباء، والطبيب يكلف في الشهر كذا وكذا، يحتاجون إلى دواء لمرض كذا، وهذا الدواء يكلف كذا وكذا؛ لأن المحسن إذا عرف حاجة من هذه قال: هذه بسيطة، وهذه أنا أتكفل بها، والآخر يقول: أنا أتكفل بهذه، أما أن تكون قضية عامة، المسلمون مضطهدون وجوعى ومرضى وكذا، فما الذي يمكن أن نساهم فيه إذا بقت القضية عائمة، والخطاب غير محدد؟!(40/5)
خطوات التوعية والتعريف في دائرة الأهل والأقارب
أولاً: توفير المعلومات الموثقة المنسوبة إلى مصادرها، فعندك قضية مثل البوسنة والهرسك أو الصومال، هناك تقارير، وهناك ملخصات، وهناك مطويات تصدرها الهيئات واللجان الخيرية، يمكنك أن توفر هذه المعلومات حتى تستطيع أن تبثها بين هؤلاء الأفراد.
ثانياً: إعداد المعلومات بصورة جيدة سهلة التوصيل، فبدلاً من أن تعطي إنساناً تقريراً أو كتاباً كالكتاب الصادر عن رابطة العالم الإسلامي عن البوسنة والهرسك في نحو ثمانين صفحة، وهو لن يقرؤه وسيضعه على الرف؛ جهز ورقة فيها خلاصة المعلومات والأرقام والحقائق مما يسهل أن ينتفع به الناس، ويمكن أن تعمل هذا بنفسك، لا تقل: لا أستطيع أن أذهب إلى المطبعة وأطبع.
من قال لك: اطبع؟ اكتب هذه المعلومات بيدك في صورة جميلة، أو استعن بمن يستطيع أن يبرزها بالشكل الأفضل.
ثالثاً: ركز على المعلومات الأكثر تأثيراً وإبرازاً للحقائق والأرقام الكبرى، فكثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً، والحقائق الكبرى هي التي تلفت النظر، فلو قلت مثلاً: إن هناك خمسة آلاف طفل يومياً يموتون في الصومال، فلا شك أن هذه حقيقة بارزة تلفت نظر أي إنسان مهما كان ساهياً أو لاهياً أو معرضاً أو فاسداً، بل حتى لو كان كافراً، فإن المعاني الإنسانية تهز النفوس وتؤثر فيها.
رابعاً: انتقاء بعض الأشرطة -سواءً السمعية أو المرئية- التي تتعلق بالقضايا الإسلامية، وقم بتوزيعها أو إهدائها بين الأسرة والأقارب، فعلى سبيل المثال لا الدعاية هناك شريط بعنوان: (الجراح)، يتكلم عن قضية البوسنة والهرسك، فيه المعلومات والمقتطفات من الخطب والمحاضرات والقصائد والأبيات بصورة قوية مؤثرة، فإن لم تكن تستطيع الكلام فوزع هذا الشريط لينوب عنك في تبليغ هذه القضية، وهناك شريط مرئي بعنوان: (الجحيم) عن قضية البوسنة والهرسك صدر أخيراً عن هيئة الإغاثة، وهذا الشريط وأمثاله عندما يراه الناس أو تراه هذه الأسرة سيؤثر فيهم تأثيراً كبيراً.
خامساً: استغلال المناسبات الاجتماعية لسماع الأشرطة أو رؤيتها، فكثيراً ما تجتمع الأسرة أسبوعياً، وكثير من الأسر تجتمع في مناسبات من ولادة أو زواج أو قدوم من سفر أو توديع مغادر إلى بلد ونحو ذلك، ويكثر اللغط في هذه المجالس ولا ينتفعون بها، فلو استطاع الإنسان بحكمته أن يقنعهم لمدة خمس دقائق أو عشر دقائق ويشغل جهاز التسجيل أو جهاز الفيديو حتى يسمعوا أو ينظروا فإن القضية تتحول بهم إلى مسار آخر.
سادساً: التعريف بمزيد من المصادر وتزويد الراغبين في التوسع، فلو أن هناك متفاعلاً فسيقول: هل هذا حقيقة؟! فتقول: هذا جزء من الحقيقة، وهناك ما هو أكثر وأكبر يمكن أن تطلع عليه في هذا التقرير، ويمكنك أن تراجع هذه الدائرة، ويمكن أن تتصل بهذا الهاتف، ويمكن أن تشتري هذا الكتاب، ويمكن أن تأخذ هذه القائمة من قوائم الأشرطة المتعلقة بذات الموضوع، وهنا يبدأ التوسع أكثر.
وأخيراً: يمكن أن ترشد هؤلاء الأفراد إلى الهيئات واللجان الخيرية وأماكنها وعناوينها وهواتفها حتى يتصل بها هؤلاء الناس، وينتفعوا بهذه المعلومات، ويقوموا بنشرها والإفادة منها.
أقول هذا وأستحضر مثالاً واقعياً، حتى نرى أن التوعية فيها كثير من القصور، ففي مقابلات للطلبة المسجلين في الجامعة لهذا العام -كما يخبرني بذلك أحد الأساتذة- وهي مقابلات الهدف منها معرفة خلفية الطالب المتخرج من الثانوية الملتحق بالجامعة.
يعني: معرفة مستواه الفكري والثقافي، فسئل أحد الطلاب عن قضية البوسنة والهرسك، فقال: هناك خلاف وصراع بين الصرب والمسلمين، فقالوا له: طيب ما هي القضية؟ فقال -بلهجتنا العامية- (يضّاربوا على سراييفو، هذول يبغوها وهذول يبغوها).
هذا منتهى علمه عن هذه القضية! والآخر عندما سئل عن قضية الصومال دبج كلاماً فقال: (توقف المطر من السماء، وصار الجفاف في الصحراء، ومات الناس من البلاء)، أما أن هناك صراعاً، وأن هناك أطرافاً متناحرة فلا يعلم بذلك.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة تدل على ضعف التوعية بمثل هذه القضايا التي أصبحت أشهر من الشهيرة، أما لو سألته مثلاً عن قضية (كشمير) أو قضية (بورما) فربما قد تكون الإجابة مضحكة، ولكنها تنبئ عن مستوى التوعية لديه، وقد يظن هذه الأسماء أسماء لكتب أو لفواكه، وليس هذا بغريب، فقد سئل أحد الطلبة في مثل هذه المقابلات عن عاصمة البحرين؟ فذكر أنها مسقط! وهذا من الأشياء الواقعية.(40/6)
الرسائل الضاغطة
ورقة أخرى بعنوان: (الرسائل الضاغطة).
قرأت قبل فترة من الزمن خبراً عن مجموعة في بلاد الغرب من أنصار حقوق الحيوان وليس حقوق الإنسان، وكانت الجمعيات التي تؤسس لرعاية الحيوان تعترض على مؤسسات إنتاج المواد التجميلية؛ لأنها تستخدم عظام وأنسجة بعض الحيوانات في بعض صناعات المستحضرات الطبية أو التجميلية على وجه الخصوص، فعملوا احتجاجاً على هذا العمل، ووقعوا عليه، والملفت للنظر أن هذه الرسالة كان عدد الموقعين عليها نحو مليون ونصف إنسان! وتجد في أخبار أخرى أن بعض القضايا التي يثيرها بعض الجمعيات أو بعض المنتدبين لأمور معينة مثل حماية البيئة أن التوقيعات تبلغ عشرات الملايين، ويذكرون في هذه الأخبار أن هذه التوقيعات كانت في عدد كذا من الأوراق، وتزن كذا كيلو غرام، وهذا ليس في الغالب عبثاً، خاصة في المجتمعات الغربية والمجتمعات الأمريكية؛ فإن هذه مقاييس النبض وإيصال الصوت، لذلك أقول هنا: نريد أن نقف على بعض المجالات والأهداف والوسائل العملية التي يمكن أن ينفع بها المسلمون إخوانهم، ويخدموا قضاياهم من خلال هذا الجانب.(40/7)
كيفية ممارسة الرسائل الضاغطة في الواقع
كيف يمكن ممارسة أسلوب الرسائل الضاغطة واقعياً؟ يمكن على سبيل المثال ما يلي: أولاً: الاحتياج إلى توفير عناوين هذه الجهات، ولا أظنه صعباً، ويمكنك أن تعرف عناوين المنظمات والهيئات؛ لأنها متاحة.
ثانياً: تحضير صيغ ثابتة وجاهزة؛ لأنه يصعب عليك أن تكتب كل مرة، ومعروف أنك ستجد كثيراً من المقالات تحتاج إلى نقد، فينبغي أن يجهز مجموعة من المتعاونين والمتحابين صيغاً جاهزة، وبمجرد أن يملئوا بعض الفراغات يرسلون بها؛ حتى يصل الخبر ويصل هذا الصوت.
أقول: على سبيل المثال في بعض الخطب في أحد المساجد ذكر خطيب: أنه ينبغي أن يتحرك المسلمون ليسمعوا صوتهم بموجب ما هو واقع في هذا العالم.
قال: وهذه نص برقية جاهزة موجهة للأمين العام للأمم المتحدة، وموجهة لرئيس منظمة المؤتمر الإسلامي، لا عليك إلا أن تكتب العنوان، وتجعلها في المظروف، وترسل بها، فلما عرض هذه الفكرة تخاطف الناس هذه الأوراق وتسابقوا إليها كأنهم يحاربون، وكأنهم في مواجهة لنصرة الإسلام بالسيوف لا بمجرد إرسال الورق، فالشعور بأنك تؤدي مهمة في مثل هذه الأشياء مهم جداً، فيكون الإنسان واقعياً، ولو على الأقل أن يقول كلمة الحق ويبرأ ذمته أمام الله سبحانه وتعالى، فهذا أيضاً نموذج لا يعجز عنه كثير من الناس، وربما يحتاج إلى تعاون لكن لا يحتاج إلى عمل كبير، وربما الفرد والفردين والخمسة أو العشرة يتعاونون في بعض هذه الأمور ويتبادلون الرأي فيها، ويمكن أن يمارسوا مثل هذا العمل.(40/8)
مجالات الرسائل الضاغطة
مجالات هذه الرسائل عديدة، وسنرى أنها مجالات مهمة ومفيدة، وتحتاج إلى كثير من عمل المسلمين.
أولاً: هناك مقالات ضد الأحكام والشرائع والمظاهر والقضايا الإسلامية، فهذه تحتاج إلى أن يكون هناك ما يعارضها من الرسائل الضاغطة.
ثانياً: مقالات فيها إيجابيات تحتاج إلى تشجيع.
ثالثاً: منظمات حقوق الإنسان التي -على أقل تقدير- لها بعض التأثير، ولها بعض الإيجابيات التي تمارس في واقع الأمر بالنسبة للقضايا التي تقع في هذا العالم.
رابعاً: مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المتعددة التي تتخصص أحياناً في التعليم، وأحياناً في الصحة وغيرها.
خامساً: منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات الإسلامية الأخرى التي لها دور في التعريف أو في خدمة قضايا المسلمين.
سادساً: الجهات التي تصدر عنها المواد التي تحتاج إلى تنبيه، مثل مجلة تصدر شيئاً أو مقالاً أو تتبنى فكراً أو تمارس دوراً غير حسن، أو إذاعة أو جريدة أو نحو ذلك، فيحتاج أن توجه إليها مثل هذه الرسائل الضاغطة.(40/9)
مضمون الرسائل الضاغطة
للإعانة على التنفيذ العملي أشير إلى مضمون هذه الرسائل بمعنى ما الذي ستقوله في هذه الرسالة؟ وكيف يمكن أن يكون هيكلها العام؟ وسأشير في آخر الأمر إلى صور إيجابية واقعية حصلت بالفعل: أولاً: لابد من التثبت، وإرفاق صور المواد، أو ذكر مصدرها موثقاً بالرقم والتاريخ، فعندما تقول: هناك قضايا للمسلمين صار فيها خلط وكذا وكذا، أو عندما ترسل إلى مجلة أنكم تتبنون كذا وكذا وكذا، لا ينفع الكلام العام، بل لابد أن تكون مثبتاً لهذه القضية، وترفق صورة المقال أو رقم العدد أو رقم وقت إذاعة الخبر أو نحو ذلك.
ثانياً: الاعتماد على الحقائق والأرقام الثابتة، والإسناد إلى المصادر مع البعد عن الأسلوب العاطفي، خاصة أنك تخاطب جهات ومنظمات قد تكون متواطئة ضد المسلمين، فلو تحدثت بلسان العاطفة وقلت: والمسلمون محرومون، والمسلمون مضطهدون وكذا؛ فهذا لا يغني فتيلاً بقدر ما تذكر الأرقام والحقائق الثابتة المعلنة التي لها مصادر محققة وموثقة.
ثالثاً: أن يكون هناك اعتماد على النقاط والإيجاز، فلا تحتاج في هذه الرسائل أن تكتب ثلاثين أو أربعين صفحة، بل صفحة أو صفحتين معتمدة على نقاط محددة.
رابعاً: اعتماد أسلوب المقارنة، مثال ذلك: عندما تقارن بين موقف مجلس الأمن أو الأمم المتحدة في قضية البوسنة والهرسك أو قضية العراق وبين قضايا أخرى مما تهم دول غير إسلامية أو تعنى بمصالح الدول الغربية أو الأمريكية، فهذه المقارنة بالحقائق والأرقام مهمة جداً في مثل هذه المضامين.
خامساً: ذكر الآثار السلبية أو الإيجابية للموضوع بتحديد دقيق يستند إلى الواقع: فتقول مثلاً: هذه القضية لها آثار سلبية وهي كذا وكذا وكذا، وعندما تكتب إلى جهة أو إلى مجلة تنشر صوراً فاضحة تقول: هذا لا يليق، وهذا يضر ويسيء، ويتحقق الضرر منه في كذا وكذا وكذا؛ حتى تكون القضية ذات تحديد واضح تقوم الحجة بها، وربما تؤثر بها.
سادساً: توسيع دائرة الإرشاد إلى المصادر إيجاباً أو سلباً، بمعنى: عندما تكتب عن قضية تقول: هذه حقائق أو كذا، ثم تقول: وقد نشر عن هذه القضية في مجلة كذا عدد كذا، وتوجز وتشير إلى العديد من المصادر لتبين أن الأمر قضية كبيرة، وأن عندك من المعلومات ما هو أكثر من مثل هذا، إضافة إلى كون الأمر إيجابياً، فلو أن كاتباً كتب مقالاً جيداً عن قضية معينة، ألا يستحق أن يشكر، وأن تكتب له عدد من الرسائل حتى يثبت على هذا المنهج، وأن يعطى أيضاً مصادر أخرى لهذا الموضوع، وأن هناك من كتب عنه، وأن ترسل له شريطاً في الموضوع حتى يجد أهل الخير على الخير أعواناً، كما أن أهل الشر يجدون على الشر أعواناً.
وكثيراً ما تكون الحجة عند ممارسة بعض الأعمال الفاسدة أن هذا هو طلب الناس، فمقدم البرنامج يقول: هذه طلبات الجمهور الذين راسلوني، بينما لم يراسله الأخيار، وربما يكونوا أكثر، ولم يرسلوا له ليطلبوا هذا البرنامج أو هذه الفقرة أو منع هذا أو حذف هذا أو نحو ذلك.
وأذكر على سبيل المثال أنه قبل يومين نشر أحد الكتاب المحليين مقالاً في الحياة، تكلم فيه عن أمر قد سبق أن أشرنا إليه، وهو ظاهرة الهجوم على حجاب الفنانات، وعلى توبتهن، فكتب مقالاً جيداً، وفيه أسلوب قوي في تأييد ظاهرة الحجاب، ونقد هذه الهجمة الشرسة، وخاطب فيها المسئول الإعلامي عن هذا الأمر، وطالب بأن تتوقف هذه الحملات؛ لأنها غير منصفة ولا منطقية ونحو ذلك.
فهناك من قرأ هذا المقال فأعجب به، لكن هذا الإعجاب لا يكفي لحصول تأثير، ووجدت طبيباً -ليس خطيباً ولا إماماً- قرأ هذا المقال فأعجب به، فكتب رسالة إلى المسئول -وهو وزير الإعلام في تلك البلد- وأرفق المقال وقال: قرأت هذا المقال ووجدته جيداً ومنطقياً، وإنني أؤيد كاتبه فيما ذهب إليه، وأناشدكم بمثل ما ناشدكم به.
هذا ما كتبه فقط، وأرسل هذه الأوراق ليعبر عن هذه الصورة أو الناحية، ولو أن كل خلل وقع وجد فاعله أن هناك من يقول له أو يرسل له أن هذا خلل، وأن هذا لا يليق، وأن هذا فيه مضرة؛ لكان على أقل تقدير كما يقال: (من لم يستح يخشى أو يخاف)، وهذه أيضاً نقطة مهمة.
سابعاً: استنطاق القوانين والأنظمة بنصوصها أو مضامينها عندما تريد أن تقيم الحجة، فلو جئت لشيء منشور وفيه خلل فتقول: نظام النشر ينص في المادة كذا على أنه لا يصح نشر الصور العارية وكذا وكذا، ولذلك نرجو منكم الالتزام بهذا القانون أو النظام.
نظام وسياسة التعليم تقتضي أن يربط التعليم الطالب بدينه وبولائه للمسلمين، وبرائه من المشركين، وهذه الفقرات أو هذه النصوص أو هذه المادة أو هذا الموضوع لا يتناسب مع هذه السياسة.
قانون الأمم المتحدة في المادة كذا ينص على كذا، لكن الممارسة مخالفة، وهذه أيضاً تعطي قوة لمثل هذه القضايا.
ثامناً: صياغة حيادية، وعرض عقلاني: ينبغي أن تكون صياغة الرسالة وكأنك إنسان محايد لست نصيراً لهؤلاء، ولست منهم وفيهم، وليس بالضرورة دائماً، لكن بحسب الجهة التي ترسل إليها.
تاسعاً: إن كان المرسل إليه جهة إسلامية أو إنساناً مسلماً؛ فإن أسلوب الترغيب والترهيب الإسلامي المعروف في التوجيه يفيد كثيراً في هذا المجال.(40/10)
أهداف الرسائل الضاغطة
أولاً: الإعلام بما يخفي من الأحداث والوقائع؛ فإن كثيراً من الأمور لا يعلن عنها ولا يشاع خبرها، وقد لا يعرفها إلا أهل البلد أنفسهم، أو الذين عايشوا هذه المأساة بأعينهم ونحو ذلك، فهذا تضمينه في الرسائل يفيد الإعلام بما لم يكن معلوماً.
ثانياً: كشف الزيف وبيان الأخطاء التي تذكر في قضايا المسلمين؛ فإن كثيراً من الحقائق يغالط فيها ويغير فيها؛ فينبغي أن يكون من ضمن أهداف هذه الرسائل توضيح هذه الصورة.
ثالثاً: التأثير على بعض مواقع القرار، ودفعها نحو تحرك إيجابي لخدمة قضايا المسلمين، وربما يأتي فيما سأذكر لاحقاً ما يوضح هذا النقطة.
رابعاً: التشجيع للخطوات الإيجابية، وتكون هذه الرسائل لتشجيع عمل إنجازي، وليس الأمر فقط لنقض شيء سلبي.
خامساً: إثارة الاهتمام بوجود الأصداء، ودائماً -كما يقولون- صاحب الصوت العالي هو الذي يسمع الأول، ولو أنك جئت لتخاطب إنسان بصوت منخفض وجاء معك أو في أثناء حديثك من رفع صوته؛ لسمع صوته وربما قبلت شكواه، أو سمعت مطالبه وحققت، وصاحب الصوت الضعيف لا يلتفت إليه أحد.
وأخيراً: إيصال الرأي الآخر في القضايا والمشكلات المطروحة، فإن كثيراً من القضايا يتاح عبر بعض وسائل الإعلام وغيرها أن يقول فريق رأيه، ويحرم فريق آخر من بيان رأيه، فتوصل هذه الرسائل الرأي الآخر مخترقة تلك الحواجز التي توضع أمامها.(40/11)
المقاطعة
ورقة العمل الثالثة سلاح المقاطعة: وهذا لعله من أعظم الأسلحة فتكاً، وإن كان سلاحاً سلبياً يعني: ليس فيه عمل، بل فيه ترك العمل، ومعنى المقاطعة: أن تقاطع الشيء، وتعلن رفضه، ولا تتعامل معه بصورة من الصور.(40/12)
وسائل المقاطعة
وسائل هذه المقاطعة يمكن أن تكون من خلال هذه النقاط: أولاً: نشر التوعية بأضرار المواصلة.
يقول لك بعض الناس: يا أخي! هل ستتأثر إسرائيل إذا أنا امتنعت من شراء هذه البضاعة منها؟ نقول: نعم.
تتأثر؛ لأننا نريد أن ندرك أن العمل هذا ينبغي أن يشيع حتى يعم قطاعاً أكبر.
ثانياً: تحديد آثار المفاسد للوسائل المطلوب مقاطعتها بالوثائق والوقائع، فعندما نقول: هناك مجالات لها آثار سلبية، نوضح هذه الآثار بالواقع وبالممارسة كآثار تلوث البث المباشر بتلوث الفضاء، وكيف يقلد الصغار هذه المشاهد، وكيف يقع بها انحراف في صفوف الشباب والشابات ونحو ذلك.
وهذا يجعل الناس على قناعة بأن المقاطعة بالفعل نافعة، وأن المواصلة فيها مضرة تعود عليهم وعلى غيرهم.
ثالثاً: كشف أخطار المتسللين في المجتمعات الإسلامية؛ حتى يصدق الناس أن هذا الطبيب وأن ذلك الخبير وأن هذا المهندس يمارس دوراً تخريبياً، ولا يحرص على مصلحة الأمة المسلمة، ولا المجتمع المسلم؛ لأنه ليس عنده أي دافع ولا أي مصلحة ليحرص عليهم، بل على العكس من ذلك فهو متوجه -بحكم عقيدته وبحكم انتصاره لبني ملته وبني جلدته ولدولته وبلاده- ضد هذه المجتمعات المسلمة.
رابعاً: بيان أحوال المسلمين وحاجاتهم، فإذا كنت تريد أن تستقدم عمالة فعندك من الأيدي المسلمة أعداد كثيرة تشكو من البطالة، وهي تعاني من الفقر، فلم تقدم المساعدة والبذل لغير المسلمين والمسلمون في حاجة ماسة لذلك؟! خامساً: تسليط الضوء على العقول الإسلامية المهاجرة والطاقات المتميزة، ففي بلاد أوروبا وأمريكا كثير من الأطباء المتخصصين ومشاهيرهم، وكثير من المهندسين المتميزين ومبرزيهم، وهم من المسلمين ومن بلاد العرب، لكن ظروف الاضطهاد وسوء الاستغلال لهذه الطاقات دفعهم إلى أن يكونوا في تلك البلاد، فلو أن كل إنسان منا ساهم بما في وسعه وقدرته أن تسخر هذه الطاقات لتخدم المسلمين وتخدم مجتمعات المسلمين لكان هذا أولى، فعلى سبيل المثال: هناك مثلاً: علماء من علماء الذرة ومن علماء الأسلحة ظهروا في جمهوريات الاتحاد السوفيتي المنحل، وما وجدوا من يرحب بهم، ولا من يستقطب طاقاتهم من الدول الإسلامية بالشكل المطلوب، ولكن -كما نشر كثيراً- دولة الشيعة الإيرانية استقطبت وأغرت بعضاً منهم؛ ليكونوا في خدمتها بشكل أو بآخر.
سادساً: الدعاية والإعلان والدعوة والحث على المساهمة في الأعمال والأنشطة والمنجزات المحلية والإسلامية؛ شجع الصناعة الوطنية، وشجع العمل الذي فيه منفعة ومصلحة تعود على المجتمع المسلم بدلاً من أن تشجع عكسه وضده.
وأخيراً: إبراز نماذج من الإنتاج والأعمال الإسلامية التي تؤكد هذه الحقائق، فعندنا صناعات في تركيا، وصناعات في باكستان، سواءً في ميادين التقنية أو في ميادين الأسلحة، ولو أن المسلمين عملوا على هذا التكامل بعد تلك المقاطعة لنفع ذلك، وأغنى غناءً حسناً وجيداً.(40/13)
مجالات المقاطعة
معرفة مجالات المقاطعة مهمة، فمن مجالاتها: أولاً: مقاطعة البضائع، فمثلاً: لو كان الإنسان في بلد يستورد البضائع اليهودية من إسرائيل، ولو تصورنا أنا عملنا على أن نقاطع نحن، وتقاطع أسرنا، ويقاطع أقاربنا، ويقاطع جيراننا، ويقاطع زملاؤنا في العمل، وزملاؤنا في الدراسة هذه البضائع، ماذا سيحصل لها؟ ستكسد، وماذا سيحصل بسبب كسادها؟ سيخسر الذي يستوردها، فسيمتنع عن مثل هذا العمل، فالمقاطعة سلاح إيجابي، وإن كان في حقيقته سلبياً بمعنى أنه لا يدفع إلى عمل، بل يطلب الامتناع من عمل، ونطلب الامتناع من الشراء.
ثانياً: مقاطعة المجلات والجرائد غير الإسلامية، سواءً كانت غير إسلامية كفرية، أو مضمونها يغلب عليه الفساد، ويقل فيه الخير، فإن هذا أيضاً من أعظم الوسائل، بينما نجد أن التعامل معها كثير من كثير من قطاعات المسلمين، ويدل على ذلك المراسلات البريدية، وأركان التعارف، وما يلحق بذلك، وأعداد التوزيع التي توزع، كما أشرنا عن مجلة: (كل الناس) وأرقام توزيعها الهائلة، ولو أننا نمينا في النفوس وبين المسلمين روح المقاطعة، لقاطعوا هذه المجلات؛ ولكان تأثيراً إيجابياً في دفع ضررها.
ثالثاً: مقاطعة أشرطة الفيديو التي تتضمن الأفلام والمشاهد الخليعة، وكذلك الأشرطة الغنائية، ومن فضل الله عز وجل أنه بعد ظهور الأشرطة الإسلامية أصبح هناك شيء من التفاوت وبعض الكساد الذي بدأ يتسرب لهذه الأنواع من الأشرطة التي فيها المحرمات، وبعض المفاسد والمنكرات.
رابعاً: مقاطعة المعاملات الربوية والتعامل بالمعاملات الإسلامية في قضايا الاستيراد والإيداع ونحو ذلك، وهذا أيضاً مهم جداً، ونحن نرى أن أية مساهمة في مجالات استثمار إسلامي تلقى إقبالاً كبيراً، وغيرها يكون إقباله أقل، وينبغي أن تزاد هذه المساهمات، ويوعى الناس بضرورة عدم المشاركة في الحرام بصورة قريبة أو بعيدة.
النبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر شاربها وعاصرها وبائعها والمحمولة إليه إلخ، فلم عمم النبي عليه الصلاة والسلام؟ لتتعمم صورة المقاطعة في أية صورة من صور المشاركة في الفعل المحرم، سواءً كانت هذه المشاركة قليلة أو كثيرة، مباشرة أو غير مباشرة.
نحن أو كثير منا يمارس دعم الباطل وبعض أوجه وإنتاجات الشر بصورة غير مباشرة من حيث يدري أو من حيث لا يدري، ومثل هذه الممارسات موجودة، وليس هناك حرج في وقوعها، فالممارس لها لن يقع في حرج واضطرار حتى يضطر إليها كما يقول بعض الناس: ليس لنا حل إلا أن نتعامل مع البنوك الربوية، ليس لنا حل إلا أن نسمع الأغاني، وكأن هذه أمور مفروضة! والصحيح غير ذلك.
خامساً: مقاطعة الخبرات والطاقات الأجنبية: كذلك عندنا عقدة الأجنبي في الخبرة، فنأتي بالطبيب الأجنبي وكأنه الذي بيده الشفاء، بينما غيره من المسلمين عندهم من الطاقات والتخصصات والعقليات ما يفوق هؤلاء إن لم يكونوا مثلهم، وكذلك نعلم أن المسلم مهما كان أفضل من غير المسلم، فإننا نعرف جميعاً أن كثيراً من هؤلاء -أي: غير المسلمين- يمارسون أعمالاً وأضراراً في المجتمعات المسلمة عبر ما يتاح لهم من فرص العمل، سواءً كانوا أطباء أو خبراء أو مهندسين أو غير ذلك.
سادساً: مقاطعة العمالة والخدم غير المسلمين؛ لأن هذا أيضاً فيه كثير من المضار، ويمكن أن يمارسه المسلم، ولن يكرهه ولن يجبره أحد على مثل هذا.(40/14)
أهداف المقاطعة
أهداف المقاطعة مهمة جداً منها: أولاً: التضييق على مراكز الفساد والقوى الأجنبية غير الإسلامية عندما نقاطع هذه الأمور التي ينتجونها، والأعمال التي يمارسونها، فلا تجد من يتفاعل معها، ولا تجد من يستقبلها؛ فيحصل الفشل، وتضيق مثل هذه الممارسات.
ثانياً: عندما تقاطع -مثلاً- المجلة الفاسدة في المقابل ستروج أو ستشجع المجلة الصالحة، ولذلك من أهداف هذه المقاطعة: الدفع والتشجيع للأعمال والمنجزات والمنتجات الإسلامية، فإذا قاطعت -على سبيل المثال- منتجات لليهود أو لدول كفرية أو لدول محاربة للمسلمين، فإنك في المقابل ستتعامل مع مقابل ذلك مما هو للمسلمين.
ثالثاً: الدفع لإيجاد البدائل، وهذا مهم جداً، فعندما نقول للناس: لا تسمعوا هذا، لا تنظروا إلى هذا، لا تتعاملوا مع هذا، سيقولون لك: وأين البديل؟ وحينئذ ستضطر أنت كمسلم أن تؤدي دوراً يسد هذا البديل؛ فإن هذا يعين على مثل هذا الأمر.
رابعاً: الإيحاءات النفسية المنفرة من المنكرات: الآن عندما يشتري الإنسان مجلة من هذه المجلات الخليعة، هل ترونه متضايقاً، أو يستحي، أو يخجل؟
الجواب
لا؛ لأن هذا الأمر انتشر وذاع، لكن لو كانت هناك مقاطعة؛ فكأن هذه المادة كالسم، ينبغي أن يحذر منه الإنسان، وإذا أخذه الإنسان يكون مستتراً به، وهذا معنى يتحقق عندما يشاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتبقى دائرة المنكرات ضيقة، ولا يمكن أن يعلن بها أصحابها.
خامساً: تنمية روح الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين: وهذه المقاطعة تقوي هذا الجانب المهم، وينبغي أن نعلم أننا لابد أن ننصر المسلمين بكل صورة بالقول والفعل والشراء منهم والتعامل معهم، كذلك أن نقاطع الكافرين وأن نبرأ منهم، ولا نتعامل معهم، ولا نشتري منهم قدر المستطاع، وهذا أمر وهدف مهم.
سادساً: رفع روح الجماعة والوحدة، فعلى سبيل المثال وإن كان هناك فرق: لما ندب النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة في أعقاب غزوة تبوك أن يقاطعوا المخلفين الثلاثة، كانت صورة من صور وحدة الأمة، حيث استجابت كلها، وكذلك عندما يدعى الناس إلى المقاطعة ينمي فيهم روح أنهم كلهم أصحاب هدف واحد، وأنهم أمة واحدة، وأن لهم أهدافاً تجمع بينهم، ويرفع هذا روح وحدتهم وكونهم أمة وجماعة مسلمة واحدة.
وأخيراً: إزالة الانبهار والإعجاب بالأجنبي، وأقصد بالأجنبي غير المسلم، دائماً عندنا هذه صناعة وهذه صناعة، والناس يتركون الصناعة المحلية ويختارون الصناعة الأجنبية.
لماذا؟ لأنها متقنة، ولأنها ولأنها وكثير من هذه الحقائق غير صحيحة، وعلى الأقل في الأمور المشاعة دعك من الأجهزة أو التقنيات المخصوصة في أمور معينة، فأنت ستشتري طعاماً أو جهازاً صغيراً أو كذا، فالموجود من الصناعة المحلية والإسلامية مثله إن لم يكن أفضل منه، لكن كما يقولون: (عندنا عقدة الأجنبي)، فإذا كانت الصناعة أمريكية فهي إذاً ممتازة، ومن غفلة بعض الناس أنه ينظر إذا كانت هذه بخمسة وهذه بعشرة، يأخذ التي بعشرة على أساس أن غلاء قيمتها دليل على جودتها، مع أن هذا ليس مطرداً دائماً، فهناك أشياء أخرى تتدخل في ذلك كاختلاف أسعار العملات ونحو هذا.(40/15)
الدعوة في البيت المسلم
الورقة الرابعة: وهذه ورقة مهمة تهم الشباب أكثر من غيرهم، وهي ورقة: عمل للدعوة في البيت المسلم؛ فكثير من الشباب ممن من الله عليهم بالهداية ربما يرون في بيوتهم وفي أسرهم بعض الممارسات والانحرافات التي لا تلتزم بنهج الله عز وجل، ولكن نجد في مقابل هذا تقصيراً كبيراً من كثير منهم أو عدم إتقان، أو شعور بأنه لا يستطيع أن يقوم بمهمة أو بدور في هذا الميدان، ولذلك هذه النقاط لابد أن يستحضرها ويفكر فيها كل شاب، وسيجد أنه قادر على أكثرها إن لم يكن كلها.(40/16)
وسائل الدعوة في البيت المسلم
البرنامج يمكن أن يكون: أولاً: مركزاً على الأولويات، وذلك مثل الاهتمام بالصلوات، وأدائها في أوقاتها وخاصة صلاة الفجر.
ثانياً: محاولة إشاعة أمر مهم ومسلم به عند الناس وهو الالتزام بورد من قراءة القرآن، وينبغي أن يكون بين أسرته، فيحرص على هذا الوقت الذي يقرءون فيه القرآن، ويساعدهم على القراءة والتلاوة؛ فإن ذلك جيد ومناسب.
ثالثاً: أن يكون هناك وقت -إذا ناسب الجميع- ولو في الأسبوع مرة واحدة يقرأ من بعض الكتب المرغوبة والخفيفة التي تؤثر وتنفع، مثل: كتاب رياض الصالحين أو بعض قصص الصحابة أو نحو ذلك، وليكن في أوقات مناسبة، وبصورة لا تكون طويلة أو مملة كربع ساعة أو نحو ذلك ويكفي.
رابعاً: الاستفادة من الأشرطة والمحاضرات التي يمكن أن يبثها وأن يوجدها، فلا تقل لهم: خذوها، بل اجعلها موافرة في المكتبة، واجعلها بجوار المسجل، وبجوار التلفاز ضع أشرطة فيديو، فإن الإنسان أحياناً من باب الفضول والاستطلاع يقول: دعني أسمع هذا الشريط، دعني أرى ما يسمع هؤلاء الملتزمون أو المطاوعة، دعني أرى ما يشاهدون، فإذا به قد يقع على شيء يلفت النظر ويؤثر فيه أبلغ التأثير؛ لأن الشاب عندما يريد أن يقول لأبيه: خذ اسمع شريط عن أضرار التدخين ماذا يعني هذا؟ يعني أنك مدخن، ولابد أن تنتبه من التدخين، لكن لو ترك هذا الشريط، أو تلك المطوية مرمية في متناول السائر والعابر لكانت هذه رسالة مباشرة.
خامساً: توفير بعض الكتيبات الصغيرة والمطويات المختصرة جداً في بعض الأمور المهمة مثل: الحجاب للنساء، واستغلال الوقت للجميع، ومثل بعض القضايا، فهناك كتيبات ورسائل إخراجها جميل الألوان الزاهية، ولابد أن يكون هناك حسن في العرض؛ لأن الإنسان إذا أحسن عرض البضاعة كثر الزبائن والمقبلين على هذه البضاعة.
سادساً: أن يحرص إذا استطاع أن يكون هناك لقاء أسبوعي يجمع الأسرة كلها في وقت معين، ويكون وقت مناسبة اجتماعية فيها نوع من التآلف والتقارب، ويستغل هذه اللقاءات في طرح بعض الموضوعات والقضايا الإسلامية بصورة مناسبة.
سابعاً: يمكن أن يركز على بعض البرامج التي تقوي جانب التزام الأسرة، مثل: استغلال الإجازات في القيام بأداء العمرة، أو بزيارة المدينة المنورة، أو بزيارة بعض الأقارب وصلة الأرحام، وربط هذه المعاني بما فيها من الأجر والثواب والخير والمصلحة، وهذا كله يساعد على مثل هذه الجوانب.
ثامناً: استغلال المتوازيات، وأعني بها أنه يمكن أن يعرف بعض إخوانه من الطيبين، فيجعل -مثلاً- نساؤهم وزوجاتهم يقمن بزيارات لأهله ولأسرته، فالمرأة مع المرأة، والشابة مع الشابة، والأم مع الأم، والأب مع الأب؛ فيكون هذا التأثير أبلغ عندما يجد من بعض الأخيار من أهله أو زوجته أو ابنته ملتزمة وفيها خير وصلاح، فيجعل صلاتهم وعلاقاتهم وزيارتهم مع الأخيار؛ فيؤثر ذلك تأثيراً إيجابياً، وإن كان بصورة غير مباشرة.
أخيراً: يمكن ربطهم ببعض الأنشطة الإسلامية كل بحسبه، فإذا كان هناك معرض لقضايا المسلمين للنساء يأخذ أسرته وأهله، وإذا كان هناك محاضرة للنساء يحاول أن يرغبهم في الحضور، ولو كان هناك -مثلاً- نشاط للشباب يأخذ إخوانه إليه، وبالتالي لابد أن يشعر أنه يقوم بمثل هذه المهمة والرسالة.
وهناك أيضاً أوراق أخرى مهمة لكن سأشير إلى قضية أعم، ثم أعرج في الأخير على هذه الأوراق وكيف كتبت أو بعضها على أقل تقدير.(40/17)
آداب وشروط الدعوة في البيت المسلم
ينبغي مراعاة بعض الأمور والأولويات التي يحتاج إليها الشاب في دعوته في منزله، ومنها: أولاً: لابد أن يستعين بالله عز وجل، ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يوفقه.
ثانياً: وهذا أمر ملح ومهم جداً، وهو: أن يكون قدوة صالحة في منزله؛ لأنه لو كان على غير ذلك لا يقبل منه.
ثالثاً: أن يكون الشاب ملبياً لرغبات أهله، ساعياً في مصالحهم، مبادراً إلى ما يحتاجون إليه، ولو كان هو ملتزماً وأخ له مقصر، فينبغي أن يكون هو أكثر خدمة لا العكس كما يحصل في بعض الأسر إذا التزم أحد الأبناء توقف عن الخدمات والمساعدة والتوصيل وما يلحق بذلك.
رابعاً: أن يفرض بصورة جيدة ومناسبة احترامه بين أفراد الأسرة ولو كان صغيراً، فيكون محترماً لما عنده من هذا الالتزام، وهيبة ووقار لالتزامه بمنهج الله عز وجل.
خامساً: أن يتدرج بالنصح، ويأخذ الأولى فالأولى، فلا ينصح بالأدنى وهناك ما هو أهم منه.
سادساً: أن يكون فطناً في استغلال الفرص المناسبة، فمثلاً لو حصلت فرصة أو وقعت واقعة، كأن حصلت وفاة أو حصل شيء معين وتأثروا؛ فليستغل هذه الفرصة، أو لو شوهد منظر أو علمت قضية يستغل هذه الفرصة، بمعنى ألا يكون هدفه وتفكيره فقط أن يقيم درساً أو محاضرة في الأسبوع، ولو أنك استطعت أن تنتهز فرصة، وكلمة عابرة، أو مشهد، أو قضية أثيرت لكان في ذلك خير عظيم.
سابعاً: ومن المهم أيضاً: أن يكون عنده بعد نظر بالآثار السيئة للفساد والانحراف؛ حتى يتأكدوا، وخاصة إذا استطاع أن يستغل الفرص، فلو سمع أن في بيئة أو في مجتمع أو في أسرة مشكلة وقعت أو جريمة، ربط بين هذه المفاسد الموجودة في المنزل وبين أنها قد تؤدي بالتدرج إلى مثل هذه المشكلات.
ثامناً: البرامج المقترحة ينبغي أن تكون متناسبة مع كثير من الأمور كالميول والرغبات والإمكانية في التطبيق، ونحو ذلك.(40/18)
أهداف الدعوة في البيت المسلم
لابد أن نعرف أهداف هذا العمل، ومن هذه الأهداف: أولاً: أهمية وجود البرامج الدعوية في البيت المسلم، وذلك لأنه من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى التزامهم وبعدهم عن مجالات الشر.
ثانياً: من هذه الأهداف علاج المشكلات التي تنشأ عن هذه المخالفات الإسلامية، فعندما توجد أمور مخالفة للشرع تحصل مشكلات، ونحن نعلم أن هناك مشكلات تقع بين الرجل وزوجته بسبب التلفاز، أو بسبب ممارسات معينة هي في أصلها خطأ وانحراف، لكن لو أن هذه الأمور عولجت لكان من ورائها خير كبير.
أيضاً: هناك المشكلات العائلية مثل عقوق الأبناء، وعدم تفرغ رب الأسرة، وبعض العادات والتقاليد المخالفة للشرع، وكل هذه تبين لنا أن هناك أهمية وأهدافاً يحتاج أن يؤثر فيها الإنسان أو الشاب المسلم.
وهناك أمر مهم جداً وهو: كثرة وقوة المؤثرات السلبية في البيت المسلم في واقعنا المعاصر، مثل: وجود التلفاز أو البث المباشر أو الفيديو، والخادمة الأجنبية، والسائق غير المسلم على وجه الخصوص، ووجود الفراغ وعدم إدراك أهمية الوقت، والبيئة التي تحيط بالأسرة؛ فهذا كله يجعل هذا الواجب مهماً وملحاً.(40/19)
فوائد ورق العمل
ورقة العمل ينبغي ألا يقوم بها فرد، بل الأصل أنها مجموعة، كطلبة في مدرسة واحدة، أو زملاء في حي واحد متجاورين، أو مصلين في مسجد فكروا في موضوع وقالوا: لابد أولاً أن نفكر ما هي الخطوات التي نعملها؟ لو أن هذه الروح سرت بين الناس لأوجدوا مثل هذه النقاط، واتفقوا على أمور يمكن تطبيقها عملياً.
وهناك فوائد كثيرة لمثل هذا العمل، وبعض هذه الفوائد تستفاد عندما نقدم على التفكير والتنفيذ لهذه الأوراق، فمن هذه الفوائد: أولاً: فيها تعويد على النشاط والتفكير الجماعي؛ حتى يتعود الإنسان على أن يفكر مع الآخرين فيما يشغلهم وفيما يهمهم.
ثانياً: فيها الاستغلال للأوقات في الأمور الخيرة والتعاون على الخير.
ثالثاً: خدمة قضايا المسلمين.
رابعاً: الجدية في أداء العمل، فبدلاً من أن نظل نقول دائماً: ما العمل؟ نفكر ونجتمع لنحدد النقاط والقضايا.
خامساً: استخلاص عصارة الأفكار؛ لأنك عندما تتكلم كلاماً عاماً لا تحدد، لكن عندما تريد أن تنفذ ستفكر تفكيراً جاداً، وتستخلص الأفكار، وتستقرئ المعلومات؛ حتى تضع نقاط فعلية وجيدة.
سادساً: التعود على حل المشكلات، وهذا أمر مفيد ومهم جداً.
سابعاً: بث روح الحماس لنشر الدعوة الإسلامية، ولابد أن يشعر كل مسلم بأن بإمكانه أن يقوم بدور في ممارسة الدعوة، فالدعوة ليست قاصرة على العلماء، والخطباء، والكتاب، وأصحاب العلم، والشباب فقط، بل هي عامة لكل أحد، ويستطيع كل أن يأخذ بجزء من هذه المهمة.
ثامناً: استقراء الأفكار لدى الأفراد وصياغتها في حل المشكلات.
تاسعاً: التعود على الانتقال من مجال إلى آخر، فلو أننا ركزنا على العمل، وعملنا ورقة ثم نفذناها فسنقول: ماذا بعد ذلك؟ ويمكن أن نقدم خطوة أخرى، لكن لو لم يكن عندنا عمل لما استطعنا أن نتقدم.
عاشراً: هذا يعودنا على التفكير قبل العمل، فلابد قبل أن تعمل أي عمل أن تفكر فيه، ولابد أن يتعود المسلم على أن يكون جاداً، ومن أبرز معالم الجدية: التفكير قبل العمل، فلابد من أخذ مبدأ الدراسة والتخطيط وتنسيق الأمور قبل أي عمل من هذه الأعمال.
الحادي عشر: التعود على كتابة التقارير وصياغة النقاط؛ حتى يستفيد منها.(40/20)
الإطار العام لأوراق العمل
حتى نهيئ الفرصة، وندعو الجميع إلى أن يساهم ويشارك في إعداد أوراق عمل عند كل قضية يحتاج إليها مع إخوانه، فنقول: هناك إطار عام يمكن أن يفيد لهذه الأوراق وإعدادها: أولاً: لابد أن تكون ورقة العمل قابلة للتطبيق: فلا يأتِ بأشياء خيالية، فمثلاً نقول: نحن نريد أن نحارب إسرائيل، ونريد ورقة عمل لمحاربة إسرائيل، فنخرج من هنا ونأخذ أسلحة ونفعل، هذا كله غير واقعي، فلابد أولاً أن تكون ورقة العمل قابلة للتطبيق.
ثانياً: الحرص على توسيع دائرة المشاركة بقدر المستطاع، فإذا كان هناك عمل يستطيع أن نعمل فيه مائة فلا نرضى بأن يعمل فيه تسعين، بل حاول أن تكون أوراق العمل في هذه الميادين تشمل أكبر عدد من الناس؛ حتى يكون أثرها أكبر؛ وحتى ينتفع بها قطاع أكبر من الناس.
ثالثاً: أن تتركز الورقة في ذكر الأهداف والفوائد من هذا العمل وهي: - الوسائل المتاحة لتطبيقه.
- مراعاة الإمكانات.
- استيعاب الطاقات.
- التفكير في الخطوات العملية تفكيراً جيداً؛ بحيث تتلافى الآثار السلبية؛ لأنك أحياناً قد تفكر في عمل ولا تفكر فيما قد ينتج عنه من آثار سلبية، فلابد للإنسان أن يكون حكيماً وبصيراً، وأن يكون منضبطاً في مثل هذه الأمور.
رابعاً: ألا يكون هناك نقاط كثيرة، وأعمال كثيرة، بل يركز على القليل الذي يمكن أن يكون تطبيقه واقعياً.(40/21)
عرض سريع لبعض أوراق العمل
أقول لأثير حماس الإخوة: أولاً: ما ذكرناه من هذه الأوراق يحتاج إلى تطبيق، وكثير منا يستطيع أن يطبق كثيراً مما ذكرناه، ومن غير مشقة وعناء.
ثانياً: هناك أوراق أخرى يمكن أن يفكر فيها الإخوة كل مع من يحيط به أو من هو معه في مدرسته أو في حيه أو في مسجده، ويفكر الجميع ليضعوا نقاطاً يمكن أن تطبق، وأن تكون صورة عملية أخرى لعله أن يكون من الممكن أن تشيع بين الناس، أو أن تعرض في درس لاحق، أو أن يشار إليها على أقل تقدير، فهناك مما لم نعرضه من هذه الأوراق:(40/22)
خدمة أهل الحي
ورقة عمل لخدمة أهل الحي، كيف يمكن أن نخدم أهل الحي من خلال منطلقات إسلامية حتى ينتفعوا ويستفيدوا ويتأثروا بهذه الخدمات، ويروا بأعينهم أن الملتزمين والدعاة والصالحين ليسوا أصحاب أقوال، بل هم أصاحب أعمال، ولا يأتي منهم الضر بل يأتي منهم الخير، ويسابقون إلى مصلحة الناس ورعاية حقوقهم كما مر بنا في درس (أخيار ولا فخر) في الأسبوع الماضي، وينبغي أن يكون هذا هو الميدان، وله معالم كثيرة، وكان من المفروض أن نشير إليها كاملة، سواءً عبر المسجد أو عبر المدرسة أو عبر المكتبة، أو عبر اللقاءات الاجتماعية، فكلها ميادين، ويمكن أن تخدم أهل الحي، وتقدم هذه الخدمات من منطلق الإسلام، وعبر العاملين والملتزمين بهذا الدين.(40/23)
دعم الشريط الإسلامي ونشره
من الأوراق المهمة: دعم الشريط الإسلامي ونشره، وهذه ورقة مهمة لم أشأ أن أتحدث فيها؛ لأن هناك بعض المحاضرات عنها؛ ولأن فيها مجالاً واسعاً، وهي خدمة كبرى يمكن أن يشارك فيها كثير من الناس، ولو فكروا وكتبوا أفكارهم لنتجت عن ذلك خطوات عملية كثيرة.(40/24)
دعم المحاضرات والدروس العلمية
ومن ذلك أيضاً: دعم المحاضرات والدروس العلمية، وتشجيع الناس على حضورها والاستفادة منها، ويحتاج ذلك إلى ورقة عمل، وخطوات إيجابية.(40/25)
إيصال التوعية الإسلامية إلى غير الملتزمين بالدين
هناك قضايا أذكرها حتى نثير الهمم والحماس للتفكير فيها، وصياغة خطوات عملية حولها، من ذلك: إيصال التوعية الإسلامية إلى غير الملتزمين، فكثيراً ما تمارس الأنشطة الإسلامية بين الملتزمين أنفسهم، بينما إخواننا وأحباؤنا الذين انصرفوا أو شغلوا ببعض الملذات، أو بعض الشهوات، هم غارقون في الغفلة، ولا يجدون الجهد المكثف أو المبرمج الذي ينتشلهم ويعينهم على أن يخرجوا من هذه الدوائر الفارغة، والأعمال المحرمة، أو الاتجاهات المنحرفة، وهناك دعوة ملحة جداً أن نتكلم بألسنتهم، وأن نذهب إلى أماكنهم، وأن نمارس طرقاً مناسبة للتأثير عليهم، وإيصال الخير لهم، وهي من أهم القضايا التي تحتاج إلى خطوات عملية فيها، وتحتاج إلى أن تتفتق الأذهان عن الخطوات الإيجابية حولها.(40/26)
دعم المجلات الإسلامية
أيضاً: تشجيع المجلات الإسلامية ودعمها ونشرها، فكثيراً ما تعاني هذه المجلات، وتصدر مجلات إسلامية فترات محددة وتنقطع، فمثلاً لما كان بعض الناس يسألون ويقولون: لماذا لا تكون هناك مجلات للمرأة المسلمة؟ وأجبت في ذلك الوقت: بأنه صدرت مجلة اسمها: (أسماء)، وصدرت منها أربعة أعداد أو خمسة أعداد ثم توقفت؛ لأنها لم تجد تشجيعاً مادياً وشراءً وإعلاناً ونحو ذلك.
فهذه خطوات لابد أن نرى كيف يمكن أن يستفاد منها عملياً.(40/27)
نشر الدعوة في النوادي والتجمعات الرياضية
أيضاً: مجالات الأنشطة الرياضية ونواديها، ينبغي أن نفكر كيف يمكن أن تستثمر، وأن يكون فيها شيوع الخير والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(40/28)
العمل على إزالة أسباب الاختلاف
ورقة لعلها تكون جديرة بأن تثير كثيراً من الحماس لها، وهي ورقة عمل حول إزالة أسباب الاختلاف بين الشباب الملتزم، وكثيراً ما ترد الأسئلة وتثار القضايا حول بعض ما يقع فيه الاختلاف من الآراء والاجتهادات والوسائل والممارسات العملية في أساليب الدعوة أو في طرق إنكار المنكر أو نحو ذلك.
نريد أيضاً أن يكون هناك تفكير عملي في خطوات عملية لمثل هذه الأمور.
وهناك أشياء أخرى أظن أن الذهن لو أعمل من خلال اهتمامه بقضايا المسلمين لوجد كثيراً من الإيجابيات وكثيراً من القضايا التي تحتاج إلى خدمة إسلامية -كما أشرت- كدائرة الاهتمام بالخير، والاهتمام بالقضايا الإسلامية، والاهتمام بدعم الخير والعمل الإسلامي، ولابد أن يكون شعارنا: (هيا إلى العمل والدعوة والخير لكل أحد، ولكل قطاع -كما ذكرت- صغيراً وكبيراً، رجلاً وامرأة، متعلماً وعامياً)، وليس هناك أحد يعذر، بل يساهم بقدر ما يستطيع بصورة أو بأخرى.(40/29)
الحث على المساهمة في إنجاح ورقة العمل
بعض هذه الأوراق خاصة فيما يتصل بالورقة الأولى، وهي التوعية بصور مآسي المسلمين، وكذلك الورقة الرابعة عن دور الشاب في البيت المسلم، وكذلك الأوراق التي لم أتحدث عنها، مثل: خدمة أهل الحي، وخدمة الشريط الإسلامي ونحوها.
أقول: كيف صدرت أو وجدت هذه الأوراق؟ أقول: إنه من الممكن أن يمارس كثيرون هذا الدور، وأن يخرجوا بمثل هذه الأفكار، وبعض هذه الأوراق التي أشرت إليها هي من نتاج بعض الطلبة في المرحلة المتوسطة والثانوية، مع مشاركة قلة من طلبة الجامعة، واجتمعت مجموعات من هؤلاء الطلبة في بعض أنشطتهم المنبثقة عن أنشطة التحفيظ والمراكز الصيفية، ووجههم الموجهون أن يفكروا في أساليب عملية لخدمة الإسلام، ففكروا وكتبوا هذه النقاط والأوراق، ودرسوها وناقشوها، وهذا مستواهم، وهذه قدراتهم وإعدادهم، فاشتغلوا بشيء مهم، وشعروا بأن هناك أموراً لابد أن يكون لهم فيها دور، وعرفوا أن هناك ميادين يستطيعون أن يكون لهم ممارسة ومساهمة فيها، ولذلك هذه الأوراق التي ذكرتها وغيرها مما لم أذكره إنما هو نتاجهم عندما فكروا ونظروا في واقعهم وإمكاناتهم، وقالوا: يمكن أن يكون العمل على هذه المراحل، وفي هذه المحاور، وبهذه الخطوات، وتحت هذه الأهداف، فهل يعجز من هو أكبر منهم سناً وأكثر قدرة مادية ومعنوية أن يكون له اهتمام بمثل هذه القضايا؟ هل يعجز أحد أن يصوغ أو أن يشارك مع إخوانه في صياغة خطوات عملية ليقدم الخير ويساهم في مسيرة نشره بين المسلمين؟ هذا تأكيد على أنه بالإمكان أن تكون هذه الخطوات، بل إن وجودها واقعاً أمر ميسور بإذن الله سبحانه وتعالى.
وقد هدفت -أصلاً- من هذا الموضوع أن نثير العزيمة إلى العمل، والهمة في التفكير في قضايا المسلمين، والاجتماع على دراسة حلول لها، وطرائق عملية لمساعدتها وخدمتها، وهذا هو الذي نأمله.
وما ذكرت من العناوين يمكن أن يفكر فيه الإخوة، فإذا وضعوا فيه نقاطاً وواصلونا بها، ربما تكون هناك فرصة لعرضها والتذكير بها وتطبيقها عملياً، وربما بعض ما ذكرناه إن شاء الله يمارس عملياً.(40/30)
الأسئلة(40/31)
شواهد على نجاح سلاح المقاطعة
السؤال
يذكر الأخ السائل طرفة في أسلوب المقاطعة، وهي: أن بعض تجار السمك في اليابان رفعوا أسعار السمك، فاتفقت نساء البلدة على مقاطعة شراء السمك؛ فاضطر التجار إلى خفض الأسعار مرة أخرى؟
الجواب
هذا سلاح مؤثر وله شواهد كثيرة.(40/32)
مقاطعة الشرق الأوسط
السؤال
هذه إشارة إلى دعوة الشيخ سلمان لمقاطعة الشرق الأوسط، وأظنها دعوة مشهورة مبثوثة وغيرها يقاس عليها كذلك؟
الجواب
وقد أشار غيره من العلماء إلى مقاطعتها، ومقاطعة ما يغلب شره على خيره.(40/33)
دور المرأة في العمل الإسلامي
السؤال
ما دور المرأة في العمل الإسلامي خاصة في المقاطعة؟
الجواب
هذا سؤال جميل جداً، ولو أن النساء المسلمات قاطعن الكماليات أو قليلاً من الكماليات لوفرن على الأمة المسلمة آلاف الآلاف، بل مئات الآلاف، بل ملايين الأموال التي تذهب، ويصدرها لنا أعداؤنا؛ ليستهلكوا أموالنا، وليفتنوا نساءنا، وليشيعوا بعض أنواع الفساد فينا.
وأقول حتى ندرك بعض الأشياء في قضية المقاطعة: لو قاطع الناس التدخين فهل نعلم نحن أننا -على سبيل المثال- ننفق حسب الإحصائيات نحو عشرة آلاف مليون ريال في العام الواحد في تجارة السجائر؟ لو أننا تصورنا أنه تمت المقاطعة لمثل هذه الأمور، فلن تتصور مدى الآثار الإيجابية لها.
والمرأة المسلمة لو قاطعت بعض الأمور لا نقول كلها، كثير من النساء عندها من الأحذية أكثر من عشرة، وعندها من الملابس ما لا يحصيه العد، وعندها كذا وكذا، ولو أنها تخلت عن بعض ذلك، واستشعرت قضايا المسلمين على أقل تقدير؛ لكان في ذلك خير كبير، إضافة إلى أنها مستهدفة بالأزياء والموضات، وأكثر ما تتوجه المجلات للنساء وللمرأة.(40/34)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الجميع
السؤال
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتصر على الملتزمين والملتحين والدعاة دون غيرهم ممن ليسوا كذلك؟
الجواب
لا.(40/35)
نقد المراكز الصيفية
السؤال
إن كاتباً كتب مقالاً مطولاً عن المراكز الصيفية, وأنها لا تؤدي وظيفتها، وأشار إلى بعض أوجه النقد، يقول: فما العمل تجاه هذا الأمر؟
الجواب
هذا نموذج ممكن وضع ورقة عمل تجاهه، وقد حصل أن ذكر لي بعض الإخوة ذلك، فقلت: لم لا يذهب مجموعة منكم ليزوروا هذا الشخص ويناقشوه في أفكاره التي رآها، والتي ربما قالها عن اجتهاد أو عن عدم فهم، ولم لا يكتب عدد آخر له حتى يبينوا له بعض ما يكون قد أخطأ فيه؟! ولم لا يكتب عدد آخر إلى تلك الصحيفة مقالات أو مضامين تبين وجهة نظرهم، وأن فيها فوائد أخرى غير التي أشير إليها ونحو ذلك؟!(40/36)
منشورات القوانين والأنظمة
السؤال
أخ يسأل عن نصوص القوانين والأنظمة؟
الجواب
بعض الأنظمة والقوانين تباع رسمياً، وبعضها مشاع ومذاع ومنشور في كتب، مثل: قوانين الأمم المتحدة، وكذا كتب مطبوعة موجودة في مكتبات الجامعات، وموجودة للبيع في المكتبات العامة، وكل الأنظمة ليست أسراراً، بل هي متاحة، وإذا احتاج بعض الإخوة لشيء محدد فلا بأس أن يواصلوني في ذلك إن شاء الله.(40/37)
التحذير من التهاون بالشر
السؤال
يذكر السائل أن له أخاً يأتي ببعض الأفلام التي فيها ما لا يليق، وهو يأخذ هذه الأفلام ويسجل عليها، لكنه أثناء التسجيل عليها يضطر إلى أن يرى بعض المشاهد، فماذا يصنع؟ ولو أتلفها لحصلت مشكلة بينه وبين أخيه؟
الجواب
هذا مزلق خطير ينبغي ألا يتساهل فيه، وأن يبقى واحد في الشر خير من أن ينضم إليه الثاني، فأحياناً الشيطان يدخل من مداخل في مثل هذه الأمور حتى يقع الإنسان في الزلل من حيث لا يشعر.(40/38)
ورقة عمل لأئمة المساجد في الحي
السؤال
لِمَ لا يكون هناك إعداد ورقة لأئمة المساجد في الحي لخدمة الحي مثل: القضايا الاجتماعية، والدروس والمواعظ، وإزالة المنكرات؟
الجواب
ورقة (خدمة أهل الحي) موجود فيها هذه التفصيلات، ولعلها إن شاء الله في صورة عملية تتحقق، والأفكار موجودة ومكتوبة كما أشرت سابقاً.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى أن نكون عمليين، وأن يسهل لنا أمر الدعوة وخدمة الإسلام والمسلمين بقدر الطاقة والمستطاع.(40/39)
الحجاب
أصبح حجاب المرأة في هذا الزمان قضية القضايا، فكم نرى من أحاديث وأراجيف حوله من الأعداء والمغرضين! لذا كان لزاماً تنبيه الأخوات المؤمنات إلى نعمة الستر والعفاف، وأهمية أخذ الحجاب الشرعي كاملاً؛ فإن فيه شرف المرأة وعزها وعفتها وكرامتها، ولتعلم المرأة المسلمة أن الحجاب يحررها من كثير من الأمراض النفسية والبدنية، ويخفف عنها كثيراً من الأعباء المالية والتبعات، على عكس ما يدعي دعاة الضلال في مجتمعاتنا.(41/1)
شريعة الحجاب وتحرير المرأة
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإيمان، وأكرمنا بالإسلام، وشرفنا ببعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وبين لنا الشرائع وفصل لنا الأحكام.
أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، أحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا على حين فترة من الرسل وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصربه من العمى، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً عمياً، وآذاناً صماً، وبلغ عليه الصلاة والسلام الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(41/2)
الحجاب مصلحة للمرأة والمجتمع
أيها الإخوة المؤمنون! حجاب المرأة المسلمة أحد الأمور التي تثار حولها الشبهات، ويدعى زوراً وبهتاناً أنه من صور تقييد المرأة المسلمة، وإلغاء شخصيتها، وحجب عقلها وفكرها إلى آخر ما يقال ويشاع ويذاع في مثل هذا الأمر، فهل حجاب المرأة المسلمة حرية أو قيد؟! وهل فيه مصلحة لها ولبنات جنسها وللمجتمع كله، أم فيه ما قد يذاع أو يقال من هذه المشكلات أو المضار؟ فلننظر ما وراء الحجاب، ولسنا بصدد تفصيل الأحكام، ولا بصدد ذكر اختلاف الفقهاء، وإنما ننظر إلى الحكم والأسرار، حتى ندحض بوقائع العصر ما يقال من الأوهام وما يحاك من الأباطيل؛ لأن بعض أبناء المسلمين قد فتنوا في قلوبهم، وضللوا في عقولهم، وانحرفوا في سلوكهم في هذا الشأن المهم من شئون المرأة والأسرة والمجتمع، وصور لهم أن هذا ضرب من الحرية، ولون من التقدم، وصُورة من صور التفاعل والمشاركة الاجتماعية النافعة، والواقع يشهد بغير هذا، كما سنذكر بعضاً من الصور.
الحديث إلى المرأة المسلمة، إلى وليها: أباً، وزوجاً، وأخاً، وإلى المجتمع المسلم الذي أكرمه الله وأنعم عليه، وجعل فيه سمة الطهارة والنقاء والصفاء، وجمله بالعفة والحياء؛ حتى لا تذهب هذه النعم، وحتى لا ينكص على عقبيه ويعرض عن شرع الله، ويضرب صفحاً عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحينما ننظر إلى الحجاب لا نراه تشريعاً وحيداً، وإنما هو مع جملة من التشريعات الأخرى تتحقق به المصالح والمنافع، وهكذا شرع الإسلام لا يعطي حكماً واحداً منفرداً عن بقية الأحكام؛ لأن تشريعه كامل شامل؛ ولأن المصلحة ترتبط أجزاؤها بعضها ببعض؛ فلا يمكن أن نأخذ حكم الإسلام في اقتصاد ونتركه في اجتماع، أو نأخذه في اجتماع ونتركه في سياسة؛ فحينئذٍ لابد أن يقع الاضطراب والاختلال، ولن تتحقق سائر المصالح والمنافع، ومن ثمّ فإن تشريع الحجاب جاء ضمن تشريعات الإسلام التي تضبط المجتمع رجالاً ونساءً، ولسنا بصدد التفصيل، لكن الإسلام قد شرع قبل ذلك وفي هذا الإطار وفي هذه الأحكام كثيراً من الآداب والتشريعات المهمة، منها ما في قوله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].
وهناك أمور وواجبات دعي إليها المسلمون والمسلمات حتى مع وجود بعض الدواعي التي قد تنصرف فيها الأبصار إلى العورات، فجعل الإسلام ستاراً واقياً من التقوى الشاملة التي دعي إليها المؤمنون، كما قال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، وجاءت الأحكام بمنع النظر المحرم، ومنع سماع الآثام، كما في قوله عز وجل: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، وجاء النهي عن الخلوة التي فيها الشيطان يفرخ ويبيض ويقع منه ما يقع، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجل بامرأة، قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت).
فالتشريعات كلها متكاملة، والسياجات والحصون كلها متماسكة، فإن هد جانب، وإذا وجدت ثغرة في جانب، فإنما ذلك من خلل الملتزمين بهذا الدين، أو المؤمنين به.(41/3)
الحجاب تحرير من الأمراض النفسية
فلننظر إلى هذا الحجاب لنرى فيه صورة مشرقة من صور الحرية، والمنافع والمصالح للمرأة المسلمة في ذاتها، ولبنات جنسها، ثم للمجتمع الإنساني المسلم كله.
فالحجاب تحرير للمرأة من الأمراض النفسية؛ لأن الدراسات أثبتت أن المرأة في أول سن البلوغ سواء في سن العاشرة أو في الثانية عشرة أو ما بعدها بقليل أو كثير، أعظم ما يشغل بالها، وأكثر ما تلتفت إليه هو منظرها، وجمالها، وحسنها؛ لأنها قد ركبت على طبيعة فيها حب التجمل والتزين، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، هذه الفطرة تدفعها إلى أن تفكر وأن تتقي كل شيء يضر بهذا الجمال، أو بنظرة الناس إليها في جمالها وحسنها، وتخشى أعظم ما تخشاه ما قد يؤثر في هذا الجانب.
ونحن نعلم جميعاً أن هذه السن فيها كثير من التغيرات الجسمية التي قد يقع فيها بعض الصور من الحبوب التي في الوجه، أو التغيرات التي في الجلد، أو غير ذلك، فإذا كانت المرأة ليست محجبة، فإن هذا يشكل عبئاً كبيراً على نفسيتها، وكآبة عظيمة في تفكيرها، وقد أثبتت الدراسات في المجتمعات الغربية - وهذه دراسة على المجتمع الأمريكي- أن الفتاة في سن الثانية عشرة تصاب باكتئاب نفسي، وتكون عرضةً للأوهام والأمراض النفسية أكثر من الفتى؛ لهذا الجانب.
فالفتاة تنظر إلى مثيلاتها، فقد يكون من قدر الله عليها أنها ليست على نصيب من الجمال عظيم، أو أن الله عز وجل ابتلاها بعاهة في منظرها أو في هيئتها، أو أنها قد أتاها من التغيرات الجسمية ما يظهر على وجهها، أو غير ذلك من الأمور، فتبقى في حيرة واضطراب.
وهناك صورة من التنافس بين الفتيات في إبراز صور الجمال، ظناً -بطبيعة الفطرة- أن هذا أمر لابد منه، ولابد من التبارز والتنافس فيه، وهذا أمر حتمي في واقع المجتمعات التي لا تتخذ الحجاب؛ فإن الفتاة في هذا السن تجد نفسها ملزمة بذلك، فتصرف من وقتها وتفكيرها فيما تعالج به هذه التغيرات الجسدية ونحو ذلك.
أما المرأة المسلمة فحجابها يجعل الدميمة والجميلة وذات العاهة في وجهها وغيرها، والتي لم يعطها الله حظاً من جمال مثل غيرها، ولا فرق بينها وبين غيرها، فيعصمها من هذا الاضطراب النفسي، ويحذرها من هذه الحيرة والقلق النفسي الذي يقع به كثير من المشكلات للفتيات.(41/4)
الحجاب تحرير من الأعباء المالية
الحجاب من وجه آخر تحرير من الأعباء المالية؛ لأن المجتمع الذي تتبرج فيه المرأة تجد نفسها أيضاً مضطرة -صغيرة كانت أو كبيرة- إلى أن تبدل وتغير في الملابس أشكالاً وألواناً، وأن تنفق الأموال على أدوات التجميل صفرة وحمرة وخضرة وزرقة إلى آخر الألوان التي يبتكرها أولئك القوم؛ ليشغلوا بها النساء، ويستنزفوا أموالهن.
وكذلك جددوا لهن من هذا صوراً كثيرة لا تنتهي فيما أحسب، فجعلوا صبغات للشعر، فيوم شعرها أحمر، ويوم شعرها أصفر ويوم كذا وكذا، حتى جاءوا إلى العيون فجعلوا عيوناً زرقاء، وأخرى خضراء، والمرأة التي تتبرج وتذهب إلى العمل أو تخرج إلى الشارع ستكون مضطرة بطبيعة فطرتها ومنافستها أن تغير وتبدل وتجدد وتشكل في هيئتها ومنظرها، وأن تخرج من مالها أو من مال زوجها وتصرف المال في هذا الصدد وهذا السبيل أكثر مما تنفقه في كثير من الأحيان على طعامها أو شرابها أو مصلحة بيتها أو أبنائها، ولا يمكن لك أبداً أن تجد امرأة تعمل وهي متبرجة -أي: لا تأخذ بالحجاب ولا تلبسه- لا يمكن أن تراها على هيئة أو لباس أو لون أو شكل واحد، بل إن في الصباح لها ضرباً من الألبسة والألوان، وفي المساء كذلك، لكن الحجاب يحررها من ذلك.
لا يمنع الإسلام تجمل المرأة؛ لأنه طبيعة في فطرتها، ومطلوب منها بطبيعتها أن تتجمل لزوجها، وأن تتجمل فيما بين النساء في مناسبات الأفراح أو الأعياد، وكان الأمر كذلك في مجتمع المسلمين الأول، والصحابيات اللائي عشن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع الطاهر، لكن هذا الضرب من التبرج هو الذي يفرض هذه الأعباء التي يحرر الحجاب المرأة المسلمة منها.(41/5)
الحجاب تحرير من الاعتداءات الأمنية
الحجاب تحرير من الاعتداءات الأمنية، وهذا باب واسع عظيم؛ فإن التبرج بما يبديه من العورات وما يظهره من المفاتن، وما يبرزه من صور الإغراء والإغواء، يجعل المرأة كالفريسة التي تتعرض لافتراس الذئاب عاجلاً أو آجلاً، فإن منعوا من ذلك خوفاً من أمن أو شرطة أو نحو ذلك ربما انتهزوا فرصة في وقت آخر، وإن منعهم من ذلك حياء في ظرف فلن يمنعهم في ظرف آخر! ونضرب مثالاً: عندما تدخل إلى زيارة حديقة الحيوان تجد فيها الحيوانات داخل الأقفاص مغلق عليها أبوابها؛ لأنها لو تركت لافترست الإنسان الذي يتجول ويزور تلك الأسود والوحوش الكاسرة، والمرأة عندما تخرج متبرجة فإنها تكون عرضة للافتراس ولا شك بطبيعة الفطرة الإنسانية، وطبيعة تحطيم الحواجز من الحياء والأعراف وغير ذلك، وطبيعة ضعف أو فقدان الوازع الديني من الناس؛ لكثرة هذا التبرج، فحينئذٍ يقع هذا الاعتداء عليها بصور كثيرة مختلفة، لعل أبرزها وأشهرها في مجتمعات الغرب، والحضارة الغربية اليوم فيها أكبر صور الاعتداء المتمثلة في الاغتصاب، وهذه المجتمعات ليس فيها عندهم عيب، ولا حرام، ولا حد لحشمة ولا شيء من ذلك، ومع ذلك يقع الاغتصاب! والذي يتصور أنه لا يقع إلا عند وجود الكبت الذي يدعي أدعياء الإسلام من المتأثرين بالغرب أن الكبت سببه هذا الحجاب، ويقولون: انزعوا الحجاب حتى يزول الكبت، وحتى يصبح هناك تطبيع في العلاقات بين الجنسين.
فالغرب قد طبعوا العلاقات وأزالوها وألغوها، ثم إذا بنا نجد الإحصاءات تقول: تقع في كل نصف دقيقة جريمة اغتصاب في أمريكا، وإن (90%) من جرائم الاغتصاب لا تبلغ إلى الجهات الأمنية وهذا يعني: أن هذا العدد ينبغي أن يضاعف تسع مرات، فإذا كان في كل دقيقة تحصل جريمتا اغتصاب؛ فإنه عندما نضاعف العدد تسع مرات سيكون في كل دقيقتين ثمانية عشر جريمة اغتصاب، وفي كل دقيقة تسع جرائم اغتصاب في مجتمع ليس فيه حرمة لزناً ولا لشذوذ ولا لشيء من هذا أبداً! وقد أجيزت هناك جمعيات كثيرة لتقاوم هذا العنف وهذا الاعتداء الذي سلب المرأة حريتها وأمنها واستقرارها، وحصلت هناك إحدى المظاهرات العظمى ضد الاغتصاب، وعقد يوم كامل للمناقشات والمحاورات حول هذه الظاهرة، وقيل في تعريف الاغتصاب كلام أنقله؛ لنرى أن بعض ما يقع للقوم قد عصمنا الله منه، وأكرمنا الله عز وجل فيه بشرع محكم.
قالوا: إن المرأة تغتصب حتى بمجرد نظرة إعجاب في الشارع من أحد المارة، وعليه فإن جميع النساء ضحايا الاغتصاب الجنسي! والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن: (العين تزني وزناها النظر)، وعندما سئل عن نظر الفجاءة قال: (اصرف بصرك ولا تعد)، وفي حديث علي: (إنما لك الأولى والثانية عليك).
فهذا لون من الألوان، وهناك ما هو أكثر من ذلك، ولهذا فإن المرأة المتبرجة في تلك المجتمعات تخشى أن تسير وحدها منفردة، حتى ولو كان لها ضرورة في الليل فإنها تخشى أن تخالط بعض الأماكن أو أن تلم بها، فأية حرية تكون في ظل هذا الخوف والإرهاب الذي سلط عليها؛ بسبب من عملها وتبرجها؟ ثم كذلك عندما ننظر إلى هذه الاعتداءات الأمنية نجد أن واقع القوم يشهد بحكمة تشريع الإسلام، ونعمة ما عند المسلمين من الأحكام.
فالشرطة البريطانية في إحدى المدن بعد كثرة جرائم الاغتصاب والاعتداء على النساء بصور مختلفة، وزعت إرشادات أمنية على النساء في كتيب، وذكرت فيه اتباع الإجراءات الأمنية التي تقي النساء من الاعتداءات، فماذا جاء في هذا الكتيب؟ وماذا جاء في هذه الإرشادات؟ إن من أهمها وأكثرها وأبرزها أهمية: ألا ترتدي المرأة الملابس الفاتنة القصيرة التي تكشف عن كثير من أجزاء جسدها! وهذا لم نأت به من عندنا، ولم نعطهم آيات من قرآننا، ولم نذكر لهم أحاديث من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما شعروا بأن هذا سبباً من الأسباب، وأخذوا به، أو أرادوا أن يأخذوا به، لا لدين ولا لتشريع، وإنما لمقتضيات أمنية بحتة صرفة كما يقال.
والمرأة المسلمة المتحجبة في أمن من الاعتداء عليها بالنظر أو الاجتراء عليها بالقول، فضلاً عن الاعتداء عليها باليد أو الاعتداء عليها بالاغتصاب، ومجتمعات المسلمين ما بليت بالجرائم التي نسمع بها في بعض بلاد الإسلام إلا عندما وجد التبرج، وكثر الاختلاط، نسأل الله عز وجل أن يحمينا وأن يعافينا.(41/6)
الحجاب تحرير من فقدان المرأة للفرص العلمية والعملية في الحياة
والحجاب أيضاً تحرير من فقدان المرأة للفرص العلمية والعملية في الحياة: وقد يعجب الإنسان عندما يسمع مثل هذا الكلام، ولكني أيضاً أقول وأبين هذا من واقع المجتمعات التي ينظر إليها بعض المسلمين على أنها المجتمعات التي يراد لنا أن نقتدي بها: إن المرأة عندما تتبرج تبقى بصورة بارزة ينظر إليها الرجال، ومهما غلفت هذه اللقاءات بأغلفة مختلفة من العمل أو التعليم أو غيره، فإن النظرة التي فطر عليها البشر بين الرجال والنساء هي التي تطغى عندما يحصل استمرار الاختلاط ووجود التبرج، فهناك أربعون مليون امرأة في أمريكا -كما جاء في بعض الدراسات- يتحرش بهن رؤساؤهن في العمل تحرشات جنسية! فهذا عمل، وهذا ميدان للإنتاج، فما الذي يدخل هذا الجانب؟ إنه طبيعة الأمور وفطرتها التي لا يمكن أن تتغير.
وفي إحدى الشركات البريطانية واسمها شركة (أركليز كارز) عممت الشركة على الموظفات تعميماً داخلياً، جاء في هذا التعميم: عدم ارتداء النساء للملابس المثيرة، وجاء في نفس هذا التعميم: أن هذا يشغل العاملين من الرجال؛ لنظرهم إلى النساء، وكلامهم عنهن، وانشغال مجموع العاملين بمثل هذه الأمور، مما يضيع مصلحة العمل! فهذا أيضاً لم يأت به قرآن ولا سنة، وإنما جاء عندهم مصلحة العمل والوظيفة كما يقال.(41/7)
الحجاب تحرير من المشكلات الصحية
في الحجاب تحرير من المشكلات الصحية التي لن نتطرق فيها إلى الأمراض التي تنشأ عن الحرية الإباحية الجنسية، وما فيها من البلايا والإيدز وغيره من الأمراض، وإنما حتى على مستوى الحجاب، وترك الحجاب، والتبرج الذي يقع على الشواطئ وغير ذلك: أثبتت الدراسات أن النساء اللاتي يتعرضن للشمس على شواطئ البحار والأنهار مما نعرف صورته ونعف عن ذكره؛ أنهن أكثر تعرضاً للإصابة بسرطان الجلد أكثر بثلاث عشرة مرة من غيرهن من النساء.
وأثبتت الدراسات أيضاً أن المرأة التي تكشف أجزاء من بدنها طوال الوقت وفي سائر الأحوال والظروف المناخية والعملية، أنها أكثر عرضة للتشوهات الجلدية من غيرها، فالمرأة المحجبة بهذا قد حرصت وقد حفظت نفسها من هذه المشكلات بإذن الله عز وجل.
أضف إلى ذلك ما يقع من المتبرجات من الإسراف في أدوات التجميل، ولها آثارها الصحية على الجلد وغيره، مما يطول ذكره ولا ينتهي أمده فيما يعقد من الدراسات والأبحاث الطبية.(41/8)
الحجاب تحرير من فقدان شخصيتها النسائية
وفي الحجاب أيضاً تحرير للمرأة من فقدان شخصيتها النسائية: وهذا أمر في غاية الأهمية؛ فإن المرأة طبعت في أصل فطرتها على الحياء، وعلى الرقة، وعلى الحنان، فإذا جاء هذا التبرج، وتركت الحجاب، وتركت البعد عن مجتمعات الرجال انهار سد الحياء، وإذا نزع الحياء فلا تأمل من وراء ذلك إلا كل شر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيما صح عنه: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فإذا نزع الحياء من المرأة صارت أكثر فحشاً من الرجل.
والحياء والدلال في المرأة سبب فطري من أسباب الانجذاب بين الرجل والمرأة، وعمران الكون والحياة بتكوين الأسرة، فالمرأة عندما تختلط ينزع منها الحياء، وتنزع منها الرقة، والحنان، والهدوء، وطبيعة المرأة التي هي نوع من أنواع السكن، ونوع من أنواع التكامل مع قوة الرجل وصلابته، فحينئذٍ يحصل ما يحصل في تلك المجتمعات من وجود الشذوذ بين الرجال والرجال، والنساء والنساء، نسأل الله عز وجل السلامة! ونجد أيضاً أن هناك النظرة التي لا ينظر فيها إلى المرأة من جهة عقلها ولا فكرها ولا شخصيتها، وإنما ينظر فيها إلى مفاتنها وإلى ما تبرزه في تبرجها، فنحن نرى أن الوظائف إذا شغرت عند أولئك القوم ليس بالضرورة أن تكون المؤهلة هي الأولى في ذلك، بل كثيراً ما ينظر إلى شكلها وإلى هيئتها وإلى لونها، وإلى تجاوبها في المقابلة أو استعدادها لأن تكون مرنة في العمل مع رؤسائها، ونحو ذلك؛ هذا جانب.
وهناك جانب آخر: فإننا نرى مجلات النساء ومجلات المرأة ماذا تبرز لنا؟ هل تبرز لنا المرأة المخترعة؟! وهل تبرز لنا المرأة المفكرة؟! إنها تبرز لنا أكثر ما تبرز الصور الفاتنة على الأغلفة، وتبرز لنا مساحات واسعة من صفحات موضات الأزياء، وصفحات أوسع من صفحات أدوات التجميل، فجعلوا شخصية المرأة منحصرة في هذا الجانب الذي لا يشرف المرأة أن تكون اهتماماتها وأن يكون تفكيرها في هذا الجانب.
فمن هنا يحررها الحجاب من أن تكون النظرة إليها، والنظرة منها لهذا الجانب وحده، وهو جانب الجمال والفتنة وما يتعلق به؛ لأن الإسلام نظر إلى المرأة نظرة شخصية متكاملة لها عقلها وفكرها ورأيها وقدرتها على التربية، وحسن سياستها لأسرتها، وحسن رعايتها لزوجها، فليست المرأة هي هذه المفاتن وهذه الإغراءات فقط، وهؤلاء هم الذين يتهمون بهذا، ولا يتهم به الإسلام الذي يدعون أنه عندما يمنع المرأة من التبرج أو يلزمها الحجاب أنه لا ينظر إليها إلا أنها عورة، وأنه لا ينظر إليها إلا من النظرة الجنسية، بل أولئك هم الذين يستحقون هذا الوصف، وهذا دليل القول عليهم من واقع مجتمعاتهم، ومن واقع ما يدعون إليه نساء المسلمين، ومن واقع ما وقعت فيه مجتمعات المسلمين عندما دخلت إلى هذه الميادين.(41/9)
مقارنة بين نساء اليوم ونساء السلف
فماذا ترى في اهتمامات المرأة المسلمة التي فتنت اليوم بما فتنت به إلا من رحم الله؟! إنها تشتري المجلات بالأثمان الغالية؛ لتنظر إلى هذا الزي أو إلى هذا اللون أو إلى ما تتحدث به الممثلة الفلانية، أو ما تقول به الرياضية الفلانية، إلى غير ذلك، فجعل الاهتمام في هذا الجانب، واهتمام نساء المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك، ورد في صحيح البخاري ومسلم: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لـ عمر: (انطلق بنا فلنزر أم أيمن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيها ويقيل عندها في بيتها، فلما جاء أبو بكر وعمر ودخلا عليها بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن؟! قالت: والله ما أبكي على شيء، إلا أني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا)، فانظر إلى المرأة المسلمة ما الذي كان يحزنها، وانظر إلى المرأة المسلمة ما الذي كانت تفكر فيه! وهذه أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون في مستقبل الزمان، وأن المسلمين سيغزون أهل الكفر على البحر، قالت: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم)، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم، فركبت البحر في الغزو جهاداً في سبيل الله، ونصرة لدين الله عز وجل.
ومفاخر نساء الإسلام اليوم قد تجدها منصرفة إلى جانب: فلانة ماذا صنعت، وبأي أثواب أتت من شرق أو غرب، وفلانة ماذا صنعت من جمال شعرها، أو من تغيير وجها إلى غير ذلك! وأما مفاخر نساء الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت غير ذلك، فهذه زينب أم المؤمنين رضي الله عنها تفاخر بقية أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات)، وهذه أسماء بنت عميس هاجرت الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، ولما افتخر عمر رضي الله عنه بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وشهود المغازي في بدر وأحد التي لم يشهدها أهل الحبشة، ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن ابن الخطاب يزعم كذا وكذا وكذا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن لكم أهل الهجرتين لأجرين)، فافتخرت بذلك، قال الراوي: فجعل أصحاب الهجرة يردون إليها يسمعون منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذه صور وومضات سريعة مما يعطيه الحجاب للمرأة المسلمة من أمن نفسي، ومن وقاية صحية، ومن حفظ لأمنها وعرضها، وغير ذلك من المصالح، نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعصمنا بشرعنا، وأن يلزمنا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(41/10)
ذكر بعض أحوال نساء السلف في الحشمة والتستر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى لنساء المسلمين التزام الحجاب، والتزام شرع الله عز وجل بالبعد عن الاختلاط بالرجال، فهذه عائشة رضي الله عنها تثني على نساء الأنصار وتقول: (نعم النساء نساء الأنصار؛ لما نزلت آية الحجاب ابتدرن إلى مروطهن فشققنها، فاتزرن بنصفها، واعتجرن بنصفها الآخر، فما جاء الفجر إلا وكأن على رءوسهن الغربان).
وهذه امرأة -كما ورد في الصحيح- تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (يا رسول الله! إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي، فقال لها عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك أجر، فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها الله ألا تتكشف)، فصبرت على المرض، ولم تصبر على التكشف في حالة هي معذورة فيها؛ لأنها ليست باختيارها، وليست بقدرتها أن تمنعها، فأرادت أن تحفظ عورتها، وألا يتكشف شيء منها، وصبرت على المرض وعلى المعاناة ابتغاء أجر الله سبحانه وتعالى.
فهذه صور من صور كثيرة كانت في مجتمعات المسلمين عبر التاريخ الإسلامي؛ نذكر بها نساءنا وأخواتنا في مجتمعات المسلمين ممن قد فقدن هذه الحشمة وتلك العصمة والحماية التي منحهن الله عز وجل إياها.(41/11)
الحجاب تحرير للمرأة من هدم أسرتها
ومن أعظم الفوائد وأسباب التحريم: أن الحجاب تحرير للمرأة من هدم أسرتها: وهذا أمر مهم ينبغي أن تفطن له المرأة المسلمة؛ فإن التبرج الذي قد تفعله المرأة الشابة الصغيرة التي لم تتزوج بعد، سبب من أسباب هدم الأسر، فهذه المرأة التي تتبرج سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، قد يلتفت إليها نظر رجل متزوج آخر، وقد تكون عنده مشكلات أسرية، وحينئذٍ ينسج الشيطان نسيجه، ويعمل عمله، فتقع حينئذٍ لقاءات محرمة آثمة، ويقع حينئذٍ ما قد يقع؛ بسبب أن الأسرة فيها بعض المشكلات.
وفي الجانب الآخر أيضاً يرى الرجل أو ترى المرأة أن هذه لذة ليس وراءها تعب ولا مسئولية.
فلتعلم المرأة التي تتبرج أو تدعو للتبرج أن لها أخوات أخريات سيتبرجن، فسيكون من أثر تبرجهن فساد لزوجها، أو فساد لابنها! ولو تبرجت ابنتها فسيكون من ذلك الشاب أو ذاك فساد لابنتها! فالمسألة ليست متعلقة بالمرأة وحدها، وليست متعلقة بالمتبرجة وحدها.
ورحم الله الأديب الرافعي عندما تحدث عن هذا الأمر، حيث قال: كأن المرأة المتبرجة في المجتمع كالنار الموقدة في الحفرة، فهل نحذر الناس منها ونمنعهم من القرب منها، أم نقول: لهم مطلق الحرية أن يدخلوا إليها؟! وهذا هو فقه الاجتماع الذي ذكره في هذا الباب.
والمسألة في هذا الجانب من أهم المسائل التي ينبغي أن تنظر إليها المرأة لمصلحتها أولاً وأخيراً.(41/12)
أهمية حذر المرأة من التبرج والسفور وأسباب الفتنة
وهذا الذي نراه في المجتمعات التي وقع فيها التبرج من مجتمعات المسلمين، فالمرأة التي تنادي بالتبرج أو تفلسف التبرج أو تدافع عنه، باتت اليوم تشكو منه؛ لأنه سرق منها زوجها، وأفسد عليها ابنها، وربما ضيع عرض ابنتها!! لأن هذه الفوضى لا يمكن أن تسمى حرية، بل هي جديرة باسم الفوضى؛ ولذا سيكون لها مثل هذه الآثار الوخيمة.
وينبغي أن ندرك أن قضية المرأة وكشف العورات والتبرج هو أعظم أعمال الفتنة الشيطانية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وليس ذلك نقصاً في النساء أو عيباً فيهن، ولكن عندما يخالفن أمر الله تقع الفتنة للرجال، فيقع الفساد في المجتمع، ويقع الضرر أكثر ما يقع على المرأة نفسها، فالمتبرجة الشابة قد ينظر إليها الشاب ويطري جمالها، ولكن لنزوة في النفوس وحاجة، فإذا أُخذت الحاجة منها، وإذا سُلبت أعز ما تملك، وإذا تقدمت بها السن أو اعترضتها الأمراض، أو تشوه منها جمالها، فلا ينظر إليها أحد، ولا يعطف عليها رجل؛ لأنه ليست له عندها غاية ولا مبتغىً.
فينبغي أن تدرك المرأة هذه الحقيقة، والله عز وجل قد قال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27].
قال بعض أهل التفسير: سميت العورة سوءة لأنه يسوء الإنسان أن تُكشف، وأن تظهر.
وهذه هي الفطرة السليمة، ودعك من القوم الذين سابقوا الحيوانات في حيوانيتهم؛ فإنهم ليسوا من البشرية ولا من الفطرة السوية في شيء، ولذلك وصف نزع اللباس وكشف السوءة بأنه هو العمل الشيطاني الأول، ولذا قال سبحانه: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27]، وأعمال أبالسة الإنس تدل على هذا، ولسنا بصدد أن نذكر ما هو في الصحف والمجلات والإعلانات، حيث يعلن -مثلاً- عن الكفرات أو عن المعدات الثقيلة التي تحفر أو تهدم أو تبني، ويوضع مع هذا الإعلان صورة المرأة! ولا رابط بين هذا وهذا مطلقاً إلا المتاجرة بأعراض النساء ومفاتنهن، وجعلت المرأة بهذا سلعة، فالحجاب يحفظها من أن تكون مهانة، وأن تبقى -بإذن الله عز وجل- مصانة، وأن تكون لها العزة والكرامة في دين الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يجمل نساءنا بالحياء، وأن يسترهن بالحجاب، وأن يحفظ علينا ديننا، وأن يحفظ عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، يا أكرم الأكرمين ويا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وقرب فرجهم، وعجل نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار! اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانةً صالحةً تدلهم على الخير، وتحثهم عليه، وتحذرهم من الشر، وتمنعهم منه يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(41/13)
الحج وتطهير الحرمين
لقد خص الله سبحانه وتعالى عشر ذي الحجة بخصائص وفضائل، حيث جعل فيها ركناً من أركان الإسلام ألا وهو الحج، كما أنه تجتمع فيها كثير من الطاعات من صيام وذكر وصدقة وطواف وتلبية ونحر وهدي وغير ذلك، وهذا يدلنا على عظمة هذه الأيام.
وكما خص الله تبارك وتعالى ذلك الزمن بتلك الفضائل فقد خص أيضاً مكة بفضائل دون غيرها من الأماكن، فإليها يفد الحجاج والمعتمرون من مشارق الأرض ومغاربها، ولها فضائل غير ذلك، لذا كان لزاماً أن تطهر تلك البقاع الطاهرة من الأرجاس والأنجاس والأدناس.(42/1)
فضائل عشر ذي الحجة
الحمد لله الذي جعل الإيمان أمناً وأماناً، والإسلام سلماً وسلاماً، وأحكام الشريعة صلاحاً وأماناً، والخروج عنها ضنكاً وضيقاً، نحمده سبحانه وتعالى شرع الحج إلى بيته الحرام، وألزم بتطهيره من الذنوب والمعاصي والآثام، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، ونحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافةً أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! ها نحن نستقبل أيام شهر ذي الحجة، ونلج إلى موسم فضل عظيم، وأجر عميم، وفريضة جليلة، وأنوار وفضائل وبركات وخيرات عظيمة، أفاضها الحق سبحانه وتعالى علينا، وخصنا -معشر أمة الإسلام- بها، وجعل فيها من الأجور ومضاعفة الحسنات، ومن التكثير ومحو السيئات، ومن الجمع والاجتماع وظهور الخيرات ما لا يكون في غيرها من الأيام والليالي.
أيام عظيمة وموسم كريم أظهر الحق سبحانه وتعالى صوراً كثيرة من فضيلته وأجره وأهميته ونفعه، فأقسم سبحانه وتعالى للتعظيم وبيان الأهمية لهذه الأيام بها، فقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، وهي عشر ذي الحجة على ما ذهب إليه جمهور العلماء.
وفي ذلك روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العشر عشر ذي الحجة، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر) رواه الإمام أحمد والطبراني والبزار والحاكم وصححه.
وفي الحديث العظيم من رواية الصحابي الجليل ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري وغيره.
فما أعظم هذا الأسلوب النبوي البليغ الذي يهيج النفوس إلى الطاعة، ويبعث القلوب ويعلقها باغتنام هذه الأوقات الفاضلة والمواسم الخيرة (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر) صيغة التفضيل المطلقة، صيغة تدل على عظمة كبيرة ومحبة جليلة من الرب الخالق المالك سبحانه وتعالى لمزيد العبادة له وشديد الحرص على التقرب إليه في أيام هي من أيام الله سبحانه وتعالى وموسم هو من مواسم فرائض الله جل وعلا، وفي مكان وزمان تشهد فيه جموع غفيرة من أمة الإسلام أداء المناسك في أفضل بقاع الأرض كلها، في الحرمين الشريفين والمناسك المقدسة، ويزيدنا ذلك في آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أهميتها وفضيلتها.
قال ابن حجر: فيها اجتماع فضيلة الزمان والمكان بالنسبة للحجاج.
ثم قال: وفيها اجتماع العبادات من الصيام والصدقة والصلة والحج والعمرة والإنفاق والنحر والأضحية ما لا يجتمع في غيرها من العبادات في سائر الأيام، وهي فضائل بعضها فوق بعض.
ومن هنا كان تصرف أسلافنا، فهذا سعيد بن جبير رحمه الله كان إذا دخلت عشر ذي الحجة اجتهد في العبادة حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم في ليالي العشر.
وقد وردت أحاديث فيها إشارة إلى صيام هذه الأيام، وبرز في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها، والتاسع من هذه الأيام ثابت بالحديث الصحيح صيامه لغير الحاج.
وكذلكم نجد في فضيلة هذه الأيام ما اختصت به من الذكر والتهليل والتكبير لعموم المسلمين، والتلبية للحجاج والمعتمرين، مما ينبغي أن ينشغل به المسلمون في مثل هذه المواسم العظيمة.(42/2)
خصائص بلاد الحرمين الشريفين
في تلك الأيام تفد الوفود وتلبي النداء جموع من المسلمين من كل بقاع الأرض، إنهم ليسوا من بلد واحد، بل من بلاد شتى، ولا من عرق واحد، بل من أعراق مختلفة، ولا من لغة واحدة، بل من لغات متباينة، إنهم يأتون من كل حدب وصوب، أي شيء يقصدون؟ يقصدون وجه الله، ويتوجهون إلى بيت الله، ويؤدون فريضة الله، لم يأتوا إلى مكة لجمالها أو لخضرتها، لم يأتوا إلى تلك الديار ليأكلوا من طعامها أو شرابها، أو ليسكنوا في دورها وبيوتها، ليس لهم مقصد حرك قلوبهم وهممهم وأضناهم في مشقتهم وسيرهم وسفرهم، وبذلوا في ذلك من أموالهم ومن عرق جبينهم إلا غرض واحد فقط، وهو تعظيم بيت الله وأداء فريضة الله.
وانظر معي -أخي المسلم- إلى التاريخ القرآني تذكره لنا آيات ناطقة شاهدة {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26].
ذكر أهل التفسير أن هذا الأمر لإبراهيم الخليل عليه السلام فيه دلالة عظيمة على اختصاص هذه البقاع بتوحيد الله سبحانه وتعالى، ونفي الشرك، والأمر بالطهارة العامة، بحيث لا يكون هناك شيء لغير الله، ولا معصية لله، ولا حكم لغير حكم الله، تطهير شامل لهذه البقاع المقدسة والبلاد الطاهرة، فيأتي المسلم من بلاد الإسلام وقد وقع فيها ما وقع من أمور كثيرة واختلالات عظيمة وانحرافات كبيرة يأتي إلى هذه البلاد فيرى قبلة الإسلام ورمز التوحيد، وجموع المسلمين وهي تلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) ثم يرى في هذه البقاع المقدسة شعائر الإسلام الظاهرة، فقبل أن يؤذن المؤذن تغلق المتاجر أبوابها؛ ليتوجهوا لأداء صلاتهم وفريضة ربهم، فهذا الذي ينبغي أن يراه في هذه البلاد من إعلاء وإعلان شريعة الله التي أمر بها إبراهيم الخليل عليه السلام، وجددها محمد صلى الله عليه وسلم في سلسلة بينهما من رسل الله وأنبيائه، وتأمل الآيات فإن فيها كثيراً من الدلالات {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وفي الآيات: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28].
قال أهل التفسير: أي: من منافع الآخرة والدنيا، يأتون ليغسلوا قلوبهم، ويتطهروا من ذنوبهم، ويجددوا إيمانهم، ويؤكدوا عهدهم وعقدهم على التزام دين ربهم وإعلاء شريعته والتزام أوامره واقتفاء سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وفي الآيات: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30].
قال أهل التفسير: ((ومن يعظم حرمات الله)) أي: يعظم ما حرم الله فيستعظم ارتكابه، ويجعل في نفسه من الخوف من ذلك والورع عنه والبعد ما يجعله أبعد ما يكون عن مقارفة الإثم أو الإقرار به، أو ارتكاب المعصية أو المخالفة، فضلاً عن المطالبة بشيء مخالف لشرع الله، أو إقامة وإقرار شيء مناقض لشرع الله عز وجل، وذلك ما ينبغي أن يكون خصيصةً لهذه البلاد التي يفد الناس إليها، يريدون أن يروا فيها الإسلام الكامل الذي قد تنتقص بعض صوره في أحوالهم وبيئاتهم.
إننا ينبغي علينا أن ندرك أن قلوب المسلمين قد تعلقت بهذه البلاد، بالحرمين الشريفين، وبصبغة الإسلام الظاهرة، وراية شريعته المعلنة، وإلا فهل تظن أن الذين يقيمون في هذه البلاد لا يريدون إلا رزقها وأجرها؟ إن بعضاً منهم -وهم كثر ليسوا قلة- من أصحاب الشهادات العالية، وبعضهم كانوا يعملون أطباء ومهندسين في بلاد الشرق والغرب في أحسن وأرقى المستويات المعيشية، تركوا ذلك كله خلف ظهورهم، واسأل أحدهم: لم جئت إلى هذه البلاد؟ إنه يريد أن يتنفس هواءً نقياً طاهراً غير ملطخ برجس الآثام والمعاصي، وليس مضللاً بتشريع يناقض شريعة الله، إنهم يقولون لك: قد كبر أبناؤنا وبناتنا، ولا نريد أن يدخلوا في جحيم الاختلاط والتبرج والفسق والفجور.
إنهم يقولون: نريد أن نفيء إلى ظلال نسمع فيها صوت الأذان يدوي خمس مرات ويهرع الناس ويتركون وراءهم دنياهم، ويتركون أعمالهم رسمية وأهلية ليعلنوا مظاهر الإسلام، وهم يرون في بعض بلادهم أن الجمعة تقام وإلى جوار أبواب المساجد من يشربون الدخان، ومن يسمرون ويلعبون ويضحكون، كأنه لا خطيب يسمعون صوته، ولا فريضة يؤدون واجبها، ولذلك نجد أن المسألة في هذا المعنى مهمة جداً.(42/3)
دعوة إلى المحافظة على خصائص بلاد الحرمين الشريفين
إن بلاد الحرمين الشريفين لها خصائص عظيمة هذه الخصائص متعلقة بوجود الحرمين الشريفين ووجود هذه الفريضة، هل يحج الناس إلى مكان آخر؟ فهل يحج المسلمون إلى بلد آخر؟ هل يقصدون موطناً آخر؟ هل في الدنيا كعبة غير التي في مكة؟ وهل هناك مثوىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير الذي في المدينة؟ وهل هناك بلاد من بلاد الإسلام ينبغي أن تكون أعظم صورة وأقرب صورة إلى الامتثال الكامل للإسلام من هذه البلاد؟ إن الناس قد فقدوا ذلك في بعض بلاد الإسلام والمسلمين، وكلنا يعلم ذلك، بل إن من بلاد المسلمين بلاداً فيها أحسن وأشهر مصانع الخمور في العالم، وإن من بلاد الإسلام بلاداً فيها تصاريح رسمية للبغاء والفسق والفجور، وتدفع فيها الضرائب للدولة، وإن في بلاد الإسلام والعرب بلاداً تمنع الحجاب للمرأة المسلمة في المدارس والمعاهد والكليات، بل في الشوارع والطرقات، أفليس من حق المسلمين على أقل تقدير أن يجدوا بلاداً هي موطن الإسلام طاهرةً خالصةً من تلك الأرجاس والأنجاس؟ أفليس هذا أمراً بدهياً؟ أفلا ترى معقل النصرانية في الفاتيكان خالصاً لها ولنوع الكنيسة التي تتبناها لا يشاركها فيها غيرها؟ وغير ذلك كثير.
إننا -ونحن نتحدث عن هذه الأيام العظيمة، وعن هذه المناسك الجليلة- لا شك نشعر أنه حديث مؤلم محزن، فهذه المزايا العظيمة وهذه الخصائص المهمة التي هي مهوى أفئدة قلوب المسلمين من القادمين المرتحلين حجاجاً ومعتمرين، ومن المقيمين الذين - وإن ضاقت معايشهم وإن تعسرت أحوالهم- لا يزالون مرابطين يريدون أن يتنفسوا -كما قلت- هواءً نقياً، يريدون أن يروا كلمة الإسلام العالية.
وليس حديثنا حديث مزايدة ورفع أصوات، وليس حديث مبالغة وتهويل، بل هو الأمر الحقيقي الذي إن لم ندرك خطورته يوشك أن نعض أصابع الندم في وقت لا ينفع فيه الندم، أفتبقى بلاد الإسلام الوحيدة على ما فيها من خير عظيم هدفاً لنقض هذا الخير ولنزع هذه الخصوصية، وللنداء المتكرر بأنه لا ينبغي لها أن تكون شاذةً عن العالم كله، ولا أن تكون مقيدةً -كما يزعمون- بهذه الأحكام الشرعية، وكلنا سمع الأنباء والأخبار التي تعلقت بشأن المرأة وحجابها ومشاركتها واختلاطها، وأهميتها -كما يقولون- في التنمية وغير ذلك.
وكلنا عرف بعض هذه الأمور التي أرادوا منها -كما يصرح أصحابها- أن ينقضوا تلك الخصوصية، وأن يخترقوا تلك المعاقل المحصنة بحصون الإسلام المتينة، حتى وقع ما وقع من أمور فيها إظهار للمخالفة السافرة لهذه الأحكام الشرعية الظاهرة، ليس في دائرة ما قد يكون مختلفاً فيه عند الفقهاء اختلافاً معتبراً، بل فيما هو مجمع عليه أنه محرم ولا شك في حرمته من السفور بظهور الشعور وغيرها، ولذلك هذه المسائل ربما يقال: إن الوقوف عندها إنما هو مبالغة ليست في محلها.
ولكني أقف قبل أن أسترسل وقفةً مع غيظة إيمانية نحمد الله عز وجل على بقائها ونسأله دوامها، وهي فيما كان من موقف المفتي العام الذي نبه وأنكر وشدد وحذر من الانفلات الذي يراد أن يمرر بسياسة الأمر الواقع في شأن المرأة المسلمة ونزع حجابها وإقرار اختلاطها، وزعمهم أن ذلك ليس فيه شيء من معارضة الإسلام، وكان مما ذكره حفظه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا أمرٌ يتعلق بحديثنا هذا، حيث قال: وإني إذ أنكر هذا الأمر أشد الإنكار وأبين حرمته وأحذر من عواقبه الوخيمة ليزداد ألمي من صدور مثل هذا التصرف المشين في بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية التي دأب ولاة الأمر فيها على القيام بالشرع لا يخافون في الله لومة لائم، وعلى حمل الرعية على ذلك، وهم -ولله الحمد- لا يزالون يسيرون على هذا الطريق المستقيم.
ثم يستشهد بكلمة للملك الراحل عبد العزيز يقول فيها: أقبح ما هنالك من الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها.
ويزيد المفتي العام كلمة رائعة من كلام ابن القيم ينقلها، وهي قوله: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد الأمور العامة والخاصة.(42/4)
المرأة بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي
ووقفة هنا نذكر فيها من أرجف في هذه المسألة بقول أو فعل أو دفاع، ولست أنقل هنا آيات وأحاديث في شأن الحجاب وغيره من الأدلة، فنحن في غنية عن ذلك؛ لأن الأدلة الظاهرة الواضحة لا تحتاج إلى مثل هذا التفصيل، ودائرة الاختلاف الفقهي المعتبر واضحة معلومة، وما وراءها من المحرمات التي لا يشك في تحريمها ظاهرة، ولكني أنقل لك بلسان أعجمي غير مبين، ومن كلام أهل الكفر الذين ربما جعل بعضنا بعضهم قدوة لهم، وفي المسألة ذاتها.
فهذا كاتب أمريكي شهير يكتب مقالة يقول فيها: على حائط مكتبي صورتان: الأولى: صورة امرأة مسلمة تلبس البرقع، وبجانبها صورة متسابقة جمال أمريكية لا تلبس شيئاً سوى ما يستر العورة المغلظة.
ثم بدأ يتحدث عن الصورتين -حتى لا نشك في أنه مسلم أو أنه تأثر وتسمم فكره بما عند المسلمين من هذه الأفكار- يقول: لست خبيراً في شئون النساء المسلمات، وأحب الجمال النسائي كثيراً، مما لا يدعوني للدفاع عن البرقع هنا، لكني أدافع عن بعض من القيم التي يمثلها البرقع لي.
يقول: بالنسبة لي يمثل البرقع تكريس المرأة نفسها لزوجها وعائلتها، هم فقط يرونها، وذلك تأكيد لخصوصيتها.
تركيز المرأة ذات الصورة منصب على بيتها وعشها حيث يولد أطفالها وتتم تربيتهم، فهي الصانعة المحلية، هي الجذر الذي يبقي على الحياة، وروح العائلة، فهي تربي وتدرب أطفالها وتمد يد العون لزوجها، وتكون ملجأً له.
إنه يرى في هذا بعضاً من وجوه الإيجابية في نظره، ويصرح بها، والعقلاء من أهل الإسلام يعرفون حقيقتها.
يقول: إن هذا يمثل خصوصية العائلة، يمثل رعاية الزوج، يمثل تربية الأبناء.
ويزداد الأمر إيضاحاً عندما ينتقل إلى الصورة الأخرى من بنت بلده وبنات جنسه اللائي يراهن صباح مساء في واقعه.
يقول عن الأخرى: تختال عارية تقريباً أمام الملايين على شاشات التلفاز، وهي ملك للعامة، تسوق جسمها إلى المزايد الأعلى سعراً، وتبيع نفسها في المزاد العلني كل يوم.
في أمريكا المقياس الثقافي لقيمة المرأة هو جاذبيتها، هي تشغل نفسها وتهلك بظهورها، تتعلم لتكون محبوبةً إذا مارست الجنس، تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد، خدعة قاسية أغوت النساء الأمريكيات، وخربت الحضارة الغربية.
لو قال هذا مثلي أو مثلك -أخي القارئ- لوصف بأنه متحجر الفكر، إرهابي النظرة، ضيق الأفق، سقيم العقل، فكيف وهذا كاتب مشهور اسمه هنري ماكود.
ويقول آخر في تحقيق أجراه في بعض مناطق السعودية في صحيفة سائرة شهيرة، جاء وعنده خلفياته عن الحجاب، وعن المرأة المكبلة الغبية التي تكون في البيت أدنى من الخادمة وأحقر من الحيوان كما يصور له ذلك الإعلام في بلده، جاء ليقول: لغز الحجاب الذي يثير حفيظة الغرب غير مطروح التساؤل هنا في السعودية، الحجاب لم يقف حائلاً أمام تطور المرأة هنا، فالسعوديات مؤهلات للتعامل مع أحدث برامج الحاسوب والإدارة ونظريات التعليم، بل إن القطاع الواسع من النساء السعوديات المتعلمات يدافعن عن الحجاب كمنظومة تحكم علاقة المرأة بالرجل في إطار أوسع.
ثم يقول وتأمل معي كلام من ليس على ديننا- يقول: وبالرغم من انفصال التعليم بين الطلاب والطالبات فإن تعليم البنات يخرج آلاف الطالبات الحاصلات على شهادات جامعية، بل إن بعض النساء يدرن أعمالهن الخاصة بأنفسهن.
ثم في تحقيقه يسأل امرأة أمريكية عاشت هنا عقداً طويلاً من الزمان، فتقول له: إن النظرة الغربية والتأطير السلبي الذي يحيط بحجاب المرأة المسلمة غير صحيح، أعتقد أن المرأة هنا تأخذ دورها الطبيعي، ودون ضجة أو تغييرات حادة شبيهة بتلك التي تحدث في الدول الغربية وأمريكا.
ثم يسأل في تحقيقه بعض النساء المتعلمات المتحضرات من بنات بلدنا فتقول: نحن نعتقد أننا نعرف عنكم وعن الأخلاق المتفشية بينكم إلى الحد الذي يجعلني أقول: لو سألتني: هل أريد هذه الحرية الغربية فإن إجابتي ستكون في ثلاث كلمات: لا ثم لا ثم لا.
إن الدين هو الذي يملي، هو الذي يضبط، وهو الذي يحكم تصرف الإنسان، ومن كان مخلصاً في دينه التزم الضبط الذي يحرك مساره.
ثم يقول الكاتب بعد خلاصة تحقيقه: النساء هنا يشعرن أن النظام الأخلاقي الإسلامي يحفظ للمرأة كرامتها من التعرض للمشاهد التي تخدش الحياء.
وينقل عن سيدة متعلمة قولها هنا: لا مظاهر فاحشة، ولا اختلاط بين المرأة الأجنبية والرجل إلا في أضيق نطاق، نحن سعيدات بهذا بلا شك.
وهذا -كما قلت- نحن في غنىً عنه، لكنا نرسله لمن يقولون بغير هذا، ويوم أن تحدثت امرأة حاسرة عن شعرها أمام مجمع من الرجال وصف خطابها وكلامها بأنه خطاب تاريخي، ولست أدري أين هي العقول التي يقولون: إنها كبيرة؟! هل هذه التي تجعل كلمات من امرأة في حدث عارض هامشي خطاباً تاريخياً أو غير ذلك؟! وانظر -أيضاً- إلى خلاصة لكاتب كتب يقول: (كل مولود يولد على الفطرة.
أي: والفطرة هي السليقة بطبيعتها، فلو ذهبت إلى الغابة ورأيت الحيوانات لرأيت الاختلاط فطرة طبيعية فيما بينها، ليس هناك غابة للإناث وغابة للذكور.
ثم ينتقل ليقول: إن الإنسان كرمه الله عز وجل بالعقل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فيختلف الإنسان عن الحيوان في أن الفطرة واحدة في الاختلاط، ولكن عقل الإنسان يجعله منضبطاً؛ لأن الإنسان حيوان بهيمي بطبيعته، فهو لذلك على الفطرة ينبغي أن يكون مختلطاً رجاله ونساؤه، ثم العقل بعد ذلك يضبط هذه الغرائز ويحكمها.
وهذا القائل دكتور أكاديمي وأستاذ جامعي.
ثم يقولون عنكم -معاشر المحبين للدين الملتزمين به الناطقين بحججه من الآيات والقرآن-: إن عقولكم صغيرة وإن حججكم واهية.(42/5)
أراجيف حول المرأة في صحفنا المحلية والرد عليها
أنتقل إلى ذكر كلمات محزنة مؤلمة منشورة في صحافتنا المحلية آنياً وقبل فترات مختلفة، وأذكر بأن لا ننسى ما قاله الأمريكان أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعور الشقراء.
يقول أحدهم في صحافتنا المحلية: علينا -إذاً- تحرير المرأة من كثير من القيود والعادات، وكثير منها ليس لها أصل شرعي.
وكثير من هؤلاء صاروا من مفتي الديار، وأحدهم ربما لا يحسن تلاوة آيتين أو ثلاث من القرآن.
ثم يقول: هل يجوز أن تبقى المرأة تابعة للرجل بعد أن حررها الإسلام من قيود الجاهلية، وأعطاها حق تطليق نفسها، وبذلك تكون العصمة في يدها؟ وهذا فقه حديث أظنه يضاف إلى ما سبق من فقه الأئمة الأربعة.
ويقول آخر: التوسع في مجالات عمل المرأة يقتضي تغيير القيم الاجتماعية البائدة التي تسيطر على بعض العقول، وتغيير هذا يستدعي المجابهة والمواجهة.
ويقول: إن الحساسية في التعامل مع المرأة في المجتمع السعودي لا يكون إلا بالمواجهة.
أحسب أن في مثل هذه الكلمات ما يدلنا على خلل في الفهم، وعلى شهوة في النفوس، وعلى أمور كثيرة يحتاج هؤلاء فيها إلى مراجعة أنفسهم، ونحن قد تعودنا أن لا نستخدم الصراخ ورفع الصوت؛ فإن القضايا تحكم بميزان الشرع، وينظر إليها العقلاء بما هي عليه من واقعها وخطورتها.
ثم أيضاً لسنا في مقام الاتهام لهذا أو ذاك، لا رمياً له بكفر والعياذ بالله، ولا وصفاً له بفسق دائم أو فجور عام، ولكننا نقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعلتم ما يخالفها قلنا لكم: ارتكبتم محرماً واقترفتم إثماً وتعديتم على دين الله عز وجل -وهو أعظم شيء عند كل مسلم ومؤمن- واعتديتم على نظام هذه البلاد وخصوصيتها التي قد فقدت في كثير من بلاد الإسلام، حتى أصبح في كثير من بلاد الإسلام المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فهل يراد أن نسير خلف هذه المسيرة التي قد أوقعت أصحابها في مهاو كثيرة وشرور عظيمة في بلاد الغرب وفي بلاد الإسلام كذلك؟! ثم نقول: إن هذا يناقض قول الأغلبية كلها، ولإن قلتم بالديمقراطية فخذوا رأي الناس، وخذوا رأي النساء المسلمات في هذه البلاد، كم ستجدون من هذه الأصوات؟ ستجدونها شاذة ناعقة تغرد في غير سربها، وتأتي بلحن نشاز يفسد ما عليه الغالبية العظمى من نساء الإسلام في هذه البلاد، نسأل الله عز وجل أن يحفظها ويسلمها، فلماذا تتركون الديمقراطية في هذا الشأن وتجعلون لآحاد من الناس أن يقولوا: إن هذا هو المطلوب وهذا هو المرغوب؟! إذاً لا بد أن ننتبه إلى أن هذه القضايا قد وقعت في بلاد أخرى بدأت بمثل ذلك أو أقل من ذلك، وانتهت إلى ما تعلمون وترون وتشاهدون وتعرفون بأنفسكم، سواءٌ أكان ذلك في ديار ترجعون إليها أم في بلاد تزورونها.
نسأل الله عز وجل أن يجعل بلاد المسلمين طاهرةً مطهرةً مقدسةً خالصةً للإسلام وأهله، ليس فيها ما يناقض شرعه، لا في حكم ولا في نظام ولا في واقع ولا في طبيعة اجتماعية، ولا في أي جانب من جوانب الحياة.
ونسأل الله عز وجل أن يحفظ بلاد الحرمين، وأن يجعلها مهوى أفئدة المؤمنين، وأن يحفظ ولاة أمرها لإقامة شرع الله عز وجل فيها، وأن يسخرهم للوقوف في وجه كل من يعارض ذلك أو يناقضه.(42/6)
الفطرة تدعو إلى فصل النساء عن الرجال
لقد ابتدأت حديثي بفضيلة الأيام العشر، وذكر فريضة الحج، ولم يعكر صفو ذلك إلا ضرورة الحديث عن هذا الأمر وتعلقه بهذه البلاد مهوى أفئدة المسلمين، ومن هنا نقول لكثير من القائلين بهذا القول والمرجفين فيه، أو العاملين له والساعين إليه، أو المغررين به والمتأثرين به، نقول: إن جئتم إلى القرآن والسنة فلا تتعبوا أنفسكم؛ لأن أدلتها لا تسعفكم فيما تمضون إليه، بل هي على خلاف ما تريدون، وإن جئتم للواقع في بلاد كثيرة -مثل ما وقع من اختلال في بلادنا من قليل أو كثير- فإن المآسي والجرائم والمشكلات وتفكك الأسر وغير ذلك إنما هو من أثر هذا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، والعجيب العجيب أن واقع غير المسلمين يدلكم كذلك على هذا، وأن كثيراً من مواقف المسلمات من أهل الديار الغربية هنا وهناك من ذوات البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعور الشقراء هن ملتزمات بحجابهن، وتدخل المحاكم لئلا تتصور في بطاقة بغير حجابها وتكسب الحكم؛ ونحن هذا هو نظامنا وهذا هو شأن بلادنا، ونقول: أنريد محاكم حتى ننقض ذلك؟ عجباً لهذه المخالفات والتناقضات العجيبة، ولو رأيت وقرأت وتابعت لرأيت هولاً عظيماً فيما يجره الاختلاط والسفور من البلايا والمصائب العظيمة، وإن كثيراً من غير المسلمات أيضاً يدعين إلى الحشمة وإلى التستر دون أن يطالبن بإسلام، وربما بعضهن لا يعرفن الإسلام، لكنهن يعرفن أن هذا الفجور جر عليهن الجرائم والعدوان، وجعلهن سلعة رخيصة، أما سمعت عن عارضة أزياء أسلمت وتحكي قصصاً فيما كان من شأن حياتها السابقة قبل إسلامها وبعده.
أما عرفت أن الفلبين -وهي بلد لا تدين بالإسلام- قررت في بعض ولاياتها أن تخصص عربات خاصة في القطارات للنساء لا يركبها الرجال؟ لماذا هم معقدون؟! لماذا هم متخلفون؟! لست أدري هل هم مسلمون.
قضايا كثيرة ينبغي أن تثار، وفي غيرها من البلاد كليات وجامعات يزداد عددها تفصل الطالبات عن الطلاب؛ لأن القضية قضية فطرة فوق كونها قضية دين وإسلام وإيمان.
وأخيراً أؤكد الخطورة بأن هذا ديننا، فإن لم نغر على ديننا، وإن لم نتحرك، وإن لم نتألم، وإن لم نبك ونحزن لأجل هذا فكيف بنا بعد ذلك؟! وانتبه إلى أن الإدمان إنما هو من الكأس الأولى، وإلى أن الترخص في قليل يقود إلى كثير، وليست هذه مبالغات أكررها مرات ومرات؛ لأن الواقع يشهد بها، واقعنا وواقع غيرنا أظهر فيه الأمر وأشهر، فالله الله في هذه البلاد المقدسة، والله الله في الإيمان والإسلام الذي هو فريضة الله علينا ليس لنا فيه خيار {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، أفليس ما يقال ويطالب به مما هو مخالف للإجماع فيما حرم الله عز وجل في قضايا المرأة تقدماً بين يدي الله وبين يدي رسوله؟ أليس عدم استسلام وإيمان وقبول لحكم الله وشرعه؟ فليحذر هؤلاء على أنفسهم، وليخشوا على إيمانهم، وليلتفتوا إلى أمور قد يعضون هم قبل غيرهم أصابع الندم عليها.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ إيماننا وإسلامنا وبلادنا المقدسة وأحكامنا الشرعية وآدابنا الاجتماعية.
اللهم! رد عنا كيد الكائدين، وفسق الفاسقين، وخبث الخبثاء، يا رب العالمين.
اللهم احفظ نساءنا وجملهن بالحياء والحشمة والحجاب والزينة البعيدة عن الفتنة، اللهم! إنا نسألك أن تحفظ نساءنا من رجس الأرجاس ومن دنس الأدناس ومن هذه الدعوات الفاسقة الفاجرة.
نسألك -اللهم- أن تحفظ مجتمعنا من فتنة النساء على غير منهج وشريعة الله عز وجل.
نسألك اللهم أن تحفظ إيماننا، وأن تقوي إسلامنا، ونسألك -اللهم- أن تجعلنا من أهل الغيرة على دينك والحمية في نصرة شريعتك.
نسألك -اللهم- أن تجعلنا في كل أحوالنا لا نرضى إلا بما ترضى، ولا نغضب إلا عما لا ترضى، يا رب العالمين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانةً صالحةً تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وأحسن ختامنا، واجعل عاقبتنا إلى خير يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(42/7)
الهجرة وأزمة الأمة
إن المتصفح لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته قبل الهجرة وأثناءها وبعدها ليعجب من ثبات أولئك الرجال على الدين، وتضحيتهم بالمال والنفس والأهل لأجله، بينما لو نظر إلى واقع الأمة اليوم لرأى البون شاسعاً والفرق واسعاً؛ لأن أولئك عزُّوا بالإيمان واليقين، أما المسلمون اليوم فقد ذلوا وهانوا حين تركوا دين ربهم، وطلبوا العزة والنصرة من عدوهم وهو الذي أذلهم وأهانهم.(43/1)
صور من ثبات الصحابة قبل الهجرتين إلى الحبشة وفي أثنائها
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وعظم عطاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى جعل العزة في الإيمان، والقوة في الإسلام، والعاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين، له الحمد كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فدروس الهجرة وواقع الأمة موضوع مهم نحتاج إليه، ونحن ما زلنا في أفياء هذه الهجرة وظلالها، ولعلنا نقف وقفات سريعة عابرة فيما قبل الهجرة، وفي أثنائها، وفي أوائل ما بعدها لننظر في هذه الهجرة نظراً اعتبارياً يعيننا على فهم حقائق واقعنا، وعلى أن نبث في نفوسنا وقلوبنا من يقيننا وإيماننا ومن قدرتنا وقوتنا ما يزيل ذلك الوهن وينفي ذلك الضعف، ويمحو تلك الذلة التي تخيم على أمة الإسلام إلا من رحم الله.
صورة من الثبات على الدين، عندما قبل المسلمون الأوائل دعوة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في الإسلام، وأيقنوا بالإيمان واجهوا عداء قريش وأذاها وصلفها وعنادها، فأي شيء كان منهم لنرى كيف كان أثر الدين في حياة المؤمنين وما مكانته عند المسلمين؟! كلنا يعلم تلك الرمضاء المحرقة في بطحاء مكة من وهج الشمس وهي تسطع على بلال تحت الصخر يعذب ويضطهد ويؤذى أشد الإيذاء وهو يهتف: (أحد أحد) لا يقبل أن يعطي الدنية في دينه، ولا أن يغير معتقده، ولا أن يساوم على إيمانه، وصهيب وما أدراك ما صهيب! وخباب وما أدراك ما خباب! بقي أثر السياط على ظهره إلى يوم وفاته بعد عقود من الزمان، كان يجلد حتى يختلط لحمه بجلده بدمه، حتى بلغ به الأمر مبلغاً، فجاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) فيثبت الإيمان صلى الله عليه وسلم، ويرد الأمر إلى ضرورة القوة في الدين والثبات عليه حيث يقول: (إنه كان فيمن كان قبلكم من يوضع المنشار في مفرق رأسه فينشر حتى يفلق إلى نصفين لا يصده ذلك عن دينه، وإنه كان فيمن كان قبلكم من يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه لا يصده ذلك عن دينه، والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فنزل الإيمان راسخاً في القلوب، وسرى الإسلام مع الدماء في العروق، فثبت ذلك الإيمان، حتى جاءت الهجرة من بعد، ليست فراراً من المواجهة، ولا خروجاً من الثبات على الدين، ولكنها تأكيد لأولوية الدين في حياة المسلمين.
جاءت هجرة الحبشة الأولى والثانية، ولسنا بصدد سرد السيرة، ولكننا نشير إلى الومضات التي تبين أنه لا دنية في الدين.
لما جاء عمرو بن العاص -وكان إذ ذاك رسول قريش- ليرد المهاجرين إلى مكة، وجاء إلى النجاشي بما جاءه من الهدايا والتحف، فطلب النجاشي العادل الطرف الآخر ليستمع بعد أن أساء عمرو القول وشوه السمعة وبث الفتنة وأشاع الخلاف، فجاء جعفر بن أبي طالب مع بقية أصحابه المهاجرين، فأي صورة كانوا يمثلون؟ كانوا يمثلون صورة إيمان وإسلام مجتمِعِين متوحِدِين، ليس بينهم افتراق آراء، ولا تباين أهواء، ولا تعارض مصالح، جمعوا كلمتهم، واختاروا محدثهم، وأيقنوا بأنه لابد من أن يكون لهم موقفهم، فماذا قال جعفر رضي الله عنه؟ إنه كان يريد أن يحافظ على مصلحة المسلمين، وأن يبقي على وجودهم، وأن يوفر أمنهم، وأن ييسر رغد عيشهم، لكنه لا يمكن بحال من الأحوال هو ومن معه أن يكون ذلك كله على حساب إيمانهم، أو على حساب إسلامهم.
فجعل حديثه إعلاناً بمساوئ الجاهلية وإظهاراً لمحاسن الإسلام، فقال رغم حرصه على أسلوب يحفظ به للمسلمين مصالحهم: أيها الملك -لم ينكر ملكه، ولم يغفل عن أن يعطيه قدره الذي فيه حق من جهة وفيه مراعاة مصلحة من جهة أخرى-! كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا -وأفاض في وصف النبي صلى الله عليه وسلم- نعلم نسبه وشرفه وعلو قدره وحسن خلقه، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار وعدد من محاسن الإسلام ما عدد، ثم انظر إلى لغة السياسة الإسلامية الإيمانية! قال: فلما قهرونا -أي: كفار قريش- وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
فهل في هذا نفاق سياسي؟! وهل في هذا دنية دينية؟! إنها حنكة مع إظهار الإسلام وإعلان دعوته وإظهار محاسنه، ومع الوقوف على المبدأ الحق دون ذوبان ولا تنصل من حقائقه ومبادئه، وكان في ذلك موقف حكيم، دفع عنهم الأذى ولم يوقعهم في حرج من إيمانهم وإسلامهم، فهل اكتفت الجاهلية ومبعوثها الداهية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي كان على شركه إذ ذاك؟ قال: والله لآتينهم الغداة بما يبيد خضراءهم.
وغدا على النجاشي ليقول فتنة وتأليباً وتشويقاً واستعداء، فقال: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.
فهو يعلم عن النصرانية أنها تقول: عيسى هو الله، أو ابن الله، أو الروح القدس.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وجاءت هذه المعضلة والطامة المشكلة والمعجزة المحيرة المربكة لوجودهم وأمنهم وعيشهم ورغدهم ودينهم وعقيدتهم.
فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى؟ فأي شيء يقول جعفر؟ وأي بيان يظهر المسلمون؟ هل يبدلون أو يغيرون؟ هل يحافظون على دينهم أم على حياتهم يحافظون؟ قالها كلمات واضحة: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
لا دنية في الدين، لا مساومة في العقيدة، لا تغيير في الإيمان والإسلام، أي شيء جرى لهم؟! أي مصيبة حلت بهم؟! أي نكبة نزلت عليهم؟! لم يحصل من ذلك شيء؛ لأن من كان مع الله كان الله معه.
قال النجاشي: والله ما عدا ما قلتم فيه عودي هذا.
فنخرت البطارقة، قال: وإن نخرتم.
ثم قال لهم: أنتم شيوم بأرضي.
أي: أنتم سالمون لا يعتدي عليكم أحد؛ لأنكم أهل مبدأ وأهل يقين وأهل عزة وأهل وضوح، لا أهل ذوبان وذلة وترخص والتماس عرض من الدنيا بضياع الدين، نسأل الله عز وجل السلامة.(43/2)
صور ونماذج من تضحية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الهجرة إلى المدينة
جاءت الهجرة الكبرى، وجاء الإذن الرباني من الله جل وعلا للمصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن تهيأت الأسباب، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه رضوان الله عليهم، فأي شيء كانت الهجرة؟! وأي درس كان أعظم فيها؟ إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين، فكلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة، يمضي تاركاً وراءه دنياه، ومخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه وذكريات شبابه، يمضي إلى الله وإلى رسول الله وإلى مرضاة الله وإلى طاعة الله وإلى التزام دين الله وإلى إعلاء راية الله، فيأتي أهل زوجته فيقولون له: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أما ابنتنا فلا تمض معك.
فأخذوا زوجته، فجاء بنو أسد أهله بعد أن مضى فقالوا: هذه زوجه ابنتكم أخذتموها، أما ابننا فنأخذه.
فأُخذ الابن في جهة والأم في جهة، والأب يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر، فهل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله؟ وهل يضعف يقينه بالله؟ وهل يستسلم لظروفه وما تجري به في هذه الحياة؟ كلا، بل يمضي إلى الله مهاجراً، ثم تمت له هجرته، وألحق الله به زوجه وابنه من بعد.
وصهيب وما أدراك ما صهيب؟! ترك غنيمة الحياة الدنيا كلها، وثمرة جهده وتجارته وصناعته، يخرج مهاجراً فيحيطون به قائلين: جئتنا صعلوكاً لا مال لك وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً؟ فقال لهم: أرأيتم لو أعطيتكم مالي أكنتم تاركي؟! قالوا: نعم.
قال: فإنه في مكان كذا وكذا.
فتركوه وذهبوا بماله كله، بدنياه كلها، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره، فهل حزن لذلك؟ وهل مضى كسيف البال؟ أو رجع مشدوداً إلى المال؟ مضى إلى الله عز وجل، فاستقبله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (بخ بخ! ذاك مال رابح)، وتتنزل الآيات: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، بيعة وصفقة رابحة.
وعبد الله بن جحش وزوجه وأخوه عبد بن جحش -وكان أعمى ضريراً لا يرى، وكان شاعراً- وأهله كلهم خرجوا جميعاً، لم يبق منهم أحد، خلفوا وراءهم الديار، وقطعوا العلائق، وانبتوا عن الأرض ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى، وهو شأن الدين والإيمان واليقين.
مر عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها، والريح تخفق فيها يباباً، نظر إلى من تركوا الدنيا، إلى من تركوا الديار، نظر متأملاً متعجباً، ونظر كذلك بفطرة إنسانية حزيناً ثم قال: وكل دار وإن طالت سلامتها يوماً ستدركها النكباء والحوب فقال أبو جهل للعباس: ذاك ما فعل ابن أخيك، فرق جماعتنا وشتت شملنا.
وذلك هو حال الطغاة المجرمين، يفعلون الجريمة، ثم ينسبون الإجرام والإرهاب إلى المظلومين ويتهمونهم به، كما نرى في واقعنا اليوم.
أما أبو بكر -وما أدراك ما أبو بكر! - فقد جعل وقته وعمره وماله وثروته وأهله وبنيه وداره وأرضه وروحه ونفسه جعلها كلها تضحية في الهجرة، فقد حبس نفسه لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، هيأ ماله، وعلف راحلتيه، وترك زوجه وأبناءه، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه ونفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء الموقف العظيم، ووقف المشركون على فم الغار، وإذا بـ أبي بكر شفقة ورحمة يقول: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا.
فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم-: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
فمن يحزن والله معه؟ ومن يضعف والله يعينه؟ ومن يذل والله يعزه؟ ومن يخاف والله يؤمنه؟ ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة، تضحية لأجل الدين تقول لنا: إن الأولوية في حياة المسلمين التضحية لأجل الدين.
كان محمد صلى الله عليه وسلم في مكة سيد ساداتها وشريف أشرافها، وذا الذروة العليا في أنسابها، وقد جاءته قريش وقالوا له: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً.
عرضوا عليه دنياهم كلها فركلها برجله، واستعلى عليها بإيمانه ويقينه وإسلامه عليه الصلاة والسلام، فلم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا ولا سكوناً إليها ولا طلباً للسلامة، ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين هانئين موادعين، وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا إلى دورهم، أو أن يؤدوا شعائرهم، لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، لكن الهجرة أمر آخر، إنها إكراه رجل آمن في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وأمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو في نهايتها، لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش.(43/3)
ذكر أعظم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
قال أهل العلم: من دروس الهجرة درسان عظيمان.
نذكرهما ولا نقف عندهما طويلاً؛ لأننا نريد من بعد أن نذكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المحزن المؤسف في كثير من أحواله.
الدرس الأول: وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام: خلاصة هذا الدرس أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين، فلأجلها يتركون الأرض والديار، ولأجلها يقطعون الصلات والعلاقات، ولأجلها يبذلون الأموال والنفقات، ولأجلها يجودون بالأرواح في الساحات، ذلكم هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة.
الدرس الثاني: وجوب نصرة المسلمين من بعضهم لبعض: وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناًَ.
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: إذا كان في المسلمين أسرى أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى فينا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك.
هذا فقه من هذا الإمام ليس فقه استنباط ودليل، لكنه قبل ذلك فقه إيمان ويقين، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية.
وعندما مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح؟! هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة؟ هل خرج من بين الأعداء ليأنس بالحياة بين الأصحاب؟ أي شيء صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول لحظة وطئت أقدامه الشريفة مدينته المنورة؟ لقد عمد إلى بناء المسجد لربط المسلمين بالله، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين، وعمد إلى المعاهدة مع اليهود لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين.
فمن لقي بالمدينة؟ لقي اليهود عليهم لعائن الله.
ولننظر إلى كلام علمائنا وأئمتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي، فهذا ابن القيم رحمه الله يصف اليهود -عليهم لعائن الله- بقوله: هم الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء، وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية، وأردأهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداء والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عنده النصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم طوية.
أليس هذا القول اليوم -في زعمهم- هو عين التعصب والعنصرية؟! أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب؟! فماذا يقول اليهود عمّا ليس في أقوال علمائهم، بل في المسطور في كتبهم بما حرفوه، إنهم يقولون: إن أمم الأرض كلها كلاب يجوز لليهود قتلها، وأموالهم حلال يجوز لهم سلبها، ونساؤهم حلال يجوز استمتاعهم بهن.
ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن ذلك إرهاب وعنف، فأي شيء جرى لأمة الإسلام؟ عند المواقف الأولى انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فغلا الحقد في قلوبهم، وجاشت البغضاء في نفوسهم، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم.
فهذه امرأة مسلمة دخلت إلى سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ، وجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه، فلما قامت انكشفت عورتها، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون، موقف واحد في أمر عارض لامرأة واحدة، فأي شيء جرى؟ صاحت مستنجدة، فانتدب لها مسلم من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية، ولا بحث في القوانين الدولية، بل مضى ينتصر لها، وعمد إلى الصائغ فقتله، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه، فأحاط بهم رسول صلى الله عليه وسلم وحاصرهم وأجلاهم من بعد، وأخذ من أموالهم ما أخذ عليه الصلاة والسلام، وخرجوا أذلة صاغرين، يوم كان المؤمنون كذلك عزوا وارتفعت رايتهم وعظمت هيبتهم وقويت شوكتهم، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم، أفليست هذه دروساً مهمة؟ أفليست هذه صوراً حية؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا، وإلا بقينا أذلة صاغرين، وإلا بقينا تافهين مغيبين، وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يسلط على المسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يرفع وأن يكشف البلاء عن الأمة، وأن يعيدها إلى العزة، وأن يخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(43/4)
دروس الهجرة وواقعنا المعاصر
إن الهجرة تأكيد للزوم الثبات على الدين، وإعلان لإظهار أولوية الدين في حياة المسلمين, وبيان أن التضحية تكون بكل شيء لأجل إعلاء الدين، إذا فقهنا ذلك ونحن ننظر إلى واقعنا اليوم فماذا نرى فيه؟! نرى عجزاً عربياً، ووهناً إسلامياً، وخزياً سياسياً، وصورة مشوهة، وحقائق الإسلام غائبة، ومرتكزات العقيدة واهية، ولذلك نرى ما نرى من هذه العجائب والغرائب ونحن نعرف ونسمع أن هذه القوات الباغية الغازية الظالمة العادية قد أعلنت بما ذكرته بألسنتها أنها حرب صليبية، وأيدت وأكدت أنها تريد أن تكون لها الهيمنة العسكرية السياسية، وأظهرت أنها تريد أن تستولي على الموارد الاقتصادية، وبينت أنها تريد أن تهيمن على ما وراء ذلك من الأوضاع الاجتماعية والمناهج التعليمية والنظم السياسية والأوضاع كلها، وبعد ذلك نقول ما نقول، ونسمع ما نسمع من هذه العجائب التي لا شك أن فيها معارضة يقينية ظاهرة واضحة لثوابت الإيمان والإسلام، ولحقائق آيات القرآن، ولمعالم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة.
ولذلك نقول: إن الكفر وأهله أهل بغي وعدوان، فليس لهم في قلب مؤمن محبة ولا موالاة، وليس لهم في عمل مسلم نصرة ولا محاباة، وإلا أنكر ذلك الإيمان في قلبه، أو نقض الإسلام في حقيقته؛ لأن هذا نطقت به الآيات، وظهرت به حقائق الإسلام جلية واضحة.
ثم من بعد ذلك نرى ما نرى من دروس الهجرة في هذا التلاحم الإيماني والتناصر الإسلامي والأخوة التي نصت عليها آيات القرآن، ونرى من وراء ذلك أن يكون الدين هو رائدنا وغايتنا الأولى، فمن كان مستمسكاً به ورافعاً له حقاً لا كذباً، وصدقاً لا ادعاءًَ، وواقعاً لا زوراً كان من أهل الدين مع أهل الدين، وكان من أهل النصر لأهل اليقين بإذن الله عز وجل، ولذلك ينبغي لنا أن نكون على بصيرة من أمرنا، وعلى بينة من حقائق ديننا، وأن نعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر في أقوال الأئمة من العلماء الصادقين الذين كانوا أهل إيمان ويقين قبل أن يكونوا أهل فقه في الدين.
ومن بعد ذلك نتواصى بالثبات على ذلك، ونتناصر ونتعاهد على البقاء عليه، وعلى إشاعته فيما بيننا، وأن نلجأ إلى الله ونعتصم به، ونتضرع إليه، ونبتهل ونذل بين يديه، وكذلك نترك المعاصي والمحرمات، ونبتعد عن المنكرات والمخالفات، ولعل ذلك كله في جملته هو من درس الهجرة، فإن الهجرة هي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح عنه حيث قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) وإنما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم شعائر الدين، وليجد الأرض التي يعلي فيها راية الله سبحانه وتعالى، وعندما لم يجد ذلك في مكة التمسه في الطائف فلم يجده، وذهب أصحابه إلى الحبشة فلم يثبت دينهم، حتى يسر الله له هجرته المباركة، فأقام دولة الإسلام، وأنشأ وأقام العزة الإيمانية والوحدة الإسلامية، ثم جاءت هيبة هذا الدين وقوته، وظهرت من بعد ذلك -أيضاً- سماحته ورحمته بالأمم، فإن الإسلام كان أرحم بكل الأمم من أديانها ومن حكامها، وكذبوا وخدعوا عندما يقولون غير ذلك.
نسأل الله أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا لآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم! لا تغير علينا ديننا, ولا تسلب منا إيماننا، اللهم! لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم! إنا نسألك الثبات على الدين، والاستمساك بالحق، والعصمة من الفتنة يا رب العالمين.
اللهم! اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم! اجعل في قلوبنا محبة المؤمنين ونصرتهم يا رب العالمين، وازرع في قلوبنا بغض الكافرين والبراءة منهم يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، واجعلنا -اللهم- أفقر الفقراء إليك وأغنى الأغنياء بك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة برحمتك يا رب العالمين.
اللهم! لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تجعل من المؤمنين للكافرين ظهيراً يا رب العالمين.
اللهم! ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، وأعنا -اللهم- على طاعتك ومرضاتك، ووفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، واجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وتوفنا عليها وابعثنا عليها يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك لأمة الإسلام والمسلمين وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وأمناً من بعد خوف يا رب العالمين.
اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والأسرى والمسجونين والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله -اللهم- فتنة لهم في الدين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء رايتك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، اللهم! ارفع رايتهم، اللهم! قو شوكتهم، اللهم! سدد رميتهم، اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم! أنزل عليهم نصرك المبين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! عليك بالبغاة الطغاة، اللهم! عليك بالمعتدين الغاصبين، اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلل في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم! رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم يا رب العالمين، اللهم! اكشف البلاء عن الأمة، وارفع -اللهم- الغمة يا رب العالمين، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ومكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبعك رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! ارحمنا برحمتك، وتولنا برعايتك، وأحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
وصل اللهم وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/5)
الحقيقة الواعظة
لو استشعر العبد كل ما سيحصل له عند قدومه على الله سبحانه من حساب وعقاب، واستشعر الحقيقة الواعظة التي أرقت مضاجع المؤمنين، وأذابت أكباد العارفين، لما تجرأ على الله وحرماته فانتهكها، ولما أدمن على المعاصي واستمرأها، ولما تلذذ بالشهوات المحرمة وجاهر بها، ولكننا في جهل وغفلة عما سيقع، وكأننا لسنا المعنيين، ولا بذلك مخاطبين.(44/1)
بعض صور الفساد التي نعيشها اليوم
الحمد لله الغفور التواب، ذي الطول شديد العقاب، وعد الطائعين بالثواب، وتوعد العاصين بالعقاب، أحمده سبحانه وتعالى ملء الأرض والسماوات، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال في كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].(44/2)
نشر الصور الفاضحة والدعوة إلى محاربة الشريعة
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! صور كثيرة نراها ولا تسرنا، ونمر بها ونقع فيها أحياناً، ونلتفت إلى وجود الخلل فيها، وكثيراً ما نفكر في أننا استنفذنا كثيراً من وسائل إصلاحها، وأنها لم تبلغ في نفوس فاعليها مبلغها، ولم تؤثر في قلوبهم التأثير المنشود.
وسؤالنا: عندما نرى صور الفساد والإفساد فما الذي نملكه إزاءها؟ قد نعجز أن نغيرها بأيدينا، وليست لنا سلطة ولا سطوة، ولا يرهبنا أولئك المفسدون، بل قد يكون حالهم من التمكن والظهور ما يرهبون به من يريد أن ينكر عليهم، ولذلك قد نرى أن كلامنا لهم، واعتراضنا عليهم، وتعريضنا بهم ليس بالغاً مبلغه.
وهنا نفكر كثيراً، وقد جال بخاطري مثل هذا وأنا أفكر في الصور الكثيرة التي تتوالى علينا وتؤلمنا وتحزننا، فماذا عسى أن نملك، وما الدواء الذي يمكن أن نعرضه لعل فيه شفاء تلك القلوب المريضة، والنفوس السقيمة؟ ما الحقيقة التي إذا عرضناها قد تبدد ظلمات الطريق، وتصوب المسار؟ جال بخاطري ذلك وأنا أرى ذلك الإعلان الذي ضم صورة لفتاة حاسرة عن شعرها ووجهها، مصافحة لأجنبي عنها، وفوق هذه الصورة آيات من كتاب الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء:7] ونص حديث لرسول الله: (إنما النساء شقائق الرجال) وتعريض يفهمه كثير من الناس كذلك بشريعة الله عندما يقال: إننا نلتزم في هذا شريعة الله، وإننا نقدم من خلال هذه الصورة للفتاة نموذجاً للتربية الإسلامية على منهج الله.
جال ذلك بخاطري وأنا أرى المسابقات المتكررة وأقرأ عنها كثيراً، وترون إعلاناتها، وهي مسابقات الفنون والنجوم، ويقدم فيها من بلاد الحرمين على وجه الخصوص فتيات سافرات غير محجبات، يغنين الحب والغرام والهيام، ويتراقصن ويتمايلن على أنغام الموسيقى، وأرى وأسمع ذلك، وترونه وتسمعونه ربما وهو يتكاثر، وكأن أسلحتنا في المقاومة لم تجد نفعاً، فما عسى أن نقول في مقامنا هذا؟!(44/3)
الذنب المتعدي أعظم إثماً
إن خطابنا لأنفسنا أولاً ولجميع المسلمين ثانياً، وهو خطاب يوجه خصوصاً لكل من أسرف على نفسه في الفساد والإفساد، ذلك أن المفسد في ذات نفسه أمره وضرره قد لا يتعداه إلى غيره، غير أن الذي يروج الفساد وينشره ويبثه، ويموله ويصرف عليه، ويحسنه ويزينه؛ ذاك من يتحمل وزر غيره، وينال من السيئات كل ما قد يكون من أفعال من يتأثرون به لأن: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) قالها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وقال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]، سعى في الأرض ليفسد فيها، ما عسى أن نملك له؟! ما عسى أن نواجهه به؟! تلك هي القضية.(44/4)
التذكير بالموت والرجوع إلى الله(44/5)
مرجع الإنسان إلى الله الذي يحصي عليه أعماله
وهنا أقول: إن حديثنا اليوم عن الحقيقة الواعظة التي تعظ كل قلب فيه بقية خير، وفيه أثر إيمان، وفيه حقيقة إسلام، الحقيقة التي لا ينبغي أن يغفل عنها أحد مطلقاً، وهي أن كل حي إلى موت وأن مردنا إلى الله، وأن الوقوف بين يدي الله، وأن الحساب فيه شهود من الجلود والأيدي والأرجل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
هذه الحقيقة نسوقها لأنفسنا أولاً، ولأولئك الذين أسرفوا على أنفسهم وعلى غيرهم في الفساد ثانياً: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:60 - 62].
هل هناك أبلغ من حقائق القرآن؟ هذه حقيقة واضحة: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60].
كل يوم تقبض نفسك وتموت موتة صغرى بنومك، فمن الذي يبعثك؟ من الذي يحييك؟ من الذي يرد إليك روحك فتنطلق؟ (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، يعلم ما تلفظ من كلمة، وما تنظر من نظرة، وما يخطر في عقلك من خطرة، وما يجول في قلبك من نية، وما تتحرك إليه من خطوة، وما تمد إليه يدك في حركة أو سكنة، (ويعلم ما جرحتم بالنهار)، ما النتيجة؟ سيئول الأمر إليه، وتقف وحيداً بين يديه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، ماذا ستقول يا من يروج الفساد والإفساد في ذلك الموقف العظيم؟! ماذا ستقول يا من تنفق الأموال والملايين لأجل نشر الفسق والفجور والعري والفساد؟! ما الذي ستقوله؟ قد تقول لنا أقوالاً، قد تكتب لنا آيات، قد تمتنع عنا بما لديك من قوة أو سلطان، فماذا أنت فاعل في ذلك الموقف؟(44/6)
الله يمهل الظالم ولا يهمله
تأملوا هذه الآيات: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61] لا يقع شيء في ملكه إلا بقدره، يمهل ولا يهمل، فكثيراً ما يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفتله كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ثم تأمل: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61]، أي: ملائكة تسجل كل صغيرة وكبيرة، وكل كلمة وحركة، وتأتي يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، واسمع التصوير القرآني الفريد المؤثر: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
بكى محمد بن كعب، فقيل: ما يبكيك؟ قال: لا أدري ما صعد اليوم من عملي! وقال الحسن البصري رحمه الله: أدركت أقواماً يدعون ما لا بأس به مخافة أن يكون فيه بأس، ولقد أدركت أقواماً يأخذون ما فيه بأس رجاء ألا يكون فيه بأس.(44/7)
المجاهرة بالمعاصي عتو على الله
ولقد رأينا من يفعل المحرم الذي لا خلاف في حرمته، وذلك قد يكون، لكنه اليوم يطلب أن يعلن المحرم على رءوس الأشهاد، يبيت يستره ربه بالليل، ويهتك ستر الله عليه في النهار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) أي: الذين يجاهرون بالمعصية.
ثم يزيد فوق ذلك أن يستخدم الآيات والأحاديث، وأن يروج الفساد بإنفاق المال الذي آتاه الله إياه! أنا وأنت كلنا مقصرون مفرطون، وقد نرتكب المحرمات، والمعاصي، وكلنا ذاك الرجل، إلا أن الأمر يختلف عندما نقر بها، وعندما نصر عليها ونسهلها، وندعو إليها، ونرغب فيها، وننفق عليها، ونسعى إلى أن يقبلها الناس، تلك قضية أخرى، وتلك مصيبة عظمى، فاروق الأمة عمر بن الخطاب قال كلمات موجزة لا تزيد عن ثلاث: (كفى بالموت واعظاً) فانتفع الناس بها، وذلك لما كانت القلوب حية، وكانت النفوس نقية، وكانت العقول ذكية، وكان الإيمان في القلوب حياً، واليقين في النفوس راسخاً، والنور في البصائر مرشداً.
أما اليوم وقد قست القلوب، وتكدرت النفوس، وضلت العقول؛ فكأن الموعظة لم تعد تجدي نفعاً، ولم تعد تبين حقاً، نقل القرطبي في تفسيره في موضع هذه الآية عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: ومن الناس من يعيش شقياً جاهل القلب غافل اليقظة فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظة إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظة (الذي بان) أي: ذهب وولى ومات وانتهى.
ذلكم قاله أهل الإيمان، ورددوه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10].
قال السعدي في تفسيره: أما لو علموا حلم الله عليهم، وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه بالشرك والكفران، ويجترئون على عظمته بالإفك والبهتان، وهو يعافيهم ويرزقهم؛ لانجذبت دواعيهم إلى معرفته، وذهلت عقولهم في حبه، ولمقتوا أنفسهم أشد المقت، حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب للخزي والخسران، ولكنهم قوم لا يعلمون! ولكنهم قوم لا يعلمون!(44/8)
وعظ المجاهرين بالوقوف بين يدي الله
الحقيقة الواعظة: أن الموعد الله، وأن المرد إلى الله، وأن الوقوف بين يدي الله ليس هناك من شفيع ولا حميم يطاع، ليس هناك مجال لشيء يخفى، ليس هناك جزء من المسئولية يستثنى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] على كل صغيرة وكبيرة، كل شاردة وواردة، كل سر وإعلان، كل خفي وظاهر بين يدي الله عز وجل مكشوف، فلا تخفى عليه خافية: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30].
هنالك تختبر وتعلم كل نفس ما أسلفت من الأعمال والأقوال، كل ذلك مبسوط منشور: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] كل ذلك ظاهر: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] حتى النوايا الخفية كلها جلية ظاهرة بين يدي الله سبحانه وتعالى.
فما أنا قائل وما أنت قائل؟! وما غيرنا من كل حي قائل في تلك المواقف العصيبة العظيمة؟ تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى تكون قدر ميل، فيعرقون فيبلغ عرق بعضهم إلى عقبيه، وبعضهم إلى ركبتيه، وبعضهم إلى حقويه، وبعضهم إلى كتفيه، وبعضهم يلجمه العرق إلجاماً، من لك بظل تستظل به ما لم يكن عمل صالح، من لك بمحام يدافع عنك {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]؟ ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام في حجر عائشة، فذكرت الآخرة فبكت، وجرى دمعها على خدها، وسقطت دمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ وقال: ما لك يا عائشة؟! قالت: ذكرت الآخرة، فسألت: هل تسألون عن أهليكم يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواقف فلا يسأل أحد عن أحد أبداً، وذكر عليه الصلاة والسلام: يوم توزن الموازين، ويوم توزع الكتب، ويوم يجوز الناس على الصراط).
تفكر أيها المؤمن في ذلك! رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر حبيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بذلك، فما الذي نملكه لكل أحد يخالف؟! لا نملك إلا هذه الحقيقة لعلها تقع في قلبه موقعاً، لعلها تحيي في نفسه مواتاً، لعلها تنير في فكره وفي مسيره طريقاً، لعلها تقوم معوجاً، وتكمل نقصاً، وتستدرك فائتاً، نسأل الله لنا ولأمة الإسلام الهداية والتقوى، والعودة إلى طريقه ومرضاته.(44/9)
اعملوا فسيرى الله عملكم
وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]، ليس ثمة شيء إلا عمل تقدمه بين يديك، ونية خالصة، وموافقة لشرعه، ومتابعة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إن كان غير ذلك فالأمر خطير، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: قال مجاهد: هذا وعيد ليس إخباراً.
فليس مجرد إخبار بأننا ستعرض أعمالنا، ونرد إلى ربنا، ولكنه وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وكما قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10].
قال ابن كثير: وقد يظهر الله ذلك للناس في الدنيا، وذكر أن الإمام أحمد روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة؛ لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان)، فكيف بمن يظهر ولا يخفي، ويعلن ولا يسر، ويفتخر ولا يستتر، نسأل الله عز وجل السلامة!(44/10)
استنكار الصالحين على المجاهرين
قال المراغي في تفسيره: وسيرى الله عملكم خيراً كان أو شراً، فيجب عليكم أن تراقبوه في أعمالكم، وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه في السر والعلن، ويقف عند حدود شرعه، ثم ذكر أمراً مهماً، قال: وفي الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلي مرضاة الله ورسوله.
وفي حديث أنس رضي الله عنه: (أنه مرت جنازة فأثنى الصحابة على صاحبها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة فذكروا صاحبها بشر فقال: وجبت، فقال عمر: يا رسول الله! ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض)، عندما ينكر المؤمنون، ويغضب الصالحون يقولون لنا: ما لكم ولنا؟ ما قيمة قولكم، ما الذي يزنه رأيكم؟ ولا ندعي لأنفسنا شيئاً غير أن أهل الإيمان والإسلام والصلاح، إن انقبضت نفوسهم، وأنكرت قلوبهم، ونطقت ألسنتهم؛ فإنما ينكرون منكراً أنكره الله جل وعلا، وحذر منه، ونهى عنه رسول صلى الله عليه وسلم، فقولهم إلى ذلك القول مستند، ومنه مستمد.
ومن هنا ذكر ابن القيم عن العلماء أنهم موقعون عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا يأبه بقول المؤمنين المسلمين الغيورين إذا أنكروا إذا احتجوا إذا أدوا سخطهم، كيف يهدر ذلك كله؟ حتى في عصر الديمقراطية التي يزعمونها، أليس الرأي للأكثرية؟! أليس القول للأغلبية؟! فما بالها تداس بالأقدام؟! وما بال أصواتها تكمم بالأكمام؟! ما بالنا ونحن كأنما خرست ألسنتنا وعميت أبصارنا، فلا ننطق بكلمة ولا نخط اعتراضاً، ولا نبدي انزعاجاً؛ لماذا وذلك صورة ودليل على حياة الإيمان والإسلام في القلوب من جهة، وهو كذلك إعلان وإظهار لشعائر الإسلام عموماً وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصاً، وهو كذلك تكثير للخير، وتغليب لسواده، وتقليل للشر وحصر له في موطنه حتى لا يستشري ويعم، نسأل الله عز وجل السلامة.(44/11)
أين يمضي بنا الفساق لو سرنا وراءهم
لو تأملنا فإن هذه الحقيقة الواعظة قوية في تأثيرها، جاءت في كثير من المواقف فأدت دورها، وأثرت تأثيراً عظيماً حتى فيمن كان من الطغاة أو المتجبرين، أو كان من الأثرياء المسرفين، فإن حقيقة نهاية الحياة، وإن المرد إلى الله حقيقة عظيمة لو أننا نوقن بها حقاً، ونحسن عرضها والتذكير بها لوجدنا خيراً كثيراً.
ألسنا نسمع ونقرأ قصة مؤمن آل فرعون وهو مؤمن واحد في بيئة كافرة، ومع طاغية جبار، كان يجابههم بهذه الحقيقة ويذكرهم بها: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42].
قولوا ذلك للناس، قولوا لكل من يعصي: إنما ندعوك لخيرك، إنما نكلمك لمصلحتك، إنما يحرقنا حبنا لك، وغيرتنا عليك، وإشفاقنا عليك، ورغبتنا في أن نسلم من سخط الله عز وجل وغضبه! ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، إلى أين تريدون أن تقودوننا إذا سرنا وراء الفسقة والفجرة فضلاً عن الكفرة الذين لا يؤمنون بالله عز وجل؟! أين سنمضي إذا سرنا وراء مذاهب الأرض من شرق أو غرب؟ أين سنمضي وراء السلوكيات المنحلة المنحرفة، والفنون الماجنة الداعرة؟! ما الذي سنصل إليه؟! هل سنحقق قوة لأمتنا؟ هل سنتقدم بين الأمم في العلم؟ هل سنقود الأمم بقوة سواعدنا وأسلحتنا، أم أننا سنهز الوسط، ونجيد الرقص، ونكثر الغناء؟ حتى أصبح لكل عدد من مواطني العرب في بلاده عدد كاف من المغنين أو المغنيات أو الراقصين والراقصات.
لابد أن نقول: ما لنا ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، إلى المصير الذي لا فائدة فيه ولا نفع في الدنيا، ولا يكون موضع أمل بنجاة ورحمة في الآخرة، نسأل الله من فضله.
ثم يمضي قائلاً: ((لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) [غافر:43] هذه حقائق القرآن الواعظة المذكرة، نسأل الله عز وجل أن تنزل من قلوبنا منزلاً في الادكار والاعتبار، ومنزل القبول والعمل بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(44/12)
من لوازم التقوى الغضب لحرمات الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى أن تتغير القلوب والنفوس امتعاضاً وغيرة وحمية لكل ما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الإيمان حياً في القلوب من خلال هذه الغيرة الإيمانية، والحمية الإسلامية، وإلا يكن ذلك، فربما يأتي علينا زمان نتفقد فيه قلوبنا فلا نجد فيها من الإيمان إلا نزراً يسيراً؛ لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ولأنه قال: (وذلك أضعف الإيمان).
ولئن رضينا وسكتنا، فإن أموراً من الضرر تعود علينا، وإن صوراً من الخطر تحل بنا، أعظمها موت القلوب، وذهاب الغيرة، وعدم استشعار إنكار المنكر، والتباس الحقائق؛ حتى يعود المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، نسأل الله عز وجل السلامة.
ولعل ختامنا دائماً وأبداً، وتذكرينا أولاً وآخراً، وما نريد أن نعيه ونعقله في كل وقت وآن، هو كلام الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:44 - 47].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا، وأخلاقنا وأمننا، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الشر والفساد، وانشر رحمتك على العباد، وانشر في الأمة علم الجهاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأحصهم عدداً، واقتلتهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين، والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله خلفة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء، اللهم يا أرحم الراحمين احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!(44/13)
الحرب بين الحقائق والمبادئ والمواقف
الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة، ومن ذلك الصراع بين الإسلام والكفر؛ فإن الكفرة أعداء الإسلام يحاربون الإسلام ليلاً ونهاراً، ويكيدون له بشتى الوسائل والطرق، ويستخدمون معه أخبث الأساليب وأشنعها، ويستخدمون فيه كل أنواع الأسلحة، لذا كان لزاماً على جميع المسلمين الوقوف في وجه هذا العدوان الغاشم، والتيقظ لمخططاته وأهدافه، والحذر من الوقوع في مكره وشباكه.(45/1)
دور المنبر
الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، ومن سأله أعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى على كل حال وفي كل آنٍ، حمداً كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، المرسل إلى الناس أجمعين، المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: "الحرب بين الحقائق والمبادئ والمواقف" موضوع يهمنا جميعاً الحديث عنه؛ إذ اليوم لا حديث للناس إلا هذه الحرب الجائرة الظالمة، فهي شاغلة وسائل الإعلام، وهي موضوع حديث الناس في مجتمعاتهم.
ومنبر الجمعة لا يغيب عن ذلك، مع أنه أنزه من الألاعيب السياسية، وأصدق من الأضاليل الإعلامية، وأرفع من المساومات الاقتصادية المالية، وأشمل من النظرات الجزئية، وأحكم من الاندفاعات العاطفية، وأقرب إلى النصوص الشرعية، وألصق بالمصالح المرعية، فحديثه في مثل هذه الأمور ينبغي أن يحوز هذه الصفات المهمة، وألا تكون رغبات الناس في حديث عاطفي، أو اندفاع وارتفاع صوتي، وكأنما نحن مرة أخرى لا نعي الدروس، ولا نفقه الحقائق، ولا نعتصم بالمبادئ.(45/2)
حقائق حرب الغرب على العراق
ونبدأ بالحقائق؛ لأن معرفتها أساس فيما يبنى عليها من الأحكام، وخاصة أن الصور مضطربة، وأنها مزيفة، وأنها مغلفة بأطنان من الأكاذيب والأحابيل السياسية والمغالطات الإعلامية.
فحرب أمريكا وبريطانية ومن لف لفهما على العراق حقيقتها هذه الجوانب التي نوجزها، والحديث والمقام يقصر عن الاستيعاب: فهذه الحرب فيها مخالفة قانونية، وقد أصموا آذاننا بالشرعية الدولية والقوانين العالمية والمرجعية الدولية وغير ذلك، فأين هي اليوم من أفعالهم التي يعلم الجميع أنهم قد فشلوا في أن يجدوا لها مظلة أو نسباً أو سبباً أو رابطاً بمجلس الأمن أو بمواده المختلفة أو غير ذلك؟! ويزعمون كذلك أن هناك دولاً عديدة تؤيد هذا المسار، وتقتنع به، وتشارك فيه، ولم نسمع أسماءها، ولم نعرف من أحوال من هو معروف منها إلا أنه سار بعصا الإرهاب الأمريكي، أو فرحاً بالعطاء الموعود من أمريكا.
ثم نرى بعد ذلك ما يزيفونه ويغيرونه ويلبسونه على الناس جميعاً، وحتى على شعوبهم وجنودهم كذلك؛ فهذا جنرال أمريكي يخاطب جنوده فيقول: إن أسماءكم ستكتب بالذهب في لائحة الذين ساعدوا العراق على العودة إلى الأمم المتحدة!(45/3)
مخالفة الدول المحاربة للعراق وأفغانستان للقوانين والأعراف الدولية
وأظننا لا نحتاج إلى إفاضة في الأحاديث التي ربما تسمعونها في المقالات والمداولات والمحاورات السياسية، ولكنني أنتقل في ومضات سريعة إلى عهد قريب وليس بعيداً؛ لنرى أن هذه الدول التي ترغي اليوم وتزبد في هذه الناحية القانونية، أنها قد خالفتها مراراً وتكراراً.
وما قالوه عن حق النقض -وهو حق من حقوق الظلم والبغي- قد استخدمته أمريكا أكثر دولة في العالم وأعلى نسبة لصالح دولة البغي والكيان الصهيوني الغاصب في أرض الإسلام، حتى مجرد ألفاظ فيها إدانات وكلمات كان الفيتو لها بالمرصاد، حتى في لجان تقصي الحقائق أو البحث عن الوقائع كان لها ذلك الفيتو بالمرصاد.
وقريباً من ذلك أيضاً نرى الصيغة القانونية العجيبة الفريدة التي ليس لها مثيل في العالم، وذلك في الأسرى الذين أسرتهم أمريكا ولم توجه لهم تهمة، ولم ترفع لهم حقاً قانونياً، ولم تشرع لهم حقاً إنسانياً، ثم تقول بعد ذلك: إنها ترعى القوانين، وإنها إنما تهدف إلى مثل هذه الرعاية! وهذه الحرب جريمة إنسانية؛ لأن الذي سمع أو قرأ بعضاً مما يقولونه عن الأسلحة وآثارها الإنسانية والبشرية وآثارها على البيئة والأرض والجو والبحر، يعلم أن طغيان القوم وإجرامهم بالغ مبلغاً لا تتصوره كثير من العقول، ولا تكاد تدركه، وقد قال ذلك خبراء منهم بألسنتهم، ومن قوادهم ومشاركيهم في هذه الجوانب العسكرية، وأن الأرض تتأثر بما يكون من هذه الأسلحة التي فيها جوانب الإشعاعات، ليس لمدة عشرات ولا مئات ولا آلاف من السنين، بل أكثر من ذلك! ويقولون بعد هذا كما يصرح هذا الجنرال الأمريكي: نقوم بكل جهد لكي نضمن أمرين: أقل دمار جماعي شامل! وهذا من فضل الله أن تعبيراتهم تدينهم، فهو يقول: أقل دمار جماعي شامل.
إذاً: ثمة دمار جماعي شامل، وهو يهدف إلى تقليله! ثم يقول: الأمر الثاني: أن يقدر العراقيون على الدخول في عصبة الأمم متى استطاعوا، ويقول: نريد تفادي وقوع خسائر بشرية، وليس عندنا شيء ضد شعب العراق، مشكلتنا مع النظام.
ولا نناقش هذا، ولا ندخل في تكذيبه، ولكننا نقول: استدعوا الأحداث القريبة، ما الذي جرى في أفغانستان؟! وأين ذهبت القنابل الذكية، ألم تقع فوق رءوس الناس وهم في الاحتفالات والأعراس؟! ألم تقع الأخطاء حتى قتلوا من جنود الحلفاء ما قتلوا؟! ألم تكن كمية القنابل التي ألقيت باعترافهم أكثر مما ألقي في الحرب العالمية الأولى والثانية؟! ثم بعد ذلك كلنا سمع وعلم ماذا جرى من استخدام لأسلحة اليورانيوم في بلاد المسلمين في البوسنة والهرسك، وحرب الخليج التي سبقت، وما زال آثار الأمراض والتشويهات الخلقية حتى في بعض جنودهم فضلاً عن أبناء العراق، والأجنة المشوهة والأطفال المشوهين من آثار هذه الجرائم العظيمة للدولة العظيمة في طغيانها وبغيها.(45/4)
الغرب والديمقراطية المزعومة(45/5)
مخالفة الغرب للديمقراطية
ثم هي أيضاً حرب مخالفة للديمقراطية، فالديمقراطية -الدين الجديد الذين يبشرون به- ما هو؟! وأين هي الديمقراطية من هذه الجموع الحاشدة، ليس في بلاد العرب، لكنها في بلاد أوروبا وأمريكا، وهي تعارض وتقول: إن الديمقراطية التي هي رأي الشعب قد سحقت ومحقت وأحرقت على أصوات هدير المدافع وقصفها ونيرانها! ونعلم أن بعض الدول المشاركة نسبة المعارضين فيها من الشعب تزيد على (85%)، وبالأمس القريب تعتقل الشرطة الأمريكية المتظاهرين ضد الحرب، وأعجب منه أنهم اعتقلوا اعتقالاً احتياطياً -كما يزعمون- المتقدمين لطلبات اللجوء في أمريكا؛ لأنهم يشكلون خطراً، فكان من ضمن الاحتياطات اعتقالهم، وقد قال المسئول: إنه اعتقال مؤقت ومعقول وحذر! ولا نعلق على ذلك.
ونعود مرة أخرى إلى أفغانستان، فأين ديمقراطيتها، وأين عمرانها بعد خرابها، وأين مساعداتها الاقتصادية، وأين رخاؤها ورغد عيشها، وأين انضباط أمنها واستتباب أحوالها؟! إن العاقل يفكر في واقع منظور مرئي ومسموع، وقد أهين رئيسها في معقل البلد الذي جاءت به، حتى اضطروا إلى الاعتذار له؛ لأنه عومل معاملة مهينة مشينة، ثم ما الذي صنعوه؟! وما الذي يصنع هناك؟! لم نسمع إلا عن جمعيات نسائية، وصوالين تجميل نسائية، ومسرح للثقافة كما يقولون، وغير ذلك من المجلات وغيرها، وهذا هو الذي يقدمونه نموذجاً لما يريدونه!(45/6)
حقيقة الديمقراطية التي يريدها الغرب في الإسلام
ونحن نقول: ماذا يريدون بالديمقراطية التي يبشرون بها؟! إنها حرية المرأة وفق نظامهم الانحلالي، وذلك من أولى وأول مقاصدهم، وحرية الأديان على مذهبهم الكفري؛ وماذا وراء ذلك؟! وراءه إصلاح سياسي على قاعدة أساسية، وهي: عدم تحكيم الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك قد يكون في قولهم بعض صدق، لكنه حق يراد به باطل، فقد يستغلون ظلماً واقعاً وأوضاعاً مختلة في بلاد عربية وإسلامية، لكن ما عندهم أشد وقوعاً، وأعظم وأفظع جرماً، وأبعد وأعمق خطراً، حتى ندرك الأمور، فلا يعني إقرار ما هم عليه من ذلك أن غيره صالح صلاحاً كاملاً، لكنه لابد من جمع الأمر من جوانبه كلها.(45/7)
حقيقة الديمقراطية التي يريدها الغرب في الإسلام(45/8)
بغي الغرب واستعلاؤهم وعدوانهم على بقية الأمم والشعوب
والكنيسة الرئيسة قد منعت الحرب وعارضتها ووصفتها بأبشع الأوصاف، فلا ندري على أي شيء يحاربون، فلا دينهم رجعوا إليه، ولا قوانينهم التزموا بها، ولا إنسانيتهم راعوها، ولا ديمقراطيتهم طبقوها، ثم بعد ذلك يقولون: إن هذا حق مشروع، وإنه عمل ممدوح، وإنها غاية ستكون وردية اللون وضيئة القسمات مشرقة الأضواء، فمن يصدق هذا؟! لا أحد يصدق هذا إلا إذا صدقنا أن الذئب يرعى الغنم ويسوسها ويغذيها ويحميها، ويمنعها مما يضرها ويؤذيها.
وهي كذلك صفقة تجارية واضحة المعالم لمزيد من عقود الأسلحة ومزيد من عقود الإنشاء وغير ذلك.
وهي الإرهاب بعينه، وهي الاستغفال بعينه، ولكن ذلك له أيضاً جذور فكرية، فإن القوم في تكوينهم الفكري والعقلي وحضارتهم المعاصرة قائمون على الاستعلاء، والنظرة الدونية للأمم والشعوب، وإن روجوا غير ذلك فإن حقيقة ساستهم وقيادتهم كذلك.
فهذا الرئيس الأمريكي السابق روز فيلت يقول: بالحرب فقط يمكننا اكتساب الرجولة اللازمة للفوز في الصراع الذي يسود الحياة! ويقول: إن أعظم فضائل الإنسان تولد في الحرب، وإن السلام الدائم يؤدي إلى الترهل والفساد والانحلال.
إنهم منشئون على هذا البغي والعدوان والهيمنة والسيطرة والتحكم، وذلك في فكرهم، وما صدام الحضارات وصراعها عنا ببعيد، يقول جنرال عسكري بالأمس القريب: سيكون عنصر المفاجأة في هذه الحرب من خلال الهجوم بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، من حيث السرعة والدقة، والخطط التي لدينا الآن لم ير أحد مثلها قط.
إنه غرور وعنجهية ونوع من التعالي الذي يدلنا على حقيقة المنطلقات الفكرية للحرب.
وكما قلت: إن مقامنا ليس مقام تحليل لهذه المعاني، ولكنه بيان للحقائق، فكل الذي يقال في أكثره هراء وكذب، لا نكذبه نحن بأقوالنا، ولا ندحضه بآيات كتاب ربنا ولا بأحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهي التي تقيم الحق والعدل والإنسانية وكل المعاني الفاضلة على الوجه الصحيح، ولكننا نقولها بقوانينهم وبشرائعهم، ونقولها من واقعهم القريب قبل البعيد، وما أدراك ما البعيد؟! فمن الذي دمر تلك المدن في اليابان بالقنابل الذرية؟! ومن الذي قتل في حربه ثلاثة ملايين في أرض فيتنام؟! ومن ومن إلى غير ذلك.(45/9)
حقيقة حزب البعث
وهذه أمور وحقائق تقابلها حقائق أخرى لابد من معرفتها؛ فإنه لابد من نظرة شاملة، نعم، إنه عدوان إرهابي ليس له أساس قانوني، لكنه في الوقت نفسه، وفي المقابل لا نحتاج إلى أن نغفل عن أن البعث في عقائده كفر صريح، وأن قيادته قد كان لها تاريخ قريب غير بعيد في ذات الجرائم قتلاً وتدميراً واضطهاداً وتعذيباً ونفياً وتشريداً.
فلسنا إذ ندافع عن العراق ندافع عن هذا البعث بكفره، ولا عن أولئك المجرمين ببغيهم وعدوانهم، لكن الآخر أخطر من الأول، وكلاهما وبال، ولكننا ندرك الحقائق من الواقع، وليس من قضايا العاطفة، وليس كذلك من الغوغائية التي تقول: إننا نفدي فلاناً أو فلاناً، ولا فداء إلا للدين، ولا إزهاق للأرواح إلا لإعلاء راية الله وصد عدوان المعتدين على حرمات الله عز وجل، وذلك أمر واضح، ويقوله كثيرون من أبناء العراق، ونعرفه نحن ويعرفه جميع الناس مما جرى في الفترات الماضية والعقود المتعاقبة، كما نعلم جميعاً بما لا يحتاج إلى مزيد من التفصيل.(45/10)
المقارنة بين خطر الديمقراطية الغربية والقومية العربية
فإذا عرفنا هذه الحقائق اعتدلت النظرات، ولم نكن إما مع هؤلاء أو مع هؤلاء، بل نحن مع المبدأ والحق الذي ينبغي أن يكون، ولابد أن نعرف المفاسد والمصالح وأوزانها ومقاديرها.
فإن ديمقراطية أمريكا مسح لأصول ديننا من جذورها، وتغيير لمقومات مجتمعاتنا من أساسها، وانحراف تريد أن تشيعه كما هو شائع عندها وعند مثيلاتها، فهم يريدون دوماً أن يكون في بلادنا مثل الذي في بلادهم مما يزعمونه من حرية المرأة، وحرية الأديان، وانفتاح الفكر والمناهج؛ ليهدموا كل ما هو أصيل في حقوقنا.
وأستحضرها هنا مقالات جاهلية وإسلامية تبين لنا أموراً ينبغي معرفتها: في وقعة حنين كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض مسلمة الفتح، وكان في أول المعركة ما كان من جولة كانت على المسلمين، وإذا بـ صفوان بن أمية وهو حديث عهد بإسلام يضطرب أمره، ويأتيه من يقول: بطل سحر محمد، فلنكن مع القوم الغالبين، فقال وهو إذ ذاك في أول إسلامه: لئن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من ثقيف أو هوازن.
أي: إن حكم محمد بالنسبة لهم وهو من قريش، أولى عندهم من أن يكون المتسلط عليهم أجنبياً أنأى وأبعد.
وقالها ابن عباد يوم جاء ابن تاشفين في أواخر عهد الأندلس لينصر أهل الإسلام، فقيل له: يا ابن عباد! إن انتصر ابن تاشفين أخذ ملكك، فقال: لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل! ولا بد أن يعي المسلمون مواقفهم، وأن يزنوا كلماتهم، وأن يعرفوا مبادئهم، فـ المعتمد بن عباد يقول: لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل.
وحسبك بها كلمة قالها في ظرف عصيب؛ وكان ملكه مهدداً، وكانت دولته إلى زوال، لكنه آثر أهل الإسلام والإيمان، وآثر أن يكون ذيلاً في الحق على أن يكون رأساً في الباطل.
هذه بعض الحقائق.(45/11)
ذكر بعض المبادئ الثابتة التي تراعى في النظر إلى الأوضاع الحربية(45/12)
وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة
أما المبادئ فقد أسلفنا الحديث عنها مراراً وتكراراً فيما سبق؛ لتكون واضحة في العقول والأذهان، راسخة في النفوس والقلوب، حاكمة للمواقف والمنطلقات، فلعلنا نستحضر ذلك: وأول ذلك وأهمه: أن مرجعنا الأساسي وشريعتنا العظمى هي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست من قوانين الأمم المتحدة، ولا من أنظمة أمريكا ولا غيرها.(45/13)
وجوب مراعاة مصالح الأمة الإسلامية
الأمر الثاني: أن المصالح الشرعية للأمة الإسلامية هي المرعية، وليس المصالح دنيوية، أو مصالح جزئية؛ فإن ذلك كما نعلم قد ضيع كثيراً من مقدرات المسلمين، ومن كلمتهم وهيبتهم، ومن قدرتهم على استقلاليتهم وبناء ذاتيتهم، ولابد أن نعرف ذلك وأن نعيه.(45/14)
أهمية النظر إلى مآلات الأمور
والأمر الثالث: النظرة المستقبلية مع عدم إغفال الواقعية الآنية.
فإن النظر إلى أمر قريب يفقد الناس معرفة الحقائق الكبرى، والجرائم العظمى، والمؤامرات الخطيرة، فإن هذه القضية كما نسمع وتسمعون لا تتعلق بتحرير شعب العراق، فمن يحرره؟! ولأجل ماذا؟! هل هو لأجل سواد عيونهم، ولأجل الإخلاص المتناهي لهم، ولأجل الحرقة على أوضاعهم والرعاية لمصالحهم؟! لا يصدق ذلك أحد، بل ما وراء ذلك من تسلط وهيمنة وتغلغل وما يتبعه مما لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى مداه.(45/15)
شمولية القرآن الكريم
إن حديث المبادئ يطول ويطول، ونحن مرجعنا كتاب الله، قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهما غنية وكفاية، كما قال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وكما قال سلمان: (وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء، حتى إنه ما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبراً).
وقد أسلفنا القول عن ثبات وحفظ القرآن الكريم وحفظ السنة في مجملها، وثبات ذلك في التطبيق العملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما بالنا لا نرجع ولا نعتصم بذلك، ونلتفت إليه، ونجعله معولنا الأساسي؟! وندرك حينئذ به كل هذه الحقائق، ونكشف به كل تلك الدقائق، ونستطيع -بإذن الله عز وجل- مع الاعتقاد الإيماني واليقيني والالتجاء إلى الله عز وجل، أن يكون لنا حال أفضل ومواقف أظهر وأوضح وأثبت وأصح بإذن الله عز وجل.(45/16)
بعض المواقف والأحكام التي تجب معرفتها
وإلى بعض المواقف التي لابد من معرفتها، ويكثر الحديث عنها: هذا عدوان سافر واضح من أمة لا تدين دين الإسلام، وفي صورة لا يشك عاقل أن فيها ضرراً على الإسلام وأهله، ولا يقولن لك أحد غير ذلك، ولا يخبرنك أحد بغيره، كما اضطربت بعض المواقف وتراجعت، وتغيرت وتبدلت، وقالت: إن الحملات الصليبية فترة تاريخية، ولا يشك عاقل أنها كانت لمصالح سياسية، ولم تكن حرباً دينية، وقال من قال في تراجعاته ومحاوراته: إنه ليس هناك فرق بين الشرائع السماوية في رعايتها للسلام وحرصها عليها.
ونحن نعرف ما عند اليهود عليهم لعائن الله في توراتهم المحرفة وتلمودهم الحاقد من دعوة صريحة للعنصرية والهمجية والعدوانية، ثم يقال غير هذا ويروج فيه الأحاديث والأقاويل والبيانات، وهذا من المخاطر الكبيرة.
وثمة أمر آخر لابد من معرفته، ولعلي أقف هذه الوقفات الشرعية مع هذه المواقف فيما إذا غزيت هذه البلاد الإسلامية، فهي إسلامية وإن قلنا: إن البعث في عقائده كفر؛ فإن البلد بلد إسلام؛ فتحه المسلمون، ورووه بدمائهم، وكان وقفاً إسلامياً، وجل أهله مسلمون، وكثير منهم -وخاصة في الآونة الأخيرة- رجعوا إلى الله عز وجل، فلا يقال: إنها بلد لا يصدق فيها أنها بلد إسلام فلا تنطبق عليها تلك الأحكام.(45/17)
حكم مظاهرة ومعاونة أعداء الإسلام
ثم أمر المظاهرة لأعداء الإسلام والمعاونة والمشاركة لهم ليس فيها شيء من شبهة ولا قليل من خلاف، فإن النصوص فيها واضحة، وإن أقوال الأئمة والعلماء فيها قاطعة، فمظاهرة ومناصرة غير المسلمين على المسلمين لا تتفق مع أحكام الدين، بل هي مناقضة له، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وقال جل وعلا: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فمن أعان على أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل فإنه يخالف حكم الله ومراد الله الذي اقتضاه والذي أراده سبحانه وتعالى، وهذا أمر مهم لابد من معرفته كذلك، وهو الذي نحمد الله سبحانه وتعالى عليه ألا يكون لنا في ذلك لا اعتقاد ولا ميل أو هوىً نفسي فضلاً عن مشاركة عملية.
نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من الشرور والآثام، وأن يصرف عنا الفتن والمحن، وأن يرد الذين كفروا بغيظهم من غير أن ينالوا خيراً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يدرأ وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يعيذنا من شرورهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(45/18)
وجوب جهاد الكفار الغزاة
ومن الأحكام إذا غزي المسلمون في عقر دارهم: أنه يجب عليهم الجهاد لصد هذا العدو، كما ذكر العلماء قاطبة في أقوالهم سرداً وإقراراً للإجماع، ومن ذلك قول ابن عبد البر رحمه الله: والفرض في الجهاد ينقسم إلى قسمين: أحدهما: يتعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار؛ وذلك بأن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم؛ فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، وشباباً وشيوخاً، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر.
وقال النووي رحمه الله: وإن دخلوا بلدة يتعين على أهلها -أي: الجهاد- وأما غير أهل تلك الناحية فمن كان منهم على دون مسافة القصر فهو كبعضهم، حتى إذا لم يكن في أهل البلدة كفاية وجب على هؤلاء أن يسيروا إليهم مع مراعاة قدرتهم على الدفع.
وكما قالوا في الاستشهاد بذلك بقول الله تبارك وتعالى في القرب والجوار: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120]، وكما في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123].(45/19)
خدمة الحرب على العراق لليهود الغاصبين في أرض فلسطين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن هذه الحرب الدائرة والأعمال الجائرة ينبغي ألا تغفلنا أو تنسينا صلتها الأساسية في انبعاثها وأسبابها وفي مآلاتهها وغاياتها بقضية الإسلام والمسلمين الأولى في أرض فلسطين، فلا يخفى على كل عاقل أن هذا كله في مصلحة اليهود الغاصبين، بل إنه من أساسه وانبعاثه إنما كان لأجلهم ولأجل تمكينهم، ولأجل بقائهم على قوتهم ومعهم الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وهم الذين يرفضون التوقيع على الاتفاقيات، ولم يصل إليهم أحد من التفتيش، ولم يذكر أحد أنهم يحتاجون إلى تفتيش.
وهذه الحرب من أهدافها أن ينشغل الناس، ويمكن لليهود من انتهاز الفرصة وقيامهم بأمور قد يكون فيها تهجير وضرب وترحيل لإخواننا المسلمين من أرض فلسطين، وغير ذلك مما هو معلوم.
ونحن نعلم أنه خلال شهر قتل اليهود سبعة وثمانين من إخواننا في فلسطين ولا أحد يتكلم، ولا أحد يذكر شيئاً، ونعرف ما عندهم من الجرائم والمخالفات للقوانين الدولية ولقرارات مجالس الأمن وغير ذلك، وما التمكن من العراق إلا طريق لزيادة تمكينهم، وزيادة إضعاف قوة العرب والمسلمين، والإرهاب والخلخلة لأوضاع المجتمعات والدول العربية والإسلامية بما يجعلها مضطربة حائرة، أو خائفة مترددة، أو مستسلمة ذليلة، حتى لا يبقى هناك أي قدرة على مواجهة أولئك اليهود الغاصبين، ويكون ذلك مزيداً من القوة والتمكين لهم على حساب الإسلام والمسلمين.
ولو أننا تمعنا لعرفنا الروابط، ولرأيناها واضحة جلية، ولذلك نحن نعلم قول الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [المائدة:51]، وقد بين الله عز وجل لنا أنهم: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، ونحن نعلم قول الله جل وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، كل ذلك مما ينبغي ألا نغفل عنه ولا ننساه، ولا نغفل عما يجري هناك، فإنه مركز الدائرة وقطب الرحا ونقطة الالتقاء والصراع الحقيقي، وكل الطرق تؤدي إلى روما كما يقولون، وأزعم أن كل القضايا التي تحاك ضد المسلمين لها من قريب أو بعيد صلة بالمواجهة الحقيقية الشاملة بين الإسلام وأعدائه في أرض الإسراء.(45/20)
توجيهات مهمة للمسلمين في ظروف الحرب(45/21)
وجوب الصدق في التوبة والعودة إلى الله عز وجل
والأمر الثالث: الصدق في التوبة والأصالة في العودة والأوبة: لقد مضت أحداث سابقة وقال الناس: إن فيها عظة وعبرة، ورجعوا إلى الله في الحرب الماضية، وامتلأت المساجد، وراجع الناس أنفسهم، ثم كرت الأيام وعادت حليمة لعادتها القديمة كما يقولون، ورجعت وسائل الإعلام في أكثر البلاد إلى نشر الفسق والفجور واللهو واللعب والطرب، وستأتي هذه الكارثة ونرى شيئاً من التحول، ثم ماذا من بعد؟! نعود مرة أخرى، إننا إن لم نصدق الله عز وجل في توبتنا، وإن لم نخلص في أوبتنا، وإن لم نصحح مسارنا، فإن سنة الله لا تحابي أحداً، وإن سنة الله ماضية، وقد مضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي ما لقي من العناء والأذى بما وقع من عشيرته وبما وقع له في حياته عليه الصلاة والسلام مما مضت به سنة الله الماضية، وهذا أمر مهم.
ولعلنا قد ذكرنا من قبل إعلان التوبة، وإظهار الاستقامة، وصحة الأخوة، وكثرة الالتجاء والتضرع بالدعاء لله عز وجل، وليس هذا موضوع حديثنا.(45/22)
أهمية الحذر من الإرجافات والشائعات
والأمر الرابع وهو المهم: الحذر من الإرجاف وترويج الشائعات، وكثرة تداول الرؤى والمنامات: إن ديننا لا يبنى على الرؤى والمنامات، وإسلامنا ليس فيه هذا التعلق ببعض الأخبار من الغيبيات، بل إسلامنا كما قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، إسلامنا دين عمل ينبني على أدلة واضحة من كتاب الله وسنة رسول الله.
والشائعات تكثر، والمرجفون يزدادون في مثل هذه الفتن والمحن، فأخرسوا كل مرجف، واقطعوا دابر كل شائعة، واجعلوا الأمور توفر الأمن والأمان والثقة والتآلف والتآزر فيما بين الأمة.
ويعجب المرء من هذا الإرجاف الذي تمارسه بعض الصحف الذائعة الشائعة وهي تملأ الصفحات بصور الأسلحة وقدرتها المدمرة، ولا ترى إلا الإعلانات التي تقول: في يومين وفي ثلاثة، وحتى لو صح ذلك فما الفائدة في أن ننشره في الناس حتى يستسلموا، فلندعهم حتى يستبشروا، وحتى يترقبوا الفرج من عدو الإسلام والمسلمين، وينتظروا الأمن والرخاء والحرية والحقوق الإنسانية من هذا الذي سردنا بعض تاريخه قريباً غير بعيد! واستمعوا إلى هذه العناوين في بعض هذه الصحف ولا أريد أن أطيل عليكم: هذا عنوان يقول: (أول ضحايا الحرب العراقية توقف دوري كرة السلة في بلد معين؛ لأنه يوجد في هذه الفرق في تلك البلاد لاعبون أمريكيون اضطروا للسفر بناءً على نصائح سفارتهم)! هذه أول الضحايا، انظروا كيف نرى أو يرى إعلامنا، أو يذكر هذا في خضم هذه الأزمة القاتلة! ومسابقة ملكة الجمال في بلد عربي تتواصل، ودعاياتها تملأ الصحف، وفيها صور النساء وأسماؤهن، وفوق هذه الدعايات ترى أسماء الأسلحة، وترى عناوين الحرب، وذلك لا يقدمنا ولا يجعلنا نطمئن إلى أحوالنا، إذا كان هذا ما قد نميل إليه أو ما قد يروج بيننا.
نسأل الله السلامة، وأن يصرف الفتنة، وأن يعصم من المحنة.
اللهم إنا نسألك أن تنزل بأعداء الإسلام والمسلمين سخطك، وأن تحل بهم نقمتك، وأن تشد عليهم وطأتك.
اللهم فرق جموعهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم في أنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، اللهم إنهم قد أفسدوا في البلاد، اللهم فصب عليهم سوط عذاب، إنك يا ربنا لهم بالمرصاد.
اللهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار؛ يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ اكشف البلاء عن الأمة، وارفع اللهم الغمة.
اللهم قد قلَّ المعين الناصر، وكثر العدو القاهر، وليس لها من دونك كاشفة، اللهم اكشف البلاء، وارفع العناء.
اللهم اللطف بإخواننا المسلمين فيما تجري به المقادير، اللهم اللطف بإخواننا المسلمين في أرض فلسطين وفي العراق وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم إنهم ضعفاء فقوهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم إنهم مستضعفون فانصرهم، يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم عليك بهم أجمعين، لا ترفع اللهم لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أقر أعيينا بهزيمتهم، واشف صدورنا بذلهم، اللهم أذهب ريحهم، وأفشل خططهم، وأبطل كيدهم، واحبط مكرهم، واجعلهم اللهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وسلط عليهم جنداً من جندك يا رب العالمين! اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتدين.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وألف اللهم بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك.
اللهم استخدمنا في نصرة دينك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واجعلنا ساعين في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واصرف عنا الشرور والسيئات ما مضى منها وما هو آتٍ، واغفر اللهم لنا ما سلف منا وما هو آتٍ، وضاعف اللهم لنا الحسنات.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطواتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم ألف بين قلوبهم، واقذف في قلوبهم الإيمان واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، برحمتك وعزتك يا رب العالمين! اللهم لطفك ورحمتك وعونك لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم مشردون فسكنهم، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والشيوخ الركع، والأطفال الرضع، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(45/23)
وجوب الوحدة والحذر من الفرقة
الأمر الثاني: الحرص على الوحدة والائتلاف، والحذر من الفرقة والاختلاف: فنحن أحوج ما نكون إذا اجتمعنا وائتلفنا على هذه الجمل الثابتة حتى نتوحد ونجتمع وننسى خلافاتنا، بما فيها الاختلافات والآراء الاجتهادية الفقهية في المسائل العلمية وفي المواقف العملية التي ينبغي أن تذوب؛ لأننا في مواجهة خطر أكبر وعداء أشمل وصورة ماحقة تستهدف الإسلام وأهله من الجذور ومن الأسس، فلا ينبغي أن نبدع هذا أو نفسق هذا وخاصة في مثل هذه الظروف، بل لابد أن يكون التكاتف والتلاحم بين الجميع رعاة ورعية وحكاماً ومحكومين، وإن وجد خطأ فثمة ما هو أعظم من هذا الخطأ، وإن وجد تقصير فثمة ما هو أخطر من هذا التقصير.
ولابد أن نكون على وعي وبصيرة، وعلى موازنة بين المصالح والمفاسد، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس المسلم من يعرف الشر من الخير، ولكنه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين.
فإن الشرور كثيرة، والخير صوره متنوعة، قد تأخذ أدنى شيء منه وتترك ما هو أعظم، وقد تأخذ من الشر ما هو أعظم وتترك ما قد يحتمل مما هو أدنى، فينبغي أن نعرف ذلك، وأن نحرص أيها الأحبة الكرام! في زمن الفتن والمحن على تراص الصفوف وتلاحمها؛ فإن أعظم هدية تقدم لأعدائنا أن نفرق صفوفنا، وأن نزيد تقطيع أوصالنا، فيأكلوننا لقمة سائغة، كما قال العربي من قبل: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض! إنهم لا يفرقون بين مسلم في هذه البلاد ومسلم في بلاد الشام أو في بلاد اليمن، إنه لم يعد ثمة تفريق بين من يسمون متطرفين أو إرهابيين، وبين مسلم قد يصفونه بأنه مسالم موادع، فالكل في شرعتهم من حيث الحقيقة سواء، وإن بدءوا بهذا فالثاني من بعده، وإن بدءوا بتلك الديار فربما تكون تلك بعدها، فينبغي ألا نجعل فرصة لأعدائنا بمزيد من التشتت والتفرق والتشرذم والتنابز بالألقاب، بل احرصوا على هذه الألفة وهذه المحبة، ولا يكون ذلك إلا بتلك الجمل الثابتة في اعتصامنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(45/24)
الاعتصام بالكتاب والسنة مصدر العزة والكرامة
ولا بد كذلك أن ننبه إلى أمور مهمة وإلى جملة من التوجيهات نحن في أمس الحاجة إليها: الأمر الأول: يجب الاعتصام بالجمل الثابتة والأحكام القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما فيه اجتهاد واختلافات فأمره معروف عند أهل العلم، ولكن ثمة جمل ثابتة وحقائق قاطعة ليس فيها خلاف، وهي العواصم من القواصم، وهي النور من الظلمة، وهي معالم الطريق التي تعصم من الانحراف والزيغ والضلال بإذن الله، فتواصوا بها، واعتصموا بها، وعضوا عليها بالنواجذ؛ فإنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، أي: تمسكوا بها؛ لأنه ثمة كثير من الصوارف التي تصرف عنها.
وللأسف أننا نسمع أمراً يخالف ذلك يقترن بحقيقة مهمة، وهي أن كثيراً من صحفنا وإعلامنا يهول في حجم أعدائنا؛ حتى يبث الرعب في القلوب، وحتى يسري اليأس إلى النفوس، وكأن أولئك القوم قد ملكوا أعنة الأمور، وأصبح بيدهم تدبير الكون وتصريفه والعياذ بالله، وكأنه لا قوة حاكمة ولا تقدير سابق ولا قضاء مبرم من الله سبحانه وتعالى، فيفتون في العضد، ثم يقولون من باب التدرج: ماذا يمكن أن نصنع؟ وأي شيء يمكن أن نقول؟ والذي يقول هذه المقالات لا يدرك الحقائق، ولا يعرف الواقع.
سبحان الله! نحن ندرك الواقع ونعرفه، لكن إدراكنا لا يعني أن نترك كتاب الله وراء ظهورنا، ولا أن نخلف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دبر آذاننا، بل نقول بما فيهما وإن كنا لا نستطيع إنجاز ذلك أو القيام به في هذا الوقت، لكن تغييره هو الأخطر، والشك في حقيقته هو الأكثر ضرراً والأعظم خطراً؛ لأننا إذا شككنا في ذلك فإننا قد تركنا شيئاً مما نستند إليه ونضع أقدامنا عليه، وبالتالي تغيب عنا الرؤية الصائبة، ويغيب عنا موضع القدم الثابت الراسخ الذي يجعلنا قادرين على أن نقف ونحن نعرف أين نقف، وأن ننظر ونحن نعرف إلى من ننظر، وأي شيء نرى أمامنا، أفإن قالوا كلاماً معسولاً أو غيروا أو أرهبوا وأرغوا وأزبدوا نتغير عن هذه الجمل الثابتة والحقائق القاطعة في كتاب الله الذي قال عنه سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وفي سنة طاهرة مشرفة مبرئة من العيب والنقص لسيد الخلق وأكرم الرسل عليه الصلاة والسلام؟!(45/25)
إذا لم تستح فاصنع ما شئت
لقد نزع الحياء عن كثير من أبناء أمتنا، وانسلخوا منه حتى مارسوا الشهوات والقبائح، وصاروا يلهثون وراء المحرمات، ويجاهرون بالمعاصي والسيئات، وإذا نزع الحياء وفقد تغيرت الحياة، وفسد الناس والمجتمعات، وضاقت الأنفس العفيفة، وتفطرت الأكباد الطاهرة النظيفة، فإلى الله المشتكى!(46/1)
منزلة الحياء في الدين
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، نحمده سبحانه وتعالى، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، حمداً نكون به من الشاكرين الذاكرين، فهو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى وفي الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغواية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم لاتباع سنته وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
أما بعد:(46/2)
الحياء فضيلة في كل الشرائع
لما تجمل القوم بلباس الحياء صحت لهم تلك الأخلاقيات، ولذلك لم يكن الحياء والأمر به في شريعة الإسلام وفي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن هذه الخصلة هي قرينة الإيمان، وكما أن الإيمان منذ أن خلق الله آدم وأتبعه بالرسل والأنبياء، فكذلك الحياء باق ممتد على مدى التاريخ، منذ أن وجد التوحيد والإيمان، ومنذ أن أنزلت الكتب وأقرت الشرائع؛ ولذلك كان أمراً ممتداً عبر تاريخ البشرية كلها في أوامر الله وشرائعه، كما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وأصح التفسيرات وأرجحها عند العلماء أن من فقد الحياء فإنه حينئذ لا يكون عنده عاصم من اقتراف المعاصي وارتكاب المحرمات، ومن التجرد من كل معنى من معاني الخلق والفضيلة، بل حقيقة الأمر أن الذي يفقد الحياء يقتل فطرته ويتجرد من اللباس والزينة، ويبدو الإنسان منه عارياً، فإذا نزع الحياء فإن العورة تبدو وتنكشف، وإن الزينة والستر والتجمل يذهب إلى غير رجعة، ولذلك: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء أي: يبقى العود في الشجرة ما بقي الغطاء الذي يغطيه ويستره، والذي يزينه ويجمله، ولذلك يصدق قول القائل: إذا عدم الحياء بأرض قوم فكبر أربعاً وقل السلام فإنه إذا نزع الحياء فقد ضعف الإيمان في قلوبهم، وماتت الغيرة في نفوسهم، وانعدمت الفضيلة من قواميسهم، وأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.(46/3)
صورة من تطبيق الحياء
فهذان هما التابعيان الجليلان: مسروق والأسود جاءا إلى عائشة رضي الله عنها ليسألاها عن المباشرة والقبلة للصائم، فلما جلسا إليها خجلا منها، ثم قاما من مجلسهما ومضيا، وانصرفا حياءً أن يسألا عائشة رضي الله عنها رغم أن المسألة علمية، فلما مضيا قليلاً رجع أحدهما إلى الآخر وقال: جئنا لنسأل عن أمر من أمر الدين ثم أرجعنا الحياء، فعادا مرة أخرى إلى عائشة رضي الله عنها وقالا لها: يا عائشة إنا أتينا نسألك عن شيء فاستحيينا منك، فقالت: سلوا، وفي رواية أن هذه الواقعة -كما هي في مسند الإمام أحمد - وقعت لـ أبي موسى الأشعري فقالت له: (سل ما شئت فإنما أنا أمك) فسألوا حينئذٍ وأجيبوا.
لكن انظروا إلى هذا الحياء الذي جمل الأئمة والعلماء! والذي صبغ الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
وأم سلمة رضي الله عنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من الأنصار لم يكن للمهاجرين بها عهد، كما ذكر بعض الصحابة، فقالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء، فقالت: أم سلمة رضي الله عنها: لقد فضحت النساء) أي: أنك جئت بسؤال واضح مباشر، كأنها رأت في نفسها أن مثل هذا قد لا يسأل عنه بمثل هذه المواجهة، وإن كان تقديم الصحابية أيضاً يدل على حيائها وأدبها، عندما قالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت).(46/4)
الحياء من شعب الإيمان
هذا الحياء قرين الإيمان، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه خصلة من خصال الإيمان، وخصه بالذكر من بين سائر الأخلاق حينما قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ثم قال: (والحياء شعبة من الإيمان).
لم يكن هذا التخصيص عبثاً منه صلى الله عليه وسلم، بل لأن حقيقة الإيمان مرتبطة بهذا الحياء، ولذلك كان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان يجيب السائل، ويعاتب المخطئ، ويقوم الذي يعتدي على حقوق الآخرين، إلا أن حياءه لم يكن يفارقه في لحظة ولا في حركة ولا في سكنة، فجمل حينئذ خلقه، وصدق وصف الله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
فلما تحلى بزينة الإيمان، وتوج خلقه بتاج الحياء، أسر القلوب، واستمال النفوس، وصار الناس يتأثرون بهديه وسمته وفعله أكثر مما يتأثرون بقوله، فضلاً عما يتأثرون بزجره أو وعيده أو بعقابه الذي يمضيه في حكم الله سبحانه وتعالى عليه، وصبغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المجتمع الإيماني الرباني بصبغة الحياء، فإذا بك تعيش في عهد النبوة لا تسمع كلمة نابية، ولا ترى فعلاً يخدش الحياء، بل عند الحاجة الملحة يظل الحياء زينة ووقاراً.(46/5)
الحياء والإيمان قرينان
أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم عن فقدان الحياء وآثاره في حياة الأمة، ذلك الحياء الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه شعبة من شعب الإيمان، وروى الحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، كما أن الإيمان حلية يتحلى بها العبد المؤمن، وهو العاصم بإذن الله جل وعلا من الوقوع في المعاصي، ومن التعدي على حرمات الله، فللحياء هذه السمة: إذ هو يمنع صاحبه الذي تحلى به والذي تزين به من أن يأتي المحرمات، بل يمنعه من أن يأتي الأمور المستقبحة التي لا تليق بمقامه وإن كانت في بعض الأحوال مباحة لغيره، ذلكم الحياء الذي عرفه أهل العلم بأنه خلق يبعث على فعل الجميل، وترك القبيح، والتوقي من الأدناس وما يعاب عند الناس، الحياء الذي بوجوده يكون للمرء سورة حسنة، عفة في اللسان، وغض في البصر، ولين في المعاملة، وتوق من المعاصي، واجتناب لكل أمر مرذول حقير.
هذا الحياء بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عمران بن حصين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، وفي بعض الروايات الأخرى: (الحياء خير كله)، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء)، قال بعض الشراح: أي: أنه كان يلومه على ما كان عنده من بعض الحياء الذي يمنعه من المشاركة أو ربما يجعله انطوائياً أو انزوائياً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير).(46/6)
انسلاخ كثير من المجتمعات المسلمة عن الحياء
وتعالوا بنا في جولة تصدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن به مؤمنون مصدقون، ولكنها نبوءته عليه الصلاة والسلام.
تصدقه من وراء هذه القرون والسنوات المتتابعات، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
فانظروا إلى الذين يتجاوزون الحدود والحرمات، وانظروا إلى الذين يتجاوزون الأعراف والتقاليد، وانظروا إلى كل تجاوز فإنه لا يكون إلا بنزع للحياء أو بتقليل منه، ما بالنا لا نقول في مجتمعات أخرى، بل في مجتمعنا وبلادنا أرض التوحيد وبلاد الحرمين، في البلاد التي ترفع راية الشريعة وتطبيقها، ما بالنا نرى الحياء وقد آذن بالرحيل، وقل في سلوك الناس أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى كأن هذه الكلمة وهذا المعنى لم يكن وارداً في دين الله سبحانه وتعالى، ولا في هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن وصية عبر التاريخ والقرون وعبر الشرائع التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؟! المرأة تخرج متهتكة متبرجة متعطرة متزينة، قد داست حياءها قبل أن تخرج من بيتها، وقتلت أنوثتها قبل أن تتزين بهذه الزينة، وخالفت أمر الله سبحانه وتعالى، وضربت عرض الحائط بقول الحق جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ما بالها تمشي في الطرقات مشية يستحي أن يمشيها الرجال؟! ما بالها تخاطب الرجال في الأسواق، فيستحي الرجل ويطأطئ رأسه وتقول له: ما بالك تستحي كأنك امرأة؟!(46/7)
صور من قلة الحياء
وانظروا إلى صور أخرى نراها وكم هي عجيبة لم تكن ترى في مجتمعاتنا، فإذا أنت ترى شاباً وهو رافع صوت ذلك المسجل بالأغاني الغربية الماجنة إلى أقصى حد، وإذا به يطوف الشوارع ويجوب الطرقات يزدهي ويفتخر بدلاً من أن يخجل من هذا الأمر ويستتر، وذلك لانقلاب الموازين، فإذا قال له إنسان: قلل من هذا الصوت على أقل تقدير، فإنك واجد سيلاً من الشتائم ينبئ عن سوء الباطن، وقلة الحياء، وانعدام الأدب.
وربما تجد -وهذا من أعجب العجب- أن هناك من ينصره ويؤيده، ومن يدعو إلى الحفاظ على الحريات، وأن يكون لكل إنسان ما أراد! وكأنه ليس عندنا آيات قرآنية، ولا أحاديث نبوية، ولا عندنا شرع ودين، ولا حلال ولا حرام.
وانظر كذلك إلى صور أخرى أقذع وأفظع فيمن يجترئون على حدود الله، ويستهزئون بدين الله، فهذا يسطر مقالاً يتهكم فيه بالمتدينين وذاك يكتب قصيدة يهزأ فيها ويسخر -عياذاً بالله- من رب العالمين، وكل ذلك مبعثه وأساسه موت الحياء وانعدامه، وترى من يكتب إلى هذا اليوم بعد أن عقل الجهلاء وبعد أن عقل حتى المجانين، ويقول لنا: إن الطبيعة تخلق، وإن الطبيعة رقمت اللوحة الجميلة، وإن الطبيعة فعلت كيت وكيت وتمر كتابته في الأوساط ولا يتحرك لأجله أحد.
ومليئة هي الوسائل التي تصدح صباح مساء بكل رقيع من القول، وبكل اجتراء على دين الله عز وجل، وإنما هذا أيضاً هو من فقد الحياء، وصورة من صوره البغيضة النكدة التي استشرت في مجتمعات المسلمين نسأل الله السلامة.
وهذه الفظاعة التي أذكر تدرجها إنما هي بحسب تأثيرها وانتشارها، فكاتب الصحيفة تأثيره أكثر من هذا الشاب الذي يجوب الطرقات، فلا يسمعه ولا يراه إلا بضعة نفر، وهذه الصور إنما هي نماذج وإلا فإننا نجد أكثر من ذلك وأكثر.(46/8)
صورة من قلة الحياء عند قادة الأمة
وهذه صورة تتعلق ببعض الساسة والزعماء والقادة الذين يتكلمون باسم الإسلام وهم ألد أعدائه، ويدافعون عنه بالألسنة ويقتلونه بالأيدي، أولئك الذين تصدروا وكانوا سبة في جبين التاريخ، وكانوا هماً وغماً وبلاء على المؤمنين في كثير من ديار الإسلام، بل في كثير من ديار العرب، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا الحياء، فهم يتكلمون ويعلمون أنهم كاذبون، ويعلمون أن الذين يسمعونهم يعلمون أنهم كاذبون، ولكن من فقد الحياء فإنه لا يعود عنده تمييز، ولا يعود عنده فرق بين حق وباطل، ولا بين أمر لائق وغير لائق، وكما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا بليتم فاستتروا)، ولكن الذي يفقد الحياء يجاهر ويعارض ويفضح ويكشف نفسه أمام الناس، وهذه صورة مرت بنا كثيراً ونراها، وهي يصدق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وصنعوا ما شاءوا وخرج الناس، ووجدت في ديار الإسلام نوادي للعراة، ووجد في ديار الإسلام نداء بالكفر، ووجد في كثير من بلاد الإسلام كل ما لا يخطر على عقل وبال، كل ذلك بسبب انعدام الإيمان وذهاب الحياء.
اللهم إنا نسألك أن تجملنا بالحياء، وأن تسترنا وأن تعظم في قلوبنا الإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(46/9)
فقد الحياء تدريجياً
ما هذه الصور التي قتلت كل معنى جميل، وكل خلق فاضل، وأماتت كل صورة مشرفة وضيئة في حياتنا؟! لما انسلخ الحياء انسلخ الإيمان وضعف توقير أمر الله سبحانه وتعالى، أليست هذه صورة نشهدها كل يوم ونراها قد كانت خطوة فخطوة فخطوة، ولا نعلم إلى أين تنتهي الخطوات؟ (نظرة فسلام فكلام فموعد فلقاء) هذا هو الذي كان، ما كنا نرى ذلك قبل سنوات قلائل، ما كنا نرى هذه الصور وهذه المشاهد وهذه الأمور التي تجعل الحليم حيران، أين غيرة الرجال؟ أين إيمان أولياء أمور هؤلاء النساء؟! وأين ركنا المرأة التي تتميز بهما عن الرجل الحياء والأنوثة؟ فقدت حيائها فتبرجت، وفقدت أنوثتها فاسترجلت، ولم يعد المرء يفرق اليوم بين رجل وامرأة، وأصبح كثير من الناس ينشرون الصور ويروجونها في أوساطهم ويلتمسون لها المعاذير، ويقولون: هذه حاجة وهذا لا بأس به، ونقول: اسمعوا لقول الله جل وعلا في خطاب خير نساء الأمة أزواج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، نهي لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن من هن إيماناً وأدباً وحياءً وعلماً وخشية لله جل وعلا، والمخاطبون هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حرصاً على الطاعة، وأبعد الناس عن المعصية، ومع ذلك يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، أي: لا تلن الكلام ولا تتكسرن فيه، ولا تملنه يمنة ويسرة، فضلاً عن الضحكات والحركات، فضلاً عن الإشارات والغمزات.
لقد فقد الحياء في مثل هؤلاء النساء، وفقدت الغيرة من أولياء أمورهن، وصارت صورة تنذر بويل كبير، وخطر عظيم؛ لأنها لا تخص أصحابها بل تقتحم أنظار الناس رغم أنوفهم، وتقتحم قلوبهم رغم أنوفهم، وتغير في نفوسهم رغم أنوفهم.(46/10)
الآثار الوخيمة المترتبة على فقدان الحياء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى مراقبة الله جل وعلا، وإن خلاصة الحياء هي تلك المراقبة التي تجعل الإنسان دائماً يستشعر حياءه من الله، كيف أمده بالنعمة، وكيف أمره ونهاه ثم هو يتجاوز الأمر والنهي ويجحد النعمة ويرفض الشكر.(46/11)
المجاهرة بالمعاصي
الأثر الثاني: المجاهرة بالمعاصي: وهذه المجاهرة وخيمة الآثار، وخطيرة العواقب؛ لأنها تجرئ الذي لم يكن جريئاً، وتشجع الذي كان متردداً، وتنزع الحياء عمن كانت عنده بقية من الحياء، كثير من الناس فيه بعض الخير، وفيه خير وإيمان، لكنه يرى هذا وقد اعتدى وذاك وقد أسرف، ويرى أولئك وهم يفتخرون بمعاصيهم، ويجاهرون بمحادة الله ورسوله، ولا يأبهون بأوامر الله عز وجل فضلاً عن أن يأبهوا للبشر ولأذواق الناس أو اعتراضهم يمنة أو يسرة.(46/12)
فساد الذوق العام وانقلاب الموازين
الأثر الثالث: فساد الذوق العام وانقلاب الموازين: وهذا يحصل بالتدرج، فإذا أذواقنا الإيمانية وحسنا الإسلامي يختل وينعدم ويرتكس وينتكس، وإذا بك في هذه الأزمان والأعصر ترى صوراً لم تعد منكرة، بل صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وماتت الغيرة في النفوس، وفسدت الأذواق، وصرنا في أول الأمر نقول: الوجه، ثم الشعر، ثم النحر، ثم الذراع، ثم الساق، والله أعلم ما يأتي من بعد ذلك.
وفي كل مرة نرى أن الذي مضى أمر هين والخطر فيما يأتي، ثم إذا بالذي أتى يصبح في خبر كان، ويصبح أمراً ماضياً، وإذا به يصبح لا بأس به، وإذا بالأذواق تختلف، وإذا بموازين الشرع وقيمه تتغير وتتبدل، وهذا من أخطر الأمر وأسوئه.(46/13)
فساد الحياة كلها
الأثر الرابع: أن هذا لا يفسد الذوق العام فحسب، بل إن انعدام الحياء يفسد الحياة كلها: وذكر ابن القيم أن الحياء مشتق من الحياة، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] أي يتركونهن فلا يقتلونهن، فالاستحياء: هو الإبقاء والترك وعدم القتل، وإذاً: فمعنى الحياء هو ترك المعاصي، فإذا هزم الحياء فسدت الحياة كلها، فإذا بك لا ترى صغيراً يوقر كبيراً، ولا ترى ابناً يبر أباً، ولا ترى ابنة تسمع أماً، ولا ترى تلميذاًَ يوقر أستاذه، وإذا بالحياة كلها تفشل، وإذا بالأخلاق تتبدل، وإذا بالصورة تعافها النفس، وإذا بها ظلمات في القلب، وضيق في الصدر، وأسن في النفوس، وخلل في العقول، وظلمة في الأبصار والبصائر، وكل مناحي الحياة تفسد.
ألسنا نرى اليوم آباء يصرخون من عقوق الأبناء؟ ما وقع ذلك إلا بسبب فقد الحياء.
ألسنا نرى اليوم معلمين يشكون من طيش التلاميذ، ومن سوء أدبهم، ومن قلة حيائهم؟ ألسنا نرى مدير الدائرة يشكو من لامبالاة موظفه؟ ألسنا نرى الرعية يشكون من الحاكم والحاكم يشكو من عدم مبالاة الرعية؟(46/14)
قلة التعظيم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
ولننظر إلى الآثار الوخيمة والخطيرة، والمدمرة والقاتلة في فقدان الحياء في أي مجتمع، وخاصة في مجتمع المسلمين.
الأثر الأول: قلة التعظيم لله ولرسوله، ولأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الصور إنما هي إغفال وتجاهل لآيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهي دليل على ضعف الإيمان، وذهاب الوازع الديني، وعدم الارتباط بالتشريع من قريب ولا من بعيد، وهذا هو الذي يجرئ الناس على اقتراف المنكرات، وعلى التعدي ليس على الحرمات، بل على رب الأرباب سبحانه وتعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأخيار الصالحين من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، وتجد سيلاً من الشتائم والاعتداء الذي ليس فيه أدب ولا حياء على كل صاحب التزام وصاحب خلق، وصاحب حياء وإيمان، وسيحصل مزيد ومزيد من هذا الاجتراء والاستهانة بدين الله عز وجل، كلما زاد هذا التيار الذي يقتل الحياء ويئد الإيمان.(46/15)
فقدان الحياء موت للمجتمع
إذا عدم الحياء بأرض قوم فكبر أربعاً وقل السلام فإنه الموت الذي دونه كل صورة من صور الحياة الظاهرة، لكنها كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، إنما يعيشون في بهرج من الحياة، يأكلون يشربون يركبون السيارات يبنون المباني والعمارات يتزينون بالزينة؛ ولكنهم مجردون عن حلية الإيمان، وعن زينة الحياء، فيصبحون كأنهم أموات في صورة أحياء.
وما قيمة مجتمع تموت فيه الفضائل، وتقتل فيه الأخلاق، وتنعدم فيه الأذواق، وحينئذٍ لا يبقى هناك مقياس أبداً، تنعدم المقاييس فلا يصبح هناك شيء يسمى عيباً، ولا يعود هناك شيء يسمى مخالفة للأدب، ولا شيء يسمى مخالفة للذوق العام.
ولذلك نرى اليوم في الصحف والمجلات أموراً عجيبة، يختلفون في بعض الأفلام - هذه الأفلام الماجنة- هل تجيزها الرقابة أو لا تجيزها، والذي يختلفون عليه من الفظائع والكبائر، بل من أنكر المنكرات الذي لا يقرها عقل ولا دين ولا فطرة، ومع ذلك تجد النزاع والحوار على صفحات هذه المجلات بصورة مقززة تدل على انعدام الحياء، وهذه الصور -كما أشرت- تفسد كل شيء في حياة الناس، فهذا أثر هذا الإفساد العام.
وقد أخبر الله تعالى أنه جعل الحياة في الاستجابة لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، حياة القلوب، حياة الأخلاق، حياة المبادئ، حياة النظافة، حياة الطهارة، حياة التعامل الرفيع، حياة الحضارة المؤدبة! كل ذلك لا يكون إلا بالإيمان وما في هذا الإيمان من خصال؛ ولذلك عندما سرت هذه المنكرات أصبح الأب لا يستحيي أن يشاهد في منزله أفلام الفيديو مع أبنائه وبناته، ويرون فيها المشاهد الفاضحة، لا يتغير وجهه ولا يتمعر، وحدث عندنا نوع من الانحلالية والإباحية التي تسري في المجتمع سرياناً خطيراً.
ولعل قائلاً يقول: قد بالغت وأكثرت، وقد هولت فيما صورت، ولكنني أقول: معظم النار من مستصغر الشرر وأول الغيث قطر ثم ينهمر وأكرر فأقول: إذا عدم الحياء بأرض قوم فكبر أربعاً وقل السلام.
الحياء الذي ذهب من صغارنا وكبارنا، ورجالنا ونسائنا، وتلاميذنا ومعلمينا، هذه الصورة تنذر بخطر عظيم، ولذلك نكرر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وكم رأينا من الأمور التي صنعت وفعلت عندما فقد الحياء! شيء يشيب لهوله الولدان! فاللهم إنا نسألك أن لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم زينا بزينة الإيمان، وحلنا بحلية الحياء، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وخلقاً فاضلاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت ومغفرة بعد الموت برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم مكن في مجتمعاتنا لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وأقم في الأمة علم الجهاد، اللهم من سعى في مجتمعنا بالفساد فاشغله بنفسه، واجعل دائرة السوء عليه، اللهم رد كيد أعدائنا في نحورهم، اللهم إنه من بني جلدتنا من يسعون لنشر الفساد، اللهم فقنا شرورهم، واجعل كيدهم في نحورهم، وأحبط مؤامراتهم، ودمر مخططاتهم، يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تحفظ علينا إيماننا، وأن تحفظ علينا إسلامنا، وأن تحفظ علينا أخلاقنا، وأن تحفظ علينا حياءنا، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين، وأن تحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن تحفظنا بالإسلام نائمين، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وعلى هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم سائرين، ولآثار أصحابه مقتفين، اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك الطهارة الظاهرة والباطنة، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل، اللهم إنا نسألك أن تجنبنا سائر الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين، اللهم عليك بالطغاة والمتجبرين، اللهم عليك بالكفرة والملحدين، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، دمر قوتهم، واستأصل شأفتهم، ونكس رايتهم، اللهم أذل أعناقهم، وسود جباههم، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود قريباً، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم رحمتك بالفتية اليتامى، والنسوة الثكالى، اللهم رحمتك بالأطفال الرضع، والشيوخ الركع، اللهم رحمتك بعبادك المستضعفين، اللهم رحمتك بالمشردين والمعذبين، اللهم رحمتك بالمسلمين والمضطهدين، اللهم فك أسرهم وأطلق سراحهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم.
اللهم سكن لوعتهم، وامسح عبرتهم، وأقل عثرتهم، اللهم اجمعهم على الحق، اللهم ثبتهم على الإيمان، اللهم صبرهم على قضائك، اللهم واجعل لهم فرجاً قريباً، اللهم يا أرحم الراحمين من عدى واعتدى على عبادك المؤمنين فأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين، اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(46/16)
الإيمان والأمان في مواجهة الحرب والعدوان
الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تخالف كل ما سبقها، وتتحدى كل ما يعارضها، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان، فيختلف عن كل الناس في أحواله وآماله وطموحاته وأفعاله.(47/1)
حقيقة الإيمان
الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، وهو أهل الحمد والثناء؛ فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، المرسل إلى الناس كافة أجمعين، خاتم النبيين والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير مصالح تجمعنا، ولا أرحام تقربنا؛ أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إخواناً على سرر متقابلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن، وأن يرد عنا وعن المسلمين كيد الكائدين، وأن يدفع عنا شرور المعتدين، وأن يسلم ديار المسلمين، ويحقن دماءهم، ويحفظ أعراضهم وأموالهم، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.
يتجدد بهذا درس متقطع رقمه: السابع والسبعون بعد المائة، وعنوانه: (الإيمان والأمان ومواجهة العدوان).
إننا ونحن نعيش هذه الظروف العصيبة، والتكالب الرهيب، والعدوان الظالم، نحتاج إلى مثل هذه الوقفات، والحق أن الخواطر كثيرة، والمشاعر متداخلة، والواجبات والتنبيه والتوجيه حاجتنا إليه ماسة ومتشعبة، وحسبنا -بمشيئة الله تعالى- أن نذكر هنا ما عسى أن يكون الأهم، وما سأذكره إنما أذكر خلاصته وأسسه معرضاً عن كثير من التفاصيل والتشعبات التي يستحق معها كل قسم من أقسام حديثنا وموضوعنا أن يفرد في محاضرة خاصة به، ولعلي أشير الإشارات التي ألخص بها مقصود حديثنا بعون الله.
سنبدأ بوقفة مع حقيقة الإيمان، ثم نعرج على أثر الإيمان في الأمن والأمان، وننتهي ونخلص إلى أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان.(47/2)
الإيمان قول واعتقاد وعمل
فإذا لم يكن الإيمان نطق اللسان فحسب، ولا هو اعتقاد الجنان وحده، ولا عمل الأركان، فما هو؟ إنه مجموع ذلك كله، ومن ثم قال أهل العلم في تعريفه: إنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وهذا الجمع لا شك أنه يحتاج إلى تأمل؛ إنه حينئذ يصور لنا شمول هذا الإيمان، وعمقه وانتظامه للإنسان في كل خصائصه، وانعكاسه من بعد على كل تفاعلاته وأحواله؛ فإن هذا الإيمان هو اعتقاد القلب، وخفقة القلب بالمشاعر والعواطف، وهو كلمات اللسان وضبطها بخواطر العقل والفكر، وممارسات الجوارح.
وإذا أردنا أن نعمق هذا المعنى ونوضحه، فالأمثلة فيه كثيرة، لكنني أشير إلى المعنى وأضرب مثالاً واحداً فأقول: إن الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تنقض كل ما سبقها من الصور، وتخالف كل ما يعارضها من الهويات، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان الحق لمضمون لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فيختلف عن كل الناس في سائر أحواله وأقواله وكلماته، وآماله وطموحاته وأعماله وأفعاله، وعلاقاته وصلاته، وولائه وبرائه، ومحبته وبغضه، وكل شيء؛ لأن هذا الإيمان يغير فيه -إذا كان صادقاً وحقيقياً- كل شيء، ويجعله منضبطاً بهذا الإيمان، فمنه ينطلق وإليه يرجع، وفي ضوئه يقيس، وعلى هداه يسير، فيحكم الإيمان حينئذ كل شيء في حياته بدءاً من داخله وانتهاء بأعماله وبعلاقاته كذلك.(47/3)
قضية الإيمان أعظم قضايا الكون
الإيمان أمره مهم وعظيم؛ لأن قضية الإيمان هي القضية الكبرى، والمسألة العظمى في حياة البشرية كلها؛ فلأجلها خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ونصب الموازين، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وخلق الجنة والنار.
قضية الإيمان هي قضية الوجود الدنيوي وما بعد الوجود الدنيوي، هي قضية الحياة الدنيا وما وراءها في الحياة الأخرى قضية تتعلق بالإنسان في أعماق نفسه، وسويداء قلبه، وخواطر عقله، وكلمات لسانه، وأفعال جوارجه، وطموحات نفسه؛ لأنها تتناول الإنسان في علاقاته وصلاته ومعاملاته وتشريعاته وفي سائر جوانب حياته المختلفة، وسائر ظروفه وتقلبات حياته وأحواله المتنوعة، ومن ثم فإنها القضية الكبرى التي لابد من العناية بها، والتعلم لحقائقها، والتذكير بثوابتها، والإشاعة لمعانيها، والتقوية لها في النفوس والقلوب؛ لأنها محور الحياة وجوهرها، وكما قلت: لعل هذا يكون موضوعاً كاملاً قائماً برأسه، ولكنا نشير إلى المهم منه.(47/4)
الإيمان ليس مقتصراً على مجرد العمل أو النطق أو التصديق
الإيمان ليس مجرد نطق اللسان وإعلان الشهادة فحسب، فإن الله جل وعلا قد نفى ذلك بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فأثبت إعلانه للإيمان ونفى حقيقته عنه، وليس الإيمان كذلك هو قناعة العقل بصحة البرهان وقوة الحجة على وجود الله أو وحدانيته؛ فإن ذلك قد كان ظاهراً جلياً لكفار قريش، ولم يكن عندهم شك في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقص في البراهين والأدلة على ثبوت نبوته، ومع ذلك كفروا وجحدوا، وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى بذلك فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]، فقد كانت عندهم الحقائق في درجة اليقين من حيث وضوح الأدلة، وقيام الحجة؛ ومع ذلك جحدوا، والجحد هو الإنكار بعد المعرفة، لماذا؟ ظلماً وعلواً.
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقصها وبينها أبو جهل -عليه لعنة الله- عندما قال: كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة، فإن كانت لهم السقاية كانت لنا الوفادة، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؛ فوالله لا نصدقه الدهر كله! فليست القضية مجرد قناعة العقل دون تسليم القلب بحقيقة هذه المعرفة الإيمانية، وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض مجرداً؛ فإن المنافقين -كما نعلم- خلت قلوبهم من الإيمان، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك، ونفى الله سبحانه وتعالى عنهم الإيمان كما بينته آياته جل وعلا في مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، إلى غير ذلك مما هو معلوم.(47/5)
نموذج لتأثير الإيمان وتحويله لجواهر الرجال
هذا مثال نضربه من القرآن، قصه الله عز وجل علينا في قصة موسى عليه السلام، وما كان منه مع بني إسرائيل، والقصة نقف فيها عند المواجهة التي كانت بين موسى داعية الإيمان، وفرعون داعية الكفر والطغيان: استعان فرعون بالسحرة، وأراد أن يكونوا وسيلة له لإبطال الحق، وإطفاء نوره، وتشويه صورته، وصرف الناس وصدهم عنه، فماذا قال للسحرة يوم جاء بهم، وأرادهم أن يقوموا بهذه المهمة؟ وقبل ذلك نريد أن ننظر إلى هؤلاء السحرة صورتهم، أفكارهم، أقوالهم قبل وبعد الحدث الذي وقع، لننظر فعلاً إلى التغير لندرك به حقيقة الإيمان.
جاء السحرة إلى فرعون، وأول شيء قالوه وخطر لهم وتعلقت به نفوسهم: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، ذلك كان مطلبهم ومطمعهم، وهذا هو أملهم وأمنيتهم.
لم يسألوا: هل القضية حق أو باطل، عذاب أو ظلم؟ هل تترتب عليها مفسدة أو مصلحة؟ هل يتضرر بها أحد أو ينتفع؟ لم يكن ذلك يعنيهم في شيء؛ لأنهم ليست لديهم مبادئ ولا قيم ولا مرتكزات ولا معتقدات بل كانت أهواؤهم تقودهم، وخضوعهم لفرعون وعبوديتهم وذلتهم له تسيرهم، ولذلك قالوا هذا القول، فقال لهم فرعون: نعم، وإنكم لمن المقربين.
أي: سيزيدهم فوق العطاء المادي عطاء معنوياً بأن يكونوا من أصحابه وخلصائه والمقربين منه.
ثم وقعت الواقعة، وألقوا عصيهم وحبالهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وكانوا هم صفوة السحرة، وأعلم العلماء بالسحر، وليس أحد أقدر منهم عليه، وفي لحظة واحدة ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وفي هذه اللحظة عرف أولئك أن هذا ليس بسحر، وأنها ليست قوة بشر، وأدركوا من واقع خبرتهم هذه الحقيقة، فمباشرة وصفت آيات القرآن ما الذي وقع {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:120 - 122]، وذكر هارون هنا مثير للسؤال؛ لم ذكروا هارون وهو لم يذكر في تلك المواجهة، ولم يلق عصى مع موسى ولم يكن له في هذا شأن مذكور؟ أرادوا أن يقولوا: قد آمنا بالمعتقد والمبدأ لا بالصورة الظاهرة والعمل الملموس، فنحن أدركنا الحقيقة والمفهوم الذي وراء ذلك، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122].
لنرى كيف أصحبت مواقفهم؟ وكيف تغيرت كلماتهم؟ وما هي الآن طموحاتهم وآمالهم؟ فرعون كان مجرد ذكر اسمه من قبل تنخلع له القلوب وتصطك له الركب، وتدور الأعين في محاجرها خوفاً وهلعاً.
هذا فرعون الذي يعرفون بطشه وجبروته وطغيانه قال: {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71]، قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، افعل ما بدا لك فلا خوف في قلوبنا منك، ولا شيء يردنا عما أخذنا من الإيمان والاعتقاد، لماذا؟ لأن الأمر قد اختلف، والتصور قد اتسع، والإيمان قد ثبت ورسخ، فنحن لم تعد حياتنا هي الدنيا بل أصبحت أعظم من ذلك، فافعل ما تشاء، فإن ما تفعله لا يتجاوز هذه الدنيا وما فيها من الأسباب التي قد يكون بعضها ميسراً لك.
ثم قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، كانوا يريدون المال، واليوم يقولون: أملنا وطموحنا، وأعظم ما تتعلق به قلوبنا وتشرئب إليه أعناقنا: أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول السابقين إلى الإيمان والإسلام.
لقد اختلفت مقالتهم ومشاعرهم ومواقفهم، وظهرت قوتهم، وتجلى ثباتهم، ما الذي تغير، وما الذي طرأ واستجد؟ ليس إلا الإيمان، حينئذ نقول: فرق ما بين هذا وذاك في لحظات الإيمان الذي أنشأهم نشأة جديدة، وصبغهم صبغة جديدة حولتهم في كل جانب من جوانب حياتهم ظاهرها وباطنها، فإذا بهم حينئذ ينشئون ويقفون ويتكلمون ويواجهون بغير ما كانوا عليه من قبل.
هذه صورة موجزة لحقيقة الإيمان، وأجلى منها وأوضح وأكثر أمثلة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء إلى العرب وهم في جاهلية جهلاء، وعماية ظلماء، وفي كل ما هم فيه من سخف عقولهم وهمجيتهم، وانغماسهم في الباطل وغير ذلك، ولم يغير فيهم شيئاً من اقتصاد ولا سياسية ولا اهتمام، وإنما جاءهم بهذا الإيمان والإسلام فأنشأهم نشأة أخرى، وصاغ منهم أمة فريدة لا نظير لها في تاريخ البشرية والإنسانية.(47/6)
أثر الإيمان في الأمن والأمان
ننتقل إلى جوهر مهم في موضوعنا، وهو: أثر الإيمان في الأمن والأمان، ونحن نعلم أن الظروف العصيبة تصيب الناس في مكاننا وأماكن مختلفة، لكن أعظمها وأشدها خطراً: أن تصيب يقينهم وإيمانهم، حينها ستسلب أمنهم وأمانهم؛ فلننظر أثر الإيمان القوي الصحيح الراسخ في الأمان، ونذكر ذلك في نقاط أربع:(47/7)
حرية الإرادة وقوة المواجهة
ما الذي يضعف الناس إلا خوفهم؟ ما الذي يجعلهم يغيرون مواقفهم ويبدلون آراءهم، فيكونون مع هذا ثم يصيرون مع ذاك، وربما يخونون أمتهم، ويبيعون أهلهم، ويضحون ببلادهم، أي شيء ذلك؟ إنه لأمرين اثنين: الأول: خوفهم على الحياة.
الثاني: خوفهم على الرزق.
إذا هدد بحياته غير موقفه ومنهجه، ومتابعته وولاءه وبراءه، فما الذي يعصم من ذلك؟ ما الذي يؤمن الأمة لئلا تخترق من داخل صفوفها، ومن أن يكون من بين أبنائها من هو عدو لها وممالئ لعدوها؟ إنه الإيمان، وذلك لأن الإيمان حرية عظيمة، فهو يوحد الإنسان وقلبه واعتقاده وكل شيء في داخله في أمر واحد معلق بالله سبحانه وتعالى، إنه لا يخشى ولا يرجو ولا يذل ولا يسأل ولا يستعين إلا بالله كل أمره معلق بالله، والناس وقوى الدنيا كلها لا يلتفت إليها ولا يكترث بها، ولا تنال من عزمه ويقينه وتصميمه وإيمانه مطلقاً، وغيره على عكس ذلك.(47/8)
يقظة الضمير واستشعار المراقبة
إن الأمن الذي يفرض بقوة العساكر، أو دقة المراقبة، أو دوام المتابعة؛ أمن هش ضعيف مهما بلغت أسبابه؛ لأنه لا يمكن أن يراقب كل أحد، ولا أن يتابع كل شخص، ولا أن يعرف ما في خفايا القلوب وطوايا النفوس، لكن الأمن الحقيقي هو الذي ينبع من داخل النفس، ويردع صاحبه عن المحرمات والمنكرات، والعدوان على الحرمات، ويدفعه إلى القيام بالواجبات وأداء المهمات، والمسارعة إلى الخيرات.
هذا الإيمان هو مملكة الضمير الحية التي عندما غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وأصحابه لم يكن في ذلك المجتمع من المفاسد والمنكرات والجرائم إلا ما يعد على أصابع اليد أو اليدين؛ دون أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام بطاقات ممغنطة، أو كاميرات تصوير، أو شرطة تجوب الشوارع والطرقات، ولا شيء من ذلك، ومع ذلك ما هي الجرائم التي وقعت؟ وما هي الاعتداءات التي تحققت؟ كيف اكتشف؟ عندما وقعت بعض هذه المحرمات والفواحش هل اكتشفتها المتابعات الأمنية، أو توصلت إليها الأدلة الجنائية، أم أن الذي أخرجها إلى حيز الوجود الحس الإيماني، واليقظة الشعورية، والمراقبة لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى؟ إذا أحيينا الإيمان في القلوب فقد نشرنا الأمان في المجتمعات، فهذا ماعز الأسلمي جاءت قصته في الصحيح: في لحظة غفلة الهوى واستزلال الشيطان، وضعف النفس، وإغراء الشهوة، وقع في جريمة الزنا، ولم يره أحد، ولم تنظره عين، ولم تضبطه شرطة، فأي شيء وقع؟ تحرك الإيمان في قلبه ندم يعتصر نفسه أسى، ويقطع قلبه ألماً، يندفع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مقراً معترفاً: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، لعله أن ينصرف؛ فيأتيه قبل وجهه ويكرر، فينصرف عنه النبي ثانية وثالثة ورابعة وهو يعيد اعترافه، فيقول عليه الصلاة والسلام: لعل به شيئاً، أي: لعله شارب للخمر ولا يدرك ما يقول، فاستنكهوه، قالوا: يا رسول الله! ما به من بأس، قال: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، حتى أقر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام برجمه فرجم)، هل يسجل التاريخ مثل هذا في غير وجود الإيمان؟ وهل يمكن أن يظهر مثل هذا في غير بيئة الإيمان؟ وأبلغ من هذا وأظهر: قصة المرأة الغامدية: جاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تقر بما أقر به ماعز -وحديثها في الصحيح كذلك- فأعرض عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (يا رسول الله! لعلك تعرض عني كما أعرضت عن ماعز؛ فإني حبلى من الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى تضعي حملك)، وذهبت دون كفالة حضورية، أو بصمات وصور، أو متابعة، ورجعت بعد تسعة أشهر كاملة.
ما الذي أعادها وقد كان بإمكانها أن تهرب؟ {فرجعت ومعها غلامها رضيع، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه.
فذهبت به حولين كاملين، ثم رجعت وهي مصرة ومعها غلامها في يده كسرة خبز دليل على فطمه، فأمر بها النبي عليه الصلاة والسلام فرجمت، فوقع بعض دمها على بعض الصحابة فلعنها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تلعنها، فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).
هذا هو الإيمان، نحن نقول: عمقوا الإيمان في النفوس حتى يشيع الأمن في المجتمع، وتشيع الرحمة، وينتشر الخير، ويعم السلام الحقيقي، لا السلام المفروض بقوة الأسلحة وبكثرة الشرط.(47/9)
سكينة النفس وطمأنينة القلب
إن الذي تتضح رؤيته الفكرية، يعرف الإجابة عن الأسئلة العظمى: من أين جئنا، وإلى أين سنذهب، ولماذا خلقنا؟ نحن نعرف لماذا خلقنا، وما هو دورنا في هذه الحياة، وما يكون بعد هذه الحياة، ونعرف كذلك أن الكون كله مسير بأمر الله، وأنه لا ينفذ فيه شيء إلا بقضاء الله، ولا يغير ولا يدبر شيء في هذا الكون إلا الله، فنفوسنا حينئذ مطمئنة، وسكينتنا مستقرة، وقلوبنا ليست في حيرة ولا شك ولا خوف ولا هلع.
ونحن نعلم أن تقلبات الظروف والبلايا والرزايا والمحن والفتن تحيط بالناس، فإن لم يكن عندهم يقين راسخ، وإيمان ثابت؛ فإن ذلك يصيبهم بجزع يجعلهم ينكصون على أعقابهم، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وقد وصف الله عز وجل ذلك بأنه الخسران المبين، ولذلك نبقى على هذه الطمأنينة والسكينة؛ لأنها هي التي تفيض هذه المعاني النفسية الباطنية القلبية في الإنسان المؤمن، يقول الحق جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
والله سبحانه وتعالى بين أن اليقين والإيمان هو الذي يجعل الإنسان ثابتاً في وجه المشكلات، فكم من الناس تحل به نكبات أو مشكلات فينزلها على إيمانه، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، يلهج بـ: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذا به يشعر بالطمأنينة والسكينة، وتتبدد أمامه تلك المخاطر، ويتيسر أمامه العسير، ويصغر في ناظريه العظيم بما يفيض في قلبه سبحانه وتعالى من السكينة والطمأنينة، وغيره مرتجف مضطرب متحير متشكك خائف جزع متراجع متخاذل؛ لأنه يفتقد قوة إيمانه ويقينه، ولو أردنا أن نفيض في الأمثلة لوجدنا عجباً في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سيرة أصحابه رضوان الله عليهم، وهذا أمر مهم وخاصة في وقتنا وظروفنا هذه.
في غزوة الأحزاب بين الله عز وجل الكرب العظيم، والخطب الجسيم، والهول الفظيع الذي حل برسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته، فقال جل وعلا: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11].
ماذا قال أهل الإيمان في هذه الحادثة العصيبة والمحنة الرهيبة؟ قالوا كما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:22 - 23].
والمواقف كثيرة فيما بعد، ففي أحد كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]، إنما يطمئن النفوس والقلوب ويسكنها هذا الإيمان فلا تضطرب ولا تجزع بإذن الله.(47/10)
لا يستعجل المؤمنون النصر
قد يقول القائلون -وهذا يقال الآن- هؤلاء المسلمون المؤمنون ما بالهم لا ينصرون هؤلاء الكافرون المعتدون ما بالهم يسيطرون ويمد لهم في أسباب العدوان أو أسباب القوة والهيمنة والسيطرة؟! كأن بعض الناس ربما يخالط عقله ويخامر نفسه شيء من الاضطراب والحيرة والشك أو التبديل والتغيير، والله عز وجل يقول على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57]، أي: إن كانت عندكم أفكار قد اضطركم إليها أو قذف بها إليكم واقع معين؛ فإن الثوابت هي التي تحكم عليه والتي تضبطه.
وقد جاء أن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) وقد بلغ الأمر مبلغه في البلاء والإيذاء الذي حل به وببعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام بحال من كان قبلهم ممن تعرضوا للعذاب الشديد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والله ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، لم يجبهم إلى عواطفهم، ولم يوافقهم على ضرورتهم، وإن كان يدعو لهم عليه الصلاة والسلام، لكن المنهج واضح، والرؤية جلية ليس فيها غبش، وليس في أجزائها شيء من الاضطراب مطلقاً.
ولذلك نحن لن نؤمن أبداً بالديمقراطية الغربية التي يبشرون بها، ولن نغير أبداً في أسس بناء حياتنا الاجتماعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله لنوافق ما يقولونه من أفكار في تحرير الشعوب، أو حقوق الإنسان، أو حرية المرأة على مناهجهم المختلة، وتصوراتهم الفاسدة، ومناهجهم الزائغة؛ لأننا لسنا في شك من ديننا، بل نحن على بصيرة.
وهذا أمر مهم: فإن الأمن الفكري والثقافي هو صمام الأمان الأول، وخط الدفاع الذي إذا سقط كان الاضطراب فيما جاء بعده كما نرى ممن يتقاذفون هذه المقالات، ويروجون هذه الشائعات، ويزينون هذه المفتريات والمبتدعات؛ لأنهم ليسوا على بينة من أمرهم، كما قال الله عز وجل هنا: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، وكما قلت: ليس حديثنا مستفيضاً في كل نقطة، وإنما هي ومضات.(47/11)
الإيمان نور للبصيرة ورشد للعقل
إن الإيمان يورث رشد العقل، ونور البصيرة، فيصبح المؤمن على بينة من أمره، يعرف الحق من الباطل، ويعرف الحق معرفة جلية واضحة لا يلتبس فيها معه غيره من الباطل، ثم يثبت على ذلك لأنه يرجع إلى أصل أصيل، وركن ركين، وأساس متين مرتبط بما لا يتغير ولا يتبدل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمونه اليوم (بالأمن الثقافي والفكري)، لا تتبدل أفكارنا، ولا تتغير تصوراتنا حتى وإن عظم القائلون بما يخالفنا، وإن أكثروا منه ونوعوا أساليب عرضه، وتفننوا في الإغراء به، ولئن شددوا أو أرهبوا في ضرورة التزامه؛ فإن ذلك عند أهل الإيمان لا يغيرهم مطلقاً، ولا يمكن يوماً من الأيام أن نغير شيئاً مما هو ثابت قاطع في حقائق الإيمان من آيات القرآن وهدي المصطفى العدناني صلى الله عليه وسلم.
ولعلي أشير إلى معنى تتجلى به هذه الحقيقة في آية من كتاب الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
تأملوا أيها الإخوة في هذه الآية؛ فهي تحمل وضوح وبيان منهج سديد ليس من أفكار عقولنا، ولا من اجتهاد علمائنا، ولا من مجامع فقهائنا، كلا.
بل هو من الله عز وجل، فهو معصوم كامل لا نقص فيه، صحيح لا باطل معه، ثابت لا شك يعتريه مطلقاً، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}، إن كذبت الدنيا كلها وخالفت فلا يعني أن نعود لنراجع، أو نبحث لنصحح، أو نجتمع لنرى هل هذا ما زال عاملاً وفاعلاً وصحيحاً أم أننا -كما يقولون- نحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا وثوابتنا وغير ذلك؟ {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}.(47/12)
أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان
إن من لم يخف الله خاف كل أحد سواه، ومن لم يذل لله ذل لكل أحد سواه، ومن لم يستعن بالله استعان وطلب معونة كل أحد سواه، ونرى ذلك واضحاً جلياً في واقع حياتنا، ولعلنا عندما نستحضر الأمثلة في ذلك ندرك حقيقة الأمر.(47/13)
كعب بن مالك ورسالة الروم إليه
وكذلك التحرر من الخوف على الرزق، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، أفإذا أعطانا غيرنا أو منعنا بدلنا؟ أفلا نرى المواقف اليوم وهي تباع وتشترى بالدرهم والدينار، أو بالجنيه والدولار، أفلا نرى ذلك الضعف والاختراق الأمني الخطير في صفوف الأمة الإسلامية منشؤه عدم وجود هذا الإيمان.
كعب بن مالك رضي الله عنه من المخلفين الثلاثة، الذين قوطعوا ومنع الناس من الحديث معهم، قال عن نفسه: (حتى ضاقت علي نفسي، وضاقت الأرض بما رحبت).
عندما كان هذا التغير في هذا الفرد علمت الدولة العظمى بذلك، وكانت تعلم أن الصف متماسك، ولكنها قالت: لعل هذه لبنة يمكن الاختراق من خلالها، ولعل هذا الغاضب على أهله وقبيلته أو عشيرته وأهل ملته؛ لعله أن يكون مهيئاً لينتقل إلى صفوفنا، وليكون من أوليائنا، ولنجعله سهماً ورمحاً نطعن به في خاصرة أعدائنا، قال كعب بن مالك: فإذا رجل من الأنباط يسأل عني، فأشاروا إلي، فأعطاني رسالة فيها: قد علمنا أن صاحبك قلاك -أي: هجرك- ولم يجعلك الله بأرض مضيعة، فالحق بنا نواسك.
أي: تعال إلينا وسوف نعطيك ونعطيك ونقدم لك والذي يبيع موقفه يباع كما باع، والذي يذل لا يلقى شيئاً من دنياه ولا أخراه، وهذه قضية مهمة لعلنا نجعلها في أولى الأولويات في قضية الآثار الإيمانية، وللشافعي رحمه الله مقالة جميلة يقول فيها: أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً(47/14)
الفضل بن دكين وفتنة المال
من كان يوقن بذلك فإنه لن يبيع نفسه بدرهم ولا ديناراً، فهذا الفضل بن دكين من علماء الإسلام، عند فتنة خلق القرآن كان ممن يدرسون ويأخذون أجراً من بيت المال، فلما دعي إلى هذه الفتنة امتنع منها، قالوا: إذاً نقطع عنك عطاءك؛ فأي شيء صنع؟ قال: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كزر قميصي هذا، ثم خلعه ورمى به في وجوه القوم.
هذه قوة تستعصي على أي انجذاب أو تغيير أو تمييع أو استمالة.
وكذلك فعل بأحد السلف في فتنة خلق القرآن وقطع عنه رزقه، وكان كما قال الذهبي في ترجمته: وكان في بيته أربعون نفساً -يعني: أسرته ومن يعولهم- فلم يفكر كيف سيأكلون؛ أو كيف سوف يؤمن حياتهم؟ لأن يقينه بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الذهبي في السير أنه قال: فما جاء الليل إلا وطارق يطرق، ففتحت فإذا رجل شبهته بسمان قال: وإذا به يدفع لي كيساً فيه ألف دينار، ثم يقول: ثبتك الله كما ثبت هذا الدين، وإذا كان آخر كل شهر كان مثل ذلك، ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب.
وهذه قضايا إيمانية مهمة في أحوالنا الملمة نحتاج إلى أن نتأملها ونتدبرها.(47/15)
حبيب بن زيد ومسيلمة الكذاب
ونعرف في هذا أمثلة كثيرة، لعلي أختم بمثال حبيب بن زيد رضي الله عنه يوم بعثه الرسول إلى مسيلمة الكذاب، فكان يقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيعيد عليه مسيلمة ويريده أن يقول: وأن مسيلمة رسول الله، فيقول: لا أسمع، فيكرر عليه، فيقول: لا أسمع، فيبدأ بقطع أعضائه؛ فيقطع أذنه ويجدع أنفه، حتى قطع أوصاله وأسلمت روحه إلى بارئها وهو لم يغير موقفه، ولم يبدل، ولم يكن ذلك الذي يمكن أن يساوم على دينه، ولذلك كانت قوة الإيمان حرية لا يستطيع أحد أن يملك بها شيئاً تغير به معتقدك: قد تملك سوطاً يكويني وتهز القلب بسكين لكن سلطانك لن يرقى لذرى إيماني ويقيني وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم.(47/16)
عبد الله بن حذافة وملك الروم
ولعلنا نتذكر الموقف العظيم الذي يجمع بين هذا وذاك، كقصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه الذي كان مأسوراً عند الروم، فجاء به ملكهم وقال له: أترجع عن دينك وأعطيك شطر ملكي؟ قال: لا.
وأعطيك كل ملكي؟ قال: لا.
ولو أعطيتني الدنيا وما فيها.
فأراد أن يأتيه من جانب آخر: جاءوا بقدر كبير مملوء زيتاً ثم أشعلوا تحته ناراً، حتى صار الزيت مغلياً، ثم أتوا ببعض أسرى المسلمين يغمسونهم في هذا الزيت فيدخل أحدهم لحماً ويخرج عظماً، وعبد الله ينظر، وبعد واحد واثنين وثلاثة دمعت عينه رضي الله عنه، فأخبر الملك، فقال: عليَّ به! ظن أنه قد لان وهان وذل وتابع وغير وبدل، فلما جاءه قال: فيم بكاؤك؟ قال: لقد علمت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، وودت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً تزهق كلها في سبيل الله.
لقد كان يفكر في ميدان آخر، وكانت مشاعره غير ما يفكر به أولئك الدنيويون الخائفون الجبناء الأذلاء، ولذلك قال بمقال قطري بن الفجاءة رضي الله عنه: أي يوم من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر(47/17)
موقف أنس بن النضر في أحد
إن حقيقة الإيمان ترسخ أنه لا أحد ينفع ولا يضر ولا يقدم ولا يؤخر إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لغلام صغير وهو ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، من يستطيع أن يؤثر على من هذا إيمانه ويقينه؟ من يستطيع أن يؤثر على من يؤمن ويوقن بقول الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؟ أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فقال: لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع، وهذا قول يمكن أن أقوله أنا وأنت، لكن إنما يتبين صدق القول عند الفعل.
جاءت غزوة أحد وشارك فيها أنس بن النضر، ووقع ما وقع لالتفاف ابن الوليد رضي الله عنه، واضطراب المسلمين، ووقوع القتل فيهم، وإذا بـ أنس حينئذ يقول: (واها لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد)! كأنما يشم رائحتها، كأنما قضايا الإيمان تجلت، وكأنما هي حقيقة منظورة ملموسة، وليست مجرد غيب غير معروف ولا ملموس، ثم انطلق يلتمس الموت ليعانقه، ويخترق صفوف الكفار والمشركين ويقاتل، وتتخطفه السيوف، وتتناوله السهام، وفي صحيح البخاري: (لم يعرفه أحد إلا أخته بشامة أو بنانة له، قال: وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ليس فيها واحدة في ظهره)، فهل كان هذا يخشى الموت؟ هل مثل هذا يمكن أن يساوم على دينه؟(47/18)
وصايا وتوجيهات في الأزمات تجاه العدو الكافر
سنذكر المهم من المسائل والتوجيهات التي يحتاجها المسلم في هذه المصيبة والملمة التي نسأل الله عز وجل أن يكشفها عن الأمة، وأن يفرج عنها بإذنه سبحانه وتعالى.
ثمة أمور أيها الإخوة الأحبة ننبه عليها ونتواصى بها.
نريد أولاً الجوانب المتعلقة بالجهة الإيجابية، أعني بالعمل، وقبل ذلك لابد من معرفة الحقائق، وبينهما لابد من الاعتماد والارتكاز على المبادئ، إن المواقف لا تبنى على المصالح، وإن الأحكام لا تؤخذ من الأهواء، وإنما ترجع إلى الأصول الثابتة، والجمل الجامعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أول الحقائق: معرفة حقيقة أعدائنا، وهذا أمر مهم، فإن أمريكا وغير أمريكا ليس عداؤها ومواجهتها لأمة الإسلام في هذا العدوان على العراق بل هو أعظم من ذلك وأشمل وأوسع، ولا بد أن ندرك هذا، وأن نعرف من التاريخ الحديث قبل القديم هذه الحقائق، ولعلنا نشير إشارات سريعة إلى بعض ما يدل على ذلك ويوضحه ويكشفه حتى نكون على بينة من أمرنا.
هذه القيادة المعاصرة للقوة العظمى -كما يسمونها- صرح رئيسها عند توليه مقاليد الحكم قبل أن تحدث الأحداث التي جعلوها مبرراً للحرب؛ يقول في حديثه: إن لأمريكا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها، وطريق الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي، إنه السلام الذي يأتي بعد الانتصار الساحق.
هذا هو المفهوم، وهذا هو التوجه.
وفي وثيقة السياسية الخارجية التي اتخذها هذا الرئيس أيضاً، والذي قدمها بين يدي حكمه: إنها يمينية من حيث الأيدلوجية -أي: العقيدة- ببعديها السياسي والديني تسعى لتحقيق مصلحة قومية عليا كونية، اقتصادياً وثقافياً، وتتجاوز كل تحرك أمريكا من أجل هذا على مدى القرون الماضية، إنها الحركة التي تعكس كياناً إمبراطورياً يسعى للوجود في كل بقعة من بقاع الأرض.
وفي تصريح لمدير مكتب التخطيط للسياسة الخارجية الأمريكية يقول: الهدف الأمريكي للسياسية الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين هو: إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات التي ستدعم عالماً يتسق مع المصالح الأمريكية.
وغطرستهم وطغيانهم واضح في كل ما هو معلن مما يحتاج أن نكشفه ونقرأه، وأن نعرف به إستراتيجية الأمن القومي التي عرضت على الكونجرس الأمريكي، تقول: أمريكا ستعمل على حسم المعركة مع العالم الإسلامي، وأمريكا لا زالت مستمرة للحصول على دعم المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر، وسنشن حرب أفكار لننتصر في المعركة.
ويقول نائب وزير الدفاع: ينبغي منع أي قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل هذه القوة قوة عظمى، كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول المتقدمة إزاء أي محاولة لتحدي زعامتنا، كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز يحتمل منافسة لنا على مستوى العالم.(47/19)
مخاطر الاغتيالات
من أعظم وأخطر الاغتيالات الموجودة الآن في الساحة: اغتيال التدين الذي إذا ذهب واغتيل سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وفشت الفاحشة وأعلن بها والعياذ بالله! وإن أعظم خطر قاتل للتدين والورع هو خطر القنوات الفضائية، فهي التي سلبت الحياء، وأمرضت النفوس، وأضعفت الإيمان، فكانت بئس المعول، ولم تثمر لنا إلا المر والحنظل.(48/1)
حرمة اغتيال النفوس ومفاسدها
الحمد لله جعل الإيمان عزاً وأماناً وجعل الإسلام فخراً وسلاماً، له الحمد سبحانه وتعالى أحسن إلينا بشريعته، وأكرمنا بطاعته، وجملنا بالتزام أحكامه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كثيراً طيباً مباركاً دائماً ما دامت السماوات والأرض.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه وكان أبعدنا عنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! مخاطر الاغتيالات، حديث يهمنا كثيراً، وبادئ ذي بدء: ليس حديثي مركزاً ولا مقصوراً على الاغتيالات بمعناها الذي تعرفونه، بما تشتمل عليه من قتل الغيلة، لأن الاغتيال في معناه إلحاق الشر أو القتل أو الضر بالإنسان خفيةً أو خدعةً، وكلنا يعلم هذه المخاطر من هذا المعنى المعروف، والأحداث التي جاءتنا قريباً في العاشر من هذا الشهر، وليس حديثنا عن هذا لأن حكمه معلوم، فإن القتل بغير حق حرام من أعظم الكبائر في دين الإسلام، وإن المفاسد التي تترتب على ذلك عظيمة لا تكاد تخفى على أحد، ولها أثر وخيم، وضرر كبير لا تخطئه العين.
فكل قتل بغير مسوغ وسبب شرعي ظاهر فهو من أعظم المحرمات، والقتل العشوائي الذي لا يفرق بين كبير ولا صغير، ولا رجل ولا امرأة، ولا صالح ولا طالح، هو قطعاً مما يعلم أنه ليس له في الحل والمشروعية مكان ونصيب، إذ لم يكن مقصوداً به أعداء الله عز وجل من الكفرة والمحاربين المعتدين، وهناك مفاسد عظيمة ليس هذا حديثنا فيها، ومقامنا عنها، ولكننا نذكرها تمهيداً لما نريد الحديث عنه، ومنها: ترويع المسلمين، وإشاعة الخوف في قلوبهم.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من كان معه سهام ودخل إلى مسجد، فليأخذ بنصال سهامه لئلا يؤذي أو يروع المسلمين)، فكيف ومثل هذا القتل والاغتيال يجعل كل أحد يرى أنه قد يكون هو الضحية في ذلك؟! فلا يكاد أحد يأمن على نفس وروح، ولا على مال وملك، ولا على عرض وشرف.
وفيه مفسدة أخرى وهي الاستهانة بالدماء، وهي من أعظم ما حرم الله عز وجل وعظم شأنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء).
الدماء وما أدراك ما الدماء، كل شيء يهون بعد الإيمان والاعتقاد الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
وهذا القتل العشوائي الكبير الواسع كأنما يجرئ الناس على هذا الفعل، ويجعل النفس رخيصة لا قيمة لها، وذلك ليس من أحكام الإسلام، ولا من مقاصده، بل هي على النقيض من ذلك، وفيها مفسدة حصول الفتنة والاضطراب، وحيرة الآراء، وتبلبل الأفكار، واختلاف الظنون، وحصول كثير من هذه الأمور العظيمة التي تضطرب بها الأحوال، إضافة إلى إفادة أعداء الإسلام والمسلمين، فإن التفريق ليس بحاصل على وجه يدركه العاقل، بحيث يكون تمييزاً تاماً وكاملاً بين مسلم وآخر، ثم هو من جهة أخرى إضعاف لمواجهة الكفرة المعتدين المحتلين، لأن كل جهد يصرف في باب غير بابه، وفي أولوية غير أولويتها لا شك أنه يؤثر، وهذا أمره ظاهر بين، ولذا لا أفيض فيه.(48/2)
اغتيال التدين والورع
ومقصدي الأعظم هو نوع آخر من الاغتيالات لا يقل خطراً ولا يستهان به ضرراً، ولا يغفل عنه فتكاً، إذ هو اغتيال ينفذ إلى سويداء القلوب، وإلى أعماق النفوس، إنه اغتيال يجتث أصول وجذور التدين من قلوب المؤمنين، وهو إلى ذلك ينزع عنهم ما يجملهم من الأخلاق الفاضلة والقيم السامية، فيمسخهم حتى يصيروا كالبهائم والحيوانات، لا تعرف في حياتها إلا شهوة بطنها وفرجها.
ذلكم الاغتيال الذي يسري بين صفوفنا، وتتشربه عقولنا، ويتسرب إلى نفوسنا، ويجوس بين ديارنا، ويختطف أبناءنا وبناتنا، ويغزونا في عقر دارنا، ويجري على ألسنتنا، ولا تخطئه عيوننا، ولا أسماعنا، أفلا ترون أنه أشد خطراً من قتل تزهق به النفس مرة واحدة؟! وقتل الروح والبدن أعظم من قتل الإيمان والخلق، فإن الإنسان بلا إيمان ولا أخلاق ليست له قيمة في دنياه، وليس له في الآخرة إلا جهنم وساءت مصيراً، ثم لا يرتقب منه إذا تجرد من إيمانه وخلقه، إلا كل فساد وضرر وخطر، ليس على نفسه فحسب، بل على البشرية كلها.(48/3)
تعريف الورع وفضله في الدين
أولاً: اغتيال الورع والتدين: أيها المؤمنون! أيها المسلمون! يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! يا من تستضيئون بضياء آيات القرآن، وتسترشدون بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن أعظم ثروة تملكونها، وأغلى قيمة تنطوي في صدوركم وقلوبكم هو ذلك الإيمان الذي يشع بالتدين والخوف من الله، والمراقبة له، والحياء منه، والرغبة والشوق إليه، ذلكم المعنى العظيم الذي يتحقق به الورع.
ومن جميل ما في لغة العرب أنهم يقولون: إن الورع هو الكف عن المحارم والتحرر منها، وقال المناوي رحمه الله: الورع ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق.
وقيل في معناه: تجنب الشبهات ومراقبة الخطرات.
وقيل: ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
وأجمع وأوجز ابن القيم فقال عن الورع: هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة.
يوم تعمر القلوب بالإيمان، وتصفو وتسمو وترتفع، فيكون أدنى محرم بل أيسر ما فيه شبهة، بل ربما ما فيه حل، تبتعد عنه طلباً للكمال، وسمواً إلى مرضاة الرحمن سبحانه وتعالى، فلا تجد إلا بصراً غاضاً عن الحرام، ولساناً كافاً عن الآثام، وجوارح متزينة بزينة التقوى، متحلية بحلية الإيمان.
ولذلك انظروا إلى كلام علمائنا وأئمتنا وهم يجلون لنا هذا المعنى العظيم في التدين والورع، فيقول الراغب: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واجب وهو في ترك المحارم، ومندوب وهو في ترك الشبهات، وفضل وهو في ترك بعض المباحات، هذا التدين والورع والمراقبة التي نكاد اليوم نفقدها إلا من رحم الله.
استمعوا إلى حديث حذيفة بن اليمان وهو يروي عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كلمات من جوامع كلمه، يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (خير دينك الورع) رواه البزار والطبراني والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وكلكم يستمع ويذكر الحديث المشهور عن وابصة بن معبد رضي الله عنه، قال: (جئت أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: جئت تسأل عن الإثم؟ قلت: يا رسول الله! ما جئت إلا لذلك، فقال: عليه الصلاة والسلام: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس) رواه الإمام أحمد وجود المنذري إسناده.
أي قلب هذا الذي نستفتيه اليوم وهو اليوم يكاد يفتي في المحرمات المقطوع بها بأنها حلال زلال، أصفى من الماء؟ وأي صدور تلك التي تضيق بالمنكرات، وقد أصبحت في كل حركة وسكنة، وفي كل لحظة وثانية، وفي كل مكان حتى في عقر البيوت؟(48/4)
منهج الإصلاح في القرآن والسنة
لقد وضع الشرع الحكيم للإصلاح منهجاً قويماً، بحيث لو طبق الإصلاح وفق هذا المنهج لانتشر العدل والأمن والرخاء والطمأنينة والسكينة، وللإصلاح منطلقات وضوابط، ومن أهم منطلقاته الإيمان بالله عز وجل، والتقوى والاتباع، وله أيضاً حقيقة، وهي: منع الظلم والبغي المتفشي في المجتمع بالطرق السليمة الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(49/1)
أهمية منهج الإصلاح في القرآن والسنة
الحمد لله خلق الخلق، ووهب الرزق، وقدر الأقدار، وكتب الآجال، أحمده سبحانه وتعالى جعل القرآن هداية وعصمة، والسنة سلامة وحكمة، وجعل الاستمساك بهما نجاة من كل فتنة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، معلم البشرية وهادي الإنسانية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بصرنا من العمى، وأرشدنا من الغواية، وكثرنا الله من بعد قلة، وأعزنا الله به من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن منهج الإصلاح في القرآن والسنة موضوع يهمنا جميعاً، ونفتقر إليه كثيراً، فيه النور الذي يبدد الظلمات، والعصمة التي تمنع من الفتنة، والحكمة التي تمنع من الطيش، ولا شك أننا -معاشر المؤمنين- نوقن بأن الخير كله والهدى كله والصلاح كله مستودع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيهما جمع كل متفرق، وتأليف كل مختلف، وفيهما بيان كل حق، ودحض كل باطل، ومن هنا فإن المؤمن الحق والمسلم الصادق ينبغي عليه أن يحقق واقعاً لا قولاً، وأن يجتهد فهماً وتطبيقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإننا في عصر اضطربت فيه الآراء، واختلطت فيه الأهواء، وتكاثر فيه الأعداء، ولا شك أن ذلك كله موجب ودافع إلى العود إلى المنبع الصافي الذي لا تشوبه شائبة، وإلى المنهج الكامل الذي لا يعتريه نقص، وإلى المسلك المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(49/2)
الإصلاح مبدؤه وأساسه وضوابطه وحكمه
الإصلاح من الذي يؤهل له؟ ومن الذي ينبعث إليه ويندب إليه؟ أول الإصلاح ومبدؤه هو الإيمان بالله عز وجل، والاستسلام لحكمه وشرعه، فنحن نوقن أنه لا صلاح ولا إصلاح لأحوال الخلق أجمعين ولأحوال المسلمين بخاصة إلا من منطلق الإيمان وحكم الإسلام، وغير ذلك لا بد أن يكون فيه قصور ونقص واضطراب واختلاف؛ لأن الله جل وعلا هو خالق الخلق، وهو العالم بما يصلح شئونهم {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، ومنطلق الإيمان هو أول هذه المنطلقات وأساسها: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48]، ولو مضيت وتأملت آيات القرآن لوجدتها تربط بين الإيمان والإصلاح، وتجعل الإيمان مقدمة له، وتجعله سابقاً عليه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح بغير المنطلق الإيماني والمنهج الإسلامي {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35] لا ينبعث إلى الإصلاح إلا من اتقى الله وعمر قلبه بخشيته وتقواه؛ لأن ذلك عاصم له بإذن الله من أن يخوض فيما لا ينبغي الخوض فيه، وأن يقترف ما يحرم وما يحول بينه وبين التحقق بتقوى الله جل وعلا، ثم إننا كذلك نلمح الأمر في كلتا الآيتين بذكر الرسل والأنبياء قبل ذكر الإصلاح، وذلك فيه إشارة إلى منطلق مهم، وهو أن المنطلق للإصلاح مع الإيمان والتقوى هو اتباع الرسل والأنبياء صفوة الله من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فنحن هنا نقرأ قوله جل وعلا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165]، ثم يأتينا من بعد {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام:48]، ويأتينا كذلك {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} [الأعراف:35]، وأظهر من ذلك -أيضاً- ما كان بين موسى وهارون عليهما السلام عندما عهد موسى إلى أخيه قائلاً: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142].
إن السير على آثار النبوة واقتفاء منهج السنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمة من كل فتنة، وأمان من كل خوف، وحق لا يداخله -بإذن الله عز وجل- شيء من الباطل، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويبصرنا فيقول: (العلماء ورثة الأنبياء) والوارث إنما يأخذ إرثه ممن ورثه، فلا حظ ولا نصيب ولا شيء عند أهل العلم إلا ميراث النبوة، مما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي سنته وفي سيرته وفي هديه الذي تمثل في سائر جوانب الحياة، سلم وحرب، حل وسفر، مع الأصدقاء ومع الأعداء، في كل جانب من جوانب الحياة لنا من سنته هدي، ولنا في سيرته بصيرة صلى الله عليه وسلم، انظر إلى تأكيده وبيانه لهذا الأمر، فعندما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ فقال معاذ: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: في ضوء كتاب الله وسنته-.
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) إنه المنهج الذي لا بد منه لكل آخذ بسياسة الناس، أو عامل في مجال إصلاحهم، أو ساع في تبصيرهم ودعوتهم، ثم هاهو صلى الله عليه وسلم -أيضاً- في وصيته لـ معاذ يبصره ويبين له المنهج، ويعطيه المفاتيح التي يصل بها إلى الغاية ويحقق النجاح، يقول له عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) وهكذا نجد هذا المنهج في منطلقات الإصلاح بيناً واضحاً، أساسه الإيمان، وحكمه وضابطه الإسلام، وحاديه تقوى الله سبحانه وتعالى، وإمامه اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أراد إصلاحاً فهذا هو المنطلق.(49/3)
حقيقة الإصلاح في الكتاب والسنة
إن علينا أن ندرك حقيقة الإصلاح من كتاب الله عز وجل ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما هو هذا الإصلاح؟ ما هو الذي يقع به ما نؤمله ونرجوه من هذا الإصلاح؟ قال عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182].
إذاً هذا الإصلاح هو منع للظلم والإثم، وإن كانت الآية في شأن الوصية والموصي، لكن المقصد أنه إذا وجد الجنف والظلم والاعتداء ولو من غير قصد، أو إثم ومعصية وهي التي يكون فيها العلم والقصد فإن الإصلاح هو الذي يرد ذلك، وإن حقيقته أن يحول بين الناس وبين هذا الظلم أو ذلك الإثم.
وحقيقة أخرى في الإصلاح {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:39]، والآية قد جاءت بعد ذكر حكم السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]، ثم جاءت هذه الآية: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة:39] لتدلنا على أن الإصلاح يمنع الظلم والإثم ويدعو إلى الخير والإحسان.
ثم هو كذلك مانع لأعظم سبب من أسباب الفساد التي تقع في الأرض فتزهق بها الأرواح وتذهب بها عصمة النفوس، ويختل بها نظام الأمن، ويقع فيها من الشرور والمفاسد ما لا ينضبط ولا يحصر أولاً ولا آخراً، كما قال جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، وذلك مؤذن بأن حقيقة الإصلاح منع للقتل والاقتتال ولإزهاق الأرواح، ولما يترتب على ذلك من اختلال الأمن، ومما يترتب عليه من شيوع الفوضى -نسأل الله عز وجل السلامة-، فمنع هذا أمر مهم.
ويلحق به كذلك أن من حقيقة الإصلاح بقدر الطاقة والاستطاعة منع الاختلاف والتنازع، فالله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، وجاء في قصة الأنفال واختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في شأنها في بدر في أول غزوة تكون لهم فيها تلك الغنائم عندما قالت كل طائفة قولاً، فجاء قوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] فجعل ذلك الإصلاح مانعاً للاختلاف، وذلك بالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أمره بين واضح.(49/4)
صورة عملية تطبيقية لمنطلقات الإصلاح في القرآن والسنة
ننتقل إلى مثل قرآني لعله يجمع صورة عملية لهذه المنطلقات وتطبيقاتها في شأن الإصلاح، في قصة نبي من أنبياء الله عز وجل، وهو شعيب عليه السلام في خطابه لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] هذه صورة متكاملة ومنهج واضح وتطبيق عملي في خطاب يعلن المبادئ ويبين المسالك، ويظهر الاعتماد والقاعدة التي يكون منها الانطلاق (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي).
فلا انطلاق قبل وضوح الرؤية، وقبل بيان الحكم، وقبل معرفة الحق من الباطل، وقبل إزالة الالتباس والاشتباه، كما بين هنا (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا).
ثم التزام الإصلاح قبل الدعوة إليه من أعظم أسباب نجاحه، ومن أعظم الأسباب الدالة على صدق الداعي إليه (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) أي: كيف أزعم الإصلاح وحقيقة القول الذي أقوله يترتب عليها الفساد، وحقيقة الفعل الذي أفعله يقع منه ما يعارض هذا الإصلاح؟! فإن مثل ذلك لا شك أنه ينقض هذه الدعوى ويبطلها ويعريها عن حقيقتها، وإن كان لصاحبها نية فعلم نيته عند ربه.
ثم نلحظ كذلك قوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، وهنا أمر مهم ومقصد عظيم، وهو الإخلاص في الإصلاح، إنه إصلاح لا يريد تحصيل مصالح شخصية، إنه إصلاح لا ينطلق من نوازع نفسية، ولا من صراع شخصي، ولا من أهواء في نفوس من يزعمون ذلك الإصلاح، ولا يكون ردود أفعال عاطفية ولا حماسة طائشة، إن معاشر المسلمين لا ينطلقون إلى أمر ولا يتقدمون إلى فعل إلا وقد تحروا أمرين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً: الأمر الأول: البينة الواضحة في الحكم الشرعي بأدلته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: الاجتهاد الخالص المخلص فيما يظن أنه يترتب على الفعل من المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، فما رجح من المصالح على المفاسد كان الأولى فعله، وما رجحت مفاسده على مصالحه فالأولى تركه وإن كان مباحاً أو جائزاً، بل ربما يكون مندوباً أو في بعض الأحوال واجباً، لكنه في حال يترتب عليه مفاسد كبرى قد يكون فعله مع تصور ذلك محرماً، مع كونه في الأصل واجباً.
وهذا فقه بثه العلماء وساقه قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ترك أموراً لئلا تترتب عليها مفاسد، كما روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بإسلام لنقضت الكعبة وأعدت بناءها وجعلت لها بابين) وبين البخاري ذلك في ترجمته، وبينه ابن حجر في شرحه، وبين أن من الفوائد أنه يمكن أن تترك المصلحة إذا خشي أن تكون هناك مفسدة أعظم، وذلك مبثوث في كثير من المواقف التي كانت في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولعل من أجلاها وأظهرها أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة في عمرته الشهيرة بعمرة القضاء في العام السابع من الهجرة والكعبة حولها الأصنام، وعلى الصفا والمروة إساف ونائلة، فهو عليه الصلاة والسلام لم يهدم من تلك الأصنام صنماً، ولم يبصق عليها ولم يسفّهّا، لكننا نوقن جميعاً أنه كان يبغضها، وكان يتمنى لو أزالها، لكنه كان عليه الصلاة والسلام يعلم أن لكل حادث وقته، ولكل عمل ما ينبغي أن يتدرج فيه وأن تتوافر أسبابه، وقد كان صلى الله عليه وسلم في عهد وصلح مع كفار قريش، فالتزم عهده وأوفى بذمته، ومن بعد عام تيسرت الأمور وجرت الأقدار، فجاء فاتحاً يطعن هذه الأصنام وتتهاوى وتتكسر، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: ({وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]).(49/5)
طرق الإصلاح ومعالمه
لدينا كثير من الأبواب والمسالك التي هي من طرق الإصلاح في كل أمر من الأمور، ولها معالم كثيرة، ومن أولها وأبزرها التعليم والإرشاد، فإن الناس قد عمهم -إلا من رحم الله- جهل كبير بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة أحكام الإسلام ومقاصده الكبرى وقواعده العظمى، وموازينه وضوابطه التي يعرف بها الترجيح بين الأدلة عند تعارضها واختلافها، والترجيح بين المصالح والمفاسد، وغير ذلك من الأمور المهمة التي ينبغي أن يشيع علمها في عموم الأمة، وأن تكون موضع اهتمام ورعاية وتعمق وتخصص عند علمائها ودعاتها والمتصدرين فيها لأي أمر من أمور الخير والإصلاح والدعوة والإرشاد.
المعلم الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فما بالنا نترك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وحثه وحضه وبيانه وتفصيله لهذه الشعيرة وأهميتها وطرق ممارستها في كل الجوانب، وفي كل الجهات المختلفة؟ كما نعلم من كثير من أحاديث المصطفى التي يضيق المقام عن ذكرها، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الحديث المشهور: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وبيانه صلى الله عليه وسلم لصور كثيرة مختلفة في هذا الشأن، فأين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وأين الدعوة بأساليبها الحكيمة ومواعظها الحسنة ومجادلاتها اللطيفة؟! أين ذلك في واقع الأمة؟ هل استنفدت أغراضها؟ هل تعلم الجاهلون؟ هل تذكر الغافلون؟ هل حذر الذين يسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ إلى غير ذلك من أمور كثيرة.
المعلم الثالث: التدرج وحسن سياسة الناس؛ فإن الأمور لا تأتي طفرة، وإن الإصلاح لا يأتي دفعة، وإن هذا الذي يمكن أن يظن أنه يصلح في كثير من الأحوال عندما لا يأخذ بالهدي النبوي والنهج القرآني يفسد ولا يصلح.
هذا عمر بن عبد العزيز -وكلنا يعلم من هو خيراً وصلاحاً وتقىً وعدلاً وإنصافاً وزهداًَ- يدخل عليه ابنه فيقول له: ما لك لا تنفذ الأمور فتصلح الفاسد وتقوم المعوج وتلزم الناس الحق، فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور؟! فيقول عمر -ولا نستطيع أن ننافسه رحمه الله في إيمانه وتقواه، ولا في غيرته وحميته، ولا في علمه وبصيرته، ولا في حنكته وحكمته- يقول رحمه الله في هذا الشأن: يا بني! إن الله ذم الخمر في آيتين وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة.
لم يمنعه من ذلك أنه لا يعرف أن هذه أمور مطلوبة أو مرغوبة أو مستحبة، لم يمنعه من ذلك أنه لم يكن غيوراً على دين الله حريصاً على نشر الخير، لكن البصر والبصيرة، لكن الحكمة في سياسة الأمة، لكن الحنكة في إنفاذ الإصلاح دعت عمر -وهو حاكم وخليفة وسلطان- أن يتأنى وأن يحسن السياسة والإصلاح، فما بال من يكون ليس في علمه ولا في سلطانه ولا في مقام تقواه وإيمانه؟ نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم انظر إلى ما وراء ذلك من أمور كثيرة، وأحوال عظيمة، وأصول شرعية مانعة جامعة، ومن أبرزها أن الإصلاح في ديار الإسلام لا ينطلق من منطلق الفرقة وضياع العصمة، والبدء بخلع السمع والطاعة والإمرة والإمارة، فإن ذلك لا يُتحدث عنه سياسة، ولا ينبغي أن يُتحدث عنه نفاقاً ومداهنة، بل هو مما جاءت به الآيات ونصت عليه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء في تفصيل الأحاديث النبوية ما قد يعجب له بعض الناس، من ذلك التشديد والتأكيد على مجتمع المسلمين على السمع والطاعة، والحرص على الجماعة، فإن ذلك من أعظم الأمور وآكدها، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
قالوا: يا رسول الله! هل ننابذهم؟ قال: لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة) وسأله السائل فيما جاء في حديث حذيفة الطويل في الفتنة: (فماذا أفعل إن أتي بي إلى الصف؟ قال: خذ سيفك ودقه بحجر) أي: لئلا يكون لك مشاركة في أمر يكون به إزهاق أرواح المسلمين، وفي الفتنة التي تعم مجتمعاتهم.
(فقال: يا رسول الله! أرأيت إن أتي بي بين الصفين؟ قال: إذاً يبوء بإثمه وإثمك).
وهناك كثير من الأحاديث تبين لنا أمراً مهماً، وهو أن الخلل والنقص ووجود بعض الانحراف القليل مع وجود عصمة جامعة للأمة وإمرة ضابطة لأمورها، فإن الهدي النبوي في معالجة الأمر لا ينزع -قطعاً- إلى خروج عن هذه الطاعة؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة التي ذكرها العلماء، ومن ذلك ما ذكره ابن بطال فيما نقله ابن حجر في حكمة هذه النصوص النبوية التي تمنع من سفك الدماء والخروج على الطاعة، قال: فيه حقن الدماء، وتسكين الدهماء.
وذلك يمنع الفوضى التي رأينا مثيلاً لها في البلاد المسلمة التي انفرط عقدها، والتي عظمت فيها الفتنة والرزية، والتي تجاوزت فيها بعض هذه البلاد أكثر من عقد من الزمان والأمن فيها مختل، والحال فيها سيئ، والتعليم فيها منقطع أو مضطرب، وحياة الناس في كرب، وأمر الإسلام وإقامته وشرائعه لم تتحقق على ما كان يظن أو يتوهم أو يقول أولئك القوم في تلك البلاد أو غيرها.
وهذا من الأمور المهمة، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بحقائق ديننا في كتاب ربنا، وأن يبصرنا ببينة أمرنا في سنة نبينا، وأن يجعلنا أبعد ما نكون عن الفتنة والمحنة، وعما يترتب عليه الفساد والإفساد، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.(49/6)
نماذج من مواقف السلف تجاه اجتماع الأمة وإصلاحها
إن من أعظم التقوى الحرص على مصالح المؤمنين وإصلاح مجتمعاتهم، والبعد عن كل ما يشيع فيهم الفساد، أو يذهب عنهم عصمة الدماء والأموال وغير ذلك، ولعلنا عندما نريد أن نؤكد مثل هذا النهج نراه في سير الأصحاب رضوان الله عليهم، وفي سير الأسلاف من التابعين ومن جاء بعدهم من مشاهير الأئمة والعلماء الذين نجزم أنهم أعظم إيماناً وأغزر علماً وأقوى حجة وأشد غيرة لدين الله عز وجل مما قد يكون عندنا، ولذلك أذكر بعض المواقف وغيرها كثير وكثير.
فهذا الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنه، الذي كان ممن ذهب مع كثير من الصحابة إلى الامتناع عن القتال في الفتنة، ولقد استمع إلى خطبة لـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه في اجتهاده بعد تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه له بالخلافة فكان يقول: من كان عنده كلام فليتكلم به، فإنا أعلم بذلك منه ومن أبيه.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: فكنت أريد أن أقول: (أحق منك بهذا من قاتلك وأباك على الإسلام.
ولكن خشيت أن أقول كلمة تفرق جمع المسلمين ويسفك بها الدم).
ذلك هو منطلق الإيمان، وتلك هي عصمة التقوى، وتلك هي بصيرة العالم بترجيح المصالح والمفاسد، وذلك ما فعله سعيد بن المسيب رحمه الله، كان من أئمة التابعين الكبار الذين كانت لهم مواقف مشهورة مذكورة في قول الحق وفي الصدع به، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن دون أن يكون ذلك مؤذناً بفتنة أو مفضياً إلى سفك دم، أو مؤدياً إلى اضطراب وخلل في أمن الناس ومعاشهم، ولذلك كان يقول رحمه الله: الشيطان مع الشاذ والخارج عن الجماعة، وهو من الاثنين والجماعة أبعد.
أما الحسن البصري فكان من أئمة التابعين إيماناً وزهداً وعبادة، فقد جاور الحجاج مع ما هو معروف عنه من ظلمه وبطشه، وقالوا للحسن: ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأكل المال الحرام وترك الصلاة جماعة، وما كان عليه من مخالفة السنة؟ فقال: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبته، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
وكان ينهى عن الخروج على الحجاج، ويأمر بالكف ويقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل السلطان صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فوالله ما جاءوا بيوم خير قط.(49/7)
حكم الخروج على السلطان وإشاعة الفوضى في المجتمع المسلم
هكذا نجد المواقف الكثيرة التي استنبطت مثل هذا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا ومن غيره مما أسلفناه من القول يتبين لنا حرمة ما يفعل من مثل هذه الجرائم التي لا تحقق مصلحة، بل قد تزهق أرواح ليست مقصودة، حتى لأولئك الذين اعتدوا، ويصبح بذلك نوع من اضطراب وخلل في الأمن وإشاعة للفساد، ويلحق بذلك كذلك ما يتضمنه مثل هذا الفعل من رجحان تكفير أولئك لقتل هؤلاء، واستباحة أولئك لقتل هؤلاء، ونظرهم في جواز أو في وجوب الخروج عن السمع والطاعة وشق عصا الجماعة، وكل ذلك من الأمور التي دلت النصوص الشرعية على حرمتها والمنع منها.
وليس من الإصلاح كذلك الدعوة إلى الاضطراب وإلى إشاعة الخلل في المجتمع، وذلك بصور مختلفة كثيرة، فإن ما في الأمة اليوم عموماً، وما يوجه إلى البلاد التي تضم الحرمين الشريفين خصوصاً فيه من الفتنة والبلبلة ما يعتبر مثل هذا زيادة فيه وتكريساً له وإشاعة لأمور تعظم بها الفتنة ويكثر بها الفساد ولا يقع بها الإصلاح، ونحن نعلم جميعاً أن بلاد الحرمين هي خير بلاد الإسلام والمسلمين، ولا يظنن ظان ولا يقولن أحد من مسئول ولا من دونه: إنها معصومة من الخطأ، وإنها كاملة لا نقص فيها، وإنه لا يوجد خلل أو لا يوجد تجاوز أو استعمال لبعض السلطات والمسئوليات في غير موضعها، لكن علاج ذلك بالمنهج النبوي والقرآني من المناصحة والصبر والتدرج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نحن اليوم في أمس الحاجة إلى أن ندعو إلى زيادة التعليم الديني والإسلامي، وإلى زيادة أنشطة الدعوة وتبصير الناس بها، وإلى زيادة بيان الحق للناس في أمور ومجامع كثيرة؛ لأن غياب مثل هذه الدعوة وعدم معرفة هذه المسائل، وتقليص التعليم الديني أو الهجوم عليه -كما يفعل بعض الكتاب جهلاً أو قصداً- إنما يؤدي إلى اتساع الخرق على الراقع، ويمنع من وقوع أسباب الإصلاح، ولذلك فإنه لا بد لنا أن نؤكد على الأمر المهم، وهو أننا إذا أردنا انطلاقاً إلى الإصلاح فانطلاقنا إيماني إسلامي نبوي، وأننا ينبغي أن نعرف حقيقة الإصلاح، وأنه منع للظلم والإثم والاختلاف والنزاع وسفك الدماء واختلال الأمن، فكيف يكون الإصلاح بإيقاع مثل هذه الأمور؟! فإن الذين يدعون إلى الخروج عن الطاعة، أو الذين يدعون إلى أن يكون هناك أعمال يراد بها إثارة البلبلة والقلاقل إنما يؤدي فعلهم إلى عكس حقيقة الإصلاح القرآني، وقد رأينا كذلك أمراً مهماً، وهو أن نبحث عن المنطلقات في الشخصية المصلحة بأن تكون مخلصة لله متجردة عن الهوى، ليست منطلقة من ردود الأفعال ولا من التشكي ولا من التحدي ولا من غير ذلك، فإن أمر الأمة وسياستها أعظم من أن يكون خاصاً بهذا الشخص أو ذاك، أو بهذه الفئة أو تلك، فالمصلحة الإيمانية الإسلامية أعظم وأولى أن يراعيها الجميع حكاماً ومحكومين، علماء ودعاة، عامة ومتعلمين، تأتلف عليها قلوبهم، وتجتمع لتحقيقها جهودهم، ويتنازلون لأجلها عن بعض آرائهم أو عن بعض مصالحهم، حتى يجمع الله عز وجل القلوب، وندرك كذلك أخيراً أن كل أمر يقع به اضطراب أو تقع به فتنة أو يحل به شيء مما يؤدي إلى اختلاف الآراء أنه يصب في خانة الأعداء ومصالحهم، ويبرر ويوفر أسباباً لمزيد من العدوان على الإسلام وأهله، وعلى بلاد الحرمين الشريفين على وجه الخصوص، ولذلك ينبغي لنا أن نبصر هذه الأمور وأن نبصر بها، وأن لا يكون لنا غير ذلك؛ لأن هذا هو الذي نفهمه فهماً صحيحاً مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما تواتر وتسلسل في عدد كبير من أسلافنا رضوان الله عليهم، ومما نطق به علماؤنا وأئمتنا ومشايخنا في عصرنا الحاضر، بل وأجمعت عليه كثير من المجامع الفقهية، فبعد هذا كله كيف نترك ذلك ونميل إلى رأي أو إلى قول لا يتطابق مع هذه المنطلقات، ولا ينطلق من هذه الاستنباطات، ويكون لنا من وراء ذلك ظن بأننا نصلح وأننا نحسن؟! نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الفتنة والزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يسخرنا لنصرة دينه وعون عباده، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! إنا نسألك لهذه البلاد ولبلاد المسلمين، أن توفر أمنها، وأن تعظم وحدتها، وأن تزيد رزقها، وأن تردنا وترد المسلمين جميعاً إلى دينك رداً جميلاً، وأن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد والرشد والصواب، وأن تجعل في بلاد المسلمين تحكيماً لكتابك ولسنة نبيك كاملاً غير منقوص، وأن تجمع القلوب على ذلك، وأن توحد الجهود على إقراره وإمراره يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم! إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، وأن تنكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم، اللهم! خالف كلمتهم، اللهم! اجعل بأسهم بينهم، اللهم! إنا نسألك أن ترينا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم! لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأرنا فيهم عجائب قدرتك عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين.
اللهم! رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج كربتهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/8)
الإصلاح منطلقاته ومجالاته
للإصلاح مجالات متعددة، ولكل مجال منها ضوابط شرعية، فالواجب على المسلم أن يلتزم بتلك الضوابط الشرعية؛ حتى لا يقع في مخالفة شرع الله ودينه.
ولقد تداعت الأمم الكافرة إلى الإصلاح الشامل، والتغيير الكامل، ولكن وفق أهوائهم ورغباتهم، وبما يحقق مصالحهم ومآربهم، والغريب أنك تجد كثيراً ممن ينتسبون للإسلام قد اغتروا بهم، وساروا يدعون إلى ما يدعون إليه، فيجب الحذر من الانجرار وراءهم أو الانخداع بهم.(50/1)
الإصلاح في المجال الاقتصادي
الحمد لله جعل الإيمان في الدنيا نجاحاً، وفي الآخرة فلاحاً، وجعل الإسلام لحياة الناس صلاحاً، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
نحمده سبحانه وتعالى حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! حديثنا موصولاً عن الإصلاح بعد أن ذكرنا ومضات من منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نجعل حديث اليوم عن الإصلاح مجالاته ومنطلقاته، إذ نحن بعد ذلك الحديث العام الذي ذكرنا فيه انطلاقة إيمانية وارتباطات بالتقوى وبيان لوسائل كثيرة من التدرج والانضباط الشرعي ونحوه، نخوض اليوم في بعض المجالات التي يكثر الحديث فيها عن الإصلاح، من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي، حتى وجدنا هذه المقالات وتلك الدعوات تصافح أبصارنا في كل صباح على الصفحات، وتلامس آذاننا في كل يوم عبر المحطات والإذاعات، وتعقد لأجلها الندوات، ويختلف في شأنها هل ينبعث الإصلاح من الداخل أم يأتي من الخارج أم يكون خليطاً؟(50/2)
ضوابط الإصلاح في المجال الاقتصادي
إننا في كل حديث، وفي كل رأي، وفي كل خطة، وفي كل نظرة، ينبغي أن نكون منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وراجعين إليهما، ومسترشدين بهما، ومعتمدين عليهما.
ومن هنا نتحدث قليلاً عن بعض هذه المجالات.
وقبل كل شيء فإن كل هذه المجالات ينبغي أن نرى فيها ثلاثة أمور: أولها: المنطلق الإيماني.
ثانيها: الانضباط الشرعي.
ثالثها: الاعتبار المصلحي.
فلا خير في إصلاح ينطلق من غير منطلق الإيمان، ويسير بعيداً عن رحابه وظلاله.
ولا يمكن بحال أن يتحقق للإصلاح أثر بعيد عن الانضباط الشرعي، والرجوع إلى الأحكام الكلية والتفصيلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه يضيع الإصلاح وتضيع آثاره عندما لا يكون مرتبطاً بالمصلحة العامة، ومراعياً للآداب الاجتماعية المؤسسة على قاعدة الإيمان والإسلام، فإن الذي ينطلق من الرؤى الشخصية والمصالح الذاتية تختلط به كثيراً من الأهواء والآراء الزائغة.
مجال الاقتصاد منطلقه الإيمان كما هو منطلق كل مجال إصلاحي، فالرسل والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى الأمم والبشر والخلائق، بعثهم أول شيء بالإيمان والتوحيد، وكلهم كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] هذا المنطلق الإيماني استخدمه موسى عليه السلام ليكون هو أساس الإصلاح السياسي الذي يعالج به طغيان فرعون واستبداده، وهو كذلك المنطلق الإيماني الذي استخدمه شعيب عليه السلام ليقوم الانحراف الاقتصادي من غش وتطفيف للمكيال والميزان، وأخذه كذلك لوط عليه السلام ليقوم به الانحلال والانحراف الخلقي الذي تمثل في الرذيلة التي شاعت في قومه؛ ولذلك فمنطلق الإيمان هو الأساس الذي ينبغي استحضاره، كما قال الله جل وعلا لنا في شأن المجال الاقتصادي في قصة شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه ويقول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وبعد تأسيس هذه القاعدة يواصل فيقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85] إنه الإيمان ابتداءً، والإيمان انتهاءً، لماذا؟ لأنه ينشئ مملكة الضمير، وينشئ القلب الحي، وينشئ النفس المراقبة لله، وينشئ الأمل الذي يتعلق بثواب الله، ويخشى من عذاب الله عز وجل، إنه الميزان الحق والمنطلق السديد الذي به تعصم البشرية من نزغات الشياطين، ومن ضلالات الأهواء، ومن انحرافات الآراء.
والله سبحانه وتعالى يبين لنا هذا المنطلق الإيماني في مثل هذه القصة النبوية لشعيب عليه السلام، ثم ننظر إلى الانضباط الشرعي، فنرى الآيات القرآنية ومعها الأحاديث النبوية تعطينا أحكاماً كلية وتفصيلية في شئون المال.
ليس المال اجتهاداً للبشر لكي ينظروا إلى مصالحهم ويأخذوا السبيل الذي يرونه محققاً لها، بل هو في أوجه اكتسابه وفي طريقة إنفاقه وفي كل ما يترتب عليه من الحقوق وما ينبني عليه في التعاملات من العقود؛ مبني على ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وكم جاءت الآيات مفصلة في الرهن والبيع والشراء؟! وكم جاءت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين هذه المعالم في نصوص كثيرة معلومة ليس هذا مقام ذكرها أو حصرها؟! ثم ننطلق لنرى عموم تلك الكليات في خطاب القرآن: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرن ذلك ويبينه في الحساب الأخروي، أربع يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وفيها للمال سؤالان وليس واحداً: (من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) هل كان طريق الكسب حلالاً، وطريق الإنفاق مباحاً أم غير ذلك؟ ولذلك تأتي هذه المسئولية مرتبطة بالأحكام الشرعية، كما كان صحب النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يرجعون إليه ليسألوه عن هذه المعاملة وحلها وجوازها، وهذا المال الذي اكتسبوه من هذه الطريقة هل هو سائغ؟ وهل هو مباح أم لا؟ وذلك ما كان يربطه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور أخرى كثيرة متعلقة بالإيمان، ومرتبطة بالأحكام.
خاطب النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وقال: (يا سعد! أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة) فجعل إجابة الدعوة والدعاء من أعظم أسبابه: طيب الكسب، وعدم أخذه من الحرام، وفي المقابل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!) إنها تلك التوجيهات الإيمانية والأحكام الشرعية.
ثم ننظر إلى الأمر الثالث: وهو الاعتبار المصلحي.
إن الإسلام ينظر إلى مصلحة الأمة في مجموعها، حتى المال الذي يخصك قد وُضعت له الضوابط والأحكام، فإن تجاوزتها فليس ذلك اختياراً شخصياً، بل هناك أحكام ومعها آداب تحقق الحفاظ على المصلحة العامة، كما يبين الحق جلا وعلا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] الإسراف وإن كان من حر مالك مذموم محرم في الشرع.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل الحكم بالحجر على السفيه؛ لأنه يبدد ماله، لكنه مع ذلك يبدد ثروة الأمة، ويبدد المصالح العامة، وينتهك الآداب التي تجعل لكل شيء مقامه وقدره وقيمته.(50/3)
صور تحتاج إلى إصلاح اقتصادي
المال الذي آتاه الله للخلق لم يؤتهم إياه ليكون عبثاً، وليكون نزوات طائشة، وليكون تبديداً للثروة في الحرام أو في غيرما مصلحة، كما بين ذلك قول الحق جل وعلا: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27] إذا تأملنا هذه اللمحات والومضات، عرفنا ما نحن محتاجون إليه من إصلاح اقتصادي في واقع أمتنا الإسلامية، وقد فشا فيها الربا، واستعلن فيها كثيراً بصور مختلفة متنوعة مبهرجة ومزيفة، وانتشرت صور القمار والميسر عبر الدعايات والإعلانات والمسابقات وغيرها، وكما نرى كذلك صوراً من الإسراف والتبذير يندى لها الجبين، وتضيع بها مقومات الأمة، ولا يرى فيها حينئذ مراعاة للمصالح ولا للآداب ولا للأعراف العامة في المجتمعات والأمم، وكل هذه الصور تناقض ما أشرنا إليه مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم انظر إلى الواقع يحكي لك ذلك، ألا ترون اليوم كيف يبحث الناس بحمد الله جل وعلا عن المعاملات الإسلامية، فإذا أرادوا معاملة بنكية بحثوا عن البنوك والمصارف التي تقوم على أسس شرعية، وإذا أرادوا التأمين بحثوا كذلك عن المباح وهكذا عظم عند الناس اليوم بحمده جلا وعلا حرصهم على أن يكون تعاملهم المالي وميدانهم ومجالهم الاقتصادي مراعياً لتلك الأحكام، لكننا نستمع اليوم إلى إصلاح اقتصادي من لون آخر، مروج على مستوى الأمة، بما يسمى: الاقتصاد المفتوح أو الحر الذي يقول لك: إنه ليس هناك شيء يمنع بيعه أو تداوله، لا تقل لي: خمر محرم، ولا تقل لي: أفلام إباحية ممنوعة غير مشروعة، ولا تقل هذا أو ذاك، فإن السوق هو الذي يسير الأمر، وإن الاقتصاد الحر المفتوح والتجارة العالمية الدولية تطرق أبوابك، ولا بد أنها آتية إليك.
وتأتينا صور أخرى اقتصادية يزعم أهلها أنها لتنمية الشعوب ولرفع المستوى الاقتصادي، وهي في حقيقة الأمر تصب المال من جيوب المسلمين ومن ديارهم إلى الكيان الصهيوني واليهود، عبر اتفاقيات لا يمرر لها طريق ولا يمهد لها تيسير ولا تذلل لها عقبات إلا من خلال ذلك الطابع اليهودي، وذلك باسم تنمية اقتصادية وارتفاع لمستوى المعيشة؛ وذلك حتى تدمن الأمة التعامل مع أعدائها، وبذل أموالها لمن يقتلها دون أن ترى في ذلك حرج، بل دون أن تنتبه إلى ذلك، فتأتينا التجارة والبضاعة من بلد عربي إسلامي ممهورة بمهرها ومختومة بختمها، وأشتريها وأدفع المال وإذا بالحصة الكبرى منه ليست إلا تمويلاً لذلك الكيان الغاصب الذي يعتدي كل يوم على حرماتنا ومقدساتنا وديننا، فضلاً عن ديارنا وإخواننا وأعراضنا، ومع ذلك يقولون: هذا هو التطور الاقتصادي، وهذا هو الإصلاح الذي تدعو إليه الأمم والدول العظمى والكبرى التي تزعم أنها تقدم لأممنا ولمجتمعاتنا الخير، وتعلمها كيف تصلح أحوالها، وكيف تسير على منهاج مستقيم يفضي بها إلى رغد العيش وسعة الحياة، وإلى انتظام الأمور كما يزعمون! ومن هنا لا بد للمؤمن من وقفة خطيرة يتأمل فيها تحقيقه لدينه وإيمانه، فالإيمان لا يتحقق بمجرد النطق، ولا بمجرد الإقرار، ولا حتى بمجرد الأعمال من العبادات والشرائع، بل الإيمان امتثال ويقين في كل حكم وفي كل جانب وميدان ومجال فيه لله عز وجل حكم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم هدي، فمن أعرض عنه وخالفه فذلك نقص في إيمانه، وخلل في اعتقاده، وتشوه في حسن تصور إسلامه، ينبغي أن يفطن له، سيما ونحن اليوم نعلم ونوقن أن أمتنا مستهدفة في كل المجالات والمسارات.
يراد أن تخترق اقتصادياً حتى لا تقام لها قائمة، وحتى تصب ثرواتها في جيوب أعدائها في صور مختلفة وأنماط متنوعة، ومن طرق مختلفة، مرة عبر اتفاقيات تجارية، وأخرى عبر اتفاقيات دولية، وثالثة عبر زيارات ومصالح من هنا وهناك، وذلك كله يصب في مصلحة أعداء الأمة، لا في مصلحة أبنائها.(50/4)
قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث
الحمد لله جعل الإيمان في الدنيا نجاحاً، وفي الآخرة فلاحاً، وجعل الإسلام لحياة الناس صلاحاً، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
نحمده سبحانه وتعالى حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! حديثنا موصولاً عن الإصلاح بعد أن ذكرنا ومضات من منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نجعل حديث اليوم عن الإصلاح مجالاته ومنطلقاته، إذ نحن بعد ذلك الحديث العام الذي ذكرنا فيه انطلاقة إيمانية وارتباطات بالتقوى وبيان لوسائل كثيرة من التدرج والانضباط الشرعي ونحوه، نخوض اليوم في بعض المجالات التي يكثر الحديث فيها عن الإصلاح، من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي، حتى وجدنا هذه المقالات وتلك الدعوات تصافح أبصارنا في كل صباح على الصفحات، وتلامس آذاننا في كل يوم عبر المحطات والإذاعات، وتعقد لأجلها الندوات، ويختلف في شأنها هل ينبعث الإصلاح من الداخل أم يأتي من الخارج أم يكون خليطاً؟(50/5)
الإصلاح في المجال الاجتماعي والأسري
أنتقل بكم إلى مجال آخر وهو المجال الاجتماعي، والحديث اليوم عن إصلاح المرأة ووضع المرأة وحق المرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حديث يصدع الرءوس من كثرته، فلا تكاد ترى صحيفة إلا وفيها خبر عن أول امرأة كذا وكذا، أو أول وفد من النساء فعل كذا وكذا، أو تلك البلدة التي تحقق فيها للمرأة حق كذا وكذا.
من أين جاءنا ذلك؟ ومن أين يروج ذلك وتدفع عليه الأموال؟ إنها سياسة التسويق الإصلاحي الغربي الذي تقوده الدول العظمى التي تمسك بعصاً غليظة هي عصا القوة العسكرية، وتزعم بعد ذلك أنها تدعو إلى الحرية والعدالة وغير ذلك.
وهذه الأمور من منطلق الإيمان تجد أن الخطاب القرآني في شأن الأسرة والمجتمع والمرأة مملوء بهذا المنطلق الإيماني قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] إنه خطاب الإيمان: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] إنها أحكام شرعية ليست اجتهادات بشرية، وليست خيارات اجتماعية، وليست تقاليد ولا أعرافاً تاريخية، إنها أحكام شرعية تنزلت بها آيات قرآنية، ووردت بها أحاديث نبوية، ونطقت بها مسيرة تاريخية، وشهدت لها أوضاع اجتماعية عبر تاريخ الأمة وعبر رقعتها الممتدة في كل مكان.
وهكذا نجد الآداب، ونجد المصالح المراعية التي تحافظ على حياء المرأة، وتحافظ على تماسك الأسرة، وتحافظ على محضن التربية الذي يربي الأجيال.
إننا اليوم نواجه سيلاً من الدعوات الإصلاحية، هدفها كما يقولون: عمل المرأة ومشاركتها، ومزاحمتها للرجال، وأخذها لحقوقها المزعومة في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها.
ثم ماذا بعد ذلك؟ تكشف الظهور، ولا يكون في البيوت زوجات صالحات راعيات للأزواج، ولا مربيات للأبناء، ولا تماسك للأسرة كما كان عليه العهد السابق، ولسنا نفصل القول هنا عن عمل المرأة هل هو جائز أو غير جائز؟ فالجائز المشروع معلوم، والدعوات وما تتضمنه من مآلات ومن مخالفات معلومة أيضاً.
وهكذا يخبرنا الله جلا وعلا ويبين لنا رسوله صلى الله عليه وسلم المآلات التي تفضي إلى عدم المخالفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وتأتينا الدعوات اليوم لتقول لنا: إن الإصلاح هو انفتاح، وهو لقاء في ظل البراءة والصداقة والندية بين الرجل والمرأة، فهل نصدق هذا ونكذب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وهل نصدق هذا ونكذب الواقع الذي يشهد بعكسه وضده؟ وهكذا في مجالات كثيرة نجدها.(50/6)
الإصلاح في المجال السياسي
الإصلاح في المجال السياسي ليس هو اجتهادات بشرية، بل منطلقه إيماني، فكل الذي خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات التي جاءت في ذلك منطلقها إيماني واضح، فالإصلاح السياسي أساسه شرعي بين، الله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] إن هذا الحكم في التشريع الإسلامي إنما هو دليل وأثر وجزء أصيل من إيمان المرء بالله عز وجل، ومن تصديقه بإسلامه، وإذا جئنا إلى الأحكام وجدنا التفصيل في القرآن الكريم فيما يتعلق بالعهد والأمان والصلح وغير ذلك من العلاقات داخل الأمة الإسلامية وخارجها، فنحن كذلك ندرك هذا.
ثم ندرك من بعد المصالح المراعية التي يراد بها أن نراعي الأحكام والآداب وتحقق المصالح، وذلك ما نجده في هذه التشريعات وتلك المنطلقات، وتأتينا مرة أخرى دعاوى الإصلاح الديمقراطي، الذي في حقيقة أمره وواقع تطبيقه يشهد بأنه لا يعترف بحكم ولا يعترف بتشريع، بل كل ما قالته الأغلبية هو الحق الذي يمضي ويعتمد ولو خالف قرآناً ولو عارض سنة وغير ذلك.
ثم فوق هذا كله يأتينا هذا الإصلاح بدعوات مقصدها الفتنة وإثارتها في مجتمعات المسلمين، فالدعاوى المنطلقة باسم حماية الحريات الدينية والمذهبية وحريات الفكر، إنما تريد أن تنظر في كل بلد إسلامي إلى تلك الأقليات لتجعل منها قضية تفتت هذه المجتمعات وتضعفها بدعوى الإصلاح السياسي ومراعاة الحقوق.
ونحو ذلك أيضاً في مراعاة حقوق الإنسان ونحوه، وإلا فأين هؤلاء ودعواتهم، ليس فيما مضى، بل في الوقت الذي يحتلون فيه البلاد، ويقتلون فيه العباد، ويغنمون ويسرقون الثروات، ثم يقولون لنا ذلك كله؟! فلذلك ينبغي لنا أن ندرك هذه الحقائق، وأن ندرك أن الترويج الذي يروج اليوم هو أمر خطير، لا ندرك خطره؛ لأننا وللأسف لا نتابع حقائقه التي تمر مرة بعد مرة، وأُذكِّر بمؤتمر قديم عن المرأة للأمم المتحدة قامت له الدنيا ولم تقعد، وظننا أن الأمر انتهى، واليوم يمضي على هذا المؤتمر عشرين عاماً، وقد توالت بعده مؤتمرات، وقريباً يعقد مؤتمر اسمه: (مؤتمر بكين + عشرة) أي: بعد عشر سنوات من مؤتمر بكين ما الذي أنجز؟ وما الذي تحقق؟ وما الذي يجب أن يحقق؟ فالقوم ماضون فيما يزعمونه من ترويج نموذجهم وإصلاحهم، وكثير من المسلمين غافلون، وكثير منهم مسايرون، وبعض منهم وللأسف قائمون على هذا ومروجون له.
نسأل الله عز وجل أن يبصرننا بديننا، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(50/7)
التحذير من خطر الدعوات الإصلاحية المزعومة من أعداء الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: معاشر المؤمنين! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاحرصوا على التقوى في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واحرصوا على اجتناب الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إن أمر هذا الدعوات الإصلاحية لمؤكد خطره، ومؤكد أنه يسير بخطى حقيقية وواقعية، وتنفذ بنوده وتمضي اتفاقياته.
وهنا يتساءل كثير منا ويقول: ما الواجب الذي أستطيعه والأمر هائل ضخم كبير؟ وهو كذلك، وفوق هذا كله يأتي مفروضاً بقوة رغبة أو رهبة، وبصور مختلفة متنوعة.
إن الأمر جد خطير يحتاج من كل أحد منا أن ينتبه، وأول هذا أن ندرك الخطر وأن نعرفه، وأن نعرِّف به.
إننا كثيراً ما نلتفت إلى أمر واضح واحد عندما نستمع إلى الأخبار عمن يقتل من إخواننا في أرض فلسطين، أو من تدمر البيوت عليهم في أرض العراق، فنشعر أن هذا اعتداء صارخ، وأنه أمر يثير الحفائظ، ويحرك الحمية والغيرة، لكن هناك أمور لا تقل خطراً عن ذلك، بل ربما تكون أكبر منه، وهي كذلك من جهة أخرى، وهي التي توصل إلى ذلك الخطر وتمهد له، فتجوس من خلاله بين الديار، تنهك الاقتصاد، وتخرب الاجتماع، وتفسد السياسة، وتحلل الإعلام وتفسده، فحينئذ يحصل من الأمور والمفاسد أضعاف أضعاف ما قد يحصل من أمر احتلال مسلح، أو قتل وتدمير؛ ولذلك الوعي ثم الوعي ثم الوعي، والانتباه ثم الانتباه.(50/8)
الدور الفردي في مواجهة التحديات والمخاطر
الدور الفردي في مواجهة المخاطر مهم، جدد في قلبك إيمانك، وأوضح في تصورك إسلامك، وتنبه أن إيمانك وإسلامك لا يتجلى في مجرد صلاتك في مسجدك دون أن تتحرى امتثال الإسلام في كل حركة وسكنة، وفي مجال معاملاتك اليومية في جميع الاتجاهات والمجالات.
نحن اليوم نواجه هجوماً شرساً، فهل عندنا دفاع يكافئه؟ أول الدفاع دفاع الإيمان واليقين، فهل نحن حصنا معاقل الإيمان في قلوبنا ونفوسنا؟ هل زادنا هذا الإيمان بما ينبغي أن يزاد فيه من الطاعات، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ إن علينا أن نستشعر مواقف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين في كل هذه المواقف التي مروا بها في مواجهة الظروف العصيبة.
وأمر ثانٍ: العلم والبصيرة الشرعية، فكم نمضي إلى أعمال دون أن نسأل عن أحكامها؟! وكم تأتيك أسئلة اليوم عن حدث وقع لهذا السائل في رمضان الماضي أو عن حج قد مضى قبل سنوات؟! أين نحن من حرصنا على معرفة ديننا ومعرفة شرائعه ومعرفة أحكامه وآدابه؟! وأمر ثالث مهم في التطبيق الفردي: وهو أمر الأسرة ومن ولاك الله أمره، ومن تستطيع أن تبلغهم وأن تذكرهم وأن تنبههم، لو أن كل واحد قام بذلك لرأينا من وراء ذلك خيراً عظيماً.
ثم انظر إلى أمر مهم، وهو أن كل هذه الأسلحة تتعلق بالأفراد والأشخاص، فتراهم يهدفون إلى الحديث وإلى التغيير في بيتك أنت وبيتي أنا، في زوجتك وزوجتي، وابنتك وابنتي، لو أننا علمنا أبناءنا وبناتنا، وقمنا بواجبنا فكان الرفض طبيعياً وذاتياً وإيمانياً، فكل هذه الدعاوى وكل تلك البهرجة لن تفضي إلى شيء، وعندما يعرضون الاقتصاد لنشتري بضائع الأعداء، هل سيأتي من يلزمك ويخرجك من بيتك لتشتريها أم أن خيارك بيدك ألا تشتري ما تعتقد أنه يعود ضرره على أمتك الإسلامية، ويعود على إخوانك المسلمين نار ودمار عليهم في أرضهم وديارهم وأموالهم وأحوالهم، إنه خيار الذات وتربية الفرد.
إننا لو حصنا هذه المعاقل الإيمانية في النفوس، وحققنا التربية الإسلامية في الواقع، فلن نخشى شيئاً من كل ما يصنعون.
وقد رأينا ذلك بحمد الله في أمتنا وفيها خير كثير.
أليست قد وقعت الوقائع ووقعت الاتفاقيات لكي يكون لليهود فرص؛ ليجوسوا خلال الديار؟ فهل جاسوا خلالها أم وجدوا أن الناس عنهم معرضون، وعن التعامل معهم متبرئون، بل يرون ذلك سبباً للعار والشنار؟! ولو أننا قوينا هذه المشاعر وجعلناها تنتقل من صورها الصغيرة إلى الكبيرة، ومن المحدودة إلى الشاملة، ومن الفردية إلى الجماعية، فإننا نستطيع أن نقوي اقتصادنا ونهد اقتصاد الأعداء، ونستطيع أن نقوي أبناءنا ونصد تلك الهجمات بإذنه سبحانه وتعالى.
فاختر لنفسك ما تريده في أمر دينك ودنياك، وفي أمر دنياك وآخرتك، وفي أمر نفسك وفي أمر أمتك ومجتمعك.
والله الله أن يؤتى الدين والأمة من قبلك.
والله الله أن تكون طريقاً يمرر الأعداء فيه مخططاتهم سواء كانت إعلامية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية؛ لأنهم يوقنون أنهم لن يروجوا ذلك إلا من بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا المقيمين في ديارنا المتغلغلين في مجتمعاتنا؛ ولكننا بحمد الله عز وجل نرى أولئك القوم وإن نطقوا بألسنتنا فالآذان عن أقوالهم صماء، والقلوب عنهم معرضة؛ لأنها ترى بوناً شاسعاً بين تلك الأقاويل وبين نور القرآن وهدي السنة.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ أمتنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ بلاد الحرمين من كل ما يخل بأمنها وأمانها وسلامها وإسلامها وطيب عيشها وسعة رزقها إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل، وأن تغفر اللهم لنا السيئات، وأن تضاعف لنا الحسنات، وأن توفقنا فيما نبتغي من التوجه إليه من الطاعات.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم لطفك ورحمتك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(50/9)
جولة في المصادر التاريخية
للتاريخ الإسلامي مكانة وأهمية عظمى، لا يدانيه أي تاريخ آخر للأمم غير المسلمة، فينبغي للمسلمين العناية به، ومعرفة الغاية من دراسته، فهو لا يدرس للتسلية وإنما للعظة والعبرة وأخذ الدروس والاستفادة من التجارب المذكورة فيه.(51/1)
مقدمة عن أهمية دراسة المصادر التاريخية ومعرفتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهلاً للحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فأيها الإخوة الكرام الأحبة! هذا لقاؤنا يتجدد بكم في منتصف الشهر السادس من عام (1415هـ) مع الدرس الثامن بعد المائة الأولى، وعنوان درسنا لهذا اليوم: (جولة في المصادر التاريخية)، وهذا الموضوع متعدد الفروع، متشعب الموضوعات، وهو واسع جداً، ولذلك ربما نحتاج له إلى صلة لعلنا نلم بأصوله وببعض مصادره المهمة.
وسيكون الحديث ابتداءً عن التاريخ، وتعريفه، وفوائده، ووجوده ضمن علوم المسلمين، والصورة العامة التي يؤرخ بها في المصنفات والمؤلفات، ثم نعرج على ذكر بعض المصادر الأكثر شهرة وأهمية في وقفات موجزة، نهدف من ورائها التعريف بها، وذكر بعض الملامح المنهجية لهذه المصادر.
ولن يدخل في حديثنا موضوع التاريخ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السيرة سيكون لها -إن شاء الله- موضوع مستقل بذاته تحت عنوان: جولة في مصادر السيرة النبوية؛ لأن المصنفات المتعلقة بها تستحق أن تفرد، وأن يكثر الحديث حولها.
كما أنه لن يدخل في حديثنا التاريخ المعاصر المتأخر المتعلق بأحداث أوائل هذا القرن على وجه الخصوص؛ لأنه متشعب ومختلف ومختلط، وكثيراً ما تستقر التواريخ بعد مضي أحداثها بفترة من الزمن.(51/2)
تعريف التاريخ لغة واصطلاحاً
نبدأ مستعينين بالله عز وجل بما يتعلق بتعريف التاريخ، ذكر أهل اللغة فيه معاني عدة: فمن قائل: إن التاريخ هو الإعلام بالوقت، أو التعريف بالوقت، يقال: أرخت المولود أو الحدث في يوم كذا، أو أرخت الحادثة الواقعة في بلد كذا، أي: عرفتها بالوقت أو حددتها بالوقت أو أعلمت بوقتها.
ونقل صاحب كشف الظنون عن بعض أهل اللغة: أن التاريخ هو تعيين وقت ينسب إليه زمان يأتي عليه أو مطلق الزمان، سواءً كان ماضياً أو مستقبلاً.
وقيل أيضاً فيه: إنه تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، من ظهور ملة أو دولة أو أمر هائل مما يندر وقوعه.
وهذا معنى واضح ومهم؛ لأن الأحداث مرتبطة بالزمن، إضافة إلى أن بعض الحوادث تجعل مقياساً تاريخياً، على سبيل المثال: حادثة الفيل، يقال فيها: ولد بعد عام الفيل بعامين، ولد قبل عام الفيل بكذا، أي: أن هذه الحادثة كانت عظيمة وهائلة وغير مألوفة ونادرة وليست متكررة؛ فعرفها الناس، وتناقلوا خبرها، وضبطوا وقتها، ثم جعلت مقياساً بعد ذلك.
وكما أرخ المسلمون أيضاً في عهد عمر رضي الله عنه بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت حدثاً عظيماً ترتب عليه بناء الدولة الإسلامية، والتحاق المسلمين بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، فجعل هذا الحدث العظيم -الذي هو حدث نادر غير متكرر- مقياساً تاريخياً، ولا يزال حتى هذا اليوم مقياس تاريخنا إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما تعريف التاريخ في الاصطلاح كعلم مستقل بذاته، فإن الأقوال فيه مسترسلة ومطردة، بمعنى: لم يأخذ العلماء فيه بما يقال في التعريفات: لابد أن تصان عن الإسهاب، وأن تكون جامعة مانعة، وإنما ذكر بعض المؤرخين تعريفات فيها إطلاق القول، وتكثير المترادفات، مما الأصل أن يصان عنه التعريف، فمن ذلك ما ذكره صاحب كشف الظنون في تعريف التاريخ حيث قال: إنه معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم.
وهذا التعريف شامل للأبعاد الثلاثة التي هي: البعد المكاني، والبعد الزماني، والبعد الإنساني المتعلق بالأشخاص.
قوله: معرفة أحوال الطوائف.
أي: الأشخاص والقبائل.
وقوله: وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم ووفياتهم.
هذا من الناحية الاجتماعية.
وقوله: وبلدانهم.
هذا يتعلق بالناحية المكانية.
أما ابن خلدون فيعرف التاريخ بقوله: هو إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول.
ثم يستطرد في ذكر الأمور التي تحدث في هذه الأزمان، كظهور دولة، أو ظهور ملك، أو موت عالم، أو نحو ذلك.
ثم أضاف إضافة مهمة تتعلق بتعريف التاريخ فقال: وفي باطنه -أي: في باطن علم التاريخ- نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق.
وهذه إضافة مهمة تدل على أن علم التاريخ يتعلق بالمعرفة الدقيقة للحوادث، والمنهجية التوثيقية للإخبار بها، كما أنه يرتبط بالنظر والتحليل والتعليل، وهي معرفة الأسباب وتحليلها، وهذا لا شك أنه أمر مهم كما سيأتي الحديث عنه.
والسخاوي يعرف التاريخ على نحو ما ذكره ابن خلدون فيقول: هو التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة، ووفاتهم.
ثم ذكر أشياء كثيرة مما يؤرخ له، قال: وما أشبه هذا مما مرجعه للفحص عن أحوالهم في ابتدائهم، وحالهم في استقبالهم.
ثم أضاف إضافة مهمة فقال: ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملة أو كذا أو كذا.
وربما يتوسع فيه من بدء الخليقة وقصص الأنبياء وغير ذلك من أمور الأمم، وأحوال القيامة ومقدماتها.
وهذا قد صنعه بعض المؤرخين حيث أدخلوا في التاريخ ما وردت الأخبار به عن أحوال يوم القيامة، وإرهاصاتها ومقدماتها، وأدخلوه في التاريخ؛ لأنه كائن لا محالة.
وبهذا نستطيع أن نقول: إن علم التاريخ في هذه التعريفات التي أشرت إليها، يتعلق بجمع المعلومات والأخبار عن البلدان، وعن الأشخاص من حيث النشاط البشري الإنساني عبر الزمان، وكذلك عن الزمن وما يتعلق به من هذه الأحداث والأشخاص، فنقول مثلاً: زمن قيام الدولة الأموية من عام (41هـ) حتى عام (132هـ) فهذا زمن أرخنا به.
أو يقال في وفيات الأشخاص أو في مواليدهم: إن فلاناً ولد عام كذا، أو مات عام كذا، فهذا أيضاً تاريخ.
أو يقال مثلاً عن البلدان: إن أول من خط أو بنى الفسطاط هو فلان، وكان ذلك في عام كذا.
أو فتح المسلمون بلدة كذا في عام كذا.
فهذا كله تاريخ من هذا الباب.(51/3)
فائدة التاريخ وأهميته
النقطة الثالثة المهمة: فائدة التاريخ وأهميته.
وهذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأن كثيراً من الناس لا يفطن إلى أهمية التاريخ وفائدته، وأكثر ما عنده أن التاريخ أحداث مشوقة ومسلية، وفيها غرائب وطرائف، ولا شيء وراء ذلك.
ولكن في الحقيقة للتاريخ فوائد عظيمة جداً، لو تأملنا فيها لكان ارتباطنا بتاريخنا واتصالنا به واطلاعنا عليه وقراءتنا له واستنباطنا منه أكثر بكثير مما هو حال كثير منا، وعلى وجه الخصوص حال كثير من شباب الأمة، الذين ربما كانت لهم مطالعات واجتهادات في تحصيل بعض العلوم، وبعض تخصصاتها أدنى أهمية من التاريخ، وأذكر بعضاً من هذه الفوائد:(51/4)
الفائدة الأولى: الفائدة التربوية من تاريخ الرسل والأنبياء والصحابة والأئمة
إن الفائدة التربوية من أعظم الفوائد وأجلها، والله سبحانه وتعالى قد قص على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى أمته قصص الأنبياء والمرسلين، حيث قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111].
والله جل وعلا خاطب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
وإنما قص علينا هذا لنأخذ العبرة والفائدة التربوية التقويمية التهذيبية، التي نقوم بها الأخطاء، ونكمل بها النقص.
والله جل وعلا يخاطب الأمة بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
فالسيرة مهمة جداً، وهي جزء من التاريخ، وقد جعل الله عز وجل سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قدوة وأسوة نقتدي بها ونستفيد منها ونتربى عليها.
قال ابن عبد البر في كتابه: (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) متحدثاً عن الصحابة: يجب علينا الاهتداء بهديهم، فهم خير من سلك سبيله -أي: سبيل النبي صلى الله عليه وسلم- واقتدى به.
وفي التاريخ أخبار الرسل والأنبياء والنبي عليه الصلاة والسلام والصحابة، وكذلك علماء الأمة، قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: فمن قرأ فضائل مالك وفضائل الشافعي وفضائل أبي حنيفة بعد فضائل الصحابة والتابعين، وعني بها، ووقف على كريم سيرهم وهديهم؛ كان ذلك له عملاً زاكياً.
فالفائدة التربوية عظيمة جداً من كتب التاريخ، سيما عند المؤرخين الذين يشيرون إلى مثل هذه الفوائد، ولا بأس أن نذكر بعض الأمثلة السريعة، وإن كان سيأتي استعراض بعض هذه الكتب.
الإمام الذهبي رحمة الله عليه كان من المكثرين في التعليقات والفوائد التربوية المتعلقة بتراجم الأعلام الذين ترجم لهم في كتب كثيرة، ومن أهم هذه الكتب كتاب (سير أعلام النبلاء)، وكتاب (تاريخ الإسلام)، وكان كثيراً ما يذكر المواقف ثم يقول: قلت، وعندما تجد للذهبي كلمة قلت؛ فعظ عليها بالنواجذ، وتأمل ما بعدها، فإنه استخلاص عالم، واستنباط فقيه، وتدقيق محدث، وعلم مؤرخ، فقد كان يكثر من ذلك، وأحيل على سبيل المثال إلى أول المجلد العاشر في ترجمة الإمام الشافعي فقد ذكر من التعليقات على مواقف الشافعي وأقواله كلاماً نفيساً يرجع إليه ويستفاد منه، وليس المقام مناسباً لنقله.
وابن كثير رحمة الله عليه في البداية والنهاية له تعليقات موجزة مختصرة، لكنها في غاية النفع والفائدة، فإذا ذكر -على سبيل المثال- ما وقع لظالم من الظلمة أو لجبار من الجبابرة ونحو ذلك، فبعد أن ينتهي من القصة يعلق عليها تعليقاً يسيراً، لكنه في نفس الوقت تعليق مهم ومفيد، فيقول مثلاً: وهكذا من أعان ظالماً سلط عليه.
فهذه الكلمات عبارة عن استنباط، وعن فائدة تربوية عظيمة، ونجد كثيراً من ذلك في كتب التاريخ.(51/5)
الفائدة الثانية: معرفة وإدراك السنن الإلهية
إن معرفة وإدراك السنن الإلهية مهم جداً؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل في الحياة البشرية سنناً، وهذه السنن هي التي تحكم حياة الناس وقيام الدول وزوالها، وفلاح الناس وخسرانهم، كل ذلك مضبوط بهذه السنن.
والتاريخ يصدق هذه السنن التي جاءت في النصوص الشرعية، ومن هذه السنن قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فانظر على سبيل المثال كيف كان أواخر الدولة الإسلامية في الأندلس؟! كيف غير المسلمون حالهم فغير الله عز وجل حالهم؟! وتجد أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وترى كيف تزول الدول وكيف تقوم إلى غير ذلك من الصور المتعلقة بهذا.
والله جل وعلا قد وجه المسلمين إلى أن يتأملوا في التاريخ؛ لينظروا إلى هذه السنن، كما قال جل وعلا: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]، وقال جل وعلا: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
فهذا أمر في غاية الأهمية، وهو مما يستنبط ويستفاد من علم التاريخ.(51/6)
الفائدة الثالثة: الفوائد العلمية
إن الفوائد العلمية جديرة بأن يفرد الحديث عنها ويطول؛ لأن كتب التاريخ لا تشتمل على التاريخ وحده، بل تجد كثيراً من كتب التاريخ يضم في ثناياه معلومات ومسائل تتعلق بالحديث والفقه واللغة والاجتماع، ونحو ذلك من أمور يطول ذكرها، وحسبنا مثلاً أن نعرف أن مقدمة ابن خلدون الشهيرة التي فيها تاريخ للعلوم، وفيها أسس لعلم الاجتماع، وفيها بيان لأسس العمران والحضارة، هي مقدمة لكتابه التاريخ.
فهذا يدلنا على أن كتب التاريخ ليست قصصاً وأخباراً فقط، وإنما في ثناياها كثير من هذه الفوائد، ولعل من أعظم فوائد العلوم المنشورة في كتب التاريخ -سيما كتب التاريخ المتقدمة- ما يتعلق بعلم الحديث وتراجم الرواة.
يقول سفيان رحمه الله: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ؛ لأن التاريخ يكشف ويبين التدليس، ويبين الإرسال، ويبين الانقطاع.
دخل بعض الناس إلى بلاد المشرق، وجعل يروي بعض الروايات، وقالوا لـ ابن المبارك: إن فلاناً يروي أحاديث ما ندري ما هي؟ فجاء فسأله فقال: متى ولدت؟ قال: ولدت عام كذا، قال: إن هذا يروي لكم عمن مات قبله بعشر سنوات.
يعني: هو كاذب.
إذاً: فالتاريخ من شأنه الحفاظ على الحديث والرواية، وهذا من أعظم الفوائد والمنافع، ولذلك اهتم كثير من العلماء بالتاريخ؛ لكونه يتعلق بالدرجة الأولى بالحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(51/7)
الفائدة الرابعة: عرض المسائل النحوية والفقهية والتطرق إلى تاريخ واضعها
هناك أيضاً فوائد عجيبة من دراسة التاريخ، على سبيل المثال: الذين يعرضون مسائل لغوية ونحوية وصرفية دقيقة جداً، كثير منهم يبدأ بذكر من هو أول من وضع علم النحو؟ ويذكر ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه أمر أبا الأسود الدؤلي بوضع علم النحو، ثم يترجمون لـ أبي الأسود، وتاريخ نشأة هذا العلم.
وهذه ليست فائدة تاريخية بحتة، وإنما هي أيضاً فائدة مستقلة، إضافة إلى ما هو منشور في هذه الكتب من مسائل نحوية.
كذلك عندما يأتي الحديث عن علم آخر غير النحو، فهذه ليست فائدة تاريخية بحتة، وإنما هي أيضاً فائدة عن المترجم بالمسائل التي تفرد بها في الفقهيات، وما خالف فيه غيره، وما اعترض عليه بعض العلماء، ومناقشة هذه المسألة إلى أمور ومفردات كثيرة فيها فوائد عظيمة.(51/8)
الفائدة الخامسة: معرفة الأحوال العامة في حياة الناس
من هذه الفوائد أيضاً: ما يتعلق بالأحوال العامة في حياة الناس من معرفة أمور الناس وأحوالهم ومعاشاتهم واهتماماتهم، وكلما يرسم صورة واضحة عن طبيعة المجتمعات في تلك الفترات الزمنية أو التاريخية، وهذا باب طويل جداً.(51/9)
الفائدة السادسة: الاستفادة من التجارب والخبرات في الحياة
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، والتاريخ يقدم عصارة تجارب الأمم، وخلاصة الخبرات الإنسانية في أمور الحياة الدنيوية، مما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية، بحيث يمكن للمسلمين إذا قرءوا تاريخ تلك الأمم كيف أسست بنيانها! كيف أقامت بعض معالم حياتها! كيف كونت أسس حضارتها في بعض الأمور الحياتية! فإن هذا الباب يمكن أن يضيف إلى المسلمين فوائد عظيمة جداً.(51/10)
الفائدة السابعة: حقيقة الأمم في ظلال الإسلام
إن معرفة الحياة في ظلال الإسلام فائدة مهمة جداً؛ لأن هناك شبهات كثيرة تدور حول عدم صلاحية الإسلام لإقامة الدولة كما يقولون، والآن ينادي كثير من العلمانيين وغيرهم إلى الدولة المدنية، ويسمون الحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية: الإسلام السياسي ونحو ذلك، ويدعون أن هذا المعنى لا يمكن أن يتحقق، وقد جمعوا في ذلك لقطات وروايات شاذة، أو وقائع منفردة ليؤكدوا هذا، فأحدهم -وهو مؤلف كتاب: (ما قبل السقوط) - يجمع حوادث معينة من فترات معينة من التاريخ؛ ليستدل بها على أن الفترات التي كان فيها قيام دولة دينية لم تكن دولة مدنية، وإنما كانت فترات ظلم واضطهاد وكذب ومصادرة للحريات وغير هذه الكلمات المفترية.
وآخر ينشر مقالات متعددة في إحدى المجلات ويقول فيها: وضربوا -أي: الحكام- الأئمة بالسياط، ويأتي بالمحن التي مرت بالإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكلهم قد وقع له أذى أو سجن أو ضرب، أو نحو ذلك، ويقول: هذه هي الدولة الدينية أو الإسلامية التي تريدونها، وأعلامها وعلماؤها قد وقع لهم هذا؟! نقول: عندما نقرأ التاريخ نرى صوراً مشرقة غير هذا الذي يدس لنا، وغير هذه الوقفات واللقطات التي تنتقى لنا بخبث ومكر ودهاء؛ لنحتار أو نضطرب أو نتشكك أو نرفض حكم الإسلام، كما قد يقع في ذلك بعض المسلمين الذين يرفضون أن يكون حكم الإسلام هو الذي يعمهم ويشملهم.
وهذا باب واسع، وأحياناً يردون علينا بأننا لا نستشهد إلا بعهد عمر بن الخطاب وعهد عمر بن عبد العزيز ثم ليس عندنا شيء وراء ذلك، فنقول: لو قرأنا التاريخ لوجدنا ليس عشرات وإنما مئات الأمثلة، ولا أستطرد في ذلك، ولكن أقول: اقرأ عهد عبد الرحمن الداخل في الأندلس، والناصر الذي جاء بعده، وانظر ما كان في عهدهما من استقرار ومن رخاء ومن توسع وعمران وحضارة إلى غير ذلك.
وانظر إلى الممالك الشرقية، وما كان في عهد الملك مودود ومن قبله من آبائه، وكذا الغزنوي، واقرأ فتوحات بلاد الهند والسند، وتاريخ محمد بن القاسم إلى غير ذلك، وستجد أمثلة كثيرة جداً تؤيد هذا المعنى.(51/11)
الفائدة الثامنة: دحض الشبهات والرد على المفتريات والمقالات الباطلة
إن التاريخ قائم بدحض الشبهات، والرد على المفتريات والمقالات الباطلة والزائغة والمنحرفة.
على سبيل المثال: يشيع كتاب التاريخ من المستشرقين ومن وافقهم من بعض المؤرخين المعاصرين نظرية: تطور الديانات، ويزعمون أن الإنسان البدائي كان مثلاً يخاف من الحيوانات فعبدها، ثم بعد ذلك تطور فصار يخاف من الشمس والبرق فصار يعبدها، ثم تطور هذا الإنسان وجاءت الديانات في مرحلة من مراحل التطور.
نقول: إن التاريخ الصحيح ينبئنا أن أصل الدين في هذه الحياة الدنيا هو دين التوحيد والإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى أن جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام الخاتم، وعندما نقرأ التاريخ نستطيع أن ندحض هذه المفتريات وهذا الكذب.
وهكذا نظرية داروين التي تقول: بأن أصل الإنسان قرد.
لايوجد أي تاريخ من تواريخ البشر يروي لنا: أنه كان في بلد من البلاد أو في عصر من العصور من كان من البشر يشبه القرد، أو أن قرداً تحول إلى إنسان، التاريخ يدحض هذا، فعندما نقرأ في التاريخ نعرف كثيراً من الأمور التي تتعلق بالنواحي العقدية، بل حتى من النواحي الفكرية، ومن النواحي المتعلقة بالجهاد وما يثار حوله اليوم، فإنه يقال على سبيل المثال: إن الجهاد نوع من الإرهاب، ونوع من القسوة وعدم الإنسانية، ولو قرأنا تاريخ الأمة الإسلامية لرأينا كيف كان جهادها، وكيف ترفع المجاهدون عن كل هذه المعاني المغلوطة، وعن كل هذه المثالب، وعن كل الأمور التي يشوهون بها تاريخنا.
لو قرأنا التاريخ لعرفنا أن هذا كله باطل، حتى ما يتعلق بأمور التنمية وأمور الحضارة، مثل قول بعض أبناء المسلمين: كنا قبل كذا قرن نعيش في تخلف وتأخر!! ويقصد بذلك عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد الصحابة.
فهذه الشبه التاريخ يدحضها دحضاً.
ونقول لهؤلاء: هاتوا لنا من التاريخ ما يشهد لأقوالكم، فعندنا ما يشهد لأقوالنا.(51/12)
الفائدة التاسعة: معرفة الحركة العلمية في كل عصر ومصر
إن معرفة الحركة العلمية في كل عصر ومصر من أعظم وأجل الفوائد التي يخرج بها المطَّلع على التاريخ؛ لأن في كل زمان يؤرخ لأعلامه العلماء والمذاهب التي وجدت فيه، والكتب التي صنفت، والمسائل التي بحثت، والمناظرات التي وقعت، وإذا بك تعرف نشأة العلوم والعلماء البارزين في كل علم من العلوم، والإضافات التي وجدت في هذه العلوم، حتى أرخوا أول من أدخل: سنن النسائي إلى بلاد المغرب، وأول من أدخل كتاب كذا إلى بلاد المشرق، من الذي كان يرصد مثل هذه الأمور؟ إنها كتب التاريخ، فقد كانت ترصدها رصداً عجيباً، وتجد في التاريخ فوائد من أمتع وأنفع وأروع ما يمكن، وتجد كذلك أيضاً ما يتعلق بالتاريخ الفكري والعلمي للمذاهب، حتى المذاهب المنحرفة.
فالتاريخ ذكر متى حصل التشيع، وما ظروفه وملابساته، ومن أول من قعَّد له، ومن أول من صنف فيه، وما الدول التي ناصرته، على سبيل المثال: دولة البويهيين لما استولت على الخلافة في بغداد في الثلث الأول من القرن الرابع ناصروا التشيع والرفض، حتى كتبت مسبة الصحابة على محاريب المساجد في بغداد وغيرها.
وهكذا أيضاً: دولة الفاطميين العبيديين الرافضة الذين وصفهم الذهبي في سير أعلام النبلاء بقوله: الدولة الفاطمية الرافضية العبيدية اليهودية، وارجعوا إلى سير أعلام النبلاء؛ لتجدوا حقيقة هذه الدولة الرافضية الخبيثة.
إذاً: نعرف بواسطة التاريخ هذه الحركات والمذاهب، وتاريخها، وكتبها، وأول ما بدأت مثل هذه الأمور، وهذه فوائد عديدة ومهمة جداً.(51/13)
الفائدة العاشرة: نقض البدع والخرافات والمحدثات المنحرفة
إن نقض البدع والخرافات وكثير من المحدثات التي يريد أن يقررها بعض الناس، وكثير من الخرافات التي يعتقدها بعض الناس، يكون عن طريق البحث عن تاريخها.
ولا بأس أن نروي هذه الطرفة التي تشيع عند الناس: وهي أن رجلين من العاطلين الباطلين، لم يكن عندهما عمل ولا مال، فعمدا إلى كلب فذبحاه ثم دفناه ثم أقاما عليه قبراً وجعلا له بناءً، ثم قالا: هذا قبر فلان الولي، ثم دَعَوَا الناس له، وصارا هما السادنان لهذا القبر المزعوم، فجاءتهما الوفود من الناس يهدون القرابين، ويدفعون الأموال، فلما اختلفا في قسمة الأموال قال أحدهما: وحق الشيخ فلان، يقسم بهذا الولي المزعوم، فقال الآخر: نحن ذبحناه معاً! فعندما تبحث في التاريخ تجد مثل هذه الأمور المتعلقة بتعظيم الأضرحة، هل كانت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لا، ابحث في التاريخ هل كانت في عهد الصحابة؟ متى نشأت؟ في أي مكان؟ فتستطيع بواسطة التاريخ أن تدحض مثل هذه الأمور، وأن تنقضها.
وهكذا حتى في تاريخ الديانات، فالتثليث متى دخل إلى النصرانية؟ التاريخ ينبئنا أن بولس هو الذي أنشأ التثليث في المؤتمر الذي كان بعد الألف الأولى من رفع عيسى عليه السلام، وهذا التثليث من دس اليهود الذين أفسدوا الديانة المسيحية بإدخال التثليث فيها.
وهكذا تجد أمثلة كثيرة فيما يتعلق بالخرافات والبدع والمحدثات، فعندما تتتبع التاريخ تجد من أسسها، من أول من بدأها، وتجد كثيراً من هذه البدايات تشوبها شبهات، إما أن وراءها يهود أو زنادقة أو غيرهم كـ ميمون بن ديصان القداح الذي أدخل الباطنية، وغيره ممن أدخل الشعوبية في الأمة الإسلامية، ونحو ذلك، وهناك أمور يطول ذكرها.(51/14)
الفائدة الحادية عشرة: إظهار الحقائق وكشف المغالطات
إن التاريخ لا يرحم عند إظهار الحقائق وكشف المغالطات؛ لأن التاريخ يسجل كل الوقائع، وكما يقولون في عبارة جميلة وشائعة: قد تخدع كل الناس بعض الوقت، وقد تخدع بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فغير ممكن.
قد تجد بعض السذج وتضحك عليهم وتخبرهم أخباراً وأحوالاً مكذوبة فيصدقونك ما شاء الله أن يصدقوك، لكن غيرهم سيكذبونك ويعرفون أنك لم تكن صادقاً في هذه الروايات، وقد تدلس على الناس كلهم فيصدقونك في بعض الأوقات، ثم يمر الزمن وتتكشف الحقائق كما يقولون.
على سبيل المثال: من الأمور التي أشاعها بعض ذوي الأغراض في بعض الكتب التي لها صلة بالتاريخ ككتاب الأغاني والعقد الفريد وغيرهما، ما يذكر عن سيرة هارون الرشيد ومجالس منادمته وشربه الخمر ومجالس القيان وغير ذلك، فهذه الأمور شاعت حتى كاد بعض الناس أن يسلِّم بها، لكن إذا رجعت إلى ما أورده ابن خلدون في أول مقدمة التاريخ، ذكر ما أسماه الأوهام التي وقع فيها بعض المؤرخين، وذكر عن الإمام الطبري ما نقله عن هارون الرشيد أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وأنه كان يصلي في اليوم والليلة مائة ركعة، فهل الذي يصلي في اليوم والليلة مائة ركعة يعقل أن يكون من أهل السكر والإدمان والخنا والفجور؟! إلى غير ذلك.
وهكذا لما لبس على الناس في التاريخ المعاصر بشخصية أتاتورك الذي أشيع أنه منقذ المسلمين، وأنه كذا وكذا وكذا، ثم يكشف التاريخ أنه لا أصل لهذه الشائعات، وأنه ابن سفاح، وإذا له عروق وجذور يهودية، فهو ينسب إلى يهود (الدونمة) في تركيا، وظهر أنه أكبر متآمر على الإسلام والمسلمين، وأكبر مجرم في حق التاريخ الإسلامي المعاصر حيث نقض الخلافة الإسلامية.
إذاً: عندما تقرأ التاريخ تكتشف هذه المغالطات الخطيرة التي تغير أفكار الناس.(51/15)
الفائدة الثانية عشرة: إعادة الأمل وبث الحماسة في نفوس المسلمين
آخر الفوائد التي نذكرها على عجالة هي: إعادة الأمل وبث الحماسة في نفوس المسلمين، وذلك عندما يرتبطون بتاريخهم وأمجادهم وقادتهم وعلمائهم وأمرائهم وملوكهم، عندما يرون هذه الصفحات المشرقة، وعندما يقفون على هذا التراث العلمي الزاخر، وعندما يجدون هذه المؤلفات التي ربما لا يستطيعون حصر أسمائها فضلاً عن أن يقفوا عليها أو أن يقرءوها.
هذا كله يجعلهم على أمل وعلى يقين -إن رجعوا إلى دين الله عز وجل- أن يجددوا هذا التاريخ، وأن يعيدوا تلك الأمجاد، وكما يقال في أمثال العرب: ما أشبه الليلة بالبارحة.
وكما يقال عند غيرهم واستخدمه العرب أيضاً في الوقت المعاصر: التاريخ يعيد نفسه.
إذاً: يمكن أن يعيد التاريخ نفسه إذا استجلبنا منه هذه الفوائد، وكما قيل: أمة لا تعرف ماضيها لا تستطيع أن تخطط لمستقبلها.
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضاع قوم ليس يدرون الخبر فهذه وقفة موجزة مع بعض هذه الفوائد في التاريخ، وهذه الوقفة الموجزة لا تغني شيئاً، ولكنك لو قرأت كتاباً واحداً من كتب التاريخ المعتبرة عند الأئمة المشهورين؛ لوجدت أضعاف أضعاف هذه الفوائد التي أشرت إليها، وأوجزت القول فيها.(51/16)
علم التاريخ عند المسلمين وأسسه ودوافعه
كيف كان علم التاريخ عند المسلمين؟! وما هي أسسه؟ وما الأمور التي دفعت إليه، وجعلت تراث المسلمين في التاريخ لا يضاهى به تراث آخر، لا في كثرة الكتب ولا في أنواعها ولا في استقصائها ولا في منهاجها مطلقاً؟ لا يمكن أن يقارن تاريخ المسلمين والعطاء الذي فيه بغيره من تاريخ الأمم التي لا تبلغ فيما أعرف حتى عشر معشار هذا العطاء في تاريخ الإسلام والمسلمين.(51/17)
الأساس الأول: القرآن الكريم
القرآن الكريم وردت فيه أحداث تاريخية وقصص تاريخية، مثل: قصص الأنبياء والمرسلين والأمم السابقة، كقصة سبأ وغيرها من الأمم.
وهذا كان له أثر عظيم على المسلمين، حيث جعلهم يقرءون، والعلماء يفسرون، وبدأ التفسير يجمع بدايات للمادة التاريخية التي تعلق وتشرح وتفسر هذه الآيات المتعلقة بالأحداث للأمم الماضية، والله عز وجل قد دعا المسلمين إلى التأمل والاعتبار بأحوال الغابرين، وإلى السير في الأرض والنظر فيها والتأمل فيها، وهذه الدعوة هي دعوة لمعرفة الأحداث ثم للاعتبار بها؛ لأن الاعتبار هو مرحلة ثانية بعد المعرفة.(51/18)
الأساس الثاني: السيرة النبوية
السيرة النبوية عند المسلمين دين، يدينون الله بها، وأسوة يقتدون بها، وأحكام يتبعونها، وسنن يحرصون عليها، ولذلك كان أول بدايات تاريخ الإسلام المنفرد المستقل: هو ما يتعلق بمغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، وكان هذا معروفاً عند المسلمين، حتى قال قائلهم: كان آباؤنا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا السورة من القرآن.
ومن هنا انتشر التصنيف والتأليف في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ومغازيه، وهي كثيرة جداً، وفريدة وعجيبة في دقتها وضبطها واستيعابها وشمولها في الحديث عن شخص النبي عليه الصلاة والسلام وعن تاريخه وسيرته.(51/19)
الأساس الثالث: التأصيل في علم الحديث
صح عن ابن سيرين -كما في مقدمة صحيح مسلم - أنه قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، كان الصحابة يحدثوننا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نأخذ منهم، فلما حدثت الفتنة وركب الناس الصعب والذلول قلنا: سموا لنا رجالكم، فمن كان من أهل السنة قبلنا، ومن كان من أهل البدعة رددنا.
إذاً: بدأ العلماء من السلف يبحثون عن أحوال الرواة وتواريخهم وسيرهم، وصدقهم وكذبهم، ومواطن بلدانهم وأماكن رحلاتهم، ومعرفة شيوخهم وتلاميذهم.
وتدوين التاريخ المتصل بعلم الحديث باب واسع مستقل في كتب كثيرة منها كتاب: التاريخ الكبير للبخاري والتاريخ لـ ابن معين والتاريخ لـ خليفة بن خياط.
وهناك تواريخ كثيرة دونوا فيها أسماء الرجال وأحوالهم إلى غير ذلك، وهذا عامل من عوامل نشوء علم التاريخ والاهتمام به، والاحتفاء به عند المسلمين، بل هو من أعظم العوامل وأكثرها أهمية.(51/20)
الأساس الرابع: منزلة الخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم
يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
هذا الحديث معناه: أن سنة الخلفاء الراشدين وفعلهم هدي تهتدي به الأمة، وسنة تستن بها.
إذاً: هذا جعل الأمة تهتم بسيرة الخلفاء الراشدين وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وسيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم باب واسع كبير جداً، وفيه مؤلفات عظيمة وكثيرة جداً.
ولا بأس أن أشير هنا إلى كتاب: (معجم ما ألف عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ذكر جامعه محمد الشيباني كتباً مطبوعة ومخطوطة وافرةً وكثيرة، مراعياً في ذلك التسلسل الزمني من بداية ما ألف في هذا الباب إلى أوقات متأخرة.
وقد ألف قبله في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وكتاب: (معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) للمحقق العلامة صلاح الدين المنجد وهو كتاب عظيم النفع، جمع فيه مؤلفه مئات المصنفات في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في مختلف العصور.
إذاً: سنجد أن هناك كتباً خاصة فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، وكتباً فيما يتعلق بأحوال الرجال والجرح والتعديل، وكتباً فيما يتعلق بسير الصحابة رضوان الله عليهم، وهذه كلها ضمن التاريخ، ولا نستطيع أن نعرج عليها في مثل هذا المقام.(51/21)
الأساس الخامس: الفتوحات الإسلامية
عندما فتح المسلمون مصر، وبلاد الشام، وبلاد العراق، جاءوا إلى بلاد لها حضارة ولها تاريخ، وفيها رجال، فزاد ذلك من رصيد هذا التاريخ عند المسلمين، وعرّفوا بملوك هذه البلاد وتاريخها وما كان فيها من أحوال، وما كان أهلها عليه من ديانات، إضافة إلى أن الدولة الإسلامية احتاجت إلى تنظيم أمورها، وإلى إنشاء الدواوين كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دون ديوان الجند، وديوان العطاء، فاحتاج إلى أن يحدد وأن يدون قبائل المسلمين، وأسبقية الصحابة في الإسلام، حتى يجعل عطاء السابقين في الإسلام أكثر، ويجعل عطاء من دونهم أقل، وأبناء الصحابة أقل من الصحابة، وكذا التابعين أقل.
وهذا أيضاً كان رافداً من روافد التاريخ، وفيه جمع للمادة التاريخية.(51/22)
الأساس السادس: خدمة المذاهب الفكرية والفقهية
إن خدمة المذاهب الفكرية والفقهية كان أحد العوامل والروافد للتاريخ عند المسلمين، فالمذاهب الفقهية الأربعة على سبيل المثال، كل أهل مذهب خدموا مذهبهم، فجاءت حصيلة تاريخية في نشأة المذهب، وفي سيرة إمام المذهب، وفي سيرة علماء المذهب، وما يتعلق بالمواطن التي انتشر فيها المذهب إلى غير ذلك، فجمعت مادة تاريخية واسعة، وحتى على مستوى المذاهب الفكرية المنحرفة كالمعتزلة، فالمعتزلة عندما كانت لهم صولة وجولة دونوا طبقاتهم، وأشهروا أعلامهم، وأرخوا لرموزهم، وهكذا فعل الشيعة أيضاً.
وهذا كان رافداً تاريخياً عظيماً عند المسلمين.(51/23)
الأساس السابع: خدمة العلوم المختلفة
هذا ملحق بالذي قبله، لكنه على مرتبة أدنى وأقل، فالأدباء ألفوا في طبقات الأدباء، وجعلوا هناك مراحل أدبية، وأرخوا مثلاً لأدباء الأندلس على حدة، وأخروا لأدباء بلاد الشام على حدة، وبلاد اليمن على حدة، وهكذا وجمعوا هذه التراجم.
كذلك النحاة واللغويون والأطباء والحكماء ما من أهل علم إلا وتوسعوا في تاريخ ذلك العلم وأعلامه، وهذه أيضاً كانت مادة عظمية جداً من مواد التاريخ.(51/24)
الأساس الثامن: خدمة البلاد وذكر فضائلها
التآليف في خدمة البلاد، وذكر فضائلها كثيرة، مثل ما ألف عن مكة وفضائلها وتأسيسها، والمدينة المنورة، وبيت المقدس وغيرها من الدول، فيؤلف أهل كل بلد في محاسن بلادهم، فمثلاً: أهل الشام يذكرون فضائل الشام، وخطط الشام، ووصف بلاد الشام، إلى غير ذلك، ويترجمون لكل من دخل إليها، ومن مات فيها، ومن اشتهر بها، فاجتمعت مادة عظيمة.(51/25)
الأساس التاسع: رحلات المشاهير من العلماء المؤرخين
رحلات المشاهير من العلماء الذين أرخوا في رحلاتهم أحوال البلاد وأهلها، وأرخوا ما مر بهم من الأمور التي وقعت.
من هؤلاء العلماء الذين اشتهروا بالرحلات في البلدان: ابن بطوطة، واشتهرت رحلته باسمه: رحلة ابن بطوطة، وهناك رحلة ابن جبير، ورحلة ابن فضلان، وهذا الأخير رحل مبعوثاً من الخليفة في القرن العاشر إلى بلاد روسيا، وبلاد بلغاريا.
وعندما تقرأ في كتب هؤلاء تجد أحوال تلك البلاد، ووصفاً لأمور عجيبة جداً يتعجب منها المرء كثيراً.
فهذه أيضاً كانت رافداً عظيماً من الروافد التاريخية، وعندما ننظر إلى هذه الروافد، وإلى هذه الأسس، نجد أن المادة التاريخية في تاريخ المسلمين أصبحت مادة عظيمة جداً وغزيرة غزارة لا يدانيها غيرها.(51/26)
المحاور الثلاثة للتصنيف في التاريخ
هذه النقطعة هي التي سنجعل استعراضنا السريع حولها مدخلاً لما قد يسمح به الوقت من ذكر بعض المراجع التاريخية، هذه المحاور هي: الزمان، والمكان، والإنسان، إما أن نعنى بالتاريخ في فترة زمنية، أو نعنى بالتاريخ في صقع أو بلد بعينه، أو نعنى بالتاريخ لأشخاص بأعيانهم.(51/27)
المحور الأول للتصنيف في التاريخ: الزمان
بالنسبة للزمان يأتينا نوع التصنيف بما يسمى التاريخ العام أو الحوليات الذي يبدأ بذكر السنوات: السنة الأولى، السنة الثانية، السنة الثانية بعد المائة الأولى إلى آخره، وهذا فيه استعراض للسنوات.
كذلك في نطاق هذه الوحدة الزمنية يذكر بلاداً مختلفة ويذكر أشخاصاً وأعلاماً مختلفين، لا يجمعهم إلا وجودهم في هذا الزمن.
ومن أنواع التصنيف المتعلق باعتبار الوحدة الزمنية: التصنيف الذي عرف بتراجم القرون: القرن الثامن، القرن التاسع، القرن العاشر، فقد اعتبر فيها الوحدة الزمنية، ووجد في هذا التصنيف البعد الإنساني بتراجم الرجال، والحوادث التي تذكر في أثناء هذه التراجم.
كذلك هناك نوع ثالث من التصنيف هو: التصنيف المتعلق بالدول، عندما يقال: تاريخ دولة بني أمية، أو تاريخ الدولة العثمانية، فهذا يشمل الزمن الذي كانت فيه هذه الدولة على وجه الخصوص.(51/28)
المحور الثاني للتصنيف في التاريخ: المكان
بالنسبة لاعتبار المكان هناك أنواع منها: تاريخ المدن، كتاريخ بغداد، ودمشق، وطرابلس، وغيرها كما سنذكر بعضاً منها.
النوع الثاني: تاريخ الفتوح، مثل: فتوح الشام للبلاذري، وفتوح مصر لـ ابن عبد الحكم.(51/29)
المحور الثالث للتصنيف في التاريخ: الإنسان
أما بالنسبة للإنسان، فهناك التاريخ العام للأعلام، كما في (تاريخ الإسلام) للذهبي، أو في (سير أعلام النبلاء) له أيضاً، فهو لم يشترط زمناً معيناً، وإنما ذكر أعلاماً عبر زمن اختاره من أول زمن معين إلى آخر زمن معين.
أو تاريخ الأعلام المرتبط بعلم معين: أو مذهب معين، مثل: أعلام المذاهب الفقهية، أعلام الفكر الفلاني، أو أعلام كذا، أعلام كذا إلى آخره.
فهذا يعطينا صورة إجمالية عامة عما يتعلق بأنواع التصنيف في التاريخ.
هذه الخلاصات التي ذكرتها هي مقدمة؛ لأننا لم نذكر بعد شيئاً من المصادر التاريخية، لكن هذه المقدمة أحسب أن فيها عدداً من الفوائد منها: الفائدة الأولى: أن هذه المقدمة شوقت الكثير منكم إلى أن يعرفوا هذه المصادر، كما شوقت بعضاً منكم -فيما أظن- أن يبدءوا من يومهم هذا في مطالعة بعض كتب التاريخ، وقد يستمر بعضهم يوماً أو يومين ثم يفتر أو يكسل، لكن عموماً كتب التاريخ من مزاياها أنها ممتعة، تجد فيها تغيراً وتجديداً؛ لأنها ليست علماً جامداً، وليست تخصصاً مفرداً، وإنما هي أحداث ووقائع وغرائب وأشياء منوعة لا يمل القارئ منها.
الفائدة الثانية: أنها مهدت لنا لندخل إلى المصادر التاريخية بعقلية منظمة، ولو بدأنا بأنواع التصنيف في التاريخ ودخلنا في بعض الكتب لوجدنا أن هناك صعوبة في الاستيعاب والتفاعل مع المادة المتعلقة بمصادر التاريخ.(51/30)
ذكر المصادر المشهورة في التاريخ وفوائدها وملامحها وأنواعها
هناك كتب التاريخ العام التي تسمى: كتب الحوليات التي وحدتها أو موضوعها هو الزمن، وهذه الكتب كثيرة، منها: ما ألفه اليعقوبي وابن قتيبة الدينوري ومن أشهرها وأبرزها وأكثرها فوائد في كتب المتقدمين كتاب: (تاريخ الأمم والملوك) لـ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310هـ).
ومن هذه الكتب أيضاً كتاب (الكامل في التاريخ) لـ ابن الأثير الجزري وهو أيضاً على هذا النسق، وقد ذكر في مقدمته أنه انتفع بكتاب الطبري ومن هذه النوعية أيضاً كتاب (البداية والنهاية) لـ ابن كثير.
ولعل من المناسب أن نشير إلى بعض هذه الكتب وفوائدها وملامحها في هذا المقام، ونجعل السرد فيما تبقى من الوقت؛ لأننا نخشى ألا يبقى وقت لذكر ما يتعلق ببعض هذه الفوائد.(51/31)
الفوائد المتعلقة بتاريخ الطبري
لقد بدأ الطبري فيما يتعلق بتاريخه من أول خلق العالم، وهذا سار عليه كثير من المؤرخين، حيث صنعوا كما صنع الطبري.
بدأ الطبري بتعريف الزمان، ومتى بداية الزمان، وبعد ذلك ذكر الروايات التي وردت في أن أول ما خَلَقَ الله عز وجل القلم، فقال له: (اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بخلق السماوات والأرض، ثم خلق آدم، وقصة إبليس، والرسل والأنبياء من بعد ذلك.
والطبري رحمة الله عليه كان إماماً مفسراً محدثاً ومؤرخاً، وكانت شهرته في التفسير والحديث أكثر من التاريخ.
وهنا ملاحظة مهمة وهي: أن كثيراً من العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء ممن لهم عناية بالتاريخ اشتهروا في مجالات علومهم التي عرفوا بها، وأهملت الناحية التاريخية في مؤلفاتهم وفي تراثهم وإنتاجهم، فجاء بعض المعتنين بالتاريخ من المتأخرين، وكتبوا في إبراز الناحية التاريخية عند هؤلاء، على سبيل المثال: (ابن عبد البر وجهوده التاريخية) (ابن حزم وجهوده في التاريخ) وغيرهما، فهؤلاء لم يشتهروا أساساً كمؤرخين، وإنما لهم شهرة في العلوم الأخرى، فأبرز بعض المتأخرين هذا الجانب عندهم.
الطبري هو من أعيان علماء المسلمين، ومن المتقدمين في القرن الثالث الهجري، وتوفي في العقد الأول من القرن الرابع كما مر بنا، وقد ألف كتابه التاريخ بعد التفسير؛ لأنه أحال في التاريخ إلى بعض المواطن في التفسير، فلما جاء عند خلق آدم، قال: لقد أجملت ذلك في التفسير؛ لأنه ليس ذلك موضعه، ثم أفاض بعد ذلك في خلق آدم وقصة إبليس وكذا.
كأنه يشير أنه لم يرد أن يفصل هذا التفصيل في التفسير؛ لأنه لا يليق به فجعله في التاريخ.
وقد ظل الطبري يملي كتابه من سنة (290هـ) حتى سنة (302هـ) يعني: لمدة اثنتي عشرة سنة كما ذكر المؤرخون في ترجمته.
ومن الملاحظات المهمة التي تلفت النظر: أن كثيراً من كتب التاريخ الإسلامي المتقدمة أول من عني بها ونشرها هم المستشرقون، فكتب التاريخ في طبعاتها الأولى من نتاج المستشرقين، ولعل سائلاً يسأل: لماذا؟! أقول: هناك أسباب بعضها جوهرية: أولاً: أن كثيراً من مخطوطات هذه الكتب هي في بلاد الغرب، سرقوها ونهبوها عندما دخلوا بلاد المسلمين، لاسيما لما دخلوا الأندلس، ولما دخلوا مصر، ولما دخلوا بلاد الشام.
ثانياً: أن الطباعة بدأت عندهم قبلنا بكثير، ومعلوم أن الطباعة في العالم الإسلامي جاءت بعدهم بفترة لا بأس بها، وأن أول مطبعة دخلت إلى العالم الإسلامي هي التي دخلت إلى مصر على يد نابليون بونابرت في أواخر القرن التاسع عشر، فهذا سبب تأخر الطباعة عندنا، فوجود المطابع عندهم جعلهم يتقدمون علينا في هذا الباب.
ثالثاً: أن المستشرقين في بداية هذا القرن لم تتأسس علومهم إلا على التراث الإسلامي الحضاري في بلاد الأندلس وغيرها، فكان كثير منهم قد تعلم العربية؛ ليقرءوا كتب المسلمين ككتب الطب وكتب التاريخ وغيرها من الكتب، فهم قد أسسوا ثقافتهم وعلومهم في كثير منها على كتب المسلمين، وبالتالي كانت عنايتهم بها، ومن هنا كانت أول طبعة لتاريخ الطبري عام (1876م) على يد المستشرق دي خويه.
قال الطبري في مقدمته: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتداء ربنا جل جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف فزاده إلى ما ابتدأه به من نعمه في العاجل نعماً إلخ.
ثم ذكر أنه أرخ بعد ذلك للسنوات، وبدأ بالقول في الزمان، وبدأ بذكر قصة آدم، وقصة نوح عليه السلام، وما ورد في هذه القصص.
ثم أرخ بعد ذلك لتاريخ الفرس وبلاد المشرق التي كانت فيها حضارة قبل مولد النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم بدأ بعد ذلك بمولد النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذكر من إرهاصات وقعت أثناء مولده عليه الصلاة والسلام في بلاد كسرى وفي بلاد قيصر، وبعد ذلك بدأ بسرد التاريخ الإسلامي.
تميز الطبري كغيره ممن جاءوا في تلك الفترة أنهم رووا التاريخ بالأسانيد، وبالتحديث والرواية عمن سمعوا منه إلى منتهى أسانيدهم.
الميزة الثانية: أنه كان يجمع كل الروايات في الحادثة الواحدة، وإن اختلفت هذه الروايات.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(51/32)
الخسارة الكبرى
إن أعظم خسارة يخسرها العبد في الدنيا والآخرة هي خسارة رضا الله سبحانه وتعالى، وإن أشنع طريق توصل إلى ذلك هي طريق الإدمان على المعاصي، وقسوة القلوب، وترك محاسبة النفس على النقير والقطمير، وإن أعظم مدرسة نقتدي بها، ونربي عليها أنفسنا هي مدرسة الصحابة والتابعين، فهم خير من حاسبوا أنفسهم، وخير من سلك الصراط، واهتدى بنور الله تعالى.(52/1)
تجسيد الخسارة في الإدمان على المعاصي
الحمد لله الذي جعل في الإيمان فرح القلوب، وجعل في الإسلام شرح الصدور، وجعل في الطاعة لذة النفوس، له الحمد سبحانه وتعالى، ذكره طمأنينة للقلوب، وشكره زيادة للنعم، نحمده على ما يحب ويرضى، وعلى آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فله الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، له الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حمداً كثيراً طيباً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، علم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].(52/2)
موت القلوب هو الخسارة العظمى
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الخسارة الكبرى موضوع حديثنا، فيا ترى ما هي الخسارة الكبرى، والبلية العظمى، والحسرة الجُلىّ، التي ينبغي أن تبكي قلوبنا عليها دماً، وأن تفيض دموعنا لأجلها دمعاً، هل هي الأموال التي قد تسترق، أو الأرض التي قد تغتصب، أم هي الأحباب والأعزاء الذين يغادرون الحياة الدنيا؟! هل هي في المناصب والجاه الذي قد يضيع منه ذا أو ذاك؟! ما عسى أن تكون هذه الخسارة؟ بفقه الإيمان، ومقياس الإسلام، ومعرفة الأكياس، إن المقاييس اليوم قد اختلت، الموازين وقد انتكست، أصبحت مثل هذه المعاني لا يعرفها إلا قلة من الناس، وأما من يستشعرها فأقل من القليل.
أية خسارة هذه التي نصفها بالكبرى، والتي ينبغي أن يطول عليها أسفنا، وأن يعظم عليها ندمنا؟ إنها موت القلوب وفقدان الإحساس، وذهاب الشعور الإيماني الذي يحرك القلوب إذا سمعت الآيات، وإذا أصغت للمواعظ، الذي يعصر القلوب ألماً، والنفوس حزناً، إذا قارفت المعاصي التي تجعل في النفس هماً، وفي الحلق غصة، وفي العين عبرة إذا تخلفت عن الطاعات، الذي يجعل المؤمن مشغولاً بنفسه، مصلحاً لعيبها، خائفاً من ذنبها، مجتهداً في حملها على أمر ربها.
ولعلي أصور هذه الخسارة في واقع لا يكاد يبرأ منه أحد، كبيراً كان أو صغيراً، عالماً أو متعلماً، حتى الأئمة والمصلحون، والدعاة والمذكرون والواعظون، ذلك أن هذا البلاء قد عم وطم.
لعلنا نصور هذه الخسارة ونحن نقول: كم من آيات القرآن تتلى فلا قلب يرق، ولا عين تدمع! كم من منكرات تراها الأعين، وتسمعها الأذان، فلا يضيق صدر، ولا يتمعر وجه! كم من الطاعات مهدورة متروكة وليس هناك مذكر ولا واعظ، ولا شاحذ للهمم إليها! كم من الواجبات لم ينتبه إليها أحد أو يؤديها والنفوس مع ذلك راضية سعيدة كأن شيئاً لم يحدث! كم من صلاة ضيعت! كم من فريضة وسنة أميتت! كم من بدع ظهرت ورفعت راياتها! كم وكم من أمور كثيرة! فتش قلبك وراجع نفسك، هل ثمة تأثر وتغير بحسب هذه الأحوال التي تتغير من حولنا، أم أننا قد ألفنا المعاصي فلم تعد القلوب تنكرها، وركنا إلى الدنيا فلم تعد النفوس تنبعث إلى الطاعات، ونظرنا إلى الملهيات والمغريات فلم يعد في النفس والقلب شيء تتعلق به إلا إياها؟!(52/3)
فقد الفرقان بين الحق والباطل
أحسب أن هذه الأسئلة وهي تجول بخواطرنا نعرف أن إجاباتها مريرة، وأن حقائقها أليمة، وأن واقعنا في هذه القضية يستحق أن يوصف بأعظم من الخسارة الكبرى؛ لأننا نفقد جوهر حياتنا، نفقد الميزان الذي نعرف به مسيرنا، نفقد النور الذي نبصر به طريقنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29].
إشراق الإيمان في القلب، وحياة القلب بالطاعات، ذلك هو الفرقان، ذلك هو النور الذي نميز به بين الحق والباطل، والذي نعرف به المنكر والباطل وإن كنا نجهل أدلته، وإن كنا لا نعرف أقوال العلماء فيه، فما بالنا اليوم والمنكرات الواضحة الجلية التي قامت عليها الأدلة القطعية بينة ظاهرة.
انتبه معي إلى هذا الأمر الخطير الذي نفقده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال:29].
ونتذكر معاً حديث وابصة بن معبد الذي نردده كثيراً: (الإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، ضاع منا القلب الذي يستفتى؛ لأنه فقد النور الذي به يبصر، والميزان الذي به يرجح، وبهذا يكون قد فقد حساسية الإيمان، وفقد الشعور الذي يجعله يهرب من كل ذنب ويقبل على كل طاعة وينبعث إليها.
أي قلب هذا الذي سوف نستفتيه اليوم؟! إننا نستفتيه فيكاد لا ينكر الكبائر المجمع على حرمتها، فكيف به في أمور من الصغائر؟! وكيف به في أمور من المشتبهات؟! وكيف به في سعة وزيادة من المباحات؟! إننا إن استفتيناه اليوم ربما أقر بما نسمعه من أن الفنون جميلة، وأنها في خدمة الأمة، وأنها تصنع كيت وكيت، رغم ما فيها من العري والفجور والخنا والزنا وغير ذلك.(52/4)
فقد القلوب الواعية للقرآن المتدبرة لمعانيه
أي شيء نفقده؟ إنا نفقد أعظم شيء، وأي شيء سنجده إذا فقدنا ذلك: هل سنجد الطعام والشراب، وصحة في الأبدان نغتر بها، ونظن أنها من نعم الله علينا، وقد تكون في كثير من الأحوال استدراجاً للغافلين وإمهالاً للمسرفين؟ نسأل الله عز وجل السلامة.
يقو تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، أليست القلوب اليوم إلا ما رحم الله مصروفة عن آيات الله فلا تكاد تعيها ولا تتدبرها؟ يقول سفيان الثوري رحمه الله في تعليقه على هذه الآية: إنها في المذنبين المسرفين المتكبرين عن الحق يصرفهم الله فلا يتدبرون آياته.
ويقول الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، إن لم تشعر بتدبر القرآن، وتأثر القلب به فاعلم أن الأقفال والأغلاق قد أحكمت.
انتبه إلى هذه الآيات العظيمة: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] فإن لم تكن هناك خشية فإن القلوب أشد قسوة من الصخور الصماء في الجبال الشاهقة: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31] والتقدير: لكان هذا القرآن، هذا القرآن من قوته وعظمته وشدة معانيه يسير الجبال، ويقطع الأرض، ويحيي الموتى، فما باله لا يلقى آذاناً مصغية، وقلوباً حية، ونفوساً متأثرة؟! أفليس حقاً علينا أن نبكي على أنفسنا، ونقيم العزاء على قلوبنا، وأن نستشعر أن خسارتنا هذه هي مبدأ كل الخسارات التي توالت في حياة أمتنا؟! يوم ضيعنا هذه المشاعر الإيمانية، والحساسية الروحانية، والشفافية التعبدية، والروحانية اليقينية، فقدنا من بعد ذلك الطاعات، وأكثرنا من المعاصي، وتوالت فينا الجراحات والنكبات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: الذنوب جراحات، ورب جرح يقع في مقتل، فكيف إذا أصاب الجرح قلبك؟! إنه يوشك أن ينزف قليلاً ثم يعلن شهادة الوفاة.
واستمع إلى الإمام سحنون أحد أعيان فقهاء المالكية وقد وقع في ذنب، لكنه كان له قلب حي، فمضى على ضفاف دجلة في بغداد، وأخذ عوداً يضرب به على قدميه، مطأطئاً رأسه، متفكراً في حاله، متدبراً فيما وقع منه، وإذا به يقول: كان لي قلب أعيش به ضاع مني في تقلبه رب فاردده علي فقد ضاق صدري في تطلبه وأغث ما دام بي رمق يا غياث المستغيث به ذنب واحد أقض مضجعه، وجعله يتفقد نفسه، لأنه شعر أنه قد ضيع فيه قلبه الحي، وإيمانه اليقظ، وروحه الشفافة، وشعوره المرهف، ذلك الذي كان منه تيقظ وتنبه، حتى سأل ربه أن يرد عليه قلبه لتعود إليه حياته، وليحيا معه إيمانه، وذلك ما كان من أولئك النفر من الأجيال الصالحة ومن أسلافنا رضوان الله عليهم.(52/5)
الاغترار بكرم الله وعماية البصائر عن الحق
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] أجمع أهل التفسير: أن هاهنا فهماً مغلوطاً يذهب إليه بعض الناس، كما ذكره بعضهم كـ القرطبي وابن كثير وغيرهما: (ما غرك بربك الكريم) فإن بعضهم يقول: غرني كرمك يا رب، قال: وهذا من الخطأ، وإنما ذكر اسم الكريم -كما ذكر الطبري - ليكون الإثم والذنب مستقبحاً إذا كان في مواجهة من أكرم وأنعم، وذكر ابن كثير رحمه الله: أن في الآية تهديداً ووعيداً لمن وقع في المعاصي وهو يعلم عظمة ربه، ويدرك كذلك كرمه فيقبح منه ذلك الذنب.
واستمع إلى الأوصاف القرآنية: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، لماذا نختلف اليوم ولنا أعين وقد نستعين بمكبرات ونظارات، ثم يخفى علينا الحق؟! لأنه ضرب على القلوب الران، وانحرفت في النفوس الأهواء، وزاغت لأجل ذلك الآراء، وافترقت الأمة شيعاً وأحزاباً.
واستمع إلى الوصف الذي ضرب صفة لأهل الكفر في أقصى درجاته: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، أفلا نرى الأهواء المتبعة وهي قد نصبت آلهة جديدة؟! آلهة للسياحات، وآلهة للثقافات التي حقيقتها سخافات، وآلهة وآلهة وآلهة أخرى، وهي مما يتبعه الناس، ويسيرون وراءه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].
الآيات والأحاديث معروفة في المواعظ والدروس والمحاضرات والكتب، فكل شيء ظاهر بين معلوم، ومع ذلك نرى ما نرى من هذه الصور.
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف:146]، أفليس مثل هذا الوصف واقعاً في أحوالنا، ظاهراً في أمتنا؟! أفليس جديراً بنا أن نقف وقفة مع أنفسنا، نعالج بها أدواءنا، ونعوض بها خسارتنا؟! أي خسارة أعظم من أن يموت قلبك، وأن تموت نفسك، وأن تظلم روحك، إنها مسألة خطيرة، وقضية عظيمة.
من فقه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً).
أي: من كان في قلبه خشية لله، وحب لله، وبغض لمعصية الله، وتعلق بطاعة الله، فذلك هو العلم، فإنما العلم الخشية، وإذا كان ثمة غرور بالله عز وجل، وإسراف في المعاصي، ونقول لأنفسنا وهماً وزوراً: إن الله غفور رحيم، وستر الله دليل على رضاه، وصحتنا وعافيتنا ونعمنا تدل على أننا على غير ما قد نخشاه على أنفسنا، فنكون حينئذ كالجاهل الأحمق الذي يسعى إلى حبسه بنفسه.(52/6)
المدرسة الإيمانية لدى الصحابة ومن تبعهم(52/7)
من وعي أبي الدرداء لحقيقة الدنيا
لعلنا نتأمل ونتأمل! فنستمع إلى مدرسة النبوة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: دخل أبو الدرداء إلى بلاد الشام، ورأى ما رأى، فوقف في أهل الشام منادياً: يا أهل الشام! أخ ناصح لكم! فاجتمعوا إليه يستمعون، فقال رضي الله عنه وأرضاه: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم ثبوراً، ومساكنهم قبوراً.
إنها بصيرة المؤمن الذي يعرف حقائق الأمور، ويدرك ما وراء المظاهر والمفاخر.
فما بالنا اليوم وقد خطفت أبصارنا بهارج الدنيا! ما بالنا اليوم وكأننا لا نحتمل أن نستمع لهذه الكلمات العظيمة الوجيزة! لم يكن ثمة قول كثير، ولم يكن ثمة تفريع وتشقيق للمسائل، لكنها لغة القلوب، وكلمات الإيمان، وفقه الحياة الإيمانية الأخروية؛ تلكم هي النعيم، تلكم هي الحقائق، تلكم هي الخسارة الكبرى التي افتقدناها، فلم يعد أحد يستطيع أن يذكر مثل هذه الكلمات، كم تسمعون من الوعاظ، وكم تسمعون من العلماء، ولا يكاد يجري على ألسنتهم ما يدل على هذه المعاني الإيمانية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وليس ذلك عاماً، لكنه كثير لا يستثنى منه إلا القليل ممن رحمهم الله، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا.(52/8)
كلمات مضيئة لبعض الفقهاء
لنستمر في هذا الأمر ولنكن فيه صرحاء، هذه كلمات لبعض الفقهاء يخاطب فيها من كان عنده حظ من العلم، وعنده نصيب من الكتاب، وعنده هدي من السنة؛ يقول: يا صاحب العلم! لا تغتر بالله ولا تغتر بالناس، فإن الغرور بالله ترك أمره، وإن الغرور بالناس اتباع هواهم، واحذر من الله ما حذرك من نفسه، واحذر من الناس فتنتهم.
يا صاحب العلم! إنه لا يكمل ضوء النهار إلا بالشمس، كما لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله.
يا صاحب العلم! إنه لا يصلح الزرع إلا بالماء والطين، كما لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل.
لعل كل فقرة أو جملة نحتاج أن نكتبها ونجعلها في مجالسنا وبيوتنا؛ لنذكر بها أنفسنا نحن المنسبين إلى الإسلام، المنتمين إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أحيا القلوب بالإيمان، وزكى النفوس بالإسلام، وهدى العقول بفقه الإيمان عليه الصلاة والسلام، الذي كان يستغفر الله جل وعلا في يومه وليلته مائة مرة، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك يستغفر في يومه وليلته مائة مرة، وربما استنكف بعضنا إن قيل له: استغفر الله، فقال: ماذا صنعت؟! ويحي وويحك هل تظن أننا لم نصنع شيئاً، كم في الواجبات من تضييع وتفريط وتقصير، وكم وكم مما أشرت إلى بعضه، ولعلنا نتنبه.(52/9)
ومضات إيمانية لبعض العلماء
واستمع إلى المدرسة الإيمانية وهي تسير عبر الزمان، وتنساب من أولئك النفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى من وراءهم من أجيال الأمة إلى يومنا هذا، لكننا نحتاج إلى التذكر والتدبر: كان ابن الجوزي رحمه الله فقيهاً عالماً، لكنه صاحب إيمان وقلب، كان كثير من حديثه ألصق بالقلب والإيمان منه بالعلم والحجة والبرهان، يقول رحمه الله: من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أبصر الطريقة هدي للسفر.
ثم قال متعجباً، وأحسب أن عجبه سيطول لو كان قد أدرك زماننا: أعجب لأمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضر حال ثم يغشاه: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن، أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك عما قد خبئ لك، أتغتر بصحتك، وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم.
لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك قبل البيات مضجعك، فأين عبرتك وأين عبرتك؟ وأين حياتك من غفلتك؟! أليس هذا مما نحتاج أن نتدبر فيه؟ وكان مكحول الشامي رحمه الله يقول في عبارة لها معنى القانون المطرد: إن أرق الناس في هذه الحياة قلوباً أقلهم ذنوباً.
أي: إن فتشت عن رقة قلبك فلم تجدها فاعرف السر في ذلك، وأما إن كنت لا تدرك ذلك، ولا تراه مشكلة، ولا تعتبرها معضلة؛ فكبر على نفسك أربعاً، فإنك في عداد الأموات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: ابحث عن قلبك في ثلاثة مواضع: عند الموت، وعند تلاوة القرآن، وذكر ثالثاً: ثم قال: فإن لم تجده فابك على نفسك، فإنه لا قلب لك.(52/10)
مفتاح التغيير في الأنفس
إننا نحتاج -أيها الإخوة الأحبة- أن ندرك أن مفتاح التغيير هو في السنة الإلهية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ولقد قلت مراراً: إننا نحسن النقد وكشف المعايب في الآخرين، وفي الأحوال العامة ننقد الحكام والحكومات، ونفرض على العلماء والدعاة، ولكننا لا نصارح أنفسنا لننظر إلى عيوبنا، ونفتش قلوبنا، ونبحث عن علل أنفسنا وأدوائها، ولو فعلنا ذلك لكان لنا من البصيرة ما نكون به بإذن الله عز وجل أقدر على سياسة أنفسنا، وإقامتها على أمر الله، ويكون من وراء ذلك من الخير ما لا نستطيع أن نقدر قدره، ولا أن نعرف أثره، أمر عظيم خطير، صوره كثيرة، وعلاماته عديدة، لا تخفى على عين، ولا تكاد تغيب عن كل عقل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يحييها بالإيمان، وأن يجعل فيها نور اليقين به، ولذة الطاعة المفضية إلى مرضاته.
ونسأله عز وجل أن يعيذنا من الذنوب وآثارها.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(52/11)
صور للقلوب الحية والنفوس المؤمنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن حياة القلوب بالنور والإيمان هي حقيقة التقوى.
وسأجعل للحديث تتمة، أقف في هذا المقام وقفات مع صور للقلوب الحية، والنفوس المؤمنة، التي كانت تدقق وتبحث عن أدق الدقائق في مثل هذه المعاني، مستحضرة ما روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد في مسنده: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).
ولقد جلس الشافعي إلى مالك رضي الله عنه يتلقى عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى فيه نجابة وفراسة فقال: يا غلام! لا تهلك نعمة الله بمعصية الله.
وكان الشافعي يقول مقالته المشهورة: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي تأملوا هذه المواقف العظيمة الجليلة: موقف الفاروق عمر رضي الله عنه، ذلك الرجل الذي نعرف منه جانب شدته وقوته في الحق، لكنه كان يحمل بين جنبيه قلباً رقيقاً، فكان يقول رحمه الله يبين سبب مواقفه: والله لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.
في أخريات عمره كان يحدث بعض الصحابة بعد أن اتسعت رقعة الإسلام، وتعاظمت فتوحاته، وكثرت الخيرات في أرضه، وإذا بـ عمر يتحدث ويبكي ثم قال: والله لئن أبقاني الله عز وجل لأصنع وأصنعن، حتى لا يكون لأرامل ونساء العراق ما يحتجن إليه.
وذكرت عنه المقالة الأخرى الشهيرة: لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لم لم أسو لها الطريق؟ وفي حديث أنس الشهير في الصحيح: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات).
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتحسر وتتندم على تغير الأحوال واختلافها عما كانت عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتتمثل بقول الشاعر: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب وهو زمن كان الصحابة فيه كثيرين، وكان القرآن فيه قد ملأ القلوب وملأ المحاريب، وكان فيه الجهاد في كل الثغور وكان فيه وكان فيه.
وروى البخاري تعليقاً عن أبي الدرداء: أنه دخل على أم الدرداء مغضباً؛ فقالت: مالك يا أبا الدرداء؟! قال: والله ما أعرف من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً.
لم يبق شيء يدله على ما كان عليه العهد الأول إلا صلاة الجماعة، وأما غير ذلك فقد رأى فيه تغيراً وتبدلاً.
وها نحن نجد مثل هذه المعاني التي فاضت من الصحابة والتابعين، والتي كانت فيها المعاني تختلف عما نحن عليه، ألم نسمع ونقرأ أن السلف كان يعزي بعضهم بعضاً إذا فاتت أحدهم صلاة الجماعة، إنها مصيبة عندهم، إنها كارثة في حسهم، فكم من جماعات، وكم من صلوات قد ضاعت وفاتت وأخرت وأرجئت! وكم من واجبات نتأخر عنها فلا ندركها إلا في آخر وقتها؟ وأين هي الصفوف الأولى؟ وأين هو التبكير إلى التكبير وأين وأين؟ واستمع وزد من ذلك ما شئت، فإن صور أسلافنا عظيمة، قال ابن سيرين رحمه الله وقد ركبته بعض الديون: إني لأعلم الذنب الذي حملت به الدين.
كانوا يرون أن كل شيء يقع بهم له تفسير يتعلق بالطاعة والمعصية، فهذا ركبته الديون فلم يقل: ثمة خلل اقتصادي، ولم يقل: إن تخطيطي التجاري لم يكن جيداً، بل قال: إني لأعلم الذنب الذي حملت به الدين، قلت لرجل: يا مفلس! قبل أربعين سنة.
كلمة كأنما اعتدى بها على الآخر، فقال: تلك هي سبب هذا الدين.
وكيف ذكرها منذ أربعين، وأحسب أننا لا نستطيع أن نذكر ذنوبنا في أربعين ساعة؟ لأن الذنوب عندهم قليلة فصار إحصاؤها يسيراً، وتذكرها قريباً.
وكان رجل من السلف يسير إلى المسجد، فاعترضه سفيه فشتمه، فأي شيء قال؟ قال: اللهم اغفر لي ذنبي الذي سلط به هذا علي، أي: لم يسلط علي هذا إلا بذنب أذنبته، ولذلك لم يتوجه إليه بل توجه إلى ربه.
نكتفي بهذا ولعلنا نعيد القول فيه ونزيد؛ لتحيا قلوبنا، وترشد عقولنا، وتزكو نفوسنا، وتصلح سرائرنا، وتحسن أقوالنا، وتعظم صالحاتنا وطاعاتنا، إنه سبحانه وتعالى القدير الذي إذا سألناه أعطانا، والكريم الذي إذا التجأنا إليه أفاض علينا.
نسألك اللهم حياة قلوبنا، وعظمة يقيننا، وزيادة إيماننا، وصلاح قلوبنا، وزكاة نفوسنا، وعبرة عيوننا.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمورنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأعقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم توفنا على التوحيد والطاعات، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم صل وسلم وأكرم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(52/12)
الخوف من الإسلام القادم
أعداء الإسلام يرون أن أكبر أعدائهم هو الإسلام، ولهذا فهم يتخوفون منه، مما جعلهم يحاربونه بشتى الوسائل والطرق، فيجب على جميع المسلمين أن يدافعوا وينافحوا عن دينهم، وعليهم أن يهتموا بالجوانب التي يركز عليها أعداء الإسلام، فإنهم لا يركزون عليها إلا لشدة خوفهم منها، مما يدل على أهميتها.(53/1)
أهمية معرفة تخوف أعداء الإسلام من الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى؛ فهو جل وعلا أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة.
ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن العنوان لهذا اللقاء الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا فيه التوفيق والسداد، وأن يكتب لنا منه الأجر والثواب، وأن يخرجنا منه بالنفع والفائدة هو: (التخوف من الإسلام القادم).
وبادئ ذي بدء نحب أن ندخل إلى الموضوع من خلال أهميته والحاجة إلى تسليط الضوء عليه، وذلك من مبدأ ظاهر وواضح وبين، وهو أن الخوف: رد فعل طبعي بالنسبة للإنسان، وهو في نفس الوقت يشكل أول مرحلة من مراحل المواجهة؛ ولذلك من كلام العرب أنهم يقولون: من خاف سلم، ومن خاف نجا؛ لأن هذا الخوف هو أول خط من خطوط الإنذار التي تبدأ تشحذ القوى الموجودة عند الإنسان، فيبدأ عند الشعور بالخطر بالدارسة والتحليل، ثم أيضاً يبدأ بشحذ القوى نحو التوقع والدراسات المستقبلية، ثم بعد ذلك يبدأ في وضع الخطوات العملية المكافئة والمناسبة.
فإن الإنسان إذا لم يكن يدرك الخطر، ولم يستشعر الضرر فإنه لا يكون عنده أي حافز ولا أي توجه للقيام بأية صورة عملية في أي ميدان من الميادين، ومن هنا تكمن أهمية التتبع أو الرصد لظاهرة التخوف من الإسلام؛ لأن هذا الرصد سيوقفنا على طبيعة النقاط والموضوعات المحددة والمعينة لهذا التخوف؛ لأننا في آخر الأمر سنرى أن هناك تخوفاً، لكنه إذا لم يُدرك فلن تُعرف القنوات والخطوط الأساسية الباعثة له، وإذا عرفنا هذا سنعلم أن هذه القنوات التي شكلت هذا التخوف هي المزايا التي ينبغي أن نحرص عليها.
وسيظهر لنا أيضاً من الدراسة لهذه الظاهرة الأمور الثانوية التي لا تشكل خطراً على الأعداء، فنعرف أنها لا تحتاج منا إلى جهد كبير، وسنرى أن بعضها ربما يحتاج إلى أن نلغيه من صفوفنا؛ لأننا نجده بعد دراسة هذه الظاهرة موضعاً لرغبة العدو المواجه لنا في أن يكرس هذه الجوانب التي لا يخشى منها.
ومن هنا أحب أن أقول في البداية: إن التخوف هو في حد ذاته أول خطوة نشأت عنها كثير من الخطوات، ومن هنا نحتاج أن نعرف الطريق من أوله، والسلسلة من بدايتها.(53/2)
سبب تخوف أعداء الإسلام من الإسلام
ظاهرة تخوف الكفار من الإسلام سنقف معها وقفات موجزة، ونذكر بالقليل الذي يذكر بالكثير الذي يمكن أن يرجع إليه وأن يحال عليه؛ ذلك أن هناك صيحات لهذا التخوف ليست وليدة اليوم، بل هي قديمة، ثم هي صيحات من هذا الإسلام القادم من دياره، وكذلك صيحات تخوف من هذا الإسلام في خارج دياره.
وينتقل الأمر من بعد الصيحات إلى صور عملية تدل على هذا التخوف.
ونشير إلى المحاور المركزية لهذا التخوف، والأسباب العملية له: نحن نعرف تماماً أن هذا التخوف منشأه ومحوره الأساسي هو: الصراع العقائدي الذي هو جوهر الصراع بين الحق والباطل منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذه الخليقة، وبعث فيها الرسل والأنبياء.
ومن هنا فإننا نجد أن هذه الصيحات من التخوف من الإسلام قديمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومروراً بالتاريخ كله نجد أنها ظاهرة ملازمة في كل موضع يتقارب أو يتعاظم فيه دور الإسلام، وقيام مؤسسات أو حكومات بتطبيقات متكاملة له.
منذ أن بزغ فجر الرسالة المحمدية بدأ التخوف، وأضرب لذلك مثالاً ذكره ابن كثير في تاريخه: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصل إلى قباء، وقبل أن يدخل المدينة ذهب حيي بن أخطب زعيم اليهود وأخ له يقال له: أبو ياسر لاستكشاف الخبر، فذهبا ثم عادا إلى مكانهما كالين تعبين، على ظهورهما كأمثال الجبال من الهموم، فقال أبو ياسر لأخيه: أهو هو؟ -يعني: أهو محمد المذكور خبره؟ - قال: نعم، قال: فمالك عنده؟ قال: عداوته ما بقيت! وهذا يدلنا على أن الإنذار المبكر كان بمجرد معرفة الإسلام الصادق الصحيح الذي هو تصور كامل لهذا الوجود، والذي هو تشريع كامل يتناول ميادين الحياة، والذي هو تطبيق عملي يتجاوز مجرد الشعارات والنداءات، فبمجرد وجود هذه الظاهرة يبدأ التخوف، وهذا هو السر في الذي يحصل منذ بدايات هذا القرن، حتى في أوج التفوق الاستعماري الغربي الصهيوني، فإن الذين كانوا من زعمائه كانوا من البداية يرون أن التفوق لهذه الأنظمة أو لهذه العقائد ينبغي ألا يجعلها غافلة عن حقيقة الخطر الذي يتهددها، والكامن في طبيعة وحقيقة هذا الدين حينما تتضح لحملته ولأبنائه، ثم يحصل التفاعل بين هذه الحقيقة وبين حامليها وأبنائها مهما كانوا قلة، ومهما كانت إمكاناتهم محدودة، ومنذ بدايات هذا القرن وحينما دخل النصارى واليهود إلى ديار الإسلام بقواهم العسكرية وغزواتهم الفكرية وهم ينبهون على هذا الخطر.(53/3)
بعض الصيحات التي أظهرها أعداء الإسلام في تخوفهم من الإسلام
الوقفة التي نقف عندها الآن: الصيحات القريبة العهد لهذا التخوف حتى نبدأ بنوع من التتبع أو الحصر اليسير لها.
هناك صيحات كثيرة تنبئ عن التخوف من هذا الإسلام في دياره وبين أبنائه، وجعله ليس فقط خطراً يتهدد الأوضاع القائمة في تلك الديار، ولا حتى الأعداء التقليديين أو الظاهرين لهذا الإسلام، بل تتوسع الدائرة أكثر من ذلك، ومن هذه النماذج: مقال لصحفية يهودية اسمها روس كرس تقول فيه: إن قادة الحركة الإسلامية يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها.
ثم تتابع قائلة: والآن وقد أصبح قادة الحركة الإسلامية ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط، أصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة، فقد حان الوقت لكي يعرف الشعب الأمريكي أي حركة خطرة هي هذه الحركة الإسلامية! وهذه وقفة مع تعليق لراديو إسرائيل في إحدى نشراته في أواخر السبعينات: يقول المعلق: إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة يشكل تهديداً مباشراً لمستقبل إسرائيل، ومستقبل الحضارة الغربية بأسرها! وحينما يقف الإنسان وقفة بسيطة يرى كم هو التضخيم في نظرنا على أقل تقدير بين الظاهرة الموجودة وحجم ما هو مطروح لها، فبضعة أفراد من المسلمين يشكلون أقلية في مجتمعاتهم، ومحدودة إمكاناتهم، ومع هذا نجد أعداءنا يقولون: إنهم لا يشكلون خطراً فقط على دولة، ولا على قوى عظمى، بل إنهم يشكلون الخطر على العالم أجمع على اختلاف ملله ودياناته ومذاهبه ومبادئه.
أيضاً: نقلت إذاعة إسرائيل في (5/ 11/ 1980م) عن رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز قوله: إن سياسة الولايات المتحدة في عهد ريغن تتسم باتخاذ إجراءات عنيفة ضد الجماعات المتطرفة في المنطقة.
فتصور كيف القوى العظمى في العالم تواجه هذه الجماعات أو التجمعات بإجراءات عنيفة، وهي مهما أوتيت من بعض الملكات أو الإمكانات لا تعدو شيئاً من الناحية المادية أمام القوى المواجهة سياسياً وإعلامياً وعسكرياً ودولياً.
ونجد أن القضية ذات بعد تأصيلي، وليست ذات صورة هلامية، كما يظهر ذلك أيضاً في كلام لخبيرة سياسية أمريكية اسمها روبن رايت حيث تقول: إن على الغرب أن يدرك أن الإسلام أعجز الغرب كله على اختلاف حكوماته وقواته، وتقول: إن على الغرب أن يدرك أنه أعجز من أن يواجه هذه الصحوة مواجهة عسكرية، وأن من الأفضل أن يسالم الغرب الإسلام.
ويقول جميس بل أستاذ العلوم السياسية: إنه يتنبأ أنه خلال الأربعين سنة القادمة سوف يكون الإسلام الجماهيري قوة أديولوجية في العالم.
وهذا أيضاً يبين لنا أن القضية عندهم واسعة المدى بشكل كبير.
ويقول ألبير شبمور في كتابه حمراء غرناطة -والكلام ليس ببعيد، ولكنه ليس بقريب كثيراً-: هذا العربي الشجاع استطاع أن يغزو نصف العالم، وترك لنا في حمراء غرناطة آثار فخاره، إن هذا العربي الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين قد استيقظ، وأخذ ينادي العالم هأنا لم أمت، ومن يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالعرب المسلمين مرة ثانية في الوقت المناسب والزمن المناسب، سيحطمون الغرب عدوهم الأبدي.
وهؤلاء القوم نعرف أنهم إلى حد ما لا يتكلمون من فراغ.
ثم يقول: لست أدعي النبوة، ولكن الأبحاث تدل على ذلك، والأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة جداً.
إذاً: القضية مبنية على دراسة، ثم يؤكد على خطورة الأمر بالنسبة له ويقول: أبيدوا هذه الأشباح التي تنتظر البعث، أسكتوها إلى الأبد! فهو يرى أنه ليست هناك طريقة إلا الوأد الخفي قبل أن يولد المولود ويستهل صارخاً، ثم يغدو فتىً يافعاً، ومن بعد ذلك يمارس دوره في هذه الحياة.
فهذه صيحات تحذر من الإسلام بشكل عام ضد الحضارة الغربية كلها على اختلاف حكوماتها وقواتها.(53/4)
التحذير من الإسلام في شرق العالم وغربه ووسطه
قضية التحذير من الإسلام ليست فقط في دائرة الغرب، وإنما التحذير من الخطر الإسلامي قوي جداً حتى في شرق العالم، وبالذات في الاتحاد السوفيتي الذي انتهى أمره إلى ماهو معلوم، وليست القضية جديدة مع الأحداث الأخيرة، وإن كانت ظهرت بشكل أوضح.
ففي مجلة جوش كروكنل - وهي من الصحف اليهودية الواسعة الانتشار- في مقال لها ذكرت الخطر، وأنه يعم كل العالم حتى المعسكر الشرقي الروسي في ذلك الوقت، إنه لا العالم الغربي ولا الاتحاد السوفيتي يستطيعان أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية التي لو أسيئ استعمالها من قبل الجماعات المتعصبة لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولن تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية ولا الحضارة الشيوعية.
ويقول السفير اليهودي في الأمم المتحدة: إننا نشهد اليوم ظاهرةً غريبة ومثيرة للاهتمام، وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره، وهذه الظاهرة هي عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوةً طبيعية لكل ما هو غربي، وتعتبر التعصب ضد اليهود بشكل خاص وضد الأفكار الأخرى بشكل عام فريضة مقدسة.
وجاء في مجلة (نيوز ويك) نقلاً عن راديو إسرائيل: إن منطقة آسيا الوسطى أصبحت منطقة قد يحولها الملتزمون المسلمون إلى برميل بارود قابل للانفجار، وإن نزاعات القوة التي تجري في أفغانستان في الوقت الراهن تساعد في صب الزيت على الانبعاث الإسلامي في صفوف مسلمي الجمهوريات الإسلامية السوفيتية البالغ عددهم خمسين مليون نسمة.
وقد أشارت المجلة إلى الزيادة التي طرأت مؤخراً إلى عدد المنتمين إلى حزب النهضة الإسلامية في هذه الجمهوريات، وقالت: يبدو أن المجاهدين الأفغان قد اقتربوا من أي وقت مضى إلى النجاح في إنشاء دولة إسلامية متطرفة في أفغانستان، ويمثل ما تصبو إليه الزعامة الإسلامية المتطرفة التي يقودها المجاهدون لسيطرة الحركات الإسلامية على الوضع بصورة ظاهرة.
وطبعاً هذه الصورة تظهر مؤخراً بعد الأحداث الأخيرة في الجمهوريات الإسلامية، فإنها -بحسب الدراسات التي ظهرت والإحصائيات- تمثل جانباً كبيراً من قوة الاتحاد السوفيتي من حيث القوة العسكرية والنووية كذلك، وكذلك من حيث الطاقات الخام الموجودة في أراضيها.
ومن هنا أيضاً سمعنا صيحات الحذر والخوف من الخطر النووي ومحاولة احتوائه، ويحاولون ألا يكون هناك أي قوة مهما كانت بصورة مباشرة أو غير مباشرة ذات صلة بالمسلمين في الاتحاد السوفيتي.
وأيضاً نلمح أن القضية عند القوم واسعة المدى من حيث التخوف من الإسلام في عقر ديار الغرب والكفر.
ومن هنا نجد أن الظاهرة الإسلامية المنتشرة، والتي تخطو خطوات مباركة، واشتد أزرها في أمريكا وأوروبا نجد أنها ليست بعيدة عن تخوف الأعداء، ولا عن رصدهم، ولا كذلك -وهو أمر ينبغي ألا يستبعد- عن إيجاد ما يعرقل هذه المسيرة سواءً بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
ومن هنا تقول إحدى الصحف السويدية تبين هذه الظاهرة وتخوف منها: إن الإسلام بدأ ينتشر في الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة مذهلة.
وتقول الصحيفة: إن الأمريكيين وبالأخص السود منهم يدخلون في الإسلام أفواجاً، كما يلتحق بهم المهاجرون من بلدان آسيا والشرق الأقصى.
وذكرت إحصائيات رسمية قدمها مركز إعلام الاتحاد المسيحي في بريطانيا: إن معدل بناء المساجد في أمريكا هو مسجد واحد في كل أسبوع! وهذه دراسة مبنية على مركز إعلامي للاتحاد المسيحي في بريطانيا، والمساجد في أمريكا ربما أحياناً تكون عبارة عن غرف، أو عبارة عن صالات، لكن هذا المعدل الإحصائي لا شك أنه يعطي خطراً غير محدود المدى بالنسبة لأعداء الإسلام، ففي الأسبوع يُبنى مسجد واحد، وفي السنة خمسون، وبالتالي يمكن -كما سيأتي في بعض التصريحات- أن يجد الأوروبيون والأمريكيون أنفسهم محاطين بالظاهرة الإسلامية التي يخططون لحربها في ديارها، وإذا بها قد التفت حولهم -بإذن الله سبحانه وتعالى- بصورة أو بأخرى.
وهذه صحفية إيطالية كتبت من القدس المحتلة عن أنباء ندوة عقدت في معهد (فانير) الصهيوني تحت عنوان: الاتحاد السوفيتي وغرباتشوف وإسرائيل واليهود: نسبت فيه إلى مدير وزارة الخارجية السابق القول: إن الإسلام عدو مشترك لإسرائيل والاتحاد السوفيتي.
وقال أيضاً: لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي وإسرائيل يجدان عدواً مشتركاً.
وأيضاً أصدر وزير الداخلية الفرنسي السابق أوامره إلى كبار موظفي الوزارة بإعداد تقرير عن فرنسا ذات الألف مئذنة والألف مسجد؛ على أن يحوي كافة التفاصيل عن تأثير الأصوليين الإسلاميين، فالظاهرة بدأت تأخذ حجمها من الخوف في داخل ديار القوم.
وأحد الكتاب اسمه: دييل كيبل له كتاب اسمه: (فرنسا ضاحية الإسلام)، وعنوان الكتاب ينبئ عن التخوف الكبير، والربط التحليلي الذي يعتمد على الإحصائيات والتنبؤات المستقبلية، فيقول: فرنسا ضاحية الإسلام، أي: كأنها أصبحت إحدى عواصم الإسلام ليس في العصر الحديث، وإنما حتى في العصر الإسلامي الزاهر.
ويقول: إن هذه الانفجارة الكبرى في تأكيد الهوية الإسلامية خلال ما يقل عن العقدين الأخيرين تمثل مشكلة تواجه المجتمع الفرنسي لم يسبق له مواجهة مثيل لها من قبل.
وأعتقد أن في بعض الأخبار التي تتداول سواءً في بعض الحوادث البسيطة من حوادث الحجاب أو غيرها ما يبين كثيراً من هذه الظواهر؛ ولذلك تقول روبن رايت مرة أخرى في حديث لها حول الأصولية الإسلامية: إن على أمريكا والغرب إدراك أن الأصولية الإسلامية لا يمكن أن تحتوى أو يكون لها هزيمة عسكرية أو مقاطعة اقتصادية؛ لأنها ليست ذات حدود، ولكنها موجات تتحرك على مساحات شاسعة؛ إن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتبناها الغرب هي التعايش والوفاق مع هذه الأصولية -وهذا طبعاً من وجهة نظرها- ويجب أن نعترف أن الإسلام قوة أيدلوجية، وقوة ترشحه للبقاء فتياً معافاً قادراً على العطاء، وإثبات الحضور حتى قرننا المقبل.(53/5)
تخوف اليهود من الإسلام القادم
الصيحات والتخوف من الإسلام في داخل دياره ظاهرة واضحة جداً، ولا شك أن أحد أبرز صيحات التخوف وأكثرها وضوحاً وجلاءً تخوف اليهود من الإسلام القادم؛ لأنهم يعلمون أن قضية وبؤرة الصراع هي بين الإسلام وبين اليهودية سيما في وجود التفوق اليهودي الحالي، وعلمهم أنهم تفوقوا في أحد الجولات، وأن الجولة القادمة بشكل أو بآخر طال الزمان أو قصر للإسلام، فلذلك أصبحت الدراسات والحديث يتعلق كثيراً بالربط المباشر والكبير والضخم جداً بين العمل الإسلامي بشكل عام، وظهور الروح الإسلامية في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من أي وقت مضى.(53/6)
الإشارة إلى بعض الدراسات والتحليلات في التخوف من الإسلام
القضية ليست عبارة عن مقالات، أو عبارة عن تصريحات عابرة، وإنما هناك صور أخرى لها، وهي صورة الدراسة والتركيز والتحليل، وهذا استعراض يسير نرى فيه أن التخوف هو الخط الأول أو الإنذار المبكر الذي يبدأ يحفز النفوس إلى أن تنتقل إلى خطوات عملية، أولها وأهمها: خطوات الدراسة والتحليل، وهذه معلومات مركزة ومختصرة عن الدراسات حول الظاهرة الإسلامية من منطلق التخوف، منها: أولاً: عقد مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج تاون بواشنطن ندوة استمرت يومين عن النشاط الإسلامي.
ثانياً: عقدت جمعية دراسات الشرق الأوسط مؤتمرها السنوي العشرين والحادي والعشرين في مدينتي بوسطن وبلتيمور في نوفمبر سنة 1986م و1987م حول الظاهرة الإسلامية.
ثالثاً: تقاضى أحد الباحثين مبلغ خمسين ألف دولار من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مقابل تنظيم مؤتمر عالمي عن الإسلام الأصولي.
رابعاً: عقدت وزارة الخارجية الأمريكية عام 1987م مؤتمراً حول الأصولية الإسلامية، ووجهات نظر على السياسة الأمريكية.
خامساً: عقد مؤتمر أوربي غربي لمناقشة قضية المد الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط في نهاية شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، مما يدل على أن القضية ذات طابع عملي ودراسة في هذا الباب.
ومن هنا يتنادى هؤلاء المذعورون أو المتخوفون إلى ضرورة استثمار الجانب العملي في هذا الباب، وفي خلاصة بعض هذه الدراسات: لابد من الاعتراف أن الحاجة ملحة لمزيد من المعلومات عن تكوين هذه الحركات وأعضائها، وتجدر الإشارة إلى أن التغيير مستمر في معظم الحركات، وكثير من هذه الدول تفرغ أجهزة متخصصة للرصد والتحليل والدراسة، فمثلاً: نشرت دراسة مطولة تعرض لها بالترجمة والتعليق اليسير الدكتور أحمد خلف الله في دراسته على الإسلام والكونغرس الأمريكي في مجلة المجتمع، وكذلك كتاب الأصولية في العالم الإسلامي أو في العالم العربي وهو أيضاً كتاب ناشئ فيه دراسة استقصائية تدلنا على أن موضوع البحث والجمع والتحليل هو أحد الظواهر التي تنبئ عن ظاهرة التخوف.
ونجد هناك كثيراً من الصور لهذا الجانب خاصةً في مسائل تبادل المعلومات، وبعد الاطلاع اليسير على ما ينشر من دراسات باللغة العربية، وهي باللغة الإنجليزية أكثر، وهكذا الدراسات المتعلقة بالمخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية أو غير ذلك؛ نجد أن التخصص في هذا الجانب، والتركيز على تبادل المعلومات؛ أصبح قوياً ووطيداً، حتى إن بعض الدول الغربية عندما تعطي التأشيرات للدخول إذا جاءت طلبات من مسلمين أو عرب فإنها قبل إعطاء التأشيرات ترسل مباشرةً إلى إسرائيل لتأخذ بعض المعلومات إن كان هناك تحفظات، على اعتبار أن إسرائيل في نظر بعض الدول الغربية -وبالذات الدول الغربية التي ليس لها صلات أو دراسات في هذا الجانب- هي ملف المعلومات الأقوى والأوثق؛ بحيث توفر عليهم، أو تعطيهم التحذير المطلوب والمناسب بشكل يؤدي الحاجة التي يحتاجون إليها.
وأعتقد أن بعض الجهود البسيطة في هذا الشأن تعطينا مثالاً، ومن ذلك أحد مطبوعات الرابطة عن الصحوة الإسلامية في الصحافة الغربية، وإن كان بحثاً يسيراً أو قصيراً، لكنه يعطي ضوءاً، فضلاً عن أن تكون هناك البحوث التي تبين أو تحصر المؤتمرات والدراسات التي تصدر من أعدائنا لدراسة الظاهرة الإسلامية.(53/7)
بعض الوسائل التي يتخذها أعداء الإسلام في محاربة الإسلام
من وسائل أعداء الإسلام جمع وتبادل المعلومات عن العمل الإسلامي فيما بينهم رغم اختلافهم؛ ولذلك من أول الاستثمارات اليهودية لتفكك الاتحاد السيوفيتي الحرص على هذه المعلومات التي لم تكن متوافرةً لديهم بشكل أو بآخر، ومن الوسائل العملية في هذا الشأن، وهي قضية مهمة جداً: التحذير والتخويف للحكومات في المناطق الإسلامية وغير الإسلامية التي قد يُرى أنها غافلة عن هذا الخطر، أو على أقل تقدير لا تعطيه الاهتمام الأكبر أو المكافئ والمناسب.
ومن الصور أيضاً: التضييق والتعطيل لمشروعات العمل الإسلامي المتعلقة بمجالات الحياة الحيوية، وهذه نقطة سنرجئها إلى مقام آخر فيه تفصيل.(53/8)
أهم الجوانب التي يخاف منها أعداء الإسلام
سؤال مهم أعتقد أنه أحد النقاط الجوهرية في هذا الموضوع وهو: ما هو بالضبط موضع التخوف؟ قضية التخوف من الإسلام قضية عامة، فهل التخوف هو مثلاً من بعض الصور كالشعائر التعبدية؟ أو من بعض الأفكار؟ أو من أي شيء على وجه التحديد؟ فلابد ونحن نتعامل مع هذا الموضوع أن نستخلص منه ما هي أهم وأركز الأشياء التي هي مبعث التخوف؟ نستخلص هذا لنعرف أن هذه الجوانب التي هي أكثر الجوانب إرهاباً أو تخويفاً لأعدائنا قطعاً ستكون هي الجوانب التي ينبغي أن تكون بالنسبة لنا أهم الجوانب التي نعطيها الأولوية والدعم في العمل؛ لأنه ما دامت هي موضع التخوف فلا شك أنها ستكون هي الموضع الذي فيه الفاعلية والقوة المؤثرة.
ويمكن أن نلمح إلى ثلاثة محاور أساسية ربما فيها تقارب أو تتدرج، لكنها تنبؤنا أن الجوهر يتعلق بهذه النواحي: أولها: النظام السياسي في الإسلام، والتخوف من قضية الإسلام السياسي، أو السياسة الإسلامية، أو ربط الإسلام بالسياسة.
ثم في مرحلة أخرى هل يرقى هذا النظام -لو فرض التسليم بوجوده عند الأعداء- إلى أن يصل إلى مرحلة قيام الدولة وتطبيق الحكم الإسلامي؟ ولذلك تأتي النقطة الثانية من التخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية أو قيام الدولة الدينية.
ثم النقطة الثالثة وهي: هذه الدولة الدينية أو السياسية الإسلامية إن وجدت هل ستتبنى الجهاد الذي يعتبر أكثر الأمور إرهاباً وتخويفاً لأعداء الإسلام؟ وهل ستتبنى نهج الجهاد الإسلامي الذي يدعو إلى تحرير كل الأرض من كل سلطان إلا سلطان الإسلام؟ فإذاً: هناك ثلاثة نقاط أساسية وجوهرية، وهي في حقيقة العلم أيضاً تدرجية: التخوف من سياسة الإسلام، وهل ترقى الحركات الإسلامية إلى أن تكون دولة تحكم وتطبق؟ وهل سيكون من منهاجها أن ترفع راية الجهاد وتتحرك؟ ولو سلمنا بأحد هذه المراحل فلنسلم بالأخريات، فإن العدو دائماً يتنازل عند الضغط، فالإسلام العادي -وإن كانت لا تصح هذه التسميات أو التقسيمات- في صورة الشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج ربما لا تعطى له أهمية أو أولوية في التخوف عند أعدائنا.
فالخط الأول: هو: جانب الإسلام السياسي أو السياسة في الإسلام، فإذا وجد الأعداء أنه ولابد من هذا الأمر فسيجدون أنفسهم يريدون أن يسلموا بهذا الجانب، لكن سيدرسون هل هذا الجانب سيكون من أساسياته أن ينتقل من طور المشاركة السياسة في برلمان أو حزب أو كذا إلى أن يوجد في أصوله أنه يجب أن ينتقل إلى الحكم التام الكامل لتطبيق الشريعة؟! وإذا وجدت هذه الدولة وسلم بوجودها وانفرط العقد عليهم -والله سبحانه وتعالى غالب على أمره- وأقيمت دولة إسلامية تطبق شرع الله، فهل سيكون من منهجها في تصورهم الذي يخافونه ويخشونه أن تبقى في حدودها، وتقيم شرع الله في أرضها؟
الجواب
قطعاً سيكون هذا مبدأ يختلف تماماً تصوره أو التعامل معه عن قضية أو دولة ترى أنها بذرة ينبغي أن تنتشر، وصيحة ينبغي أن تصم كل الآذان، وتكون عندها مبدأية هذا الانتقال.
ومن هنا يمكن أن نقول: إن هذه الجوانب الثلاثة هي التي حظيت كثيراً بالدراسة والتحليل والتخوف.
وهذا الهجوم على هذه الجوانب الثلاثة لا يستغرب أن يوجد من الأعداء غير المسلمين أو غير العرب، ولكن للأسف أنه تولى كبره بحكم القرب وبحكم السهولة كثير من أبناء الإسلام العرب الذين تأثروا بالغرب وأوروبا، وكانوا بشكل أو بآخر يمثلون هذه الوجهة ويدافعون عنها؛ ولذلك ما ننقله من نصوص مما يتعلق بهذه الجوانب أكثره عن بعض المسلمين أنفسهم الذين جنحوا عن نهج الإسلام، وإن كانوا في أصلهم مسلمين! وهذه القضايا تتمثل في ثلاثة جوانب نوجزها -إن شاء الله- إيجازاً يغني عما نحتاج إليه من تفصيل:(53/9)
خوف أعداء الإسلام من الإسلام السياسي
أول جانب هو جانب الإسلام السياسي: نجد التركيز من الكفار منصباً كثيراً جداً وبصورة واضحة على ألا يكون للإسلام دور في السياسة، وفي أي مجال يمكن أن يحتمل، إلا أن يكون له نظام أو مجال أو صلة في الناحية السياسية، ومن هنا نجد كثرة التذكير بهذه الظاهرة، ونحن لا نحلل ولا ننتقل إلى خطوة أخرى، فموضوعنا فقط هو في التخوف، ونريد أن نرى صورة هذا التخوف ظاهرة في هذه الجوانب الثلاثة؛ ولذلك يقول الدكتور كمال أبو المجد في حوار (لا مواجهة): الإسلام لم يفرض نظاماً سياسياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم، وكل النصوص التي سنوردها إنما تهدف إلى قضية واحدة، وهي: أن يُعرى الإسلام من ثوبه السياسي ونظامه المستمد من نصوص كثيرة، وتطبيقات عملية امتدت واستمرت زمناً ودهراً طويلاً.
وهناك أيضاً رأي آخر نرفضه كذلك، يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم، مفصل المعالم، متميز القسمات أقامه النبي عليه الصلاة والسلام، وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا نظامهم الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة.
وهذا المبدأ المرفوض يكرس في دراسات الغرب أو في دراسات أتباع الغرب ممن تأثروا بهم، أو نهجوا نهجهم؛ ولذلك نجد هذه القضية في كتابات كثيرة.
ومن ذلك أيضاً كلام للدكتور محمد خلف الله في كتاب (النص والحكم والاجتهاد في الإسلام) يقول: إن التاريخ الإسلامي يكشف لنا عن حقيقة أن نظام الخلافة ليس مصدره النص، وإنما مصدره الاجتهاد! ثم يقول: ونحن حين نقول: الاجتهاد في هذه القضية، إنما نعني: أن العقل البشري هو الواضع لنظام الخلافة، وهنا حقيقة لابد من لفت النظر إليها، وهي: أن ما كان من اجتهاد العقل البشري لا يكون ديناً، وإنما يكون تشريعاً مدنياً! وهذا نص لا يخفى ما فيه من تفريغ الإسلام من هذا المضمون المهم الذي هو أحد أول أخطر التفاعلات الحديثة بين المسلمين والصحوة الإسلامية في هذا العصر.
وأيضاً يؤكد هذا الكلام في نص آخر يقول فيه: نظام الحكم في الإسلام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل به اجتهاد جديد يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية؛ لتكون محل اجتهاد جديد، إن الفكر السياسي في نظام الحكم فكر بشري خالص تستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه، وليس من أمثال كليات الشرعية، ولا العلماء أن يخوضوا في مثل هذا المجال.
وأيضاً نجد أن الدكتور محمد عمارة في كتابه (المعتزلة وأصول الحكم) يقول عن الإسلام: له مفاهيم عليا، ومثل عليا، ثم للناس أن يحددوا ويشرعوا ويطوروا حياتهم وفق المصلحة بعد ذلك، فليس الحكم -ولاحظ هذه العبارة- والقضاء، وليست الإمامة والسياسة ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيهما التأسي والاحتذاء بما في السنة من وقائع وتطبيقات! والتنبيه على هذا الجانب هنا إنما هو بشكل إجمالي.(53/10)
خوف أعداء الإسلام من قيام دولة إسلامية تطبق الشريعة
الجانب الآخر: وهو جانب انتقال الجانب السياسي إلى تطبيق عملي في إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، ونحن نعلم كم هي الصيحات والصراعات في مسألة هذه النقطة، كما سيرد أيضاً لها بعض الحديث إن شاء الله، حتى إن مجلس الشعب المصري أصدر قراراً رسمياً واعتمد بشكل أو بآخر ألا يفتح في موضوعات المجلس بصورة أو بأخرى في أي جلسة موضوع تطبيق الشريعة، وأغلق فيه الباب إلى غير رجعة فيما هو مقرر حتى الآن! ونجد أن قضية إقامة الدولة الإسلامية موضع نقد شديد، وموضع تخوف كبير، كما صرح بعضهم بقوله: إذا طبقنا الإسلام وطبقنا الشريعة سنجد نصف المجتمع مقطوعي الأيدي وذوي عاهات! وهذا على اعتبار أن هذا الحكم ينفذ على السارق وعلى الزاني وعلى من أتى حداً، والأمر كما يقولون: كاد المريب أن يقول: خذوني، وإذا كان نصف المجتمع أو أكثر سيطبق عليه الحدود فلأنه كان سارقاً زانياً فاسداً بشكل أو بآخر.
والحقيقة أن التصوير المرعب والمخيف للناس -وأقصد بالناس: عموم المجتمعات- والشعوب المسلمة من تطبيق الحكم الشرعي الإسلامي يتناول هذا الجانب خاصة، وهو جانب تطبيق الحدود.
وكذلك جانب تصوير أن إقامة الحكم الإسلامي سيجعل المجتمع المسلم الذي يُقام فيه هذا الحكم مجتمعاً ضيقاً في علاقته، عدائياً في معاملاته، بدائياً في تصوراته، وهذا التأكيد دائماً نجده في كثير من المقولات التي تعالج أو تنتبه إلى هذا الموضوع، والنصوص في ذلك كثيرة، ونختار بعضاً من النصوص التي تؤكد التخوف من هذا الجانب، أو العداء له على وجه الخصوص: من ذلك قول الدكتور محمد عمارة: إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عندما قرره نبي العصر.
يعني: أن تبقى كما كانت في عهد النبي، ثم نستطيع أن نطبقها اليوم في هذا الجانب.
وهناك أيضاً تصوير الشريعة على أنها نوع من السيطرة والقهر؛ ولذلك يقول محمد خلف الله -ونأسف أن كثير من هؤلاء دخلوا ليكونوا في كلامهم مفسرين وفقهاء مجتهدين وأصحاب علم بأصول الفقه وغير ذلك-: إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس على الناس بوكيل، أو مسيطر أو جبار أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة! وهذا هو التفسير عنده، أي: أنه يقول في قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: فيما يتعلق بشئون الحكم والسياسة، وعلى أساس من هذا كان القرآن يطلب إليه أن يترك أمر عقاب الناس على مخالفتهم تعاليم الله إلى الله نفسه، فالله سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بأن يترك عقاب الناس لله سبحانه وتعالى، وهذا يعني عنده: أنه ليس هناك من حاجة إلى تطبيق الحكم والسياسة أو التشريع الإسلامي.
وأيضاً النقد لهذه الظاهرة يتركز في نقد منهجي حتى في الصور التي يتشبث بها المسلم الواعي، ومن أقرب الأمثلة: كلام الإسلاميين عن الخلافة العثمانية وما كان لها من دور، وأنها كانت نموذجاً -على أقل التقدير- لوحدة الأمة الإسلامية، ونجد أن الطعن في هذا الجانب في الدراسات التاريخية والمنهجية كثير جداً، مما يؤكد قضية التخوف من أن تكون هناك حكومة أو تطبيق للشرع الإسلامي بتكامله المنهجي؛ ولذلك يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري منزعجاً بشدة لتلك المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي والإسلامي باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية ولكيان الإسلام الواحد: وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مرده إلى إخفاق الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الدولة العثمانية، وانفصلت عنها لإقامة منحى تاريخي جديد، وهو منحنىً يرتبط بمفكري الاتجاه الإسلامي الجديد وفصائله.
وهذه نقطة أعتقد أن الأمر واضح فيها، ويكفي أيضاً أن ننقل نصاً عن الدكتور فرج فودة يقول فيه: إن القائلين بالدولة الدينية يضيفون أفعال الخلفاء الراشدين ضمن رصيدهم، والدكتور فرج فودة في كتابه (قبل السقوط) وغيره من كتاباته يركز على أنه لم يكن في يوم من الأيام ما يسمى بتطبيق الشريعة، بعد اعترافه أو غيره شكلياً أو جزئياً بشيئين: عهد النبي عليه الصلاة والسلام ثم عهد أبي بكر وعمر، أما ما وراء ذلك فهو خارج عن هذا التطبيق؛ ولذلك نجد الكتابات مركزة في هذا الجانب، حتى كتب الدكتور عبد العظيم رمضان مقالاً فيه: وجلدوا الأئمة الأربعة بالسياط! واستعرض فتنة الأئمة الأربعة أيام مالك وأبي حنيفة وقال: هذه الحكومات والتطبيقات للشريعة الإسلامية! انظروا كيف كانت في العصور التي تستشهدون بها، وكيف جلد الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة! قال هذا كنوع من الاستقراء لبعض الحوادث التاريخية الجزئية في غير تكامل منهجي، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الدراسة التاريخية المبتدأة يمكن أن تغير نظرة الإنسان في قضية معينة، فإذا أخذنا هذا الجانب مثلاً كحادثة معينة تشوه التطبيق، بينما هي نموذج لقضايا معينة محدودة معروفة الأسباب، ولا يمكن فهمها في غير هذا الإطار المبتدأ.
فيقول: لست أعتقد أن هناك من المسلمين من يرتضي سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه كحاكم! ويقول: رفض حكمه كبار الصحابة من معاصريه لدرجة قتله ورفض دفنه في مقابر المسلمين، ثم دفن دون الصلاة عليه إلى آخر هذه الوقائع المحزنة! وطبعاً ليست وقائع حتى تكون محزنة؛ لأنها ليست صحيحة، وهذا الخط والاتجاه ظاهر كثيراً في كتابات لثلاثة أو أربعة من هؤلاء المفكرين: فرج فودة وفؤاد زكريا والعشماوي، وغيرهم أيضاً، لكن هذه صورة في هذا المجال.(53/11)
خوف أعداء الإسلام من الجهاد الإسلامي
النقطة الثالثة هي: قضية الجهاد الإسلامي، فحينما تقوم الدولة الإسلامية هل ستأخذ بهذا النهج؟ وطبعاً الاستماتة كبيرة جداً في هذا الجانب، ولعل أهم النقاط التي ربما تلفت النظر في الكلام الأخير والمحادثات الأخيرة والتغيرات السياسية الأخيرة: التركيز على مبدأ الجهاد؛ حتى إن شامير في خطابه للافتتاح الرسمي في جلسة مدريد قال بالنص وبالحرف الواحد: عليكم- وهو يخاطب الوفود- أن تعملوا على إلغاء الجهاد.
وقضية الجهاد لا شك أنها أحد أهم مواطن الإرهاب الذي يخشى منه غير المسلمين؛ ولذلك وللأسف أيضاً نجد من مقالات الباحثين المذكورين وغيرهم هذه الصورة واضحة: يقول محمد عمارة: لا الحرب التي سميت بحروب الردة كانت دينية، ولا حرب علي مع خصومه كانت دينية؛ لأنها كانت حرباً في سبيل الأمر -أي: في سبيل الرئاسة والخلافة والإمامة- وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثم كانت الحرب لأجلها سياسية ومدنية.
إذاً: ليس هناك شيء اسمه أصلاً حرب دينية أو جهاد إسلامي عند هؤلاء.
ويقول أيضاً في كتاب (الإسلام والوحدة الوطنية): إنه طويت صفحة التاريخ الذي كان يقسم الناس إلى مؤمنين وكفار؛ طويت هذه الصفحة ليبسط مكانها صفحة الحضارة الحديثة التي تميز بين الأمم والشعوب على أساس من التحضر والخشونة والبداوة! والعشماوي ألف كتاباً كاملاً عن الإسلام السياسي جعل نصفه عن الجهاد في الإسلام، واستقرأ بعض الآيات، وخرج بقرارات أو بتصورات يريد أن يكرسها، فمن ذلك قوله: المعنى السليم للجهاد فسر خطأً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات السياسية في التاريخ الإسلامي.
ونحن نعلم أنه ما من كتاب فقهي على أي مذهب من المذاهب إلا فيه باب من أبواب الجهاد وأحكامه، والفيء ووالغنيمة؛ لأنها نصوص قرآنية ثابتة.
ويقول: فسر خطأً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات، فبعض الفقهاء الذين أثروا على العقل الإسلامي يقولون: إن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول أو المجتمعات هي الحرب دائماً.
وطبعاً التقسيم الإسلامي للديار إلى: دار حرب ودار إسلام تقسيم فقهي مؤصل، له تفصيلاته وأحكام المتعاملين مع دار الإسلام، وديار الإسلام أيضاً لها أحكام تفصيلية في هذا الجانب.
ولذلك يقول: هؤلاء الفقهاء بينوا أن الصلة بين الإسلام وغيره هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنةً مؤقتة ريثما يتهيأ المسلمون للحرب، وزاد البعض ثراها أنه من غير الجائز لإمام المسلمين أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب؛ لأن في مثل هذا السلم إلغاء لفريضة الجهاد، وهو كذلك.
وخلص إلى أن الجهاد هو وغيره إنما هو عبارة عن الصورة الدفاعية في بعض الأوقات، وإنما هو جهاد النفس! وبعد ذلك صور صورة تعبيرية جميلة يقول فيها: وبهذا يكون الجهاد أسلوباً كريماً، وباعثاً قوياً، ودافعاً سامياً للارتقاء بالذات والسمو بالنفس، والعلو بالروح حتى تعطي دون توقع للرد، وتبذل دون نظر إلى المقابل، كما أنه يكون تربية للمؤمن على أسلوب الدفاع عن النفس الذي يبدأ عندما يبدأ العدوان، وينتهي بنهايته، فلا يجنح إلى الابتداء بالعدوان، ولا ينحرف إلى الاستمرار كما تهوى النفوس عادةً ما لم تضبط بالمجاهدة الحقة، والمكابدة السليمة.
إذاً: هذه صور تبين لنا أن هذه المحاور الثلاثة هي موضع الدرس والتركيز؛ لأنها أحد أهم المعالم لهذا التخوف.(53/12)
سبب تعاظم التخوف من الظاهرة الإسلامية في الآونة الأخيرة
نقف عند نقطة مهمة وهي: لماذا تعاظم هذا التخوف بشكل أكبر في العقد الأخير أو قبله بقليل من الظاهرة الإسلامية؟
الجواب
في تصوري أن هناك بعض الملامح المهمة لهذا الجانب: أولها وأهمها هو: انتقال الطرح الإسلامي عبر مراحل كثيرة وظروف متغيرة، من كونه قضايا فكرية، أو تطبيقات عملية لدى فئة محدودة من أبناء العمل والحركة الإسلامية إلى كونه قضيةً شعبيةً دخلت في هموم الناس وحاجاتهم اليومية، أقصد: تحول الإسلام إلى ظاهرة شعبية في المجتمعات الإسلامية، وهذا أحد أبرز المعالم للتخوف المتنامي في الفترة الأخيرة، والتمثيل بذلك يظهر من خلال بعض الشواهد البسيطة القريبة التي ربما كانت أيضاً موضع تنبه عند كثير من هؤلاء القوم.
ففي الجزائر في فترة مضت كانت هناك مظاهرة نسائية خرجت فيها ثلاثة آلاف امرأة يطالبن برسمية أو شرعية البغاء! ثم كان الرد الإسلامي بمظاهرة نسائية إسلامية متحجبة تطالب بنظام الإسلام للمرأة المسلمة، وكان المقابل من ثلاثة آلاف إلى نحو ما بين سبعمائة وخمسين ألفاً إلى مليون امرأة مسلمة! وطبعاً هذه القدرة على هذا التحريك الشعبي في صورة عملية واضحة -وليست مجرد خطابات وشعارات- أحد أبرز المعالم المهمة في هذا الجانب؛ ولذلك أيضاً نجد كثيراً من الكلام يتركز حول هذه الشعبية، بل حتى حول أساليبها البسيطة أو المحددة، فنجد الكلام على حرب الأشرطة أو حرب الكاسيت، وأنه أحد الأساليب الترويجية الشعبية التي نقلت كثيراً من المفاهيم والأفكار بشكل قوي ومتشعب في هذه الجوانب.
ونجد أيضاً أول نقطة من النقاط التحولية التي زادت من التخوف من الإسلام هي: انتقال العمل أو الصورة الإسلامية من فئة مجموعات وجماعات إلى فئات شعبية واسعة المدى وعريضة النطاق.
الجانب الثاني -وهو قريب لكنه يحتاج أن يكون منفصلاً-: النماذج العملية للتطبيقات الإسلامية في ميادين الحياة، بمعنى: أن العمل الإسلامي والإسلام كان في الفترة الماضية يُؤكد على شموليته، ويُؤكد على ضرورة معايشته لواقع الناس واحتياجاتهم، ولما بدأت الصور العملية لذلك كانت أحد أبرز المعالم لقوة التيار الإسلامي، وبالتالي أحد أبرز المعالم للتخوف الكبير من هذا الإسلام القادم.
وأضرب لذلك أمثلة: في بعض الجوانب المحددة مثل الاقتصاد والإعلام على وجه الخصوص، نأخذ نموذج شركات توظيف الأموال في مصر، حينما بدأت هذه الشركات تجعل لها منطلقات إسلامية وتعاملات إسلامية نجحت نجاحاً قوياً في ناحيتين مهمتين: الأولى: الناحية الاقتصادية التي هي أساسها.
الثانية: الناحية التي تتولد منها، وهي ربط الناس، وقوة ميلهم وارتباطهم كمبدأ وفكرة بهذه الاتجاهات العاملة في هذا الميدان، حتى إن هذه الشركات كان لها دور في دعم الاقتصاد للدولة نفسها، لكن تنامت الصيحات التحريرية من هذا تنامياً مباشراً، ثم كانت الصور العملية في محاربتها: ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال حيث إن دولة كاملة بأجهزتها وأنظمتها تكتشف بعد مضي سنوات أن هذه الشركات كانت مدلسة، وكانت سارقة، وكانت مخالفة للأنظمة! مما يدل على أن القضية إنما هي صدىً لهذا التخوف والتحذير.
وكذلك في جانب الإعلام، والجهود الإسلامية فيه لا تزال محدودة في مجلات أو نشرات، لكن مع ذلك هي أحد مؤشرات الخطر الكبير؛ لأنها تحقق النقطة الأولى، وبها يكون هناك تواصل بين العمل الإسلامي والمسلمين بشكل عام وبين الشعوب الإسلامية عبر قنوات لا تكون محدودة؛ ولذلك نجد أيضاً أن هناك الحرب والتخطيط لإيقاف وتعثير المجلات والصحف الإسلامية باستمرار، خاصةً في الديار الإسلامية، وما ذلك إلا لهذا السبب، حيث تجد أن بلداً تصدر فيه ربما العشرات والمئات من الصحف والمجلات، ثم تقوم الدنيا وتقعد على صحيفة محدودة الإمكانات، قليلة الصفحات لأنها تهتم بهذا الجانب وهذه القضية على وجه الخصوص.
إذاً: هذا جانب، والأمثلة العملية التي طُبقت وبدأت تستحوذ على الناس جانب آخر.
الجانب الثالث هو: ظهور الصورة العملية لاحتياجات الناس اليومية، وإن كانت هذه قريبة منها، لكنها أيضاً تكون مستقلة، ففي أول فوز للإسلاميين بالانتخابات في الأردن أجريت عدة مقابلات للبحث عن سر هذا الأمر، وكان إحدى هذه المقابلات مع إحدى المرشحات من غير الاتجاه الإسلامي، وأحد الأسباب التي ذكرتها أنها قالت: نجاح العمل الإسلامي في إعطاء الناس احتياجاتهم اليومية، فهناك عندهم- أي: عند الإسلاميين- المشاريع الصحية، والمشاريع التعليمية التي ليست كيانات كبيرة، وإنما تلامس واقع الناس.
وهذا أيضاً أحد أبرز المعالم التي تُستهدف وتُقصد بالعداء مباشرة، ويحصل نوع من التحوير وإقامة العثرات في سبيلها وطريقها، وهي أيضاً كثيرة.(53/13)
الاستفادة من منهجية أعداء الإسلام تجاه تخوفهم من الإسلام
ماهي منهجية هذا التخوف؟ الحقيقة أن نفس هذا المنهج ينشأ من نفس منهج المتخوفين هؤلاء، فهم يبدءون بالجمع الشامل لهذه المعلومات والرصد لها.
إذاً: أول خطوة من الخطوات: الجمع لما نسمعه من هذه الأمور.
الخطوة الثانية: الربط فيما بينها؛ لأن القضية حينما تكون جزئية يكون النظر نحوها جزئياً، وحينما تجمع من هنا ومن هنا ومن هنا تعطي صورة متكاملة تبين أن الأمر قد يكون بيت بليل، وأن الأمر قد يكون فيه تنسيقاً بين أطراف متعددة، وأن الأمر يحظى باهتمامات كبيرة إلخ.
الخطوة الثالثة بعد الجمع والربط هي: نقطة التحليل والدراسة والاستنباط.
وهذه الجوانب الثلاثة هي التي عليها التركيز، نحتاج أن نعرفها؛ لأننا نرى أن الآخرين يرون أنها هي العوامل أو النقاط الفاعلة في تحريك العمل أو في تحريك الإسلام ضد أعدائه بشكل قوي.
والنقطة التي بعد هذا التحليل: الاستفادة منه بالجانبين المهمين وهما: جانب تقوية الجوانب التي منها الخوف والخطر عند أعدائنا؛ لأن أعداءنا لا يخشون من شيء إلا وهو في حقيقة الأمر موضع أو سبب من أسباب قوتنا، وأحد مؤهلات تفوقنا وانتصارنا عليهم.
وبالتالي أيضاً: إهمال الجوانب التي لم ترد في تخوفاتهم، بل ربما قبلوها، وربما أيضاً دعموها.
ولذلك ينشأ من هنا التصور الكلي الذي نحتاج إليه، وهو: تقديم أو ترتيب الأولويات، ومعرفة القضايا الثانوية والهامشية التي ينبغي ألا تزاحم ما هو أهم منها، وألا تشغل عن تكريس ما هو أولى في ظهور قوة الإسلام، وأسرع في تقدم خطواته نحو النجاح والنصر والتمكين، وبالتالي هذه الصورة الموجزة يمكن أن نرى أن هذه الصيحات عن التخوف إنما هي ظاهرة صحية بالنسبة للمسلمين؛ لأن عدوهم يخشى منهم، وهذا أمر يدل على وجود ظاهرة إيجابية، والذين لا يخشى منهم -وقد يفرحون بذلك، ويعتبرون أنفسهم حضاريين ومقبولين عالمياً أو دولياً أو غير ذلك- إنما يفقدون في الحقيقة قيمتهم؛ لأن الشعار العربي -وإن كان لا يطبق لكنه يدل على نوع مما يحتاجه الإنسان من وجود أثر فاعل له- هو كما قال الشاعر العربي: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع يعني: على أقل تقدير إن لم تكن ذا نفع فضر، بمعنى: أن يكون لك دور، وأن تكون لك قدرة على فعل شيء يحسب له الآخرون حساباً، سواءً كان نفعاً أو ضراً، فهذا يؤكد أن هذا الجانب الذي يفتخر به أصحابه، وأنهم لا يخشى منهم، وأنهم يرحب بهم في كل مكان، وفي كل محفل دولي؛ يدل على هذا النقطة.
آخر مسألة هي: أن أعداءنا عندهم منهجية جيدة في قضية مهمة، وهي: أنهم يضخمون ويخوفون بشكل كبير من الأمر البسيط، ليس ذلك عن جهل منهم، وإنما عن إدراك لطبيعة التطور الذي ينتج عن ذلك، فحينما يحاربون مجموعة إسلامية بسيطة، ويتهمونها بأنها تسعى إلى قلب نظام الحكم، وأن معها خمسة مسدسات أو نحو ذلك، لا نقول: إن هذا من المبالغة، وإنما هو من باب الاحتياطات خوفاً مما يأتي به المستقبل من خلال دراسات ومعرفة؛ لأن التصور يكون في هذا المجال كبيراً ومتنامياً.
فنحن أيضاً نحتاج إلى أن نعرف من هنا أن العمل الإسلامي وإن كان بسيطاً في دائرة معينة فإنه يؤذن له -بإذن الله- أن يكبر، وأن يعظم، وأن يكون ذا أثر فعال في فرص قريبة، ربما أقرب مما نظن.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدين الإسلام، وأن يجعل هذا التخوف رعباً في قلوب أعداء الإسلام يزعزع قلوبهم، ويكون أحد أسباب النصر الذي كان لمحمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، ونرجو أن ينصر المسلمون برعب أعدائهم منهم كما نرى في صور كثيرة.
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(53/14)
الأسئلة(53/15)
سبب تخوف بعض الحكومات العربية من الإسلام
السؤال
ما هو سر خوف الحكومات العربية من الدور الإسلامي؟
الجواب
قد أشرت في نقطة الصور العملية أن من صور التخوف من الإسلام التي مارسها هؤلاء عمل مؤتمرات ودراسات، وجمع المعلومات وتبادلها، والتضييق والتعطيل لمشروعات العمل الإسلامي، والتحذير والضغط على الحكومات الإسلامية، وربما تكون الإجابة: أن الأتباع موافقون، وربما متفوقون على من هم تابعون له، فالحكومات المتخوفة من الإسلام حقيقةً تخوفها أكثر ما يكون من اعتمادها على التوصيات والدراسات التي تأتيها من الغرب ومن الشرق، وهي أداة منفذة أكثر مما هو مطلوب في كثير من الأحيان، بمعنى: أنها تجمع بين شيئين: الشيء الأول: التخوف الفعلي من هذا الجانب.
الشيء الثاني: أنها تعرف أن هذا ارتباط مصير بالنسبة لها، ارتباط وجود أو عدم؛ فلذلك يعظم هذا التخوف في صورة عملية أكثر، والغربيون يخشون من الإسلام أن يملك مواطن أقدامهم، لكن هذا التخوف أظهر وأقرب من الدول أو الحكومات التي تعايش هذا العمل، وترى فيه أكبر خطر عليها في وجودها ومصالحها الشخصية، فضلاً عن أنه يخدم خطط وسياسات أسيادها، أو من يدورون في فلكهم من الشرق أو من الغرب، فالصورة واضحة في الداخل، ونحن ذكرنا الغرب وأوروبا وأمريكا وإسرائيل؛ لأنهم هم الذين يمثلون الصورة الكبرى وينقلونها، والاعتماد عليهم في ذلك كثير، حتى إن كثيراً من الدول العربية والإسلامية تعتمد على إسرائيل في بعض المعلومات والتفصيلات والتوصيات، والأمثلة كثيرة، وربما في بعض البلاد تكون أظهر من بعضها الآخر، والله أعلم.(53/16)
بعض القضايا الثانوية لا يخاف منها الأعداء
السؤال
هل هناك أمثله واقعية على بعض الأشياء الثانوية التي لا يخاف منها الأعداء؟
الجواب
في الحقيقة لا أستحضر الأمثلة سريعاً، لكن هناك قضايا فقهية في الفروع لا تلقى التخوف من قبل أعدائنا، بل تلقى الرضا، وربما يسعون إلى توسع دائرتها؛ لأنها تشغل عما هو أهم منها.
وهناك أيضاً قضايا تمس الجدل في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرنها، فهناك من يعارض أو يناقض أو يختلف في موضوع: هل نحتاج إلى أن يشارك العمل الإسلامي بصورة سياسية، ويكون له دور في هذا المجال؟ وهل هذا يصح أولا يصح؟ فهذه أيضاً قضية ربما تُدعم وتُنمى؛ لأنها تعيق هذا الجانب الذي هو موضع خوف وخشية.
وأيضاً هناك بعض القضايا التي ربما تكون فيها محدودية في النظر في تطوير تطبيق الإسلام عندما يحكم، بمعنى: أن تكون ضيقة لا تقبل إلا اجتهادات معينة، وتريد أن تفرضها في صورة أن هذا هو التطبيق الكامل والصحيح للإسلام، مما يُعطي فرصة للأعداء في تشويه تطبيق الشريعة الإسلامية؛ ولذا يريد العدو أن يشكل هذه الصورة، وهذه وأمثالها من القضايا التي يحسن أن تُنحى، وأن يُضيق إطار البحث والنقاش فيها؛ حتى لا تعيق الحركة، وحتى لا تعيق نمو الجوانب المهمة في العمل الإسلامي بإذن الله سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين.(53/17)
الغنائم أيها النائم
جعل الله عز وجل للخير والفضائل واكتساب الحسنات أوقاتاً ومن تلك الأوقات آخر الليل والفجر، إذ يشمل هذان الوقتان صلاة قيام الليل التي هي أفضل صلاة النوافل، وصلاة الفجر التي هي من أهم صلاة الفرائض؛ ولهذا كان أجرهما عظيماً، والتفريط فيهما خسراناً مبيناً، ينال أجرهما القائمون، ويخسرهما النائمون الغافلون.(54/1)
مثال يبين حرص الإنسان على متاع الدنيا
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (الغنائم أيها النائم)، وبمجرد إطلاق هذا العنوان لا شك أن الخواطر تدور فيها الأسئلة عن هذه الغنائم وما عسى أن تكون، وعن هذا النائم ومن عسى أن يكون؟ وليس في الموضوع صعوبة أو غرابة، وإنما أردت أن يكون في هذا العنوان ما يلفت النظر، ويسترعي الانتباه، ويشد العقول والأذهان؛ علَّ الله عز وجل أن يحقق ما نصبو إليه من موعظة وتذكرة تتعلق بهذا الموضوع المهم.
وأبدأ الموضوع بمثال لعله أن يكون توطئة وتقريباً لما يأتي من هذا الموضوع: لو أن إنساناً كان يغط في نومه وقد استغرق في النوم استغراقاً عميقاً، كما هو حال كثير من الناس، وقد علا شخيره، وتمكن منه النوم تمكناً كاملاً، ثم جاءه من أهل بيته أو من أصدقائه من يوقظه على عجل، ويدعوه مباشرة إلى أن يقوم ليأخذ حظاً من أموال توزع أو غنائم تهدى أو شيء من ذلك، فإنه في الغالب ينتبه ويسارع ويبادر، وربما مع مبادرته يكون مرتبكاً وغير مستوعب لما يقال له، وكذلك ربما كان النوم قد تمكن منه فلم يلتفت إلى هذه الدعوة التي فيها مصلحة وفائدة أو فيها غنيمة باردة ليس فيها عناء ولا تعب، لكن لو أن هذا الإنسان لم يكن نائماً، وإنما كان مستيقظاً، وقلنا له: في هذه الليلة في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل نريد منك أن تستيقظ، وأن تأتي لنعطيك من المال أو من الجواهر أو من الذهب شيئاً ما.
فهل تراه عندما ينام -إذا نام- سيستغرق في نومه؟ وإذا استغرق في نومه هل سيحتاط لاستيقاظه؟ أو ربما يفكر تفكيراً عملياً وتفكيراً استثمارياً فيقول: وما الذي سيحصل إذا لم أنم هذه الليلة؟ وسيرابط ويجاهد نفسه على أن لا تغفو عينه وأن لا ينام حتى يأتي الوقت المضروب والموعد المحدد وهو مستيقظ، فيمد يده إلى من يعطيه فيأخذ.
فلو أردنا أن نحدد هذا المثال فإننا نكاد نجزم بأن الوعد نصر كان ممن يعرف بوفاء وعده وصدق قوله وقدرته على مطابقة فعله لقوله، فإن المردود العملي سيكون أنّ هذا الذي أُخبر بهذا الوعد سوف يكون مستيقظاً متأهباً مستعداً عند الوقت المحدد ليأخذ هذه الغنيمة أو الأموال الجزيلة، فإذا جئنا له بعد أن جرب في المرة الأولى واستيقظ في الوقت وأخذ ما أخذ مما قد يشقى لأجله غيره ولا يأخذ عشر معشاره ولا جزءاً يسيراً منه وقلنا له: في كل يوم عند الساعة الثانية والنصف ستستلم -على سبيل المثال- خمسة آلاف ريال فثق تماماً أنه سيلغي وظيفته، وينام في النهار، ويستيقظ في الليل، وسيسعى بكل ما يستطيع وبكل وسيلة من الوسائل حتى لا يتخلف عن هذا الموعد؛ لئلا تفوته هذه الغنيمة الجزيلة العظيمة.
ولو تصورنا أنه أخذ هذه الأموال ليلة بعد ليلة، ثم في يوم من الأيام أخذته عينه ونام، فاستيقظ بعد فوات الوقت، ولم يحصل على المخصص الموعود في كل ليلة، فما عسى أن يكون؟ لا شك أنه سيتحسر ويندم، وربما لو كان من أهل الحب لهذه الأموال لبكى واستعبر، وربما شكا وعلا صوته بالشكوى.
وهكذا لو أردنا أن نسترسل في هذا المثال لطال بنا الوقت، فالمهم هو أن النائم تظهر له حاسية إضافية إذا كان هناك أمر مهم أو نافع له يرتبط بموعد يتعارض مع نومه، وهذا أمر محسوس، فالمسافر الذي وقت سفره بعد منتصف الليل لا شك أنه يتأهب ويستعد، ولو نام لكان نومه خفيفاً، ولو نام واستغرق لكان انتباهه لمن يوقظه عظيماً، وهكذا في كل أمر من الأمور الحياتية التي يشهدها الناس كارتباطهم بأوقات العمل المبكر ونحو ذلك من الأمور.(54/2)
الغنائم العظيمة في صلاة الفجر
إن ذلك النائم –في الغالب- نعتقد أنه لا يفوت الغنائم، ولو كانت على حساب قليل من الراحة أو شيء من النوم، ونحن نقول: إن هناك غنائم أعظم، وإن هناك جوائز أكبر، وإن هناك مواصلة واستمراراً لهذه الغنائم، ولكن ذلك النائم هل ينتبه؟ وهل يستيقظ ويهتم ويعتني كما اعتنى في هذا الجانب وهذا المثال الذي ذكرناه؟ هذا هو الذي نأمله ونرجوه للنائم عن صلاة الفجر المضيع لغنائم الأجر.
ولا شك أن هذا الموضوع عندما نطرقه ونذكره قد يقول القائل: ما الجديد فيه؟ وما الذي سيقال عنه؟ وهل ثمة من لا يعرف عظمة الأجر في صلاة الفجر؟ وهل ثمة من يحتاج إلى التنبيه والتذكير في هذا؟ أو بصورة أدق: هل ثمة نفع يرجى من هذا التذكير والتنبيه؟ وأقول: لعل ما سيذكر في هذه الموعظة أحسب أنه بجمعه وتتابعه سيوقظ هذا النائم، ولعله أن يجعل اهتمامه أعظم ممن ضربنا به المثال، ولو أدى به الحال إلى أن يسهر ليله أو أن يجتهد بكل أنواع الاجتهاد لئلا تفوته هذه الغنائم.
وأحب أن نبدأ مباشرة في ذكر هذه الغنائم دون عناية بترتيب أو تدرج في ذكرها؛ لأنا نريد أن نبين أنها كلها من كل وجه من الوجوه فيها أجر وثواب وفضل، وأثر دنيوي وأخروي، ومصلحة عملية، ونواحٍ نفسية وتربوية بلكل وجه من الوجوه، ثم بعد ذلك نعقب بمعالم رئيسة تتعلق بهذه الغنائم والفوائد والتشريعات في هذا الدين العظيم دين الإسلام، وسنمر بعد ذلك ببعض الأوهام والشبهات، وبعد ذلك أيضاً ببعض الأسباب والمسببات، ثم ببعض المقترحات والعلاجات؛ علَّ الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا جميعاً بأن نحوز هذا الفضل، ونغتنم ذلك الأجر.(54/3)
الطهارة المعنوية
الغنيمة الأولى: الطهارة المعنوية، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، رواه الخمسة إلا أبا داود، وهذا الحديث فيه غنيمة الطهارة المعنوية التي يغتسل بها العبد -بإذن الله عز وجل- من ذنوبه وخطاياه، كما ورد في الحديث الصحيح الآخر عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في شأن الوضوء، وأن المؤمن مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء إذا غسل وجهه وإذا غسل يديه وإذا غسل رجليه تتساقط ذنوبه إلى آخر ما ورد في ذلك الحديث، فهذا المعنى هو من أجل المعاني، سيما في صلاة الفجر التي تأتي عقب نوم الإنسان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، فالنوم مظنة وقوع اليد في مواضع النجاسة، وكذلك النائم قد يكون في عينيه وفي وجهه من أثر النوم ما يحتاج إلى هذه الطهارة الحسية والمعنوية معاً، فينشط ويكون -بإذن الله عز وجل- قد أخذ بشيء من هذه الغنائم العظيمة.
وهذه الغنائم سأذكرها -كما قلت- بلا ترتيب ولا تبويب؛ لأن كلاً منها لها ومضة ولها فضل وأجر، ولها تعلق إيماني بقلب المسلم الذي يتفكر في أمر الله ويتذكر الآخرة بإذن الله عز وجل.(54/4)
شهادة الملائكة
الغنيمة الثانية: الشهادة الملكية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] وفي حديث أبي هريرة الذي يذكره العلماء في سياق تفسير هذه الآية قال رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فهذه شهادة من ملائكة الرحمن الذين يتنزلون من السماء كل يوم وليلة عند صلاة الفجر وصلاة العصر، فملائكة نازلون وملائكة صاعدون، والنازلون سيسألون، والصاعدون سيسألون عما يفعل عباد الله المؤمنون، ويأتي الجواب لمن كان من المستيقظين لا من النائمين فيقال عنه ويدرج ضمن الشهادة باسمه وبوصفه -والله عز وجل به عليم قبل سؤال ملائكته-: (تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون).
قال الألوسي في تفسيره معلقاً على قوله جل وعلا في قرآن الفجر: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] قال: أخرج النسائي وابن ماجة والترمذي والحاكم -وصححاه- وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية: (تشهده- أي: قرآن الفجر- ملائكة الليل وملائكة النهار).
قال الألوسي: وقيل: يشهده الكثير من المصلين في العادة.
وقيل: من حقه -أي: هذا القرآن- في صلاة الفجر أن تشهده الجماعة الكثيرة.
وقيل: تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة.
من تبدل الضياء بالظلمة، والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت.
وهو احتمال أبداه بعض العلماء، وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا هو المراد من قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].
وكما قال هنا: لا حصر للمدلول؛ لأن هناك أسباباً عديدة يمكن أن تكون من أسباب شهادة هذا القرآن وهذه الصلاة، ولا ينبغي أن يقال ذلك في غيره.
ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر الفجر؛ لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراماً ومتلقٍ كراماً -أي: الملائكة- فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل، ويرتاح له النازل.
وما أعظم أن تشهد لك ملائكة الرحمن التي جعلها الله سبحانه وتعالى من المخلوقات العابدة المسبحة له سبحانه جل وعلا: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، والذين جعلهم الله سبحانه وتعالى لا يعصونه سبحانه وتعالى أبداً، فهؤلاء الملائكة يأتون بالأعداد العظيمة المتكاثرة وبالآلاف المؤلفة وبما لا يحصيه العد، فيشهدون المؤمنين وهم في صلاة الفجر وهم في صلاة العصر، فكيف يكون حال ذلك النائم الذي تفوته مثل هذه الغنائم؟! وهذه شهادة عظيمة عند ملك عظيم هو رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى، وانظر كيف يسأل عنك رب العباد سبحانه وتعالى ملائكته، وتشهد ملائكته عنده جل وعلا بشهادة أنك فيها من العابدين ومن المصلين ومن المستيقظين ومن المبادرين ومن المسارعين ومن أصحاب الهمم العالية والمراتب الرفيعة، فهذا لا شك أنه من أعظم هذه الغنائم، كما قال صاحب الظلال في ظلاله: ولهذين الآنين -أي: آن الفجر وآن العصر- خاصيتهما، وهما إدبار الليل وإقبال النهار، ولهما تعلق، ولهما وقعهما العميق في النفس؛ فإن مقدم الليل وزحف الظلام كمطلع النور وانكشاف الظلمة؛ كلاهما يخشع فيه القلب، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة، ولا تختل مرة، وللقرآن إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته ونسماته الرخية، وهدوئه ونبضه بالحركة وتنفسه بالحياة، فما أجمل أن تكون في هذا الوقت مستيقظاً عابداً تالياً للقرآن ساجداً لله سبحانه وتعالى.(54/5)
أداء صلاة الفجر سبب من أسباب مغفرة الذنوب
الغنيمة الثالثة: المغفرة الربانية، ففي حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه والترمذي في سننه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر) فهذه مغفرة ربانية إلهية دائمة متكررة، فكلما وقع منك قول أو خاطر أو فعل عن غفلة أو زلة أو وسواس شيطان أو استزلال هوى أو داعي شهوة فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل في هذه الصلوات -ومنها الفجر- هذه المغفرة الربانية، وهي من أعظم هذه الغنائم التي ينبغي أن لا يفوتها العبد.(54/6)
البشارة لمن يخرج إلى المسجد في الظلمات بالنور التام يوم القيامة
وانظر رعاك الله إلى ما هو أعظم في هذه الغنائم وأكثر وأهم، ومن هذه الغنائم -وهي الغنيمة الرابعة-: البشارة النورانية.
ففي حديث أنس رضي الله عنه -ويروى هذا الحديث عن ستة عشر من الصحابة بروايات مختلفة- عند أبي داود والترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وما أعظم هذه البشارة بهذا النور في الوقت الذي تظلم فيه على الإنسان الظلمة الشديدة والكرب العصيب والهول العظيم، ويلتمس أهل النفاق النور فيضرب بينهم بسور قال الله تعالى عنه: {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، فيوم لا يختص بالنور إلا أهل الإيمان يأتي هذا الحديث بشارةً من النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد) ومن هذه الظلم المشي إلى المساجد في صلاة الفجر، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، إنه نور تام في يوم القيامة، والعبد أحوج ما يكون إلى النور الذي ينور له طريقه ويهديه بإذن الله عز وجل سبيله، ويجعله بإذنه سبحانه وتعالى من أهل الرحمة والمغفرة والرضوان.
فما أعظم هذه الغنيمة التي تأتي وتضيع على ذلك النائم وهو يغط في نومه ويعلو شخيره، وقد وقع به من الغفلة والركون إلى الدعة والراحة ما وقع، فهو أكثر خسارة من ذلك الذي فوت بعض أجر الدنيا أو بعض مالها أو بعض ذهبها وجواهرها، فجعل يعض أصابع الندم، فكم من نائم عن صلاة الفجر ولم يعبأ بها، ولم يكترث لها، ولم يحزن لعدم إتيانه بها، ولم يتندم على عدم صلاته إياها في وقتها! وكم يمر ببعض الناس يوم إثر يوم وهم لا يؤدون الصلاة في وقتها، بل ربما لا يؤدونها بالكلية إلا من رحم الله، نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من أن نكون من أولئك الغافلين النائمين.(54/7)
الحيوية والنشاط في روح مصلي الفجر وبدنه
الغنيمة الخامسة: الانطلاقة الحيوية، وهذه أيضاً غنيمة عملية دنيوية دينية وإيمانية في الوقت نفسه، وهذه أثرها واضح، وأمثلتها العملية بالكثرة التي لا تحصى، يشرحها لنا أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة منها فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ- أي: النائم- فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) رواه مسلم.
فمن صلى الفجر في جماعة واستيقظ في ذلك الوقت وتوضأ صرف الله عز وجل عنه عقد الشيطان وما ضرب عليه، فيصبح منشرح الصدر طيب النفس قوي العزم متجدد النشاط، فيه حيوية للعمل والانطلاق والتحرك، وفيه أيضاً أريحية، فتلقاه إذا لقيته يبتسم في وجهك، ويبش لمقدمك، ويهب لمساعدتك، وقد وجد في نفسه من برد الإيمان ومن الاستقامة ومن عظمة ما تلقاه النفس البشرية من أثر العبادة لله عز وجل من عظيم هذه الآثار ما يجعل في انطلاقته في أمر حياته وفي سائر شئونه ما الله سبحانه وتعالى به عليم.
ومن نام عنها فحاله -كما ورد في الحديث-: (أصبح خبيث النفس كسلان) حيث تجد بعض الناس إذا لقيته في الصباح كأنما ركبه الشيطان، فإذا هو مقطب الجبين معبس الوجه، وحين تسلم عليه كأنما قد سببته أو شتمته، وتجده في أموره متعثراً، وتجد بعض القضايا اليسيرة التي تمر به فإذا به يضيق أشد الضيق، وكثيراً ما ترى بعض الناس ممن لا يشهدون الفجر في جماعة دائماً يشتبكون ويتعاركون ويختصمون في أول النهار؛ لأنهم قد حرموا من هذا الأثر لهذه النفس التي تتحرك وتنطلق، ولذلك انظر إلى ما يحصل -وهذا واقع ينبغي أن نربطه بمثل هذا الحديث- عند انطلاق الناس إلى الأعمال وإلى المدارس في الصباح، فكم ترى دائماً من المشاكسات والمعاكسات بالسيارات والاشتباكات بين السائقين! وذكر بعض الكتاب في هذا كلاماً جيداً فقال: من وقع له مثل هذا فإنه يستقبل يومه بخير، فإذا بزوجته تبش في وجهه، وإذا بأبنائه يستيقظون نشيطين، وإذا به إذا مر بسيارته يجد الإشارة خضراء، وإذا به يذهب إلى عمله فيجد أموره ميسرة، ونحو ذلك، أما غيره فلا يجد مثل هذا.
وللأسف أن بعضاً منا لا يربط مثل هذا الربط، بل بعض الناس يستغربه، بل بعضهم يعترض عليه ويقول: ما دخل هذا بهذا؟ ونقول: إن الفقه الإيماني يجعل للطاعة أثرها المحسوس الملموس، ويجعل للمعصية أثرها المحسوس الملموس، وقد سئل الحسن رضي الله عنه: ما بال أهل الليل على وجوههم النور؟ فقال: خلوا بربهم فألبسهم من نوره.
وهكذا ينبغي أن نوقن أن الطاعة لها أثر في التيسير وفي انشراح الصدر وطمأنينة القلب وسكينة النفس وكل هذه الأمور، فهذا الحديث -أيضاً- شاهد من هذه الشواهد، والشيطان يقول: (عليك ليل طويل فارقد) أي: ما زال في الليل طول.
وإذا أذن المؤذن قال: ما زال هناك وقت طويل على الإقامة.
فإذا أقيمت الصلاة قال: يمكن أن تدرك الركوع، وهذا الإمام يطول في قراءته وهكذا حتى يذهب الوقت.
أما من لا يستيقظ فذاك نومه أصلاً طويل قد غفل عن طاعة الله عز وجل ونام عن العبادة، نسأل الله عز وجل السلامة.(54/8)
مصاحبة رعاية الله عز وجل لمصلي الفجر
الغنيمة السادسة: الحصانة الإلهية، وهذه أيضاً تابعة للتي قبلها، وكم يحتاج الإنسان إلى أن يحصن نفسه! فإذا كانت هذه الحصانة من الله، وإذا كان هذا الحفظ من الله فانظر -رعاك الله- كيف يكون من صلى الفجر في جماعة في سلامة وأمن وطمأنينة لا يمكن أن يحوزها أي إنسان! لأن أي إنسان سيعتمد في هذا الحفظ أو في هذه الحصانة على جهود بشرية أو على قوىً أرضية، وأنت معتمد على رب الأرباب سبحانه وتعالى، كما في حديث جندب بن سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله في ذمته بشيء) أي: هو في حفظ الله ما دام على طاعة الله.
ولهذا جاء تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن لا يطلبك الله عز وجل في ذمته بشيء، فإذا كنت الآن في حماية إنسان يحميك ويسترك ويدافع عنك، ثم في أثناء هذه الحماية تتكلم عليه أو تسيء إليه، أو يكون قد طلب منك أمراً فلم تستجب له فلا شك أنك حينئذٍ تخسر ذمته، وقد يرفع عنك حصانته، ويقطع عنك حمايته، فأنت في حماية الله وفي حفظ الله قد أخذت هذا العهد وهذه الذمة من الله منذ أول يومك عندما ينشق الفجر ويبزغ أول بصيص للنور وأنت قائم بالصلاة ساجد لله عز وجل، فإذا كنت في ذمة الله فاحفظ هذه الذمة بالطاعة لتكون في حفظ الله وذمته سائر يومك، وما أعظم هذه الغنيمة! فإنها غنيمة من الغنائم الكبرى.(54/9)
أداء صلاة الفجر سبب من أسباب دخول الجنة
وأعظم من هذه الغنائم وأكبر أيضاً ما نعنون له بـ (الغنيمة السابعة) وهي غنيمة عظيمة، وهذه الغنيمة تشتمل على أمر من أعظم مقاصد العبد في هذه الحياة، فعند البخاري ومسلم حديث لا يتجاوز الكلمات الخمس، لكنه يشتمل على أعظم شيء في هذه الحياة مما يتعلق به العبد المؤمن وينشغل به فكره ويبذل فيه جهده وينفق فيه ماله، وهو دخول الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام (من صلى البردين دخل الجنة)، وهذا كلام واضح، وعبارة موجزة، وشرط وجواب شرط، وقطع وجزم من النبي عليه الصلاة والسلام، فلا تردد ولا شك: (من صلى البردين) فالنتيجة: (دخل الجنة)، ولم يقل: يدخل الجنة.
وإنما (دخل) بصيغة الماضي لتحقيق هذا الوعد وتأكيده والقطع والجزم به بلا أدنى شك ولا تردد.
والبردان -كما ذكر أهل العلم والمحدثون- هما: صلاة الفجر وصلاة العصر.
لوقوعهما وقت برد الهواء وطيبه، عندما تكون في نومك تهب عليك نسائم الفجر، وأنت قد نمت بعد تعب وعناء واجتهاد أو عمل، وتأتيك هذه النسائم، وتسمع ذلك النداء: (الصلاة خير من النوم)، فإذا تركت هذا الهواء العليل وهذا البرد الجميل وتلك الراحة اللذيذة والنومة العزيزة، وقمت لله عز وجل لتصلي الفجر فإن الثواب مقطوع به ووعد من النبي عليه الصلاة والسلام: (دخل الجنة).
وحث عليهما لأنهما وقت اجتماع الحفظة، ولأن الصبح وقت التثاقل والكسل من النوم، والعصر وقت انهماك الناس.(54/10)
أداء صلاة الفجر سبب من أسباب رؤية الله عز وجل يوم القيامة
وأعظم من تلك الغنيمة رؤية الله عز وجل، وهي الغنيمة الثامنة، ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام عند مسلم في تفسير قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: (الحسنى: الجنة.
والزيادة: النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى).
وفي حديث جرير رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إن إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا.
ثم قرأ: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)) [طه:130]) رواه أصحاب السنن الأربع.
وقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر) التشبيه في صفة الرؤية لا في صفة المرئي.
أي: سترونه بوضوح كوضوح رؤيتكم للقمر في ليلة البدر.
وقوله: (لا تضامون في رؤيته) أي: ليس هناك زحام، وليس هناك صراع، بل ترون الله عز وجل رؤية عظيمة هي من أعظم الأجر، وهي كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أي: الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وهي لذة النظر إلى وجه الله عز وجل.
وحث النبي عليه الصلاة والسلام على نيل هذه الغنيمة العظيمة بقوله: (فإن استطعتم على أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) والمقصود صلاة الفجر وصلاة العصر، وقرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130].
قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى الله تعالى.(54/11)
أداء صلاة الفجر سبب من أسباب البركة والنجاح
ومن الغنائم -أيضاً- الغنيمة التاسعة، وهي غنيمة البركة والنجاح، في حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! بارك لأمتي في بكورها) رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: رجاله ثقات، إلا أن شيخ الطبراني لم أجد له ترجمة.
ثم عقب عليه غيره فقال: وقد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
وفي رواية عن ابن عمر عند الطبراني في المعجم الكبير بمثل هذا اللفظ أيضاً، وفي بعض رواته اختلاف بين توثيق وتجريح من بعض أهل العلم.
وفي حديث عائشة -وفي سنده ضعف- قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (باكروا طلب الرزق؛ فإن الغدو بركة ونجاح) فالحديث الأول عن جابر صححه أهل العلم وفيه: (اللهم! بارك لأمتي في بكورها) والبكور: أول النهار.
ومصلي الفجر هو مقتنص ذلك البكور، وهو الذي ينال هذه البركة، وهذه البركة ينبغي أن نذهب ونبحث في واقعنا لنرى أثرها الملموس، فإن الذي يصلي الفجر ويباشر حياته فلا ينام يجد اتساع الوقت والقدرة على إنجاز الأعمال، إضافة إلى القدرة على الحفظ والاستحضار للمعلومات أو المقروءات، إضافة إلى قوة الاستيعاب والاستنباط؛ لأن العقل في ذلك الوقت يكون أنشط ما يكون بعد راحة الجسد، والقوة الذهنية التي يستأنف بها أول يومه وأول نهاره يبارك له فيها، فكيف إذا كان مع هذا البكور قد سبقه بالطاعة والعبادة لله سبحانه وتعالى؟(54/12)
صلاة الفجر سبب من أسباب صحة الجسم
الغنيمة العاشرة: الصحة الجسدية، ولابد أن ندرك أن أمر العبادات والطاعات وأمور الفرائض والواجبات مع أمور المحرمات الواردة في التشريعات أنها كلها خير للإنسان، فلابد أن نعلم أن الصلاة وإن كانت عبادة إلا أن لها أثراً صحياً يطول ذكره، وفي ذلك كتاب كامل عن النواحي الصحية في الصلاة بدءاً من الوضوء وانتهاءً بحركات الصلاة، وما فيها من أثر على عضلات الإنسان ومفاصله إلى غير ذلك.
لكننا نخص الفجر، فقد ذكر ذلك بعض أهل الطب فقال: أما الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر فهي كثيرة، منها أنه في وقت الفجر تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً -وتأمل حكمة التشريع- حتى تضمحل عند طلوع الشمس -أي: بانتهاء وقت الفجر ينتهي هذا الأوزون- ولهذا الغاز تأثير مفيد للجسم، ومنشط للعمل الفكري والعضلي، بحيث يجعل الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المسمى بريح الصبا يجد لذة ونشوة لا شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل.
ذكر هذا الدكتور عبد الحميد زياد في كتابه (مع الطب في القرآن الكريم).
فإذاً صلاة الفجر -أيضاً- صحة ونشاط وحيوية في أمور واضحة محسوسة، فهذه -كما قلت- بعض هذه الغنائم العظيمة والفوائد الجزيلة التي يفوتها ويضيعها ذلك النائم، وتأمل وتذكر أن هذه الغنائم ليست مرة واحدة في العمر، وليس عليها سحب كما في المسابقات السنوية أو الشهرية، وليس فيها مجال -أيضاً- للتخلف بأن يكون هناك وعد ثم يكون هناك تأخر، كلا، بل هذه غنائم يومية مستمرة ما دامت هذه الحياة الدنيا، وهي مقطوع بها لا يمكن أن تتخلف، ولا أن تتأخر، ولا أن تنقص؛ لأنها من عند الله سبحانه وتعالى، وشواهد الواقع العملي تدل على ذلك، وشواهد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم تدل على ذلك أيضاً.(54/13)
خسارة من ضيع صلاة الفجر أو أخرها عن وقتها
انتقل إلى نقطة مهمة تكمل حديثنا عن هذه الغنائم، وهي ما يقابل ذلك من تفويت هذه الغنائم، فمن فوتها ليست خسارته أنه أضاع الغنائم وفوت المكسب والمربح، وإنما خسر خسارة أخرى عظيمة، ونكب نكبة أخرى خطيرة، وهي التسلط الشيطاني عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام –كما في حديث أبي هريرة - قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة فيقول: عليك ليل طويل فارقد)، فالذي ينام ولا يستيقظ كأنما مكن الشيطان منه، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم -أيضاً- عن رجل نام فلم يستيقظ لصلاة الفجر حتى أيقظه حر الشمس، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مسير له مع بعض أصحابه، فناموا عن صلاة الفجر) وفي بعض الروايات قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بلال: (اكلأ لنا الفجر) يعني: أحرسنا وابق مستيقظاً حتى توقظنا للفجر.
لأي شيء صنع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأنهم كانوا في مسير لهم، وقد بلغ منهم التعب مبلغاً، وقد عملوا في هذا المسير جهداً كبيراً، فخشي إذا ناموا أن لا يستيقظوا، قال بلال: (فظللت مستيقظاً حتى إذا قرب الفجر وأنا مسند ظهري إلى ناقة فغلبني النوم، فلم يستيقظ أحد، حتى كان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، استيقظ من حر الشمس، فقال عليه الصلاة والسلام: تنحوا عن هذا المكان –أي: ابتعدوا عنه- ثم أمر بلالاً -بعد أن ساروا قليلاً وابتعدوا- أن يؤذن فأذن، ثم توضئوا، ثم صلوا ركعتي الفجر، ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح)، رواه البخاري ومسلم.
والشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل عن هذا المكان الذي نام فيه هو وأصحابه حتى فاتهم وقت الفجر، وذكر بعض أهل العلم أن هذا من الأسباب التي هي بقدر الله ولها تعلق بالشيطان، لذلك ابتعد النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المكان وتقدم عنه قليلاً، ثم صلى في غير هذا المكان.
وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص أيضاً يشهد لهذا المعنى، وفيه أن نوم النائم عن صلاة الفجر إلى طلوع الشمس هو بسبب تحكم الشيطان أو تسلطه عليه بقدرة الله سبحانه وتعالى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات فقال: وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول) وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان)، فالذي يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد طلوع الشمس يدرك هذه الخصيصة المتعلقة بالشيطان.
وفي حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الليل أسمع -أي: ادعاء العبد عند الله عز وجل-؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت؛ فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى تصلي الصبح، ثم أقصر-أي: عن الصلاة- حتى تطلع الشمس فترتفع قيد رمح أو رمحين؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار) فالذي ينام حتى يصليها وقت طلوع الشمس فإنه مع أولئك القوم، وإنه -والعياذ بالله- قد دخل فيما يتعلق بهذه الأحاديث من ذكر للشيطان.(54/14)
التطبيق العملي لصلاة الفجر عند السلف الصالح رحمهم الله
ننتقل إلى وقفة يسيرة للتطبيق العملي عند سلفنا الصالح وغنائم الأجر في صلاة الفجر.
فقد ورد في صحيح ابن خزيمة من رواية بعض الصحابة قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن)؛ لأن ترك صلاة الفجر والعشاء من علامة المنافقين، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر والعشاء أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، لذلك كان الصحابة يقولون: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) أي أنه ربما يكون من أهل النفاق، والعياذ بالله.
وأنقل هنا عبارة فيها ذكر لبعض مواقف ومقالات السلف مع نوع عتاب وتحذير مما عليه حال كثير من الناس في التراخي والتهاون في شأن الصلوات عموماً والفجر خصوصاً.
وهذا -وللأسف- لم يعد اليوم مخصوصاً بعامة الناس، بل بخاصتهم، بل بالصالحين منهم، فكثير من الشباب الصالحين يغلب عليهم أنهم يؤخرون الفجر عن وقتها، ولا يشهدونها في المساجد والجماعات، وهذا لا شك أنه من أعظم التقصير، فلعلي أورد هذه العبارة بما فيها من نقل عن السلف حتى نتنبه لما فيها، يقول قائلها: ولست أدري كيف يكون داعية –أي: إلى الله عز وجل- من يتخلف عن الصلوات في الجماعات، لاسيما في الفجر والعصر، مع ما ورد في أدائهما من عظيم الأجر، وما جاء في فواتهما من التحذير من الإثم والوزر، وقد ترخص كثيرون في ذلك، فلا يهمهم التذكير، ولا يعنيهم إدراك التكبير.
ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي حين قال: (إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه).
والحقيقة أن الأمر في هذا يطول، والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.(54/15)
كلام الصحابة رضي الله عنهم في تأخير الصلاة عن وقتها
ولعلنا نشير إلى أن السلف الصالح من هؤلاء التابعين والصالحين إنما أخذوا ذلك عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وحسبي أن أذكر ما أورده البخاري في كتاب الصلاة تحت باب (تضييع الصلاة عن وقتها)، وروى بسنده عن أنس قال: (ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: غيرتم كل شيء- فقيل له: الصلاة- أي: الصلاة ما زالت كما هي عن النبي عليه الصلاة والسلام-؟ فقال: أليس صنعتم فيها ما صنعتم؟) أي: من تأخيرها عن وقتها أو إخراجها عن وقتها إلى صلاتها بعد أداء الوقت.
وفي الباب نفسه روى البخاري عن الزهري قال: دخلت على أنس - وأنس في ذلك الوقت كان قد طعن في السن، فهو ممن تأخرت وفاته من الصحابة- وهو يبكي رضي الله عنه وأرضاه، قلت: ما يبكيك؟ قال: (لا أعرف شيئاً مما أدركت- أي: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت)، فكان أنس يبكي في عهد التابعين.
وهناك قول آخر وهو قول أم الدرداء: ما لك يا أبا الدرداء؟ قال: ما أنكرت من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً وقد تغير الحال).
وكانت عائشة رضي الله عنها وهي في عهدها وفي عهد التابعين وتوافر الصحابة الكثيرين تستشهد بقول القائل: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب والحديث في هذا عن سير السلف رضوان الله عليهم يطول ويطول جداً.(54/16)
الرد على من يتعلل ببعض الشبهات في تأخير الصلاة عن وقتها
يأتي الحديث هنا عن الأوهام والشبهات التي يتعلل بها ذلك النائم، ويضيع بها تلك الغنائم، فبعض الناس يستشهدون بأحاديث وبنصوص أحب أن أوردها وأن أذكرها، وأن أبين أن ما يذكرونه أو ما يتوهمونه غير صحيح، فبعض الناس يجعل النوم على إطلاقه عذراً، وبعضهم يجعل التعب أو المشقة اليسيرة عذراً لتأخيرها عن وقتها وعدم شهودها في الجماعة، وقد كان الصحابة والسلف الصالح بعدهم يصاب أحدهم بالفالج –أي: بالشلل النصفي- فيؤتي به وهو يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف ليصلي مع الجماعة، ولم تكن عندهم سيارات يركبونها، ولا طرق ممهدة يسيرون عليها، ولا فرش موطأة يصلون عليها، ولا مكيفات باردة تهب عليهم نسائمها، ومع ذلك كان الواحد منهم لا يتخلف عن الصلاة، وإذا تخلف عنها شعر بالخطر العظيم والكرب الجسيم، وبكى وندم واستغفر، وربما عزاه بعض أصحابه، ولم يكن الحال كما عليه حال الناس اليوم.
وقد سأل بعض الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن نومهم عن الصلاة فقال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة) رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
وفي حديث علي رضي الله عنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)، وبعض الناس يأخذون هذين الحديثين على إطلاقهما، ويرون أنه ليس في النوم تفريط، والمدلول اللفظي للحديث الأول هو أن النائم إذا فاتته الصلاة لا يعد ذلك تفريطاً منه؛ لأن النوم سلطان ليس بيده، وذلك إذا كان حريصاً على الصلاة ملتمساً الأسباب للاستيقاظ ولشهودها، آخذاً بكل الأسباب المعينة على ذلك، ثم غلبه النوم من غير اختيار منه على ندرة في ذلك، فمن رحمة الله عز وجل ولطفه وعظمة هذا التشريع في هذا الدين أنه رفع الحرج عن المسلمين، وبين أنه ليس على النائم في ذلك شيء، والنوم بالنسبة له ليس تفريطاً بيده، لكن الذي يسهر ويعلم أن السهر سيمنعه من الاستيقاظ، أو يعلم أن نومه ثقيل ولا يطلب من أحد أن يوقظه، أو يتعود ذلك فينام كل يوم ولا يستيقظ إلا في النادر لإدراك صلاة الفجر، ثم يقول: إنه ليس في النوم تفريط فهذا يضحك على نفسه ويخادع نفسه، وفي حديث أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله جل وعلا يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14])، وهذا إذا كان ذلك في الأمر العارض والمرة النادرة الغريبة الشاذة، وليس الأمر المتكرر الذي يقع من الإنسان كثيراً، فإذا حصل مرة من المرات أنه رقد عن الصلاة أو غفل عنها (فليصلها إذا ذكرها)، فهذه النصوص ليست في هذا الشأن، وليست هي فيه من قريب ولا بعيد، وإنما هي بعض الشبهات وبعض الأوهام، وعندما نريد أن ندمغ هذا القائل بالحجة فإننا نسأله: لو كان هذا الوقت المضروب وقتاً للعمل والوظيفة، أو كان وقتاً لسفر ما، أو كان وقتاً لأمر يهمه أو يخصه هل سيسمح لنفسه أن يعتبر هذا النوم عذراً أو تفريطاً؟ وأضيف إلى ذلك أن هذه التشريعات الإسلامية جاءت بكيفيات، ومن هذه الكيفيات الأوقات، قال عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وإن لليل عملاً لا يقبله الله في النهار، وإن للنهار عملاً لا يقبله الله في الليل، والمسلم منضبط، والصلوات وأوقاتها قد وردت فيها أحاديث كثيرة، وجاء فيها توقيت من جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الأحاديث أنه صلى به في أول وقت الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وصلى به في آخر أوقاتها، وقال: (الصلاة بين هذين الوقتين) وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذلك كله، وإلا فلما كان هناك هذه الأهمية للوقت والأعمال، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها)، وقدم ذلك -كما هو في هذا الحديث- على بر الوالدين وعلى الجهاد، وتطبيق النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة يدل على ذلك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس) أي: كان يصلي الصلاة في أول الوقت، وليس إذا أسفر النهار أو بعد أن تطلع الشمس كما يصنع بعض الناس حيث يستيقظ مرة واحدة للدوام أو للمدرسة وأيضاً للصلاة، فيقوم كأنه للدوام لا للصلاة، فيجعل الصلاة ملحقاً ويمضي إلى عمله، فلا يبارك له، وتمحق البركة في الأوقات والأموال، وفي كثير من الأحوال التي نراها من أثر هذا الأمر، نسأل الله عز وجل السلامة.(54/17)
الأسباب المعوقة عن القيام لصلاة الفجر والأسباب المنشطة لها
هنا نقطتان قصيرتان نختم بهما هذا الحديث، وهما: الأسباب التي تقعد الناس عن إدراك صلاة الفجر، ويقابلها الأسباب التي تعين على ذلك: من هذه الأسباب: طول السهر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يكره الحديث بعد العشاء، وطول السهر مظنة غلبة النوم وعدم الاستيقاظ، وهذا أمر محسوس ملموس، ويقابله للاستعانة على صلاة الفجر أو القيام لصلاة الفجر ترك السهر والتبكير في النوم.
والأمر الثاني: كثرة الطعام؛ فإن كثرة الطعام من أسباب كثرة المنام، ويحصل كثيراً أن بعض الناس يكون مدعواً إلى طعام العشاء، أو يأكل طعامه في آخر وقت من الليل، فيملأ معدته، فإذا نام كان اشتغال المعدة بالهضم، فلا يكون ذلك معيناً له على الاستيقاظ.
الأمر الثالث: ترك القيلولة أو بعض الراحة في أثناء النهار؛ فإن هذا أيضاً يجعل الإنسان مرهقاً ومتعباً، فربما غلبه النوم فلم يستيقظ، ويقابله: أن يرتاح ولو قليلاً في أثناء النهار، علَّ ذلك على أن يكون معيناً له على قيام الليل وصلاة الفجر بإذن الله عز وجل.
الأمر الرابع: عدم الأخذ بالأسباب، كأن لا يضبط الساعة المنبهة، أو أن لا يتواصى مع بعض جيرانه أو بعض أهله أن يوقظ بعضهم بعضاً، وأن يوقظ المتقدم منهم من تأخر، فهذا تفريط من الإنسان الذي يعلم أنه لا يستيقظ من نفسه، ثم لا يأخذ هذه الأسباب، فهو مفرط في هذا ويلحقه التقصير والإثم ولا شك؛ لأنه لم يأخذ الأسباب للاستيقاظ، ويقابله: أن يأخذ هذه الأسباب ويجتهد فيها.
الأمر الخامس: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والنية الصادقة في الطاعة، فبعض الناس ينام وليس في نيته أصلاً ولم يخطر بباله ولم يطرأ في نيته أنه يريد أن يصلي الفجر، فهو ينام، والنوم بالنسبة له هو الذي في ذهنه، وفي ذهنه أنه سيذهب غداً إلى عمله، أو أنه غداً مرتبط بموعد ما، ولم تكن الصلاة في نيته ولا في خاطره، أما من أخلص النية لله وتعلق قلبه بأنه يبغي الصلاة ويبغي شهودها ويبغي أجرها فإن الله عز وجل يعينه، ويبلغه مراده، ويحقق نيته بإذنه عز وجل.
الأمر السادس: ترك الأسباب المشروعة من السنن المأثورة، كالنوم على الطهارة، والنوم على الجنب الأيمن، وذكر دعاء النوم، فهذه سنن لها أثر -بإذن الله عز وجل- مع النية والدعاء في الاستيقاظ، فمن نام على غير طهارة، ومن لم يذكر الله عز وجل تسلط الشيطان عليه، وكان ذلك سبباً في عدم استيقاظه لشهود الفجر، وهذا -لا شك- أمر مهم، ويحتاج الإنسان إلى أن يتذكره.
وأن يذكَّر به، وهناك أيضاً أحاديث في هذا، منها ما ورد في قراءة عشر آيات من سورة الكهف.
فهذه أمور من الأسباب المعوقة ومن الأسباب المنشطة -بإذن الله عز وجل- لمن أراد ذلك، وأغلب ما يعين -إن شاء الله عز وجل- هو تذكر الآخرة، وتذكر عظيم الأجر وعظيم الوزر، وتذكر الفضل والثواب، وتذكر الإثم والعقاب، فهذا هو الذي يحرك المؤمن وينشطه لأن يبادر إلى الطاعات، وأن لا يكون مرتكباً للمعاصي، وهذه خصيصة ملازمة للعبد المؤمن، أي: حبه للخير ورغبته في الأجر، وخوفه من العذاب ومن سخط الله سبحانه وتعالى.
وأخيراً أقول: إن صلاة الفجر على وجه الخصوص جعل لها ومعها من الأمور التابعة لها ما فيه -أيضاً- غنائم وأجر آخر غير ما في الفجر وحدها، فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ركعتي الفجر: (خير من الدنيا وما فيها) أي: ركعتي السنة التي قبل الفجر.
فكيف بصلاة الفجر؟! وورد أيضاً فيما بعد الفجر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى الفجر في جماعة، ثم مكث في مصلاه يذكر الله عز وجل حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين كتبت له حجة تامة) أو كما ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا أجر ما قبلها وما بعدها، والقرآن فيها -أيضاً- له خصوصية، كما مر بنا فيما ذكره العلماء في قوله عز وجل: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فهذه أمور نسأل الله عز وجل أن تقوي عزائمنا وتنشطنا لأن ندرك الفجر، وأن لا يكون الحال كما هو في هذه الأوقات، حيث يصلي الناس في سائر الفروض خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك من الصفوف، فإذا جاء الفجر لم يكن في المسجد إلا نحو صفين أو ثلاثة، وكثير من الناس يصلونها في بيوتهم، وبعضهم يصلونها متأخرة عن وقتها، وبعضهم وقد طلعت الشمس، وبعضهم برنامجه اليومي الأساسي أن يصلي الفجر عند وقت خروجه للعمل.
فنسأل الله عز وجل أن يعيننا على سائر الطاعات، وأن يجعلنا من المسابقين والمسارعين إلى الخيرات.
فأهل الخير والصلاح أدعى إلى أن يكونوا أكثر حرصاً والتزاماً ومراعاة لهذه الفريضة.
وهناك كتاب صغير حوى مواقف السلف الصالح في الحفاظ على الصلاة لـ عبد الملك القاسم بعنوان: (والثمن الجنة)، وقد جمع فيه كثيراً من مواقف السلف في المحافظة على الصف الأول والتكبيرة الأولى.(54/18)
الأسئلة(54/19)
حكم التشاؤم بالأماكن
السؤال
بعض الناس إذا جلس في مكان يقول: حلت بنا المصائب ولم تزرنا السعادة.
فما حكم هذا القول؟
الجواب
هذا من التشاؤم المنهي عنه؛ فإن الأماكن والأشياء ليس فيها نفع ولا ضر بذاتها.
وأما ما يتعلق بحديث النبي عليه الصلاة والسلام لما انتقل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر فهذا ليس فيه شاهد؛ لأن هذه أمور عارضة، وأما ما له تعلق وارتباط بهذا الشأن فهو في عقد الشيطان وفي بول الشيطان في أذن النائم عن صلاة الفجر، وقد ورد أيضاً في الحديث: (إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، فإذا غفل عن ذكر الله عاد فالتقمه)، وهذه أمور لابد أن نؤمن بها، وهكذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في الأذان: (يقبل الشيطان حتى يخطر بين العبد وبين نفسه، فإذا سمع الأذان ولى هارباً وله ضراط يسمع، فإذا انتهى الأذان عاد يخطر بين العبد وبين نفسه، فإذا سمع الإقامة ولى وله ضراط) وهذا الحديث أيضاً في الصحيح، فهذه الأحاديث نؤمن بها، ولا نعلم كيفيتها، لكننا لا نتعلق بالشؤم وبهذه الأمور التي لا تصح، ولا تثبت، ولا تتفق مع حسن اعتقاد المسلم.(54/20)
سبب عدم استشعار فضائل صلاة الفجر
السؤال
في بعض الأحيان أقوم لصلاة الفجر ولكن لا أحس طعماً لهذه الغنائم، فما هو السبب؟
الجواب
لعلك لم تتذكرها، والحشد الذي يذكر من النصوص والكلام في ذلك أحسب أنه لا يغيب عن الذهن، لكن جمعه والتذكير بكونه يتعلق بالصحة، ويتعلق بالعمل، ويتعلق بالنشاط، ويتعلق بالأجر، ويتعلق بالآخرة، ويتعلق بالجنة، ويتعلق بالرؤية، ويتعلق بما قبل الصلاة، ويتعلق بما بعد الصلاة هذا كله تذكير، فلعل في هذا التذكير ما يعينك على أن تشعر بهذا الأجر، وأن تحس طعماً، فهذا وعد من الكريم سبحانه وتعالى.
ثم صل وواظب على الصلاة بنية التعبد الله عز وجل، فسينشرح لها صدرك، وترى البركة في الرزق وفي المال وفي الوقت، وترى التوفيق والسداد بإذن الله عز وجل، وهذا أمر لا شك فيه.(54/21)
كيفية قضاء المسلم ليومه
السؤال
يغلب عليّ النوم بعد صلاة الفجر فيفوتني وقت المراجعة والحفظ، فما توجيهكم؟
الجواب
الحقيقة أن أوضاعنا الاجتماعية أوجدت مثل هذا، ونحن قلبنا الأمر، ولو عدلناه مرة أخرى لعادت الأمور إلى نصابها.
الأصل في اليوم أن يبدأ بالفجر، فلو بدأنا بالصلاة، وثنينا بالذكر والدعاء، وإذا أشرقت الشمس صلينا ثم انطلقنا بعد طعامنا إلى أعمالنا ومدارسنا لكان اليوم طويلاً، ولكان الوقت يكفي لهذا العمل، فإذا جاء وقت المساء أو بعد العصر أو بعد المغرب توقفت الأعمال، ويكون الناس بين المغرب والعشاء متفرغين لسماع العلم أو الذكر أو الموعظة، وبعد العشاء إن كانت لهم مصلحة أو سمر في طلب العلم فعلوا ذلك، كما ذكر البخاري وترجم في بعض أبوابه من كتاب العلم، ثم ناموا مبكرين، واستيقظوا قبل الفجر متهجدين، لكن عكسنا الأحوال، فسهرنا في الليل ونمنا في النهار، وإذا ذهبت لتشتري شيئاً من بعض الأسواق فكثير من الناس لا يفتحون متاجرهم إلا بعد التاسعة أو بعد العاشرة، فانقلبت الأمور، والذي يجتهد في هذا لا شك أنه يخالف الناس ويتعب، ولعله -إن شاء الله- يؤجر على قدر مشقته.(54/22)
أهمية المصابرة وترك النوم بعد صلاة الفجر
السؤال
يلاحظ على كثير من الناس أنهم ما إن يسلم الإمام حتى يسلموا ويخرجوا سريعاً، خاصة في صلاة الفجر والعصر، فما نصيحتكم؟
الجواب
كأن هذا الذي يخرج بسرعة يريد أن يرجع إلى النوم، وأقول: إن بعض الناس ينام -أيضاً- في التشهد قبل السلام، حتى إذا سلم الإمام فإنه يريد أن يواصل النوم، وعلى كل حال فالذي يؤدي الصلاة في الفجر في الجماعة أفضل من غيره، ولو نام بعد الفجر فلا شك أنه يفوت بعض الأجر، لكنه خير ممن يتأخر أو لا يشهدها في الجماعة، فهذا إن كان عنده عمل أو يستعين بذلك النوم على خير فلعله -إن شاء الله- يكون قد أخذ أجر الصلاة وشهودها في الجماعة، لكن إن أراد المزيد فليصابر وليصبر وليجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.(54/23)
أهمية أداء صلاة الفجر في المسجد
السؤال
رجل يستيقظ في الفجر، وعندما ينتهي من الوضوء ربما يجد أن الصلاة قد انتهت، فيخجل من الخروج فيصلي في البيت، فما الحكم؟
الجواب
هو يخجل من الخروج من جهة، والشيطان يكسله من جهة ويقول له: صل جماعة في الفروض الأخرى فالناس موجودون.
وأقول: إن كان فيما بعد الصلاة مباشرة فليتحرك ليدرك أحد أمرين: إما أن يدرك مسجداً يعلم أنه يتأخر قليلاً في أداء الصلاة عن بعض المساجد فلعله يدرك الجماعة فيه، أو يبادر إلى مسجده القريب فلعله يدرك ولو واحداً من المصلين، أو واحداً قد صلى فيصلي معه، فيكتب الأجر والخطا إلى المسجد إن شاء الله، ويتعود على ذلك؛ لأنه لو تعود أول يوم تأخر وقال: لعلي إذا وصلت يكون قد سلم الإمام.
أو أدركه قبل أن يسلم.
إذاً أصلي في البيت فسيصير حاله هكذا في المرة الثانية والثالثة، لكن لو تعود أن يخرج فقد يدرك التشهد، وقد يدرك جماعة أخرى.(54/24)
حكم العيش مع قاطع الصلاة أو المتهاون بالجماعة
السؤال
نحن أربعة زملاء في غرفة واحدة، وأحدنا لا يصلي الفجر معنا في المسجد، وقد نصحناه عدة مرات، ولكن دون جدوى، فما حكم العيش معه؟
الجواب
إن كان يصليها ولو في سكنه فلا إشكال إن شاء الله، وإشكاله خفيف، لكن لابد أن تنصحوه ليلاً ونهاراً ومراراً وتكراراً، وأن تنوعوا، وأن تغيروا، وأن تشتدوا معه وأن تلينوا معه، وأن تنوعوا له الأساليب حتى يشرح الله عز وجل صدره ويكون من المصلين، واذكروا له مثل هذه الغنائم والفوائد العظيمة علَّ الله عز وجل أن يشرح صدره لأداء الصلاة.(54/25)
حكم الصلاة في البيت
السؤال
بعض الناس يصلون الفجر والعصر في البيت وقت الصلاة، أي: قبل فوات الوقت.
وفي بعض الأحيان يصلون العصر في جماعة في البيت، وعندما أقول لهم: الصلاة في المسجد يقولون: نحن نصلي في جماعة.
فما حكم هؤلاء؟
الجواب
أحيل الأخ السائل إلى الحديث الذي رواه البخاري وشرحه ابن حجر شرحاً مطولاً، وهو حديث: (هممت أن أمر بالصلاة فتقام) فقد ذكر فيه ثمانية وجوه من الوجوه التي فيها تعظيم وتغليظ لأداء الصلاة في جماعة، والتحذير من ترك الجماعة، حتى قارب فيه أن يقول بما قاله بعض العلماء من وجوب صلاة الجماعة.(54/26)
حكم أداء ركعتي الفجر وقت الإقامة
السؤال
بعض الناس يهم بركعتي الفجر حتى عند سماع الإقامة وتفوته تكبيرة الإحرام، وربما الركعة الأولى، فما الحكم؟
الجواب
( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فإذا أقيمت الصلاة فينبغي أن ندرك الفريضة، والفريضة مقدمة على النافلة مهما عظم أجرها، فيصلي الفرض، ثم بعد الصلاة مباشرة أو بعد شروق الشمس يصلي ركعتين مكان الركعتين اللتين قبل الفجر، وإن شاء الله يكتب له أجرها، ولا يفوت تكبيرة الإحرام والركعة الأولى.
والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/27)
كنوز رمضانية
لقد امتن الله سبحانه وتعالى علينا بشهر رمضان، فهو موسم عظيم للعبادة وعمل الطاعات، وفيه من الكنوز الإيمانية ما لا يعد ولا يحصى، ولا يُقدر بثمن، ولا يُوزن بشيء من حطام الدنيا، ومن هذه الكنوز: تلاوة القرآن وتدبر آياته وأحكامه، وقيام الليل بالصلاة والذكر والتسبيح والدعاء.(55/1)
رمضان والصوم
الحمد لله الذي خضعت لعظمته الرقاب، ولانت لجبروته الصعاب، أحمده سبحانه وتعالى ما تعاقب الليل والنهار، وما ذكره الذاكرون الأبرار، وما تلفظت الألسن بذكره، وما خفقت القلوب بحبه، وما عملت الجوارح بشكره، سبحانه هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السموات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، علم التقى ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فحديثنا عن (رمضان والصوم).
وكنت -وما زلت- أحب دائماً الاستبشار والتفاؤل، والنظر إلى الجانب المضيء في أحوال أمتنا، فذلك مبعث عمل، ومقوي همة، ومنشط عزيمة، غير أن اعتدال الصورة يقتضي أن نعرف الواقع ونصف بعض خلله وشيئاً من انحرافه، أن نرى الصورة على حقيقتها بما فيها مما يؤلم ويحزن، وما فيها مما ينكي ويدمي؛ إذ الأمر لا بد أن يكون على بينة ووضوح تام.
كنوز كثيرة في هذا الشهر الكريم الذي نرتقبه وننتظره، كنوز لا تعد ولا تحصى، وأثمانها لا تقدر بثمن، ولا توزن بشيء من حطام الدنيا وما فيها، غير أننا نريد أن ننظر هل تغتنم هذه الكنوز؟ هل تؤخذ هذه الخيرات؟ هل تجنى تلك الثمرات؟ هل يتغير المسار؟ هل تتبدل الأهواء وتختلف الآراء؟ هل تكون العودة من بعد الغفلة؟ وهل يكون التصحيح من بعد الخطأ؟ وهل يكون إقرار بالذنب واعتراف به؟ ليس ذلك على مستوى الفرد وحده، بل على مستوى الأمة بمجموعها.
إننا اليوم نشهد أحداثاً متسارعةً تتجه تماماً في عكس الطريق الذي يدعونا إليه كتاب الله، وترشدننا إليه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(55/2)
كنوز رمضان
ونحن ننتظر هذا الشهر الكريم، لو وقفنا مع بعض دلائله وخصائصه ومعانيه، وقارنا هذا الواقع الذي نعيشه سنرى -ولا بد من أن نرى، ولا بد أن نكون صرحاء في كشف ما ينبغي ويجب أن يرى- سنرى شيئاً من التناقض والتعارض، وسنرى أن الكنوز يقابلها جحود أو صدود، ولعلنا لا نطيل الحديث في هذه المقدمات لنخلص مباشرةً إلى تلك الكنوز.(55/3)
تلاوة القرآن الكريم
أولاً: كنز القرآن والتلاوة.
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته طعامه وشهوته.
ويقول القيام: أي رب! منعته النوم.
فيشفعان فيه) هذه الخصيصة لهذا الشهر التي تذكرنا بكتاب الله عز وجل وبدوره في حياتنا وبواجبنا نحوه، وتذكر بأحكامه، وبخفقات قلوبنا، وخطرات عقولنا، وكلمات ألسنتا، وحركات جوارحنا، وأساس علاقاتنا ومعاهدتنا واتفاقياتنا، وسائر جوانب حياتنا.
لم ينزل القرآن لتترطب به الألسنة فحسب، ولا لتشنف الآذان بحسن تلاوته فقط، ولا لتدمع العيون تأثراً ببعض معانيه، ثم تمضي ساهيةً لاهية، إنما أنزل ليغير واقع الحياة وفق منهج الله، ويغير النفوس في أعماقها والقلوب في سويدائها على ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى، ونحن نعلم أن القرآن إنما أنزل للعمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، ونعلم الشكوى التي جاءت في آيات القرآن: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، كنز عظيم تذكرنا به هذه الأيام المقبلة على ذلك الشهر الفضيل، وتذكرنا به أم المؤمنين عائشة يوم تقول: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)، فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر ما شرح له فيه، ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحيي منه، كلمات قالها القرطبي في مقدمة تفسيره، ننتقل منها لندرك أن الواقع فيه شيء من المناقضة العجيبة، والمفارقة الغريبة، والصدود الذي لا يبعد أن يتصف به بعض المسلمين بهذا الهدي الوارد في كتاب الله عز وجل، ونحن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد بين لنا الغاية فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]، وقال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121]، فمن أي الفريقين أنت؟ استمع لـ ابن مسعود رضي الله عنه وهو يقول في هذا المعنى: (إن حق تلاوته أن يحل حلاله، وأن يحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل).
وعن ابن عباس: ({يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]: (يتبعونه حق اتباعه).
وننظر إلى هذا الواقع على مستوى الفرد والأمة فنرى ما نرى من أمور ظاهرة جلية، فالهجر بأنواعه كلها يكاد يكون ظاهراً جلياً، فلا القرآن يتلى، ولا آياته تقرأ على الوجه الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا الحفظ في القلوب كما ينبغي عند جمهور المسلمين، وأما التدبر والتفكر والاتعاظ والاعتبار فدون ذلك بمراتب، وأما العمل والالتزام والتطبيق فدونه كذلك، فضلاً عن التعليم والدعوة والنشر والجهاد لنشر أنور القرآن وبيان معانيه، لست أقول ذلك تأييساً، ولا أقوله نظراً للصورة السوداء دون البيضاء، غير أننا اليوم نحتاج إلى مثل هذه المفارقة والمصارحة التي ذكرها لنا علماؤنا وأئمتنا في الصلة بكتاب الله عز وجل، فهذا الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: (حامل القرآن- حامل رسالة الإسلام- لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا أن يسهو مع من يسهو، ولا أن يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن) فهل ذلك ظاهر في واقعنا وحياتنا؟ ولنتحدث أيضاً بصورة أجلى وأوسع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أليست هذه آيات قرآنية؟ أليست نداءات إيمانية؟ أليست أوامر ربانية؟ أين هي في واقع مسيرة الأمة اليوم وهي تسارع إلى اعتبار الأعداء أصدقاء وإلى اعتبار المحاربين المعتدين من اليهود وأحلافهم أصحاب قلوب رحيمة وأصحاب اتفاقيات ومعاهدات للصلح والسلم؟ بل نرى ما هو أكثر من ذلك، نرى التهاوي والتسارع إلى المصطلح البغيض الذي كله شر وضر يجوس خلال الديار، وينخر في العقول والأفكار، ويدمر في قوة الأمة وتماسكها، التطبيع وما أدراك ما التطبيع؟ القرآن يدعونا أن نتجه إلى أمتنا، إلى إخواننا، إلى توحد صفوفنا وترابط قلوبنا وتماسك صفوفنا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، ويوم تتقطع الأوصال بين بلاد العرب وبلاد المسلمين، وتمد الجسور وتفتح الأسواق بيننا وبين أعدائنا الذين ما زالوا إلى يومنا هذا تنطق بالعداوة وتصرح بها ألسنتهم، وتظهر في أعمالهم، والدماء ما زالت تسفك، والدور والبيوت ما زالت تهدم، والأرض ما زالت تسلب، والأعراض ما زالت تغتصب، بل الأمر متضاعف متزايد لا في رقعة هي قلب قضايانا الإسلامية في فلسطين، بل فيما وراء ذلك، في العراق وغير العراق، ثم من بعد ذلك نستقبل الشهر لنستعد بمزيد من التلاوة والقراءة دون عقل مفكر، ودون قلب متعظ، ودون سلوك متغير، ودون أمة تعود إلى الله عز وجل وتحقق المعاني القرآنية التي جاءت في هذا الكتاب العظيم.
أي أمر أمر هذا؟ أين غيبت العقول؟ وأين ماتت القلوب؟ لقد ذلت النفوس يوم أعرضت عن كتاب الله وعن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لنستمع إلى هذا القرآن الذي ننتظر شهره ونستعد لننفض الغبار عن المصاحف ونتلو الآيات دون ما هو أكثر من ذلك، لنستمع إلى قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:169 - 170]، تأمل الآيات التي تروي لنا شأن بني إسرائيل، وكأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتأمل دلالة الآيات نستحضره، ويهجم علينا نصه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
من هؤلاء؟ هم الذين يسير بعض أبناء أمتنا خلفهم حذو القذة بالقذة، الخطوة وراء الخطوة، والتصريح هو رجع لذلك التصريح، والموقف هو تأييد لذلك الموقف.
تعجب الصحابة أهل الإيمان واليقين وأهل العزة والقوة فقالوا: من يا رسول الله؟! اليهود والنصارى؟ فما زاد سيد الخلق على أن قال: (فمن) أي: من غيرهم؟ ألسنا نرى اليوم ذلك؟ {وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169]، {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة:9]، أرادوا أن يأخذوا بدل منهج القرآن والاستمساك به شئوناً دولية وعولمةً عالمية، ومعاهدات واتفاقات ومنظمات لا تغني من الله شيئاً، وكلها لا تساوي حرفاً من كتاب الله عز وجل، ومع ذلك تقدم عليه وينظر إليها ويتعلق بها وتشترى ويستبدل القرآن بها.
تأمل هذا المعنى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ} [الأعراف:169] تتكرر المساومات وتتعدد الجولات، وفي كل مرة تزداد مبادرات، والأمر سائر: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169]، هاتوا ما عندكم، قولوا ما لديكم، خطوا الطريق ونحن نسير، ارسموا ونحن نطبق كأن حالنا يصف هذا المعنى تماماً: {أََلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169]، أليسوا يقولون اليوم: إن هذا الذي يفعلونه لا أقول فيه: إنهم يقولون: لا يتعارض مع الإسلام بل يقولون هو روح الإسلام، إسلامنا دين المحبة والسلام، إسلامنا دين المودة والوئام، إسلامنا دين الجسور المبنية، والصلات الممدودة، إسلامنا لا يميز بين عقيدة وعقيدة، إسلامنا لا يفرق بين دين ودين، إسلامنا لا يجعل مزيةً لملة على ملة.
وأين ذلك من كتاب الله؟ وأين هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ عندما نقول: إن ثمة كنوزاً وخيرات فثمة صدود وجحود، وثمة إعراض وإنكار، فينبغي لنا معه أن نقر به وأن ننظر إليه، وأن نتأمل فيه، وأن نصحح موقفنا منه لنبرأ ونبرأ ذمتنا أمام الله جل وعلا؛ فإن كل واحد مسئول بقدر ما عنده من قدرة وطاقة: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، والنبي صلى الله عليه وسلم أوجز فقال (ولكن من رضي وتابع) لا تقل: ليس لي في هذا يد، وليس لي به شأن، وليست لي فيه قدرة أقل الأمور أن تكون من أمرك على بصيرة، ومن دينك على بينة، وأن تقول الحق، وأن تدخل في عموم قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170]، وزيادة المبنى دليل على زيادة المعنى، لم يقل: (يُمْسِكُون) بل: {يُمَسِّكُونَ} [الأعراف:170] أي: يحرصون أشد الحرص، ويتشبثون أقوى التشبث بكتاب الله، لا يحيدون عنه وإن حادت الدنيا كلها، ولا يغيرون نهجه وإن تعددت المناهج والآراء مهما كان الأمر، كما كان على ذلك صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وكما شهدت اللحظات الأخيرة من حياة عدد وافر منهم يوم قال أنس بن النضر في يوم أحد: (واه لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد(55/4)
الصلاة والقيام
وكنز آخر في هذا الشهر الكريم الذي ننتظره يحتاج إلى تأمل، وهو كنز الصلاة والقيام.
فهي سمة بارزة، وشعيرة ظاهرة، وأمر ملفت يميز هذا الشهر الذي ننتظره، كثرة الصلاة، عمران المساجد، المسارعة إلى الصفوف الأولى، إحياء الليل وقيامه بالتراويح، واستمرار ذلك في الأواخر إلى انشقاق الفجر، صورة بديعة رائعة تدلنا على أثر في القلوب والنفوس، وعلى تغير ينبغي أن نحرص عليه وأن نعمقه ونزيده، وأن نثبته في واقع حياتنا، ذلك الأثر المهم {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ولست أريد أن أنظر إلى الجانب المظلم، ولكني أشير إلى هذه الوقائع، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فهل واقع الأفراد وواقع حياتنا كمجتمعات وواقع أمتنا كدول ورقعة مترامية الأطراف يشهد هذا الانتهاء عن المنكر سواء في الأمور الشخصية أو في الأمور الكلية؟ هذا موضع تأمل وتدبر نحتاج إليه، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، المحافظة تعني القيام بالأركان، والأداء للواجبات، والحرص على السنن، والإتيان بجوهر العبادة خشوعاً في القلب وتدبراً بالعقل وخضوعاً بالجوارح واستمراراً للتطهر، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالو: لا يا رسول الله.
قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، ومرةً أخرى نقف مع قوله جل وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
وإن الأمر هنا دلالة واضحة على أن مواجهة الكروب ومجابهة الخطوب لا تكون إلا بالرجوع إلى الله، والاستعانة به، ومد حبال الوصل معه، ورفع أكف الضراعة إليه، وإخضاع الجباه سجوداً فيه التعظيم والخضوع له، ليس كلما ادلهمت الخطوب لجأنا إلى الشرق والغرب، والتمسنا أنظمةً دولية ومعاهدات عالمية؛ فإن هذا المسلك هو الذي فرق الأمة وأضعفها، وجعلها في ذيل القافلة، وجعلها في غاية الذل، يطلب منها اليوم أمر ويقال: هو المنتهى.
فإذا أجابت جاء بعد الأمر ثان وثالث، وأصبحت الأمور كأن لا تصور لمنتهاها، وكأننا في يوم من الأيام -لا على سبيل المبالغة، ولكن على سبيل المعنى الذي يصور المآلات الخطيرة- قد تقرأ فيه التوراة في المحاريب، لشدة التغلغل الذي يسري في أوطاننا وديارنا وعالمنا الإسلامي إلا ما رحم الله عز وجل، ولعلنا نتذكر هذا المعنى عندما تستمع لقوله جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة:91]، وليس بالضرورة أن ننظر إلى الخمر المعروفة، فاليوم خمور مختلفة، خمر العولمة، خمر العصرانية، خمر الزمن الذي لا بد من مراعاته، والظروف التي لا بد من موفقتها، هذه خمر لعبت برءوس الكثيرين فصاروا يتكلمون ويقررون ويحكمون بأمور تتناقض وتتعارض مع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعلي أختم هذا الكلام بتذكير لنفسي ولك ننظر فيه إلى الفوارق الكبيرة.
فقبل نحو خمسة عشر عاماً- ولعل الزمان يعتبر ليس بقصير- وقفت في خطبة ذرفت فيها دمعة حزن من أجل فلسطين، يوم كان مؤتمر مدريد، واليوم لعلي أجد أن الدمعة شحيحة ليست كذلك الوقت، وأجد أن حزن قلبي وأسى نفسي لا يبلغ مبلغه كما كان؛ لأن التدجين والتهجين والتطبيع يسري إلى نفوسنا، لم نعد اليوم نسمع في الأخبار تلك المصطلحات، مصطلح (العدو)، ومصطلحات الهجوم، ومصطلح (الكيان الغاصب)، أصبحنا اليوم نستمع إلى أمور أخرى، وأصبحنا نرى صوراً ما كنا نراها، حتى ألفت ذلك العيون وتقبلته النفوس.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وغيرتنا وعزتنا، وأن يقينا الشرور والآثام، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.(55/5)
الذكر والدعاء
أخي الحبيب! أوصيك ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ورمضان موسم التقوى العظيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة وحصن حصين من النار) رواه أحمد في مسنده.
تقوى الله سبحانه وتعالى هي لب وجوهر تلك الفريضة العظيمة التي نرتقبها وننتظرها.
تقوى الله عز وجل -كما أثر عن علي رضي الله عنه- هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
ولما سئل كعب عنها قال: (أرأيت لو كنت تسير في أرض ذات شوك فما أنت صانع؟ قال: أشمر وأجتهد.
قال: فتلك التقوى).
هذا المعنى العظيم، وهذه الغاية الجليلة تستدعي منا أن نتأمل أكثر وأكثر؛ فإن في خصائص هذا الشهر أموراً كثيرةً.
فيه القرآن، والصلة به، وفيه القيام والإكثار منه، وفيه كذلك كنز الذكر والدعاء، فلا أظننا نشهد عنايةً بالدعاء وكثرةً فيه في أيام مثل رمضان، نسمعه في دعاء القنوت، ونرفعه في وقت الأسحار بعد السحور، ونكاد لا نغفل عنه في كل يوم وليلة من ليالي شهر رمضان، وفي سياق آيات الصوم وفي أثنائها وفي ضمنها جاء قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
إن الدعاء -كما ذكر بعض السلف- إذا سد طريقه بالمعاصي لم تكن له إجابة، وسنة الله عز وجل ماضية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بموجبات قبول الدعاء، فقال لـ سعد: (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)، وفي الحديث المشهور: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!)، وكيف نحن والحرام يدخل إلينا ويجوس في ديار المسلمين من خلال كثير وكثير من الصور والأحوال، وآخرها ذلك التغلغل الذي يدمر بلادنا وديارنا، ونحن نعلم أن بلاداً من بلاد المسلمين تصنع الخمور وتعتبرها تجارة.
وأن بلاداً من بلاد المسلمين تصرح بالخنا والفجور ومهنة الدعارة.
وأن بلاداً من بلاد المسلمين فيها كذا وكذا، والبلاد التي نأت بنفسها عن ذلك تطرق اليوم أبوابها، وتأتيها من كل حدب وصوب رسل الغواية لتدخلها فيما نأت به عن نفسها، ولتزلق أقدامها في الهاوية التي وصلت إليها غيرها، فنسأل الله عز وجل السلامة والحفظ، والله سبحانه وتعالى يحفظنا إذا حفظناه، وينصرنا إذا نصرناه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وصدر المصطفى صلى الله عليه وسلم وصيته لـ ابن عباس بقوله: (احفظ الله يحفظك)، فمن أراد الأمر والغاية والثمرة فطريقها معلومة ومنهجها واضح، والآيات تضيء، والأحاديث ترشد، والسنة والسيرة تبين، والتاريخ ينطق ويشهد، والواقع يثبت ويدلل، فعسى الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلا، وأن يمسكنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا نهج نبينا.
اللهم! اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار سلفنا الصالح مقتفين، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، وأعنه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم! احفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها، واحفظها -اللهم- من عدوان المعتدين يا رب العالمين.
اجعل -اللهم- بلاد المسلمين بلاد أمن وطمأنينة وصحة وسلامة وعافية، ورد المسلمين -اللهم- إلى دينك رداً جميلا، وخذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا -اللهم- لما اختلف فيه من الحق بإذنك، واجعلنا -اللهم- هداةً مهديين مهتدين هادين يا رب العالمين.
اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها يا رب العالمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقوِ شوكتهم، وانصرهم -اللهم- على عدوك وعدوهم عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! ارحم إخواننا المستضعفين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، اللهم! امسح عبرتهم، اللهم! امسح عبرتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادةً لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنةً لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، وفق -اللهم- ولاة أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، وارزقهم البطانة الصالحة التي تحثهم على الخير وتعينهم عليه يا سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(55/6)
الكنز المفقود
يبحث كثير من الناس ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً عن السعادة، وربما تنفق كثير من الأموال طلباً للسعادة، وتعس من ظن أن السعادة هي في المأكل والمشرب والملبس إن السعادة هي الكنز الذي فقده كثير من الناس، وبحثوا عنه في غير مظانه، فليعلم هؤلاء أن السعادة كل السعادة في طاعة الله في القرآن والسنة في قراءة سير السلف الصالح، عندما يعمر الإيمان القلوب، وتسعد النفوس وإن جاعت البطن يوماً وشبعت يوماً.(56/1)
البحث عن السعادة
الحمد لله جعل الإيمان أماناً ونوراً للقلوب، وجعل الإسلام سلامةً وشرحاً للصدور، وجعل الهداية سعادةً ونعيماً للنفوس، ووعد أهل التقوى بسعادة الدنيا وبنعيم الجنان، أحمده سبحانه وتعالى على توالي نعمه، وتعاظم فضله، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، تبارك اسمه، وجل قدره، وعم نواله، وكثرت أفضاله سبحانه وبحمده، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا، حمداً كثيرا ًطيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصر به من العمى، وكثرنا بدعوته من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وهدانا من بعد ضلالة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خيرٍ إلا وأرشدنا إليه، وما من شرٍ إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يتعب كثيرٌ من الناس نفسه ليله ونهاره، ويشقى صبحه ومساءه، ليجمع من عرض الدنيا ما يكثر به ماله، وما يعظم به رصيده؛ طلباً للسعادة والهناء في الدنيا، ويذل كثيرٌ من الناس نفسه، ويحكم كيده، ويدبر أمره لينال المنصب والجاه، أو ليحوز النفوذ والسلطان؛ طلباً لسعادةٍ وعزةٍ وعظمةٍ في هذه الحياة، وكثيرون آخرون يتفننون ويبتكرون، ويقبلون ويدبرون من أجل أن يفوزوا بقلب فتاة حسناء؛ طلباً للذة من لذات هذه الحياة.
ويضرب الناس شرقاً وغرباً، ويذهبون يميناً وشمالاً، كلهم في هذه الحياة يبغى السعادة والهناء، يبحث عما ترغب فيه نفسه، ويطرب له قلبه وتسكن إليه جوانحه، وتطمح له آماله، وكثيرٌ من هؤلاء قد يحوزون من الأموال الشيء الكثير، وقد ينالون من الجاه أعظمه وأكثره، وقد يفوزون من لذائذ الدنيا بأحلاها وأجملها، ومع ذلك ترى في صدورهم حرجاً، وترى في نفوسهم غماً وهماً، وترى على قلوبهم قتراً وظلماً وظلاماً، لا يجدون طعماً للراحة، ولا يجدون لذةً للحياة إذا كانوا بعيداً عن الإيمان بالله عز وجل، وعن لذة الطاعات، بعيداً عن سعادة العبودية لله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124] آيات قلائل من كتاب الله عز وجل تفسر سر هذا البحث الدءوب عن هذا الكنز الثمين في هذه الحياة العريضة من أولئك البشر الذين لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] فتش في شرق الأرض وغربها، اذهب إلى أي بقعة من بقاع الأرض، ابحث في أي جنسٍ من الأجناس ستجد القاعدة القرآنية الربانية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] والتعبير القرآني بصيغة المضارع الذي يتجدد دائماً، والحكم القرآني مطرد لا يتخلف، والوعد الرباني ثابتٌ لا يتغير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] والتنكير مع التنوين للتعميم، أي: معيشة في كل جانبٍ من جوانب الحياة، معيشة اقتصاد، معيشة اجتماعٍ، معيشة سياحة، كلها ستكون ضنكاً في كل صور الضنك التي يراها الناس أو لا يرونها، يلمسونها ويشعرون بها أو لا يلمسونها.
وهكذا يجد المؤمن أن عنده السر الذي يفقده الكثيرون، والضياء الذي يخبط لفقده الكثيرون، والنعمة التي قال عنها أسلافنا: لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، نعمة الإيمان، ولذة الطاعة، وحلاة العبودية، نعمة الاستقامة أمرٌ عظيمٌ نغفل عنه، وربما لا نقدر قدره، والناس يتيهون بحثاً عنه وهو بين أيدينا، كتابٌ تتلى آياته من الله سبحانه وتعالى، فيه الهدى والنور: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] وسنةٌ للمصطفى صلى الله عليه وسلم تشرق أنوارها في كل جانب من جوانب الحياة، وتضيء معالمها كل درب من دروب هذه الدنيا بهديٍ تام كامل، وسيرةٍ نقية عطرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي) هذا الذي بين أيدينا هي الكنوز والمفاتيح التي بها تشرق أنوار القلوب، وتنشرح الصدور، وتضاء النفوس وتطمئن، وتهدى العقول، وترشد البصائر، فما بال أمة الإسلام يعتريها ما يعتريها مما ألم بغيرها ممن أعرض عن ذكر الله عز وجل؟ إنه بقدر بعدها عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدر تركها لمنهج السعادة الربانية الذي رسمه الله عز وجل وشرعه في هذا الإسلام، وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: أملٌ هفت إليه قلوب الناس في الزمن التليد أملٌ له غور القديم كما له سحر الجديد! أملٌ إليه سعى الملوك كما إليه رنا العبيد! وتزاحموا كالهيم يدفعها الصدى عند الورود وتساءلوا عنه ولكن من يجيب ومن يفيد؟ فمشرقٌ ومغربٌ وكلاهما يرجو البعيد عادوا وكل سؤالهم أين السعادة والسعيد؟ قالوا السعادة في الغنى فأخو الثراء هو السعيد قالوا السعادة في النفوذ وسلطة الجاه العتيد قالوا السعادة في الغرام الحلو في خصرٍ وجيد قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود! قل للذي يبغي السعادة هل عملت من السعيد؟ إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد هذي العقيدة للسعيد هي الأساس هي العمود من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد من عاش في ظلال الإيمان، وفي طاعة الرحمن، وفي نصر ة الإيمان، فهو الذي يكون سعيداً بإذن الله عز وجل.(56/2)
آثار الإيمان والطاعة في تحقيق السعادة
لنلتفت إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، لنرى إشراقات الأنوار التي تدلنا على سعادة القلوب وسكينة النفوس، التي يبحث عنها الناس اليوم وقد رأيت أثر الهموم على وجوههم سواداً وظلاماً، وعلى أجسامهم كهولة وانحناء، وفي كلماتهم تضجراً وتبرماً، وفي أعمالهم نزقاً وطيشاً، ما وجدوا برد اليقين في قلوبهم، ما وجدوا لذة الحياة الإيمانية في نفوسهم.
فهذه آيات القرآن تشرق علينا حتى تبدد هذه الظلمات التي تكاثفت من أثر الشهوات والشبهات، ومن أثر البعد عن أنوار القرآن وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
سعادة الحياة لا تكون إلا بالعمل الصالح، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمؤمن يجد السعادة لأن له وجهة واحدة، وغاية واحدة، وعبودية واحدة لا تتفرق مشاعره، ولا تضطرب خفقات قلبه بمشاعر متباينة كغيره من الذين لا يخافون الله فيخافون من كل شيءٍ سوى الله، ولا يتعلقون بالرجاء لله فيرجون كل أحدٍ سواه، فيبقون في هذه الحياة في اضطراب.
أما المؤمن فأساس سعادته إيمانه بربٍ واحد، له يخشع، وله يخضع، وله يحب، ولأجله يبغض، وفيه يوالي، وفيه يعادي، فهو قد توحدت جهته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:162 - 163].
لا شيء في هذه الحياة عند المؤمن إلا وهو لله، فالمال مالُ الله والولد والذرية من رزق الله وكل شيءٍ في هذه الحياة ينبغي أن يجعله طاعة وعبوديةً لله، فتنتظم الحياة كلها، ليس فيها دنيا وأخرى متباينتان مختلفتان، وإنما هما متوائمتان متلاقيتان إحداهما يعمل فيها ويحرث، والأخرى يجني فيها ويحصد بإذن الله عز وجل، فتكون نفسه مطمئنة، وقلبه قد توحد مع وجهته ولم شعثه، ولم يعد له في هذه الحياة من قصد وغاية إلا رضا الله سبحانه وتعالى.(56/3)
تحقيق الأمن والطمأنينة
وثانية عظيمة من عظائم السعادة، وكبيرة من كبائر أسبابها وأسسها: الأمن والطمأنينة: لأن صاحب المال والجاه إذا كان يعيش في خوف ورعب لا يسعد بماله ولا بجاهه، بل ربما يطلب سكينة ساعة وهدوء يوم ولو بذل في ذلك ماله كله، والمؤمن قد وعده الله عز وجل في دنياه وأخراه بالأمن والطمأنينة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64].
وفي الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) حتى قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، يكون ربانياً يحظى بوعد الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] يحظى بتحقيق وعد الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ألم نر الصحابة رضوان الله عليهم وهم كوكبة نجوم حول القمر الساطع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقابلون المصاعب والشدائد وقلوبهم أثبت من الجبال الشوامخ، لا يهتزون ولا يخافون لأن الإيمان قد سكب في قلوبهم أمناً وطمأنينة، والله سبحانه وتعالى قد قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ترى طمأنينة المؤمن، وسكينة نفسه، وهدوء باله من أثر إيمانه وتعلقه بربه سبحانه وتعالى.
ألم نر تلك المواقف العصيبة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم من مثل يوم الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] في ذلك الموقف العصيب يكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويبشر أصحابه، فتنزل بشرياته طمأنينة على القلوب، وأمناً وسكينة في النفوس، فلا تجد المؤمن جزعاً ولا هلعاً ولا خائفاً؛ لأن أمن الإيمان هو أعظم أمن يمكن أن يكون، لا يمكن أن يكون الأمن بالقوة ولا بالشرط، ولا بالأجهزة، ولا بالمتابعة، وإنما الأمن أمن الإيمان الذي يراقب فيه العبد ربه، ويخلص فيه لمولاه، ويسعى فيه لرضا الله سبحانه وتعالى، فتعود الحياة كما كانت في عهد أسلافنا رضوان الله عليهم حياة أمن وأمان، وسلامة وإسلام، ليس فيها هذا العدوان، ليس فيها هذا الإجرام، ليس فيها هذا الكيد والمكر السيئ الذي امتلأت به دنيا الناس اليوم، فلم يعد أحدٌ يطمئن إلى جار، ولا يأمن إلى صديق، فضلاً عن أن يركن إلى غريب أو بعيد، ولذلك تبقى الحياة شعلة من نار، وتبقى جمرة من شقاء عندما يفقد الناس الأمن، وعندما يفقدون الطمأنينة، ولا أمن إلا في ظلال الإسلام، وبتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].(56/4)
انشراح الصدر وسكينة النفس
وثالثة هي من أمور السعادة والهناء، وهي انشراح الصدر وسكينة النفس التي يشعر بها الإنسان بعيداً عن الأمور التي ذكرناها في شئون الأمن، قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].
هذه أيضاً ربما لا يشعر بها كثير من أهل الإيمان والإسلام لأنهم قد ألفوها، لكنهم لو رأوها في الذين اضطربت نفوسهم، وحرجت صدورهم، فضاقت الدنيا رغم سعتها في وجوههم، وأظلمت رغم أنوارها في أعينهم، فعاد الواحد منهم ينتحر كما نرى في دول الكفر، أو يقتل أبناءه، أو يقتل زوجته، أو ما نرى من صور الاضطراب والحيرة وضيق الصدر والتبرم؛ لأن هذا الذي قد بعد عن الإيمان وطاعة الرحمن فقد أساس سكينة نفسه، فلا يعود منتظماً في تصرفاته، ولا يعود منطقياً ولا فطرياً في أفعاله، ولذلك قد آتى الله عز وجل أهل الإيمان النور الذي يبعث الضياء في الصدر والقلب، فيكون حينئذ على بينة من ربه قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] الذي في الظلمات لا بد أن يخبط خبط عشواء، لا بد أن يقع في حفرة، لا بد أن يأتي ليضرب فتقع ضربته في غير موضعها، بل ربما ترتد إليه، وهكذا يقع حال المتخبط بعيداً عن الإيمان.(56/5)
حب العبادة وأداء الطاعة
ورابعة أيضاً: هي أن الطاعة تجر الطاعة وراءها، وأن العبادة تقود إلى عبادة بعدها، وأن الهداية تفتح أبواباً أكثر من الخير والهدى والنعمة الربانية التي يسوقها الله عز وجل لأهل الطاعة والهداية والاستقامة قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76] كلما أقبلت على الله زاد عطاء الله لك، كلما أقبلت على الطاعات شعرت بلذةً وسعادةً وهناءةً في قلبك وفزت بها، كما يقبل الذي قد بلغ به العطش مبلغاً على الماء العذب البارد وهو إليه مشتاق وله محب، وهو من أجله يمكن أن ينتظر وأن يغالب الصعاب حتى يبلغ هذه الغاية.
وحسبنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبين لنا تلك اللذة العظيمة عندما يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وعندما كان ينادي بلالاً: (أرحنا بها يا بلال! أرحنا بها يا بلال!) أرحنا بهذه الطاعات من عوبة الحياة ومشكلاتها، من عوارضها وشواغلها، اجعل لنا واحةً في هذه الصحراء نتفيأ ظلالها، ونشرب ماءها، ونقطف ثمارها، فتتجدد حياتنا، ويزداد إيماننا، ويعظم يقيننا، ويزداد اندفاعنا نحو الخير، وتتوالى أعطيات الله عز وجل من الهداية: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] لتعلم أنك حينئذٍ في عطاءْ من الله، وفي نعمة من الله ما تزال تتجدد لعجز غيرك من أهل الخسران: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178].(56/6)
فتح أبواب الرزق
وخامسةٌ يفكر فيها الناس كثيراً، ويرونها المقياس الذي قد غلب على عقول كثيرين من الناس، وهي الأمور المادية المحسوسة، من المال والأبناء والزوجة، ونعيم هذه الحياة، أين الطريق إليه؟ وهل كتب على المؤمن أن يبقى محروماً في هذه الدنيا حتى يؤتى النعيم في الآخرة؟ أهل الإيمان لا ينظرون إلى هذا، ومع ذلك جاء الوعد الرباني الذي جعله الله عز وجل سنةً في هذه الحياة، إن فمورد الرزق وطريقه، وأبواب هذه الحياة الدنيا إنما تستفتح بطاعة الله عز وجل، إن مقاليد الرزق هي الطاعات والعبادات لله عز وجل، ألم نسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه كما في صحيح البخاري: (من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)، ربط هذا بهذا، وقال الله عز وجل كما في قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12].
إن الطاعة من أبواب الرزق العظيمة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، هكذا يبين لنا القرآن هذه القاعدة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، لو أن الناس تعلقوا بالله، وأخلصوا لله، وأيقنوا بوعد الله، وجعلوا وقتهم وجهدهم وطاقتهم في طاعة الله، ولم يرتكبوا ما حرم الله؛ لفتح لهم الله عز وجل من أبواب الرزق ما لا يحتسبون؛ لأن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
ونعلم أيضاً أن أبواب الرزق ليست في كثرتها، وإنما في بركته، فكم من كثيرٍ ممحوق البركة لا ينفع ولا يفيد! وكم من قليلٍ يجعل الله عز وجل فيه البركة! ويرزق العبد المؤمن معه الرضا بما قسم الله له فيكون هناءةً على هناءته، وسعادة على سعادته.
فافهم أخي المؤمن وتنبه إلى ما وعد به الرسل أقوامهم عندما يوجهون إليهم دعوتهم، كما قال نوح، وكما قال غيره في قوله عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، وقال جل وعلا: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52].
هكذا أيضاً ينبغي أن ندرك أن حظ هذه الحياة الدنيا إنما يدرك بالطاعة والإيمان، فنسأل الله عز وجل أن يعطينا أعطيات الإيمان، وأن يفتح لنا أبواب العطاء من خلال الطاعة، ومن خلال العبودية والإخلاص لله سبحانه وتعالى.
اللهم إنا نسألك أن تفتح لنا أبواب الخير والرزق، وأن تجعل قلوبنا بالإيمان مطمئنة، وأن تجعل صدورنا بالإسلام منشرحة، وأن تجعل نفوسنا بما أعطيتنا راضية طامعة.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(56/7)
من السعادة شكر النعمة والصبر على المصيبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى أن يكون الإنسان متصلاً بالله سبحانه وتعالى، مبتغياً رضاه، داعياً إلى الطاعة والعبودية، مبتعداً عن كل ما يسخط الله سبحانه وتعالى حتى يمن الله جل وعلا عليه بطمأنينة قلبه، وسكينة نفسه، وانشراح صدره، وهدوء باله، وبلوغ أمانيه ومآربه في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
ومن السعادة ما هو متعلق بتفريج الهموم، وتنفيس الكروب، وما هو متعلق بدفع ما يقضي الله عز وجل من أمور الحياة من مصائب أو متاعب، والمؤمن في هذا متميز بأن عنده من إيمانه ويقينه بقضاء الله وقدره، ورضاه بما يكتبه الله سبحانه وتعالى عليه؛ ما يجعل المصائب تتحول عنده بإذن الله عز وجل إلى أمور يحمد الله عز وجل عليها، ويحتسب أجرها عند الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)، المؤمن المتعلق بالله لا تكون عنده هذه العوارض أمراً مغيراً بصلته بالله، أو أمراً يجعله يعترض على قضاء الله وقدره، أو على ما قسمه الله عز وجل له من رزقه، بل يسعد بذلك ويطمئن به، ويرد الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ويحمد الله على قضائه وقدره، ويضاعف له الأجر والمثوبة.
والأحاديث في ذلك كثيرة لمن فقد بصره، أو فقد ولده ثم صبر واحتسب ورضي وحمد، فإن له من الأجر عند الله عز وجل ما الله سبحانه وتعالى به عليم.
فهكذا نجد السعادة الإيمانية تدفع العوارض الدنيوية التي يقضيها الله عز وجل، فتنقلب بإذن الله إلى مزيدٍ من ترسيخ الأقدام على طريق الإسلام، وإلى مزيدٍ من ترسيخ اليقين والإيمان في القلوب، وإلى مزيدٍ من الثقة بوعد الله سبحانه وتعالى كما كان من شأن الرسل والأنبياء، وكما قال الله عز وجل في شأن نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
عندما تحل بك المصيبة تجد من برد اليقين، ومن رضاك بقضاء الله وقدره، ومن ثقتك بوعد الله عز وجل، ومن احتسابك الأجر؛ ما يبدد أثر هذه المصائب وما يرفع همومها وغمومها، وما يجعلك بإذن الله عز وجل تنطلق إلى مرضاة الله عز وجل بعزمٍ أقوى وأشد، وبهمة أعلى وأرفع، وهذا لا يكون لأحدٍ إلا للمؤمن.
ثم انظر إلى السعادة حتى آخر لحظةٍ من لحظات الحياة، عندما يأتي الموت الذي تكرهه النفوس بطبيعتها وتنفر منه، ومع ذلك يأتيك من أثر الإيمان ما أنت في أشد الحاجة إليه، وما أنت في أعظم لحظات السعادة التي يحزن فيها الآخرون عليك وأنت تنظر تثبيت الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، هذا التثبيت هو تلقين الحجة وما يفتحه الله عز وجل لك من أبواب جنانه، فإذا بك ترى أهل الإيمان وأهل الطاعة قد أشرقت أسارير وجوههم عند الاحتضار، وقد رنت أبصارهم إلى ما وراء الحجب والأستار مما جعله الله عز وجل لهم من النعيم في الجنان، وإذا بك ترى ذلك الصحابي الذي يندق الرمح في صدره وينفذ من ظهره، فإذا به يبتسم ويقول: (الله أكبر فزت ورب الكعبة!) انظر إلى السعادة التي يستأنف بها العبد المؤمن الحياة الحقة بعد الحياة الدنيوية، وانظر إلى السعادة التي يراها المؤمن لأنه يرى فضل الله عز وجل ينتظره، ويحسن الظن بربه وخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، وانظر في مقابل ذلك إلى أهل الشقاء والكفر والمعصية كيف تظلم وجوههم، وتتلعثم ألسنتهم، وكيف يعظم خوفهم وهلعهم في تلك اللحظات؛ نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت، وأن يهون علينا سكرات الموت.
فانظر إلى سعادة الإيمان كيف تنفذ حتى إلى هذه اللحظات الحرجة، وانظر إلى ما وراء ذلك من وعد الله بنعيمه المقيم بالأجر والثواب العميم! {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران:169]، شهادةٌ قرآنية بحياة نعيم أبدية عند الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] هذه أعطيات سعادة الإيمان، هذه سعادة الحياة الدنيا، وسعادة مفارقتها، وسعادة ما بعدها في الحياة الأخرى، قد حبانا الله عز وجل إياها بنعمة الإسلام، وأكرمنا بها بنعمة الإيمان، وبسط لنا طريقها وأنارها لنا بالقرآن والسنة، وقد وجدنا لذتها، وجربناها فيما يفتح الله عز وجل به علينا من الطاعة، وقد كان لنا فيها موسم عظيم في رمضان فلم نحرم أنفسنا من هذه السعادة، ولم نشق أنفسنا بالبحث عن أمور السعادة في غير بابها.
تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس كيف تسلك طريقاً لا يوصل إلى الغاية، والطريق قد نصبها الله عز وجل، ودعا إليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وظهرت لنا نتائجه وثماره، فالله الله في طاعة الله، والله الله في الإخلاص وصدق الإيمان بالله، والله الله في عظمة التوكل والثقة بالله، والله الله في الطاعات والقربات والإقبال على الخيرات، والمنافسة والمسارعة إلى الطاعات؛ حتى نجد أثر ذلك سعادة في قلوبنا، وانشراح صدرونا، وسكينة نفوسنا، وحتى نجد بركة في رزقنا، وحتى نجده إن شاء الله نجابة وذكاءً وبراً في أبنائنا، وحتى نجده تيسيراً وتسهيلاً وتوفيقاً في أعمالنا: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده فهذا خبر الله عز وجل ساقه إلينا، وجعله بين أيدينا، فينبغي ألا نحرم أنفسنا، وألا نظلم قلوبنا، وألا نضيق صدورنا، وألا نفوت هذا الخير العظيم.
فالله أسأل أن يجعل من الإيمان في قلوبنا أمناً ونوراً، وأن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهتدين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم ثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم مكن في هذه الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الفسق والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وفرج كربهم، ونفس همهم، وعجل نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم بطانة صالحةً تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتمنعهم منه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(56/8)
خسائر الفوز
لقد استطاع أعداء الإسلام بغزوهم الفكري أن يفسدوا أخلاق كثير من شباب وشابات المسلمين، وذلك عبر الإعلام الهابط والمنحرف، والذي يتقبله كثير من أبناء المسلمين ويقلدونه، بل وينظرون إليه نظرة إجلال وإكبار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيجب على جميع المسلمين الحذر والتحذير من مغبة فساد الأخلاق جراء هذا الإعلام المنحل.(57/1)
انعكاس الموازين والمفاهيم في هذه الأزمنة
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وثبت في كل شيء مشيئته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علماً، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديث اليوم موضوعه: (خسائر الفوز)، ولعلنا لأول وهلة نتعجب! وحقيق بنا أن نتعجب؛ إذ الفوز له أرباح، والنجاح فيه منافع، والتقدم يحقق المكاسب، فكيف نصف فوزاً بأنه خسارة، بل خسائر متجمعة؟! ولعل مثل هذا الفهم يعود إلى قصور في الاستيعاب، أو إلى تحجر في الفكر يكون صاحبه -كما يقولون- رجعياً متخلفاً، لا يعيش عصره، ولا يعرف واقعه، ولا يرتقي للمستوى الحضاري الذي تعيشه أمم اليوم؛ ولذلك قد تختلف الرؤى في مثل هذا الأمر، ويكون هناك من يوافق ومن يخالف، ولذا أمضي بكم إلى هذا الفوز أولاً لنعرف ما هو، ثم نستمع من بعد إلى وجهة النظر المخالفة المغايرة أو الموافقة المواتية.
وأردت بهذه المقدمة أن أشغل عقولكم، وأعلق قلوبكم؛ حتى ترتقبوا هذا الفوز وتنتظروه، ولئلا أكون المتحدث إليكم رأيت أن أنقل لكم أخبار هذا الفوز كما صاغتها اليد الإعلامية، ولسان البيان الصحفي أو الإذاعي: حقق مواطن سعودي الحلم، وفاز بلقب (ستار أكاديمي) البرنامج الأشهر عربياً، بعد كسبه لجولات البرنامج رغم الصعوبات، وقد عم الفرح السعوديين وهم يتابعون ابنهم وهو ينجح بكل تفوق، حيث تحول اهتمامهم نحو البرنامج بشكل غير مسبوق، وكان الحديث عن نتائج التصويت هو الشغل الشاغل!! ويقارن الخبر الإعلامي بين التفريط والتقصير في اغتنام هذا الفوز وبين المتسابقة الأخرى التي -كما يقول الخبر- سُخرت لها عدة شركات اتصال في بلادها، وحظيت باهتمام على أكبر المستويات، بينما منعت شركة الاتصالات السعودية التصويت عبر شركتها.
ويضيف الخبر معلومة عن وصول البطل الذي سيحظى باستقبال كبير، خصوصاً بعد ظهوره المحترم والراقي في الأكاديمية!! ثم نمضي كذلك لنرى بعض صور هذا الفوز؛ لا من قولنا، بل مما ورد في وسائل الإعلام المختلفة التي تقول: إن الصورة التي قدمها الفائز عن شباب بلده من خلال اجتهاده ومثابرته للصمود في وجه المنافسة، وتحقيق النجاح بالفوز بالمركز الأول وكذلك يقول أحدهم في نقل صحفي عن الفائز: إنه مثل شبابنا السعودي خير تمثيل، وأظهر قيمنا وشخصيتنا بشكل جيد! ويضيف ثانٍ: إنه أظهر التأقلم والانفتاح لشعبنا!(57/2)
حكم الإسلام في البرامج الهابطة
ولست أمضي أكثر من ذلك، وأظنكم تشاركونني معرفة هذا الفوز، وربما سمعتم عنه، وعلمتم من خبره أكثر مما أعلم، ونحن اليوم في هذه الوقفة لا نريد أن نتحدث باللسان الشرعي الذي يفصح عن الآيات والأحاديث أو يعرج على الأحكام والأوصاف؛ فذلك ما لا يقبله بعض أولئك الذين لم يعد يعنيهم أن يكون الأمر فيه قرآن أو سنة؛ ولذلك لن أقف أمامكم لأتحدث عن الغناء أو حكمه، أو أقف عند قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] وما نقله ابن كثير وغيره من المفسرين عن ابن مسعود بسند صحيح أنه قال: (هو الغناء).
وفي رواية أنه قال: (هو والله! الغناء).
وفي رواية ثالثة قال: (هو الغناء، والذي لا إله إلا هو! ورددها ثلاثاً).
قال ابن كثير: وبهذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة رحمهم الله جميعاً.
ولن أقف معكم لأنقل قول القرطبي في تفسيره وهو يقول: الغناء المعتاد عن المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان فيه شعر يشبب بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق.
ولن أقف كذلك عند قوله: إن الاشتغال بالغناء على الدوام سفه تُرد به الشهادة، فإن لم يدم لم تُرد.
وما نقله عن إسحاق بن عيسى الطباع، قال: سألت مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
ولست كذلك معنياً أن أفيض في هذا لأنقل ما نقله ابن عطية في تفسيره بقوله: فكأن ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16].
وما نقله عن مطرف أنه قال: شراء لهو الحديث استحبابه.
ونقل عن قتادة قوله: ولعله لا ينفق فيه مالاً، ولكن سماعه هو شراؤه.
وأعلم أن كثيرين يقولون بأن الغناء مختلف فيه.
فلنسلم ولا نجادل! ولنقل بما قد يقول من أحل وأباح ذلك.
لننتقل إلى أمر آخر، فهل هناك من يفتي أو يقول بقول شاذ أو غير شاذ بأن المرأة إذا ظهرت كاشفة عن سحرها ونحرها وذراعها وهي ترقص وتختلط بالرجال أن في هذا قولاً بجواز أو إباحة؟! وليس ذلك فحسب؛ هل هناك من يقول: إن في التأنث والغنج والترقص -فضلاً عن المعانقة والتقبيل بين الجنسين- أقوالاً لبعض أهل العلم أو بعض أهل الجهل بالإباحة؟! لو كان مثل ذلك عند أحد لقلنا: هذا أيضاً مما يختلف فيه.
ولن أنتقل بكم إلى خسائر من نوع آخر، فإن ما قد يقال من أقوال أهل العلم أو النصوص قد يكون عند بعض الناس اليوم غير ذي بال وللأسف الشديد!(57/3)
الأموال الطائلة التي تنفق على البرامج الهابطة
أنتقل إلى أمر آخر، وأدعو الجميع أن يشاركوا في التفكير والبحث والترجيح في كون هذا الأمر مكسباً أو خسارة.
إن ثمانين مليون تصويت تكلف من الناحية المالية ما يقرب من عشرين مليون ريال على أقل تقدير! فاسألوا الآن: عندما دفعت ما الذي جاءنا؟ وما الذي كسبناه؟ وما الذي دخل جيوبنا؟ وهل حلت به بعض مشاكل البطالة لشبابنا؟ وهل فتحت به بعض دور التعليم التي تغلق في وجوه أبنائنا وبناتنا؟ وهل استطاع به بعض الشباب الذي تجاوز الثلاثين أن يجد إعانة على زواجه من مثل هذه الأموال؟ وهل سخرت مثل هذه الأموال لعلاج مشكلة الفقراء ورعاية الأرامل أو كفالة الأيتام في داخل بلادنا قبل خارجها؟ وهل سخرت مثل هذه الأموال أو يمكن أن تسخر لتكون عوناً لإخواننا في أرض فلسطين أو غيرها؟!! وأظن أن كثيرين سيقولون: إن هذا لا يمكن أن يكون مقابله مساوياً له إن رأينا في ذلك مقابلاً نافعاً.
والمستفيدون منه -على افتراض أن هناك مستفيدين- لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة أو اليدين، فماذا خسر الذين فعلوا ذلك وأهدروا تلك الأموال؟! علماً بأن هذه الاتصالات تتم عن طريق خارج البلاد مما يجعلها أكثر كلفة، وأين نحن حينئذ من قول الله جل وعلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]؟ وأين نحن كذلك من التخوف في أن يصدق فينا هذا الوصف المذكور في قوله جل وعلا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]؟ إن أحداً لا يريد أن يكون مندفعاً، ولا أن يصف أحداً بشيء من التهم، إلا أننا نتحدث اليوم بمنطق العقل إلا أن تكون عقولنا قد خربت، وصرنا في صفوف الأغبياء أو المجانين؛ بحيث أصبحنا نهرف بما لا نعرف، ولو أن أحداً يعلم فليخبرنا بما عنده من العلم والاقتصاد والخبرة والتجربة، وليبين لنا أن هذه المبالغ التي دفعت سوف نجنيها أرباحاً مضاعفة وخيراً عظيماً يعود على مجتمعنا كله، وحينئذ قد يغض من يغض الطرف عن حلال أو حرام، لكننا نقول: دعوا الحلال والحرام جانباً، وأقنعونا بالمادة والأرقام: أين تذهب هذه الأموال؟!(57/4)
الأوقات الطويلة التي تهدر في متابعة البرامج الغنائية
أنتقل بكم إلى صورة أخرى لعلي بتفكيري القاصر وبتحجري الذي قد يوافقني فيه بعضكم أعد هذا الأمر أخطر من الأول وأفدح خسارة: أسألكم عن الأوقات المهدرة التي تعد بملايين الساعات من الذين تابعوا باستمرار أو بتقطع هذا البرنامج، وأنفقوا فيه تلك الأوقات في أعداد الله أعلم بها، وعلى مدى أربعة أشهر فيها نحو من عشرين ومائة يوم، فكم من الساعات المهدرة في هذا البرنامج؟! أريد أن أرى قيمتها، وأريد أن أرى نتيجتها، وأريد أن أراها علماً رسخ في العقول، أو خلقاً ظهر في السلوك، أو همة ظهرت في النفوس، أو حسناً ظهر في العلاقات، أريد أن أرى قيمة هذا الوقت المهدر من شبابنا وشاباتنا أين مصيره؟ هل مصيره إلى هذا اللهو العابث، والفراغ القاتل، والدرك الدنيء الذي لا يبعث همة ولا يوقظ عقلاً، ولا يحيي قلباً، ولا ينتج في آخر الأمر نفعاً أو فائدة؟! ولو أردت أن أحسب ذلك لرجعت بكم إلى أمور يذكرها أهل العلم في الاقتصاد عندما يقيسون المال بالأوقات، وتأتينا الإحصاءات لتقول لنا: إن معدل إنتاجية العامل الياباني قد تصل إلى نحو أربعة أضعاف العامل الأوروبي أو الأمريكي، وأما المقارنة بمن هم في عالمنا الثالث فتلك مسألة أخرى! وفي إحصائية علمية أجريت على بلد عربي كبير درست الوقت المستثمر من أوقات الثماني الساعات في العمل اليومي في القطاع الحكومي، فلم تزد في أقصى درجاتها عن (37%) من ذلك الوقت! فأين نحن من هذه الأرباح العظيمة التي جنيناها فيما سمعناه من هذه الأخبار: الفوز الحلم الذي تحقق التفوق الصعوبات الصمود والتصدي فأين نحن من هذه الحقائق؟! وأين نحن من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)، الوقت الممتد الأيام والليالي الشهور والأعوام! وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين)، وفي حديث معاذ عند الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، فسؤالان خاصان بالعمر والوقت، وبزهرة العمر في مرحلة الشباب، فأين تهدر؟ هل تهدر على مذابح القنوات، وعلى المشاهد الفارغة إن لم نقل: العابثة أو المفسدة؟! وخذوا هذا؛ فإني أجعل قيمته -لو حسبناها بالحساب المالي- أضعافاً مضاعفة عن قيمة الأموال التي تصرف في تلك الاتصالات أو في غيرها.(57/5)
انشغال أبناء المسلمين بالبرامج الهابطة عن دراستهم وامتحاناتهم
وهناك مسألة ثالثة وخسارة عظيمة وهي: خسارة الجدية والاهتمام عند شبابنا.
لقد ذكرت الأخبار التي روجت لهذا الحديث في سطور قليلة كلاماً مهماً، جاء فيه: نجح البرنامج في إشغال المراهقين عن مدارسهم ودروسهم؛ حيث توافق التصويت في حلقاته الأخيرة مع توقيت الاختبارات النصفية في المدارس! فكيف سيذهب أبناؤنا على مقاعد الدراسة في وقت الاختبار؟! وهل سيسألون عن أسماء المشاركين في البرنامج؟ وهل سيسألون عن التعليم الذي تعلمه أولئك المشاركون في ذلك البرنامج؟ وما هي الأمور التي ستصبح من بعد موضع اهتمامهم؟ هل سيبحثون عن المتفوقين والنابغين من زملائهم؟ وهل سيكون طموحهم أن يكون أحدهم عالماً في مجال من المجالات العلمية لينفع الأمة، أو مخترعاً في مجالات التقنية ليقدم شيئاً لها؟ أم أنهم سيختزلون المجد والاهتمام فيما يركز عليه الإعلام في رنة نغم أو جرة قلم أو ركلة قدم؟! تلك هي الأمنيات، وتلك هي القمم العالية السامقة، وتلك هي الذرى البعيدة التي يراد أن يرتبط بها شبابنا وشاباتنا؛ ليكون أملهم هو في هذه المجالات.(57/6)
مقارنة بين أحوال المسلمين وأحوال غيرهم في الجانب الدنيوي
وقد يقول قائل -وقد قالوا ذلك كثيراً-: ما بالكم تنعون علينا ذلك؛ ولو نظرتم إلى الأمم التي تتحدثون عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي اليابان لوجدتم أن لديهم عناية بالغناء والفنون والرقص وغير ذلك؟! وأقول: بئست المقارنة! لأن القوم قد فرغوا من المهمات، فعلومهم مطردة متنامية، وصناعاتهم متفوقة متزايدة، واقتصادياتهم متضخمة متوالية، ولا عليهم أن ينشغلوا بمثل ذلك، لكن نظمهم وإعلامهم ومؤسساتهم تعطي للعلم أضعاف أضعاف أضعاف ما تعطي للفن.
وللأسف الشديد؛ فقد أعلن قبل فترة عن تقييم لأفضل خمسمائة جامعة في العالم، فلم يدخل في هذا التصنيف أي جامعة في بلد عربي أو مسلم! ودخل في هذا التصنيف سبع جامعات من الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين، وعندما يقارن الإنفاق في البحث العلمي في ذلك الكيان الغاصب فإنه يكون نحو ثلاثة أو أربعة أضعاف ما ينفق على البحث العلمي في الدول العربية قاطبة! فاثنتان وعشرون دولة لا تنفق إلا نحو ثلث أو ربع ما يُنفق هنالك! فما على أولئك القوم من بعد أن يغنوا، وأن يرقصوا، وأن يفعلوا ما يريدون؛ لأن لديهم أموراً كثيرة.
وقد وقفت بنفسي على جامعة واحدة فيها كلية طب واحدة ومستشفى واحد عريق في بلد كبير غربي، ينفق على أبحاث الطب فحسب في هذه الكلية وحدها أربعة آلاف مليون دولار! وهي جامعة واحدة! فما على أولئك إن أنفقوا مثل هذا أو دونه في غير ذلك من الأمور!(57/7)
اغتيال البرامج الهابطة للحياء
وهناك خسارة فادحة عظيمة، أحسب لو أن لدينا عقولاً مفكرة، ونفوساً حية لعدت هذه الخسارة كارثة كبرى! إنها خسارة مرتبطة بتاريخ البشرية، إنها خسارة مرتبطة بالرسالات السماوية، إنها خسارة مرتبطة بالمفاهيم النبوية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)، أليس هنا اغتيال للحياء؟ فكيف يرضى لا أقول: مؤمن مسلم؛ بل بشر حي ذو نخوة وشهامة أن يبقى جمع من الشباب أو الشابات على مدى أربع وعشرين ساعة لمدة أربعة أشهر تحت مراقبة الكاميرا؛ تنقل كلامهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم ولهوهم ومزاحهم؟!! أي شيء بقي لآيات القرآن ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأي شيء بقي للأسرة: للأب والأم مع أبنائهم وبناتهم وهم يشاهدون ذلك، وقد يجتمعون عليه؟! وهل هناك أحد يطأطئ رأسه خجلاً، أو يغض بصره حياءً، أو يصم سمعه لئلا يسمع ذلك العهر والفجور والغنج والدلال؟ أم أن ذلك يتشرب إلى الآذان والأنظار والعقول والقلوب، وإلى أجواء الأسر، وإلى بيئة المجتمع، وإلى التصويت الكبير، وإلى الاحتفالات الكبيرة لئلا يبقى في النفوس أثر من حياء، ولا بقية من شهامة ونخوة وشعور بأمر تأباه النفوس الحية فضلاً عن المؤمنة؟! وأقول: كل خسارة من هذه في نظري القاصر وفكري المتحجر الذي قد يشاركني فيه بعضكم أحسبها من الخسارة القومية الكبرى!(57/8)
دور الإعلام في انتكاس الموازين واختلال المفاهيم عند كثير من الناس
وأزيدكم في ذلك خسائر أكثر وأكبر، ومن هذه الخسائر: انتكاس الموازين، واختلال المفاهيم.
وتلك قضية كبرى من القضايا التي يمارسها الإعلام المنحرف في بعض تلك الفضائيات، ليس مجرد تطبيع المنكر، والرضا به، والتأقلم معه، وعدم إنكاره، وعدم الحياء منه؛ كلا! فتلك مرحلة قد مضت، وذلك إدمان قد سرى وجرى؛ لكن الأمر اليوم هو أن نلبس ذلك المنكر لباس المعروف، وأن نعطيه صفة المشروع، وأن نجمع بينه وبين أمور مهمة عظيمة؛ ففي الوقت الذي يكون فيه هذا الاختلاط، وهذا العناق، وتلك الخلوات، وتلك الكلمات نجد أباً يتصل -كما تابعت في بعض الأخبار- على الهواء مباشرة في ذلك البرنامج، ويوصي ابنته بالمحافظة على الصلاة! وكأن المحافظة على الصلاة أمر لا يتعارض ولا يختلف مع كونها ترقص وتغني وتكشف عن يديها وذراعيها وساقيها، وتحتضن هذا أو تقبل ذاك!! ليكون لنا إسلام حديث، ومفاهيم مرنة وواسعة! لقد ضيقتم الواسع أيها المتزمتون! إن عقولكم المتحجرة لم تستوعب بعد حضارة الإسلام الذي يمكن أن يصلي هنا، وأن يشرب الخمر بعد التسليمة الثانية هنا! ويمكن أن يسجد أو يقرأ القرآن هنا ثم يتلو من الغناء ما فيه الفسق والفجور المضاد لآيات الله عز وجل!! إنها قضية خطيرة! ومع ذلك شهادة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ترفع في تلك المواطن للدلالة على النصر أو الفخر!! عجباً لمثل هذا كيف يفوت الناس أن يدركوا أنه خطر عظيم وشر كبير وبلاء مستطير؟! إن الناس اليوم بدءوا يتأثرون بذلك، فلا على أحدهم أن يصلي من هنا، وأن يقارف ما لا شبهة في حرمته من هناك، وأن يجمع بين هذا وذاك، ولا يرى شيئاً من غضاضة! ونجد مثل هذا -وللأسف الشديد- كثيراً.
إن قضية مفهوم الدين في سموه الخلقي وفي صياغته للشخصية الإسلامية لا يقتصر على أن يؤدي فريضة من الفرائض وحدها، إن ذلك ينعكس -كما أشرنا سابقاً- بأن الإيمان يصبغ صبغة تنعكس في الجدية والاهتمام والخلق والسلوك والأمانة والترفع عن المحرمات، إن صياغة الإسلام والإيمان صياغة متكاملة لا تقبل هذا التشويه والتشوه.
إن مثل هذه الصورة أشبه بالمولود الذي يخلق ناقصاً، ولا ترى فيه سمتاً ولا صورة الخلق الكامل للإنسان السوي.
إنه تشويه حقيقي عندما يكون القائم به مسلماً عربياً، ثم يظهر ذلك ويبينه، ويخبر بأنه قد قام بالدعوة إلى الله، وأثَّر في غيره بأن ذكره بالله، وكأن التذكير بالله لا يتعارض مع شيء من ذلك كله!!(57/9)
الهدف الحقيقي من البرامج الهابطة
لعلي أشير إلى أمر ما كان يخطر على بالي أنه من الخسائر، إلا أن المتابعين لهذه القنوات وتلك البرامج ذكروه وبينوه، وأحسب أنكم معاشر من قد توصفون بتلك العقلية المتحجرة! لا تدركون مثل هذا: في تسويق وفي استفتاء على البرنامج جاءت معلومتان وقضيتان مهمتان: الأولى: كان الاستفتاء: ما هو الهدف الأساسي من البرنامج؟ فكان إجماع المشاركين في التصويت أنها أهداف مادية بحتة، حتى ليس منها الارتقاء بالذوق الفني، وليس منها تأهيل الكوادر الشبابية لنقدمها للعالم في مجال الغناء والفن، وليس منها خلق أجواء حميمة بين الشباب والشابات، كل ذلك يتراجع إلى الوراء؛ ليظهر السبب الذي أجمع عليه المشاركون في هذا التصويت، وهو أنها أسباب مادية، وسرقة للفلوس وللأموال، واحتيال عليها بتسويق الشهوات والغرائز والملذات.
ولكن نقول: من الذي يأخذ هذه الأموال؟ ولماذا نعطيه إياها ونحن بكامل عقولنا وبكامل إراداتنا؟! إننا في حقيقة الأمر بعد أن ندفع هذه الأموال ثم نأتي ونجيب على هذا السؤال ونقول: إن الهدف هو هدف مادي، فلا شك أن المجيبين بهذا يصفون أنفسهم ويحكمون عليها بأنهم أغبياء حمقى، أو أنهم مسرفون من أهل البطر الذي يرمون أو يقذفون بأموالهم من غير فائدة، فكيف إذا كانت تلك ترتد عليهم؟! وأما القضية الثانية لو قلت أنا أو أنتم: إن الهدف مادي بحت لوجدنا قائمة طويلة من مثل تلك المقالات التي قلتها عن الرقي الفني، والتأهيل الشبابي وغير ذلك من الأمور، لكن الذي قالها هم المشاركون المتابعون المصوتون في هذه البرامج.
ثم أضافوا لنا شيئاً مهماً: بأنه مما يقال من أرباح هذا الفوز: تقوية الروح الوطنية.
أي: أننا لا وطنية عندنا، ولا نحب بلادنا، ولا نغار عليها، ولا نبذل الجهد والعرق لخيرها ولنفعها، ولا نبذل الروح للدفاع عنها، فلابد لنا من شيء يحرك هذه المشاعر الميتة في نفوسنا، الغائبة عن عقولنا، فلتكن كلها باتجاه الفن والرقص حتى تلتهب المشاعر الوطنية، ونستطيع أن نتماسك ونتلاحم، وأن نؤدي الدور الرائد في رفعة سمعة بلادنا، وفي الذود عنها إذا هاجمها الأعداء كما ينبغي أن يكون الأمر!! حتى كان من التهكم في هذا الباب ما لا أستطيع قوله؛ لكن النتيجة الأخرى التي قالها أولئك أنهم قالوا: إن البرنامج أسهم في الفرقة، واستطاع البرنامج أن يفرق بين دول الوطن العربي! وقد عبر عنه بعضهم: أنه عبارة عن حرب الخليج؛ لأن أهل كل بلد يسبون البلد الآخر، ويسبون مشاركه، ويمتدحون من يرون أنه ممثلهم، وأصبحنا على كل الأحوال -بحمد الله- عرباً متفرقين بدرجة امتياز في كل ميدان ومجال، واتفقوا -كما قيل- على ألا يتفقوا حتى في مثل هذه المهازل! إنني أكتفي بهذا القدر؛ لأنني لو استرسلت كثيراً أو أكثر من ذلك لكان الحكم علي قاطع وجازم بأن عقلي قد تجاوز كل الحدود المعقولة والمقبولة.
أسأل الله عز وجل أن يرد إلينا عقولنا، وأن يحفظ علينا إيماننا، وأن يحفظ علينا أخلاقنا وحياءنا، وأن يحفظ شبابنا وشاباتنا، وأن يصرف عنا أهل الفسق والفجور، وأن يحفظنا بحفظه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(57/10)
تقليد كثير من المسلمين لأعداء الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن مثل هذه البرامج وما فيها وما حولها هي من أعظم ما يغتال التقوى، ويئد الحياء، ويضعف الأخلاق، ويزعزع الإيمان، ويمسخ الشخصية المسلمة.
ولعلي هنا أختم بأمر مهم، وهو: أن ذلك كله إنما هو صورة للتقليد الأعمى، والانهزامية الكبرى؛ إذ كل هذه البرامج في مجملها لم تكن من بنات عقول أحد من أبنائنا أو إعلاميينا، وإنما هي نسخ منسوخة كما هي، فقد أجروا عقولهم، وتركوا ما صموا به آذاننا صباح مساء من الإبداع، لينتهي الأمر إلى أن نكون أهل قص ولصق أهل نسخ ونقل أهل توقف عن تفكير، حتى في السوء والشر والفساد ننقله كما هو؛ لأن أصحابه قد بلغوا فيه مبلغاً! فحتى في الفساد لم نكن منتجين، إنه أمر عجيب! لا أدعو فيه إلى أن ننتج الفساد؛ ولكن أريد أن أصور المسخ لأولئك الذين يتصدرون في وسائل الإعلام، ويقولون لنا ما يقولون من ضرورة النهضة بالأمة، والرعاية لشبابها وغير ذلك، ثم يكون قصارى جهدهم أن يأتونا بهذا المسخ المشوه الهزيل الرديء؛ ليقولوا لنا: إنه الذي سيفجر الطاقات، ويفعل الأفاعيل!(57/11)
الواجب تجاه برنامج ستار أكاديمي
وأمر أخير: لو أن القضية قضية تعلم للفن فهناك أكاديميات وكليات موجودة في العالم العربي يدخلها المئات، ويدرسون السنوات، ويختبرون، ويقدمون المشاريع، ويتخرجون، فلماذا نحتاج إلى مثل هذا لنخرج واحداً أو عشرة وعندنا المئات يدرسون في هذه الكليات، ويتخرجون وهم مخرجون وفنانون وملحنون؟! فأضيفوا أولئك إلى تلك المعاهد وأريحونا لو كان لكم قصد في مزيد من هذا التأهيل النافع المفيد بحسب قولكم! إن القضية التي أريد أن أقف عندها هي: أن خسائرنا تتوالى، وأننا في معظم أحوالنا ومواقفنا نقف موقف المتفرج، فالخسائر تتوالى ونحن نتفرج، وتزداد ونحن نتفرج، وتتعاظم ونحن نتفرج، وتتكرر ونحن نتفرج، ولن أجيب أحداً على سؤاله: ماذا تريد منا أن نعمل؟ لأنني أعتقد جازماً أننا مسئولون جميعاً، وأن في عنق كل منا أمانة، وأن كل أحد عنده غيرة وعزم يستطيع أن يفعل شيئاً، ويستطيع أن يقول كلمة، وأن يوصل رسالة، وأن يقاطع برنامجاً، فمن الذي يصوت؟ ومن الذي يشاهد؟ ومن الذي يشتري؟ إنهم مجموعة من بيننا؛ من ذلك الأب أو تلك الأم أو ذلك الأخ أو تلك الأخت، أو أولئك الأبناء والبنات، فلم يأتوا لنا من المريخ، ولم يهبطوا علينا من كوكب آخر، بل هم من مجتمعنا، فأين نحن منهم؟! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أمننا وإيماننا، وسلمنا وإسلامنا، وأخلاقنا وسلوكنا، وأن يجعلها مستقيمة على أمره.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك كما حسنت خلقنا فحسن أخلاقنا، واهدنا لأحسن الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف اللهم عنا سيئ الأخلاق وأرذلها؛ فإنه لا يصرفها عنا إلا أنت.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين! اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، ورد اللهم كيده في نحره، وأشغله بنفسه.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم واجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم أحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(57/12)
الصيف ضيعت اللبن
الوقت رأس مال المسلم، وليس للمسلم راحة إلا في الجنة، لذا كان لزاماً عليه أن يستغل كل دقيقة وكل ثانية من عمره فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة؛ فإنه مسئول بين يدي الله عز وجل عن عمره وشبابه، فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، ومن أعظم الأوقات التي ينبغي ألا تضيع من عمر المسلم: الإجازة الصيفية، فهناك كثير من الأعمال والفرص التي يستطيع المسلم الاستفادة منها في هذه الإجازة.(58/1)
سبب قول المثل: الصيف ضيعت اللبن
الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! (الصيف ضيعت اللبن) مثل عربي شهير، يُضرب فيمن ضيع الفرصة، وفوت الغنيمة، وترك المجال الرحب الواسع، ولم يكن له من ذكاء عقله ومن شرف نفسه ومن قوة عمله ما يجعله محصلاً لمكاسب دنياه ومدخراً لمآثر أخراه.
هذا المثل يُضرب لامرأة تزوجت رجلاً شهماً كريماً، فكان يغدق عليها طعاماً وشراباً ولبناً سائغاً للشاربين، مع حسن معاملة وإجلال وإكرام، لكنها لم تقابل ذلك باعترافها بالنعمة، وشكرها لها، وانتفاعها منها، وحرصها عليها، بل قابلت ذلك بإعراض وتضييع، وبجحود وإنكار، فكانت العاقبة أن طلقها، ثم تزوجها غيره، فلم تجد عنده يداً مبسوطة بالكرم، ولا وجهاً مشرقاً بالسرور، ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام، فتندمت وتحسرت على ما فات عليها، وما ضاع منها، لكنها لم تنح باللائمة على غيرها، وإنما خاطبت نفسها تذكرها تفريطها، وتبين لها سوء تدبيرها، فقالت: (الصيف ضيعت اللبن)، ومضى مثلاً لكل من أضاع الفرصة، وفرط في الغنيمة.(58/2)
تعريف العطلة ومنهجية الإسلام فيها
وها نحن اليوم نبدأ موسم الصيف، وما أدراك ما موسم الصيف؟! وكم من ملايين الملايين من الأوقات التي تُحسب في خانة الفراغات، والتي تُصنف فيما يعرف بالعطلة! وهي اسم في لفظه ومعناه واشتقاقه اللغوي مأخوذ من العطالة والعطل، وهو: الخلو من الزينة في أصل اللغة.
وهو هنا: خلو عن العمل الجاد، والانتفاع المثمر، والاستغلال الهادف للطاقات المختلفة المتنوعة كلها: من وقت ممتد، وعقل مفكر، وقوة وصحة، وعافية وفرص، وأبواب من الخير مشرقة.
ثم قد ينتهي الزمان وينقضي الصيف بأيامه وأسابيعه وأشهره وسعته التي ليس فيها كثير من العمل المطلوب المكلف به، وحينئذ تعود مرة أخرى التسويفات: إذا جاء الصيف سأفعل، وإذا كانت الإجازة سأنجز، وإذا تخليت عن بعض الأعباء والمهمات سأفرغ لغيرها، ويمر الإنسان بذلك دون أن يدرك أن الذي يضيعه إنما هو جزء حقيقي مهم من عمره وحياته، وأنه يبدد من رصيده ويفني من كنوزه ما قد يكون أقل القليل منه موضع ندامة وحسرة شديدة وأكيدة وعظيمة في وقت لا ينفع فيه الندم.
ولعلنا نذكر أمرين مهمين قبل حديثنا عن الصيف:(58/3)
الفراغ فرصة للعمل
الأمر الأول في المنهج الإسلامي: الفراغ فرصة للعمل: ويخطئ من يظن غير ذلك، أو يعتقد أن الفراغ فرصة للنوم والكسل، ولعلنا نكتفي بالآية التي نتلوها كثيراً ونسمعها في صلواتنا كثيراً، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
وقبل أن أذكر ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين وغيرهم ندرك جميعاً بمعرفتنا للغة العرب أن المعنى العام: إذا فرغت وانتهيت وصارت عندك فسحة من الوقت وشيء من الراحة فانصب، وكلنا يعلم أن النصب هو التعب، والمقصود به الجد والعمل الذي يجدد مرة أخرى الإنجاز، ويحقق الخير بإذنه سبحانه وتعالى.
ولنستمع أيها الإخوة! إلى القلوب المؤمنة، والأفهام المسلمة، والنفوس الحية، والهمم العالية، كيف فسرت وكيف فقهت هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى: عن ابن مسعود: رضي الله عنه قال: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.
وعن ابن عباس قال: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء.
وأما الحسن وزيد بن أسلم فروي عنهما قولهما: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب إلى عبادة ربك.
وعن مجاهد إمام التابعين من المفسرين قال: إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك.
وعن الجنيد قال: إذا فرغت من أمر الخلق فانصب في عبادة الحق.
فهل رأيتم في مجموع هذه الأقوال قولاً يقول: إذا فرغت فنم؟ أو إذا فرغت فاله والعب؟ أو إذا فرغت فضيع الأوقات، وانحر الساعات؟ هل سمعنا شيئاً من ذلك؟ والذي نقلته لكم نقلته من نحو ثمانية أو تسعة تفاسير من أمهات كتب التفسير، ولو رجعتم إلى عشرات أخرى غيرها فلن تظفروا إلا بمثل هذه المعاني الشريفة العظيمة التي ترجمها القاسمي المفسر المتأخر المعاصر، فإنه جعل لها إطاراً واسعاً ومعنىً شاملاً حين قال: إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فانصب إلى عمل وخذ في عمل آخر، واتعب فيه؛ فإن الراحة إنما تكون بعد التعب والنصب.
هذا هو فقه الإيمان، وهذه دلالة القرآن، وهذه نفوس أسلافنا وأفكارهم وعقولهم، وهكذا ينبغي أن نفقه الأسس السليمة، لا أن نسمح للمفاهيم المغلوطة أن تروج، فمع آخر يوم من انتهاء الاختبارات تسمع الطلبة والطالبات وهم يتواعدون بالنوم الطويل، واللعب الكثير، والسهو واللهو والغفلة، ويرون ذلك هو الميدان الصحيح، وهو العمل المطلوب، ليس في يوم أو يومين بل في أشهر معدودات متواليات، وليس هم الذين يقولون ذلك، بل أسرهم وآباؤهم وأمهاتهم يوافقونهم في مثل هذا في الجملة! فهم يرون ألا يكلموهم، وألا يوقظوهم من نومهم وسباتهم، وألا يثربوا عليهم في لهوهم وفراغهم وغير ذلك، بل ليس هؤلاء فحسب، بل المجتمع في مجمله كأنما يقول لهم ذلك، وكأنما يؤكد لهم أن الرسالة المطلوبة هي مثل هذا اللغو واللهو والفراغ غير المجدي.(58/4)
المسئولية في المنهج الإسلامي
وهناك قاعدة أخرى أيها الإخوة الأحبة! هي: المسئولية حقيقة كلية في المنهج الإسلامي، إذ ليست هناك مسئولية في زمان دون زمان، ولن يكون الحساب يوم القيامة على أيام الدراسة والعمل والقلم مرفوع عن أيام الإجازة أو العطل، فمن قال هذا أو توهمه فإنه لا شك على خطر عظيم.
والمسئولية كذلك لا ترتفع عن مكان دون مكان، فليست هي في مكة المكرمة أو المدينة، فإذا كان في غيرها أو في خارج هذه البلاد أصبح الأمر أمراً آخر، وأصبح التصرف مختلفاً، وأصبح القول غير القول، وغير ذلك مما نعلم كثيراً منه، إنها قضية واضحة؛ قال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وليست هناك حدود في الزمان أو المكان تخرج عن دائرة هذه المسئولية، قال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وكلمة (قول) منكرة ومنونة فتدل على العموم في سائر الأوقات، وفي سائر الأحوال، ففي الرضا والغضب أنت مسئول عن قولك، وفي العمل والإجازة أنت مسئول عن فعلك، وفي بلادك وفي خارجها أنت محاسب على أفعالك.
والأمر في ذلك يطول، والفقه الإيماني يدعو إلى أن يكون المرء المؤمن عاقلاً، وأن يعمل مثلما يعمل التاجر، فالتجار في مواسمهم يشمرون عن ساعد الجد، ويفتقون العقول عن الأفكار والحيل والأساليب المناسبة لمزيد من الأرباح في هذه المواسم، وتجدهم يزيدون في الأوقات، ويغتنمون الفرص في الإقبال وإتاحة الإمكانات والطاقات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك).
فانظروا إلى الأوائل كلها ستجدون أنها متعلقة بالزمن، وكلها مربوطة بما يتيسر من هذا الزمان الممتد.
وهنا نستحضر الحديث العظيم الذي رواه الإمام البخاري في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)، فامتداد في الزمن، وقوة في البدن، وتكاليف تنزلت بها الآيات، وشهدت بها ووجهت إليها الأحاديث، وأمة مهيضة الجناح، متأخرة عن ركب الأمم، يحدق بها الأعداء من كل مكان، وتحيط بها المكائد في كل وجه وصوب، ثم بعد ذلك ملايين من الأبناء والبنات والأسر من هنا وهناك ضائعون في فلك لا نهاية له، سائرون في طرق لا تفضي إلى خير ولا إلى علم ولا إلى عمل ولا إلى تقدم أو نحو ذلك.
أيها الإخوة! إنها قضية خطيرة، إنهم يحسبون في مقاييس الإنجاز والعمل في الدول والشركات الدقائق والساعات، ويقولون: إذا حصل أمر من الأمور وتعطلت الأجهزة أو تعطل العمل لمدة ساعة فإن هذه الساعة من عدد كذا من الموظفين تشكل كذا من الساعات الإنتاجية، وتقدر بكذا من الملايين، وتقدر بكذا وكذا، وأما نحن فنضربها ونحسبها ثم نهبها للفراغ، ونهدرها في الهباء، وننحرها بلا نفع ولا فائدة! إنها المسئولية المناطة بنا جميعاً، أنا وأنت وهذا وذاك، إن الشباب والشابات والأبناء والبنات جزء عظيم من المسئولية مناط بآبائهم وأمهاتهم، وسبل التربية والتوجيه، وسبل اغتنام الأوقات وغير ذلك مما نعلمه، إضافة إلى مسئولية المجتمع في كل دوائره المختلفة.(58/5)
أهمية استغلال الأوقات
ولعلي أقف هنا وقفات سريعة فيما ينبغي عمله، أو فيما ننكره ونحذر منه، ولكنها ومضات مهمة.
هناك أرباح وخسائر، وهناك رابحون وخاسرون، فمتى يتضح ذلك؟
الجواب
يتضح ذلك بعد نهاية الموسم وفي آخره، لكن هل ننتظر حتى يأتي آخر الموسم ونرى هل ربحنا أم خسرنا؟ أم نتنبه في أوله وبدايته حتى نأخذ الأسباب، ونهيئ العدة، ونجتهد في أن نخرج من الموسم بأكبر ربح ممكن بدلاً من أن تكون الخسائر فادحة؟ وليتها خسائر في جانب المادة فحسب، بل إن فيها إهداراً للأوقات، وإهلاكاً للأموال وغير ذلك، بل كثيرة هي الخسائر الفادحة من الإيمان الذي يضعف، والحياء الذي يذبل، والهمم التي تخور، والعزائم التي تفتر، واللهو الذي يتمكن من النفوس، والعبث الذي يضيع العقول، والغفلة التي لا تنهض عزماً، ولا تقيم أملاً، ولا تحيي عملاً في هذه الأمة.(58/6)
استغلال الأوقات بحفظ القرآن وتلاوته
وأبواب الخير المشروعة كثيرة، فاغتنموا لكم ولأبنائكم هذه الفرص من الوقت المتاح: أولاً: في ميدان القرآن الكريم، فالمساجد تمتلئ بحلق التحفيظ، وكثير من الطلاب وأسرهم يقولون: ليس هناك وقت متاح في أوقات الدراسة، وإذا ذهبوا إلى المساجد فستضيع الأوقات عليهم عن الدراسة، وسيتأخرون فيها، فلنقبل منهم ذلك في أوقات الدراسة، فماذا يقولون بعد انتهاء الدراسة؟! وإضافة إلى ذلك فإن الأبواب مشرعة في أنماط مختلفة متعلقة بالقرآن، فهناك الدورات القرآنية التي تتيح الفرص لتعلم القراءة والتجويد والتلاوة، ولحفظ الجديد، ولمراجعة المحفوظ القديم، ونحو ذلك من الأمور الخيرة، إضافة إلى المسابقات والمنافسات القرآنية العظيمة.
ولو أننا أحسنا توجيه أبنائنا إليها ورغبناهم فيها لوجدنا تحقق موعود الله عز وجل في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، إنه يسير، وإنه محبوب، فلا ينبغي أن نقول: إنها إجازة فكيف نثقل عليهم بذلك؟ سبحان الله! هل في كتاب الله من ثقل على النفوس؟! وهل فيه من همٍّ أو غم على القلوب؟! أليس هو الذي تنشرح به الصدور؟ أليس هو الذي تطمئن به القلوب؟! أليس هو الذي تلتذ به الأسماع؟! أليس هو الذي تترطب به الألسنة؟! أليس هو الذي تعم به الخيرات والبركات؟! أليس هو الذي يبصر وينير العقول ويرشدها؟! أليس هو الذي يفتق الطاقات، ويجعل المقبل عليه ذكياً فطناً، فضلاً عن كونه زكياً نقياً طاهراً؟! فلماذا نحرم أبناءنا؟ ولماذا نقصر في حقهم ونفرط في توجيههم إلى الخير الذي لهم؟ ولا نقول: ليرتبطوا بالحلق أو بالقرآن ليلهم ونهارهم، فلا يكون عندهم فرصة لشيء من راحة، ولو قضوا ذلك في كتاب الله لما كان قليلاً.(58/7)
استغلال الأوقات بالقراءة
وباب آخر وهو باب القراءة: فالقراءة مجني عليها؛ حيث لا يعرف أبناؤنا كثيراً من كتاب ربهم، ولا من سنة نبيهم، ولا من سيرة مصطفاهم، ولا من صفحات تاريخهم، ولا من علوم شريعتهم، ولا من حقائق واقعهم، ولذلك تجد الطلاب وقد صاروا اليوم كأنما عقولهم ورءوسهم فارغة، حتى ما يقرءونه في مدارسهم يقرءونه ليفرغوه على أوراق الاختبارات، ثم يحاولون بكل جهد أن ينسخوه من عقولهم، وأن ينظفوها حتى لا يبقى فيها أي أثر من آثار تلك المعلومات والقراءات! فالفرصة سانحة، والوقت متسع، ولو أراد الآباء والأمهات ومؤسسات المجتمع والحكومة أن تبسط ذلك بدلاً من أن تبسط ميادين المنتزهات فحسب لفعلت، فأين هي المكتبات؟ وأين هي المسابقات؟ وأين هي القراءات؟ وأين هي المجالات التي ينبغي أن يأخذ بها أبناؤنا؟ وأستحضر هنا خبراً تافهاً سخيفاً، لكنه أخذ حظاً وافراً في وسائل الإعلام كلها: ابتكرت امرأة إنجليزية قصة خرافية عن شخصية خيالية، وجعلت لها اسماً، ثم أصدرت لها كتاباً، فتلقاه القوم -وهم يقرءون ويحبون أي شيء- بالقبول العظيم، حتى توالت الأجزاء، وجنت هذه المرأة من هذه القصة ستمائة مليون جنيه إسترليني كما يقولون! وعندما نزل الجزء الأخير نُشر في الصحف أن المكتبات في بعض الدول الكبيرة المشهورة في بلاد الغرب سوف تداوم أربعاًَ وعشرين ساعة حتى تلبي احتياجات الناس من الإقبال على هذا الكتاب! قد نقول: سخافة، وقد نقول: ضياع، لكنهم يقرءون، وربما نجد سوق الكتاب وهو يشكو الحزن الأليم؛ حتى إنما يطبع باللغة العربية في العام الواحد لا يبلغ إلا خمس ما يطبع في بريطانيا وحدها فقط، ويصدق حينئذ فينا قول أعدائنا: إننا أمة لا نقرأ! فنحن معاشر الآباء فضلاً عن الشباب أليس في فرص الإجازات ميدان لنقرأ في السيرة، ولنقرأ في تاريخنا، ولنقرأ ما ينفعنا، ولنعرف ما يجري حولنا؟(58/8)
استغلال الأوقات بالترفيه المثمر النافع
وهناك أيضاً ميدان الترفيه: وهو أيضاً يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً، لقد كان لهو السابقين من أسلافنا اللهو بالخيل، وكان نور الدين زنكي القائد العادل المقاتل المجاهد العظيم كان لعبه بالكرة على الخيل، يعطفها يمنة ويسرة، ويقول: ما أريد بها إلا الاستعداد للجهاد، وكم هي فرص الترفيه التي يمكن أن تكون نافعة ومفيدة، والمراكز الصيفية -بحمد الله- تقدم كثيراً من هذا النافع المفيد المثمر الذي يدخل السرور، ويغير النفس، ومع ذلك يكسب المهارة الجديدة، والمعلومة الجديدة، والمعرفة الجديدة، إضافة إلى أجواء من الإخوة والتعاون وغير ذلك.(58/9)
استغلال الأوقات بالعمل
والعمل ميدان أيضاً لاغتنام الوقت، والاستفادة من الطاقات، فالعمل للشباب والشابات في صور مختلفة ولو كان عملاً ذاتياً ربما لا يكون له العائد المالي، لكن يكون له عائد تربوي ونفسي.(58/10)
استغلال الأوقات بالسفر المباح
والسفر وما أدراك ما السفر؟ له في جانب السلبيات باب واسع، لكنه كذلك يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً إذا لم يكن في البلاد التي يعظم فسادها، ويكثر شرها، وهي بلاد أعدائنا التي ننفق فيها أموالنا، وغير ذلك من الأمور التي نعرفها.
وأبواب الخير في هذا كثيرة مشرعة.
المهم أن نعرف أن الفراغ فرصة للعمل، وأن المسئولية لا يُستثنى منها أحد، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المغتنمين لأوقاتهم، الجادين في أعمالهم، الحريصين على تحصيل الخير والنفع والفائدة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(58/11)
ذكر بعض سلبيات العطل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولا شك أيها الإخوة الأحبة أن هناك صوراً محزنة، ومظاهر مؤسفة، وأحوالاً مخزية نراها في هذه الفترة من الصيف، ولقد تحدث إليّ رجل غيور ظل يتابع الاتصال وهو يركز على وجوه النقد التي تصاحب كثيراً من ممارسات الصيف، فآثرت أن يكون حديثنا الأول هو حديث الإيجاب، وحديث القواعد المؤسسة، وحديث الآيات البينة الواضحة، وحديث هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان النموذج الأمثل في اغتنام الأوقات، والذي كان مضرب المثل الحقيقي في حياة كل مسلم ومؤمن.
ولابد كذلك أن ننبه إلى هذه السلبيات تقع منا نحن، إما مباشرة، وإما بطرق غير مباشرة، وهذه مآسٍ كثيرة ومشكلات عديدة: أولها: مشكلات السهر والعبث: فأكثر الشباب والشابات بل وكثير من الأسر عندما يأتي هذا الصيف لا يذوقون النوم في ليله أبداً، ويسهرون الليل ينحرون أوقاته حتى الصباح، فإذا جاء الصباح قتلوه نوماً، وقتلوه كسلاً، وقتلوه سلبية! وهذا أمر ظاهر ومشاهد، ولو أردت أن تجرب فاتصل بأي بيت في صباح أي يوم فلن تجد لك مجيباً! ونرى ذلك بآثاره السلبية، فالشباب يصنعون التجمعات في الأماكن السكنية وفي أماكن المنتزهات، ويصنعون ما هو معلوم من الأذية والمعاكسات والمغازلات وغير ذلك من الأمور المعلومة، وتحصل مآسٍ أخرى في الأسواق والمنتزهات.
ولعلنا هنا نتوجه إلى النساء والفتيات؛ فإن كثرة الخروج المتأخر إلى ما بعد منتصف الليل في هذه الأماكن مع قصد في التميع والتكسر وعدم مراعاة أحكام الحجاب وآداب الحياء ومراعاة الواقع الاجتماعي والأسري والتربوي، فإن هذا يترتب عليه الكثير من المآسي، وترى اليوم الأسواق وهي تعج بروادها وكأنما كانوا في مجاعة فخرجوا يتطلبون قوتهم، أو كانوا قد عريت أجسامهم فخرجوا يشترون أكسية وأحذية أو نحو ذلك! ولا حرمة في التسوق، ولا غضاضة في قضاء الحوائج، لكنها بهذه الصورة والهيئة التي تكثر عند الناس حتى تكون كأنها جدول أعمال له في كل يوم ساعات أو له في كل أسبوع أيام هو الذي لا ينبغي؛ والحاجة تنقضي في أوقات يسيرة لمن كان يطلب حاجته ويعرفها دون هذا العبث والنزهة التي تتدثر بدثار التسوق ونحو ذلك.
وهناك مآسٍ أخرى في السياحة والأسفار، منها ما تصنعه كثير من النساء من نزع الحجاب مع أول درجات سلم الطائرة! وكأنما هناك مكان ليس فيه حكم لشرع الله، أو كأنما هناك مكان يخلو ويخرج عن علم الله المحيط الشامل، قال جل وعلا في وصف علمه وشموله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
وهذه صور كثيرة نحن مسئولون عنها، قد نكون من أهلها، وقد يكون بعض معارفنا أو جيراننا أو أقاربنا من أهلها، وقد يكون غيرهم من أهلها، ونحن نملك أن نقول كلمة ننصح بها، أو نقدم رسالة نذكر بها، وأن نحذر مما يستهدفنا، ونحن نمر في بلادنا وعلى مستوى أمتنا بأعظم هجمة شرسة تريد استئصال إسلامنا من جذوره، ونسخ تاريخنا من أصوله، وفوق ذلك كذلك نجد أننا نمر بأشد الظروف التي تكاد فيها أوضاع أمتنا في داخلها تموج بكثير من المتغيرات والاضطرابات، فهل يحسن بنا مع ذلك كله أن نبقى على غفلتنا، وأن نبقى على السر الأعظم في سبب بلائنا ونكباتنا ومصائبنا، والسبب الأساس في تسلط أعدائنا، وهو: مخالفتنا لأمر الله، وتنكبنا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
فالله الله في أبنائكم وبناتكم! والله الله في أوقاتكم وأيامكم ولياليكم وساعاتكم! والله الله في قلوبكم ونفوسكم، والله الله في الفرص العظيمة والأبواب المشرعة من الخير! لعل الله سبحانه وتعالى أن يعوضنا كثيراً مما فرطنا فيه، وأن يجعل هذه الأوقات المتاحة فرصة لننجز عملاً نخدم به أنفسنا، ونعلي به إيماننا، ونعظم به أجورنا، وننصر به أمتنا، ونقوي به مجتمعنا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين، وعلى آثار الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح سائرين.
اللهم إنا نسألك أن تهدينا، وأن تهدي بنا، وأن تجعلنا هداة مهديين.
اللهم إنا نسألك أن تستخدم جوارحنا في طاعتك، وأن تسخرنا لنصرة دينك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر أمة الإسلام والمسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا عباداً لك مخلصين، وجنداً في سبيلك مجاهدين، واجعلنا اللهم من ورثة جنة النعيم.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب ولا ترضى.
اللهم اغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ، ووفقنا اللهم للصالحات، وجنبنا اللهم الشرور والسيئات يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، واجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم عجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(58/12)
لمحة عن الامتحانات
في زحمة الدنيا وزخم الأحداث ينسى الناس الإعداد لكثير من الأمور المهمة، وبين انشغالهم باختبارات الدنيا يغفلون عن اختبار الآخرة رغم أنها مناسبة لتذكره والتنبه له، وإنّ الناظر في الفروق بينهما من ناحية الإعداد والاستعداد والتهيؤ وتغيير نظام المجتمع، ليرى من ذلك عجباً لا ينقضي، من شدة اهتمام الناس واعتنائهم باختبارات الدنيا، وتخطيطهم لها، وغفلتهم وتقصيرهم عن الاختبار الأهم والأعظم في يوم القيامة.(59/1)
بين اختبارات الدنيا واختبارات الآخرة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه وتعالى حمد الشاكرين الذاكرين، ونسأله مسألة الضعفاء والمساكين، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وفي بداية هذه الكلمة القصيرة -التي أرجو ألا أطيل بها عليكم- أقدم الشكر لفضيلة الإمام جزاه الله خيراً على حسن ظنه، وعظيم إكرامه، ولمن سعى في هذا اللقاء ليجعل لنا به -إن شاء الله تعالى- عند الله أجراً.
هذه هي أيام الاختبارات التي تشغل كل الناس حتى من ليس عنده اختبار، ومن لم ينشغل بها شخصياً فإنه يضطر إلى أن يتعامل في أيام الاختبارات بتعاملات وبأوقات وبطريقة مختلفة عما تعود عليه، والله سبحانه وتعالى قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2]، فالحياة كلها اختبار منذ أن يتنفس الإنسان أول نفس فيها، وحتى يلفظ آخر نفس كتب له في هذه الدنيا، فإذا كانت الحياة كلها اختباراً، فينبغي أن نعرف هذا الاختبار، وأن نعرف علاقته بهذه الاختبارات الدنيوية الكثيرة، ولكن أكثرها تكراراً وأهميةً عند الناس: اختبارات الطلاب والطالبات، حيث ينشغل بها الطلاب والطالبات، والآباء والأمهات، وتزدحم لأجلها الطرقات، وتتغير من أجلها العادات، فتختلف فيها كثير من الأحوال.
وحتى نستفيد -إن شاء الله تعالى في الوقت المتاح- نحب أن نجعل الحديث منصباً على نوعي الاختبارات في الدنيا والآخرة معاً، حتى نرى كيف اعتنى الناس وانشغلوا وفكروا وخططوا واجتهدوا في اختبارات الدنيا العارضة، وغفلوا وقصروا وتكاسلوا وانشغلوا عن الاختبار الأهم والأعظم، وهو اختبار الحياة الدنيا الذي سؤاله وجوابه عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.(59/2)
أيام خوف وفزع واضطراب
تجد الطالب أيام الاختبارات في هلع وقلق، إذا نام فهو خفيف النوم، وإذا أكل فهو سريع الطعام، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، ولا يسكن له قلب، لأن عنده ما يشغله.
ولماذا ينشغل عقله ويتعلق قلبه؟ لأنه مرتبط بأمر يرى فيه مصلحة، ويرى من ورائه خيراً، فكيف وأنت تفكر في أمر الآخرة واختبار الآخرة، إن تفكرت ينبغي أن تكون على جزع وخوف واضطراب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا النهج القويم بياناً انخلعت له قلوب الصحابة، وذرفت له عيونهم، واقشعرت منه جلودهم، وكانوا منه على خوف عظيم؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، تخويفاً من الاطمئنان إلى نتيجة الاختبار، ما الذي يخوف الطالب؟ هو يستعد ويأخذ، لكنه لا يطمئن ولا يركن.
وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور).
هذه معالم لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها مبالغةً في اللفظ، وإنما قصد بها غزواً للقلوب؛ حتى يرسخ فيها الخوف من عذاب الله الذي يدفعها إلى طلب رحمة الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، وبالتقرب إلى الله جل وعلا.
وحينما يكون الإنسان على هذا الخوف والاضطراب في أمر الدنيا واختبارها وهو أمر ميسور، وعاقبته قاصرة على الدنيا، فينبغي أن يكون على هذا النهج وأعظم أيضاً في اختبار الآخرة، فإن عائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح ترسم منهجاً عجيباً ينبغي أن يتفطن له المؤمن، وذلك أنها لما سمعت قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت عائشة رضي الله عنها: هؤلاء يعملون أعمالاً ويخافون؛ لأنهم سيرجعون إلى الله، فتوقعت وتصورت أن تكون هذه الأعمال أعمالاً سيئة قبيحة، فقالت لرسولنا صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ثم يخاف؟) تعني: يعمل السيئات ويخاف لأنه عمل أموراً منكرة يستوجب عليها العقوبة والعذاب، فقال لها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق! ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه)، هكذا رسم الرسول عليه الصلاة والسلام المنهج، أن تعمل وأنت على خوف ألا يقبل منك.
أما الحسن البصري رحمة الله عليه ورضي الله عنه فيخط في مقالته منهجاً عظيماً عجيباً، فيقول رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف على حسناتهم ألا تقبل منهم أكثر من خوفكم من سيئاتكم أن تحاسبوا عليها.
يعني: أنتم تعملون سيئات، وخوفكم قليل، وأولئكم يعملون الصالحات وخوفهم عظيم ألا تقبل منهم.
وكان الحسن رضي الله عنه ورحمه يبكي، فيقال له: لم تبكي؟ قال: أخشى أن يطلع الله علي وأنا في بعض ذنبي، أو قد عملت ذنباً، فيقول: يا حسن اعمل فلا أقبل منك أبدًا.
من كان يخاف، ويضطرب، ويقلق، ويجزع، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، كل ذلكم تخوف من هذا الاختبار الدنيوي، فالأولى أن يعرف طبيعة اختبار الآخرة، وأن يتدبر ويتأمل، ويكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج في ظلمة الليل، وينسل من بيت عائشة رضي الله عنها، فإذا هو يخرج إلى البقيع يتفقد الموتى، ويدعو كالمودع للأموات صلى الله عليه وسلم.(59/3)
الاختبارات تحتاج إلى جد ونشاط
ثم اختبارات الطلاب الدنيوية تحتاج إلى جد ونشاط؛ فلا نرى أحداً في وقت الاختبارات ينام ويفرط ويهمل، بل يستعد ويجد ويشمر، ولا يترك فرصةً تضيع، وإن سئل عن سبب هذا قال: لأن الأمر جد، والوقت قد ضاع، وأحتاج إلى أن أصل إلى شاطئ الأمان وبر النجاة، وهو تجاوز الاختبار وحصول النجاح.
فإذاً: لما أراد الهدف والغاية أخذ لها طريقها وهو الجد والاجتهاد، أما إذا لم يأخذ بالجد فإنه لا يحصل النتيجة، ويكون عند الناس أحمق ومفرطاً ومقصراً.
تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس ولذلك بين الله سبحانه وتعالى لنا أن الأمر بالنسبة للآخرة لا ينال إلا بالجد.
أما المنافقون فقد وصفهم الله سبحانه وتعالى فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، هذا الكسول المتثاقل لا ينجح النجاح المطلوب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] تكاسل، قعد، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، هذا الذي لا يأخذ بالجد والمعالي من الأمور لا يستطيع أن يكون ناجحاً متفوقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الجد فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، يجدون حتى يحصلون النجاح، ويسعون إلى الوصول إلى بر الأمان.
بعض الناس إذا قيل له في الجد في أمر الدين لم يستجب، وإن كان يجد في أمر الدنيا غالباً، ولا تحتاج أن توصيه في أمر الدنيا، فالطلاب في غالب الأمر لا يحتاجون في أيام الاختبارات أن يوصيهم أحد بالجد، كل يجد بقدر طاقته، وبأقصى حد عنده، لكن إن جئت للناس وقلت لهم: جدوا في أمر الدين وخذوا بمعالي الأمور، قالوا: إن الدين يسر، وقرءوا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ويأتي أحدهم بأحاديث وآيات يضعها في غير موضعها، وهو مفرط في جنب الله سبحانه وتعالى، ومقصر عن التشمير والجد، كما ذكر أبي بن كعب رضي الله عنه لـ عمر بن الخطاب لما سأله عن التقوى؟ قال: أرأيت لو كنت تسير في أرض ذات شوك، ماذا كنت تصنع يا أمير المؤمنين؟ قال: أشمر وأجتهد، قال: فتلك التقوى.
من أراد أن ينجح في اختبار الآخرة فلا بد أن يحقق ما يحققه في الدنيا من الجد والاجتهاد وبذل النشاط، إلى أقصى غاية كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في موقفه العظيم الذي لا يقوى عليه أحد بعده، ولا يصل أحد فيه إلى تلك المرتبة: (كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة: لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، صلى الله عليه وسلم، فجد كما تجد في أمر الدنيا، ولابد من الجد في أمر الآخرة.(59/4)
الاختبارات محددة المنهج واضحة المعالم
الاختبارات اليوم محددة المنهج، لا نجد في اختبارات الطلاب أن مادة الجغرافيا تختبر بدون منهج، بل هناك منهج محدد وواضح، عنده نصف الكتاب أو ربعه، فهذا الوضوح هو الذي يعين على تجاوز الاختبار، وإلا لو ترك الاختبار هكذا، فإن بعض المدرسين يأتي أحياناً في أثناء الدراسة ويقول للطلاب: كل واحد يخرج ورقته ويسألهم سؤالاً مباغتاً، أو يسألهم في أمر لم يتهيئوا له، فلا يحسنون الإجابة.
أما هنا فالاختبارات في غالبها واضحة ومحددة المنهج، وهذا الذي يجعل الطالب يستطيع أن يجيب ويحسن الإجابة، والله سبحانه وتعالى جعل أمر الآخرة وطبيعة الاختبار الأعظم أنه واضح ومحدد، وما تركه هكذا مجهولاً.
إن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان، والعبادة والأخلاق، وقال الله سبحانه وتعالى في أخبار الكفار يوم القيامة: {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8 - 9]، حدد الله سبحانه وتعالى لهم المنهج من عنده عن طريق الرسل، وحدد لهم طبيعة الاختبار وطريقة الاختبار، ولكن الناس عن ذلك غافلون، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، منهج واضح، كما أن اختبارات الدنيا مناهجها واضحة، والمطلوب فيها محدد.
جاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإيمان، ثم يسأل بعد ذلك عن فرائضه، فقال له: الصلوات الخمس.
صيام شهر رمضان.
حج البيت.
الزكاة، قال هل عليَّ شيء بعدها؟ قال: لا، فخرج وولى، وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، هذا المنهج محدد، مطلوب منك الإيمان بالله وببقية أركان الإيمان، وفرائضه محدودة ليس فيها مشقة ولا عسر.(59/5)
الاختبارات تحمل طابع التنافس والحماس
طبيعة هذه الاختبارات هي أول أمر نعرض له: معلوم عند الطلاب أن الاختبارات فيها طابع التنافس والحماس؛ كيما يتفوق الواحد على بقية زملائه، أو يحصل على درجة أعلى، أو يحظى بتقدير أرفع، وبالجملة فإننا نجد الناس في اختبارات الدنيا يتنافسون تنافساً شديداً، سواء في هذه الاختبارات أو حتى اختبارات الوظائف، إذا كان هناك وظيفة يتقدم لها جمع من الناس، فإنهم يتنافسون تنافساً شديداً في التحضير والإعداد لها حتى لو كان الأمر يحتاج إلى أن يحسن من هيئته، أو أن يعد من يتوسط له، ويأخذ بكل الأسباب في سبيل التنافس.
والله سبحانه وتعالى جعل التنافس الحقيقي في ميدان الآخرة، وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تربوا في مدرسة النبوة، فعلمونا بأفعالهم ما يكون فيه التنافس، وفي أي شيء يكون التسابق؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعاهم فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، الأمر لا يحتاج إلى تباطؤ، بل يحتاج كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وكما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77].
وهذه أمثلة من واقع أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وما كانوا فيه يتنافسون: جاء أبو ذر رضي الله عنه -كما في الصحيح- ومعه نفر من فقراء أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يقولون: (ذهب أهل الدثور بالأجور)، أصحاب الأموال سبقونا ونافسونا، فأخذوا أكثر منا، وحازوا على درجات أعلى، وأصبحت تقديراتهم أرفع، ولم؟ قالوا: (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم)، فماذا قال لهم الرسول؟ قال: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وحملك للرجل متاعه على دابته صدقة)، ماذا عمل الأغنياء الأثرياء؟ فكروا وتنافسوا فأخذوا بهذا، فتساووا مرة أخرى، وعاد التنافس، فجاء الفقراء وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ويسبحون كما نسبح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، كان تنافسهم شديداً في هذا الباب.
وأبو بكر وعمر كانت لهما قصة في التنافس عجيبة: كان أبو بكر يسبق عمر دائماً، فلما جاءت غزوة تبوك ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للتبرع والإنفاق، عقد عمر في نفسه عزماً ونيةً خالصةً لله سبحانه وتعالى أن يسبق أبا بكر، فقال: اليوم أسبق أبا بكر، فماذا فعل؟ جاء بشطر ماله.
الآن إذا أخرج الإنسان الزكاة وزاد عليها يسيراً حسبها، أما هذا فقد جاء بنصف رأس المال والميزانية كلها، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ما أبقيت لأهلك يا عمر، قال: أبقيت لهما الله ورسوله وشطر مالي، فوافى أبو بكر بعده بقليل، وأتى بما عنده، فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر، قال: أبقيت لهما الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أزرؤك يا أبا بكر بعدها) أي: أنت السابق الذي لا تنافس أبداً.
والناس -كما أشرنا- يتنافسون في أمر الدنيا، وفي اختبار الدنيا، ونحن نرى هذا التنافس ظاهراً جلياً بين الطلاب، فينبغي أن نلتفت إلى التنافس في أمر الآخرة؛ لأن طبيعة الآخرة أيضاً تنافس، فالرسول عليه الصلاة والسلام علم أصحابه التنافس في أمر الآخرة أيضاً، فكانوا لا يتقاعسون عن فضل، ولا يقدم أحدهم غيره في أجر وثواب أبداً، بل كانوا يبتدرون ويستبقون، لما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد سيفه، قال: (من يأخذ هذا بحقه)، ابتدره أبو دجانة رضي الله عنه، وهكذا.(59/6)
قبل الاختبار
هذه أمور في طبيعة الاختبارات تربطنا باختبارات الآخرة، ثم هناك أمور في جانب آخر، وهي: مرحلة ما قبل الاختبار.(59/7)
استخدام ألفاظ التشجيع والثناء
وأمر ثالث يحدث قبل الاختبارات، بالذات بالنسبة للأهل: تجد الوالد والوالدة يستخدمون معسول الكلام، وحسن الألفاظ، والتشجيع مثل: أخذ الله بيدك.
وأعانك الله.
وبارك الله فيك.
وهكذا صباحاً ومساء، فلا ترى وجهاً مقطباً، ولا كلمة شديدة، ولا قبض يد، كل الأمور ميسرة، لماذا؟ يقول لك: حتى يكون مستعداً قبل الاختبار، ويدفعه ذلك إلى أن يكون استعداده نفسياً وعملياً على أحسن وجه، لا يوجد أي معوق أبداً، ويكون ديدنهم: اهتم بالدراسة، ذاكر أكثر.
لكن في أمر الآخرة، وفي أمر دينه وعبادته، تجد التقصير في كثير من الأحوال، ولا تجد الوالد يعتني بولده، ولا يشجعه، إذا رآه ذاهباً إلى المساجد، بل ربما أحياناً يقول له: أربعة وعشرين ساعة في المسجد، ما أحد يراك في البيت! وهو مسكين تأخر دقائق صلى فيها السنة، فأقام والده الدنيا وأقعدها.
أما بالنسبة للاختبارات فلا بأس، وهذا أيضاً من سوء وفساد القيم.(59/8)
سلوك الناس قبل الاختبارات
كيف يتصرف الطلاب قبل الاختبار؟ حتى نربط ذلك بسلوكهم في أمر اختبار الآخرة.
تجد للناس وقتئذٍ قدرةً على التكيف وتغيير الظروف مهما كانت، كل الطلاب والأهالي في البيوت يغيرون الظروف، لا تجد شيئاً إلا ويتغير، أوقات الطعام التي كانت محددة تتغير، وقت الطعام الذي كان طويلاً يقصر، أمور كثيرة في حياة الناس تتغير، ينام ويستيقظ قبل الفجر، ومن الذي يوقظه؟ الأم أو الأب، والزيارات تنقطع، والاتصالات تتوقف، عجباً كيف استطاع الإنسان أن يغير! غير لأنه اهتم؛ ولأنه أراد أن يتهيأ لأمر عظيم، لكن فيما يتعلق باختبار الآخرة لا يفعل ذلك.
ونحن في دنيانا كلها ما زلنا في مرحلة ما قبل الاختبار، فهل غيرت ظرفك حينما نمت متأخراً لتستيقظ للفجر، وحينما فرطت في أمر لتتدارك الأمر، تجد كثيراً من الناس إذا جئت لتقول له في شأن دينه وأمر ربه، يقول: لا أستطيع، صعب عليه أن يغير الظروف والأوقات والعادات التي تعود عليها، من الصعب أن يستيقظ للفجر، ثم بعد ذلك قد ينام فلا يستيقظ للدوام، كيف يستطيع أن يغير الحالة وقد استمرت ودوام عليها؟! وكيف غير في أيام معدودات هذه العادات كلها لأجل اختبار الدنيا؟ وتجد أيضاً أن كل الظروف تتغير، فهل يشاهد التلفزيون؟ لا، هل يخرج للنزهة؟ لا، بل يؤجلها، هل عنده وقت للتسلية؟ لا، يؤخرها، لماذا؟ قال: لأننا في فترة ما قبل الاختبار! وكذلك في أمر اختبار الآخرة: هل أجلت ما ينبغي تأجيله، وتركت ما ينبغي تركه؛ لكي تستعد لاختبار الآخرة، هذا أيضاً أمر يحتاج إلى انتباه.(59/9)
حسن الاستعداد عملياً
ليس فقط يفرغ الناس الأوقات ثم ينامون أو يغيرون، بل هم مستعدون أيضاً عملياً، فتجده أولاً: يفرغ الوقت للمراجعة والمذاكرة، والأب حريص في أن يواظب على مراقبة ابنه، وإذا احتاج إلى مدرس أحضر المدرس، وإذا لم يكف مدرس قد يحضر الثاني، وإذا ما كفى اثنان ممكن أن يسعى بكل وسيلة حتى يطمئن إلى أنه قد استعد أقصى أنواع الاستعداد، هل يحتاج إلى كتب مساعدة؟ يحضرها، هل يحتاج إلى أسئلة وإجابات؟ يوفرها، يذهب ويبحث عن أسئلة في الأعوام الماضية، هكذا يفعل الطلاب، يذهبون فيبحثون عن أسئلة العام الماضي والذي قبله، وكيف كانت إجاباتها وطريقة الاختبارات، كل ذلك استعداداً عملياً للاختبار.
لو تأملت أيضاً تجد أنه لا يكون في هذه الأوقات أعمال تخالف هذا الاستعداد مطلقاً، فأين الاستعداد لأمر الآخرة؟ هل راجعت الاختبارات السابقة؟ هل نظرت كيف يكون الاختبار؟ هل تأملت في مثل هذه الأمور التي تتعلق بأمر هو أعظم وأهم مما تهيأت له؟ لو جئت الآن وقلت للأب: الابن لا يصلي، قال: الهادي هو الله! ولو قلت: الابن لا يذاكر، فلم لا تقول: الذي يعينه على المذاكرة الله، وتتركه؟ لا، بل هناك تتفرغ له، إذا أراد أن يلتفت وقفت له بالمرصاد، وإذا لم يفهم أتيت له بالمدرس، وإذا ما نفع المدرس تفرغت بنفسك لتذاكر له أو تدرسه، وهنا الهادي هو الله؛ سبحان الله العظيم! لم اعتنيت بأن تهيئه لاختبار الدنيا، ولم تعتن بتربية ابنك واستعداده لاختبار الآخرة؟ توقظه للاختبار قبل الفجر إذا أراد، ونادراً أو نسبة لا تكاد تذكر أن طالباً ينام عن الاختبار ولا يحضر، لكن كم من الناس طلاباً ورجالاً ونساءً ينامون عن الفجر؟ أليس هذا اختباراً بسيطاً من اختبارات الله سبحانه وتعالى للعبد حتى يخرج من شهوات نفسه، ومحبة ما يميل إليه، إلى استجابته لأمر الله سبحانه وتعالى.
فالاهتمام للدنيا وإهمال الآخرة يعد من سوء التدبير، وفساد القياس؛ لأن مقتضى قياس الأولى: أنك إذا اعتنيت به في الدنيا فعنياتك به في أمر الآخرة ينبغي أن تكون أعظم.(59/10)
الفروق بين الامتحان الدنيوي والأخروي(59/11)
الفرق الرابع
الفرق الرابع: أن امتحان الدنيا ممكن أن تجد من يساعدك عليه، ممكن أن يجد الطالب فرصةً ليغش، ممكن بعد أن يسلم الورقة يوسط للمدرس من يوصيه به خيراً ليكيل له في الدرجات، أو ليتجاوز عن الأخطاء والهفوات، كلها أمور واردة ويتعلق بها الإنسان كثيراً، ويفكر فيها، ويقول: لعل وليت أما في الآخرة فلا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وينقطع كل أمر إلا من قضاء الله سبحانه وتعالى، وليس ثمة مجال مطلقاً لأن تستزيد، أو أن تأخذ دعماً من أحد، كل يقول: نفسي نفسي، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، لا أحد ينظر في أحد.
فالكفار يود أحدهم لو عنده ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدي به من عذاب يوم القيامة، ليس هناك من شيء أبداً إلا من أتى الله بقلب سليم، ورحمة من الله يفيض بها على من يشاء، وشفاعة يأذن بها لمن رضي جل وعلا؛ فلذلك ينبغي أن ينتبه الإنسان، وأن يعلم أن المراوغة يوم القيامة لا تفيد، إذا سأل فتحرك اللسان كذباً وزوراً، ختم الله على فمه، ونطق جلده، ونطقت يده، ونطقت رجله {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
فلا مجال هناك للمراوغة، ولا للغش أبداً، بل كل شيء يظهر على حقيقته، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة)، هؤلاء الذين يكذبون: (رجل آتاه الله علماً، فيقول له الله: ما فعلت بعلمك؟ يقول: علمته فيك)، يعني لأجلك، وحسبةً لله، وطلباً للثواب، وهو كاذب في قوله، (فيقول الله سبحانه وتعالى: كذبت، بل علمته ليقال: عالم، وقد قيل، فيؤمر به فيكب على وجهه في النار)، وهكذا الثاني والثالث مثله؛ لأن الرجل الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى قوة، يقول: (جاهدت فيك، ولإعلاء كلمتك، فيقول الله سبحانه وتعالى: كذبت، وإنما جاهدت ليقال: شجاع، وليقال: جريء، وقد قيل، فيكب على وجهه في النار)، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.
فمن كذب في هذا الاختبار عوقب أشد عقاب، فليس هناك مجال لا لغش، ولا لشفاعة، ولا لواسطة من هذا النوع أبداً ومطلقاً.(59/12)
الفرق الثالث
الفرق الثالث: ما هي نتيجة اختبار الدنيا؟ تأخذ شهادة، أو منصباً، أو أي نوع من الفخر الفارغ، أو من التعالي الذي لا قيمة له.
أما الآخرة فشهادتها وثمرتها جنة عرضها السماوات والأرض، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وشهادة الجنة هي التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف:49].
هذه هي الشهادة: أنه إذا خرج من الثانوية أخذ ورقة يدخل بها الجامعة، وإذا خرج من الجامعة أخذ ورقة يدخل بها الوظيفة، أما هنا فيأخذ شهادة يدخل بها جنة فلا يخرج منها أبداً، فيها نعيم لا ينقطع مطلقاً، بل هو في زيادة وتضاعف عظيم عند الله سبحانه وتعالى.(59/13)
الفرق الثاني
الفرق الثاني: امتحانات الدنيا تتكرر: ممكن أن يعيده أو أن يعيد السنة، أو يغير المدرسة كلها، يمكنه أن يشق طريقه بأي وجه من الوجوه، أما اختبار الآخرة فواحد، ليس فيه إعادة، ولا زيادة، إذا سلمت ورقة الإجابة فلا لجنة رحمة، ولا غير ذلك من الأمور إلا ما قضاه الله سبحانه وتعالى، فلذلك أيضاً يتنبه الإنسان في هذا الباب كثيراً؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أنه لا عودة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ويقول الله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لََعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، انتهى الأمر.(59/14)
الفرق الأول
وهي فروق يسيرة في عددها، لكنها عظيمة في النتيجة والأثر: الفرق الأول: أنك باختبار الآخرة لن تسأل عن اختبار الدنيا أبداً، لن تسأل لا عن المناهج، ولا الكتب ولا الوظائف، وإنما الأسئلة محددة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، إلخ).(59/15)
عواقب ما بعد الاختبارات(59/16)
استلام الشهادات
بعد الاختبارات تظهر النتيجة ويفرح بها الطالب، لكنه ينتظر الشهادة التي قد يبرزها أو يظهرها أو يدفعها، وشهادات يوم القيامة ليس لك فيها اختيار، تتطاير الصحف، فيؤتى كل أحد كتابه بحسب عمله، فمن كان خيراً أخذ كتابه بيمينه، وأما صاحب العمل السيئ، فقد ورد في بعض الآثار أنه يريد أن يأخذ كتابه بيمينه فلا يستطيع، وتلتصق يده الشمال بوراء ظهره فيأخذ كتابه ويده الشمال ملتصقة وراء ظهره، لا يملك في ذلك اختياراً، ولا يملك في ذلك أن يدعها أو أن يتركها.
الآن الشهادة إذا كانت غير مناسبة قد يتركها، أما تسليم الشهادات يوم القيامة فكما قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، يفرح بها ويرفعها، هذه هي الشهادة، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27]، هكذا يقول بعض الناس في اختبار الدنيا، أي كأنه يقول: يا ليتني لم أختبر، يا ليتها كانت القاضية، ليتني لم أدخل المدرسة ولم أدخل التعليم نهائياً، كأنه اغتم لذلك، والغم الأكبر إنما يكون في ذلك الحدث الأعظم في هذا الباب.
وكذلك نجد الناس إذا أخذوا الشهادات على هذا النسق وعلى هذا النحو يعتنون بإظهارها وبإشهارها، ويوم القيامة من كانت شهادته حسنة فإنه يظهرها ويشهرها ويرفعها، أما من كان غير ذلك فهناك حضور في تسليم الشهادات، يحضر مدير المدرسة والمدرسون للتكريم، والآخر الذي لا يكرم ينكس رأسه ولا يحضر أصلاً، وهناك الحضور أعظم: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، الملائكة حضور، والرب سبحانه وتعالى يتجلى على الناس بعظمته، فهو مشهد خطير تنخلع له القلوب، ويكون الخزي -والعياذ بالله- هو الخزي الأعظم الأكبر حينما لا يفلح الإنسان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الفائزين الناجحين.(59/17)
مراتب الفوز والنجاح
قد ينجح الناس، ولكن هناك مراتب: منهم المقبول الذي كان على شفا جرف هار، ولكن الله ستر عليه فأنجاه، ومنهم من يأخذ جيد، وجيد جداً، وممتاز، ومرتبة شرف، وكذلك الأمر في الآخرة، فإن النجاة على مراتب، لكن لننظر إلى صاحب أدنى مرتبة، أقل واحد هذا الذي يأخذ المقبول، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم عن آخر رجل يدخل الجنة، ما قصته؟ يعذب في النار بقدر ذنوبه ومعاصيه، فيقول: يا رب أخرجني من النار، فيخرج من النار، ثم يبقى خارج النار، فينظر للجنة فإذا بها بعيدة، فيقول: يا رب قربني من باب الجنة، فإذا قال: لا تسألني شيئاً بعدها، يقول: لا أسألك يا رب شيئاً بعدها، فإذا قربه من الجنة كما في الحديث: يأتيه من طيبها ومن وريحها، فيقول: يا رب أدخل الباب، فيدخله الله سبحانه وتعالى الجنة، ويعطيه من نعيمها سبحانه وتعالى، فيقول الله سبحانه وتعالى: هل ترى ما حولك؟ قال: نعم، قال: أيسرك أن يكون لك مثل هذا، فيقول في الحديث: (أتهزأ بي وأنت الملك، فيضحك الله سبحانه وتعالى، ويقول: فإن لك مثله وعشرة أمثاله).
وهذا الذي أريه هو كملك الدنيا، يعني أقل واحد يأخذ مثل الدنيا وعشرة أمثالها كما ورد في هذا الحديث الصحيح.
هذا آخر أهل الدنيا دخولاً الجنة، فما ظننا بما هو أعلى منه؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى، فمنه تفجر الأنهار، ويظلله عرش الرحمن) سبحانه وتعالى، هذا أقل درجة، فلك أن تتصور شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وقد أوجز الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وأما هذه المراتب فيقول عنها صلى الله عليه وسلم: (ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام)، وفي بعض الروايات عن أقل ما بين درجة ودرجة: (كالكوكب الغابر في السماء)، الكوكب الغابر لا ترى منه إلا نقطة، يعني أبعد ما بين السماء والأرض، هذه المسافة ما بين مراتب الجنة وتفاوت الدرجات فيها.
هكذا ينبغي أن ننتبه إلى هذه الفروق.(59/18)
ترقب النتائج
مسائل ما بعد الاختبار أمر آخر، تجد الناس مترقبين للنتائج، فترى من يذهب من الصباح الباكر عند أبواب المطابع ينتظر الجريدة لينظر النتيجة.
أجبت أم لم تجب؟ قال: أجبت إن شاء الله إجابات جيدة، لكن لا يطمئن القلب حتى يرى النتيجة بأم عينه، ويبقى في هذه الفترة مترقباً، كل يوم ينتظر وهو على جمر من النار، فإذا خرجت النتيجة يسكن ويطمئن إذا فاز ونجح.
والله سبحانه وتعالى بين أيضاً أن المسألة أعظم من ذلك وأكبر، وأرهب، وأشد خوفاً وخطراً يوم القيامة، الناس في ذلك الصعيد، في يوم الحشر الأعظم، والعرق يبلغ من الناس إما إلى العقبين أو الركبتين أو الحقوين أو الكتفين، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، والشمس قد دنت من رءوس الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، والرسل والأنبياء كلهم يقول: نفسي نفسي، وكل قد تبرأ من صاحبه، والناس ينتظرون النتائج، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
تصور هذا الترقب لهذه النتيجة العظمى، هذه النتيجة إذا وصلت إليها زحزحت، وزحزح يعني كأنه كان يوشك أن يقع في النار فزحزح عنها، هذا الذي زحزح فاز، فكيف بالذي نجا وكان سابقاً وفائزاً ومقدماً، وهذا الترقب يقول عنه الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، وهذا الثبات والترقب ينبغي أن يكون له استعداد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، صحيح صدقوا في الإيمان، وأخلصوا في الطاعات، وواظبوا على الفرائض، ومع ذلك أعدوا العدة، ثم بعد ذلك أيضاً يترقبون النتائج.(59/19)
مقياس الفرح والحزن عند الصحابة
كانوا رضي الله عنهم إذا نبغ الابن منهم في أمر الدين عظموه، كما ورد في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شجرة مثلها كمثل المسلم، قال: فوقع الناس في شجر البوادي - يعني يخمنون في أنواع من الشجر- ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت فسكت، وفي رواية: فإذا في القوم أبو بكر وعمر فسكت، وفي رواية: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة)، فأخبرت بها عمر أي: بعد ذلك قال لأبيه عمر بن الخطاب: أنا عرفتها قبل أن يقولها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: لوددت أنك قلتها، أي: كان سيكون في قمة الفرح، وكأنه أعطي الدنيا بما فيها لو أن ابنه قال هذه الكلمة، هل ليفتخر؟ لا، ولكن ليبرز علمه وفقهه وفطنته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصحابة كيف كانوا يفرحون؟ متى كانوا يحزنون؟ كل ذلك متعلق بأمر الدين، وبما يفتح الله لهم من الخير.
هذا حنظلة بن أبي عامر الأسيدي كما ورد في صحيح مسلم: كان كسف البال مغتماً، منكس الرأس، فلقيه أبو بكر، فقال له: ما بالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة! قال: وما ذاك؟ قال: إنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن الإيمان والجنة والنار، فكأنا نرى كل ذلك بأعيننا، فإذا انقلبنا إلى أهلنا وعافسنا الأزواج والنساء تغيرنا، وفي رواية: أنكرنا نفوسنا.
أبو بكر كان غير منتبه لهذا الأمر، فلما قال له ذلك فكر، فإذا الحال هو الحال، والأمر عنده كما هو عنده، قال: لئن كان كما تقول فكلنا ذلك الرجل، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تدومون على حالكم التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، تلك ساعتا الصحابة، وليست كالتي عندنا التي يستشهد بها الناس ويطبقونها تطبيقاً سيئاً ساعة فيها شيء من الطاعة قليل، وساعة فيها من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
فإذاً: ما بعد الامتحانات نفرح بأمر الاختبار إذا نجحنا، فأين فرحنا بأمر الدين، وفرحنا بالتوفيق للطاعات؟ وأين حزننا إذا فاتتنا الصلوات، وقصرنا في هذا الأمر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)؟ وكما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في صورة فريدة رائعة لا يوجد في التاريخ مثلها أبداً، الذين أطلق عليهم اسم: البكائين جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه للجهاد والغزو في غزوة تبوك وهم صفر اليدين، ليس معهم مال، ولا زاد، ولا رواحل يركبون عليها، قالوا: يا رسول الله! احملنا معك نجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أجد ما أحملكم عليه)، فهل قالوا: فرصة، مشكلة وانزاحت، منك ولا من غيرك؟ لا.
بل: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، حزنوا أن فاتتهم هذه الفرصة من الطاعة، وهي فرصة شاقة شديدة في حر شديد، في صحراء ضاربة عبر الجزيرة إلى أقصى شمالها، لا يلقون فيها أرضاً خضراء، ولا أهلاً أحباء، وإنما يلقون فيها موتاً أحمر، وسيوفاً مشرعة، مع ذلك حزنوا من صميم قلوبهم ألا يجدوا ما ينفقون حزناً على ما فاتهم من الطاعة.
هكذا ينبغي أن تكون مشاعرنا؛ فرحاً بالطاعة وحزناً على فواتها، وعلى ما يقع من تفريط في جنب الله سبحانه وتعالى، لا نفرح بما قد يكون من أمر الدنيا، فإن فرحنا لأنه يعين على الطاعة والآخرة فلا بأس؛ فينبغي أن نتنبه في هذه المسألة.(59/20)
الرسوب والنجاح
ما الذي يحصل بعد الاختبار؟ في اختبارات الطلاب واختبارات الدنيا يحصل رسوب أو نجاح، شقاوة أو سعادة، حزن أو فرح، لكن أمره سهل، وبعض الناس ممن تبلدت أحاسيسهم يرسب وهو في قمة الفرح؛ لأنه لا يدرك ولا يفهم أثراً لهذا الاختبار ولا قيمة له، لكنه في قرارة نفسه حزين؛ لأنه يرى الطلاب من حوله كل معه شهادة النجاح وهو وإن افتخر لكنه كاذب في التعبير عن شعوره.
إذاً لماذا فرح؟ لأنه نجح، ولماذا حزن؟ لأنه رسب.
وتجد هذا لا يخصه وحده، إذا فرح ونجح إذا بابتسامة الأم عرضها كعرض البيت، وإذا صياح الأب وتهليله وتكبيره كأنما فتحت الدنيا، وانتصرت الأمة، وكل الناس يفرحون بفرحه، وإذا رسب تجد سحابةً سوداء مظلمة تخيم على البيت.
هل نفرح لأمر الآخرة؟ وإذا وفق الإنسان إلى طاعة هل يفرح الأهل فرحاً صادقاً، وذلك إذا رأى الوالد ابنه مستقيماً على أمر الله، مرتاداً للمساجد، ملتزماً بسنة الرسول، يقضي وقته مع القرآن، ويعيش في رياض القرآن، ويرتاد حلق العلم؟! لكن للأسف أن الأمر وجوده وعدمه سواء.(59/21)
الحزن والسرور
هل يحصل الحزن إذا تم التقصير في أمر الآخرة؟ إذا فاتت صلاة الفجر فلا مشكلة، بل إذا تأخر عن أداء الصلاة جماعة، بل عن أداء الصلاة بالكلية، بينما كان الصحابة يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام، وكانوا إذا فاتت الواحد منهم الجماعة ورد في بعض الآثار أنه يعزى ثلاثة أيام، فهو حزين والناس يرثون له.
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -كما في الصحيح- لما مرض يوم الفتح وقيل في صلح الحديبية وأراد الرسول أن يرجع إلى المدينة، وكان المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم من أمر هجرتهم في شرع الله ألا يرتدوا بعد هجرتهم، وكلهم بعد أن هاجروا المدينة ما رجع أحد منهم إلى بلده؛ لأنهم خرجوا لله ورسوله فلزموا ذلك، فلما أراد الرسول أن يرجع وكان سعد بن أبي وقاص مريضاً لا يستطيع أن يرجع، فدخل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا هو حزين يبكي ويقول: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي، أي: هل أبقى هنا ولا ألحق معكم ولا تتم لي الهجرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له مبشراً: (لعلك أن تخلف فيسر بك أقوام، ويضر بك آخرون)، فكانت بشارة وعلامة نبوة من الرسول؛ لأن سعد بن أبي وقاص كان فارس القادسية وقائدها، والذي كتب الله النصر على يديه للمسلمين على أعداء الله.
ثم قال الرسول: (ولكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) والرسول حزن له؛ لأنه أدرك الوفاة بمكة وهو من المهاجرين، وكان يحب أن يموت في المدينة؛ لأن المهاجرين كان مهاجرهم المدينة ولا يرجعون منها أبداً، وما ورد من أن الصحابة خرجوا من المدينة، فذلك صحيح لكنهم خرجوا في الأمصار وساحوا فيها، وما رجعوا إلى مكة وأقاموا فيها؛ فلذلك انظر إلى هذا الحزن وإلى هذا التغير لأمر الدين ولأمر الآخرة.(59/22)
تنبيهات مهمة
نختم بأمور فيها شيء من التنبيه، وإن كان كل ما مضى فيه تنبيه للطلاب وللآباء والأمهات أن يكون اعتناؤهم باختبار الآخرة الأعظم، الاختبار الذي فيه المواقف العظمى الخطيرة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، فإذا الطلاب عند أول الاختبارات منهم من يرتعد ويرتجف، لكن الأمر لا يعدو ضربات من القلب، وقد تجد قليلاً من قطرات العرق تتصبب، ومنهم من لا يلقي لذلك بالاً.
أما هناك فهو الخوف الأعظم فنتنبه لذلك، وأما الطلاب فينبغي أن يعلموا أموراً: الأمر الأول: أن الأخذ بالأسباب من دين الله سبحانه وتعالى: فينبغي أن يشمروا عن ساعد الجد، ويذاكروا ويراجعوا، ويسألوا، ويسترجعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أما أن يقول: الله سبحانه وتعالى الميسر والمسهل.
فنقول: نعم هو ميسر ومسهل، لكن لا بد من الأخذ بالأسباب.
الأمر الثاني: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده إذا ظن أنه أحفظ الحافظين، وأذكى الأذكياء، وأفطن الفطناء، فهنا يخشى عليه أن يقع، وكم رأينا ممن حصل وجد ثم لم يستعن بالله ولم يقل: يا رب، فربما حرمه الله سبحانه وتعالى التوفيق؛ لأجل نسيانه الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن ينتبه لذلك.
الأمر الثالث: كثرة التقرب من الله سبحانه وتعالى: أليس من طبيعة الإنسان إذا داهمته الشدة أن يزداد صلة ً ورجوعاً إلى سبحانه وتعالى؟
الجواب
نعم؛ لأنه إذا رجع إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ويرجو أن يكون بقربه مهيئاً لأن يوفقه الله جل وعلا، ولكن لا يكون كحال بعض الناس، إذا جاءت الاختبارات ملئت المساجد، فأصبحت الأمور على خير كثير، ثم إذا انتهى الأمر، وتحقق المقصد، انقلب على وجهه، وترك طاعة ربه.
وهناك نوع آخر: وهو نوع خطير عند الطلاب، بعضهم يقلل من الطاعات، إذا كان يصلي النوافل عادةً، ويذكر الله ويسبح، فإنه يتركها ويقول: الآن اختبارات، حدك حد الفرض، والفرض يحتاج إلى مقياس من السرعة حتى تنتهي من الصلاة بسرعة، فهذا يحرم نفسه، وكلما فرط في ذلك كان حرماناً له.
ثم كذلك ينبغي للإنسان أن يستحضر السكينة والطمأنينة عند اختباره؛ لأن التوتر ومزيد الانفعال يفقد الطالب التركيز والقدرة على الإجابة؛ ولذلك بعض الطلاب إذا أخذ أوراق الأسئلة يقرأها من الأخير ومن الوسط، فلا يعرف ماذا قرأ، ولا كيف يجيب، ينبغي أن يكون آخذاً الأمر بهدوء وسكينه وطمأنينة حتى يعينه الله سبحانه وتعالى على ذلك.
وفوق ذلك كله: أن يعلم أن هذا الاختبار إنما هو أمر يسير ينبغي أن يجعل في نيته أنه يستعين به على طاعة الله، وعلى الأخذ بالأسباب التي تعينه على أن يخدم دينه وأمته، حتى يكتب له الأجر، ويوفق إن شاء الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في اختبار الآخرة، وأن يجعلنا من المتهيئين له، وأن يجعلنا من الفائزين والناجحين فيه.
اللهم اختم لنا بالصالحات، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم لا تفضحنا على رءوس الأشهاد، اللهم كما سترت علينا ذنوبنا في الدنيا فاسترها علينا في الآخرة واغفرها لنا يا أرحم الراحمين، اللهم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا جبار السماوات والأرض، نسألك اللهم أن تتغمدنا برحمتك، وأن تحفظنا برعايتك، وأن تكلأنا بعينك التي لا تنام.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم أعذنا من شرور أنفسنا، وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكها، أنت وليها ومولاها، اللهم وفقنا ووفق آباءنا وأمهاتنا وبناتنا وأبنائنا إلى ما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، واصرف عنا ما لا تحب وترضى يا أكرم الأكرمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(59/23)
الشباب بين المهاوي والمعالي
يسير شبابنا بين المهاوي والمعالي، والمعالي هي مطلب كل إنسان، ولن تتحقق المعالي إلا بتجنب المهاوي، وقد كثرت المهاوي في هذا الزمان بصورة تفوق الخيال، وعمت بها البلوى، مثل التدخين والمسكرات والمخدرات والفضائيات والإنترنت، وغيرها من الأمور التي تفتك بالدين والأخلاق والسلوك والجسم والعقل.(60/1)
المعنى اللغوي للمهاوي والمعالي
الحمد لله، لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، من توكل عليه كفاه، ومن تعرض لرحمته أعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، قائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، اللهم اشرح صدورنا، ونور قلوبنا، واهد عقولنا، ونور بصائرنا، وثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا، واختم بالصالحات آجالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته.
هذا الدرس رقمه (180)، ينعقد في يوم الجمعة السابع من شهر شعبان عام (1424هـ)، وعنوانه: الشباب بين المهاوي والمعالي.
وليس مقصودنا أن نتحدث عن الشباب وأهمية هذه الفترة العمرية، فقد سلف لنا حديث في مثل هذا، وإنما مرادنا هنا أن نوضح هذه المعاني البينية التي سنتعرض لذكر تعلق الشباب بها.
المهاوي: جمع هاوية ومهواه، وأصل الاستنباط اللغوي لهذه الكلمة من الفعل الثلاثي (هوى)، ومعناه كما قال أهل اللغة: هو أصل يدل على خلو وسقوط، فالشيء الذي فيه هواء هو خال فارغ، وإذا قلت: هوى الشيء فمعناه: سقط ولم يكن شيء يحجزه، بل كان هناك فراغ أدى إلى مثل هذا السقوط، وأصله الهواء بين الأرض والسماء، سمي كذلك لخلوه، وكل خال هواء كما قال جل وعلا: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43] أي: خالية فارغة من الإيمان وتثبيته، وقال المفسرون في هذا المعنى: خالية من الفهم لا تعي شيئاً.
والهوة: هي الحفرة البعيدة القعر أي: الهاوية السحيقة التي فيها بعد وفراغ وخلو، من تعرض لها أو جاء إليها فإنه يسقط ويهوي.
والوهدة: هي الغامض من الأرض التي لا يتفطن إليها؛ لأنها أرض منخفضة ليست ظاهرة، فيقع الإنسان فيها وقد يتعثر.
ومن هنا نجد أن خلاصة معنى هذه المهاوي أن فيها معنى الخلو والفراغ، وأن فيها معنى الخفاء والغموض، وأن فيها -في آخر الأمر- معنى التردي والسقوط.
وأما المعالي فإنها واضحة في دلالتها من حيث اشتقاقها من الفعل الثلاثي (علو) وهو السمو والارتفاع، ومعنى ذلك: السمو إلى المعالي العظيمة والارتفاع إلى المهمات الجسيمة.
وهذا معناه أننا ندور في هذا الكلام حول الأمور والمطالب الشريفة السامية.
وقال الخليل: المعلاة: الكسب والشرف، والجمع المعالي، وفلان من علية الناس أي: من أهل الشرف، فكل هذه المعاني السامية ترتبط بذلك، ومعنى هذا أن بينهما تضاد، فنحن لا نريد المهاوي ولكن نريد المعالي، ونحذر من المهاوي ونرغب في المعالي، لا نريد لشبابنا أن يسقطوا بين الحفر، بل نريد لهم أن يسموا ويعلوا إلى القمر، لا نريد لهم أن يسقطوا في الأدناس، بل نريد لهم أن يرتقوا وأن يكونوا شامة بين الناس، لا نريد لهم أن يتلوثوا بالوحل والطين، بل نريد لهم أن يتجملوا بالعطر والطيب، نريد ألا يفقدوا الرعاية والحماية، ولكننا نريد أن يجدوا التشجيع والإعانة.(60/2)
المهاوي: أخطارها، أسبابها، أضرارها
نريد هنا أن ننبه إلى بعض المهاوي وأخطارها وأسبابها وأضرارها، حتى يكون ذلك بمثابة تنبيه وتحذير وقرع لأجراس الخطر للشباب ولمن يهمهم أمر الشباب من الآباء والأمهات، ومن سائر دوائر المجتمع في أهم وأكثر دوائره تأثيراً وخاصة في التعليم والإعلام، وهذا ما سنتحدث عنه بإيجاز؛ لأن كل هاوية من تلك المهاوي جديرة بأن تفرد لها أحاديث خاصة، وقد سبق لنا في بعضها مثل ذلك.
وسأتحدث عن أربعة مهاوٍ من الأمور التي لا تخطئها العين، ونعلم يقيناً أن لها صلة أكيدة بالشباب، وتأثيراً عظيماً فيهم، وأضراراً كبيرة تلحق بهم، ويعود ذلك بالتالي على المجتمعات الإسلامية والأمة الإسلامية بأكثر الأضرار التي نشكو ونعاني منها، وسنذكر في آخر الأمر بعضاً من المعالي، وإذا حذرنا من تلك المهاوي فيكون هناك شيء من الترغيب في تلك المعالي.(60/3)
الفضائيات أسبابها وآثارها وأضرارها وطرق الوقاية منها
الهاوية الثالثة: الفضائيات التلفزيونية بكل أنواعها المختلفة.
الوقفة الأولى: أكثر المشاهدين والمتأثرين بالفضائيات هم من الشباب والشابات، وهنا ومضات سريعة في هذا؛ لأن الأرقام موجودة، والدراسات العلمية مكتوبة ومطبوعة ومقروءة.
أولاً: الشابات أكثر مشاهدة وتأثراً بالفضائيات من الشباب، لماذا؟ لأن قدرتهن على الخروج والتحرك أقل، فهن في بيوتهن وفي حجرهن يقضين أكثر الوقت مع هذه الفضائيات.
ثانياً: الشباب أكثر تجمعاً ومشاهدة جماعية من الشابات لهذه الفضائيات.
ثالثاً: الأسر تتأثر وتبدأ تنحل عرا أخلاقها وآدابها شيئاً فشيئاً، وذلك بإدمان المشاهدة المحافظة نسبياً كما يقولون.
رابعاً: الشيوخ يتصابون، والعجائز يتشببن، فالتأثر ليس مقتصراً على الشباب، فكم من شيخ عجوز يفتن وينحرف، ويصل إلى درجة من الانحراف لا يصدقها عقل، وعنده من الأبناء والبنات بل وربما الأحفاد والحفيدات ما يجعل مثل فعله قبيحاً في غاية القبح.
خامساً: الصغار هم الضحايا الأبرياء، حيث تتفتح أعينهم على هذه القنوات منذ بداية نعومة أظفارهم، وتنطمس بصائرهم، وتسود فطرهم، وتختل موازينهم، وتقبح كلماتهم، وتنحرف سلوكياتهم، شاء آباؤهم وأمهاتهم أم لم يشاءوا، عرفوا أو لم يعرفوا.
الوقفة الثانية: أننا نجد في هذه القنوات من الأمور المؤثرة الشيء الكثير، ولا أريد أن أذكر النسب، ولا أريد أن أذكر أوقات عرض هذه النسب.
في كل قناة برامج دينية كم نسبتها؟ قدروها، ومتى تعرض؟ عندما ينام الناس، ولم يعد هناك مشاهدون، يبدأ بث هذه البرامج، ويقومون بإعادتها وإعادتها كرات ومرات، حتى من يشاهدها ويقصد مشاهدتها بعد فترة يصبح قد حفظها ومل منها، لكن أوقات الذروة -كما تسمى- التي فيها أكثر المشاهدين ماذا فيها؟ أولاً: باقات الأفلام التي يعلن عنها على صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفاز، فيها محتويات تخرب العقائد والأفكار والتصورات، وتزيغ العقول، وتحرف السلوك، وتدعو وتحث وترغب وتسهل الجرائم.
ثانياً: هذه الفضائيات تحطم الحدود، فليس هناك حدود جغرافية، ولا حدود أخلاقية، ولا مراعاة ثقافية، ولا خصوصية قومية أو وطنية، فهي تتجاوز ذلك كله، بل إن الإعلانات حتى في القنوات غير العربية تقدم باللغة العربية، وتكتب الأرقام ويقال: من يتحدث بالعربية فهذه الأرقام كذا وكذا، ومن يتحدث بغيرها فهذه الأرقام كذا وكذا، وتظهر على الشاشات الجمل باللغة العربية وهي جمل تدعو وترغب.
ثم أيضاً: البدعة الجديدة المحدثة، تلك الأغاني الخليعة الماجنة التي لا يعرف الإنسان هل هو يستمع إلى غناء أم ينظر إلى فجور وفسق؟ وإن كنا نعلم حرمة ذلك كله، لكن الناس كانوا يستمعون إلى الغناء، والأثر فيه أقل، واليوم يرون فيه ما يرون.
ثالثاً: البرامج المباشرة، وما أدراك ما فيها من الأحاديث والمغازلات والمعاكسات، وكنت أقول فيما سبق: يشتكي بعض الناس من بعض المعاكسات على هاتف منزله، فيصدر الأمر بالمراقبة، وتكون هناك عقوبات من الإمارة، أما اليوم فعلى صفحات الجرائد الإعلان: إذا أردت أن تهدي عبر الهواتف المحمولة أغنية أو تسجل رسالة أو تنقل صورة أو غير ذلك!! أصبح الأمر في هذا شائعاً متاحاً، وكأنه مباح، مع أنه ليس من باب الإباحة الشرعية، وأحسب أيضاً أننا جميعاً نقر بأن الشباب يقضون كثيراً من الأوقات في هذا، مما يؤثر آثاراً عظيمة، بل إنهم أصبحوا متخصصين في فنون البرمجة وفك التشفير وقلة التكلفة ونحو ذلك، كما نشرت صحفنا تحقيقات عن هذه القضايا، وأن هناك بطاقات بقليل من الأموال يمكن أن تشاهد بها قنوات إباحية جنسية، ليست واحدة ولا ثنتين ولا خمساً ولا عشراً بل أكثر من ذلك، وأنها تجدد بعشرة ريالات، وأن هذا أصبح مألوفاً ومعروفاً، ثم بعد ذلك نشكو من أحوال الشباب، وكل ما ذكرناه في التدخين والمخدرات والمسكرات من أعظم أسبابه هذه القنوات.
هذه بعض الآثار الحقيقية المباشرة، وأتعجب أننا نعلم أنه قد صدرت الفتاوى بتحريم المخدرات وتحريم ترويجها، بل ومعاملة مروجي المخدرات معاملة من الناحية الشرعية تصل إلى حد القتل، وأحسب أن هذا الذي يكون في الفضائيات لا يقل عن ترويج المخدرات في آثاره وأضراره، فكيف يكون تسويقه والإعلان عنه بهذه الصورة المؤثرة المرغبة، التي في كل يوم تقدم جديداً، وتقدم من الأسعار ما هو أرخص، وتقول في إعلاناتها الواضحة الظاهرة: إننا نقدم هذه الأفلام مباشرة كما هي، يعني: ليس هناك رقابة، وليس هناك قص، وليس هناك حجب لشيء من هذا؟! وهذه من أعظم المخاطر على الشباب.(60/4)
شبكة الإنترنت آثارها وأضرارها وخطورتها
الهاوية الرابعة: (الإنترنت) وأحسب أننا قد استشعرنا عظمة وخطورة الأحوال التي تعيشها مجتمعاتنا مع هذه الشبكة العنكبوتية.
والدراسات تقول: إن أكثر المواقع التي فيها الدخول من الجمهور والتفاعل معها بالدرجة الأولى: هي المواقع الإباحية الجنسية.
والدرجة الثانية -وهذا عجيب وقد رأيته في إحصاءات ودراسات علمية-: مواقع الدين والأفكار والمناقشات المتعلقة بذلك! أما بالنسبة لواقع شبابنا فإن أكثر من نسبة (70%) يستخدمون (الإنترنت) في المجالات الجنسية، والمغازلات والمعاكسات، وتبادل الصور، ومشاهدة الأفلام، وكل ما هناك من العلم والثقافة وغير ذلك ليس هو الذي يعتني به الشباب إلا قلة منهم، ولا أقول: أغلقوا هذه الوسيلة، ولكن لنبين أن عدم المتابعة والانضباط فيه خطورة عظيمة.
ثم أيضاً هناك ما يسمى بالأحاديث المباشرة، ولوحات استخدام الكلمات الأجنبية، التي تتيح فرصة التخفي، فلا يعرف من أنت، وتتحدث بما شئت لمن شئت، وتتحدث هي كما شاءت لمن شاءت، ويكتب من شاء لمن شاء، وتكتب ما شاءت لمن شاءت، والأمور تبقى على هذه الصورة المزرية المؤثرة والخطيرة.(60/5)
المسكرات والمخدرات أسبابها ودواعيها وأضرارها
الهاوية الثانية: المسكرات والمخدرات، وهي درجة أعلى وإن كنت قد أشرت إلى أن التدخين في الجملة أكثر ضرراً، سواء على الفرد أو على المستوى العام فإن ضرره أكبر؛ لأن شريحة المتعاطين له والمتضررين منه أكثر بكثير من تلك الدائرة، ومرة أخرى الشباب هم الضحايا في مثل هذه الهاوية الخطيرة.
وقد قمت بزيارة لمستشفى الأمل الذي يعالج فيه المدمنون، ورأيت بأم عيني أن الغالبية العظمى التي تصل بحد أدنى إلى (60%) وربما بحد أعلى إلى نحو (70%) أو (75%) هم من الشباب، وعندما نقول: من الشباب أي: من سن الرابعة عشر، بل ودون ذلك أيضاً في بعض الأحيان، إلى نحو الثلاثين من العمر، كلهم من المدمنين الذين تجتالهم هذه الهاوية، وتدفنهم فيها حقيقة لا مجازاً، وإن الصور الحقيقية لهذا -ولست بصدد الإحصاءات- مخيفة ومرعبة وتلفت النظر إلى قضية الشباب، لكن أبدأ هنا بقضية مهمة وهي الأوهام الخاطئة والأحلام القاتلة التي تغري الشباب أو توقعهم فيها؛ لأننا سوف نذكر ذلك في الأسباب من بعد.
أول هذه الأوهام: ما يروجه المروجون ويشيعه غيرهم كذلك من أن هذه المخدرات ليست محرمة، وأنها ليست كالخمر؛ لأن الخمر ورد فيه نص، وأن المخدرات ليس فيها نصوص تدل على حرمتها، وبعض الناس إذا وقع في هذه الآفة فإنه يستمرئ هذا القول، ويحاول أن يقنع نفسه به.
ثاني هذه الأوهام: وهو أن هذه المخدرات تنسي أصحابها الهموم، وتفرج عنهم الغموم، وتدخل شيئاً من السرور والسعادة إلى نفوسهم، والحقيقة المرة أن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فإن الذين يدخلون في هذا الطريق ويسيرون فيه يصيبهم الشقاء المحتوم، والنكد الدائم، والهم المقلق، وسوداوية الحياة كما سنذكر في بعض الصور.
الوهم الثالث ونذكره بصراحة؛ لأنه يشيع بين الناس، ومن أراد أن يلتفت إلى هذا فليقرأ ما كتب عن قصص الإدمان وطريقته، هذا الوهم الثالث: أن هذه المخدرات تعطي قوة ومتعة جنسية لمتعاطيها، وهذا أيضاً مما يروجه الذين يسعون لنشر هذه المخدرات، وهذه الأوهام إنما ذكرتها؛ لأنها هي من أكثر المصائب التي تصطاد الشباب وترغبهم أو تغريهم بهذه الآفة المهلكة المدمرة.
ننتقل بعد ذلك إلى توضيح تفصيلي للأسباب الموصلة والطرق المهلكة للإدمان: أولها وعلى رأسها كما أشرت من قبل: غياب الوازع الديني وضعفه؛ لأن التزكية والعبادة والإقبال على الطاعة والصلة بالله عز وجل أمر أساسي، ومتى فقد فإنه يترتب على فقده هذه المعضلة وغيرها من أمثالها.
السبب الثاني: ضعف التربية الأسرية، ويتجلى ذلك في صور عديدة جداً منها: غياب الآباء والأمهات عن أحوال أبنائهم، ومعرفة مشكلاتهم، والجلوس إليهم، والحوار معهم، ومعرفة ما يجول بخواطرهم، وتلمس معاناتهم، فيبقى هؤلاء نهباً حينئذ للفراغ، أو للهم الذي يظنون أنه سوف يزول بدخولهم أو بتعاطيهم لهذه المخدرات، ويكونون كذلك فريسة لفراغ قاتل يودي بهم إلى رفقة فاسدة كما سنذكر.
ومن الأسباب المتعلقة بهذا الجانب في التربية: توفير الأموال وإعطاؤها عند الطلب للأبناء، دون التنبه أو السؤال أو المتابعة لكيفية صرفها، ومجالات الانتفاع بها، ونجد قصص واقعية في هذه المستشفيات، وبعضها مدون في كتب، وبعضها مباشرة من بعض ما يلمسه الإنسان في مثل تلك الزيارات أن بعض الآباء يعطون أبناءهم مصروفات في أيديهم لا أقول: تصل إلى المئات بل تصل إلى الآلاف، أو يكون المال موجوداً في المنزل، ولا يحرج الأب على أحد أن يأخذ منه شيئاً، أو لا يلتفت إذا أخذ منه شيء، وهذا يكون له أثره الواضح.
السبب الثالث: رفقة السوء وأصحاب الفساد، وبعض هؤلاء -وهذا أيضاً مأخوذ من اعترافاتهم وإقراراتهم- يحمل حقداً على الآخرين؛ لأنه قد وقع في هذه الآفة، ورأى مستقبله ينهار، وصحته تتهاوى، فيريد أن يوقع الآخرين فيما وقع فيه، ولذلك بعضهم يتفنن في أن يجعل غيره مدمناً، فرفقة السوء لا تصاحب؛ لأنهم ربما يتفننون لكي يصلوا إلى إدخال الشاب في حظيرة الإدمان؛ فإنه إذا امتنع أو رفض تعاطيها وكان معهم فإنهم قد يضعون له تلك المخدرات في العصير أو في الشاي أو في غيرها من المشروبات وهو لا يدري؛ حتى يدمن المخدرات رغماً عن أنفه، وبغير معرفته، وقد وقع ذلك كثيراً، وهو من أساليب المروجين؛ لأنهم يريدون أن ينفقوا بضاعتهم، وأن يكسبوا الأموال المحرمة، فيسعون إلى ذلك.
السبب الرابع: الإعلام والأفلام، وما أدراك ما في هذه الأفلام؟! فإنه يعرض من فنون هذه الأمور ومن صورها ما يقولون: إنه للتنفير منها أو لبيان خطرها، وحقيقته أنه يرغب فيها، فإنك لا ترى بطلاً في غالب الأحوال إلا وهو مدخن، وتراه إذا أراد أن يستمتع يشرب المسكر، وتراه يشرب المخدر وهو في حالة تبدي أنه في سرور أو غير ذلك، إضافة إلى تعليم طرق وأساليب التخفي، ونحو ذلك من أمور أخرى سيأتي ذكرها.
السبب الخامس: السفر إلى الخارج، وقد ذكرت إحصائية أجريت على بعض المدمنين في السعودية: أن (22%) منهم تعاطوا المخدرات للمرة الأولى في خارج البلاد، وهذا أيضاً خطر واضح تمارسه الأسر دون أن تلتفت إلى مخاطره، فيقول لك هؤلاء الآباء والأمهات: دعه يتنزه، أو يروح على نفسه، أو يكتشف العالم، لماذا نعقده؟ لماذا نمنعه؟ ويترك له الحبل على غاربه، ثم ينتهي به الأمر إما في سجون الشرطة، وإما في مستشفيات الإدمان، وإما في مقابر الموتى، وتلك الحالات أكثر في الشباب منها في الحالات الأولى.
السبب السادس: الاستخدام السيئ للأدوية، وبعض العطور، وبعض الأغراض التي تستخدم في غير ما أعدت لها، وهذا أيضاً ينبغي الانتباه له والحذر منه، والشباب يقعون فيه وخاصة صغار السن الذين لا يملكون المال ولا يعرفون الأمور؛ فإنهم يبدءون بتلك الأمور الموجودة في البيوت، والموجودة في كل مكان، وتكون هي بداية الطريق، وبعض هؤلاء -كما هو وارد في تلك الدراسات والإحصاءات- قد بدءوا في بعض تلك العادات المسماة بالشفط أو بالشم أو غير ذلك، وهم في سن السابعة والتاسعة قبل أن يبلغوا العاشرة من أعمارهم، وهذه قضية أيضاً خطيرة.
السبب السابع: التفكك الأسري بالطلاق وكثرته، وكثرة الشقاق والخصام والنزاع بين الوالدين، ووجود أجواء الحرمان العاطفي والتربوي بين الأب والأم، وانعكاسه على الأبناء.
السبب الثامن: استهداف أعداء الإسلام والمسلمين عموماً وأتباعهم لشباب الأمة؛ لأنهم إذا دمروا الشباب فقد جاء السبب الأكبر لتدمير الأمة، ولو تذكرنا الإحصاءات في التدخين، فإن الإحصاءات تكاد تكون مثلها تماماً في المخدرات.
وفي دراسة نشرتها مجلة الفرقان الكويتية في عددها الأخير ذكرت إحصاءات خليجية، وذكرت إحصاءات أيضاً سعودية إلى أن نحو (60%) - (70%) من المتعاطين للمخدرات هم من فئة الشباب من سن الرابعة عشر إلى الثلاثين من العمر.
وأما مسألة الحكم الشرعي فالأمر فيها على خلاف الوهم قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام) كما ورد في الصحيح.
وقد أجمع العلماء المتقدمون في مسألة واضحة بينة تترتب عليها الآثار، قال الإمام النووي: كل ما يزيل العقل من الأشربة والأدوية كالبنج وهذه الحشيشة فحكمه حكم الخمر في التحريم، وقال الحصفكي من علماء الحنفية نقلاً عن الجامع: من قال بحل البنج والحشيشة فهو زنديق مبتدع.
فالمسألة ليست فقط في الحل، وكل ما ذكرناه من الأدلة السابقة من الإلقاء بالأيدي للتهلكة، وتحريم الخبائث، وغير ذلك يدخل في هذه الحرمة دخولاً واضحاً.
أما الآثار أيها الإخوة! فإني أريد أن أذكر بعضاً من هذه الآثار، مع الإشارة إلى بعض القصص الواقعية؛ لأن هذه القصص قد يكون لها من التأثير والتذكير والاعتبار أكثر مما يكون لغيرها من النقاط أو المعلومات.
هناك آثار كثيرة وخطيرة على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسر وعلى مستوى المجتمع والأمة، والآثار لها جوانب كثيرة منها: جوانب صحية ومالية واجتماعية ودينية، وفي كل هذه الآثار من الجوانب ما يضيق المقام عن ذكره أو حصره.
وبعض هذه الآثار تكون على مستوى الفرد في بدنه وعقله وماله، ومن ذلك: ضعف العقل، وقلة التركيز، وعدم القدرة على الاستحضار، ولذلك يتخلف هؤلاء المتعاطون للمخدرات في دراساتهم ويرسبون، وينتهي بهم المطاف جزماً إلى ترك الدراسة، وعدم القدرة على المواصلة، وهناك الأمراض الخطيرة الفتاكة التي تصيب البدن من تليف الكبد، ومن ارتفاع نسبة الإدمان في الدم حتى تصل في الجرعات الزائدة إلى الموت المفاجئ وهو كثير جداً.
وقد قرأت وشاهدت صوراً حقيقية لبعض الشباب، وقد أغلق على نفسه غرفته، ثم أخذ هذه الحقنة بعد أن ربط يده، وكانت جرعة زائدة، فمات وهو منكفئ على جبهته، وبقي أكثر من ثلاثة أيام في هذا المكان دون أن يشعر به أحد.
وهناك أسرة مكونة من عدد من الأبناء كانت من الأسر الكريمة والطيبة، وابنها الأكبر دخل في هذا الطريق، وانتهى به الأمر إلى أن مات ولم يعرف أهله سبباً لموته، وكان من ضحايا المخدرات.
والعجيب أن أخاه الأصغر منه كان يذهب معه في بعض تلك الجلسات ولم يكن يتعاطى المخدرات، فبعد وفاة أخيه وبعد العبرة به إذا بأولئك الصحبة يغرونه بالالتحاق بهم ثم يدمن المخدرات ثم يكون أيضاً ثاني الموتى، ويلحقه الابن الأصغر أيضاً، ويموت الثلاثة من الأبناء بسبب المخدرات، والقصة واقعية حقيقية بأسمائها وأشخاصها، وكثير من هذه القصص قد لا تعلم؛ لأن الأسر تستر على نفسها.
وأما المال فإنه يبدد بشكل عجيب، حتى إن أقل الناس ينفق إذا أراد أن يواظب على القدر الذي يحتاج إليه من هذه المخدرات ما لا يقل عن مائتي ألف ريال في العام الواحد، وهناك ما يترتب على هذا، فإن الذي يفقد المال يبدأ فيسرق من مال أهله، ويسرق ذهب زوجته، بل إنه يبيع أثاث بيته وأثاث بيت أهله قطعة قطعة، وقد قرأت من قصص (لجنة بشائر الخير) وهي لجنة في علاج الإدمان والمدمنين في الكويت، وأعرف رئيسها، وقد زرت هذه اللجنة والتقيت ببعض المدمنين التائبين، يذكر في القصص: أن أماً اتصلت به تقول له: أدركني فإن ابني قد جاء بشاحنة، وهو يشحن جميع أثاث البيت، وقد باعه لأج(60/6)
أضرار التدخين وطرق الإقلاع عنه
الهاوية الأولى: التدخين، ربما يكون ترتيبنا ليس مقصوداً بذاته؛ فإن كل واحدة من هذه المهاوي لها ما يقدمها على غيرها من وجوه كثيرة حتى يحتار المرء في أيها يبدأ! التدخين كلنا يعرفه، ولكنني أقول: إن الأرقام المتعلقة بالتدخين في فئة الشباب ترعب، والحقائق تخيف، والنتائج تنذر بخطر عظيم، وهذه وقفات مختصرة جداً، وإلا فإن هناك ما هو أعظم وأكبر وأخطر.
إن الأرقام المتوافرة على التدخين في دائرة الشباب مرعبة، وقد نشرت صحفنا المحلية: أن دراسة أجرتها وزارة التربية والتعليم في المدارس شملت (752) تلميذاً في المرحلة المتوسطة والثانوية بالمدارس الحكومية في مدينة الدمام، أعطت هذه النتائج أن (30%) من هؤلاء الطلاب مدخنون في المرحلة المتوسطة والثانوية، و (90%) من هؤلاء المدخنين بدءوا بالتدخين في مرحلة مبكرة، وبينت الدراسة أن (55%) من طلبة السنة النهائية في المرحلة الثانوية لا يقدرون حق التقدير احتمال إصابتهم بالإدمان على التدخين.
ومن الأرقام المؤسفة أن جمعية مكافحة التدخين أشارت إلى أن (17%) من الطبيبات السعوديات العاملات في منطقة الرياض مدخنات.
ومن الأرقام المفزعة كذلك دراسة أجريت على مدارس البنات في المرحلة المتوسطة والثانوية في منطقة مكة المكرمة، وأظهرت أن من (35%) إلى (55%) من الطالبات مدخنات، وهذه النسبة تزيد عند المعلمات.
وتشير إحصائية أخرى إلى أن عدد المدخنين إجمالياً في المملكة بلغ نحو (ستة ملايين) مدخن ما بين ذكر وأنثى ومقيم ومواطن، وأن إجمالي ما يدخنونه (ثمانية مليارات وسبعمائة ألف سيجارة)، وأن ذلك يكلف (ستمائة وثلاثة وثلاثين مليون ريال) في العام الواحد.
لو حسبنا هذه الأرقام وتحدثنا عن البطالة أو عن المشروعات أو عما سيأتي من تكاليف العلاج سنرى كم هي الجريمة فادحة! وكم هي الخسارة عظيمة في هذه الهاوية الخطيرة! والتقارير العامة من منظمة الصحة العالمية تقول: إن أعداد المدخنين تتناقص في أمريكا والدول الأوروبية والدول المتحضرة، وأنها تتزايد في دول العالم الثالث، وتتوقع بحلول عام (2020م) أن يكون (70%) من أسباب الوفيات راجعة إلى التدخين.
أرقام أخرى تقول: إن استهلاك السيجارة في المملكة ليس كما ذكرت وإنما أرقام أخرى: (خمسة عشر مليار سيجارة)، وأنها تكلف ذلك الرقم الذي ذكرته، وأن إجمالي نسبة المدخنات من بين المدخنين عموماً تزيد على (20%).
ونشرت جريدة البيان الإماراتية في تقرير نشره المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن التبغ كلف المجتمع الدولي عموماً أحد عشر ألف وفاة يومياً.
أما الدراسات تقول: إن (خمسة وأربعين) وفاة يومياً في دول الخليج سببها المباشر التدخين، وهذه الوفيات يمكن أن تحسب بالساعات، بل ربما بما هو أقل من ذلك.
وتقول الدراسة التي أجريت في عام (2000م): إن هناك ألف وفاة سنوية بأمراض سرطانية لها علاقة مباشرة بالتدخين.
وتقول هذه الدراسة: إن التدخين ينتشر بمقدار (40%) في المجتمع الرجالي و (10%) في المجتمع النسائي و (15%) في مجتمع الصغار والشباب المراهقين.
وتؤكد الدراسة أن فئة الأطباء والعاملين في القطاع الصحي وطلبة كليات الطب يمارسون التدخين بنسبة تصل إلى ثلث الشريحة، وتتجاوز نصف الشريحة في السعودية والكويت والإمارات التي أكدت الدراسة أن (44%) من الأطباء الذكور يدخنون السيجارة.
وفي دراسة أيضاً أجريت في إحدى مناطق المملكة على الطالبات أن (27%) من طالبات المرحلة المتوسطة و (35%) من المرحلة الثانوية، وأكثر من (50%) من المعلمات كلهن يدخن السجائر.
وإحصائية علمية في المملكة قدرت أن خسائر مستشفى الملك فيصل التخصصي في علاج الحالات المرضية للمدخنين بلغت أكثر من (عشرة مليار دولار) خلال خمسة وعشرين عاماً.
وتؤكد هذه الأرقام والإحصاءات أن المملكة هي الدولة الرابعة على مستوى العالم في استيراد واستهلاك التدخين.
وتبلغ نفقات التدخين في استيراده -فضلاً عما يترتب عليه من مصروفات العلاج- أكثر من الميزانيات المخصصة للبحوث العلمية وتطوير التعليم.
وتقول الأرقام الأخرى العامة: إن أعلى الدول في العالم تدخيناً بالنسبة إلى عدد السكان هي تركيا، البلد الإسلامي الذي يبلغ نسبة المدخنين فيه إلى نسبة عدد السكان (67.
5%) من إجمالي عدد السكان.
وعدد المدخنين في مصر يرتفع سنوياً ما بين (8 - 9%)، وهو معدل أعلى بكثير من معدل زيادة المواليد.
وتقدر دراسات الشركات المصنعة والمستوردة للتدخين: أن في مصر ما بين (ستة عشر) إلى (سبعة عشر مليون) مدخن.
وتقول وزارة الصحة المصرية: إن المصريين ينفقون نحو (خمسة مليارات جنيه) على التدخين، أي: نحو (22%) من متوسط الدخل القومي للفرد في مصر.
وهذه الأرقام كافية في أن تظهر لنا فداحة الأمر وخطورته الشديدة الكبيرة.
وقفة ثانية مع قضية قريبة منا ولصيقة بنا كثيراً: أعددت استمارة صغيرة فيها معلومات عن الشخص، ومتى بدأ التدخين، وكم سيجارة يدخن في اليوم، وما هو سبب تدخينه لأول مرة، وهل فكر في الإقلاع عن التدخين، وكم المدة التي مكثها عندما أقلع عن التدخين ثم عاد إليه.
وقد اخترت من نحو أربعين استمارة هذه النماذج اليسيرة، وكلها أخذت من دائرة لا تزيد عن مئات الأمتار عن هذا المسجد الذي نستمع فيه إلى هذا الحديث.
هذه استمارات اخترتها لمن يدخنون وهم دون الخامسة عشر من العمر.
استمارة أحد المدخنين عمره اثنان وعشرون عاماً، يقول: إنه بدأ التدخين قبل خمسة عشر عاماً، أي: أنه بدأ يدخن وهو ابن سبع سنوات! ويقول: إنه يدخن يومياً نحو خمس عشرة سيجارة، والسبب الرفقة والأصحاب، ويقول: فكر أكثر من مرة بترك التدخين ولكنه لم يتركه إلا لأقل من أسبوع فقط.
وآخر عمره عشرون عاماً يذكر أنه بدأ التدخين قبل عشر سنوات، أي: وعمره عشر سنوات، ولكنه يدخن قليلاً، وقد ترك التدخين نحواً من عام ثم عاد إليه.
وآخر عمره ستة وعشرون عاماً ودخن قبل خمسة عشر عاماً أي: وعمره أحد عشر عاماً، ويدخن أكثر من عشرين سيجارة في اليوم، ولم يفكر في ترك التدخين، والسبب أيضاً الرفقة والأصحاب.
وآخر عمره اثنا عشر عاماً، ويدخن في اليوم أكثر من عشرين سيجارة، ولم يفكر في الإقلاع عن التدخين بعد كما يقول.
وهذا عمره أحد عشر عاماً، ويدخن أكثر من عشرين سيجارة، ويقول: فكر مرة واحدة، وتوقف لأقل من أسبوع.
واثنان عمرهما أربعة عشر عاماً، وكلاهما يدخن في اليوم ما بين خمس عشرة إلى أكثر من عشرين سيجارة.
وأكثر الأسباب التي ذكرت في هذه الاستمارات هي الرفقة والأصحاب، خمسة وعشرون مدخناً من هؤلاء الأربعين ذكروا هذا السبب.
ومن الأسباب الأخرى: كتب بعضهم: الطفش، وكتب آخر: الوهم، وكتب ثالث: السفر إلى الخارج، وكتب رابع: طيش الشباب.
ثم ليست من مهمة حديثنا هذا الوقوف مع الأضرار والأخطار، وأقول هذا حتى أدفع من يسمع إلى أن يراجع ويبحث، وأرجو ألا يراجعني بل يراجع نفسه ويبحث ثم يعود؛ لأن التدخين أشد خطراً وضرراً من الخمر والمخدرات على المستوى العام، وتبين الآن أن في مادة التبغ أكثر من أربعمائة مكون كيميائي، فيها على حد أدنى أربعون مكوناً ساماً قاتلاً على المدى البعيد، وكل من يتجاوز التدخين عشر سنوات فإنه يكون معرضاً للإصابة بالسرطان أو تصلب الشرايين بنسبة تزيد على (80%)، والأرقام من حيث الاستهلاك والشيوع أكثر بكثير من بقية الأحوال الأخرى.
لذلك بدأت الحديث عن التدخين؛ لأنه خطير، ولأن الحديث عنه والمواجهة له من المفترض أن تكون أيسر وأسهل من غيره من المهاوي الخطيرة.
أما بالنسبة للأحكام الفقهية أيضاً، فليس مرادنا الوقوف عندها، ولكنني وجدت لبعض الفتاوى نوعاً من الشمول والقوة، التي لعل ذكرها يزيل الأوهام؛ لأنه يكاد يجمع المدخنون وطائفة كبيرة من غير المدخنين أن التدخين لا يعدو أن يكون مكروهاً، وهذا لمن يجترئ ويقول: إنه مكروه، وإلا فبعضهم يرى أنه دون ذلك، مع أنه عقد في عام (1402هـ) أو (1412هـ) مؤتمر في المدينة المنورة في الجامعة الإسلامية، وحضره جمع من العلماء، وأفضل ما أصدروه من هذا المؤتمر: فتوى جماعية بحرمة التدخين، وأنا أذكر هذه النصوص من فتوى سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله، والثانية أوسع وأشمل، وفيها من المعاني ما يستلفت النظر والانتباه، قال ابن باز رحمه الله: الدخان محرم؛ لكونه خبيثاً ومشتملاً على أضرار كثيرة، والله عز وجل إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب، وحرم عليهم الخبائث، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4]، وقال تعالى في الحكم من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فكل ما هو خبيث محرم.
ولا أظن مجنوناً وليس عاقلاً في الدنيا يمكن أن يقول: إن الدخان ليس خبيثاً، فضلاً عن أن يقول: إنه طيب.
قال: وهكذا جميع المسكرات كلها من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه، ولا بيعه، والتجارة فيه كالخمر، والواجب على كل من يشربه ويتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة.
أما فتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فيقول فيها: شرب الدخان محرم، وكذلك بيعه وشراؤه، والتأجير لمن يبيعه؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ودليل تحريمه قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ووجه الدلالة من ذلك أن الله تعالى نهى أن نؤتي السفهاء أموالنا؛ لأن السفيه يتصرف بها فيما لا ينفع، وبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الأموال قيام للناس لمصالح دينهم ودنياهم، وصرفها في الدخان ليس من مصالح الدين ولا من مصالح الدنيا، فكيف يكون صرفها في ذلك؟! فيكون صرفها في ذلك منافياً لما جعله الله تعالى لعباده.
ومن أدلة تحريمه: {وَ(60/7)
طرق ووسائل معالجة مشكلات التدخين والمسكرات والفضائيات والإنترنت
أيها الإخوة الكرام! هذه مهاو أربع ذكرناها على سبيل الإيجاز، ولكنه إيجاز أحسب أنه نبه على الخطر، وكشف عن الضرر، وأوجب علينا جميعاً أن نقف في مواجهة هذا الخطر، وأننا جميعاً غير آمنين على أنفسنا وعلى أبنائنا منه، وإنه لابد من بذل كل جهد في هذا السبيل، وسأذكر الآن ثلاثة عناصر أساسية من الجمل الجامعة للمعالجة النافعة لهذه المشكلات وغيرها: الأول: التزكية: وهي التربية الإيمانية العبادية التي يرتبط فيها المسلم بالله عز وجل، يستحضر عظمته، ويستحي منه، يخاف عذابه ويرجو ثوابه، ويبكي بين يديه، ويتضرع إليه، ويتوكل عليه، فحينئذ تكون حاله على غير الحال التي يمكن أن تصرعه فيه هذه المشكلات أو تلك المهاوي.
الثاني: التربية، ونعني بها: تربية الوالدين وتربية المعلمين وتربية وسائل الإعلام، وأن تكون محببة ومرغبة في الخير، ومحذرة ومنفرة من الشر، وأن تؤسس الشباب والأبناء على أسس سليمة لا تفسد فطرهم، ولا تحرف سلوكهم، ولا تزيغ أهواءهم، ولا تضل عقولهم، كما تمارس أحياناً وسائل الإعلام، أو كما يقع في معاهد العلم والتعليم أو غير ذلك مما نعلمه.
الثالث: التوعية والتنبيه بمعرفة الأخطار وكشف الأضرار، والتحذير من الوسائل والسبل بأسلوب علمي دقيق، فإن القرآن الكريم قد بين جوانب الضرر، وبين جوانب مما قد يرى أن فيهما خيراً أو مصلحة، ورجح أن الأضرار إذا عظمت فإنها حينئذ لا يلتفت إلى تلك المنافع الموهومة أو المزعومة، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] وهذا الإثم الكبير هو الذي جاء القرآن من بعد فقطع بالتحريم بشكل واضح، وقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] فبينت الآية الوجهين حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم، وكثيراً ما نخفي الحقائق أو لا ننبه على المخاطر فيقع الناس فريسة لها.(60/8)
المعالي ودور الشباب فيها
بعد هذه المهاوي أقف وقفتين مختصرتين مع صورتين من صور المعالي التي نحبها لشبابنا، والأصل أن يطول فيها حديثنا، ولكن الإشارات تغني إن شاء الله عن طول العبارات.(60/9)
ركائز التميز الشخصي للشباب
الصورة الأولى: الشباب والتميز الشخصي أي: تميز الشخصية للشاب واكتمالها واستوائها واعتدالها، وأقول هنا في عناوين جامعة: التدين أساس، والأخلاق زينة، والجدية إنتاج، والاستقلالية ثبات، والمبادرة عطاء، والهمة ارتقاء، هذه أركان وركائز أعود عليها بشيء من التعريف.
الأول: التدين أساس: فلا يقوم شيء قياماً صحيحاً ولا يدوم دواماً مستمراً إلا أن يكون له أساس اعتقادي إيماني، فإن الذي يحرك النفوس ويقوي العزائم ويثبت في المواقف ويمنع من الانزلاق بعد عون الله عز وجل هو التدين والإيمان والخوف من الله عز وجل، وتذكر العواقب، والحرص على تجنب مواطن الخزي في الدنيا والندامة في الآخرة، ولذلك لما تربى الجيل الأول من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والأجيال المؤمنة على الإيمان حتى عصرنا الحاضر رأينا شباباً يستعلي على الشهوات، ويقف بشموخ وقوة وصلابة أمام الإغراءات، ونجده يسمو على كل تلك الشهوات، ويشمخ بهمته وعزيمته إلى ما هو أعلى وأسمى من كل هذه العوارض، ونحن نرى ذلك بحمد الله ونرى له أمثلة فنقول: من أراد حتى أن يتفوق في الدراسة فضلاً عن التفوق الأخلاقي فإن أساسه ومفتاحه ومبدأه التدين والارتباط بالله عز وجل، وأداء الفرائض، والإقبال على الطاعات، والاستكثار من الخيرات، والحرص على الرفقة الصالحة، والارتباط بكل ما يغذي ويحيي مشاعر الإيمان في النفوس والقلوب، من دروس العلم ومواعظ الذكر وغير ذلك.
الثاني: الأخلاق زينة: فإن التربية الخلقية وإن كانت جزءاً من التربية الدينية، إلا أنها صورة خاصة ومنطقة مهمة ينبغي العناية بها، فخلق في الصدق والأمانة، وخلق في العفة والحياء، وخلق في الصبر والحلم، وخلق في جوانب التعامل من التواضع والبشاشة والرفق واللين وغير ذلك، عندما نحببها ونرغب فيها الشباب ونشيعها بينهم، ليس كما هو حالنا اليوم تجد كثيراً من الشباب يمتهنون الكذب ويحترفونه، ويعتبرون جودة الأساليب والمخادعة بالكذب نوعاً من الشطارة كما يسمونها أو من الحذق والمهارة ونحو هذا.
الثالث: الجدية إنتاج: الجدية بمعنى: أخذ الأمور بجد استغلالاً للوقت، وحرصاً على التحصيل، وإتقاناً في العمل، فقد غلب على الشباب تراخ وكسل وتفريط وتضييع من أثر تلك المهاوي التي أشرنا إليها.
يقول عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] فديننا دين قوة، ودين جد، فقد خوطب النبي عليه الصلاة والسلام في أول ما نزل عليه من القرآن في الآيات الأولى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:5 - 6].
وقال زيد بن ثابت لما كلفه أبو بكر بجمع القرآن: (لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي).
كان السلف يأخذون الأمور بجدية، فتجدهم حينما ينتدبون للمهمات يؤدون الواجبات، ويتقنون الصناعات، ويتفوقون في العلوم، وغير ذلك من الجوانب المهمة.
الجدية مفتاح أساسي في شخصية الشاب على وجه الخصوص، وشخصية المسلم على وجه العموم، مالنا نرى كثيراً من الشباب وهم رقعاء سفهاء متخنثون متشبهون بالنساء؟! نرى أنواعاً من هذه الشخصية التي شوهتها تلك المهاوي والمهالك التي أشرنا إليها.
الرابع: الاستقلالية ثبات: فإن شخصية الشاب لابد أن تكون فيها استقلالية، وفيها قدرة على التعبير عن رأي صاحبها، وأن يخرج ما لديه من الاعتراضات، أو من الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، أو الوقوف عن الخوض في الفتن كما في الأثر: (إذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم)، لا ينبغي للشاب أن يقول: المجاملة، وكيف أقول؟ وكيف أفعل؟ الشاب لابد أن يكون مستقلاً في شخصيته مع مراعاة الأدب، ومع مراعاة حسن التوقير للكبير، لكنه لا يذل نفسه، ولا يسير مع التيار، بل له من إيمانه وخلقه وجديته ما يثبت به على معتقده، وعلى رأيه في الحياة، وعلى جده في الأمور.
الخامس: المبادرة عطاء: كثر في شبابنا أنهم ينتظرون غيرهم أن يبدأ، وينتظرون الكبار أن يصنعوا، ونحن نعرف أن الصغار كانوا في الزمان الأول كباراً، ونحن اليوم نرى الكبار وهم في حقيقة أمرهم صغار، ونحن نستصغر الشاب فنقول عنه وهو في المتوسط: إنه صغير، وفي الثانوي لم يكبر بعد، وفي الجامعة ما زال في مقتبل شبابه، ولا يعتمد عليه حتى يبلغ إلى الخامسة والعشرين أو الثلاثين! إذاً: متى سيكون هو ذلك الشاب الذي يثق في نفسه، ويبادر بأن يتقدم وينتدب إلى المهمات؟ إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد متى يتجدد ما حصل بين رافع بن خديج وسمرة بن جندب رضي الله عنهما وهما صغيران في السن عندما تصارعا؛ ليفوز أحدهما بشرف الالتحاق بجيش النبي عليه الصلاة والسلام لمحاربة كفار قريش في غزوة أحد؟! نريد المبادرة التي كانت من قبل حين رأينا الشباب يستبقون إلى الموت، فضلاً أن يستبقوا إلى ميادين العلم أو الدعوة وهم في سن نعدها اليوم سناً صغيرة، ما بين قائد لجيوش في السابعة عشرة أو التاسعة عشرة وما بين مفت للأمة كـ الشافعي وهو في التاسعة عشرة من عمره، وهناك شباب كثيرون ملئت بهم صفحات تاريخنا، واليوم يبلغ الرجل الأربعين والخمسين وهو لا يقدم شيئاً ولا يعطي شيئاً.
السادس: الهمة ارتقاء: وما لم تكن هناك همم عالية طموحة فلن تثمر جداً، ولن تنبت استقلالاً، ولن تنشئ مبادرة، فلابد أن نشحذ تلك الهمم في نفوس الشباب، وأن نذكي نارها في قلوبهم، وأن نجعلهم أصحاب طموح كما كان ربيعة بن كعب: (لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: سل حاجتك؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة).(60/10)
ركائز التفوق الدراسي والإبداع والابتكار للشباب
الصورة الثانية: الشباب والتفوق الدراسي، ونحن اليوم نرى نسب الرسوب كثيرة، والناجحون يقنعون بالقبول، ونسأل الله القبول كما يقولون، وقلة قليلة من الشباب تحقق نتائج متميزة، وقلة من هؤلاء المتميزين من يستمرون أو يبدعون أو يبتكرون، وتأتي أمتنا من بعد في ذيل القائمة تخلفاً علمياً وتقنياً؛ لأن الشباب انصرفوا عن هذا الميدان في التفوق الدراسي والعلمي والتقني، وانشغلوا بسفاسف الأمور، وبمفسدات العقول، وبمضلات الفتن نسأل الله عز وجل لنا ولهم السلامة.
هذه الجوانب والركائز أجملها في أمرين اثنين، في كل منهما نقاط يسيرة: الجانب الأول: البواعث والعوامل لهذا التفوق.
أولاً: الثقة مبعث القدرة: فالثقة بالنفس مبدأ مهم، حتى تستطيع أن تبدأ في خطوة الإنجاز الأولى، وكثير من الشباب -بل كثير من قادة الرأي أحياناً- يرون أنه لا يمكن أن يكون عندنا متفوقون كالغربيين أو الشرقيين، وأن العبقرية والعلم والاختراع لم تخلق لنا، وإنما خلقت لأناس ليسوا من بيئتنا، وبهذا نحطم شبابنا، ويتحطم الشاب إذا لم يكن عنده ثقة في نفسه بأنه يمكن أن يكون متفوقاً، وأن يكون عالماً، وأن يكون مبدعاً، وأن يكون مخترعاً إلى غير ذلك من الأمور، فالثقة مبعث القدرة.
ثانياً: التشجيع محفز الارتقاء: لابد أن نشجع أولئك الأبناء على هذا التفوق تشجيعاً تربوياً متوازناً، ونجعله متكاملاً، فوسائل الإعلام عليها ألا تشجع على اللهو والعبث وضياع الأوقات في جوانب معينة، وألا تقدم القدوات على أنهم أصحاب جرة قلم أو ركلة قدم أو رنة نغم أو غير ذلك، بل تقدم النماذج والقدوات التي تشجع على التفوق الدراسي والعلمي والإبداعي، فلابد أن يكون هذا التشجيع على كل المستويات، حتى يكون عاملاً محفزاً للارتقاء.
ثالثاً: الانتباه قدرة على التركيز: وهذه من مهارات التعلم، لابد أن يكون الطالب أو الشاب منتبهاً متيقظاً مركزاً؛ حتى يستطيع باستمرار أن يُحصِّل بسماعه سواء في محاضرة أو في حصة في فصل دراسي أو في مجمع عام، وأن يكون دائم الانتباه والتركيز ليضيف إلى حصيلته من العلم ما يجعله متفوقاً.
رابعاً: الذكاء قدرة الاستنباط: فلابد من إعمال العقل لتقويته وشحذه، حتى يكون عنده المقارنات، وتكون عنده المفارقات، ويكون عنده القدرة على الاستنباط والتحليل، والعقل بطبيعته كلما شغلته زادت قدرته، وكلما تركته ضعفت قدرته، كما يقولون -للأسف- في بعض النكات ليشيروا إلى وجه النقص: إن هناك عقولاً للبيع فيقول: هذا عقل مستهلك استخدم كثيراً، وكذا، ثم إذا جاء إلى العقل العربي قال: هذا عقل نظيف، لم يستخدم أبداً، تأخذه طازجاً؛ لأنه لا يشتغل أو لا يفكر أو لا يعمل عقله أو لا يستحضر ذكاءه! وهذا أيضاً مما ينبغي تجنبه.
خامساً: الذاكرة قدرة على الحفظ، والحفظ مهم في العلم مع الفهم، ويخطئ من يقول: إن الفهم يستقل لوحده.
سادساً: الإرادة قدرة على التفوق بالعزيمة الماضية.
الجانب الثاني: الطريق المتجرد: وله خطوات: أولها: الإنصات وهو طريق التعلم، والقراءة، وطريق التقدم والكتابة، وطريق التمكن والدراسة، وطريق التفنن والتعبير والإبداع، وطريق التألق.
ولابد من كل هذه المهارات، ونحن نريد لشبابنا أن يأخذوا بهذا وأن يحرصوا عليه، وألا تكون هذه الحالة التي نعاني منها، ولا شك أننا نشعر بضرورة التكامل بين الجوانب المختلفة السيئة التي أسلفناها والحسنة التي أخرناها، فإن هذه لا تكون إلا بتجنب تلك، وإن وجود تلك سيفضي بنا إلى عدم تحقيق هذه.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ شبابنا، وأن يحفظنا جميعاً من مضلات الفتن ونزغات الهوى ووساوس الشياطين وقرناء السوء.
ونسأله عز وجل أن يحفظ إيماننا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين المخلصين، وأن يكتبنا من ورثة جنة النعيم، وأن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/11)
إلى المعلمين والمعلمات
لقد دعا دين الإسلام إلى العلم والتعليم وحث عليه، وأعطى أهل العلم منزلة رفيعة، وجعل أجور المخلصين منهم غير منقطعة، وما ذاك إلا لأهمية ما يقدمونه، وعظيم ما يقومون به.
فعلى المعلمين والمعلمات أن يستشعروا عظم المسئولية المناطة بهم، وأن يحسنوا في أداء مهمتهم، وعليهم أن يبحثوا عن الأساليب التي تعينهم في أداء رسالتهم على الوجه المطلوب.(61/1)
مكانة المعلمين والمعلمات
الحمد لله شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، له الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً لا ينقطع ولا يزول، ولا يحده حد ولا يحيط به وصف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في العلم والتعليم والتربية والتزكية، وذلك للأهمية القصوى، والغاية العظمى المنشودة من ذلك، ولئن تحدثنا من قبل عن النهج القرآني في الربط الوثيق بين العلم والتعليم من جهة، والتربية والتزكية من جهة أخرى، فلعلنا اليوم نوجه حديثنا مباشرة إلى المعلمين والمعلمات فيما هم عليه من صفة، وما لهم من منزلة، ثم ما عليهم من أمانة، وما في عنقهم من مسئولية، لنخلص بعد ذلك إلى الأساليب العملية والطرائق التربوية التي ينبغي الأخذ بها وصولاً إلى تغذية العقول بالفكر والعلم، وإلى تزكية النفوس بالتطهير والتنقية، وإلى إحياء القلوب بالمعرفة والإيمان، وإلى تقويم السلوك بالاستقامة والخلق الفاضل، فإننا في مهمة التربية والتعليم، نقوم بأعقد وأعظم مهمة، إنها صناعة الإنسان، وصياغة فكره، وتهذيب نفسه، وتطهير قلبه، وتقويم فكره، وتهذيب سلوكه، مسألة بها مفتاح التغيير في المجتمعات وفي سائر جوانب الحياة.
إلى المعلمين والمعلمات، حتى يُدْرك من هم؟ وما هي مكانتهم؟ فنقول: أنتم المرفوعون المأجورون، المرفوعون رتبة المأجورون ثواباً ومنزلة: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ} [المجادلة:11]، فأنتم من بين معاشر أهل الإيمان مخصوصون بدرجة ومنزلة خاصة بالعلم، ثم استمعوا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جملة أحاديث وافرة: (من علم علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً)، فكل كلمة ومعرفة وهدي تغرسه في القلوب والعقول والنفوس، فإنما ينبني عليه من عمل وما يؤثر من بعده من توجيه مسجل لك في صحيفة الأعمال، فضل من الله سبحانه وتعالى، ومنة وكرم، وحث وحض، وتشجيع وتحفيز.
وأنتم كذلك الوارثون المورثون أنتم أربابها وأصحابها، وأنتم أعظم المنتفعين بها بعد انقطاع الحياة، (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما بعد انقطاع الحياة فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ولئن كان هذا الحديث فيه قسم مباشر لأهل العلم، في العلم الذي ينتفع به، فإن أهل العلم قد قالوا: إن لهم في الحقيقة حظاً وافراً من ذلك كله، فإن الصدقة التي يبقى أجرها، إنما مبعثها التعليم على فضلها، والإرشاد إلى أجرها، فمن كان له ذلك العلم والتعليم، فهو شريك فيما ينبني عليه من الصدقات والأوقاف والوصايا، والولد الصالح إنما هو ثمرة في غالب الأحوال لذلك العلم والتربية والتزكية، فإن أهل العلم حينئذ يكونون قد أخذوا بهذه الأمور كلها، فما أعظم ما يخلفون وراءهم مما يعظم أجرهم، ويصل أعمالهم بفضل الله سبحانه وتعالى.(61/2)
أهل العلم منتدبون ومجاهدون في سبيل الله
ثم هم كذلك المنتدبون المجاهدون، منتدبون عن الأمة لهذه المهمة بنص القرآن الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك وجلاه وأوضحه، إذ ليس كل أحد في الأمة يستطيع أن يتفرغ لطلب العلم ويتأهل له ثم يقوم بمهمة نقله وإشاعته وتعليمه والتربية عليه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] قال الخطيب البغدادي رحمه الله في هذا المعنى كلاماً نفيساً جميلاً مفاده: أن الأمة ينتدب فيها فئتان: المجاهدون للحفاظ على حوزة الدين، والمعلمون للإبقاء على فهم ومعنى الدين.
وكان من قوله رحمه الله: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، والتعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين.
فمن أين سيخرج في هذه الأمة الأخيار والأبرار من المجاهدين، أو المنفقين الباذلين، أو المعاونين والمغيثين ما لم يكن قد غرست في نفوسهم وقلوبهم معاني هذا التعليم والتربية.
ثم لننظر كذلك إلى هذا المعنى من جهة أخرى، فهو أمر عظيم وأجره جزيل، وهو في الحقيقة -كما سماه العلماء-: جهاداً وهو جهاد عظيم، أي: جهاد العلم وجهاد التربية، فإن ذلك هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: إنما جعل طلب العلم في سبيل الله -ونحن نعرف الأحاديث: (من ابتغى طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاًَ إلى الجنة) وقد وردت الأحاديث بأن طلب العلم من القصد والنهج إلى سبيل الله- لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنام، وجهاد بالحجة والبرهان: والجهاد بالحجة والبرهان هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، ثم استشهد بقوله جل وعلا: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:51 - 52] قال: وهذه الآية مكية لم يكن قد نزل فيها تشريع الجهاد، فدل على أن المقصود جهادهم بالحجة والبرهان بما جاء في آيات القرآن، وذلك هو جهاد الإقناع، والتعليم، ودحض الشبهات، وتزكية النفوس، والربط بالخالق سبحانه وتعالى، مما هو من أخص خصائص المعلمين.(61/3)
المعلمون مصلحون وبناءون
أيها المعلمون المصلحون البناءون! فإنه قد كثرت علينا السهام، وغزتنا في عقر دارنا وسائل الإفساد والإعلام، وقد تشعبت بنا الحياة، فهاهم فلذات أكبادنا يروحون إليكم ويغدون منكم، ثم هم ونحن ننتظر أن نجد عندكم صلاح كل فساد، وتصحيح كل خطأ، وتقويم كل اعوجاج، وإكمال كل نقص، فإن لكم في هذا دوراً عظيماً، وإن لكم في هذا مهمة كبيرة، وإن الذين يقومون بذلك يسدون أبواباً من الفساد عظيمة، وحقيقة المعلمين: أنهم يصلحون الجهالة بالتعليم، ويبدلون الحماقة بالتقويم، ويغيرون الشطط بالاعتدال، ويبطلون الغلو بالتوسط، ويحاربون الرذيلة بالفضيلة، ويدفعون الكسل بالعمل، إنهم في حقيقة الأمر يعدون لنا رجال المستقبل، ويبنون ويسهمون في بناء الأمة، فما أعظم دورهم، وما أضخم أمانتهم، وما أجل رسالتهم، ولذا ينبغي أن يدركوا ذلك، وأن ندرك نحن، وأن يدرك جميع من في المجتمع دورهم ورسالتهم، فيعطيهم قدرهم، ويعينهم على أداء مهمتهم، ولعلنا من خلال ذلك نتوجه إليهم بأمرين اثنين خلاصة لكل ما قلناه فيما يجب عليهم:(61/4)
استشعار المسئولية والأمانة المناطة بالمعلمين
أولاً: استشعار عظمة المسئولية وضخامة وجسامة الأمانة، إنها ليست وظيفة تؤدى، أو أوراقاً تكتب، أو اختبارات تصحح، إنها أمانة في الأعناق، إنها واجب شرعي سواء كان هذا التعليم في مواد العلوم الإسلامية أو في غيرها، فقد ذكرنا فيما مضى الواجبات الكفائية التي يجب على الأمة القيام بها، وذكرنا أن كل علم مما قد يطلق عليه علوماً دنيوية هو عندنا معاشر المسلمين -بفهمنا الصحيح الشامل- ضرب من ضروب العبادة، ونهج من سبل السعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، فهذه أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة، وكلنا يعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) (عن علمه ما عمل فيه)، هل أدى الأمانة؟ هل أخلص في تعليمه؟ هل أخذ بالأسباب والوسائل ليؤدي المهمة على الوجه الأكمل؟ ونحن نعلم جميعاً ما ورد في الحديث عند مسلم في صحيحه، عن أول ثلاثة تسعر بهم النار، ومنهم: العالم الذي لم يخلص في علمه، ولم يبتغ بذلك وجه ربه، ونحن ندرك ما كان عليه أسلافنا من شفقتهم من أمانة وضخامة ومسئولية هذا العلم، كما نعرف من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الحديث الشهير لما أراد أن يبلغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا.
حتى لا يتكل الناس) لكنه عندما أدركته الوفاة بلّغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يستحضر حديثه الآخر: (من كتم علماً) وذلك التهديد والوعيد؛ لأنه يذكرنا بأن المهمة هي أن نبث هذا العلم، وأن ننشره، وأن نشيعه، وأن نربي عليه، وأن نحرص على أن نقوم بمهمة الربط بين العلم والعمل، ولذلك: (من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، وكذلكم كان الصحابة رضوان الله عليهم وأسلافنا الصالحون يدركون ذلك، ومن مقالات أبي الدرداء رحمه الله ورضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة ووعاظهم الذين كانوا يحيون القلوب ويطهرون النفوس، قال: (كنت دائماً أفكر فيما يكون يوم القيامة، وإني لأخشى يوم القيامة أن يقال لي: يا عويمر! علمت فما عملت فيما علمت؟) فكم هي هذه المسئولية، وبين أيدي هؤلاء المعلمين والمعلمات، ليس المئات ولا الآلاف، ولا مئات الآلاف، بل الملايين من أبنائنا وبناتنا، فليتقوا الله جل وعلا، وليدركوا أن مسئوليتهم ليست أمام إدارة المدرسة، ولا إدارة التعليم، ولا وزارة التربية والتعليم، ولا أمام من في الأرض كلها، بل أمانتهم ومسئوليتهم بين يدي الله عز وجل، أن يتقوا الله في هذا النشء والجيل؛ لئلا يفرطوا في أمانتهم، ويتخلوا عن مسئوليتهم، فيطعن المجتمع والأمة من قبلهم، ويجوس أعداؤنا خلال الديار من خلال أبنائنا، وكما قلنا قبل فإن التعليم مفتاح التغيير، وإن كل أمة تنتصر أو تقهر أمة تبدأ بتغيير تعليمها؛ لتجعل أبناءها -أي: أبناء الأمة- تبعاً لها، ولتصوغ أفكارهم ونفوسهم وعقولهم بما تريده لهم.(61/5)
وجوب الإحسان والإتقان في أداء العمل
وأما الوصية الثانية: فالإتقان والإحسان في أداء العمل: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) والإحسان قد أوصى الله عز وجل به كما بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في تعريفه: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هل تؤدي أمانتك وتقوم بها على الوجه المطلوب؟ ثم نعلم كذلك ما حثنا وندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو مظنون أنه أبعد الأمور، حتى إذا جئت لتذبح الذبيحة هناك وصية في الإحسان: (فليحد شفرته وليرح ذبيحته)، فويحنا وويحنا إن كان هناك إحسان في القتل والذبح ثم لا يكون إحسان في التربية والتعليم! تلك مهمة خطيرة وعظيمة، ولذا نوجه القول للمعلمين والمعلمات، وأنا وأنت معلم ومعلمة في الوقت نفسه؛ لأننا نعلم أبناءنا ونربيهم، فكل حديث نوجهه إليهم هو موجه إلينا أصالة وليس تبعاً، فهذه المهمة ترتكز على أربعة جوانب:(61/6)
التعليم وتقديم المعلومات
أولها: التعليم، أي: تقديم المعرفة والشرح والبيان وذكر المعلومات، وهذه مهمة كبيرة ومفيدة، لكنها وحدها لا تكفي ولا تغني ولا تشفي، ومع ذلك فهي مهمة قد طبقها النبي صلى الله عليه وسلم يوم قال في حجة الوداع: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وكما علم الصحابة كل شيء حتى الخراءة، أي قضاء الحاجة، كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه.(61/7)
تقويم السلوك
وأما الثاني: بعد التعليم يكون التقويم، والمقصود به: تقويم السلوك والخلق الفاضل الذي ينبغي أن يغرس في النفوس والقلوب؛ لأن علماً بلا عمل ليست له فائدة، بل ربما يكون صورة شوهاء وقدوة مختلة، بل وربما يكون من أسباب الضلال والإضلال والعياذ بالله، إذ إن العالم إذا علم ثم لم يعمل بما علم، أو عمل بعكس ما علم، فإن ضرره وفتنته وصرفه عن الحق وتلبيسه على الخلق أعظم من غيره، ولذلك فإن تقويم السلوكيات والأخلاق فيه من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يحصى من المواقف والتوجيهات والمناهج الرفيعة الشريفة: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) كما قال صلى الله عليه وسلم، أليس هذا تقويماً سلوكياً، وتهذيباً خلقياًًً، وتربية عملية؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينبه إلى ذلك، ويوجه له في كثير من أحاديثه؟ كما عرَّف الأمور الكثيرة على غير ما كان يعرفها الناس؛ ليدلهم على الجانب العملي التقويمي السلوكي: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة ومعه صلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) إنه أمر توجيهي عظيم، ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة عن الرجل الذي يأمر الناس ولا يفعل ما يأمرهم به: (وأنه تندلق أقتابه في النار يوم القيامة، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ذلك التقويم المهم هو النهج الأساسي الذي ينبغي أن يدركه المعلمون والمعلمات؛ ليقوموا بدورهم، وليؤدوا رسالتهم.(61/8)
توجيه الفكر وصياغة النفس
والثالث: التوجيه، ونقصد به: توجيه الفكر، وصياغة النفس، حتى لا يكون شذوذ، ولا ارتكاس، ولا انتكاس، ولا غلو، ولا تطرف ولا تسيب، بل نوع من التوازن والاعتدال، وحسن النظر في الأمور، والأناة والتدبر فيها، والمنهجية الصحيحة التي تربط بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تجذر الانتماء إلى الأمة، والتي تبين دور الفرد في المجتمع، والتي تعطي التوازن، والتي تعرف بطريقة التعامل، إنها قضية مهمة في صياغة الفكر والنفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يحرص على ذلك، وفي قصة النفر الثلاثة لما جاءوا وتقالَّوا عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وكما وجه النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف مهمة، يوم قال الرجل لذاك الصحابي: يا ابن السوداء! وفي غير الصحيح أنه أبو ذر رضي الله عنه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرئ فيك جاهلية) إنه توجيه وتقويم لمنهج الإسلام في المساواة بين أهل الإيمان وأخوة الإسلام، كثيرة هي المواقف التوجيهية.(61/9)
التحفيز على نيل المراتب العالية
وأخيراًًً: التحفيز الذي يحث الإنسان على طلب المعالي، وإدراك الكمال، والمنافسة في المراتب العالية: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] كله حث وحض حتى تنطلق القوة الإيمانية في قوة الملكات؛ ليقوم الإنسان بأعظم دور، وأكبر عمل، وأعظم تأثير في حياته، بدلاً من خمول وكسل، وضياع أوقات، ولقاءات في هدر القول، واللغو الباطل، وغير ذلك مما نراه في مجتمعاتنا بين الكبار قبل الصغار، والرجال قبل الشباب، ولذلك ينبغي أن نعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض ويشجع، ويخبر أصحابه بالأجور العظيمة والفضائل الكبيرة؛ لكي ينطلقوا في هذا الميدان للتنافس: (ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) حتى إذ اشتاقت القلوب وتطلعوا إلى ذلك، وهم يريدون الخير ويحرصون عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) وكم مرة يذكر عليه الصلاة والسلام الأمر بالأسلوب المادي والسؤال والجواب؛ حتى يعلق القلوب والعقول، ثم يجيب، عندما يقول: (أيحب أحدكم أن يكون له ناقتين كوماوين؟ فقلنا: نعم -كوماوتين أي: عظيمتين جسيمتين- فيقول: لئن يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيعلم آية من كتاب الله خير له من ناقة كوماء، وآيتين خير من اثنتين، وثلاث خير من ثلاث ومن أمثالها من الإبل) وهكذا نجده عليه الصلاة والسلام وهو يحث ويحض على ذلك.
وجاء في الحديث المشهور من رواية أبي ذر لما جاء الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ونحن ليس عندنا أموال فلا نتصدق ولا نؤجر، قال: أو ليس قد جعل لكم ما تصدقون به، ودلهم على التسبيح والتحميد والتكبير وكف الأذى وغير ذلك، ثم جاءت المنافسة مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا ففعلوا مثلما فعلنا -ميدان تنافس تنطلق فيه الطاقات- قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقنا وأن يوفق معلمينا ومعلماتنا لما يحب ويرضى، ولما فيه خير أبنائنا وبناتنا.
أقول هذا القول، واستغفروا الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(61/10)
أساليب ينبغي للمعلمين التحلي بها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على التربية والتعليم من قبل الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات، ووسائل الإعلام ومناهج التعليم، كلنا مسئولون عن هذا الجيل أن نغرس في قلوبهم وعقولهم العلم النافع، والخلق الفاضل، والعمل الصالح، والهمة العالية.
ولعلنا نشير في ومضات إلى أساليب من أساليب كثيرة ويحتاجها المعلمون والمعلمات.(61/11)
المحبة والعطف
وأولها: المحبة والعطف، التحبب إلى طلابهم، وإلى أبنائهم، والعطف عليهم بالتبسم والتبسط، وبغير ذلك من الوسائل التي فيها ترويح وتنشيط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي ذلك، قال مالك بن الحويرث كما عند البخاري في الصحيح: (جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبان، فأقمنا عنده نتعلم، قال: فلما رآنا قد اشتقنا إلى أهلنا -كان يراعي طلابه- قال: ارجعوا إلى أهليكم، وليعلم العالم منكم الجاهل، وصلوا، وليؤمكم أكبركم).
ولقد أحبه عليه الصلاة والسلام أصحابه الذين علمهم حباً عجيباً، حتى إن زيد بن حارثة وكان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم جاء أهله وعثروا عليه بعد أن خطف منهم وصار رقيقاً في مكة، فقال لهم: (دونكم زيد، فإن أراد أن يمضي معكم فأنتم أهله، وإن اختارني فوالله لا أجعله مع غيري، فقال زيد: لا أستبدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً) تلك القلوب التي إذا أحبت من علمها ومن أرشدها، فإنها تكون حينئذٍ أعظم تلقياً عنه وتأثراً به.(61/12)
سعة الصدر
ثم أمر آخر وهو الفهم والاستيعاب، فهم الأبناء والشباب، واليوم قد تغيرت الأمور والأحوال والمعارف والوسائل، فينبغي أن تتسع الصدور لسماع مقالاتهم، ومعرفة شبهاتهم، والنظر إلى آرائهم، والتحسس لمعرفة طموحاتهم، لابد من تريث وأناة، لابد من فتح حوار، لابد من حسن توجيه، لابد من إزالة عقبات حتى نستطيع أن نهيء عقولهم وأفكارهم للعلم، فحتى علم الفيزياء والكيمياء لن يتلقاه ما لم يكن قد استقرت نفسه وقد انتظم فكره، ومن هنا نعرف ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن جاءه الشاب وقال له: ائذن لي في الزنا! لم يعجل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل علم طبيعة فترته التي يعيشها، وشهوته التي تستعر في داخله، فجاءه بالأسلوب الحسن: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! والناس لا يرضونه)، ثم دعا له النبي عليه الصلاة والسلام، فكان أعظم أسلوب في الفهم، وفي الاستيعاب، وفي إزالة العقبات، وفي التوجيه النافع المرشد الذي يعين على التقويم والتهذيب.(61/13)
القرب والثقة
وأخيراً: القرب والثقة والاعتماد، أن تقتربوا وأن نقترب جميعاً من أبنائنا وبناتنا، لنعطيهم الثقة المتبادلة فيما بيننا وبينهم، ونكتشف ميولهم وأهواءهم، ونعرف طاقاتهم وملكاتهم، ونرسم معهم طاقات وآمالاً مستقبلية عظيمة، وهذه أبواب واسعة.(61/14)
كلمة توجيهية للمعلمين من سماحة الشيخ ابن باز
ولعلي أختم بكلمة جميلة للشيخ ابن باز رحمه الله في حديثه إلى المعلمين، يقول رحمه الله: لا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب، فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة، وسمت حسن حتى يتأسى به تلاميذه، كما ينبغي أن يكون محافظاً على المأمورات الشرعية بعيداً عن المنهيات، حافظاً لوقته، قليل المزاح، واسع البال، طلق الوجه، حسن البشر، رحب الصدر، جميل المظهر، ذا كفاءة ومقدرة وسعة اطلاع، وذا معرفة بالغة بطرق التدريس وكيفية حسن الإلقاء، ولفت نظر طلابه بطريقة جلية واضحة إلى الموضوع الأساسي للدرس، وحصره البحث في موضوع الدرس دون الخروج إلى أهواء قد تبلبل أفكار التلاميذ وتفوت عليهم الفائدة، وأن يسلك في تعليمهم العلوم التي يلقيها عليهم طريق الإقناع.
وهذه وغيرها كلمات وتوجيهات وأمنيات نسوقها إلى المعلمين والمعلمات، ونذكر بها أنفسنا معاشر الآباء والأمهات؛ لنقوم بهذه المهمة، في هذا الظرف الدقيق والعصر الحرج الذي يحيط بأمتنا، والذي تلاقي فيه هجوماً شرساً على مناهج تعليمها، وطرائق تربيتها، وأسلوب حياتها الاجتماعية، وغير ذلك مما هو معلوم، نسأل الله عز وجل أن يحفظ أمتنا، وأن يحفظ علينا سلمنا وإسلامنا، وأمننا وأماننا.
نسألك اللهم أن توفقنا للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا الرحمات، وضاعف لنا الحسنات، وكفر عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهديين، اللهم نطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك برحمتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وفك أسرهم، وزد أمنهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداًًً، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم في أنفسهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اقذف الرعب في قلوبهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم لا تبلغ لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(61/15)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم، وهي دليل على اتباع الشرع، ولها صور وعلامات ومظاهر وأسباب يكشفها الواقع، ويظهرها الحال، ويقطف ثمرتها المؤمن الوسط بين الغلو والجفاء.(62/1)
معنى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومفهومها
الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، وشرفنا بالانتساب للنبي العدنان عليه الصلاة والسلام، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من النعم، وما وقى ودفع من النقم، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
والصلاة والسلام التامان الأكملان على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، علم الهدى، ومنار التقى، محمد خير البرية، وسيد البشرية صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فالحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم منزلة رفيعة، والحديث عن محبته عليه الصلاة والسلام متعة عظيمة، ثم الألسنة تترطب بذكره والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأما الآذان فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه عليه الصلاة والسلام، وأما العقول فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، وأما الجوارح والأعضاء فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم، بل حياتنا كلها مرتبطة بهديه وسيرته وسنته عليه الصلاة والسلام.
وما عسى أن يكون الحديث عن محبته صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن أن يوفى مثل هذا الموضوع حقه في سويعة من الزمان، أو في بضع محاضرات وإن كثرت؟ إن حقه وقدره ومقامه والواجب له عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك كله، ولكن حسبنا أن يكون لنا في مثل هذه الأوقات ما يحيي قلوبنا، وينشط عزائمنا، ويقوي هممنا، ويبعث نشاطنا، ويحرك مشاعرنا، ويؤجج عواطفنا، لنرتبط ارتباطً أوثق، ونتبع اتباعاً أكمل لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حتى ننال خير الدنيا والآخرة وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة، بإذن الله عز وجل.
وعندما نظرت في هذا الموضوع رأيته كمحيط متلاطم الأمواج، قعره عميق، ودرره كثيرة وعظيمة، فعسى أن نقتبس شيئاً من ذلك وننتفع به بعون الله سبحانه وتعالى.
هاهنا وقفات نبدأها بمفهوم ومعنى محبة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ونعرج من بعد على حكم هذه المحبة، ثم نقف مع دواعيها التي تحث عليها وتقرب إليها، ثم نتوقف عند الأسباب التي تجلب تلك المحبة، لنخلص منها إلى الصور والمظاهر التي تبديها لنا وتكشفها لنا في واقع مشاعرنا وكلماتنا وأفعالنا، ثم وقفة قبل الختام في ثمار هذه المحبة وخيراتها وآثارها، لننتهي إلى المحبة بين الغلو والجفاء، ولعلنا نستطيع أن نلم بذلك وإن كان في الأمر عسر، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال القائل: أبر بني الدنيا وأعظم من شكر وأكرم مخلوق على سائر البشر به الله قد أهدى إلى الناس رحمةً ومنه ضياء الحق في الكون قد ظهر تبارك ربي إذ أعد محمداً وزكاه بالتقوى وبالعلم والخبر ثبات اعتقاد الحق من أخلاقه وخير عباد الله أقدر من صبر جهير بأمر الله يدعو مبشراً وينصح من لاقاه بالآي والنذر حري بإصلاح الفساد ومرشد إلى سبل الخيرات في البدو والحضر دعا الناس بالتوحيد والحب والوفا وجادل بالحسنى وأقنع بالأثر ذرا الهمة القعساء بعض صفاته وأقدم مقدام وأحلم من قدر رعاه إله الكون خير رعاية فأنبت نبتاً طيب الأصل والثمر عليه الصلاة والسلام.
والمحبة في لغة العرب يعرفونها بضدها لوضوحها وجلائها، فإن ذهبت إلى جل المعاجم وجدتهم يقولون: المحبة ضد الكره والبغض، وأُحِبُّه أي: أوده.
وشخص بعضهم هذا المعنى تشخيصاً أوسع فقال: أحببت فلاناً في الأصل بمعنى: أصبت حبة قلبه.
أي: شغاف قلبه وكبد قلبه وفؤاده.
والمقصود أن المشاعر تتسلل في هذه الموافقة والمجانسة والميل إلى أعماق الفؤاد وسويداء القلب فتصيب حبته، أي: جوهره وأصله ومكمنه، فتكون حينئذ ليست عرضاً ظاهراً ولا صوراً جوفاء، بل حقيقة تنبض بها خفقات القلب، وتظهر في مشاعر النفس، بل تبدو في بريق العين، وقسمات الوجه، وابتسامة الثغر، وحسن الثناء والمدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه المحبة قال عنها ابن القيم ووافقه ابن حجر عليها: المحبة لا تحد -أي: لا يذكر لها تعريف-؛ إذ هي أمر ينبعث بالنفس يصعب التعبير عنه.
ولعمري إنه لكلام دقيق، فهل تستطيع أن تقول: إني أحب فلاناً عشرة أرطال، وفلاناً عشرين رطلاً.
كلا لا تستطيع، وهل تستطيع أن تكتشف للحب سبباً؟ بعض الناس تلقاه فترى كأن فؤادك قد مال إليه، وقلبك قد هفا له، وبعض الناس قد تعاشره دهراً وما يزال في قلبك انقباض عنه، وفي نفسك وحشة منه، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالمحبة سر من أعظم ما تتجلى به عظمة خلق الله في هذا الإنسان.
ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال فكم من محبوب لكلمة أو لموقف ربما تغير القلب عليه، ونفرت النفس منه، ولذلك هذه العواطف والمشاعر لا تضبط بهذه الكلمات والتعريفات، وإن كان قد ذكر بعض العلماء للمحبة تعريفات اصطلاحية كثيرة، من ذلك ما قاله القاضي عياض رحمه الله في شفائه: المحبة الميل إلى ما يوافق المحبوب.
عندما توافقه وتجانسه وتميل إليه وتتبعه فذلك دليل المحبة، لكن لو وقفنا لوجدنا أن هذا التعريف ليس تعريفاً للمحبة، بل هو وصف لأثرها، فالمحبة انبعثت في القلب فمال الإنسان إلى من يحبه ووافقه، وهذا أمره واضح.
ثم المحبة لها جوانب، منها محبة الاستلذاذ، كحب الصور الجميلة والمناظر والأطعمة والأشربة، تلك محبة فطرية، أو تكون محبة بإدراك العقل، وتلك المحبة المعنوية التي تكون لمحبة الخصال الشريفة والأخلاق الفاضلة والمواقف الحسنة، وهناك محبة تكون كذلك لمن أحسن إليك وقدم لك معروفاً، فتنبعث المحبة حينئذ لتكون ضرباً من ضروب الحمد والشكر، فينبعث الثناء بعد ذلك ترجمة لها وتوضيحاً لمعانيها.
قال الإمام النووي رحمه الله: وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم بما جمع من الجمال الظاهري والباطني، وكمال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين لهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد من الجحيم، فإن نظرت إلى وصف زينته صلى الله عليه وسلم فجمال ما بعده جمال، وإن نظرت إلى أخلاقه وخلاله فكمال ما بعده كمال، وإن نظرت إلى إحسانه وفضله على الناس جميعاً وعلى المسلمين خصوصاً فوفاء ما بعده وفاء، فمن هنا تعظم محبته صلى الله عليه وسلم، ويستولي في المحبة على كل صورها وأعظم مراتبها وأعلى درجاتها، فهو صلى الله عليه وسلم الحري أن تنبعث محبة القلوب والنفوس له في كل لحظة وثانية، وحركة وسكنة، وقول وصمت، وفي كل تقلبات حياتنا، ولذلك ينبغي أن ندرك عظمة هذه المحبة.
ويقول ابن تيمية: وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمن لربه، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله.
وذلك ما سنفيض القول فيه في بعض تلك الأحوال، وحسبي أن نعرج على هذه المعاني.
وهنا وقفة نتمم بها ما بدأناه، فنحن نتعلق ونرتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم من جوانب شتى: في جانب العقل معرفة وعلماً، نقرأ ونحفظ سيرته وحديثه وهديه وسنته، والواجب منها والمندوب ونحو ذلك، ومحبة بالقلب، وهي عاطفة مشبوبة، ومشاعر جياشة، ومحبة متدفقة، وميل عاصف، فالنفس تتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من المعاني الحسية والمعنوية، ثم محبة بالجوارح تترجم فيها المحبة إلى الاتباع لسنته وعمله وفعله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن نقول: إن المحبة اتباع فحسب، فأين مشاعر القلب؟ ولا يصلح أن نقول: إنها الحب والعاطفة الجياشة، فأين صدق الاتباع؟ لا ينفع هذا وحده، فأين المعرفة والعلم التي يؤسس بها من فقه سيرته وهديه وأحواله عليه الصلاة والسلام؟ لذا فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس والعقل والفكر وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال، فتكمل حينئذ المحبة لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية، فتكتمل من كل جوانبها لنؤدي بعض حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا.(62/2)
حكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم
ما عسى أن يكون حكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الوجوب؟! فهي واجبة على كل مسلم قطعاً ويقيناً، والأدلة على ثبوت وجوبها كثيرة، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى الذي جمع فيه في آية واحدة كل محبوبات الدنيا، وكل متعلقات القلوب، وكل مطامح النفوس ووضعها في كفة، وحب الله وحب رسوله في كفة فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
قال القاضي عياض رحمه الله: فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً وبلاغةً وحجةً على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظيم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، ثم فسقهم بتمام الآية فقال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، وأعلمهم أنه ممن ضل ولم يهده الله عز وجل.
فهذه آية عظيمة تبين أهمية ووجوب هذه المحبة، ويأتينا كذلك دليل آخر وهو عظيم وموجز وبليغ في قول الحق جل وعلا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].
ويبين ابن القيم رحمه الله الدلالة على وجوب هذه المحبة في هذه الآية من وجوه كثيرة، ضمنها أمرين اثنين: الأول: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به منها، أي: أولى به من نفسه وأحب إليه منها.
فبذلك يحصل له اسم الإيمان، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم، وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه.
الثاني: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه التصرف إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى به من نفسه، أي: بما جاء به الله عز وجل وبلغه من آياته وأقامه ونشره من سنته صلى الله عليه وسلم، والآيات في هذا كثيرة.
أخي الكريم! الإيجاز هو مقصدنا في هذا، وإلا فإن قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] من الأدلة العظيمة الشاهدة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً لا نزاع أن محبة الله واجبة، وأن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته هو طريق إلى محبة الله كما سيأتي في قوله: (من أحبني فقد أحب الله) والآيات أكثر من أن تحصى في هذا المقال.
وأما أحاديث صلى الله عليه وسلم فصريحة جلية واضحة في الدلالة على وجوب هذه المحبة، ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله ووالده وولده والناس أجمعين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكلنا يعرف الحديث الصحيح المشهور في قصة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما قال عمر: (يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا -والذي نفسي بيده- حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي.
فقال: عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر).
ولم يكن قول عمر الأول أنه ليس محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه على حقيقته، إنما أخبر عن مقتضى الطبع، الأصل الطبعي في الإنسان أن أحب شيء إليه نفسه، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالمصطلح الإيماني أقر عمر بالمعنى الإيماني وبأنه يفضل ويحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، فقال له حينئذ صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).
ومما يستدل به كذلك من هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
ثم إن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار كما ذكر ذلك الإمام الخطابي، ولذلك عمر في جوابه الأول ذكر الطبع، ثم بعد ذلك ذكر فيه الاختيار الذي هو مقتضى الإيمان.
ومن هنا ذكر العلماء أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين: أحدهما فرض، وهو المحبة التي تقتضي الإيمان بنبوته وبعثته، وتتلقى ما جاء به بالمحبة والقبول والرضا والتسليم، وثانيهما محبة مندوبة، وهي تقصي أحواله، ومتابعة سنته، والحرص على التزام أقواله وأفعاله قدر المستطاع والجهد والطاقة.
ومن الأدلة كذلك ما ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المحفوظ: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
ومن الأحاديث حديث أنس عن الرجل الذي جاء سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم عاد إليه فقال: ما أعددت لها.
قال: حب الله ورسوله.
فقال: فإنك مع من أحببت)، وفي الرواية الأخرى قال الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك مع من أحببت.
قال: أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم).
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث جميل أخرجه مسلم في صحيحه، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله).
هذا الحديث ربما من اجتهد وجاهد قد يكون مقصوداً به؛ لأنه يخبر عمن جاء بعده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من أشد الناس حباً لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله).
وحديث ابن عباس أيضاً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي) رواه الترمذي في سننه وحسنه، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وكلنا محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وجوب، ومحبة اختيار وتعظيم له عليه الصلاة والسلام، وأمر هذا الوجوب لا يحتاج إلى الأدلة، ولكننا نريد أن نعظم هذه المحبة في قلوبنا ونحن نرى الآيات التي تتلى إلى قيام الساعة توجب هذه المحبة وتبرزها عظيمة عالية في مقامها مقترنة بمحبة الله عز وجل، بل راجحة بكل ما تتعلق به القلوب من أنواع المحاب الدنيوية في شتى صورها وأنواعها، فعلنا حينئذ ندرك هذا، وندرك أيضاً عظمة هذا الوجوب عندما ندرك هذه النصوص القاطعة الواضحة في أن محبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة النفس التي بين جنبيك، وأنفاسك التي تتردد، وقلبك الذي يخفق، فضلاً عن محبة الزوجة والأبناء، أو الأمهات والآباء، فما أعظم هذه المحبة التي هي أعظم محبة لمخلوق من بني آدم في الدنيا وفي الخليقة كلها، وهي التي استحقها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووجبت على كل مؤمن مسلم لله سبحانه وتعالى.(62/3)
دواعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم
لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إننا قطعاً لن نقول هذا السؤال وكأننا لا نريد هذه المحبة، ونسأل: (لماذا) على سبيل عدم الرغبة، كلا، وإنما نريد مرة أخرى أن نهيج القلوب والمشاعر لهذه المحبة، وأن نؤكدها ونحرص على غرسها في سويداء القلوب والنفوس حتى تتحقق بها المشاعر، وتنصبغ بها الحياة، وتكون هي السمت والصبغة التي يكون عليها المسلم في سائر أحواله بإذن الله عز وجل.(62/4)
تبعية محبة النبي صلى الله عليه وسلم لمحبة الله تعالى
نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه حبيب الله عز وجل، فمن أحب الله أحب كل من أحبه الله، وأعظم محبوب من الخلق لله عز وجل هو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن) يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، والخلة هي أعلى درجات المحبة؛ لأنها تتخلل في القلب وفي كل شيء في هذا الإنسان، فتصبح كل خلية ونفس وكلمة منك وعاطفة منك تخفق بهذه المحبة وتؤكدها؛ لأنها محبة لمن أحبه الله عز وجل واصطفاه من بين خلقه جميعاً، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (فأنا خيار من خيار من خيار) فهو صفوة الله من خلقه أجمعين، وكما ورد في الحديث الذي صححه أهل العلم أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إني من نكاح وليس من سفاح) وذلك في كل الأصلاب منذ الخليقة الأولى، حتى من لم يكن مسلماً، فلم يكن من أجداده كلهم ولا في نسبه ولا في أصله عليه الصلاة سفاح، بل كله نكاح صحيح، وذلك من طيب محتده، وعراقة أصله، وطهارته التي اصطفاه الله عز وجل لأجلها واختاره ووضعه لها عليه الصلاة والسلام.(62/5)
كمال رأفته ورحمته بأمته
لأن الله سبحانه وتعالى أظهر لنا كمال رأفته وعظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، ونحن نحب الإنسان إذا وجدناه بنا رحيماً، وعلينا شفيقاً، ولنفعنا مبادراً، ولعوننا مجتهداً، حينها نحبه من أعماق قلوبنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أعظم من رحمنا ورأف بنا، وإن كان بيننا وبينه هذه القرون المتطاولة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
ولو أردنا أن نذكر أمثلة لذلك لطال بنا المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث كان يقول: (لولا أن أشق على أمتي)، وهناك كثير من الأحاديث التي ورد فيها رقته ورحمته بأمته كما ورد في وفد مالك بن الحويرث وقومه لما جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: كنا شبية متقاربين، فمكثنا في المدينة نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الراوي: فلما رأى أنا قد اشتقنا لأهلنا -وكان أرحم بنا من أنفسنا- قال: (ارجعوا إلى أهليكم، وليؤمكم أكبركم، وعلموا من وراءكم) رحمة منه بهم عليه الصلاة والسلام، وكان إذا سمع بكاء الصبي يخفف من صلاته رأفة وشفقة على قلب أمه به، وذلك من كمال رحمته وشفقته عليه الصلاة والسلام.
في يوم حنين قسمت الغنائم، ووجد بعض الأنصار في أنفسهم شيئاً؛ لأن الرسول لم يقسم لهم وقسم للمؤلفة قلوبهم، فلما جاءهم إلى مكانهم ذكر لهم عليه الصلاة والسلام بعض فضله عليهم بما فضله الله عز وجل عليهم، قال: (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ثم ذكر غير ذلك وكله يقول فيه: ألم آتكم؟ ألم آتكم.
ثم قال: (أجيبوني) فسكت الأنصار، فقال: (أما لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك.
ثم قال: ألا ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، الناس شعار والأنصار دثار، لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، فبكى الصحابة حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً) وهذا من أعظم ما يظهر فيه كذلك من أثر أو داعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم.(62/6)
كمال نصحه لأمته وعنايته بهم
حتى قال الصحابة كما روي ذلك عن بعضهم في سنن أبي داود قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى قضاء الحاجة.
علم أمته كل شيء، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع فرصة إلا ويعلمهم، ولا يدع فرصة إلا ويقول: (ليبلغ الشاهد الغائب) حتى جئنا إلى أيامنا هذه وإلى ما بعدها وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، نراه في يقظته ومنامه، وحله وترحاله، وسلمه وسفره، بل نحن نعرف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من سيرته أكثر مما نعرفه عن أنفسنا، من يعرف منا عن صغره؟ من يعرف منا حاله في نومه أو يقظته؟ رصدت حياته صلى الله عليه وسلم، ورصد لنا وصفه، وكم شعرةً بيضاء في لحيته، كل ذلك في وصف دقيق بليغ حتى كأن كل شيء في حياته ولد في وضح النهار.(62/7)
خصائصه وخصاله العظيمة
ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وكم اجتمع فيه عليه الصلاة والسلام ما تفرق من وجوه الفضائل والأخلاق والمحاسن في الخلق كلهم! فكان هو مجتمع المحاسن عليه الصلاة والسلام.
حسبنا ذلك في هذه الدواعي وإلا فالأمر كثير، فإن الذين مالت قلوبهم وملئت حباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحابه إنما سبى قلوبهم واستمال أنفسهم بما كان عليه من الخلق وحسن المعاملة وكمال الرحمة وعموم الشفقة وحسن القول، إلى غير ذلك مما هو معلوم من شمائله عليه الصلاة والسلام.(62/8)
مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم وعلامتها
نذكر هنا مظاهر المحبة وعلامتها، فلكل شيء دليل ولكل ادعاء برهان، ولكل حقيقة في الباطن أثر وبرهان وصورة في الظاهر، ولنذكر بعض هذه المعاني العظيمة المهمة من مظاهر وعلامات محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم.(62/9)
اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع قال ابن الجوزي مستشهداً بقول مجنون ليلى: إذا قيل للمجنون ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبار من تراب ديارها أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها قال ابن الجوزي: وهذا مذهب المحبين للأخلاء.
فكل محب يكون أدنى شيء من محبوبه أعظم إليه من كل شيء في دنياه، فكان أدنى شيء من الله ومن رسوله أعظم وأحب إلى كل مؤمن من كل شيء في دنياه، وحسبنا في ذلك ما جاء في كتاب الله في قصة يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] أحب السجن لأنه في مرضاة الله، وفيه العصمة من معصية الله، ولا أحد يحب السجن لظلمته وأسره وقيده لكنه كان محبوباً لقلبه لمّا كان فيه محبة ربه وسلامته من معصيته.
وهكذا نجد النصوص تتضافر في ذلك، فتأمل هذا الحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه كما عند الترمذي -وقال عنه: حسن غريب- قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأنس نعلم من هو، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، يقول أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ كيف كان يأمره وينهاه وهو خادمه؟ كيف لم يقل له: لم فعلت.
أو: لم لم تفعل؟ لو أردنا أن نفعل ذلك مع أحد من خدمنا لا نستطيع أن نفعل ذلك ولو عشرة أيام، وليس عشر سنوات! هذا أنس يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني! إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل.
ثم قال لي: يا بني! وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة) معادلة واضحة، والمحبة في هذا الاتباع ظاهرة.
قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم كلاماً جميلاً، قال: فمن أحب الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، ويرضى ما يرضى الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحب الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكثير المحبة الواجبة.
وهنا ملحوظة مهمة، قال: من عصى أو قصر في واجب نقصت محبته ولم يَزد.
وبعض الناس يتعجل فيرى العاصي فيقول: إنه مبغض لرسول الله، أو كاره لرسول الله.
وتلك تهمة عظيمة وفرية كبيرة، حسبك في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي كان يشرب الخمر فأتي به فجلد، ثم مرة أخرى شرب فأتي به فجلد، ثم ثالثة فأتي به فجلد، فقال رجل من الصحابة: (لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به!) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) فأثبت له النبي المحبة مع وقوعه في كبيرة من الكبائر، فلا تهجم على الناس بنفي المحبة؛ فإنها نفي إيمان وإخراج من الملة إن كنت تقصد نزعها بالكلية، والعياذ بالله.(62/10)
الإكثار من ذكره والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
لا شك أن من أحب إنساناً أكثر من ذكر محاسنه، فتجد بعض الناس إذا أحب إنساناً لا يجلس مجلساً إلا ويقول: انظروا ماذا فعل فلان، فلان قال كذا وكذا، فلان جزاه الله خيراً، فلان لا يمكن أن نقدر قدره.
ونحن ينبغي أن نطيب ونعطر مجالسنا في كل وقت وحين بذكر مآثر النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وأحواله وشمائله، وهذا الذكر هو الذي يهيج هذه المحبة ويبعثها، وكثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تحرك هذا المعنى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وفي ذلك امتثال لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولواً مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً).
وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه شهيد، قلت: (يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت.
قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خي.
، قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت؟ وإن زدت فهو خير.
قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وصححه، والحاكم في مستدركه، ووافقه الذهبي.
قال الشراح: كان أبي له ورد من الدعاء دائماً، فكان يصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن آداب الدعاء أن يقدم بين يديه الحمد والثناء على الله والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: كم أجعل لك من ذلك؟ قال: زد حتى لو كان الدعاء كله الحمد والثناء والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإنه وإن قل الدعاء يكون فيه ما وعد النبي به صلى الله عليه وسلم (إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك).(62/11)
تمني لقائه والشوق إليه
ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام تمني رؤيته والشوق إليه، وقد كان ذلك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأوه لكنهم إذا افتقدوه اشتاقوا إليه، وهذا الشوق شوق حقيقي، ويعلم من كان يحب زوجته وأبناءه كيف يكون حاله إذا اغترب عنهم، إذا أراد أن يخلد إلى نومه تجلت له صورهم، وتذكر أحوالهم، وكأنما يسمع أصواتهم في أذنيه، ويراهم يتلاعبون ويتحركون بين يديه، وما تزال زفراته تتابع وعبراته تتوالى شوقاً إلى لقياهم، فإذا التقى بهم ربما طاش عقله وتخلى عن وقاره، فهفا إليهم معانقاً ومحباً، تلك بعض مشاعر المحبة في درجة الدنيا، وأعظم من هذه الدرجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في محبته، كما روى مسلم: (من أشد الناس حباً لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وبلال رضي الله عنه قصته شهيرة يوم ذهب إلى بلاد الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان بلال يبكي ويقول: لم أطق أن أبقى في المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أراد أن يؤذن فإذا جاء لقوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) تخنقه عبرته فيبكي رضي الله عنه، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين، ورجع بعد سنوات، ثم دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحان وقت الأذان فأذن بلال، فبكى وأبكى الصحابة بعد انقطاع طويل غاب فيه صوت مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذكروا بلالاً وأذانه، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا يطول.
وكان رضي الله عنه عند وفاته تبكي زوجته بجواره فيقول: (لا تبكي؛ غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه) فكان يشتاق للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واحد من المبشرين بالجنة كما ثبت ذلك في الحديث لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! ما تصنع لربك؟ قال: لا شيء إلا أني إذا أحدثت توضأت، وإذا توضأت صليت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشة نعليك) وهكذا روي عن حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، وذكر القاضي عياض في (الشفا) أنه قال كل منهم: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه وهذا الشوق في حياة الصحابة يظهر لنا صور محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/12)
محبة الكتاب الذي أنزل عليه ولأمته
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص بمعجزته الخالدة إلى قيام الساعة، وهي كلام الله عز وجل، وكتابه العظيم كتاب الله الذي فيه الهدى والنور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في القرآن كالحال المرتحل، لا يختم حتى يبدأ ختمةً جديدة، وكان كما قالت عائشة: (خلقه القرآن) فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب القرآن والتعلق به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعدما أورد بعض أحاديث محبة النبي صلى الله عليه وسلم: ودخل في جملة محبته صلى الله عليه وسلم حب آله، ونحن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقال: إن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماءٍ يدعى خماً بين مكة والمدينة وأسمع، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، ثم حث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
فقيل لـ زيد: ومن أهل بيته يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قيل: من هم؟ قال: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس هؤلاء حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهم آله) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا كثيرة ولها دلالات عظيمة، ولذا فقد ذكر أهل العلم في هذا المعنى أقوالاً كثيرة، وقال ابن تيمية رحمه الله: وآل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيره من العلماء، والأحاديث في فضلهم مبسوطة كما أن نساء النبي من آله كما في قوله جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] وقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53].
والأحاديث في فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته عظيمة.(62/13)
حب صحابته والترضي عنهم
من حب النبي عليه الصلاة والسلام حب صحابته، ومن أبغض أحداً من صحابته فهو كاذب في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض بعضاً أو كلاً أو واحدةً من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب في محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأعظم على الله وعلى رسوله الفرية، وكان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، وفي حديث أنس الصحيح: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار).
فحب الصحابة وحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو زرعة الرازي في كلامه على معتقد أهل السنة والجماعة: إذا رأيت أحداً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما نقل ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والطعن بهم أولى، وهم زنادقة.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم بنص القرآن في آيات كثيرة، منها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] إلى غير ذلك من الآيات.
قال ابن حجر: اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة.
وقال صاحب العقيدة الطحاوية رحمه الله: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نشك في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من أبغضهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإحسان وبغضهم كفر وطغيان.
فهذا من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة البينة، وهي مما ينبغي أن يكون معلوماً ومعروفاً، والأمر في ذلك كثير وعظيم.(62/14)
الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم
ونريد بذلك الطريق التي تقربنا والأعمال التي توصلنا إلى هذه المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/15)
تعظيم محبة الله
كل مادة تصلك بالله وتذكرك به هي حب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي صلتك بالله؟ ستقرأ القرآن؛ ستصلي الصلاة، ستؤدي الزكاة، ستخرج مالاً وصدقة، كل فعل من محبتك وصلتك بالله سيذكرك بتعظيم قدر الرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنت له متابعاً وموافقاً، وهذا يهيج على تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على هوى النفس وراحة البدن، (الصلاة خير من النوم) عندما تسمعها والفراش وثير والهواء بارد والجسم متعب أين انبعاثك لتكون مع الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه ستة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(62/16)
دوام ذكر سيرته صلى الله عليه وسلم
تذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على أمته ورأفته بهم، ودوام ذكر سيرته سبب من الأسباب الجالبة لمحبته، السيرة اقرأها صباحاً ومساءً، وعلمها أبناءك، كما قيل عن السلف: كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا الآية من القرآن.
أين سيرة النبي في بيوتنا؟ أين هي من أبنائنا؟ أين أحواله عليه الصلاة والسلام في سائر تقلبات حياته من أن نسمعها صباحاً ومساءً؟ إن بعض أجيالنا اليوم قد يعرفون عن سقطة الناس وسفلتهم من المشركين والمشركات أكثر مما يعرفون من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، كيف نعظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نديم ذكر سيرته حتى نرى هذه العظمة ونرى تلك الرحمة، ونرى تلك النعمة التي مَنَّ الله بها علينا ببعثته ونبوته صلى الله عليه وسلم.
تذكر الأجر العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ما سنعرض له أيضاً، وتول الصحابة رضوان الله عليهم وأكثر من ذكر سيرتهم، فكلما عظمنا الصحابة وذكرنا شيئاً من سيرتهم فإن ذلك يدلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كلهم لرسول الله ملتمس، وكلهم من نوره مقتبس عليه الصلاة والسلام.
حتى إذا قيل: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) اشرأبت الأعناق، وشخصت الأبصار، وأصغت الأسماع، لا انصراف ولا التفات ولا تحرك، بل احترام وتقدير وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/17)
تعظيم السنة النبوية والآثار المصطفوية
كما أن إجلال المحبين للسنة والعاملين بها مما يذكرنا ويقربنا لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، كل محدث وعامل وملتزم بالسنة نحبه لأنه يذكرنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كما قد يحصل اليوم، نرى من يلتزم بالسنة في بعض الهيئات يوصف بأنه متشدد، وقد ينفر الناس منه لقصر في ثوبه أو نحو ذلك، فيا للعجب! كيف تقلبت الظروف؟! كلما رأينا من يتبع السنة فإنما نرى صورة تذكرنا بحديث الرسول، وبسنة الرسول، وبفعل الرسول، فيكون ذلك عوناً لنا على محبة النبي صلى الله عليه وسلم.(62/18)
الذب عن السنة والدفاع عنها
فكم -وللأسف الشديد- من عدوان يعتدى فيه على ذات الرسول عليه الصلاة والسلام من المسلمين وغير المسلمين، وكثيراً ما تجد أحداً يقوم بذلك، والأمر أوسع من هذا.(62/19)
مواقف المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم
ليس هناك أكثر محبة ولا أصدق ولا أعظم محبةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وخذ هذه المواقف، وكل واحد منها حري بنا أن نعيده وأن نكرره ونحفظه ونتذكره لنعلم كيف كانت محبة القوم رضوان الله عليهم.
هذا عمرو بن العاص يقول مصبراً نفسه: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
من هيبته لم يكن يستطيع أن يتفرس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن محبته كان يتوق ويشتاق إليه عليه الصلاة والسلام.
وسئل علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ هذا الوصف من ابن عمه وزوج ابنته والفصيح البليغ علي بن أبي طالب؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
وهذا من مآثر الصحابة رضوان الله عليهم.
وروى الشعبي -والحديث بطرقه حسنه أهل العلم- أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولو أني لم آتك فأراك لظننت أني سأموت.
ثم بكى الأنصاري رضي الله عنه.
يقول: أنت أحب إلي، والآن هناك فرصة، فآتي فأراك فتسكن نفسي، وإن كنت أتصور أني لا أراك سأموت.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبكاك؟ قال: ذكرت يا رسول الله أنك ستموت فترفع مع النبيين ونحن إذا دخلنا الجنة كنا دونك.
يعني: لن أراك في الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبره بشيء حتى نزل قوله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر) فبشره بأنه يكون معه مادام قد أحبه.
ومن أعظم هذه المواقف ما رواه أنس رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد خاص أهل المدينة حيصة -يعني: في القتال عندما اختلت الأمور- قالوا: قتل محمد صلى الله عليه وسلم.
حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها -يعني: كلهم ماتوا واستشهدوا رضوان الله عليهم- قال: وما أدري بأيهم استقبلت أولاً، فلما مضت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك.
وهي ما زالت تمضي، قال: فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب).
وفي رواية أخرى لـ سعد بن أبي وقاص في قصة هذه المرأة قالت: (ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل).
أي: هينة.
وأبو بكر رضي الله عنه لما كان في مكة واجتمع كفار قريش يريدون أن يضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتركوا الرسول وتوجهوا إلى أبي بكر وضربوه بنعالهم، قال الراوي: فضربوه بنعالهم في وجهه حتى سقط مغشياً عليه، ولم يعرف وجهه من أنفه -أي: من شدة التورم- قال: ثم حمل ما يشك في موته من شدة ما لقي من الضرب.
قال: فلما أفاق كان أول ما قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير كما تحب.
قال: لا حتى أراه.
فحمل يهادى بين الرجلين، فلما رآه تهلل وجهه فرحاً رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا من مواقف الحب الصادق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه المواقف العظيمة ما كان من قصة زيد بن الدثنة رضي الله عنه، الذي أسره أهل مكة، ثم خرجوا به ليصلبوه، وقد صلبوه بالفعل، فقال له أبو سفيان -وكان إذ ذاك على كفره-: أتحب أن محمداً مكانك وأنت في أهلك وولدك؟ أي: أنت الذي اتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم فجاءك هذا الموقف، والآن ستصلب فهل تحب أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك وولدك.
فماذا كان الجواب؟ قال: والله ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا في أهلي وولدي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-.
أعظم حب وأوفاه وأوسعه، ولذلك قالوا: نفديك بأنفسنا وأرواحنا وهناك مواقف كثيرة لابد من ذكرها لبعض السلف من التابعين لنعرف أن هذه المحبة هي جوهر إيماننا وأساس من أسس إسلامنا.
هذا مالك بن أنس يقول عن أيوب السختياني رضي الله عنه: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أوثق منه.
يعني: في مكانة عالية رحمه الله.
قال عنه مالك: وحج حجتين -وحج مالك معه-، قال: فكنت أرمقه ولا أسمع منه.
يعني: لا يسمع منه الحديث، قال: غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
أي: أخذ عنه الحديث لما رأى من إجلاله وفيض محبته وتأثره بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا مصعب بن عبد الله يروي عن مالك، يقول: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه -أي: يشفقون عليه- فقيل: له في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون! وذكر الإمام مالك محمد بن المنكدر من أئمة التابعين، وكان سيد القراء، قال: ما نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه رحمه الله.
والحسن البصري جاءنا بمثل جميل، وهذا باب ضاق المقام عن أن أذكره، وهو حب الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه) والجذع الذي كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فلما بني له منبر طلع يخطب على المنبر، فإذا الجذع يحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع له حنين سمعه الناس كلهم، فنزل النبي عن المنبر فوضع يده على الجذع فسكنه فسكن، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه يقول: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشاقوا إليه صلى الله عليه وسلم.
ويقول بعض السلف: كنت آتي صفوان بن سليم -وكان من المتعبدين المجتهدين- فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم عنه الناس ويتركوه.
وأختم هذا الباب بهذه القصة وأذكرها بطولها، وقد ذكرها الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، وهي قصة رائعة، والذهبي إمام من أئمة أهل السنة، وجهبذ من الجهابذة ومن النقدة أئمة الجرح والتعديل، ولا يكون عاطفياً تماماً دون أن يكون له الأساس والمستند العلمي، يقول في ترجمة عبيدة بن عمرو السلماني -وهو من التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يقول: محمد: قلت لـ عبيدة: إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض.
يعني: أحب إلي من كل ذهب وفضة في الأرض قال الذهبي: قلت: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس.
ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، وهو من التابعين وليس بعيد العهد بالنبوة، ويقول الذهبي: فما الذي نقوله نحن في وقتنا، لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شقفة من إناء شرب فيه، فلو أنفق الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده أكنت تعده مبذراً أو سفيهاً؟ كلا.
فابذل مالك في زيارة مسجده الذي بنى فيه بيده، والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند حجرته في بلده، والتذ بالنظر إلى أحده وأحبه، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه، وتملا بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم، وقبل حجراً مكرماً نزل من الجنة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبله سيد البشر بيقين، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمحجن -يعني: العصا -الذي أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبله لحق لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل.
ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل.
ثم قال: وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الذهبي: فنقول نحن إذ فاتنا ذلك -يعني: ليس عندنا يد أنس، فكيف نقبل شيئاً قبله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ - حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له، فإذا حججت فقبل، وإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فم مس بالتقبيل حجراً قبله خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا من نفائس القول لأئمتنا وعلمائنا رحمة الله عليهم ورضوان الله عليهم أجمعين، والباب في هذا يطول كما ذكرت.(62/20)
ثمار محبة النبي صلى الله عليه وسلم
ثمار المحبة يكفينا فيها ثمرتان: أولاهما: أن هذه المحبة في الدنيا عون على الطاعة، والإكثار من العبادة، وخفة ذلك على النفس، وإقبال الروح على مزيد من الطاعات.
ثانيهما: وأما في الآخرة فحسب المحبة أن تكون نجاة من النار، ولحوقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال: (المرء مع من أحب) وفي الدنيا كذلك إعانة على هذه الطاعات؛ لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن محبة الله وموافقة رسوله: (حتى أكون يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) إلى آخر ما هو معلوم.(62/21)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء
هنا وقفة أخيرة، وأظن -والله أعلم- أننا كنا مستمتعين بهذا الحديث، ومما ذكرنا من الآيات والأحاديث في عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته، ومواقف الصحابة إن هذه المحبة التي قلناها ما بال بعضنا يفسدها بغلو يخرج عن حد الاعتدال، أو جفاء يبتعد فيه المسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم محبته عليه الصلاة والسلام، والأمر في هذا يطول كثيراً، والشذوذ والخلاف والخروج عن مقتضى سنته ومحبته في هذا الباب كثير، وخير الأمور أوسطها، فالغلو خرج به قوم إلى صور كثيرة لا تخفى من حيث الواقع، لكني أذكرها من حيث المنهج والمبدأ، فمنهم من يجعل المدح مدخلاً لذكر ما هو خالص مستحق لله عز وجل لا يجوز أن يشاركه فيه غيره، ولا نصف به غيره وإن كان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ادعيَّ لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما هو حق لله ومن خصائص الله سبحانه وتعالى فهذا يأباه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمه للناس في وقته وزمانه، كما قال: (لا تقل: ما شاء الله وشئت.
ولكن قل: ما شاء الله، ثم شئت).
وبعضهم يقول: هذه ألفاظ تعبر عن المشاعر وما نقصد بها عين هذه الألفاظ.
نقول: سبحان الله! هل أنتم أعلم أو أحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لم ترك التنبيه على الألفاظ إذا كانت ليست مؤثرة، وليست بذات تأثير في النفس والفكر والعقل، وكانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويثنون عليه، وهو يقول عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ولكنه يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم) كيف أطروه؟ قالوا: هو الله.
وخرجوا به عن حد بشريته ونبوته، وخرجوا به عن حد تعظيمه الذي ينافي مقامه ومكانه، فهذا غلو ليس مطلوباً بحال.
وضرب آخر من الغلو، وهو الإتيان بمخالفات عملية فعلية لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بادعاء المحبة، أو في أوقات وأفعال وأعمال وأحوال تدعى فيها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاجتماع لمحبته مع وجود ما هو مذموم من الاختلاط والغناء والخروج عن حد الاعتدال، أو ما هو مضمن من ادعاء أمور غيبية بحلول روحه أو تجسد روحه أو رؤيته يقظة وغير ذلك من هذه الأمور التي لا تثبت، بل يثبت في عموم الأدلة وبعض الأحوال في خصوصهم ما يناقضها ويعارضها، فهذا ادعاء ليس له دليل وليس له حجة، بل هو -كما قلنا- معارض.
ثم أيضاً أمر ثالث من الغلو، وهو الادعاء والاختراع لأمور وأقوال وأحوال لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة عليه، ووردت في أحاديثه صيغ كثيرة من الصلوات، وهناك صيغ فيها إطلاق للصلاة والسلام عليه عدد قطر الأمطار وهذا لا بأس به، لكن أن نخصص صلوات معينة لابد من أن تحفظ وتذكر بعدد من المرات من أين لنا هذا؟ ومن أين لنا أن نوجب على الناس أو أن نسن لهم أو أن نشرع لهم ما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلامه أوثق وأقوى، وهو الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام؟ ونجد كذلك ادعاءات كثيرة فيما يتعلق بالأقوال والأحاديث بعضها ضعيف وبعضها موضوع، وبعضها لا يثبت، ومع كل هذا يقال وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بادعاء الرغبة في المحبة، أو التحبيب، هذا كله خارج عن حد الاعتدال.
ويمكن أن نقول: هناك تنبيهان أساسيان في هذا: أولهما أنه يجب على المسلم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين ما هو حق لله عز وجل ولا يجوز أن يوصف به ولا أن ينسب إلا لله عز وجل، وبين ما هو حق لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فتعظيم الالتجاء وطلب كشف الضراء وغير ذلك أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، وبين في نصوص القرآن ما يدل على ذلك، وهذا وغيره لووا أعناق بعض النصوص حتى توصلت إلى مثل هذا.
ثانيهما: التفريق بين صور التعظيم المشروع أو الداخل في دائرة المشروع وبين ما هو معلوم وظاهر أنه مخالف لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا باب طويل.
وأما الجفاء فكما أننا ننكر الغلو ونحذر منه فكذلك الجفاء، فبعض الناس في قلبه شيء من جفاء ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، ولا يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذُكر، وإذا ذُكر مرة صلى، وإذا تكرر ذكره ثانية أو ثالثة لم يصل، كأن الصلاة تشق عليه أو ثقيلة على لسانه، حتى إنه يترك زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام والتعلق بسنته، إلى غير ذلك من صور كثيرة.
ويمكن أن نذكر بعضاً من صور الجفاء، فمنها: البعد عن السنة باطناً وظاهراً، فترك سنن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب من الجفاء ومجانبة محبته عليه الصلاة والسلام، ولذلك ليست المحبة ادعاءً؛ إذ كثير من أحوالنا ظاهراً وباطناً فيها مخالفة للرسول، فكيف لا نشعر أن في هذا نقصاً لمحبتنا للرسول عليه الصلاة والسلام؟ وكذلك رد الأحاديث الثابتة والصحيحة، وهذا ضرب كبير من الجفاء والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: (ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله) يعني: ليس هناك مكان أو اعتبار لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ما أحل رسول الله كما أحل الله، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله) ثم كذلك نرى الآن الكثير من الناس يتحدثون بموجب مفسدات عقولهم، يقول لك: هذا حديث لا يعقل، وهذا لا يصلح في هذا الزمان.
هذا كله ضرب من المخاطر العظيمة في شأن المحبة، بل في شأن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك العدول عن سيرته، وعدم الهيبة والتعظيم والإجلال عند ذكر حديثه، وهذا باب طويل سيأتينا ذكر له إن شاء الله تعالى، ولذلك نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2].
وعرف الصحابة ذلك، فكان ثابت بن قيس ممن اعتزلوا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جهوري الصوت، ومن بعده عمر بن الخطاب قال لرجلين كانا يرفعان صوتيهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنكما من غير أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.
فحرمته حياً كحرمته ميتاً، عليه الصلاة والسلام.
ومن الجفاء هجران السنن المكانية، بأن نهجر زيارة مسجده، وزيارة مسجد قباء، والأماكن التي كان يتنقل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل قدما توافق قدماً، أو جبهة توافق جبهةً، وتستشعر وأنت في الروضة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت في أحد كل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تحيي في قلبك هذه المعاني، وقد وجدت شباباً في الجامعات لم يذهبوا إلى المدينة مطلقاً وهم من أهل هذه البلاد، لم يذهبوا إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يروا مسجده، ولم يزوروا قبره، ولم يصلوا في روضته، ولم يشهدوا قباء، ولم يروا جبل أحد، كيف يكون هذا والناس لا نقول: يضربون أكباد الإبل، وإنما يطيرون بالطائرات النفاثات ليأتوا لحج بيت الله الحرام، ولزيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام والسلام على قبره عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي أن يكون عندنا مثل هذا الجفاء.
وبعض الناس عنده نقطة مهمة جداً، وهي الحساسية المفرطة لذكر أمر النبي عليه الصلاة والسلام، والصلاة عليه، وذكر مآثره، وذكر ما ثبت في تعظيمه، يقول: لا نريد هذه مبالغة حتى نسد باب الذرائع.
وليس الأمر كذلك، فتعظيم النبي عليه الصلاة والسلام واجب، ومحبته واجبة، ومادام ذلك قد ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وفي معجزاته من تفجر الماء من بين يديه، وانشقاق القمر، وفي خصائصه وشمائله الكثيرة المأثورة المذكورة المشهورة التي امتلأت بها صحاح كتب السنة فلماذا لا نعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لا نثير هذه السيرة والمواقف لتكون محبته أعظم في القلوب؟ ليس هناك من حرج ولا حساسية، وإن كان هناك من يغلو فلا يسعنا أن نسد أو نوقف أو نمنع هذه الأحاديث والأحوال ونقول: سداً لباب الذريعة! كلا.
فما ثبت لابد أن يقال ويعاد ويعلم ويشهر ويذكر حتى يكون مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته على الوجه الذي أراده الله عز وجل لنا وأراده لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم الهجر والجفاء لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم الابتداع، فكل مبتدع يتلبس ببدعة يخالف بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضرب من الجفاء، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل وهو يفعل غيره ونقيضه.
وعدم معرفة قدر الصحابة وذمهم هو ضرب من الجفاء، فكيف تدعي حب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تذم أصحابه الذين كانوا عن يمينه ويساره الذين فدوه بأرواحهم، وجعلوا صدورهم دروعاً تتلقى السهام ليذودوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! كيف يمكن لأحد أن يدعي محبته وهو يظن أو يتهم أو يشنع على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؟ كل هذا ضرب من الهجران والجفاء الذي هو من أشد وأفظع ما يرتكبه مسلم في بعده عن دين الله عز وجل، وعن مقتضى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الجفاء عدم العناية بالسيرة النبوية، وعدم معرفة الخصائص والخصال الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخصائصه عظيمة جداً أكثرها لا يعرفها الناس، ولا يقرءون ولا يعرفون أحاديثه الثابتة حتى في الأمور المادية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع تسبيح الحصى، وقال -كما في صحيح مسلم -: (إني أعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وهذا قبل بعثته، وهناك فصل كامل في محبة الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال العلماء: هي محبة حقيقة لا يعرف كنهها، وفي الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه).
فينبغي لنا أن ننتبه لهذا، وأن نكون في هذا الميدان الوسط بين الغلو والخروج عن حد الاعتدال والبعد عن الجفاء وترك ما ينبغي لرسول الله عليه الصلاة والسلام من محبة وإجلال.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم محبة رسوله في قلوبناً، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله(62/22)
الأسئلة(62/23)
أسماء بعض الكتب التي تتحدث عن السيرة
السؤال
نريد ذكر بعض عناوين الكتب التي تتحدث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الكتب في شأن النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة، حتى إن أحد المعاصرين ألف كتاباً اسمه: (معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ذكر في سبعمائة صفحة آلافاً من كتب السيرة والشمائل والخصائص والمعجزات والدلائل، لكنني أذكر بعض الكتب المتقدمة في شأن حقوق المصطفى وشمائله، وأما الكتب المتأخرة فهي كثيرة، ومن الكتب كتب الشمائل، وهي من أهم الكتب التي تبعث على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، يعرف حاله في طعامه وشرابه ومنامه ويقظته، نعرف حلمه وكرمه وجوده وزهده، إلى آخر هذه الكتب الجامعة، ومنها (الأنوار في شمائل النبي المختار) للإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي رحمه الله، وهو كتاب حافل في كل شمائل النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالمناسبة فإن كتب الشمائل تذكر كثيراً من الأمور الملحقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، يذكرون فيها نعل النبي عليه الصلاة والسلام، ودوابه، وسيوفه، ودروعه، وكل شيء متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لماذا صنف العلماء ذلك؟ لأن هذا مقام مهم وقدر عظيم لابد أن نعرف قدره وأن ننتبه له.
ومن الكتب الجامعة النافعة في هذا الباب كتاب (الشفا في حقوق النبي المصطفى)، للإمام المحدث العلامة القاضي عياض السبتي اليحصبي رحمه الله.
ومن الكتب المعاصرة هناك عدة رسائل علمية، والرسائل العلمية فيها مادة دسمة وجيدة، وربما تصلح لبعض طلبة العلم وهي المرادة، ومنها (محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الاتباع والابتداع) لأحد طلبة العلم اسمه: محمد عبد الرءوف، وهناك (حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء القرآن والسنة النبوية) وهناك أيضاً (خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء).
وهناك كتب أخرى كثيرة، وكتب الشمائل والسيرة كثيرة، وهي أكثر ما ألف في الإسلام قديماً وحديثاً.(62/24)
قراءة الآيات التي فيها عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
نرى أن الغلو يبلغ مبلغه، وبعض الغلاة من أهل التصوف يرون أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي عدم تكرير الآيات التي فيها عتاب من الله عز وجل لرسوله عليه السلام، مثل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] أو: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]؟
الجواب
من يقبل مثل هذا؟! فهذا قرآن يتلى، والرسول يتلوه ويأمر بتلاوته، والقرآن كلام الله عز وجل، فهذا كله لا يمكن أن يقبل.
وأود أن أشير إلى قضية مهمة في الطرفين المذمومين، فبالنسبة لمن يبالغ ويخرج عن حد الاعتدال يسم غيره بقضية خطيرة جداً، وهي الاتهام بعدم المحبة للنبي عليه الصلاة والسلام، فحينما تقول -والعياذ بالله-: فلان لا يحب الرسول فمعنى ذلك خطير، قد تصل دلالة هذا المعنى إلى أنه قد خرج من الملة والإسلام كله؛ لأنه لا يكون مسلماً من لا يحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت بعيني وسمعت بأذني من يقول مثل هذا بتدرج يوهم فيه الناس أن هناك فئة من الناس يبغضون -والعياذ بالله- رسول الله عليه الصلاة والسلام بحجج واهية، وهذا أمره يطول.(62/25)
أسماء النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
لماذا سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد ومصطفى، وهل صحيح أن له أسماء أخرى؟
الجواب
لرسول الله عليه الصلاة والسلام أسماء ثبتت بها الأحاديث الصحيحة، وذكرها عليه الصلاة والسلام في ألقابه صلى الله عليه وسلم.(62/26)
دوام ذكر النبي جالب لمحبته
السؤال
هل دوام ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم يجلب محبته؟
الجواب
نعم، وكذلك الصلاة عليه، وزيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كل هذا يجلب محبته.(62/27)
حكمة الدعاء للنبي بالأدعية المأثورة
السؤال
لماذا نسأل الله الشفاعة والمقام المحمود لرسول الله عليه الصلاة والسلام وقد علمنا مسبقاً أنه يعطاها يوم القيامة؟
الجواب
نحن عندما ندعو بعد الأذان نقول ذلك، لكن السؤال هو: لماذا ندعو للنبي صلى الله عليه وسلم بأدعية أخرى مأثورة؟ هذا ذكره العلماء، وذلك أن هذا من فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا؛ لأنك حينما تدعو للرسول صلى الله عليه وسلم وقد أعطاه الله ذلك فأنت لن تفيد بدعائك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تستفيد بهذا الدعاء وتؤجر عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى دعائي ودعائك واستغفاري واستغفارك، لذلك ذكر العلماء هذا المعنى، وهو أن الدعاء والثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤجر عليه صاحبه.
نسأل الله عز وجل أن يعظم أجورنا، وأن يلحقنا برسوله صلى الله عليه وسلم على خير فيما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من أتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام متمسكين بسنته ومتبعين لهديه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(62/28)
قراءة في دفاتر المذعورين
العداء بين المسلمين والكفار عداء عقائدي لا يمكن تناسيه أو التغافل عنه؛ ولهذا فإن أعداء الإسلام يكيدون له ولأهله ليل نهار، ويستخدمون في كيدهم وحربهم شتى الوسائل والطرق، ولكن كثيراً من المسلمين غافلون عن أعدائهم، بل إن منهم من يوالي الأعداء ويعمل معهم في الكيد للإسلام والمسلمين!(63/1)
أهمية معرفة خطط وتدبير الأعداء
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على جليل نعمه ووافر عطائه وعظيم كرمه ومنّه سبحانه وتعالى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه؛ والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! نحمد الله أن هيأ هذا اللقاء الطيب المبارك، ونسأله جل وعلا أن يجعله في ميزان حسناتنا، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى.
قد مضى درسنا الأول بعنوان: النقد والتقويم معالم وضوابط، وهذا هو درسنا الثاني وعنوانه: قراءة في دفاتر المذعورين.
والغرض من ذلك: تصوير قضية مهمة، وتسليط الضوء على أمور لابد للمسلم من أن يعرفها ويقف عليها؛ ليتصحح عنده الفهم، وليكون ذلك عوناً له على العمل فيما يعود عليه وعلى أمته بالنفع والفائدة.
وتتبادر الأسئلة من خلال عنوان الدرس: من هم هؤلاء المذعورون؟ ومن أي شيء يخافون؟ ولماذا تخوفهم من الشيء الذي يعلنون خوفهم منه؟ ومن بعد ذلك: ما هي المبررات والمغالطات التي يعرضونها للناس تخويفاً وتبريراً لما يذكرونه من الأوهام؟ وفي آخر المطاف: توضيح وبيان للحقيقة في ظل وضوء منهج الإسلام.
نقصد بهؤلاء المذعورين صنفين اثنين: أولهما: فريق الأعداء.
والثاني: ربما يصح أن نطلق عليه: عقوق الأبناء؛ لأن مصدر الخوف عند هؤلاء وهؤلاء هو هذا الدين الإسلامي العظيم، ويعبرون عن هذا التخوف في صور شتى ومقالات متعددة، بل في أعمال ضخمة كبيرة تبذل فيها الطاقات المادية والعلمية، وحتى الطاقات العملية التغييرية.(63/2)
تخوف الكفار من الإسلام
المعْلَم الأول الذي نقف عنده هو: إثبات هذا التخوف، وشواهده من الأقوال والأفعال.
إن الذي يتأمل يجد هذه الصرخات ليست وليدة اليوم ولا وليدة هذا الزمن الذي نحن فيه، وإنما هي قديمة، فإن المتأمل في بدايات النهضة الأوروبية الحديثة في أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن يجد أنها مع كل تقدم تحرزه ومع كل نصر جزئي تحققه تنبه على خطورة الإسلام، وعلى تخوفها من بعض المقومات الخاصة التي يتمتع بها هذا الدين.
فالذين دخلوا من النصارى إلى بيت المقدس توجه قائدهم إلى قبر صلاح الدين ليقول: هانحن قد عدنا يا صلاح الدين! وكذلك كانت تصريحاتهم في تلك الأيام تدل على أنه لابد أن يكون الإسلام بعيداً عن واقع الحياة بعيداً عن مخالطة القلوب بعيداً عن تصورات العقول بعيداً عن الحكم والسيطرة والتوجيه لحياة المسلمين.
ولكننا نتجاوز تلك المرحلة؛ حتى لا نتحدث عن تاريخ بعيد، وإنما نسلط الضوء على الفترة القريبة التي ربما لا تتجاوز العشر سنوات إلا بزمن يسير.
فنذكر بعض الملامح من النقول التي تبين هذا التخوف بشكل عام؛ ثم من بعد نخصص هذا الحديث في نقاط محددة: هذا أحد الكتاب الغربيين في مجلة (صن داء تلغراف) في عام (1978م) يقول: إن مجرد الاكتفاء بمراقبة الانتفاضة الإسلامية في الشرق الأوسط لن يفيدنا بشيء، وإذا لم نبادر إلى مقابلة هذه الانتفاضة بعنف عسكري يفوق عنفها الديني فإننا نكون قد حكمنا على العالم النصراني بمصير مهين يجلبه على نفسه إذا استمر تهاوننا في مواجهة المسلمين المتطرفين! والذي ينظر إلى هذا الحديث مع ربطه بالواقع يتعجب لهذا التخوف! فإن المتحدث يتحدث باسم دول كبرى ودول لها تقدم تكنولوجي وقوة عسكرية وسياسات خارجية؛ وفي المقابل يتحدث عن مجموعات من المسلمين الذين تنبهت عقولهم وتيقظت نفوسهم إلى وجوب تمسكهم بدينهم، وتحققهم بهويتهم، وليس عندهم من المادة -التي هي أحد مداخلات الصراع- أي شيء يذكر! ومع ذلك نجد هذه النبرة القوية المذعورة الخائفة تطالب بعنف عسكري أقوى من العنف الديني، يعني: أقوى من قوة هذه التوجهات المنبثقة عن إيمان صادق وعقيدة قوية راسخة.
وفي صحيفة (الحروزاليم بوست) في عام (1978م) يقول سفير إسرائيل في الأمم المتحدة: إننا نشهد اليوم ظاهرة غريبة ومثيرة للاهتمام! وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره! وهذه الظاهرة هي: عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوة طبيعية لكل ما هو غربي، وتعتبر التعصب ضد اليهود بشكل خاص وضد الأفكار الأخرى بشكل عام فريضة مقدسة.
وهذا أيضاً تصريح له دلالته في التخوف على العالم بأسره من مجرد هذه الأصوات التي بدأت ترتفع وتنادي بالإسلام ليكون مطبقاً في واقع الحياة.
ونلحظ أن التخوف يكون أكثر تخصيصاً في مسألة ربط هذه التوجهات بالواقع المعاصر! فهذه التوجهات ترى أن العداء ضد اليهودية أو ضد أعداء الإسلام فريضة مقدسة، وهذا هو مكمن التخوف الأكبر عندهم في هذا الجانب.(63/3)
مقالات يهودية تبين تخوفهم من الإسلام
عقدت ندوة نظمها معهد (شلواح) في جامعة تل أبيب، وهذا المعهد يعتبر أكثر المعاهد المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط كما يسمى، اجتمعوا في هذه الندوة لدراسة هذه الظاهرة المرعبة المخيفة في تصوراتهم وفيما يرون من آفاقها المستقبلية حسب تحليلاتهم ودراساتهم.
ونقتطف بعض المقالات القصيرة، ولكنها معبرة: يقول أحدهم: ما من قوة تضاهي قوة الإسلام من حيث قدرته على اجتذاب الجماهير؛ فهو يشكل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية.
ويقول الآخر: إن المساجد هي دائماً منبع دعوة الجماهير العربية إلى التمرد على الوجود اليهودي.
وهنا نلمح التخصيص؛ بمعنى: أن القضية ليست كلاماً عاماً، وإنما هو كلام مخصص في بعض الأمور التي هي من صميم هذا الدين.
ويقول ثالث: إن الإسلام قوة سياسية واجتماعية قادرة على توحيد الجماهير وخاصة في الضفة الغربية؛ حيث يقوم علماء الدين المسلمون بمهمة توحيد الصفوف ضد اليهود.
ويقوم الرابع معلناً التخوف في شكل إعلان ظاهري يشكل عنواناً رئيساً فيقول: إن الصحوة الإسلامية الجديدة تزعج الإسرائيليين كثيراً، فإسرائيل تعرف أنه إذا فشلت مبادرات السلام -في ذلك الوقت- مع مصر فإنها ستكون هدفاً للجهاد المقدس.
وهنا أيضاً توضع بعض النقاط على الحروف في نوع من التخصيص ضد بعض الأمور المتصلة بالإسلام.
وكذلك ترجمت جريدة القبس الكويتية نصاً لمقابلة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي السابق قال فيها تعقيباً على مواجهات وقمع تعرض له المسلمون الملتزمون بدينهم، فحينما سئل عن هذا الأمر في بعض الديار الإسلامية وعن تصوره له ومعارضته للديمقراطية وللتعايش السلمي قال: إنني قد وافقت على ذلك! ثم قال: وأقنعت المعترضين بأنه يجب عليهم أن يتناسوا التقاليد الديمقراطية حينما يتعلق الأمر بالمسلمين!(63/4)
مقالات نصرانية تبين تخوفهم من الإسلام
تقدمت بعض الصيحات المذعورة من الجهة اليهودية.
وإذا واصلنا أيضاً فإننا نجد أن القضية أوسع من ذلك؛ فإننا نجدها أيضاً تعم الجانب الآخر، وهو جانب النصرانية، فنجد أيضاً أن التصريحات المعاصرة تدل على هذا التخوف الكبير.
فقد ترجمت صحيفة القبس لقاءات لمجلس الأمن القومي الأمريكي، وبعض المعلومات التي تتوافر عندهم، ومن ذلك: إنه طلب تزويد الإدارة الأمريكية بما يتوافر لديها من معلومات تتعلق بالحركة الإسلامية؛ للاستعانة بها في وضع الخطط الكفيلة بالقضاء على خطرهم قبل فوات الأوان.
وليست القضية في هذا الإطار فقط، وإنما تشمل دائرةً أوسع، كما يصرح أحد الكتاب الغربيين فيقول: إنه لا العالم الغربي ولا الاتحاد السوفيتي يستطيعان أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية التي لو أسيء توجيهها من قبل الجماعات المتعصبة لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل وحدها فقط وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولم تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية ولا الحضارة الشيوعية.
فإذاً: تجسيد الخطر وتركيزه يظهر لنا فيه أن الخائفين من هذا الخطر المتوهم أو من هذه الظاهرة الجديدة ليسوا فئةً معينة ولا عقيدةً واحدة، وإنما الكفار أجمعون؛ لأن الكفر ملة واحدة! فكل جانب من جوانب العالم الذي ينطلق من عقيدة أو تصور معين نجد أن هذا الأمر يظهر جلياً في هذه التصريحات كلها.
ثم أيضاً نجد أن هذه التصريحات ترتبط بشكل ظاهر مع التغيرات المهمة في واقع الحياة.
فنجد أن المقالات تبين هذا الجانب؛ فإحدى الكاتبات تصرح بقولها: إن على الغرب أن يدرك أنه أعجز من أن يواجه هذه الصحوة مواجهة عسكرية أو أن يواجهها مواجهة اقتصادية، وإن من الأفضل أن يسالم الغرب الإسلام.
وأستاذ في العلوم السياسية يقول: نتنبأ بأنه خلال الأربعين سنة القادمة سيكون الإسلام الجماهيري قوة أيدلوجية في العالم! بمعنى: أن هذا هو مكمن التخوف؛ ولذلك يبدأ التصريح ضد هذا التخوف فيقول: إذاً: أبيدوا هذه الأشباح التي تنتظر البعث، أسكتوها إلى الأبد.(63/5)
تركيز الأعداء على تحديد معالم الصراع مع المسلمين وإعدادهم لذلك
هذه الصرخات ليست فقط مجرد تخوف، وإنما هي نوع من تركيز العداء، ونوع من تحديد معالم الصراع مع المسلمين.
وإذا أردنا أن نركز هذا الجانب في غير الأقوال فإننا نجد معلومات خطيرة تبين لنا هذا الجانب، ففي عام (1980م) على سبيل المثال عقدت في الجامعات الأمريكية ومراكز الأبحاث المتخصصة بدراسات الشرق الأوسط في خلال عام واحد فقط سبعة عشر مؤتمراً وندوة؛ لتدرس الجوانب المختلفة المتعلقة بالإسلام! ثم في غير ذلك الجانب نجد هناك ما يدل على هذا في وقائع أخرى، منها: انعقد في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة (جورج تاون) ندوة عن الإسلام والدراسات العربية لمدة يومين.
وأيضاً جمعية دراسات الشرق الأوسط في مؤتمرها السنوي العشرين والحادي والعشرين في أمريكا خصصت هذين المؤتمرين لدراسة الظاهرة الإسلامية.
وأيضاً جاء تصريح بأن أحد رؤساء مراكز الأبحاث تلقى مبلغاً قدره خمسون ألف دولار من وكالة المخابرات المركزية مقابل تنظيم مؤتمر عالمي عن الإسلام الأصولي.
وعقدت وزارة الخارجية الأمريكية عام (1987م) ملخصاً حول الأصولية الإسلامية ووجهات نظر على السياسة الأمريكية.
وأيضاً على مستوى أوروبا عقد مؤتمر أوروبي في لكسمبورج غرضه أيضاً دراسة ظاهرة المد الإسلامي.(63/6)
تخوف الكفار من انتشار الإسلام في بلاد الكفار
دراسة هؤلاء المذعورين تبين أنهم بالفعل يحددون كثيراً مما يخشون منه؛ فإنهم لم تصب دراساتهم فقط على الظاهرة الإسلامية التي بدأت تنبعث في ديار الإسلام، بل ركزوا الحديث أيضاً عن الإسلام الذي بدأ يتسرب في ديار الغرب وأمريكا والاتحاد السوفيتي وكل مكان في غير موطنه الأصلي كما يمكن أن يسمى؛ وإن كان الإسلام لا موطن له، وإنما هو في كل العالم وفي كل الديار.
فإحدى الصحف السويدية تنشر مقالاً عنوانه: الإسلام يغزو أمريكا، وتقول: إن الإسلام بدأ ينتشر في الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة مذهلة، وتقول الصحيفة: إن الأمريكيين -وبالأخص السود منهم- بدءوا يدخلون في الإسلام أفواجاً أفواجاً! كما يلتحق بهم أيضاً المهاجرون إلى أمريكا من شرق آسيا والشرق الأقصى.
وأضافت عن إحصائيات رسمية قدمها مركز إعلام الاتحاد المسيحي في بريطانيا: بأن معدل بناء المساجد في أمريكا هو مسجد واحد في كل أسبوع.
ولك أن تتخيل مدى الرعب الذي يمكن أن يستولي على أعداء الإسلام حينما تكون هذه الإحصائيات صادرة عن مراكز متخصصة من بينهم أنفسهم.
وحينما يقال: مسجد في كل أسبوع، ليس المقصود أن المساجد مثل هذه، وإنما قد تكون شقة صغيرة أو صالة صغيرة تشكل مسجداً؛ وهذا في حد ذاته يثير الرعب عندهم! أيضاً: ذكرت صحيفة إيطالية عن مندوب لها في القدس المحتلة أنباء ندوة عقدت في معهد في إسرائيل تحت عنوان: الاتحاد السوفيتي وجورباتشوف وإسرائيل واليهود، ونسبت إلى مدير وزارة الخارجية السابق القول: إن الإسلام عدو مشترك لإسرائيل والاتحاد السوفيتي.
وكيف يكون عدواً مشتركاً؟ في هذا إشارة إلى احتفاظ أعداد كبيرة من المسلمين تقدر بأكثر من خمسين مليون مسلم بعقيدتهم وإسلامهم، وبدء تحرك هذا الإيمان الكامن في قلوبهم؛ ليظهر بصورة جلية في بعض الظواهر التي اكتشفت أو التي ظهرت مؤخراً، كما نعلم من تداعي الأحداث وتتابعها.
يقول الكاتب: لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي وإسرائيل يجدان عدواً مشتركاً هو الأصولية الإسلامية! وهذا قد يتحول إلى نقطة حاسمة في العلاقات بين البلدين.
وهذا الكلام كان قديماً، وأظن أن النقطة الحاسمة التي كان يتنبأ بها الكاتب قد حصلت كما هو معلوم.
وأيضاً في فرنسا أصبحت المقالات مكثفة بشكل عجيب حول الظاهرة الإسلامية في المجتمع الفرنسي.
ونعلم القصص البسيطة التي ذكرت، مثل: قصة الحجاب لبعض الفتيات المغربيات المسلمات في المدارس الفرنسية، ونعرف أيضاً قصصاً أخرى.
ونذكر هنا أن وزير الخارجية الفرنسي السابق أصدر أوامره إلى كبار موظفي الوزارة لإعداد تقرير عن فرنسا ذات الألف مسجد أو الألف مئذنة، على أن يحوي كافة التفاصيل عن تأثير الأصوليين الإسلاميين.
والمجلات في فرنسا الآن أغلب المقالات المنشورة عن الإسلام تنشر بعنوان: (فرنسا الألف مئذنة) أو (فرنسا الإسلام القادم) وأحد الكتاب ألف كتاباً كاملاً أسماه (فرنسا ضاحية الإسلام).
وإذا كنا نرى المجتمع الغربي الذي إلى الآن الزائر له لا يرى هذه الظاهرة بذلك الشكل، إلا أن التخوف يملأ القلوب، ويسيطر على العقول، ويفكر في المستقبل، ويحلل الظواهر تحليلاً دقيقاً يعيدها إلى أصولها ومبادئها التي تتحكم في مساراتها، وأعطي هذا التخوف عندهم حجماً كبيراً جداً أكثر مما نتصور نحن، بل ربما يظن البعض أن القوم عندهم مبالغات، وما في نظرهم إلا أنهم يتنبئون بما يرون أن الحقائق تؤدي إليه.
لذلك يقول جيل كيبل في كتابه: "فرنسا ضاحية الإسلام": إن هذه الانفجارة الكبرى في تأكيد الهوية الإسلامية خلال ما يقل عن العقدين الأخيرين تمثل مشكلة تواجه المجتمع الفرنسي لم يسبق له مواجهة مثيل لها من قبل.
أي: مطلقاً.
وهذا الأمر واضح في كثير من النصوص التي تبين لنا هذا المجال.(63/7)
خطر المنافقين الموالين للكفار على الإسلام والمسلمين
تقدم ذكر فريق الأعداء، والآن نذكر فريق العاقين من الأبناء؛ الذين هم -للأسف- كما قيل: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وغالب هؤلاء تربوا في أحضان الغرب، أو تأثروا تأثراً انهزامياً بحضارة الغرب وفكر الغرب، وانسلخوا ضمنياً في واقع حياتهم بشكل ظاهر عن الإسلام، وانسلخوا في واقع أفكارهم بشكل متستر عن واقع هذا الدين، فلذلك نجدهم يكررون نفس الصيحات، ولكن -للأسف- بشكل أعمق.
وهم أكثر خطراً بالنسبة للمسلمين، مما يسبب الحزن والأسى بشكل أكبر؛ وذلك ناشئ لأنهم يتكلمون بألسنتنا، وهم من جلدتنا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند هؤلاء كانوا في وقت مضى يسيرون مع التيار الغالب الذي كان يغطي على حقائق الإسلام، والذي كان يحكم بقوته وغلبته على عقول وقلوب الناس في أوائل هذا القرن الذي شهد انبهار المسلمين بالغرب والذي شهد الانكسار العسكري للمسلمين في ظل الاستعمار الأوروبي أو الغربي، والذي شهد في ذات الوقت الضعف العلمي في الحياة الثقافية العلمية الإسلامية.
وفي ذلك الوقت كان هؤلاء القوم يعلنون عداءهم السافر للإسلام، ولا يجدون غضاضة في ذلك.
وأيضاً: كانوا يشكلون بصورة عملية: التوافق المباشر والتطابق الضمني بل والمشاركة العملية في تغييب الإسلام عن واقع المسلمين وعن واقع المجتمع المسلم.
وهم يعلنون هذا الأمر بصورة -وللأسف- أشد قبحاً، وأكثر بعداً عن الحق، وأكثر جرأة على الحق من الكفرة ومن الأعداء الحقيقيين.(63/8)
بعض النقول التي تبين حقد المنافقين على الإسلام والمسلمين
وها نحن نستعرض نقولاً سريعة؛ لنخلص إلى حقيقة الموضوع، وربما لا نذكر بعض الأسماء، وقد نذكر بعضها بحسب ما يقتضيه المقام: فهذا أحدهم يقول: هذه هي النتيجة بالضبط التي يريدها المسلمون أو هذه الجماعات المسلمة، وهي نتيجة معلنة بالسلاح في المساجد والشوارع والمعاهد؛ حيث تقام محاكم التفتيش الإسلامية جهراً، وتصدر أحكامها، وتنفذ حرق محلات الفيديو، وجلد الرجل الذي يمشي مع زوجته أو أخته، وتحطيم خشبات المسارح ودور السينما، وعندما لا يجد القاضي الذي يطارد المفسدين أو أحد المفسدين سوى القانون أو الدولة فإنه يستقيل من منصبه؛ ليؤلف كتاباً عنوانه (مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة)! وهو يقصد أشخاصاً بأعيانهم، لكن الذي يحلل هذا النص يجد أنه يريد أن يثير الرعب في نفوس الناس من الإسلام، وأن يصوره بصورة مرعبة وبعيدة عن الناحية العلمية التي يدعيها أمثال هؤلاء، وبعيدة عن الواقع الذي يشهد في كل موقف من مواقفه وحدث من أحداثه بغير كلام هؤلاء.
وهم بهذا الكلام يخفون الأمور الخاصة بهم التي يخشون من ضياعها منهم.
ويقول مرة أخرى: إن نجاح الجماعات الإسلامية في الاستيلاء على الاتحادات الطلابية ونوادي أعضاء هيئة التدريس فرض إرهاباً فكرياً يومياً على الأساتذة والطلاب، فأصبح من الممكن استبعاد نصوص لبعض كبار الأدباء، كـ توفيق الحكيم ونجيب محفوظ إلى آخره.
ثم يقول: إن تغييراً جزئياً ونسبياً في برامج التدريس ومناهجه في مصلحة الأفكار الدينية أصبح يهدد الأمن التعليمي والنظام التعليمي! الإنسان حينما يفكر يرى أن السابقين -وإن كانوا من الأعداء- كانوا أكثر منطقية، وكانوا أكثر واقعية في عرض الصورة، وكانوا معتمدين على دراسات وعلى إحصاءات، وعلى أمور دقيقة، وليس على مجرد التهويش أو مجرد حصول فرصة للهذيان أمثال هؤلاء الذين يكتبون وينشر لهم، أو يتحدثون ويذاع لهم، أو يتولون السلطة في مواقع معينة فيمارسون بالفعل ما يقولونه بأفواههم.
ومثل هذا كثير؛ فأحدهم يقول: ونبحث دائماً عن المستفيد -يعني: في الدعوة إلى الإسلام- فأنا أقول: إن المستفيد من الإسلام ومن الاستيلاء على الحكم في مصر باسم الدين -وهو يمثل كلاماً عن دولة بعينها باسم الدين- وانتقال هذا الحكم المستبد تحت راية الإسلام إلى أخرى في المنطقة هم من يتصورون ويصورون أن الحكم الديني هو خط الدفاع لمواجهة الشيوعية، فالمستفيد -إذاً- هو من يروج الآن لنوع من الرأسمالية تحت حماية دينية، وهو نوع طفيلي غير منتج برءوس أموال مستوردة.
وهذا يخرج عن دائرة التحذير إلى دائرة الخصومة الشخصية! ولذلك يقول في التخويف من وجود النظام والحكم الإسلامي الذي فيه الخير كله: إن ذلك من شأنه عودة مصر والمنطقة كلها مئات السنين إلى الخلف! وهذه القضية يشوه ويخوف بها أمثال هؤلاء في هذه القضايا، وبعض هذه الصيحات تدخل في قضية أو في جزء من الناحية المنهجية في طبيعة عرضهم لهذا الاتجاه أو لهذا الأمر.
ثم نذكر أيضاً بعض هذه النصوص حتى ننهي الحديث عنها؛ لننتقل إلى قضية أخرى.
يقول هذا الرجل تأكيداً على أن القضية متعلقة ببعض الأمور: إذا حكم الإسلام وأردنا أن نتصور أن الإسلام لابد أن يحكم وأن يكون هو الموجه للأدب وللفن ولربط العلاقات الاجتماعية وإلى غير ذلك يقول: إذاً: من الذي سيحكم على البرامج والأفلام وكذا بأنها مؤمنة أو كافرة؟ إنهم بشر سوف يؤولون كل شيء حسب معتقداتهم السياسية ومصالحهم الاجتماعية تحت ستار الالتزام الإعلامي الرسمي من جانب الدولة بحكم أن الدولة أو أن الأمة أو المجتمع المسلم لابد أن يحكم بالإسلام.
يقول: وهذه كلها عدوان صريح على ما يؤكده الدستور من حرية الفكر والتعبير والاعتقاد! وهذا الأمر يؤكد أنهم يقصدون جوانب معينة، وهذه الجوانب يراد بها أفكاراً، ويراد بها أعمالاً، ويراد بها ممارسات منحرفة عن الدين، وحينما يظهر الدين الحق والرأي الصادق الصحيح للإسلام سوف تكون هذه الأمور خارج الأقواس وخارج التأييد، لذلك يكثرون من الحديث حولها.
ولذلك يقولون: إن هذه الأعمال ستصادر الأعمال الفكرية والعقلية الكبيرة، وذكروا أمثلة: مثل (مع الشعر الجاهلي) لـ طه حسين و (في الحكم) لـ علي عبد الرزاق و (الفتوحات المكية) لـ ابن عربي و (أولاد حارتنا) لـ نجيب محفوظ وغيرها من الكتب التي تمس بصورة مباشرة عقيدة ونظام الإسلام، ولذلك لم يكن لها مكان عند المسلمين، وحينما بدأ هذا الدين يحيا في قلوب الناس بدأ التخوف من هذه الظاهرة، وللأسف! يعلن ذلك بألسنة عربية وبأسماء إسلامية! إذاً: هذا هو الجانب الأول، وهي: صيحات الرعب أو التخوف على صورتها الأولى والمبسطة.(63/9)
الجوانب التي تخوف الكفار والمنافقين من الإسلام
النقطة الثانية: ما هي الجوانب التي تجعل هؤلاء يتخوفون أو يعلنون الرعب والخوف من هذا الإسلام ومن هؤلاء المسلمين؟ إن المتأمل في هذا الطرح يجد أن هناك ثلاثة أمور هي موضع الجدل والنقاش، وهي موضع التخوف الأكبر، وهذه الأمور الثلاثة هي من صميم هذا الدين، ولكنها كانت في أوائل هذا القرن غائبة أو ضعيفة الصوت، ولما بدأ صوتها يظهر وصورتها تتضح كان التركيز عليها أكثر، وهذه النقاط الثلاث هي: تطبيق الشريعة الإسلامية، وصلة الإسلام بالواقع والعمل السياسي، ومبدأ الجهاد في الإسلام.
ولا ترى أحداً من هؤلاء إلا وهو يتطرق إلى هذه الجوانب الثلاثة إما كلها وإما بعضها على وجه الانفراد، أما ما عدا ذلك من الدوائر الأخرى فإنها لا تثار كدائرة العبادات المحضة، بمعنى: العبادات التي يراد أن تكون منفصلة عن واقع حياة الناس، أو جانب الأخلاقيات التي يرى أيضاً بأنها عبارة عن نوع من التعامل الحضاري ونوع من العلاقات الإنسانية، وكذلك الجانب الثالث الذي يسلم بعض هؤلاء به وهو: جانب حكم الشريعة فيما يسمى بالأحوال الشخصية كالطلاق والزواج، فمثل هذه لا تثار؛ بل تستخدم لتكون هي صورة الإسلام وحقيقته الكاملة، وأما ما وراء ذلك من هذه الأمور الثلاثة التي أشرت إليها في ناحية تطبيق الشريعة أو التعامل الإسلامي مع السياسة أو مبدأ الجهاد الإسلامي؛ فإن هذه الثلاثة يراد لها أن تكون بعيدة عن الواقع في حياة المسلمين.
ولذلك نقف عند كل جانب من هذه الجوانب وقفات متأنية ومختصرة، ولكنها -إن شاء الله- مركزة ونافعة.(63/10)
تخوف أعداء الله من قيام حكم الإسلام
الجانب الأول: الجانب السياسي الذي جاء أصلاً في كتاب الله سبحانه وتعالى كقواعد عامة وكأحكام تشريعية تفصيلية في بعض الأحوال، وجاء أيضاً كأقوال وتطبيقات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بعد ذلك امتداداً تاريخياً طويلاً عبر قرون كثيرة، كل هذا يراد أن يلغى، ونجد التحريف والتحوير فيه.
لكن يهمنا أن نخوض أولاً مع هذا الخلل في التفكير، ومع هذا الانحراف في التصور؛ لنبين كيف يعرى الإسلام من هذه الجوانب على وجه الخصوص؛ لغرض إبقائه في دائرة الضعف التي تسهل السيطرة عليها، ويسهل تهميش دوره في واقع الحياة، وبعد ذلك ستكون وقفتنا مع الرد على مثل هذه القضايا أو الانحرافات.
فأحدهم يقول: الإسلام لم يفرض نظاماً إسلامياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم! ومن العجيب أن يستشهد هذا وأمثاله بقول أبي بكر رضي الله عنه: (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على خير فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني)، وأيضاً بقول عمر رضي الله عنه المشابه لهذا القول.
قالوا: هذا إعلان من أبي بكر ومن عمر أنهم سيجتهدون، وأنه ليس عندهم إلا مراعاة المصلحة وتحقيق الأهداف القومية أو الوطنية -كما يدعون- وبالتالي فإنهم يعلنون للناس أن يشاركوا معهم مشاركة سياسية في النقد والتقويم، وليس هناك شيء من عند الله، وليس هناك منهج للحكم في هذا الدين، وليس هناك حدود لا يجوز تجاوزها، وليس هناك نظام يعتبر الالتزام به ديناً يدين المسلم به لله سبحانه وتعالى.
بل أغرب أحدهم إغراباً عجيباً وجاء بجهل فاضح حينما قال: إن أول العلمانيين -عياذاً بالله- هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه حوّر الحكم الإسلامي، وجاء بمستحدثات بناءً على المصلحة، وليست هي منصوصة في الدين، فهو أخذ الجانب المدني وأسس الحياة، ووضع لبنة الحياة المدنية من منطلق عصري يتابع المتغيرات ويرعى المصالح، وليس له بالدين صلة ولا نسب.
ويقول أيضاً: ورأي آخر نرفضه كذلك يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم مفصل المعالم متميز القسمات أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه بالفعل أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا النظام الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة.
ثم يقول: هذا الكلام مرفوض وغير مقبول! ويقصد: أنه غير مقبول من الناحية العلمية، كما يدعي هو وغيره.
ومثل هذا الدكتور محمد خلف الله الذي كتب كتابات كثيرة في قضايا تمس أصل هذا الدين والاعتقاد بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن وبالسنة، وكان قد أثار موجة كبيرة من سخط الغيورين على هذا الدين، فإنه يؤكد هذا الجانب أيضاً فيقول: نظام الحكم في الإسلام نظام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل باجتهاد آخر! ولاحظ أن القضية يراد أن تقرر؛ حتى يكون هناك مجال للمدخل على هذا الحكم أو النظام الإسلامي.
فإذا قلنا: إنه حكم ونظام من عند الله فإن القضية تبقى أنه ليس لأحد من البشر أن يغير، ولكن إذا قلنا: إنه اجتهاد فهنا يفتح الباب على مصراعيه للتغيير والتحوير، بل للمخالفة الصريحة لهذا الدين! فلذلك يقول: إن النظام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل باجتهاد آخر؛ حتى يأتي الاجتهاد الجديد بما يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية؛ لتكون محل اجتهاد جديد! ويقول: إن الفكر السياسي في نظام الحكم هو فكر بشري خالص، وتستطيع المؤسسات العلمية مثل كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه؛ إذاً: فليس للدين شأن أو حكم أو قول فصل في هذا الميدان وهذا المجال.
أيضاً: يكرس أحدهم نفس الفكرة بقوله: نحن مطالبون بأن نكون متبعين للرسول صلى الله عليه وسلم بالتزام سنته التشريعية -أي: تفسير القرآن- لأنها دين، أما سنته غير التشريعية -ومنها تصرفاته في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء ومثلها وما شابهها من أمور الدنيا- فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزام المعيار الذي حكم تصرفه، وهو بقاء الدولة، فقد كان يحكم فيها على النحو الذي يحقق المصلحة للأمة، فإذا حكمنا بما يحقق المصلحة للأمة كنا مقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى -وانظر هذا الكلام العجيب الغريب التناقض- ولو خالفت نظمنا وقوانيننا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في السياسة من أحاديث؛ لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة! إذاً: المسألة عنده تقتضي أننا لا نلتزم، وأن التزام السنة واتباع الرسول وتعظيمه إنما هو التزام بالسنة التشريعية التي هي -كما يدعي- تفسير القرآن، وإن كان تفسير القرآن في ذاته يرد على مثل هذه الفرية.
وليته عدد بعض الشئون البسيطة وإنما عدد كل الأمور: السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء وما شابهها وما يماثلها.
إذاً: كل شيء -ما عدا ركعات الصلاة وفرضية الزكاة والحج- يجوز تبديله، وانتهى الأمر إلى هذه الغاية الضيقة المحدودة التي تعارض أصل هذا الدين! وهناك تشويهات سنعرض لها بعد ذلك.
والكتابات في هذا الجانب كبيرة وكثيرة جداً، بل نجد أن التركيز في كتابات من يطلق عليهم المفكرون أو المنظرون أو المستنيرون كلها بلا استثناء صبت في هذا الجانب، وتخصصت فيه، مما يدل على حرب هؤلاء لهذا الدين، وعلى عمالتهم لأعدائه.
في الفترات الماضية كانوا هم المفكرين، وكانوا هم المنظرين، وكانوا هم المستنيرين، ولكن ما كانوا يتعرضون لهذه القضايا بهذا التركيز، لكن لما تقدمهم في ذلك أئمتهم وأسيادهم وأوعزوا إليهم ساروا على نفس الخطى، ومضوا في ذاك الركاب، ينعقون بما لا يعرفون، ويهرفون ويخرفون كما سيظهر لنا من بعض أقوالهم.
ونستطيع أن نقول: إنه تولى كبر هذه القضايا بعض الكتب التي ركزت هجومها على هذه الأمور الثلاثة؛ وهي أمور مهمة من صميم هذا الدين، فهناك كتاب: (قبل السقوط) لـ فرج فودة، وهناك كتاب: (الحركة الإسلامية بين الوهم والحقيقة)، وهناك كتاب: (بين الفقه والشريعة والقانون)، هذه الكتب كلها صبت في هذا الجانب في حرب الإسلام.(63/11)
تخوف أعداء الله عز وجل من تطبيق الشريعة الإسلامية
الجانب الثاني: جانب الشريعة وتطبيقها، وهو جانب له ملامسة إلى حد ما بالجانب الأول، لكن الجانب الأول هو أعم.
يدّعي المنافقون أنه لا صلة مطلقاً للإسلام بالسياسة في أي جانب من الجوانب، وهذا الجانب الثاني هو نوع من التخصيص إلى أعلى المطالب، أو إلى أعلى الصور التي يمثلها تفاعل الإسلام مع السياسة، وهو أن ترقى إلى أن تطبق شريعة الله سبحانه وتعالى، وأن تحكم أوضاع هذه الحياة.
ومن العجيب أننا نجد أن هؤلاء القوم يخلطون في ذلك خلطاً عجيباً! ومن ذلك: أن خلف الله يقول: إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس على الناس بوكيل أو مسيطر أو جبار أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة، وعلى أساس من هذا كان القرآن الكريم يطلب إليه أن يترك أمر عقاب الناس على مخالفتهم لتعاليم الله إلى الله نفسه! وطبعاً تجد أمثال هؤلاء ينصبون أنفسهم مفسرين للقرآن، وشارحين للسنة، بل حتى متكلمين على صحة الأحاديث وضعفها!! فأحدهم يستشهد لإبطال الجهاد بالحديث الضعيف: (جئنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، ثم حينما يأتي إلى بعض الأحاديث الآمرة بالجهاد يقول: وهذا الحديث ليس من الأحاديث الصحيحة التي يعتمد عليها! وهذا نوع من الافتراء والتجرؤ في هذا الجانب.
نجد محمد عمارة يقول: إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما قرره نبي العصر! يعني: أن الشريعة التي كانت على عهد محمد صلى الله عليه وسلم من المستحيل أن يزعم أحد أنها تثبت إلى هذا العصر، ويمكن أن تطبق في هذا الزمن.
ويقول أحمد كمال أبو مجد: ويسرف البعض في تصوير تميز الإسلام عقيدة وشريعة عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني أولاً سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة، وهذا وهم.
وهو لا يقول: إنه ليس هناك صلة بين الإسلام وتطبيق الشريعة أو بين تطبيق الشريعة وواقع الحياة، لكن يصوغها بصورة تفرغها من محتواها فيقول: إن دين الإسلام بصفة خاصة يمتد اختصاصه إلى جميع جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به.
وهذه المقدمة تغريك بأن الرجل يتوافق مع حقيقة هذا الدين، يعني: أنه يشمل كل مظاهر الحياة، لكنه يقول: ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس بالضرورة أن يكون امتداده امتداد اختصاص وتدخل مباشر بالتنظيم وتقديم الحلول النهائية الثابتة! وما معنى أن يكون امتداد الإسلام هو امتداد رعاية وتوجيه؟ يعني: أن الإسلام يقول لك: أحسن في معاملتك، ويقول للمسلم: أنت ينبغي أن تكون مثالاً للتسامح، وأنت ينبغي أن تكون رمزاً للسلام؛ هذا معنى أنه يدخل في نطاق الحياة الاجتماعية والسياسة، ولكن في ظل رعاية وتوجيه عام، وليس في ظل امتداد نظام محدد وأحكام مشروعة.
ولذلك يتضح هذا الأمر جلياً عند هؤلاء القوم، إما بصراحة سافرة وإما بالتفاف حول الأمر من غير أن يكون هناك بعد أو من غير أن يكون هناك اختلاف في حقيقة المضمون.
والشريعة يصورونها أننا بعد تطبيقها سنجد نصف المجتمع مقطعي الأيدي، وثلة منهم مرجومين، وبعضهم مجلودين، وغير ذلك! والذي يتصور هذا في الحقيقة إنما يثبت التهمة على نفسه؛ لأن الإسلام لا يقطع إلا يد السارق، ولا يجلد ولا يرجم إلا الزاني، ولا يجلد إلا شارب الخمر، فالذي يتصور أن المجتمع سيتحول إلى مشوهين وذوي عاهات فإنه يحكم على المجتمع الذي يعيش فيه بأنهم شاربو الخمور، وأنهم زناة، وأنهم سارقون، وأنهم وأنهم؛ لأن الإسلام ما جاء بهذه العقوبات إلا في هذا الجانب.
يقول خلف الله -وهو أكثرهم جنوحاً عن الحق وأكثرهم أقوالاً كفرية-: إن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق لم يكن لنا بها عهد من قبل! يعني: أن هذه الأنظمة في المعاملات لما خرجت عن نظام الإسلام تطورت، وأصبح لها مرونة وحرية، وقدمت بشكل جيد وحسن، ولذلك يقول: إن الشريعة كانت -والعياذ بالله- تعوق الإنسان عن الغوص في ميادين الفضاء والأجواء وميادين البحار! وأيضاً نجد أن هذه القضية تتصور في أمور أخرى حينما نجد أن الأمر يغتال قضية التاريخ الإسلامي؛ لأن التاريخ الإسلامي يمثل تطبيق الشريعة في معظم فترات التاريخ، كما سيأتي الحديث عنه.
لكننا نجد أن هؤلاء يصورون القضية تصويراً آخر؛ فيجعلون النظام والحكم للإسلام الذي طبق أو الشريعة التي طبقت إنما كانت صورة من صور الجمود، وصوراً من صور التخلف.
يقول محمد جابر الأنصاري: إن هذا المجتمع العربي المتحضر اقتحمته الموجة الرعوية العثمانية القادمة من سهول آسيا الصغرى بالغزو المباشر، فقطعت استمراريته الحضارية ونموه الاقتصادي والإنتاجي، كما فعلت الموجة التركية الأولى في عهد المعتصم بالمجتمع العربي.
لذلك القضية التي ينبغي للمسلمين التنبه لها هي: أن حكم الخلافة وأن حكم التشريع الإسلامي كان نعمة وخيراً ووحدة للأمة، وهذه القضية المهمة تواجه هذا العداء لهذا الغرض! ولذلك هذا الكاتب يتعجب من المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي الإسلامي؛ باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية وللكيان الإسلامي الواحد، وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مرده إلى إخفاق في الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الخلافة العثمانية.
وشاهد الحال أننا نجد أن أمثال هؤلاء يركزون على قضية مهمة، وهي: أن تطبيق الشريعة سيأتي بقضيتين خطيرتين لا وجود لهما في الواقع، والقضية الأولى ذكرناها وهي: إقامة الحدود، والقضية الثانية ما يسمونه بإقامة النعرات الدينية أو الفتنة الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين.
وعلى هاتين النقطتين يقوم أساس حديثهم، والكلام الذي يخوضون فيه في هذا الجانب.
وخلاصة القول: أنهم يريدون من هذه القضية أن يبعدوا الإسلام عن التطبيق؛ وذلك من خلال جوانب ثلاثة: الأول: أن قضية التشريع ليست محددة المعالم، وليست مطلوبة بشكل ديني.
الثاني: أن هذه الشريعة فيها من الأمور التي كانت تناسب العصر في وقت مضى، ولكنها لا تناسب في عصور أخرى.
الثالث: أن تطبيقها يؤدي إلى سلبيات وإلى مخاطر يصورونها للناس في هذا الجانب.(63/12)
تخوف أعداء الله عز وجل من الجهاد في سبيل الله
الجانب الثالث: جانب الجهاد، وهو أحد معالم هذا الدين، بل عده بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام تأكيداً على أهميته.
ونظراً لاقتران الحياة الإسلامية التي بدأت تعود إلى المجتمعات المسلمة بشمول هذا الدين وبقواه الفاعلة كان لها ارتباط بهذا المبدأ وبهذا الفرض الكفائي الذي ينتقل أحياناً إلى أن يكون عينياً، فلذلك كان التركيز على هذا الأمر وتشويهه والالتفاف حول قضاياه بشكل أو بآخر، فتجد أن هذا المبدأ الذي قام أو يقوم على أساس ديني وعلى أساس فيه حماية لهذا الدين ونشر له يحور في حس هؤلاء بطريقة ملتفة أحياناً وواضحة أحياناً أخرى.
فأحدهم يقول: فلا الحرب التي سميت بحرب الردة كانت دينية، ولا حرب علي رضي الله عنه مع خصومه كانت دينية؛ لأنها كانت حروباً في سبيل الأمر -أي: الرئاسة والخلافة والإمامة- وهذه تعتبر طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثمَّ كانت الحرب التي نشبت لأجلها سياسية ومدنية هي الأخرى، وليس لها أي مبدأ من مبادئ الإسلام.
ويصور هذا الكاتب التحليل التاريخي للجهاد أنه لم يستقر على مبدأ ديني ثابت ومطلق، وإنما يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة قريش، وكفار قريش كانوا متطرفين في العداء ضد الإسلام، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر، وأن يتلافى الصدام مع قريش في ذلك الوقت، ثم لما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة نزل قول الله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40]، فيأتي هذا المحلل لمثل هذه الآية ويقول: الجهاد على مقتضى هاتين الآيتين ليس حرباً مقدسة مطلقة غير مشروطة، وإنما هي حرب مقيدة مشروطة، فهي تحدد السبب، وتشير إلى الأعداء، وتضع ضوابط، وتسن الأخلاقيات! ثم ينطلق ليحلل باقي الفترات التاريخية والجهاد الإسلامي فيقول: من الخطأ أن نعتبر أن قتال الدولة الأموية التي توسعت بعد الخلافة الراشدة كان جهاداً إسلامياً، بل كان عبارة عن توسع سياسي وسيطرة في ظل وجود قوة داخلية، إذا ما كان هناك استثمار لها في الحروب يمكن أن تبدل مشاكل داخلية! ويقول: الدولة الأموية كان فيها معارضة سياسية، وكان فيها نعرات تواجه القومية العربية -كما تسمى- وبالتالي كان من الحنكة السياسية التي تجمع بين أمرين تفريغ هذه المشكلات إلى الخارج، واكتشاف مناطق نفوذ أخرى.
إذاً: ستتوجه هذه الكوادر والتفاعلات إلى القتال باسم الجهاد، وباسم الدين؛ حتى يصرفوا هؤلاء الناس عن معارضة الدولة إذا صح التعبير! أي: أن هذا الجهاد الذي كان في الفترة الأموية لم يكن جهاداً إسلامياً، ولم يكن فيه شهداء، ولم يكن فيه أي شيء من هذه الأشياء التي تغرينا.
بل قاموا باستعراض بقية فترات التاريخ التي تتضح فيها هذه الناحية، وأظهر شيء يتحدثون عنه هو الخلافة العثمانية وما كان من شأنها وتوسعها.
ثم ليس هذا فحسب، بل حتى الجهاد والحرب ضد أهل الكتاب أيضاً يفسر تفسيرات أخرى، فنجد أن الآيات القرآنية الصريحة الواضحة في الأمر بالجهاد تحور لتكون ذات أهداف محدودة.
فهذا العشماوي يقول: الجهاد أو الحرب المقدسة بصريح نصوص القرآن وصحيح الواقع الإسلامي هو: دفاع عن النفس لرد عدوان أو صد أذى؛ فهو لا يكون على الإطلاق ابتداءً بالعدوان، كما لا يكون فقط مبادرة بالإيذاء، وإنما على قدر ما يكون العدوان يكون الرد، وعلى نحو ما يكون الإيذاء يكون الأذى.
أي: أنه يلتزم بضوابط الدفاع، فلا يزيد عما يكفي لرد العدوان، وبهذا المعنى يكون الجهاد أسلوباً كريماً وباعثاً قوياً ودافعاً سامياً للارتقاء بالذات، والسمو بالنفس، والعلو بالروح! أي: أنه جعل الجهاد المذكور في النصوص عبارة عن جهاد النفس، وأما النصوص الأخرى فإنما تعني فقط الحالات التي كان فيها عداء معين يقتضيه الواقع السياسي الذي كان في ذلك الجانب.
ثم يقول: إن المعنى السليم للجهاد فسر خطأً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات في التاريخ الإسلامي؛ فبعض الفقهاء الذين أثروا على العقل الإسلامي يقولون: إن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول والمجتمعات هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنة مؤقتة ريثما يتهيأ المسلمون للحرب.
وزاد البعض أنه من غير الجائز لإمام المسلمين أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب؛ لأن في مثل هذا السلم إلغاء لفريضة الجهاد.
ولست أدري ماذا يريد بهذا البعض، ونحن نعلم أن كتب الفقه كلها بلا استثناء تشتمل على كتاب وباب كامل اسمه: الجهاد وأحكام الفيء والغنيمة، بل يقول الإمام النووي في المجموع: إن من واجبات الإمام: الغزو والجهاد في سبيل الله؛ قال: وأقله: أن يكون في العام مرة واحدة.
ونجد التفصيلات والتفريعات في أحكام الجهاد وفي أحكام الجزية في كتب الفقه وغيرها.(63/13)
أهمية الوقوف أمام أعداء الله عز وجل ودحر مخططاتهم
هذه القضايا الثلاث -كما أشرت- هي محور هذا الهجوم بشكل واضح وسافر؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يتنبه إلى هذه الظاهرة.
والذي يتأمل في هذه الدعاوى يجد أنها ساقطة، وسقوطها سهل التوضيح لمن كان متربياً وعارفاً بالقرآن والسنة؛ لأنها أمور بدهية في هذا الدين، فحينما نقول مثلاً: إن هذا الدين بالنسبة لشموليته لهذه الحياة ينتظم جميع الجوانب حتى الجوانب السياسية نجد أن هناك معالم كاملة وشاملة تدل على هذا الأمر، وليس مجرد إطلاقات عامة؛ فإننا نجد -على سبيل المثال- في سورة التوبة أنظمة متكاملة في السلم والحرب، والمعاهدات والمعاقدات بين الدول، وهكذا قضية التعامل مع الأنظمة الأخرى.
وكذلك نجد أن قضية ارتباط الحكم بالدين واضحة في كثير من النصوص القرآنية التي تؤيد ذلك، سواء مما يذكره القرآن من قصص الرسل والأنبياء، كقصة داود عليه السلام أو مما يقرره القرآن بذاته؛ فإننا نجد أن هناك صورة متكاملة لا تخفى على الإنسان حينما يتلو آيات القرآن.
وأما جعل نصوص القرآن تتعلق فقط بالحوادث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنها فقط جاءت في ظل الظروف التي كانت للمسلمين فهو نوع من إلغاء استمرارية القرآن الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وكذلك في هذا إبطال لقول الله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ختمه الرسالات، وأن هذا الدين وهذا القرآن هو الخالد الباقي إلى قيام الساعة.
وكذلك القضية الثانية نجد أن الواقع التاريخي فضلاً عن النصوص المتكاثرة القرآنية وأكثر منها نصوص السنة؛ تؤكد جانب تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الإسلام جاء بتفصيل كثير من الأحكام في جوانب الحياة كلها، سواءً الجوانب الاقتصادية أو غيرها؛ فنجد النصوص في كتب الفقه تستشهد بالآيات القرآنية في تحريم الربا وفي الأمور الأخرى المتعلقة بالبيع وبالشراء والمداينة وغير ذلك، وتأتي نصوص السنة لتبين الأمور الأخرى التفصيلية، مثل: الرهن، والشفعة وغيرها من الأحكام، ففيها تدقيق وتفصيل كامل.
ثم نجد أيضاً أن القرآن جاء بتفصيلات دقيقة فيما يتصل بالعلاقات الاجتماعية من الزواج والطلاق والرجعة والنفقة ونحو ذلك، وهكذا فصلتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ونجد كذلك أن الجوانب الأخرى المتعلقة بجانب العقوبات أيضاً جاءت فيها الحدود، مثل: حد السرقة، وحد الزنا، ففيها تفصيلات دقيقة لا تحتمل المغالطة أو المواربة.
فهذه التفصيلات مذكورة في كتب الفقه التي هي من أعظم الكتب وأكثرها؛ فإن أغزر ما كتب المسلمون هو في الفقه وفي الفروع الفقهية التي ضبطت في ظل النصوص الإسلامية القرآنية والنبوية الصريحة، أو في ظل الاجتهادات وفق قواعد وأصول معينة تستند إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما تجد حكماً ولا قضية إلا وتجد في الكتب الفقهية الموسعة تعريجاً عليها، وتفصيلاً لها، ووضع ضوابط لفروعها في ظل هذه النصوص من القرآن والسنة.
ثم كذلك نجد أن التطبيق العملي في التاريخ الإسلامي كله يبرهن على هذه القضية، وأن النبي عليه الصلاة والسلام طبق شريعة الله سبحانه وتعالى في شتى المجالات.(63/14)
حقيقة الجهاد في الإسلام
قضية الجهاد في سبيل الله على الصورة التي ذكرها هؤلاء غير واردة ولا متطابقة مع منهج هذا الدين في نصوص القرآن وفي نصوص السنة وفي تطبيقات الواقع العملي؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في نداء المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، ونداءات القرآن في شأن الجهاد قوية وواضحة، كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:38].
وقد جعل الله سبحانه وتعالى مرتبة المجاهد أعلى وأسمى من غير المجاهد، وجعل في كل حركة وسكنة في طريق المجاهد أجراً يتضاعف له، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120].
وهذه النصوص تدلنا على أن القضية أصيلة ومطلقة، وليست محدودة، وإنما هي لتثبيت هذا الدين ونشره ومنع من يحولون بين الناس وبين معرفته على حقيقته؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين شأن الكافرين بأنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
وكذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر شيئاً من الأعمال وبالغ في تفضيله مثلما ذكر في شأن الجهاد؛ فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن فضل الجهاد فقال للسائل: (هل تستطيع حينما يخرج المجاهد أن تقوم فلا تنام، وأن تصوم فلا تفطر؟ قال: ومن يطيق ذلك؟! قال: لو فعلت ذلك ما بلغت أجر المجاهد) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام بين تعلق المؤمن بهذه الفريضة وبهذا الأمر في هذا الدين بأنه هو الأمر الوحيد الذي يتمنى المؤمن لأجله أن يعود إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله لما يرى من الكرامة والأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قارع الكفر والشرك لم يكن ينطلق قطعاً من الضرورة المدنية لدولته أو من الضرورة الاقتصادية لمجتمعه، وإنما كان الأمر واضحاً وجلياً في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، وأيضاً كان واضحاً أن القضية كانت باسم هذا الدين، ولأجل نشر راية هذا الدين، وكذلك سار أصحابه من بعده.
وكل انحراف عن هذا المعنى إنما هو مغالطة للتاريخ وتفريغ لمحتواه، أما المغالطة فظاهرة، وأما التفريغ فكيف يمكن أن يفسر الإنسان أن هؤلاء المسلمين الذين لم تكن لهم قوة ضاربة خرجوا من جزيرتهم وقوضوا الممالك الكبرى والعظمى؟! وكيف فتحوا الديار شرقاً وغرباً؟! وكيف كانوا مع جهادهم وقتالهم يمثلون الحضارة والتعامل الإنساني الرائع؟! وكيف كانوا يمثلون الحرية الدينية في ظل قول الله سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]؟! حتى اعترف كل أعدائهم بأنهم مثلوا هذا الجانب تمثيلاً صادقاً وواقعاً.
وخلاصة القول: أن هذا التخوف الذي يظهر من الأعداء ومن بعض الأبناء إنما يبين حقيقةً واضحة، وهي: أن هذا الدين بحقيقته الكاملة وشموليته الواقعة وتفاعله الكامل مع هذه الحياة هو الأمر الذي يخشى منه أعداء الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإنهم يلتمسون لحربه كل طريق.
والطرق في ذلك متنوعة وكثيرة ربما يأتي لها مجال حديث، لكنها تنصب أساساً في إجراءات وقائية وفي إجراءات عدائية.
أما الوقائية فهي: الضرب والطعن في المبادئ، والتشكيك في الحقائق، والتزوير في التاريخ؛ حتى لا يستطيع أحد أن يستفيد أو أن يستند إلى هذه الأمور بعد أن تكون قد عراها هذا الأمر، فيكون هناك وقاية من هذا الجانب، وهذه الوقاية غايتها أن يحال بين الناس وبين الفهم الصحيح للإسلام.
والإجراءات العدائية: تشمل ألواناً من الحرب الإعلامية، ومن الحرب المباشرة عسكرية كانت أو اقتصادية، وكذلك تتضمن التضييق في كل الجوانب، وخاصة من الناحية الاقتصادية.
وهذه الأمور كلها يمكن أن يجدها الإنسان، ولكن اليقين الذي يكون عند الإنسان المؤمن هو وعد الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهو وعد الله سبحانه وتعالى بأن هذا الدين هو المنتصر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
وكذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر مما يكون في مستقبل الزمان بالنسبة للمسلمين وانتصار دولتهم وارتفاع رايتهم.
فالمؤمن الذي يبقى على هذه الحقائق لا يحول بينه وبينها حائل، بل يمكن أن يكون هو اللبنة الصحيحة والصالحة لبناء المجتمع المسلم المتكامل، ولتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى التطبيق الذي كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أصحابه من بعده.
وهو كذلك المؤهل لأن يكون المجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى الذي يحول بين القوى التي تمنع الناس من معرفة الدين وتحول بينهم وبين الدخول فيه أفواجاً.
وهذا يقتضي أموراً كثيرة، كقوة الإيمان، وصحة العلم، وصحة العبادة، ونشر العلم الصحيح، وكذلك العمل التطبيقي، وهذا هو الذي ينبغي أن يفهمه المسلمون في ظل هذه الصيحات التي تخوف منهم، والتي تتربص بهم، والتي تستعدي الجهود عليهم، والله سبحانه وتعالى غالب على أمره: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].
الله سبحانه وتعالى نسأل أن يوفق المسلمين لمعرفة حقيقة دينهم، وأن يجعلهم متبصرين بحقيقة أعدائهم، وأن يجعلهم متمسكين بما أمر الله سبحانه وتعالى وبما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(63/15)
مدرسة التغيير
لقد جعل الله لنا في أيام دهره نفحات يفيض فيها علينا من الخيرات، وينزل الرحمات، ويضاعف الحسنات، ويحط عنا السيئات، ومن هذه المواسم موسم شهر رمضان الذي تتبدل فيه الأحوال والأقوال والأفعال، ويبادر الناس فيه للتغيير في سويداء القلوب وأعماق النفوس وخطرات العقول، ولاشك أن رمضان على مدى ثلاثين يوماً مدرسة عميقة الأثر في التغيير، وقوية فيما تعكسه على نفس الإنسان وقلبه.(64/1)
رمضان مدرسة التغيير
الحمد لله خالق البريات، عالم الخفيات، رب الأرض والسماوات، جعل لنا في أيام دهره نفحات، يفيض فيها الخيرات، وينزل الرحمات، ويضاعف الحسنات ويمحو السيئات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، وملء ما شاء من شيء بعد، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداًَ عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فحين يهل علينا هلال رمضان تتغير فيه أوقات طعامنا وشرابنا، وتتبدل فيه أوقات يقظتنا ومنامنا، وتختلف فيه أحوالنا وأقوالنا، ونرى صور التغيير لا تخطئها العيون في جانب المادة الملموسة، ولعلنا نبحث وراء ذلك عن التغيير في سويداء القلوب، وأعماق النفوس، وخطرات العقول، ولا شك أن مدرسة يمتد برنامجها الواسع من القول والفعل والتغير والتبدل على مدى ثلاثين يوماً لهي مدرسة عميقة الأثر في التغيير، وقوية فيما تعكسه على نفس الإنسان وقلبه، ولعلنا نشهد صوراً كثيرة تستحضرها أذهاننا ونتخيلها لهذا الشهر الكريم في كل ما مضى من أيامه ولياليه عبر سنوات وسنوات طوال، ذكر وقرآن، وبر وإحسان، إرادة وصبر، وإفادة وأجر، طاعة وتعبد، قيام وتهجد، زيادة إيمان وصحة أبدان.
صور كثيرة، انتقال من الغفلة إلى الذكر، انتقال من الاجتراء إلى الاتقاء، انتقال من الشح إلى البذل، تغير حتى في كلمات الألسن، بل في قسمات الوجوه، بل في كثير وكثير مما يخفى ولا يظهر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، انصراف عن الشهوات وإقبال على الطاعات، مباعدة من النيران ومقاربة إلى الجنان، تغير كبير نشهده ونلمسه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله صادقاً في ابتغاء مرضاته، وأن يتقبله فيما يمحو به من الآثام، وفيما يزيد به من الأجور والعطايا الجسام.(64/2)
وقفات وصور في مدرسة التغيير
ونحن في هذه الوقفات نريد أن نلفت النظر مع صور التغيير الظاهرية إلى بعض ما ينقصها ويضعف قوتها ويبدد أثرها وقد يمحو أجرها وثوابها -ونسأل الله عز وجل السلامة والعافية-.(64/3)
الوقفة الأولى: الانتقال من الغفلة إلى الذكر
لدينا غفلة عن الأعمال وفضائلها، يفسرها انحسار الاقبال على بيوت الله وزيادتها في مقابل ذلك في رمضان، وكأننا لا نعرف أو لا نذكر، أو كأننا نغفل عن كثير وكثير وكثير من النصوص المحفوظة في فضائل الأجر، وثواب الصلاة، وشهود الجماعات وغير ذلك.
كل خطوة تسعى إلى بيت الله عز وجل تحط خطيئة، وتكتب حسنة، وترفع درجة، وما تزال الملائكة تدعو وتستغفر للمصلي في مصلاه حتى ينصرف، وما تزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسك، ثم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
غفلة كبيرة عن هذا لكثير ممن لا يشهدون الجماعات إلا في هذا الشهر الكريم، وكأنما هو سحابة صيف تمر ثم تنقشع، فإذا بهم عن المساجد يدبرون، وإذا بهم عن بيوت الله عز وجل يفرون، وهذه صورة واضحة من صور التغيير.
وغفلة كذلك عن فضائل الزمان، وكأننا لا نعلم قول الله عز وجل الذي مدح فيه عباده بأنهم يستغفرون بالأسحار، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذا بقي الثلث الأخير من الليل ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه) وذلك الدهر كله.
وكلنا أيضاً يعلم حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام فيمن يبقى بعد الفجر في مصلاه حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح ثم يصلي ركعتين فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
أين هذه الفضائل في واقع أيامنا المتتاليات؟ تكاد تكون من المنسيات، ويحيا ذكرها ويعود الاعتبار بها والاغتنام لها والحرص عليها في هذا الشهر الكريم.
غفلة حتى عن فضائل الأماكن فمكة لا تبعد عن بعض الناس إلا ساعة من الزمان، غير أن قلة قليلة هي التي تتعهد البيت بالزيارة بين فينة وأخرى، وتعتمر أو تطوف بين وقت وآخر، فإذا جاء الشهر تغير الحال، وزادت الأشواق، وتعلقت النفوس بالأجر، وذكرت فضيلة عمرة كحجة، وغير ذلك مما نعلمه.
كثيرة هي صور الغفلة التي نراها في واقعنا، وصور الذكر التي تهب علينا نسائمه مع حلول شهر رمضان، وتلك أمور محمودة مرغوبة تسر كل مؤمن، وتشرح الصدر، ولا شك في الوقت نفسه أن ثمة ما ينقضها أو يغيرها أو يؤثر فيها سلباً وللأسف الشديد.
نجد أن هذا الشهر الكريم هو واحد من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وشعيرة من شعائره التي جعل الله سبحانه وتعالى لها حكماً جليلة، وفوائد عظيمة، وجعل لها خصائص، كما رأينا في اختصاص رمضان بالقرآن، وسنرى كذلك اختصاصه بغيره من الأمور والأحوال، غير أنا نرى أمراً يحز في النفس ويؤلمها ويحزنها.
فإنه مع هذا القصد الواضح، والحكمة الظاهرة في مسألة الذكر والتذكر والتحفز لهذه الخيرات ثمة من يتفرغ ويعد ويجهز لكي يقضي على ذلك الذكر ويعمم الغفلة من جديد، ويوجد لها قوالب وبرامج تهدف إلى أن تغطي على العقول، وتطمس على القلوب، وتخمد نار الأشواق الإيمانية في النفوس.
إنها وسائل الإعلام، تأتينا بآلاف وآلاف من المسابقات التي في كثير منها ليس لها ارتباط بهذا الشهر وفضائله وأعماله ومآثره وتاريخه، وهي لا تأتي كمسابقات عادية كما يقال، بل تأتي ببهرجها وفتنتها، ونسائها وعريها، ورقصها وغنائها، بل مع ما فيها من الحرام الذي لا شك في حرمته من وسائل الاتصال التي تتصل بها، فتأخذ منك الأموال، وتأخذ من غيرك، ثم تقسم الجوائز من هذه الأموال في قمار معلن على الشاشات، وظاهر على الصفحات، مكتوب بالأرقام، يتسابق إليه كثير من الناس ليعودوا من بعد الذكر إلى الغفلة.
وهناك مسلسلات متتابعة مخصصة لهذا الشهر، لا تأتي إلا فيه ولا تعد إلا له، بل إنه -والعياذ بالله- قد نشر في الصحافة مسلسلات خاصة برمضان، وهي تهدف إلى انتقاد الدين والتدين، وتهدف إلى التحذير من الإقبال على الله عز وجل والارتباط بطاعته.
في ضمن هذه الموجة الهوجاء العمياء الغبية التي يراد بها -كما يزعم بعض المتصدرين في تلك الوسائل الإعلامية- ردم أو تجفيف منابع الإرهاب، وما عرفوا أنهم بهذا يحاربون أصل الدين في أصله؛ لأننا نسمع وللأسف الشديد عن عناوين لهذه المسلسلات، وهي عناوين من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن كان المضمون في ذاته صحيحاً في بعض وجوه النقد فلِمَ نربطها بهذه الأسماء الشريفة؟ ولِمَ نسمي هذه المسلسلات بأسماء تلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرها في أحاديثه، وجعلها من الأمور التي نؤمن ونصدق ونوقن بها وتتعلق بها قلوبنا ونفوسنا؟ والحديث ليس فيه مجال وسعة في هذه الأبواب، غير أنا نقول: إن رمضان يذكّر، وإن رمضان يحفز، وإن وسائل الإعلام كأنما تواجه وتعارض وتصد، فاختر لنفسك إن كنت تريد أن تكون مع الصائمين الذاكرين، أو مع الصائمين الغافلين اللاهين من قناة إلى أخرى، ومن مسلسل إلى ثان، ومن مسابقة إلى أخرى، وغير ذلك من الأمور التي يشغلون بها الناس، فلا تفرغ أوقاتهم لتلاوة كتاب ربهم ولا للمكوث في بيوت الله عز وجل، ولا لسماع الذكر والموعظة.
نحن في شهر ننتظر فيه أن نقطع كل أسباب الغفلة حتى نهيئ القلوب والنفوس لتقبل على الله عز وجل لتحيا من بعد موات، ولتنشط من بعد ضعف، ولتتذكر من بعد غفلة، ولتشرق فيها الأنوار بعد أن ضرب عليها الران؛ لأننا في أيامنا وليالينا الماضيات، في أوقاتنا المتتاليات ليس لنا حظ ونصيب وزاد من هذه الخيرات.
كما هو في هذا الشهر، فلا يراد لنا أن نغتنم الخيرات، ولا أن نتزود بهذه الطاعات لنقاوم ما سلف من الغفلات، بل يراد لنا مرة أخرى أن نغرق في أوحال الشهوات، فالصباح تسمع القرآن يتلى في الإذاعات، وترى -إن رأيت- شاشة وهي من برنامج فتوى إلى برنامج موعظة إلى غير ذلك، فإذا غربت الشمس وإذا انتهى النهار رأيت الليل وما فيه.
أي تناقض هذا؟! وأي عبادة هذه؟! وأي استقبال لشهرنا ونحن نرى تلك الإعلانات تترى عن تلك البرامج فيما يستقبل من الأيام؟(64/4)
الوقفة الثانية: الانتقال من الاجتراء إلى الاتقاء
كم نجترئ في أوقاتنا فلا نكاد نضبط ألسنتنا من كلام باطل ولغو هادر، أو شتم مقذع، أو غيبة محرمة، أو نميمة مؤججة للفتن والصراعات، فإذا جاء رمضان تذكرنا قول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، تذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم).
نحن نرى في رمضان صورة التقوى وهي مشرقة، فالناس يحرصون على الاستجابة، ويجتنبون -خاصة في نهار رمضان- أقل القليل من المخالفات أو من المكروهات، حرصاً منهم على أداء العبادة على وجهها، والإتيان بالفريضة على كمالها، فتجد الناس وهم يحجمون ويضبطون أنفسهم، ويتقون مواطن الخلل والزلل، فلا تكاد تسمع تلك الكلمات، ولا تكاد ترى تلك المشاحنات، ولا تكاد تلمس النفوس المتساهلة في ارتكاب المحرمات، فهي صورة جميلة وضيئة، حتى إن السائلين يعبرون عن ذلك، فهذا يسأل ويقول: كنت أسير فأتى غبار فواجهني، فهل إن دخل غبار أفطرت؟ وذاك يسأل عن عطر أو بخور شمه: هل في ذلك ما يفسد الصوم؟ وثالث يسأل ورابع يسأل، يسألون عن دقائق الأمور؛ لأن النفوس ارتقت، والهمم نحو الطاعات سمت، ولأن الإنسان المؤمن إذا حيي قلبه فإنه يتقي الله عز وجل في صغير الأمور كما يتقيه في جليلها، وترى العيون وقد غضت عن المحرمات، والآذان وقد صمت عن سماع تلك الأمور الآثمة الماجنة، ومع ذلك -كما قلت- يهون هذا في نفوس الناس، ويجرئهم مرة أخرى على أن لا يكونوا محترزين عن المحرمات تلك الوسائل الإعلامية بما فيها من هذه الأمور المؤلمة المحزنة، ويطول الحديث ولا ينقطع عن ذلك.
ولعلنا -ونحن في هذه الأوقات، وقبل دخول شهرنا- نعقد العزم على أن لا نجعل لهذه الوسائل سبيلاً لتغرقنا في بحار الغفلة بعد ذكر الله سبحانه وتعالى، ولتجرنا إلى حياض المنكرات مشاهدة وسماعاً.
ونحن في موسم التقوى علينا أن نتقي عذاب الله عز وجل بفعل المأمورات وترك المنهيات.
والتقوى هي غاية عظيمة من غايات الفريضة، فكيف نضيعها؟ كيف نرضى أن نخرج من غير أن نحصل عليها، ومن غير أن تعمر قلوبنا، ومن غير أن تغمر نفوسنا، ومن غير أن تشيع وتنتشر في مجتمعنا؟ لذلك احذر كل ما يناقض هذا التغيير؛ فإن التغيير جاءت به الشريعة، وجاءت به الفريضة، وجاءت به الفضائل، وجاءت به الخصائص، وجاء من لا أدري بم أسميهم، هؤلاء الذين يريدون أن يصرفوا الناس عن طريق الله، ويصدوهم عن طاعة الله، ويردوهم إلى ما هم عليه من غفلة، نسأل الله عز وجل السلامة.
رمضان إن الأنفس الجرداء تزكو حين تقبل كالربيع وتورق أهلاً بيومك صائمين عن الأطا يب راغبين إلى الرضا نتشوق أهلاً بليلك قائمين لربنا وقلوبنا بالحب نشوى تخفق حسب الموفق فرحتان أجل من هذي الحياة وإن كساها رونق تلك المفاضلة، نشعر بأن لحظة في سحر في ليلة من ليالي رمضان تعدل الحياة كلها، تعدل كل تلك البهارج والزخارف، تعدل كل تلك العورات المكشوفة والمواقف المحمومة والكلمات الساقطة التي تواجهنا بها وسائل الإعلام.
لمرارة الحرمان فيك حلاوة ولزهمة الأرواح عطر يعبق قد ذاقها مستروحاً من أدركوا حكم الشريعة فاستجابوا واتقوا ليت الذين استثقلوك فأعرضوا وردوا ينابيع التقى وتذوقوا ما سرهم إذ ذاك أن ممالك الد نيا لهم من دون ذلك مرفق.
من ذاق عرف، عرف لذة التقوى، ولذة العبادة، ولذة الطاعة، ولذة الدموع المنسكبة، ولذة الدعوات المرتفعة، ولذة التسابيح المتوالية، ولذة كل هذه المعاني العظيمة، ولذة الصلة بالله عز وجل والاستقامة على أمره.
هذه صورة نشهدها عندما نرى المساجد وهي تغص بالمصلين، عندما نرى الدعوات وهي ترفع، والدموع وهي تسكب، كل ذلك مشهد يراه المسلمون من خارج هذه البلاد من نقل صلاة التراويح من بيت الله الحرام تذرف دموعهم شوقاً لذلك، تخفق قلوبهم وأنفسهم لهفة لذلك، يرون أن كل ما هم فيه من بهرج الدنيا ونعيمها لا يساوي لحظة إذا أقبلوا إلى هذا البيت العتيق، أو إلى مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
فلماذا مرة أخرى يغزونا أولئك بفتنة الدنيا ليخرجونا من لذة الطاعات، ويفسدوا علينا حلاوة العبادة.
هم يفعلون فهل تستجيبون؟ هم يسعون إلى هذه الأهداف فهل أنتم موافقون؟ الأمر بيدك والحل عندك، والهزيمة بين جوانحك، والهمة في نفسك، والعزيمة أنت صاحبها، فلا ينبغي أن تصرعك هذه الفتن وتلك الشهوات الساقطة الضعيفة وأنت صاحب الإيمان القوي واليقين الراسخ والتقوى السامية المرتفعة عن كل هذه الترهات التي ينبغي أن تتنزه عنها.(64/5)
الوقفة الثالثة: الانتقال من الشح إلى البذل
رمضان شهر الإنفاق، شهر العطاء، ليس عطاء المال وحده، بل عطاء في النفوس التي تنشرح، والابتسامات التي تظهر، والصلات التي تمتد، والزيارات التي تحصل، والألفة التي ترى، والاجتماع الذي يشهد.
صورة جميلة رائعة من بذل النفوس والقلوب والأرواح، وبذل الجيوب والأموال والدرهم والدينا.
لمه؟ لأسباب كثيرة، فضيلة الزمان، ومضاعفة الأجر، وكلنا يعرف ذلك في رمضان، ثم اختصاص للصدقة في شهر رمضان، كما ورد في سنن الترمذي من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة صدقة رمضان).
ثم ماذا؟ اجتماع الصيام والصدقة في سياق واحد من الأعمال المفضية إلى دخول الجنة، كما روى علي بن أبي طالب فيما أخرجه الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما ذكر من الأمور التي تدخل الجنة في شأن عباد الله الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فلما سألوا: هي لمن يا رسول الله؟! قال: لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)، والصدقة فيها في رمضان إطعام الطعام، وفي رمضان الصلاة والناس نيام، وفيه كذلك الصيام، فلما اجتمعت هذه أحب كل مؤمن أن يجمعها في شهره لعله يتعرض لنفحات الله عز وجل فيستوجب رحمته ومغفرته، وينال بإذن الله عز وجل يوم القيامة جنته.
وخصيصة أخرى كذلك، وهي في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، فبقدر رحمتك بالخلق تفيض عليك رحمة الله، ونحن نعلم أن القلوب ترق في رمضان، وأن الرحمة تفيض فيه، وأن الإنسان يشارك الفقراء والأيتام والمحرومين مشاعرهم ويرحمهم، فيكون أكثر عرضة لرحمة الله سبحانه وتعالى.
وخصيصة أخيرة، وهي أن ثمة نوعاً من الصدقة خاصاً بهذا الشهر يأتينا في جانبين: (من فطّر صائماً فله مثل أجره دون أن ينقص ذلك من أجر الصائم شيئاً)، فلذلك نرى الناس وهم يسارعون إلى تفطير الصائمين ليبلغوا أجرهم ويتعرضوا لرحمة ربهم.
ومن جهة أخرى فإننا نعلم أن الكفارات تكفر الذنوب، وهي أنواع كثيرة، منها الصيام، ومنها إطعام الفقراء والمساكين، فاجتمعت الأسباب كلها ليعمد المسلمون إلى أن يخصوا هذا الشهر مع ارتباطهم بالقرآن، ومع كثرة الصلاة، ومع وجود الصيام بالإنفاق، فتجود به النفوس، وتسخو به، فلا يغالبها شح، بل تنتصر بإذن الله عز وجل فيها إرادة الخير وابتغاء الأجر: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وتستحضر النفوس قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، كم هو الأجر عظيم! وكم هو الثواب جزيل! وكم هي أعطيات الله عز وجل التي لا يحدها حد ولا يحيط بها وصف! فعطاؤه سبحانه وتعالى غير مجذوذ.(64/6)
معالم قرآنية في الحث على الإنفاق
صور كثيرة تجعلنا نتذكر ونهتم ونعتني بهذه الشعيرة في الإنفاق والبذل والعطاء الذي نبتغي به أجر الله سبحانه وتعالى، ونجد لذلك بعضا ًمن المعالم والمعاني القرآنية المهمة التي يحسن الذكر لها، ولعلنا نستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة)، فهذه معادلة صادقة، وهي أصدق من المعادلات الرياضية، وهي أوضح وأصدق من قضية واحد يزاد عليه فيصبحان اثنين؛ لأن هذا خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
صحيح أنه قد يكون عندي الألف، فإذا أخرجت مائة أصبح تسعمائة، لكنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر: (فيقبلها ربه بيمينه فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون عند الله مثل جبل أحد).
صدقة يسيرة تضاعف حتى تصبح مثل جبل أحد، وجبل أحد محيطه إذا سرت حوله بالسيارة يبلغ ستة كيلو مترات، وانظر إلى حجمه وضخامته، ولا تظن أن هذه مجرد أمثال، بل هي خبر حقيقي صادق ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نعتقد يقيناً أنه لن ينقص هذا المال من الصدقة من حيث الأجر الأخروي، ومن حيث البركة الدنيوية؟ ومن حيث البركة فهي في وجهين: قليل يبارك فيه فينفع ويفيض، ونرى ذلك كثيراً، ترى من عنده راتب قليل وعيال كثير وهو مبتسم منشرح الصدر، ويأتي آخر شهره وقد قضى حوائجه بحمد الله، وآخر راتبه أضعافه وأبناؤه أقل منه، ومع ذلك يشكو من الويل والثبور وعظائم الأمور، ومن ضيق ذات اليد، وليس الأمر في الكثرة ولكنه في البركة، والبركة لا تحل إلا بطاعة الله والاستجابة لأمره والإنفاق في سبيله والتفقد لعباده.
وينبغي أن نوقن بذلك، وأن نراه جزماً في واقع حياتنا، ومن البركة كذلك أنك تنفق ويزيد الله سبحانه وتعالى لك ويخلف عليك؛ لأنه وعد، ووعده صادق سبحانه وتعالى.
ومما ينبغي أن يحرص عليه المتصدق أمر الخفاء والسر والتجرد بالإخلاص في النفقة، كما قال جلا وعلا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271].
وفي الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، ولعمري ما من بلاغة أحسن من هذا التعبير النبوي، حتى إن اليدين وهما في جسد واحد لا تعلم اليسرى ما أنفقت اليمنى، فغير ذلك من الخفاء أولى، وذلك هو معروف بصدقة السر التي لها عظيم الأجر وعظيم الأثر في الوقت نفسه.
وأعظم من هذا وذاك: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، أي: تسل سخائم النفوس، وتسل ضغائن القلوب، وتطهر النفس من الشح والبخل، وتطهر نفوس الفقراء من الحسد.
صور كثيرة أصبحنا نراها في مجتمعاتنا يوم ضعفت صلتنا بكتاب ربنا وبسنة نبينا وبديننا وإسلامنا.
ألسنا نرى هذا وهو يحسد ذاك، وهو يتمنى لو أنه أخذ ما عنده؟ وترى الآخر وهو يشح ويبخل ويرى غيره غير مستحق لنعمة الله عز وجل.
كم هي هذه الصور التي لا يغيرها إلا منهج الله وإلا عبادة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد قال في وصف الإنسان: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وكثيرة هي الأمور المتصلة بهذا الشأن، ولعلنا ننتبه لها، وسنعرف كذلك من بعد ما يضادها.
نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه للصيام والقيام والذكر والتقوى، وأن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما فيه غفلة ومعصية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(64/7)
العلاقة بين الصوم والإنفاق
أيها الأخ الحبيب! ونحن نستقبل موسم التقوى نؤكد على هذه الصلة الوطيدة بين الصيام والإنفاق والجود، ولقد كان المثل الأعلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكشف لنا عن حقيقة هذا التلازم وهذا الترابط الوثيق بين رمضان والصيام وبين الإنفاق والصدقة، ففيما روى ابن عباس رضي الله عنهما، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس)، فهل هناك تعبير أبلغ من هذا؟ هو أجود الناس، أي: بلغ الرتبة العليا في الكرم والجود والسخاء.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم (كان أجود الناس) هذه المرتبة العليا، فهل بعد ذلك من شيء؟ لا.
قال: (وكان أجود ما يكون في رمضان) أي: يزداد جوداً إلى جود، وكرماً إلى كرم، وعطاءً إلى عطاء، وسخاءً إلى سخاء.
(فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) تعبير بليغ.
(الريح المرسلة) أي: المطلقة.
فهل تتقسط؟ وهل تأتي شيئاً فشيئاً؟ إنها تأتي مندفعة قوية هادرة، وكذلك كان هذا الوصف لجود المصطفى صلى الله عليه وسلم، وللأسف الشديد كذلك نذكر المال الذي ينفق على عكس مراد الله، وعلى عكس هذه الصورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنفاق للصد عن الدين ولإغراق المسلمين في الغفلة والهوى والشهوة، كما أسلفت في ذلك، وينبغي أن ننتبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وأخبرنا الحق جلا وعلا فقال: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، والكسب الخبيث الذي نرى صوره -كما قلت- معلنة محرم مقطوع بحرمته ليس فيه خلاف، وليس هناك تشدد بالقول بحرمته؛ لأن الآيات بذلك نطقت، والأحاديث بذلك شهدت، ومع ذلك نرى صوره كل عام تتكرر وتزداد، ولعلنا نستحضر أمراً وإن كان الفارق موجوداً، لكننا نقوله حتى نتعظ ونعتبر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، هذه صورة لأهل الكفر.
وللأسف أن بعض أهل الإسلام يوافقونهم في ذات العمل: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تكون العاقبة مشابهة {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، نسأل الله عز وجل السلامة.
وقال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:116]، هذه صور خطيرة نحذر منها كل من يشارك فيها، وكل من يسعى لها، حتى المتصل إذا اتصل بهذه القنوات الفاسدة التي تستخدم الطرائق المحرمة والتي فيها ما فيها، فهو يسهم كذلك بمال في جانب وعمل وميدان محرم فيكون مشاركاً في الإثم، نسأل الله عز وجل السلامة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وقد اشتكى وشكا موسى عليه السلام من ذلك الحال الذي كان عليه فرعون قوة ومالاً، ثم دعا دعاءه الشهير: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88]، وهذه الدعوات التي نسأل الله عز وجل أن تنصرف عن كل من يتذكر ويتعظ ينبغي أن يحذر منها الغافلون والسالكون في هذه المسالك الخطيرة ذات العواقب الوخيمة، نسأل الله عز وجل السلامة.
والحق جل وعلا يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، فلن يزداد الخير ولن يضاعف أجر، ولن تكون بركة إلا فيما هو في مرضاة الله، وأما كل ما هو زيادة فيما هو من الحرام فإنها زيادة سحت له عاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وأظن الشواهد عند كل أحد كثيرة، ويكفينا في ذلك الوعيد الشديد الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي من طرق شتى: (كل جسم)، وفي رواية: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).
نسأل الله عز وجل السلامة.
وتأمل كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن مسعود في البخاري قال: (لما نزل فضل الصدقة كنا نحامل) أي: ليس عندنا مال.
ومن ليس عنده مال فليس عليه زكاة، ولا تطلب منه الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة ما كان عن ظهر غنى)، يعني: بعد أن تستغني تصدق بما يزيد.
لكن الصحابة المحبين للخير الراغبين في الأجر يقولون: (كنا نحامل) أي: يعمل أحدهم حاملاً، فيحمل حتى يأخذ أجراً.
لماذا يأخذ هذا الأجر؟ هل ليوسع على أهله وليدخر قرشه الأبيض ليومه الأسود؟ كلا.
إنما يريد أن يحصل على شيء من المال لكي ينفق فيكتب من المتصدقين ويكون من المنفقين، فإذا كان هذا فما حال الذين عندهم فائض ثم لا ينفقون ولا يكتبون في هذا الباب؟ وحديث أبي سعيد الخدري يدل على ذلك: (من كان له فضل ماء فليعد به على من لا ماء له، من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان له فضل طعام فليعد به على من لا طعام له، قال: حتى ظننا أن لا حق لأحد منا فيما فضل من ماله).
فهذه فرصة عظيمة، وينبغي أن لا نجعل إنفاقنا في شيء مما حرم الله، وأن نسارع إلى تلك الميادين، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته.
اللهم! أنطق ألسنتنا بذكرك، وأملأ قلوبنا بحبك، واجعل أقدامنا ساعية لطاعتك، وأيدينا منفقة في سبيلك، وجباهنا ساجدة لعظمتك، وألسنتنا مسبحة بحمدك.
اللهم! سخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر لنا -اللهم- ما مضى وما هو آت.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
تول -اللهم- أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وامح عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، توفنا على الإسلام، وابعثنا على الإيمان، واجعلنا -اللهم- هادين مهديين، راضين مرضيين، واجعلنا -اللهم- من عبادك الصالحين، واكتبنا في أهل الجنة يا رب العالمين.
اللهم! بلغنا شهر رمضان، ووفقنا فيه للطاعات والصالحات، واصرف عنا فيه الشرور والسيئات يا رب العالمين.
اللهم! اجعل بلدنا آمنا رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
ووفق -اللهم- ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
مكن -اللهم- في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه إلى كل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم! لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا قوي يا عزيز.
يا منتقم يا جبار.
أنزل -اللهم- بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف -اللهم- فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! فرج اللهم همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ووسع رزقها ورغد عيشها يا أرحم الراحمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم صلِ وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.(64/8)
المجلات غثاء وبلاء
تُعد الجرائد والمجلات من أعظم وسائل الإعلام التي تؤثر على أفكار الناس ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولهذا حرص أعداء الإسلام وأعوانهم على بث سمومهم بين أوساط المسلمين من خلال هذه الوسائل، وللأسف الشديد فكثير من أبناء المسلمين يتلقفونها ويتأثرون بها! فيجب على كل مسلم مقاطعة الجرائد والمجلات الهابطة والمنحرفة، والوقوف أمامها، والتحذير منها.(65/1)
ظاهرة انتشار المجلات والجرائد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد: فالمجلات غثاء وبلاء وبادئ ذي بدء أشير إلى أن العموم الذي في العنوان قطعاً ليس مقصوداً، فالمراد بالمجلات ليس كلها وإنما كثير منها، وكذلك هذا الكثير الذي وصف بأنه غثاء وبلاء ليس كل ما فيه كذلك، بل الغالب عليه والمعظم فيه إذ قد يوجد بين هذا الركام والغثاء بعض الآيات أو بعض الأحاديث أو بعض الموضوعات، لكن الغالب هو المقصود في هذا العنوان.
وهذا الموضوع أيضاً من وجهة أخرى تكمن أهميته في أن هذه الظاهرة - أي ظاهرة المجلات- أصبح لها بروز كبير وأثر خطير إذ إنها من حيث الإعداد، ومن حيث ما تزخر به من الفتنة والمخالفات الشرعية أصبحت ذات أثر غير محمود يحتاج إلى التنبيه والكشف والبيان، ومن بعد ذلك إلى التحذير والمناوءة والمخالفة لهذه الصورة التي نحب ألا تكون في بيئتنا ولا في مجتمعنا.
إن المتأمل ليجد من خلال هذه الوقفات أننا بالفعل أمام مشكلة تستحق أن تعرض، وأن يفصل القول فيها، وأن تكون الحقائق واضحة من حيث الأحكام الشرعية والمفاسد الاجتماعية، ومن حيث الوقائع والتفاعلات المترتبة على مثل هذه الظاهرة.
فعلى سبيل المثال: أول وقفة لنا هي مع بعض الإحصاءات الرقمية التي تبين لنا أن المسألة جديرة بالاهتمام وفيها من الخطورة ما فيها، فإننا نجد أولاً من خلال هذه الإحصاءات أن كماً كبيراً من هذه المجلات يغزو المكتبات والمحطات والبقالات، وانتشارها كبير وبأعداد كبيرة.
وأذكر على سبيل المثال: أن إحدى شركات التوزيع فقط مكلفة بتوزيع تسعة وخمسين ومائة جريدة ومجلة، وهذه شركة واحدة من بين ما لا يقل عن عشر شركات تقريباً، والإحصاء يصل إلى نحو أربعمائة، ومن هذه الأعداد والمجلات ما هو يومي ومنها ما هو نصف أسبوعي، ومنها ما هو أسبوعي، ونصف شهري، وشهري.
وهذه الكثرة كلها سيتضح أيضاً أنها بحد ذاتها تلفت النظر، وهذا طبعاً جزء محدود وإلا فإن هناك أعداداً إضافية لمثل هذه المجلات مما لا يصدر أو لا يدخل إلى بلادنا وهو متوفر وموجود في ديار أخرى من ديار العالم الإسلامي.
وعلى سبيل الإحصاء -حتى تتضح الصورة من خلال هذا الرقم البسيط- نجد أن كثيراً من هذه المجلات متخصصة في موضوعات أقل ما يقال فيها: الأصل أنه ينبغي أن تكون في الدرجة الدنيا من الأهمية من حيث إنها ليست قضايا ينبغي أن تشغل الأمة، ولا تتعلق بانتصارها على أعدائها ونهوضها في علمها وتقدمها التكنولوجي والحضاري، أو قضايا تتعلق بدفاعها عن نفسها وحمايتها وثقافتها وتاريخها، وأغلب هذه المجلات لا تمس الجوانب الحيوية التي تتعلق بحياة الأمة.
ومن هذه الأرقام التسعة والخمسين ومائة نجد أن هناك ست عشرة مطبوعة خاصة بالرياضة، ومهما كان للرياضة -على أية تصور- من أهمية أو فائدة؛ إلا أن هذا العدد من المائة وتسعة وخمسين كثير جداً، وأعتقد أن المسألة فيها مبالغة حتى من ناحية التكرار، فاللاعبون متحدون والمباريات واحدة والمناسبات واحدة، وكل الصحف تكتب عن هذا.
والمتأمل يجد أن القضية تأخذ جهداً وتأخذ مساحات وأوقاتاً وأموالاً، فتجد أن المباراة الواحدة تكتب عنها عشرات الصحف والمجلات، وكل هذا في مباراة واحدة، والنتيجة واحدة، والأشخاص نفسهم، والحوادث هي هي.
وهذا يدل على أن هذا التكرار والزخم الذي تحظى به هذه القضية فيه نوع من التركيز على القضايا الهامشية وإعطائها الأولوية الأولى.
طبعاً: لو استعرضا الأسماء لهذه المجلات، نجد أن بعضها يدل على مزيد من الغثائية والسخافة، إذ إن هناك مجلات متخصصة في المصارعة الحرة.
وما يمكن أن يتخيل الإنسان في هذه المجلات؟ تصور المصارعين، وبدلاً أن يراهم جمهوراً متحركاً يراهم في صورة ثابتة، ويرى النتائج والمشادات التي حصلت، وكل المجلة من أولها إلى آخرها، ولا يستطيع الإنسان أن يخرج منها بفائدة مطلقاً، لا فائدة عقلية ولا فائدة علمية، ولا فائدة إيمانية ولا تطبيقية، ولا أية صورة من صور الفائدة.
فضلاً عن أن هناك مجلات متخصصة بكمال الأجسام، وهذه قطعاً فيها من المفاسد الشيء الكثير ككشف العورات، إلا أن فيها معنى لتجسيد القوة البشرية والعظمة، وكلها من أولها إلى آخرها نوع من الصور والتعليقات السخيفة عن تشكيل العضلات وإبراز القوى، والمنافسات والانتصارات التي تتم من خلال هذه الألعاب والمشاركات الرياضية.
وفي المقابل أيضاً: من خلال هذا العدد (تسعة وخمسين ومائة) نجد أن هناك ثلاث عشرة مجلة متخصصة في الفن، ومن أولها إلى آخرها وهي تتحدث عن الفن والفنانين والفنانات والمسرح وغير ذلك من أمور.
أما بقية ذلك مما سيأتي ذكره فالفن والرياضة لها في كل مجلة سياسية أو اجتماعية أو حتى علمية نصيب في كل الأعداد.
أيضاً: هناك مجلات متخصصة في المرأة، ونجد أن من هذا العدد ثماني مجلات متخصصة في المرأة فقط، ولا نقصد أنها متخصصة في المرأة أي أنها تعالج مشكلاتها، بل كلها تتحدث عن قضية المكياج والأزياء والمظاهر الاجتماعية التي أساسها مخالف للشرع، وكذا ما يتعلق به من العطور وما يتعلق به من التقاليد وما يسمونه الإتكيت والمظاهر الحضارية التي ينبغي أن تكون، وتسريحات الشعر وما إلى ذلك.
وأيضاً تجد هناك من السخافة والغثائية: أن هناك مجلات متخصصة في الرسوم المتحركة، وهذه سواء قد يظن البعض أنها خاصة بالأطفال والأمر خلاف ذلك، بل روادها وقراؤها من الصغار والكبار، والذي يشهد بذلك صفحات البريد، فتجد فيها أن من المراسلين من أعمارهم في السادسة عشرة والسابعة عشرة، ويسمونهم صغاراً، وقد كانوا في عصر مضى قواداً وفاتحين، وكانوا خلفاء، وكان منهم علماء، وكان منهم مفتون، والآن هم صغار في هذه الهوة السحيقة من السخافة وتلف الفكر وتسطيح العقل.
وأيضاً نجد من هذه الصور المتحركة مجلات للكبار، فبدلاً من القصة المكتوبة التي يتعب فيها يجد قصة فيها الرسوم المتحركة، لكنها بصور حقيقية، وهذه المجلات أيضاً موجودة.(65/2)
سخافة الفكر في المجلات الهابطة
ومن هذا الغثاء في سخافة الفكر هناك بعض المجلات متخصصة في الألعاب، يعني: تكون مجلة من أولها إلى آخرها كلها في الكلمات المتقاطعة وأسماء الفنانين والفنانات وبعض الأسئلة السخيفة وبعض القضايا التي يعجب منها الإنسان، وكلها تصب في بوتقة واحدة، وهي تهميش العقل والفكر عند الإنسان المسلم؛ بحيث يبقى دائراً في هذه السخافات وهذه التفاهات ولا تشغله عظائم الأمور، ولا يدرك أن له في الحياة مهمة ورسالة.
وحتى لا يُقال: إن الدعاة أو أن الملتزمين فقط يريدون كل القضايا تدور حول الدين؟ نقول: دعوا حتى هذه القضية، فما هو حجم المجلات العلمية مقارنة بهذه؟ ولا نقول: الإسلامية أو الدينية، بل المجلات العلمية؟ وما هو حجم الكتب الدراسية التي تخدم المناهج التعليمية؟ وما هو حجم المطبوعات التي فيها ما يقوي كثيراً من الجوانب النافعة، حتى لو قلنا: بعيداً عن الصورة الإسلامية البحتة؟ فهؤلاء الذين يدورون في فلك هذه المجلات لا يضعفون فقط في الجانب الإسلامي والإلتزام بل هم ضعفاء في جانب الشخصية، وفي جانب البنية البدنية نفسها، وفي الناحية التعليمية، وفي الناحية الانضباطية والسلوكية؛ حيث تجد أن كل هؤلاء الذين يتأثرون بمثل هذه يصبحون لا قيمة لهم، وأحدهم لا يحسن التفكير، ولا يحسن التدبير ولا اتخاذ الرأي ولا القيام بمهمة، بل هو شيء أشبه بالكم الزائد على هذه الحياة، كما عبر الرافعي بقوله: إن نلتزم شيئاً على هذه الحياة كنت أنت معنىً زائداً عليه.
يعني لا قيمة لك.
وأذكر بعض هذه المسميات لهذه المجلات: هناك مجلة اسمها (كل الألعاب)، هذه من أولها إلى آخرها في هذا، وأخرى اسمها (عالم التسلية)، وكيف توصل النقاط ببعضها؟! وكيف كذا؟! وقد يقول قائل: إن هذه لها دائرة معينة من الاهتمام، أو إن بعض الناس يهتمون بها.
و
الجواب
أن الدائرة المهتمة بمثل هذه للأسف كبيرة على مستوى المجتمع، وهذا يظهر في كثير من الوقائع والأشياء المنشورة فيها، والتي أيضاً يرد ذكر بعضها، حتى إنك تجد كثيراً من الكبار بل ممن يُسمون أصحاب وظائف وأصحاب عقول تجد أنه في وقت الفراغ يتفرغ لساعة أو لساعتين ليقضي فراغه في الكلمات المتقاطعة أو في الشبكة المتخالفة أو اكتشاف الصورة أو اكتشاف الأشياء التي ترد في مثل هذه المجلات!(65/3)
إحصائيات عن مضمون بعض المجلات الهابطة
فهذه الصورة عن هذه المجلات إنما هي إحصائية أولية من حيث الكثرة، ومن حيث تكرار المضمون، ومن حيث فساد أو هامشية هذا المضمون، ومن خلال استقراء إحصائي لبعض هذه المجلات.
وكل هذا العدد، وهذا التكرار في التخصصات ليس له أهمية في حياة المجتمع وفي تقدم الأمة.
وسنعرض بعض هذه الإحصاءات السريعة عن بعض هذه المجلات، ونذكر بعض ما هو صارخ في حقائق الأرقام: مثلاً: مجلة ما يسمونها (سيدتهم) في بعض أعدادها تبلغ مائة وستين صفحة، والذي يقرؤها أو الذي يطالعها كأنه قرأ كتاباً، لكن بماذا يخرج من هذا العدد الذي فيه مائة وستين صفحة؟! وهناك معدل الصور المتوسط للصفحة الواحدة خمس إلى ست صور في كل صفحة، وأيضاً هناك ستون صفحة إعلانات، وهذه الإعلانات أغلبها صور للنساء محرمة، لأن فيها فتنة وكشف للعورات وغير ذلك.
وأيضاً تجد فيها اثنتى عشرة صفحة خاصة بالأزياء، وفيها معدل خمس إلى ست صور في كل صفحة.
وأيضاً فيها الألعاب والتسالي المتقاطعة بمقدار صفحتين، وبالجملة تجد أن عدد الصفحات الموجودة التي فيها كتابة تقل عن عدد صفحات المجلة التي ليس فيها كتابة! ثم انظر إلى هذه الكتابة؛ ستجد أيضاً أن هذه الكتابة فيها من السخافة الشيء العجيب! وكأننا نتدرج من عدد هذه المجلات، ثم من تخصصها في مجالات ليست مهمة، ثم في مضمونها الفارغ، ثم في فراغ المضمون الذي يعتبر مضموناً مكتوباً.
وهذا يتضح في المجلات الأخرى، نذكر أيضاً منها: مجلة (زهرة الخليج)، فيها مائة وعشر صفحات، منها أربعة وأربعون صفحة إعلانات، ومعدل الصور في الصفحة الواحدة من ثلاث إلى أربع صور، وفيها صفحتان أيضاً للرشاقة والأزياء، وصفحة للتسالي، وصفحتان هنا وهناك متعلقة فقط بالصور، وصفحتان صور لأخبار الذين تزوجوا، والذين احتفلوا، والذين عملوا دعوة عشاء، والذين كان عندهم عيد ميلاد، وكل من هب ودب! وتجد هذه الإحصائية متقاربة في بعض المجلات الأخرى، فمجلة فيها ثمان وتسعون صفحة تجد أيضاً فيها نسبة عالية من صفحات الإعلان، وفيها معدل ثنتان إلى ثلاث صور في الصفحة، وأربع صفحات من صفحات الأزياء، وكذلك فيها عدة صفحات منوعات، وخمس صفحات في كل عدد تحت عنوان (أخبار ناعمة) وفيها صور لملكات الجمال وصور نساء إلى آخره! وكذلك الإحصائية تشمل عدداً لا بأس به من المجلات الأخرى مثل: نورا، وألوان، والصياد، والشراع، وصباح الخير، وفرح، وأسماء ربما لم يسمع بها كثيرون من قبل، ولعلهم من الأفضل لهم أنهم لم يسمعوا بها؛ لأنها إن لم تكن ضارة فقطعاً لن تكون نافعة؛ لأن هذه أحياناً تُسمى عند بعض الناس من الثقافة، وحقيقتها أنها من السخافة.(65/4)
تهميش العقول والأفكار هدف رئيسي للمجلات الهابطة
وهذا هو المعنى الأول الذي نحب الوقوف عنده، وهو: أن الصورة الأساسية في هذه القضية هي تهميش العقل وتسطيح الفكر؛ ولذلك أيضاً مضمون يساعد على هذا سيأتي تفصيله.
وهذه المجلات الذين يدمنون عليها تهدف في مجملها إلى أن يكون القارئ لها المتعلق بها تشغله توافه الأمور، بل حتى فوق أنها تشغله بتوافه الأمور هي أيضاً تشكل لديه عقلية حالمة ليست عقلية عملية؛ لأنها كلها في مسائل الحب، وفي الاهتمام بشراء الكماليات، وكيف يختار الأشياء التي يشتريها، وكيف كذا! وبعض الأمور التي تؤيد هذا المعنى موجودة في مضمون هذه المجلات، وبهذا تصبح القضايا الهامشية هي الأساس.
ولذلك أيضاً في هذا المعنى أؤكد من خلال المضامين وأضرب أمثلة ربما أعتبرها أمثلة صارخة وقوية: في بعض الأعداد من مجلة (كل الناس) في العدد السنوي لها يأتي بدراسة خاصة بها يبلغ العدد مائتين وعشر صفحات، كلها من الأوراق الفاخرة الناعمة الصغيرة، وقيمتها خمسة عشر ريالاً، وقيمة المصحف هذا الذي يباع الآن خمسة عشر، وهذه المجلة قيمتها خمسة عشر ريال، ومع ذلك يشتريها بعض الناس كل شهر! وأضرب أمثلة للقضايا التي تطرح في هذا العدد؛ حيث شملت أكثر من حوالي أربعين صفحة لمضمون واحد وهو: مسألة شراء الأزياء والعطور ونحو ذلك، ومسألة الشراء جعلت في عدة تحقيقات في نفس هذا العدد في سبع صفحات تحت عنوان (الشراء من أول نظرة) كما يقولون: (الحب من أول نظرة) كذلك: الشراء من أول نظرة، فهل تشتري من أول نظرة أم أن المطلوب أن تعرف آراء الناس، ويحصل تحقيق صحفي، ويكون هناك مندوب في لندن يجري مقابلة، ومندوب في جدة يُجري مقابلات أخرى، ويذهبون إلى محلات الأزياء وما إلى ذلك؟!! ثم صفحتان (لماذا نشتري؟) يعني: ما هو دافع الشراء: هل هو حب الاقتناء؟ هل هو المنافسة للآخرين؟ هل هو الاحتياج؟ وبهذا تبلغ الصفحات تسعاً.
ثم أربع صفحات في: الإعلان هل يؤثر على الشراء وعلى المشتري أم لا؟ وصارت الصفحات ثلاث عشرة صفحة.
ثم تحت عنوان (كيف يفكر أكثر الناس في الشراء؟) أي: الذين هم في سن الشباب كيف يفكرون في الشراء؟ وهذا العنوان في ثلاث صفحات، فصارت ست عشرة صفحة.
وبعد ذلك تحت عنوان (أنا اشتريت) ثلاث صفحات، فأصبحت تسع عشرة صفحة.
ثم عنوان: (الإنسان والماركات)، وهل يشتري الماركة أو يشتري البضاعة؟ وهل يبحث عن الاسم؟ وما تأثير ذلك أيضاً؟ وهذا في ست صفحات، فصارت الصفحات خمساً وعشرين صفحة.
وبعد ذلك تحت عنوان: الفصال في المحلات، وكيف يفاصل الإنسان؟ وهل يفاصل النساء أكثر مفاصلة عن الرجال؟ وكيف رأي أصحاب المحلات في المفاصلة؟ وكيف يصنعون؟ وأيضاً هذه في ثلاث صفحات مع خمس وعشرين صارت ثماني وعشرين صفحة.
ثم: مستهلكون سوبر، يعني: الذين عندهم قوة شرائية من الأثرياء، وكيف يشترون؟ وكيف يدفعون هذه الأموال؟ وهذا في صفحتين، فصارت ثلاثين صفحة عن قضية الشراء! وأنا أتصور أن الإنسان يمكن أن يولد وأن يموت وهو لا يحتاج إلى هذا الموضوع قطعاً؛ فيشتري ما يحتاج، والقضية تنتهي، لكن انظر كيف تكون هذه القضية محوراً تحتوي ثلاثين صفحة كاملة في هذا الموضوع.
وهكذا فيها من الصفحات الإعلانية ما يصل إلى هذا العدد، وبهذا يصل العدد إلى نحو ستين صفحة، بما فيه من الإعلانات، وما يلحق بذلك.
فما هي هذه القضية الخطيرة في حياة الناس والتي يتوقف عليها مصيرهم والتي قد تكون بالنسبة لهم قاصمة الظهر أو التي هي نقطة تحول في الحياة؟
الجواب
هي لا شيء، لكنه نوع من إغراق الناس بالتوافه وشغلهم بالسخافات؛ حتى لا يبقى عند الناس قضايا مهمة يفكرون فيها، ولو تأمل الإنسان -لا نريد أيضاً أن نقول: القضايا الإسلامية -بل حتى القضايا التي يعيشها الناس، ألا يعيش الناس في كثير من البلاد العربية والإسلامية وهم ممحونون في المسائل الاقتصادية وممحونون في مسائل الحرية ومسائل الوظائف ومسائل البطالة؟! كل هذه القضايا تنتهي وتتلاشى لتبقى قضية الشراء ومن يشتري! فهل عند هؤلاء الناس أموال حتى يشتروا أو لا؟! وهل عندهم وقت وقد طحنتهم الحياة وسحقوا في كثير من الأوضاع وكثير من البلاد حتى يفكروا بالماركات وأنواع الماركات وكذا؟! لكن هي القضية التي يُراد لها أن تصرف أنظار الناس عن المشكلات الحقيقية في حياتهم.
وأضرب أمثلة سريعة: في بعض هذه المجلات مقال في صفحتين: كيف تصعد المرأة الدرج؟! وكيف تضع طرف الأصابع أو آخر الأصابع؟! وكيف إذا كانت حافية؟! وكيف إذا كانت تلبس حذاءً؟! وإذا كان نوع الحذاء كذا فكيف يكون الصعود مع الخطوات بالترقيم: واحد اثنين ثلاثة إلى آخره؟!! وهذه مجلة أخرى تكتب عن مشكلة مع صورة وتعليق أيضاً: مشكلة ربط الحذاء بالنسبة للأطفال! وكيف تواجه الأم مشكلة ربط الحذاء بالنسبة للطفل؟! وكيف أن بعض الأمهات تتخلى عن ذلك وتشتري حذاءً من غير رباط؟! ومتى يمكن أن يدرك الطفل أو يعرف كيف يربط الحذاء؟ المهم إيجاد شيء وهمي لشغل الناس بهذه السخافات.
وهكذا الكلمات المكتوبة في سؤال من الأسئلة، وكثير من المجلات تجعل صفحتين أو أكثر في السؤال والجواب السريع هذا، مجلات اسمها ويسأل فيها: (فرفوش) وآخر (خربوش) وثالث (العجوز الضاحك)، ومن الأسئلة أنه يقول له: كيف تقضي وقتك؟ فيقول: ربع الوقت أتسكع في الشوارع.
وهناك أيضاً نوع من صرف الناس، فهذه مجلة تنشر عن أبي الهول وعن مشكلة أبي الهول، وما حصل له من التصدع، وتاريخ أبي الهول، وأنه شاهد على الحضارات، وكذا، وبلد مثل مصر كثير من الناس لا يجدون قوت يومهم، ولكن القضية هي أنه يُراد أن يشغل الناس عما هو مهم، فدمروا أبا الهول، ويرتاح الناس، وما أحد خسر شيئاً.
وهكذا القضايا الهامشية التي تثار عن شخصيات كافرة وفارغة، مثلاً: طلاق الأميرة سارة أو كذا، وصفحات عن تاريخ: متى تمت الخطبة؟ ومتى تم العقد؟ ومتى تم الزواج؟ ومتى أول ولد؟ ومتى سافر؟ ومتى جاء؟ وتحقيق كامل عن هذه القضية وآثارها وأصدائها، وما الذي ينفع الناس من مثل هذا الأمر؟ ولكن تجد بعض الناس -للأسف- يدخلون في مثل هذه القضايا.
وهكذا قضايا أخرى مثل قضية ما يسمونه فستان الزواج، وهل تشتريه المرأة؟ وإذا كانت غير قادرة على الشراء فهل تستأجر؟! والآراء في ذلك؛ فالتي ترى أنها لا تستأجر، والتي ترى أن الاستئجار يضيع تخليد هذه الذكرى، وما إلى ذلك من هذه الأمور! وهكذا القضايا والأرقام التي يقولونها: فلان ضرب الرقم القياسي في السباحة، وأطول سندويش، وأكثر لا أعرف ماذا؟! وهذه القضايا كلها تدلنا على هذه النقطة الأولى، ولعلي قد أطلت فيها، لكنها هي جوهر الموضوع، وهي أن هذه المضامين بما فيها من المكتوبات ومن المصورات والموضوعات التي تخصصت فيها إنما غرضها أن تغتال العقل، وأن تميت القلب في حقيقة الأمر؛ وحتى لا يتأمل الإنسان سيرة السابقين وسيرة السلف الصالح، وحتى سير الناس الغربيين وهؤلاء الذين كانوا بالفعل خدموا وقدموا الاختراعات والذين قادوا المعارك والذين أسسوا دول رغم أنهم كانوا كافرين، لكن لماذا لا يذكر على أقل تقدير الجوانب الإيجابية في سيرهم؟ فلماذا فقط الجوانب السخيفة والتافهة هي التي يُراد أن تنقل بين الناس وتشاع بينهم؟! أعتقد أنها قضية واضحة.(65/5)
هدف الأبواب المخصصة للمراسلات في كثير من المجلات
ومما نختم به هذه القضية: الأبواب المخصصة في كثير من المجلات للمراسلات والتعارف والهوايات.
تجد أنه من خلالها تتضح قضيتان: الأولى: أن لهذه المجلات جمهوراً عريضاً؛ ولذلك في كل عدد تجد خمسين أو ستين أو سبعين من هؤلاء الذين يرسلون أسماءهم وعناوينهم وصورهم.
إذاً: هم يشترون هذه المجلة، ويطالعون ما فيها، إضافة إلى صفحات البريد، وترى منهم من يقول: أنا معجب بهذه المجلة، وأنا كذا.
ويدور على أثر هذا التسطيح أغلب هذه الأشياء؛ إذ أغلب ما في هذه الأبواب هوايات! وكل هذه الأبواب فيها نسبة (99.
9%) من يعرضون أسماءهم وصورهم، وهم في سن الشباب؛ إذ تتراوح أعمارهم ما بين (18) أو (35) سنة، وهذا هو السن الذي فيه فورة الشباب والقدرة على العطاء، ويا ترى ما هي هذه الهوايات؟ هذه الهوايات هي: المراسلة بين الجنسين، وتبادل الطوابع، وتبادل الصور، وتبادل الآراء، و (99.
9%) هي في المراسلة، فإذا كانت هذه هوايات الشباب التي يبدعون فيها ويتخصصون فيها، فكيف يرجى أن يكون هناك قوة يعتمد عليها في شباب الأمة؟! فالذين هم الآن في دراسة ضيعوا دراستهم، وإذا كانوا في أعمال كانوا على غير الصورة التي ينبغي أن تكون، وهذا كله يدلنا على الجانب الأول الذي ذكرناه في مثل هذه المجلات.(65/6)
ترويج المجلات الهابطة للقدوات السيئة
الجانب الثاني -وهو أيضاً جانب خطير-: جانب القدوات.
لاشك أن الإنسان بفطرته ومدنيته يميل إلى الآخرين، كما يقول ابن خلدون: الإنسان مدني الطبع.
يعني: يعيش في مجتمعات مدنية، وغالباً ما يحتاج الناس إلى صور وإلى قدوات ينظرون إليهم، ويكونون موضع الاحترام أو موضع التقدير، وهم موضع التلقي، وهذا شيء فطري في المجتمعات: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وهذا البيت جمع بين صورتين: (لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم)، و (ولا سراة إذا جهالهم سادوا)، وهذه هي الصورة الثانية التي تحققها كثير من هذه المجلات.
فمن هي القدوات في مثل هذه المجلات؟ إنهم بلا استثناء الفنانون والفنانات، والرياضيون والرياضيات، وأقصد بالفن: أي شيء يُسمى فناً، كالذي يشخص بالأقلام، ويلعب بالألوان، ويعتبر فناناً وعنده تشكيل، وتُجرى معه مقالات إلى آخره! فالذي يضرب نحتاً في صخر ويعطينا شكلاً ليس له أول ولا آخر يُعد فناناً، ويحتاج إلى مقابلة وإلى إبراز المعاناة والجهد الذي بذله، والخدمة التي قدمها، والتاريخ الذي سطره، والجهود التي دخل بها التاريخ إلى آخر ذلك! وتجد أن هذه المجلات تكرس هذا الجانب أحياناً تكريساً عجيباً، مع أنه ليس قضية اجتماعية، ولا قضية في حياة الناس، بل يعتبر قضية تدميرية.
وأيضاً فيها كثير من التجاوزات الشرعية والمخالفات العقدية، وهذا أمر واضح، فمثلاً: تجد مجلة مثل (حريتي) تنشر صفحات عن عبد الوهاب الفنان الراحل في ذكرى الأربعين، يعني: بعد موته بأربعين سنة، وفي كل سنة تأتي ذكراه لابد أن تفرد الصفحات الطويلة عما كان يأكل؛ ومن الحلاق الذي كان يحلق له؟ ومقابلة معه، وكيف كان يحب أن يسافر؟ هل في الطائرة أم في البر؟ وكيف سافر مرة بالطائرة ثم زال الخوف منه؟ وما هي آراؤه في الحياة؟ إلى آخره.
ثم تجد أيضاً صوراً بشعة وللأسف أنها تُكتب كما هي، على اعتبار أن هذا فنان، فتجد عدة صفحات في (النهضة) عن رشدي أباظة زعيم أو سيد السينما أو كذا، ومذكور في ضمنها: قصة زواجه ست زوجات؛ تزوج أولاً بمغنية فرنسية تعرف عليها في إحدى الزيارات في ملهى من الملاهي أو كذا، وبعد شهور طلقها، ثم تزوج ممثلة مصرية، وما أتم معها سنة حتى طلقها، ثم تزوج مضيفة أمريكية تعرف عليها في الطيارة، وأيضاً بعد فترة قصيرة طلقها، ثم تزوج راقصة أيضاً، وبعد عدة سنوات طلقها طلقة أولى، ثم عادت، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم بعد ذلك تزوج الممثلة الشهيرة صباح، وكان الزواج مدته ثلاثة أيام.
وبعد ذلك حينما كان مريضاً وعلى وشك الموت أراد السفر للعلاج فتزوج ابنة عمه؛ حتى تكون فقط مرافقة له، وبعد أن رجع إلى بلده طلقها، فهل يُعرض هذا ليكون نموذجاً للناس؟ أم لنقده؟ أم لأي شيء يُعرض؟ وهذه المعلومات معروضة ضمن ما قدم، وضمن جهوده المباركة، وجهاده ونضاله في الفن! وهذه الصورة في الحقيقة نلحظ أنها تكرس أو تعود الناس على مثل هذه الأمور، وهذه صورة سيئة وقبيحة، لكن من خلال العرض المتكرر ومن شخصيات متكررة يُراد للناس أن يألفوا هذه الأمور، وأن يعتبروها قضايا عادية، بل هي نوع من التحرر والانطلاق من القيود والاستمتاع بالدنيا، ونحو ذلك! وتجد في المقابلات مقابلة مع ممثلة: من هي قدوتكم في الحياة؟ أو من هي كذا؟ فتقول: فلانة الفلانية سيدة الشاشة العربية، هي التي تأثرت بها، وأتمنى لو استطعت إلى آخره! ثم تجد أيضاً الثناء والتركيز على الشخصيات التي ليس لها دور في المجتمع إلا أن تسلب قوت الناس المغفلين إذا صح التعبير، ثم بعد ذلك تمارس أعمالاً ضد هؤلاء، فتأخذ فلوسهم، ثم أيضاً تحاربهم في إيمانهم وفي شخصياتهم وفي معتقداتهم إلى آخر ذلك.
وتجد مثلاً مجلة مثل (صباح الخير) تنشر عن عارضة أزياء مصرية أنها فازت بجائزة سباق في حفل لعرض الأزياء، وأخذت الجائزة الأولى على أربعة وأربعين دولة، وأنها تعتبر سفيرة مصر في صناعة الأزياء، وأنها استطاعت أن تثبت كذا، وأنه ذهب الزمن الذي كنا فيه دائماً في المتأخرين، وأصبحنا الآن ننافس على المراتب العالية! وما سمعنا أن هناك من نافس وأخذ الأول في الصناعة أو الأول في الزراعة أو الأول فيما ينبغي أن يكون في مثل هذه البلاد المترامية الأطراف التي فيها أعداد غفيرة من الناس.
وهكذا تجد أن من خلال هذه القدوات تُوضع بعض المعاني التي فيها مخالفات شرعية، ففي مقابلة مع إحدى الفنانات سُئلت: لو عُرض عليك أن تشاركي في تمثيل فلم عن المحجبات؟ فقالت في الإجابة: لا بأس؛ كل شيء قابل للجدل وللأخذ والرد، وليست هناك مشكلة في المشاركة؛ لأن هذه القضايا تختلف حولها الآراء! وكأنه ليس فيها حكم في الشرع، وأن هذه الأمور شخصية، وأنه لا بأس ما دام هذه ظاهرة من الظواهر يمكن أن تناقش.
وسُئلت: كيف تقضي أوقات الفراغ؟ فقالت هذه الفنانة: إنها تذهب إلى البحر تستمتع وتقرأ وتتابع الحركة الفنية من خلال الفيديو! إذاً: نريد لأمهات المستقبل أن يكن على هذه الشاكلة أو على هذه الصورة! فهذه ناحية مهمة، وهي قضية التركيز على القدوات السيئة وإبرازها على أنها هي محطة الآمال ومهوى الأفئدة، وهي التي تحلم بها النساء والبنات في خدورهن، ويحلم بها الشباب الصاعد وجيل المستقبل، فكلهم يحلم في أن يكون -كما يقولون- يرى أن المجد ركلة قدم أو جرة قلم أو رنة نغم، فهذه الثلاث هي التي يُراد أن تكون فقط هي الآمال وهي الطموحات، ونحوها تتوجه الجهود، وهذا طبعاً لاشك أنه جريمة كبرى في حق المجتمع، وهذا في نفس الوقت بلاء، ويتحقق به كثير من المفاسد.(65/7)
هدف المجلات الهابطة من إثارة قضية المرأة
القضية الثالثة -وإن كانت بعض القضايا متداخلة لكن نريد تفصيلها لأهميتها: قضية المرأة.
وإن كنا نقول: إن معظم ما سبق من الحديث وما سيأتي وأنواع هذه المجلات إنما يستهدف المرأة أساساً أو يستخدم المرأة، يعني: هو يستهدف المرأة؛ لأن استهدافها وفتنتها وفسادها يترتب عليه شر كبير.
ونحن نعلم أن كثيراً من المجلات يعتمد ترويجها على الصور التي تشكل نسبة كبيرة من صفحات هذه المجلات من صورة الغلاف التي يذهب أصحاب هذه المجلات أو الموزعون لها، ويحرصون على أن تكون الصورة لأجمل الفتيات، بل يسافرون لأجلها إلى عواصم أوروبا وأمريكا وإلى بلاد عربية وشرقية؛ ليأتوا بالصورة المناسبة، وبالتركيز المناسب، وبالأوضاع السيئة التي هي لهم مناسبة، ويستخدمون في ذلك شتى الوسائل.
وهذه القضية بالنسبة للمرأة تعتمد على ثلاثة أشياء: أولاً: حرق الحجاب وإبطاله في الواقع مباشرة، ولذا فإن الصور كلها بدون الحجاب، بل فيها عري، وفيها تهتك، وفيها إغراء.
وأيضاً إبداء قضية الحجاب من خلال الحوارات أنها قضية ليست لها صلة بدين، وأنه ينبغي أن تكون قضية مفروغاً منها.
ثانياً: قضية الاختلاط، وأيضاً تكريس المقالات والآراء والصور وكل خدمة في هذه المجالات لتكريس هذه النقطة.
ثالثاً: قضية المساواة والمزاحمة في العمل، وإبراز عمل المرأة، وأن أول امرأة تقود الطيارة هي فلانة، أول امرأة في بلد كذا تدخل قسم الشرطة، وأول امرأة كسرت حاجز الخوف ودخلت الدفاع المدني.
ويُكرس هذا الجانب بشكل ملفت للنظر ليؤثر في نفوس النساء وخاصة المراهقات، ويبقى التعلق بمثل هذه الصور والحرص عليها مع الفتن الأخرى التي تبثها الشاشات الفضائية، وتلتقطها الأقمار الصناعية، فتتكامل الصورة وإذا بنا في موجة تتوجه فيها النساء وتتوجه فيها المرأة إلى كل ما فيه هتك للحياة، وكل ما فيه فتنة وتعطيل لها عن مهمتها.
ومن هنا تظهر الجريمة، وتتكاثر، ويشكو الناس، والحقيقة أنهم لا يبحثون عن الأسباب، وسنعرض لبعض هذه الوقائع أيضاً من الجرائم.
وأذكر أمثلة أيضا لقضية المرأة في الصحافة: تجد تعليقاً يقول: المرأة روح السوق؛ إنها تضفي البهجة بألوان ملابسها الزاهية وشطارتها في الفصال والبيع والشراء، يعني: هي لابد أن تكون جسداً بلا روح لا قيمة له، والسوق بلا مرأة لا قيمة له، وهذا هو المعنى الحقيقي المتجسد في الواقع من خلال هذه الإثارة؛ إذ يريدون أن تكون المرأة في السوق؛ لتكون متبرجة؛ ولتكون مختلطة؛ ولتكون بعد ذلك أقرب إلى الوقوع في الفواحش وفي الجرائم، بل وقوع الجريمة عليها حينئذٍ أيسر وأسهل؛ لأنها خرجت وتجاوزت حدود الشرع والحصون المنيعة التي أحاطها بها هذا الدين وحماها بها، وكل ذلك يحصن من هذه المعاني التي تُزف وتُوضع -كما يقولون- مثل السم في الجسد.
وأيضاً تجد تعليقات على بعض القضايا المهمة في حياة المرأة، مثل: الزواج المبكر؛ فتُشن حرب شعواء على الزواج المبكر، وأنه لابد أولاً أن تنتهي من الدراسة، وأن تأخذ الشهادة، بل أن تأخذ الشهادات العليا؛ لأن الزمان غدار؛ ولأنها لا تأمن الأزواج؛ لأن الرجال ليس لهم أمان؛ ولأن الشهادة أمان من الفقر، وسلاح في مواجهة الحياة، وتُكرس هذه المعاني، حتى يتأخر سن الزواج عند النساء الذي هو في الأصل ينبغي أن يكون متقدماً.
يقول الشافعي رحمه الله: رأيت جدة في اليمن لها إحدى وعشرون سنة.
وهذا كما يقول الفقهاء: إن أقل سن تحيض فيه المرأة وتبلغ هو تسع سنوات؛ فهذه تزوجت وهي بنت تسع، ثم أنجبت وكان عمرها عشر سنوات، وابنتها بعد تسع سنوات تزوجت، فصارت بعد سنة قد أنجبت، فصار عمر الأولى إحدى وعشرين سنة، وهي جدة، وأما الآن فعمر الواحدة إحدى وعشرون سنة وهي عانس لم تصبح زوجة حتى تصبح أماً فضلاً عن أن تكون جدة! وأيضاً ارتفع مستوى الأعمار؛ ففي كثير من البلاد العربية والإسلامية معدل الزواج بالنسبة للرجال من خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين، وبالنسبة للنساء -على تفاوت في بعض البيئات- من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين وإلى أربعين! ونحن نعلم أن الأربعين -كما يقولون- سن اليأس، وكثير من هؤلاء النساء لا يحببن أن يقعن في هذه القضايا بمثل هذه الصورة التي تُكرس في المجتمع.
ويتحدثن بأحاديث لا يقبلها العقل، وهن أنفسهن أول من يعلم أنها أحاديث كاذبة، ومن هذه الأحاديث: أنها تجد متعتها في العمل وفي الكفاح، وأن الزواج أمر عارض، وأن المرأة شخصيتها في ثقافتها وعلمها وكذا، لكن في حقيقة الأمر تظهر الاعترافات، كما ظهرت على صور شتىً، منها: ما نشر في اليمن قبل فترة لا بأس بها: قصة الطبيبة التي قالت: خذوا كل شهاداتي وكل مؤهلاتي وأعطوني طفلاً واحداً! فهذه سنة الحياة، وغير ذلك مغالطة.
وبعض المقالات تقول: الزواج المبكر في كثير من الأحيان يعني: الطلاق المبكر.
إذاً: معنى ذلك التنفير من مثل هذا الأمر.
وفي هذه المجلات أيضاً كلام على بعض قصص الأفلام وما يُعرض فيها، حتى تكون قضية المرأة قضية انحلال، ومن ذلك ما نشرت مجلة (صباح الخير) عن فلم اسمه (الجسد) يركز على أن المرأة في كل أحوالها ليست عقلاً، وليست ثقافة، إنما هي جسد للمتعة فقط! ويستطرد الكاتب في تفاصيل نفس الفلم، لكنه في نفس الوقت يروج لمثل هذه الأمور.
ومن أهم القضايا التي تُكرس في قضية المرأة: الحوارات والمقابلات وقضية المشكلات، وأغلب المجلات عندها عناوين: مشكلات، مشكلة وحل، الحل والمشكلة، وما إلى ذلك.
وطبعاً المشكلة هي في الحب والغرام! والحل غالباً ما يكون متلبساً بالطيش والحرام! ومن ذلك أنك تجد من تكتب وتقول: تعرفت وأنا عمري ثماني عشرة سنة على شاب أثناء رحلة إلى الخارج تقوم بها المدرسة للمتفوقين من الطلبة وتسرد القصة، والغرض هو أن الذي يقرأ القصة أو التي تقرأ القصة تعتبر أن هذه الأمور أصبحت قضية لا حرج فيها.
فكونها تعرفت على إنسان معناه: أنها سافرت من غير محرم، واختلطت بالرجال، وكأنه ليس هناك إشكال، ثم تذكر بعد ذلك كيف أصيبت، وأدخلت المستشفى، وكان هذا الشاب يزورها، ثم الخطابات التي كانت بينهم! وهي قد تكون قصة حقيقية، وقد تكون غير حقيقية، لكن يُراد من خلالها أن يتسرب الفساد؛ مثلما يكون الإنسان في غرفة فيها بعض الغبار أو الغازات، ثم يمشي في الغاز شيئاً فشيئاً حتى يُخدر وهو لا يشعر، وهذا هو المقصود من مثل هذه القضية.
وأيضاً تجد التكريس على التحرر من العادات والتقاليد، وأن المرأة لا بد أن تتحرر من عادات وتقاليد، ولا يقولون: إنهم يدعون إلى مخالفة دين، فتجد فتاة تقول: حقيقة أنني لم أعد أرى تلك المراهقة التي تتعلق بذراع هذا الشاب كما كنت في السابق، وذلك حينما خرجت عن كل التقاليد التي ألفتها في الوطن! وهذه كلها تُكرس في مثل هذه القضايا.
وطبعاً تكاد تكون معظم هذه المجلات التي تتعلق بالفن وبالمرأة تدخل في هذا الجانب.(65/8)
ترويج المجلات الهابطة لنشر الفاحشة والجريمة
القضية الرابعة: الجريمة.
تعرض كثير من المجلات دائماً جريمة سواء جريمة واقعية من القضاء أو غيره، أو خيالية، وهذا العرض في حد ذاته هو نوع من التعليم والإغراء؛ لأنه يقص الجريمة، وكيف كانت خفية، وكيف عملت، والخطوات، وكذا، ثم أيضاً من خلالها يتعلق الناس بحب الفاحشة والجريمة؛ والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فالمعنى في هذه الآية: أن مجرد إشاعة الفاحشة أو قول: إنه حصل كذا وكذا، هذا في حد ذاته يكسر الحاجز في نفوس الناس؛ فلا يهابون مثل هذه الأمور، ولا يعتبرونها خطراً ولا خجلاً، وبالتالي يتعودون عليها شيئاً فشيئاً.
وهذا هو الذي يحصل؛ فإذا كثر ذكر الجريمة في المجتمع تأتي تقول لإنسان: حصل كذا وكذا، فيقول لك: هذا أضعاف أضعافه يحصل، وهذه بسيطة! وكلما كثر تناول هذه القضايا يجعل إحساس الناس يتبلد نحوها، وبالتالي تعظم جرأتهم فيها.
وأذكر أمثلة لذلك: هذه مجلة (حريتي) تعرض مسألة خطيرة، وهي للأسف أيضاً ظاهرة بدأت منذ فترة في مجتمعاتنا، وأرى أنها الآن تستشري، وهي: مسألة انتشار أشرطة الفيديو الجنسية.
وكتبت تحقيقاً عن هذه القضية، وكيف يتم تداولها؟ وكيف كذا؟ لكن الأسلوب كان تحت عنوان: الثقافة السوداء، وهذا هو المصطلح الذي يدور بين هؤلاء الشباب، فالشريط الذي يتداولونه يسمونه شريطاً ثقافياً، ويقول أحدهم للآخر: أنت اليوم مدعو لمشاهدة شريط ثقافي، وهذا مصطلح متداول بينهم لهذا النوع من الأشرطة، فيبين هذا المحقق أو الكاتب كيف يتقابلون؟ وكيف صورة اللقاء؟ وما هي الأسعار؟ حتى تسعيرة الفيلم تختلف؛ فإذا كان نوعه أمريكياً كان سعره كذا، والسعر يكون غالياً إذا كان إنتاجه محلياً إلى آخره!! وكل هذا نوع من التعذيب، وفي نفس الوقت نوع من الإغراء لهؤلاء الشباب الذين يطالعون مثل هذه التحقيقات، إضافة إلى الصور المرافقة لهذه التحقيقات، والحقيقة أن عرض هذه الجرائم إنما هو نوع من الإغراء بها، والتعليم عليها، وكذلك تجد هذه الصورة في كثير من العرض الصحفي أو عرض المجلات التي تعرض هذه القضايا.(65/9)
نظرة هذه المجلات الهابطة إلى الدين الإسلامي، ودورها في الدعوة إلى التحلل منه
النقطة الخامسة هي: قضية النظر إلى الدين الإسلامي وقضايا الإسلام من خلال هذه المجلات: نجد أن هناك كثيراً من المخالفات والتجاوزات الصارخة التي يبلغ بعضها حد الكفر عند من يعتقده، فتجد قضايا في جعل الدين قضية قابلة للنقاش وللأخذ والرد، ولكل فيها قوله! يعني: كما أننا نختلف على الطعام والشراب أيهما أحب كذلك يجعلون قضية الدين قضية نسبية لك الخيار في أن تأخذها أو لا تأخذها، ويجعلون الدين عبارة عن رأي وفكرة قابلة للنقاش والجدل.
ومن ذلك بعض المقالات ترى أن هناك نسبية في كل قضية، وأن كل قضية لها وجهان مهما كانت هذه القضية، حتى لو كانت ديناً وإسلاماً وحكماً شرعياً! وحتى ننظر كيف تهمش قضية الدين والإسلام نشر تحقيق عن قضية من أخطر القضايا التي يُكرس فيها كل البلاء الذي ذكرت فيما مضى من الجريمة والمرأة ونحو ذلك، وهي قضية: استفتاء ومقابلات وتحقيق حول موقف الأسرة عندما تأتي البنت بصديقها إلى البيت، وموقف الأسرة عند يأتي الابن بصديقته إلى البيت! وطبعاً كأن قضية الصداقة الآن أصبحت حقيقة مسلمة، وكونه له صديقة أو ليست له صديقة ليس محل نظر حلال ولا حرام، لكن النظر هو هل يأتي بها إلى بيته أو لا يأتي بها! فماذا تجد الإجابات؟! بعض الأمهات، تقول: نعم أستقبله في البيت، ولا أرى في ذلك مانعاً؛ وهذا من الأفضل، حتى أكون قريبة، ولكن إذا كانت المشاعر ستتجاوز حد الزمالة فأوجه ابنتي إلى ما فيه صالحها! وكأنه ليس هناك قرآن ولا سنة ولا حديث للنبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، (وما تركت بعدي فتنة أضر على النساء من الرجال).
هذه كل الحقائق التي يشهد بها الواقع، والتي تشهد بها الجرائم والوقائع التي تتكرر، ويأتي أيضاً أب يتفلسف في الإجابة فيقول: أنا أسمح لابنتي أن تحضر زملاءها وليس أصدقاءها! يعني: أنه فرق بين الزملاء والأصدقاء.
وطبعاً لك أن تجتهد وتفكر ويمكن أن تجمع مجمعاً حتى يعطوك الفرق بين الزملاء والأصدقاء! ثم أيضاً يقول: لا بأس أن يكون ذلك؛ حتى أكون على علم، ويعتمد على الصديق من هو، إذا كانت عائلته محترمة، وكما يقولون: عائلة متأدبة ومتدينة كما يحلو لهم أن يقولوا إلى آخره! وهناك أيضاً ثالث يقول: أسمح لابنتي أن تختلط بالشباب، وتذهب إلى الجامعة، وليس هناك عيب في ذلك، لكن لا أحب أن تستقبل الضيوف في بيتي! ورابع يقول: هذا أمر طبيعي! وأُجريت أيضاً الأسئلة على نفس الشباب والشابات.
فأحدهم يقول: زيارة صديقتي لي في المنزل وذهابي إليها أمر طبيعي للغاية، وليست هناك أية مشكلة، وليست هناك أية قضية! وآخر يقول: أستقبل صديقاتي في البيت بطريقة عادية؛ لأنني متعود على ذلك؛ فقد درست في مدرسة أجنبية فيها اختلاط منذ صغري، فالمسألة ما فيها شيء! ثم آخر المقال هو الذي يدلنا على أنه يُراد ألا يكون هناك شيء متعلق بالذكر في مثل هذه الأمور، يقول الكاتب أو المحقق: بعد أن أخذنا آراء الآباء والأمهات والأبناء والبنات فهل بقي في الموضوع كلمات تقال؟! وكأنه يقول: هل هناك شرع؟ وهل هناك دين؟ وهل هناك آيات أو أحاديث؟! هذا كأنه شيء ليس له موقع من الإعراب، وهذه مقاصد مرادة؛ إذ لا يعتبر أنه مجرد كلمات هكذا، وإنما هناك مغزىً مقصود هو: أن هذه الأمور خاضعة للعادات ولقبول الناس، وليس هناك شيء اسمه حكم أو شرع أو دين! وتأتي أيضاً مجلة (صباح الخير) وتنشر عن كتاب تدعي أن صاحبه يقول: إن الحجاب - بمعنى منع الاختلاط بين الرجال والنساء- إنما كان حكماً خاصاً لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم! يعني: لا يكتفون بتهميش أو بعدم ذكر حكم الشرع، بل يقومون بالتزوير وتدليس وتغيير الأحكام الشرعية وإبداء هذه الصورة.(65/10)
حرص كثير من المجلات الهابطة على جعل الأمور المحرمة في الدين غير ذات أهمية
وهناك أيضاً التلاعبات التي تريد أن تجعل الأمور المحرمة غير ذات حرج في الدين، ففي مقابلات عن الشخصيات يقابلون الشيخ سيد المكاوي المغني، ويسمونه شيخاً؛ لأنه يغني -كما يقولون- موالات دينية، أو يقرأ القرآن ويغني! فهو بذلك شيخ، وطبعاً يذكرون في المقابلة أنه يصوم ويصلي، وأنه كذا وكذا إلى آخره.
وهناك أيضاً تكريس المعاني في الطعن في الدين؛ فأحدهم يكتب مقالاً بعنوان: أرجوك لا تفهمني.
يقول: أنا أكتب وأنا صائم، وبالتالي أنا متعب وعقلي مشوش، والإنسان حينما يكون صائماً دائماً يكون غير قابل للتفكير، وغير قابل لكذا ويكتب مقالاً بالفعل سخيفاً من أوله إلى آخره، ويقول في آخر الأمر: إذا لم تفهمني فأرجوك ألا تسألني؛ لأني أنا لم أفهم ما كتبت، وإذا أردت أن أشرح لك فسأزيدك غموضاً إلى غموض! والغرض هو: أن القضية متعلقة بالصوم، وإبداء الصوم في صورة مشوهة، حتى إن هناك (كاريكاتير) منشور في إحدى المجلات يقول: كل شيء في رمضان زين، المسلسلات والتمثيليات وغيرها إلا الصيام فقط وحده هو الذي كان فيه تعب! وهذه الصور يُراد منها الطعن في الدين والاستهزاء والسخرية بالأحكام الشرعية، ومعتقد هذا يكفر؛ لأن اعتقاد هذه القضايا فيها كفر.
وأحدهم في (أكتوبر) وهو من أكثر الناس الذين يكتبون مقالات سيئة الدكتور عبد العظيم رمضان، كان يكتب مقالاً في شهر رمضان عن المسلسلات والتمثيليات التي أتحف التلفزيون بها الجمهور، والتي أنعشهم بها، وسلى بها صيامهم، ثم يقول: وبعض الناس من المتشددين يظنون أن مثل هذا يجرح الصوم، وهؤلاء ما فهموا حكمة الصوم؛ لأن من الصعب أن الإنسان يتخلى عن المتع؛ ولذلك جُعل الصوم فيما بين المغرب والعشاء، والحكمة من الصوم فقط التدرب على بعض هذه الأمور والمتع لوقت بسيط.
يقول: ولذلك لم يمنعنا الشرع أن نكثر من الطعام بعد الصيام؛ فإنه ليس هناك غاية بأن الإنسان مع الصيام يقلل الطعام، وإذا كان ليس هناك أمر بتقليل الطعام فليزد الإنسان من كل شيء بجانب الطعام.
وهكذا تجد أيضاً قضية التعدد تُثار في هذه المجلات بسخرية، وكأنه ليس فيها دين ولا حكم ولا شرع، فتجد مجلة مثل (كل الناس) تنشر في مقدمة افتتاحية مقال عام: التعدد، وتذكر أن جمعية نشأت في الكويت بعد أحداث الخليج من النساء وبعض الرجال، هذه الجمعية تدعو إلى التعدد، وتحاول أن تعرف أو تثقف النساء أو تبين للنساء أن التعدد فيه خير، وفيه أيضاً حلول للمشكلات، خاصة العوانس ومن توفي أزواجهن وكذا.
فهذه الكاتبة تسخر من هذه الجمعية وتقول ساخرة للمرأة: دللي زوجك، وتلطفي، وقولي له: لو سمحت اذهب وتزوج امرأة ثانية.
وهذا نوع من السخرية، ثم تقول: ولقد قبلت هؤلاء النساء هذا باستقبال حار وبإيجابية كبيرة.
والإيجابية الكبيرة اللائقة بهن هي من قبل النساء أنفسهن.
فكيف هذا الاستقبال؟ قالت: إذ ضُربن بالنعال وبالأحذية وشُتمن شتماً مقذعاً، يعني: أن هذا هو الاستقبال اللائق بهن في هذا الأمر.
ثم هناك بحث أو تحقيق طويل في نفس العدد عن هذه القضية، وفيه نصوص وكلام خطير، منه: أن واحدة توفي زوجها، وبينما هي مقيمة في العزاء جاءتها امرأة أخرى وقالت لها: إن زوجك هو زوجي، يعني: أنه تزوج عليها من غير أن تعرف الزوجة الأولى، وأن هذا عقد الزواج، وأن له مني ابنين، فتقول القصة أو الرواية أو التحقيق: إن الزوجة الأولى التي كانت حزينة ألغت الحزن، ولبست، وخرجت، وقالت: الحزن فيه خسارة! وهذا أيضاً تلاعب في الدين والأحكام الشرعية، وكثير من الأقوال تقول: إن له إما البقاء مع الزوجة الواحدة وإما الانفصال، أما أن يكون هذا الأمر فلا يمكن بحال من الأحوال.(65/11)
تعرض هذه المجلات للدعاة المسلمين والحركات الإسلامية
النقطة السادسة -وهي مهمة-: التعرض للحركات الإسلامية ودعاة المسلمين: وهذا عامل مشترك في المجلات التي لها طابع فكري وعقدي، فالمجلات السخيفة هذه التي تدعي الفن، هي أصلاً ليس عندها شيء حتى تناقش هذه القضايا المهمة، لكن تجد تلك المجلات الأخرى تركز على هذه الجوانب بشكل كبير جداً، فتجد بعض العناوين تؤكد هذا الجانب في (روز اليوسف) منها: إنهم يغتالون الديمقراطية في الجزائر، و (أكتوبر) تقول: ما من بلد من البلدان كان فيه بعض المظاهر الإسلامية والقوى للعمل الإسلامي إلا وصار بلداً متطرفاً أصولياً ومرت على بلاد الجزائر وعلى ديار الشام وعلى بلاد المغرب كلها، وما كفاها ذكر البلاد العربية حتى عرجت على باكستان، وأنها أيضا دولة صارت أصولية ومتطرفة إلى آخر مثل هذه الأقوال، وهذا طبعاً مجال واسع طويل، وفيه كلام كثير.(65/12)
ترويج هذه المجلات للعقائد المنحرفة
النقطة السابعة: الانحرافات العقدية: فهناك كلام متناقض، بل هو كلام كفري تجده في كثير من هذه الصحف، ومن ذلك مثلاً: الكلام عن أبي الهول، وأنه الإله الطيب سيد المبجلين ملك مصر العليا والسفلى ومنحوتب الثاني حبيب الإله، وحورام واهب الحياة، وهذه الكلمات منشورة في مثل هذه الصحف والمجلات.
وكذلك هناك ترويج لهذه الأشياء باسم التعريف؛ فمجلة (كل الناس) ليس فيها شيء من الثقافة إلا أنها تعرف بكتاب واحد، فاختارت كتاب (الفتوحات المكية) لـ ابن عربي، وهو كتاب كله كفريات، وفيه القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، وقد كفره به كثير من العلماء، بل أكثر العلماء، فعرضت المجلة هذا الكتاب على أنه من التراث.
وأيضاً قضايا الأبراج وادعاء الحظوظ، وتكتب لبعض المجلات سطوراً فتعرف لك حظك من خطك، اكتب لهم ثلاثة أو أربعة أسطر، وينشرون لك من خلال خطك أنك كذا، ويقع لك كذا، وتحصل لك مشكلات كذا، وأنت شخصيتك كذا، ونفسيتك كذا، وبعضها ترسل لها صورتك، فتقول لك: من العينين أنت إنسان متفائل، ومن وجهك أنت إنسان عندك ضيق في النظر، وما إلى ذلك، وكلها تنبؤات لمثل هذا الأمر.
وفيها كذلك الترويج للقضايا الانحرافية في قضايا الموالد والأضرحة ونحوها؛ ففي بعض المجلات التي اطلعت عليها كان كثير منها عن رمضان، فماذا يكتبون عن رمضان؟ يكتبون عن ذكريات الحفلات التي تقام في المساجد أو عند الأضرحة وعند الصالحين وما يلحق بذلك، ويجعلون قضايا الدين تدور في هذا الفلك بالتركيز على مثل هذه القضايا، وتجد بعض العبارات تقول: فلنتكل على الله وعلى ذاكرتنا؛ لنتذكر ثلاث نعم أنعم الله بها على البلاد العربية، وهي: مغنية واثنان من الملحنين! تجد أيضاً بعض القضايا التي فيها طعن عقدي في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا مقال يقول: أبو هريرة يروي أحاديث تنافي الذوق السليم مثل حديث الذبابة! ويجعل عادل إمام شبيهاً بـ أبي ذر؛ يموت وحيداً، ويعيش وحيداً، ويبعث يوم القيامة وحده! هذا مقال بهذا النص في مثل هذه المجلات.
وأيضاً تجد هناك مقالاً هو كفر صريح إن اعتقده صاحبه، يقول فيه: الدين واللغة والتقاليد ثلاثة أمراض اجتماعية -يعني: ينبغي أن نتخلص منها-، لقد خلق الله الإنسان وسكن فيه! وهذا جاء في ضمن مقال في روز اليوسف إلى آخر ذلك الكلام الذي فيه من الكفر ما هو خطير جداً، وهذا كله مقصود.
وقد تكون هناك ألفاظ ليست صريحة في الكفر، لكن في ثنايا الكلام نوع من الإلحادية اللادينية، وإخراج عظمة الدين وعظمة الله سبحانه وتعالى من قلوب الناس، والتركيز على مثل هذه الجوانب الخطيرة والمنحرفة.
وهكذا فيما يتعلق بالعقيدة والدين تجد كلمات كثيرة مدسوسة في ثنايا الكلام، وهي على هذه الصورة، وكما أشرت الأمثلة كثيرة، وسأذكر أيضاً أمثلة صارخة في بعض القضايا، ونختم بنقاط مهمة نحتاج إليها في هذا الموضوع.
أذكر نصاً لعله يعبر بقوة عما هو مضمون في كثير مما ذكرنا: تقول إحدى الراقصات في مقابلة: في حياتنا اهتمامات لا داعي لها، ويمكن أن نلغيها، كمعامل الأبحاث الذرية مثلاً؛ لأننا لن نستفيد شيئاً، لكن سوف نستفيد لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي؛ تتخرج منه راقصة مثقفة متألقة لجذب السياح، فلا نحتاج إلى مصانع الأسلحة والمفاعل النووية، وإنما نبني مدارس ومعاهد للرقص وكذا؛ حتى نجذب السياح، ونفتح العالم، ونتقدم على الأمم! هذه هي الصورة التي يمكن أن نلخصها في هذه المقولة، وهي واضحة جداً وصارخة؛ لأنها أتت بالمتقابلات في وجه واحد.
وآخر يقول: الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح! وجملة القول: أن ما استعرضنا هو عبارة عن غيض من فيض، وأن البلاء حاصل في صور أخرى، منها: الصور الفاسدة والفاتنة المنشورة في مثل هذه المجلات، وكذلك الصورة العملية للفساد، بمعنى: أن القضية ليست فقط مجرد نشر مقال، بل إقبال وتكميل لبعض القضايا، ومن ذلك أبواب للزواج تكتب المرأة: أنا في عمر كذا، ولون الشعر كذا، وتخرجت من كذا! وتطلب زوجاً، وبالمقابل الرجال يكتبون، وتأتي المجلة وتنشر، فمثلاً: في العدد الذي اطلعت فيه، فيه ثلاث صفحات مكتوب: بالنسبة للمرأة كذا التي جنسيتها كذا كل الطلبات التي وردت إلينا في الزواج منها أحيلت إلينا وهي الآن في مرحلة الاختيار! بمعنى أن القضية ليست فقط كلاماً مكتوباً، وإنما تعليم عملي، وتطبيق لمثل هذه القضايا الخطيرة من خلال هذه المجلات.(65/13)
الحكم الشرعي في هذه المجلات
وقفتنا الأولى في الوقفات الأخيرة: الحكم الشرعي في مثل هذه المجلات وما فيها من هذه المضامين والصور، وما أشرنا إليه من النقاط السالفة: ولعل فتوى الشيخ ابن عثيمين مشهورة ومنشورة، وقد تعرض فيها رحمه الله للفتن المتعلقة بالمجلات، وأنه ما كان يصدق ما يقال، فلما رأى بعضاً يسيراً رأى فيها في جملتها ورمتها ما هو جدير بأن تكون محرمة، وأن فيها من الفساد شيء كثير وعريض.
والفتوى مشهورة.
هنا فتوى ربما ليست بمتداولة كثيراً، وهي للشيخ عبد الله الجبرين: يقول السائل: ما حكم إصدار المجلات التي تحمل الصور النسائية الفاضحة والأفكار المخالفة للشرع والمقابلات مع الفنانات والمتبرجات تبرج الجاهلية المعاصرة؟ وما حكم توزيعها وبيعها في المحلات التجارية والمكتبات؟ وما حكم شرائها واقتنائها وإهدائها؟ وما حكم المال العائد من بيعها؟ وما حكم المشاركة في تحريرها وكتابة مقالاتها؟ وهل يمكن أن تعد مجلة (سيدتي) داخلة في حكم ما مضى من الأمثلة؟
الجواب
وردت السنة المتواترة في تحريم الصور مطلقاً، ولعن المصورين وأن كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، وأن المصورين أشد الناس عذاباً، وأنه يُكلف أن ينفخ فيها الروح، وأنهم يعذبون ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم.
ثم إن التحريم يتضاعف إذا كان هذا التصوير يسبب فتنة، كصور النساء العاريات، وصور الرجال أمام النساء، وإذا كان ذلك حراماً فإن الصحف والمجلات التي تنشر ذلك قد دعت إلى الفتنة والفساد والدعارة وما هو وسيلة إلى فعل الجرائم والمنكرات، فمن أصدر هذه المجلات بهذه الصفة أو باعها أو أهداها أو اشتراها أو اقتناها فقد شارك في الإثم؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الخمر وبائعها ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها.
وكذلك هذه المجلات؛ فإن مفسدتها على الأخلاق والعفاف والأديان أعظم من مفسدة الخمر أحياناً، سيما إذا اشتملت على الأفكار المنحرفة والإعلان عن الفنانات والمتبرجات تبرج الجاهلية، فنشرها على هذه الصفة وكتابة مقالاتها واستيرادها والترغيب فيها مشاركة في الفساد، وإشاعة الفاحشة، ونشر الرذيلة، ودعوة إلى الخلاعة والتفسق والانحلال من الأخلاق والحياء، ولاشك أن مجلة سيدتهم - هكذا بخط الشيخ- من أفسد المجلات وأرذلها، ففيها من الصور الفاضحة والدعوة إلى العهر والفواحش ما لا يخفى على ذي بصيرة.
فنصيحتي لمن أراد النجاة أن يبتعد عن هذه الصحف، ولا يشارك فيها أدنى مشاركة رجاء أن ينجو بنفسه ويستبرئ لعرضه ودينه، والله أعلم.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.
وأقول: يشارك هذه المجلة فيما هي متخصصة فيه المجلات الأخرى، مثل (كل الناس)، و (زهرة الخليج)، و (المجالس)، فكل هذه مثلها في خبثها.(65/14)
واجب كل مسلم تجاه هذه المجلات الهابطة
الوقفة الثانية: الموقف العملي من هذه المجلات: من خلال الحكم الشرعي لابد أولاً من المقاطعة، وقد يقول بعض الناس: المقاطعة لا تجزئ، فأقول: المقاطعة هي أعظم سلاح، ولو أن هؤلاء أصدروا مجلات وما وجدوا من يشترونها ما صار مثل الذي صار، فمجلة (كل الناس) مثلاً بدأت بعدد من الأعداد بثمانين صفحة، ثم سبع وتسعين، ثم مائة وثلاث عشرة ثم مائة وثلاثين، ثم مائة وست وأربعين، ثم مائة وأربع وتسعين، ثم وصلت إلى مائة وسبع وتسعين، والعدد السنوي منها تبلغ صفحاته أحياناً إلى مائتين واثنتين وأربعين صفحة، وقيمتها عشرة ريالات أو خمسة عشر ريالاً في العدد السنوي، فالمقاطعة أمرها كبير ومهم.
ثانياً: لابد من بيان هذه الحقائق والأحكام الشرعية للناس وتبصيرهم بها؛ ليكون هذا التحذير نوعاً من الصورة العملية في درأ الشرور والمفاسد في مثل هذه المجلات.
ثالثاً: ألا يكون كثرة الفساد داعياً لعدم الإنكار عليها.
فإذا قيل: هناك مجلة فيها كذا وكذا قيل: في غيرها أكثر، لا بأس كل ما وقع عندك أو ما وقع تحت يدك أو ما أخبرت به ينبغي أن يكون لك صورة عملية فيه، اكتب إلى الجهة المسئولة في الإعلام بأن هذا يخالف الشرع، ويخالف نظام المطبوعات الذي يمنع نشر صور النساء، ويمنع نشر الكلام الفاحش، ويمنع منعاً قاطعاً نشر أي كلام يتعلق أو يمس بالدين مساساً مباشراً أو غير مباشر، اكتب لبعض المشايخ وأهل العلم أيضاً بما في هذه المجلات؛ لأن لهم كلمة مسموعة قد يستطيعون بها أن يؤثروا أو يمنعوا أو أن يخففوا من مثل هذا الأمر.
فإذاً: المقاطعة والتحذير وبيان المفاسد ثم الصورة العملية الإيجابية في الكتابة عن مثل هذه الأمور أمر ضروري جداً، والأمر كما أشرت، والموضوع الفتنة به عظيمة، والانتشار والرواج له كبير جداً، لدرجة أن سوق المبيعات التي تروج هذه المجلات تشكل أعداداً كبيرة جداً جداً، ويباع من هذه النسخ في بيئاتنا ومجتمعاتنا أعداد بعشرات الآلاف.
وإذا تأملنا صور المراسلات البريدية نجد تقريباً أن نسبة لا تقل عن (25%) وقد تصل إلى (40%) من داخل المملكة، وفيها صور وعناوين وكتابات ومراسلات لهذه المجلات من أبناء هذه البلاد الذين تأثروا بها، وهذا واقع وحاصل، والصورة العملية أيضاً لهذا التأثر واقعة، ونراها -للأسف- في كثير من الظواهر.
فهذه الظاهرة في الحقيقة وغيرها تحتاج إلى أن يتنبه الناس للخطر، وبعض الناس قد يقتنيها أو يسمح لأبنائه وبناته بمطالعتها؛ لأنه لا يرى فيها شيئاً، ولا يرى خطورة مضامينها.
فالله سبحانه وتعالى نسأل أن يقينا شرورها، وأن يوفقنا لمقاطعتها ومحاربتها وتحذير الناس منها والدعوة إلى نبذها ومنعها من الدخول إلى هذه البلاد، حتى يكون هذا -إن شاء الله- نوعاً من الجهاد، ونوعاً من الدعوة إلى الله.(65/15)
الأسئلة(65/16)
أهمية إنشاء مجلات إسلامية
السؤال
لماذا لا يقوم أهل السنة بإنشاء مجلات خاصة للمرأة؟
الجواب
هذا سؤال مهم جداً، نذكر لكم أن هناك مجلة نسائية إسلامية كانت تخص المرأة اسمها (أسماء) وكانت جيدة، وتكتب مقالات، ولكن ما استطاعت أن تستمر، والذي أذكر أنه لم تصل أعدادها إلى عشرة، ثم توقفت بسبب عدم القدرة المالية، وعدم وجود توزيع، وعدم وجود الإقبال والترويج اللازم؛ لأنه ليس فيها الفتن والإغراءات التي تجعل الناس يقبلون عليها ويشترونها.
ولذلك لاشك -كما يقولون- أنه بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة، فبدل أن نقول: اتركوا هذه المجلات، لابد أن نجعل للمرأة صحيفة أو مجلة إسلامية، وفي الحقيقة نحتاج إلى أن يكون هناك صحافة ومشاركة إسلامية للأطفال وللنساء وللمجلات في كل أنواع التخصصات بوجهة نظر إسلامية.
وفي بعض مجالات الطفولة بدأت -ولله الحمد- بعض القصص وبعض المجلات وبعض الأشياء تخدم إلى حد ما خدمة جيدة وتسد بعض هذا الفراغ، لكن ما يزال الفراغ كبيراً، فهذه الإصدارات تعاني من التوزيع مثلاً، فمجلة إسلامية قد تكون توزع بالآلاف في بلد ما، ثم في عدد من الأعداد قد يمنع دخول هذا العدد لأمر أو لآخر أو لاعتراض على مقالة أو على كتابة أو شيء من هذا القبيل، فهذه خسارة للمجلة لا تستطيع أن تتحملها، وكثير من المجلات الإسلامية تنشر كلاماً متزناً لا يعجب كثيراً من المتسلطين على ديار الإسلام، فتُمنع هذه المجلات، ولا تُدخل، فلا يبقى لها توزيع، والناس يبحثون عنها ولا يجدونها، فهذه كلها مشكلات واقعة في مثل هذا الأمر.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(65/17)
أحكام ومناسك الحج
حج بيت الله الحرام مقصد عظيم تهفوا إليه نفس كل مؤمن، وتسعى إلى نيله روح كل موقن، كيف لا وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، ومشهد عظيم يظهر جانباً من جوانب العزة واللحمة، إلا أن هذا المعنى لابد لتحققه من شروط يجب توافرها، وأركان ومناسك يجب أداؤها، ومحرمات ومحظورات يجب على العابد اجتنابها، لكي يخرج من تلك العبادة العظيمة وقد غفرت له ذنوبه، فيعود كيوم ولدته أمه.(66/1)
تعريف الحج وأدلة مشروعيته
هذا لقاء طيب مبارك في أيام فاضلة، وليالي مباركة، نجتمع فيه للتذكير والتعريف بهذه الشعيرة العظيمة والفريضة الجليلة لنتحدث عن فقه الحج.
الحج في اللغة: القصد، وعن الخليل من علماء العربية: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه، ومعنى أن تحج إلى مكان: أن تقصده تعظيماً له.
وفي المعنى الفقهي ومن الناحية الشرعية: هو قصد مكة والمناسك لأداء مناسك مخصصة في زمن مخصوص، فالقصد والتوجه والنية إلى بيت الله الحرام للنسك حجاً كان أو عمرة على الصفة المعروفة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزمان المخصص لهذه الفريضة من أيام الحج.
وأما الحج فهو أحد أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها الإسلام، ومشروعيته واضحة ثبتت بأدلة القرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، فالحق جل وعلا يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وفي وجوبه من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ورد حديث ابن عمر المشهور: (بني الإسلام على خمس -وذكر منها:- وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)، وكذلك حديث أبي هريرة الذي أخبر فيه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (يا أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال عليه الصلاة والسلام: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم).
وأما الإجماع: فقد انعقد إجماع الأمة قاطبة على وجوب الحج وفرضيته على المستطيع في العمر مرة واحدة.(66/2)
استعدادات ووصايا قبل الحج
لابد للحاج قبل أن يشرع في حجه من الاستعداد والتهيئة، وهذه أمور ومسائل مهمة في الاستعداد قبل الحج.
أولاً: النفقة الطيبة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وقد ورد في بعض الآثار: أن النفقة المحرمة في الحج يكون عليه بها وزر، وكلنا يعلم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: (ثم ذكر الرجل يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له)، فلابد أن يتحرى الحاج لنفقة حجه المال الطيب الحلال الذي ليس فيه كسب حرام ولا مشتبه به.
ثانياً: الوصية العامة: أن يوصي أهله ومن وراءه بتقوى الله عز وجل، وتوحيده، وعبادته، وأن يوصيهم بما يحتاج إليه من الوصية، كأن يذكر لهم ديونه أو الحقوق التي عليه، أو أن يذكر لهم ما له عند الآخرين، أو ما يريد أن يوصي به؛ إذ أنه يسافر وقد يكتب له الله عودة وقد يتوفاه الله، والوصية أمر مشروع مسنون ثابت ينبغي للمسلم أن يحرص عليه في كل وقت وآن.
ثالثاً: التوبة الخالصة: فإن الحاج مقدم على فريضة أعظم، وأجرها تكفير الذنوب والخطايا، ورجوعه كيوم ولدته أمه، والمقبل على إنسان من الناس ليكون ضيفه لا شك أنه يختار أحسن الثياب ويتجمل بها، ويختار أفضل أنواع العطور ويتطيب بها؛ حتى يكون إقباله على من يضيفه إقبالاً حسناً، والمقبل على الله في هذه الفريضة ينبغي أن يكون قد أعلن توبته، ورد المظالم والحقوق، وطلب السماح ممن أخطأ في حقهم؛ حتى يكون متعرضاً لرحمة الله تعرضاً مناسباً وملائماً لقدومه على ربه في بيته وفي حرمه لأداء فرضه وحج بيته.
رابعاًً: الصحبة الصالحة: فإن هذه الفريضة طاعة من الطاعات، وأهل الخير يذكرونك إذا نسيت، ويعينونك إذا ذكرت، ويعلمونك إذا جهلت، فتنتفع بهم، ولا يكون حالك كحال من يكون صحبته غير صالحة، فما يزالون في لغو ولهو وقول باطل، وربما جهل تؤدى به الفريضة على غير وجهها، فلا تكون كاملة فيذهب الجهد والعناء والتعب بلا فائدة.
خامساً: العفة عن المحرمات: قبل الحج، وفي أثنائه، وأثناء المسير إليه، فلا يترخص في شيء من المحرمات مطلقاً.
سادساً: الإخلاص لله: وهذه مسألة مهمة: فإن بعض إخواننا القادمين من بلاد إسلامية كثيرة في أحوال بلادهم بعض العادات التي قد تشوش على الإخلاص، فإذا خرجوا، خرجوا مودعين لهم في زهو واحتفاء واحتفال كبير، وإذا رجعوا غيروا ألوان بيوتهم، أو ضربوا عليها بعض الطلاء الأبيض، أو كتبوا لوحات أو نحو ذلك مما يعلم بما كانوا فيه من عبادة، وهذا قد يجعل الإنسان حريصاً على أن يلقب بالحاج، أو أن يلقب بكذا؛ فينقص ذلك من أجره، أو يشوش على نيته ويخلط فيها، فينبغي أن نترك ما هو معتاد مما ليس فيه شيء مشروع، وليس فيه مصلحة، ولا بأس أن يفرح الإنسان إذا رجع من الحج، ويدعو قرابته إلى وليمة؛ إذ ليس في هذا حرمة، ولكن لا يكون على سبيل المفاخرة والمباهاة التي قد تنقص من أجره.
نسأل الله عز وجل السلامة.
سابعاً: العلم بالأحكام الفقهية الخاصة بهذه الفريضة؛ فبعض الناس يذهب إلى الحج، وفي أثناء أدائه يقول: فعلت كذا وكذا.
هل هذا صحيح أو لا؟ بعد أن قطعت المسافات الطوال، وأنفقت الأموال تأتي لتسأل بعد أن أخطأت وربما قد فسد حجك، لابد أن تتعلم أحكام أمر تحتاج إليه، عند الحج تتعلم الحج، إذا وجبت عليك الزكاة تعلمت أحكام الزكاة، وإذا أردت أن تقوم بعمل تجاري تعلمت أحكامه.
وهكذا.
أيضاً: البر والإحسان مهم، وهو من الأمور الطيبة، سواء قبل الحج أو في أثنائه، فالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل أن ييسر له الحج، ويتقبله منه، ويعينه، فإن الإنسان بدون عون من الله عز وجل لا تقضى له أموره ولا حوائجه.
ثامناً: العزم على الاتباع والاقتداء برسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي قال: (خذوا عني مناسككم).(66/3)
الإحرام
أعمال الحج وأركانه: عندما ينوي ويتوجه إلى المواقيت يحرم من ميقاته.(66/4)
تعريف الإحرام
تعريف الإحرام، هو: نية الدخول في الحج أو العمرة أو فيهما معاً، يعني: الوقت الذي ينوي فيه الدخول في النسك حجاً كان أو عمرة.
لماذا سمي إحراماً؟ لأن به -أي: بسبب الإحرام وبسبب أداء النسك -يحرم عليه ما كان عليه حلالاً، كأن يحرم عليه تغطية الرأس، ونحوها من محظورات الإحرام المعروفة.(66/5)
واجبات الإحرام
واجبات الإحرام التي لابد منها تتخلص فيه اثنين بالنسبة للرجال، وواحد عند النساء: الأول: الإحرام من الميقات: والإحرام من الميقات له حكم، وهو أمر تعبدي شرعه لنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهو لون من ألوان الاستعداد، أنت تقبل على بيت الله الحرام، والإحرام من مسافة طويلة أو بعيدة، كأنما يقول لك: انتبه! فأنت قادم إلى أقدس البقاع وأطهرها وأشرفها وأعظمها حرمة عند الله، تهيأ لذلك: اغتسل له، البس إحرامك؛ حتى تكون مستحضراً لعظمة وحرمة البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، هذا جانب.
والجانب الآخر: فيه بيان عظمة هذه الفريضة، وأنها ليست بمجرد وصولك إلى الحرم بل هي قبل ذلك.
الثاني: التجرد من المخيط بالنسبة للرجال: بأن ينزع ملابسه ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين، كما وردت بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وها هنا مسائل كثيرة منها مسألة المواقيت: فبعض الناس يتجاوزون الميقات ولا يحرمون، ويقولون: نأتي إلى جدة ونقيم بها ثلاثة أيام فنصبح بذلك مقيمين ومن ثم نحرم.
وهذا ليس بصحيح، والمقيم لا يصبح مقيماً ولو أقام ثلاثاً أو شهراً أو ثلاثة أشهر حتى يكون مستوطناً بالبلد، بمعنى: أن يكون له عمل وهو مقيم بها، أو عنده زوجة، أو له والدان، وعنده بيت يقيم به، فهذا هو المقيم في جدة أو في غير جدة، أما القادم من خارج المواقيت لدخول الحرم بنية النسك حجاً أو عمرة فيجب عليه أن يحرم من الميقات، فإن تجاوزه فلابد أن يرجع إليه، وإن أحرم بعد الميقات فيلزمه الدم، وتكون عليه فدية.(66/6)
سنن الإحرام
سنن الإحرام هي: الاغتسال والتطيب؛ لأن الإحرام إقبال على عبادة، والطهارة في العبادات كلها وفي الصلوات أمر مطلوب، فيغتسل لذلك ويتطيب، قالت عائشة رضي الله عنها: (طيبت الرسول صلى الله عليه وسلم بالغالية)، وهو نوع من أغلى وأطيب وأحسن أنواع الطيب، وكانت تقول: (لكأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم).
متى يتطيب؟ قبل أن يدخل في الإحرام، عندما يغتسل فلا بأس أن يحرم ويتطيب، فإذا أعلن نيته ولبى أصبح محظوراً عليه، وينبغي له أن يبتعد عن وضع الطيب فيما يستدام؛ فلا يضع الطيب في نفس الإحرام، فيبقى حينئذٍ متطيباً وقتاً طويلاً، لا، بل يتطيب في بدنه أو شعره.
الإحرام يكون في رداء وإزارين أبيضين نظيفين.
ويسن له أيضاً: تقليم الأظافر، وقص الشعر، ونتف الإبط، وحلق العانة، ومس الطيب؛ لأنه سيصبح ذلك كله محرماً عليه بعد دخوله في الإحرام.
مسألة: ورد حديث في الأضحية: (من أراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً حتى يضحي)، وبعض الناس ينوي الأضحية وهو لم يقلم أظافره، ولم يحلق شعره بعد، ثم يأتي في يوم الحج في اليوم الثامن وعنده التزام؛ لأنه يريد أن يضحي؛ فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً.
وهاهنا سنة في أنه يقلم أظافره، والذي ذكره أهل العلم من المعاصرين كما ذكر سماحة المفتي العام: أنه يبقى على أصل ما أراد من الأضحية؛ لأنها في حقه سنة، لكن الأولى له أن يتنبه، ولو كان قد قصر وقلم أظافره قبل دخول اليوم الأول من الحج لأصبح ذلك كاملاً في حقه.
-تكرار التلبية: عندما يلبي فيقول: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، ويحسن بالحاج أن يكثر من التلبية منذ إحرامه إلى أن ينتهي من موطن التلبية عند رمي جمرة العقبة في يوم العيد.(66/7)
محظورات الإحرام
أولاً: تغطية الرأس، وهذا خاص بالرجال، وتغطية الرأس المقصود به: بمباشر وملامس، كأن يضع الطاقية أو شيئاً يغطي به رأسه، لكن هذا السقف ليس بغطاء، وكذا سقف السيارة والخيمة ليسا بغطاء أيضاً، وإلا كان ذلك مما يشق على الناس.
ثانياً: لبس المخيط: وهو أيضاً الخاص بالرجال، والمقصود به: كل نوع من القماش يفصل على مقاس العضو ويخاط، لكن غير ذلك ليس كذلك.
المعنى: أن الحزام الذي فيه خياطة هل هو أولاً مفصل على عضو معين؟ لا، الحذاء إذا كان فيه خياطة ليس داخلاً كذلك، إنما المقصود به الملابس.
ولبس النقاب والقفازين خاص بالنساء، أي: لا تلبس المرأة القفازين ولا تنتقب، كما ورد بذلك الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم، ويجمع بينه وبين حديث عائشة: (كنا إذا مررنا بالرجال أسدلنا على وجوهنا) يعني: يكون لها غطاء لكنه لا يكون مثل النقاب الملاصق للوجه.
ثانياً: حلق الشعر وقصه أو قطعه: وينبغي للإنسان أن ينتبه لذلك، وبعض الناس يكثر منه عادة نتف شعر لحيته أو رأسه، وفي الإحرام لابد أن ينتبه لهذا؛ لأنه إذا باشر ذلك بفعل مباشر منه؛ فإنه إذا قطع ثلاث شعرات وجبت عليه الفدية.
أما إذا نام ووجد على مخدته شيئاً من الشعر فلا شيء عليه؛ لأنه لم يباشره بنفسه.
رابعاً: تقليم الأظافر، ومس الطيب: وهنا مسألة: ما حكم ما يستخدم مما فيه طيب ظاهر؟
الجواب
ينبغي اجتنابه، مثل بعض أدوات التنظيف من الصابون وغيره التي تكون مطيبة بروائح عطرية واضحة فيستخدم غيرها؛ لأن من حكم الإحرام: أن يظهر الإنسان وهو أشعث أغبر قد تجرد من زينته أياماً معدودات، ويظهر تضرعه وافتقاره إلى الله سبحانه وتعالى.
خامساً: قتل الصيد: والآن هذا قليل، لكن في السابق كان الناس وهم قادمون قد يرون الصيد ويحتاجونه.
سادساً: الخطبة للزواج، وعقد النكاح، ومقدمات الجماع، والجماع، وهذه كلها حلقة واحدة متسلسلة.(66/8)
كفارة من فعل شيئاً من محظورات الإحرام
بعض المحظورات فيها الكفارة صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، فهذه في تغطية الرأس، ومس الطيب، والأظافر، ونحو ذلك.
ومنها ما يقابله قيمته، مثل قتل الصيد، بأن يدفع قيمته بما يقابله.
ومنها ما يقع فيه فساد الحج، وهو أمر الجماع ونحوه.
إذاً: لبس المخيط، وتغطية الرأس، وحلق الشعر، والطيب.
هذه كلها الحاج مخير فيها في الفدية بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.
أما الصيد ففيه قيمة ما يقابله.
أما عقد النكاح أو الخطبة فحرام ولا فدية فيه، والخلاف عند العلماء قائم: هل يصح هذا العقد أم ينبغي أن يجدد عقداً آخر غيره؟ وليس هذا موضوعنا.
أما ما يلابسه الإنسان ويقارفه من أداء الشهوة أو من الأخذ بالشهوة مع أهله دون الإيلاج.
فهذا إذا وقع به إنزال فعليه هدي بدنة، وإن لم ينزل فعليه دم شاة وهو مرتكب لمحرم؛ لأن الله عز وجل قال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، قالوا: والرفث هو الجماع ومقدماته من القول والفعل.
أما الوطء ووقوع المرء في جماع مع أهله، فهذا على ضربين: إن كان قبل التحلل الأول، أي: قبل يوم العيد وقبل انتهائه من طواف الإفاضة، فهذا فيه أربعة أمور: 1 - بطل حجه وفسد.
2 - وعليه إكماله إلى نهايته.
3 - ويجب عليه القضاء.
4 - وتجب عليه الفدية شاة.
وأما إن كان بعد التحلل الأول، فهذا فيه فدية بدنة، فإن لم يجد فعليهما -أي: الزوج والزوجة- صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعوا.
يحرم مرة أخرى من التنعيم ليطوف منعماً؛ لأنه أفسد حجه، فيحرم مرة أخرى لغرض تجديد إحرامه، فإذاً ينتبه الإنسان إلى هذا.(66/9)
أنواع النسك في الحج
عندما يحرم الحاج فهو مخير بين أنواع من النسك في أداء فريضة الحج، هذه هي الأنواع الثلاثة المشهورة: النوع الأول: التمتع: وهو أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، ويؤدي عمرة كاملة، ويقول: لبيك عمرة، ثم يتحلل ويرجع حلالاً يلبس ثيابه، ويعاشر أهله؛ فإذا جاء يوم التروية أو اليوم التاسع أو اليوم السابع وأحرم بحج أصبحت عمرة وحجاً وبينهما تحلل وتمتع، وهذا يجب عليه الهدي في مقابل التمتع.
وبعض أهل العلم يقولون: هذا أفضل النسك للآفاقي الذي يأتي من خارج المواقيت؛ لأنه سيأتي في وقت مبكر، ولابد أن يحرم من الميقات، وإذا بقي على إحرامه يشق عليه، فقالوا: وهذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء مع أصحابه، قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة، وليتحلل بها إلى الحج) فأحل من لم يكن ساق الهدي، وجاءوا بعمرة وتحللوا.
النوع الثاني: القران: وهو أن يقرن بالحج عمرة، أو يحرم بالحج والعمرة معاً، يقول: لبيك اللهم حجاً وعمرة، وليس بينهما تحلل، بل يعتمر ويبقى في الحج، والحقيقة أن صفة العمل في نسك القران لا يختلف عن نسك الإفراد إلا في أمرين: النية وسوق الهدي ووجوبه؛ لأن القارن الأصل أنه ساق الهدي معه، والناس الآن لا يسوقون الهدي، لكن الذي منع بعض الصحابة من أن يعتمروا ويحلوا في حجة الوداع مع النبي عليه الصلاة والسلام: أنهم ساقوا الهدي، قال: من ساق الهدي يبقى على ما هو عليه، ويبقى قارناً بين حجه وعمرته، ومن لم يسق الهدي يجعلها عمرة ثم يتحلل.
فبالنسبة للقران هو كالإفراد، ليس هناك اختلاف في الفعل؛ لكن في النية ووجوب الهدي.
النوع الثالث: الإفراد: وهو أن يحرم بالحج وحده في أشهر الحج، ويقول: لبيك اللهم حجاً، وليس عليه هدي، وإذا أراد أن يعتمر بعد الحج فلا بأس، باعتبار أنه جاء من سفر بعيد حج حج إفراد وليس عليه هدي، ثم أراد أن يعتمر فلا بأس، ويخرج إلى التنعيم ويحرم ويعتمر، وقد وقع ذلك لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما حاضت ثم ولم يستطع أن تعتمر قبل الحج، فحجت ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع أنا بحج، فأمر النبي عليه السلام عبد الرحمن بن أبي بكر أخاها فخرج بها إلى التنعيم، فاعتمرت وطافت وسعت رضي الله عنها).
إذاً: هذه أنواع النسك الثلاثة.
نحن حتى الآن لم نذكر من أركان الحج إلا ركن واحد وهو الإحرام، وفصلنا فيه؛ لأنه المدخل، وسيأتينا أيضاً ما يتعلق بالمواقيت المكانية والزمانية، من أين يحرم؟ ومتى يحرم؟(66/10)
المواقيت
المواقيت المكانية تحيط بمكة المكرمة من كل جانب، والبحر من جانب آخر، وأول هذه المواقيت: ذو الحليفة، والجحفة، وذات عرق وهي ميقات القادمين من وسط الجزيرة، وقرن المنازل، ويلملم للقادمين من اليمن وغيرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)، فمن جاء وهو من أهل الشام ولكنه جاء من جهة اليمن، فميقاته حيث يمر من اليمن، ومن جاء من جهة المدينة ذو الحليفة إلخ.
وبالنسبة للطائرات فالبموازاة، فإذا حاذوا هذا المكان أو المسافة المقاربة له أحرم الحاج من هذه المواقيت المكانية.
أما المواقيت الزمانية فهي: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وأوائل شهر ذي الحجة حتى الدخول في النسك في يوم عرفة، وإلى آخر ليلة عرفة كما هو معلوم؛ لذلك هذه المواقيت متى عقد فيها نية الحج وأتى بعمرة وتحلل منها، أصبح داخلاً في أشهر الحج.(66/11)
الطواف
لماذا بدأنا بذكر الطواف؟ لأننا لو أخذنا بالمتمتع فسوف يأتي بالعمرة ويبدأ بالطواف.(66/12)
أنواع الطواف في الحج
الطواف الأول: طواف القدوم: وهذا لغير المتمتع، فهو يذهب إلى مكة في اليوم السابع أو الثامن، ثم وهو في طريقه إلى منى وإلى المشاعر، يطوف بالبيت سنة لقدومه، وليس هو من طواف الحج، وله أن يقدم سعي الحج إذا كان في اليوم الثامن على سبيل المثال، وإذا قدم سعي الحج فلا يسعى بعد ذلك في يوم العيد وذكرنا هذا؛ لأن الناس يفعلونه ويحتاجون إليه مع وجود الزحام.
الطواف الثاني: طواف الإفاضة: وهو ركن من أركان الحج، ومن لم يأت به فلا حج له، أي: لا يكون حجه كاملاً، وبطل حجه.
الطواف الثالث: طواف الوداع: وهو آخر ما يكون في الحج، قال عليه الصلاة والسلام: (ليكن آخر عهد الناس بالبيت الطواف)، فهو واجب عند المذاهب الثلاثة، وسنة عند المالكي.(66/13)
مسائل في طوافل الوداع
يسأل الناس: هل يصح أن نؤخر طواف الإفاضة ونجعله مع طواف الوداع؟
الجواب
نعم يجوز، مع التنبه لأمرين: الأول: أن ينوي طواف إفاضة وليس طواف وداع؛ لأن طواف الإفاضة هو الركن فيندرج فيه طواف الوداع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ليكن آخر عهد الناس بالبيت الطواف)، فإن طفت الإفاضة أصبحت آخر عهدك بالبيت الطواف، فلا إشكال، لكن من نواه طواف وداع فلا يقع عن طواف الإفاضة؛ لأن طواف الإفاضة ركن طواف الوداع واجب.
الثاني: أن يجعله آخر الأعمال، وبعض الناس يتعب -لكن هذا جزء من الفريضة- فيذهب في أثناء أيام التشريق ويقول: أنا أطوف إفاضة ووداع، ثم يرجع ويبيت بمنى، وهذا لا يصلح، فقد أتى بطواف طواف إفاضة وما زال طواف الوداع واجباً عليه.(66/14)
شروط الطواف
أولاً: النية: لابد أن ينوي الطواف ويعينه: هل هو طواف قدوم أم وداع؟ دون أن يعلن، لكن نيته مطلوبة حتى يحدد العبادة، ويعرف ما يؤدي أهو ركن أم واجب أم غير ذلك؟ ثانياً: الطهارة: وهذا الشرط هو الغالب من أقوال الفقهاء، وإن كان بعضهم قال بغير ذلك؛ لعدم ثبوت الدليل القاطع فيه، ولكن أقوال الفقهاء في جملتها تقول وتدل على أن الطهارة شرط في الطواف.
ثالثاً: الطواف داخل المسجد وحول البيت: أي: حول الكعبة، ويكون في إطار المسجد ما دامت الصفوف ممتدة، لكن من يطوف -مثلاً- على بعد كيلو بالسيارة حول الحرم، فلا يصح؛ لأن الطواف طواف حول البيت، وليس مجرد طواف عن بعد.
رابعاً: أن يكون البيت عن يساره حال البدء بالطواف: وقد يقول بعض الناس: هل يوجد أحد يطوف على العكس؟ نعم، ونرى أحياناً من صور الجهل أموراً كثيرة قد لا يظهر ذلك في الطواف لكنه يظهر في السعي؛ لأن الناس ذاهبون وقادمون في السعي، فإذا دخل من جهة المروة فقد يبدأ من هناك؛ لأنه لا يعرف شيئاً.
خامساً: الطواف سبعة أشواط كاملة: وبعض الناس مع الزحام يخرج قبل أن ينتهي الشوط الأخير، فهذه العبادات توقيفية، ولو صلى أحدكم العصر وجاء بعد آخر ركعة وسلم لم تتم صلاته، فلابد أن يتم العبادة إلى آخرها.
سادساً: الموالاة بين الأشواط: بألا يفصل بين شوط وشوط بوقت طويل، لكن إن جاءت الصلاة فصلى أو خرج للطهارة ورجع، أو تعب قليلاً وارتاح، فلا بأس حينئذٍ، لكن إذا طال الفصل كمن يطوف شوطين أو ثلاثة ثم لما تعب قال: أكمل يوم غد، لا يصح منه، ويبدأ من جديد إذا كان فعل مثل ذلك.(66/15)
سنن الطواف
أولاً: الرمل: وهو تقارب الخطا والمشي في الأشواط الثلاثة الأولى بحسب ما يتيسر، وفي الحج لا تستطيع أن تمشي ببطء أصلاً؛ لأن الزحام شديد، لكن إن تيسر فلا بأس؛ لما ثبت في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الاضطباع: وهو أن يجعل جزءاً من ردائه تحت إبطه من تحت ذراعه الأيمن فيجعله على عاتقه الأيسر، وهذا مشروع فقط في طواف القدوم، وأيضاً بما وردت به سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: تقبيل الحجر الأسود لمن استطاع، وفي الحج قد لا تستطيع أن ترى الحجر الأسود فضلاً عن أن تقبله، فلا تزاحم وتضارب حتى تصل إليه كما يصنع بعض الحجاج.
رابعاً: الدعاء أثناء الطواف، دعاء وذكراً وتلاوة القرآن كله مشروع؛ لأنها عبادة ينبغي أن تشغل بذلك.
خامساً: صلاة ركعتين بعد الفراغ من الطواف خلف المقام: وهي سنة من السنن، وقد وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام، ووردت القراءة فيها ونحو ذلك.(66/16)
بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في الطواف
- منها: ابتداء الطواف من قبل الحِجْر، وهي إحدى حالتين: 1 - إما أن يبدأ من بعده ولا ينتبه أنه بدأ من غير المكان الصحيح.
2 - وإما أن يبالغ في الاحتياط، ويبدأ من الركن اليماني ويقول: احتياطاً.
3 - والصواب: أنك لو جئت في أثناء الزحام ودخلت وأخذت نصف شوط فلا تحسبه حتى تأتي إلى مكان الحجر الأسود، ثم تشرع في الطواف.
- ومنها: الرمل في جميع الأشواط السبعة، وبعض الناس يهرول طوال الوقت، وهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومنها: استلام جميع الأركان، وجدران الكعبة، والتمسح بها، وهذا لم يثبت من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
- ومنها: التكبير: وهو ثابت عند الحجر الأسود، والركن اليماني، وإن تيسر له مسحه وكبر، وإلا فلا تكبير عنده، وإن كان قد ورد عن معاوية -وهذه الرواية ليست مشهورة ولا معتبرة عند العلماء-: أنه قال: ليس شيء من أركان البيت مهجوراً، يعني: عندها كلها تكبير، ونحو ذلك.
- ومنها: الوقوف عند خط بداية الطواف وقتاً طويلاً، ويلتفت ويكبر؛ فيسبب الزحام، والمسألة أيسر من ذلك، ودين الله عز وجل فيه سعة وفسحة.
كبر وأنت سائر عند الموازاة والمحاذاة وانتهى الأمر إن شاء الله.
- ومنها: تخصيص الأشواط بأدعية خاصة ليست ثابتة، لكن من أراد أن يستصحب كتاباً للذكر حتى يذكر الأدعية التي لا يحفظها من أذكار اليوم والليلة فلا بأس، لكن مثل: دعاء الشوط الأول ودعاء الشوط الثاني.
فهذا لم يثبت، ثم في أثناء الزحام ينتهي الناس من الأشواط السبعة كلها وهو لا يزال في الشوط الأول؛ لأن الوقت ينتهي وهو لم ينته من الشوط الأول.
ومنها: صلاة الركعتين عند المقام وهذه سنة، والأيسر لك وللناس أن تصليها في أوقات الزحام حيث كان من البيت، أما مزاحمة الناس ودفعهم ومضايقتهم والتوقف وقطع تتابع الطواف لوقت طويل فقد أشرنا إليه من قبل.(66/17)
السعي بين الصفا والمروة
السعي متعلق بالعمرة بالنسبة للمتمتع، وإن كان ركناً من أركان الحج للقارن وللمفرد كما سنذكره.
وشروط السعي: أولاً: الترتيب بينه وبين الطواف على ما قاله أكثر الفقهاء: أن السعي لابد أن يكون قبله طواف صحيح، وإن كان بعض أهل العلم رخص عند الزحام والشدة لبعض ذوي الأعذار من النساء وغيرهم أنهم لو سعوا من غير أن يكون الطواف سابقاً صح، لكن المشهور هو ما ذكرناه.
ثانياً: الموالاة بين الأشواط أيضاً في السعي، فلا يكون هناك فصل طويل بين الأشواط.
والسعي سبعة أشواط، ومن الناس من يسعى أربعة عشر شوطاً، على أن الذهاب والإياب شوط واحد.
ثالثاً: الخبب، أي: السرعة فيما بين الميلين الأخضرين للرجال دون النساء إذا استطاع.
رابعاً: الوقوف على الصفا والمروة، والمسنون لمن استطاع أن يقف ويتوجه إلى البيت الحرام، وأن يقول دعاء الأثر المذكور: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده؛ صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما شاء الله له أن يدعو، ولا يتعجل إن استطاع ولم يكن ثمة زحام أو مشقة، وبقدر الاستطاعة يذكر الذكر وشيئاً من الدعاء.(66/18)
تنبيهات وأخطاء في السعي
1 - البدء بالسعي من المروة؛ لأن الناس يكونون في زحام، والذي يدخل من جهة المروة من الحجاج وهو جاهل يظن أنه يبدأ من أي مكان، فيأخذ ويبدأ منها فيكون الشوط الأول ليس له، فيكون قد قصر وأتى بستة أشواط، فيحتاج أن يأتي بالشوط السابع.
2 - حساب كل شوطين بشوط واحد.
3 - الإسراع في السعي من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا، وإنما يسرع فقط بين الميلين قليلاً.
4 - إسراع المرأة في المشي بين الصفا والمروة لا يصح لها.
5 - تخصيص كل شوط بدعاء معين.
هذا بالنسبة للطواف والسعي بالنسبة للمتمتع، والسعي عندنا ركن من أركان الحج، ويأتينا أيضاً في يوم العيد، كما سنرى بمشيئة الله تعالى.(66/19)
أعمال اليوم الثامن في الحج
إذا كان اليوم الثامن من الحج وهو يوم التروية يحرم المتمتع والمفرد، وأما القارن فهو باق على إحرامه حتى يشرع في الحج، واليوم الثامن يسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يستقون فيه الماء، ويجهزون الماء لليوم الثامن وللأيام التي بعده.
وأما في يوم التروية فليس هناك عمل إلا الإقامة بمنى، وأداء الصلوات الخمس في أوقاتها بدون جمع مع القصر.
هذا هو عمل يوم التروية، وحكمه: أنه سنة، أي: أن من لم يذهب إلى منى في اليوم الثامن يوم التروية وذهب إلى عرفة مباشرة فحجه صحيح، وليس عليه أي فدية؛ لأنه لم يترك واجباً بل هو سنة.
ولكننا لا نحرص على اتباع واقتفاء سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة في هذه الفريضة التي فعلها في العمر مرة واحدة، وقال: (خذوا عني مناسككم)؟(66/20)
أخطاء الناس في اليوم الثامن
- منها: عدم الذهاب إلى منى، وترك المبيت فيها ليلة عرفات مع القدرة، وبعض الناس يقول: نمشي في الليل قبل الزحام حتى نصل عرفة مبكراً، لا يا أخي! أنت جئت في العمر مرة واحدة لتحج فلماذا تختصر وتختزل وهي أيام؛ اجتهد فيها، وتحرى الطاعة، وتحمل ما قد يكون فيها من المشقة.
- إتمام الصلاة في منى: بعض الناس يتمون الصلاة، وهذا غير صحيح بل حتى من كان من أهل مكة فإنه يقصر لا لأنها مسافة قصر ولكن لأن هذا القصر للنسك؛ لما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
- إضاعة الأوقات واللهو عن ذكر الله في هذا اليوم وفي غيره: بعض الناس يجلسون ويشربون الدخان ويتكلمون كأنهم في مقهى وليسوا في منى، ونحن في بلاد وأماكن لها حرمتها، وفي عبادة وفريضة له عظمتها، فكيف نضيع الوقت ونغفل عن الأمر الذي جئنا لأجله؟! - ترك الجهر بالتلبية: وهذا للأسف عم عند الحجاج، وتذهب إلى منى يوم الثامن فلا تكاد تسمع ملبياً، والناس يمشون ساكتين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الحج العج والثج)، والعج هو: رفع الصوت بالتلبية، والثج هو: كثرة الذبح، وإنهار الدم في الأضاحي، وكان المسلمون إذا أحرموا كبروا، فإذا صعدوا شرفاً كبروا، وإذا هبطوا كبروا، حتى تكون المناسك كلها تضج بالتلبية لله عز وجل، والتلبية شعار الحج، فينبغي عدم تركها.
- جمع الصلوات يوم التروية: أن يجمع الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، والسنة القصر بدون جمع.(66/21)
أعمال اليوم التاسع في الحج
اليوم التاسع أعظم أيام الحج في فرضيته، وهنا ننبه إلى أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج وقد مر بنا الإحرام والوقوف بعرفة، ثم طواف الإفاضة والسعي، وهذه أربعة أركان من أتى بها وكان منه فيها تقصير قد يجبر بدم إن كان واجباً، أو يعفى عنه إن كان سنة.(66/22)
فضل يوم عرفة
أما فضل يوم عرفة فمعلوم، وهو مما أقسم الله سبحانه وتعالى به في قوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3]، قالوا: الوتر هو يوم عرفة، والشفع يوم النحر، كما ورد بذلك حديث جابر رضي الله عنه عند الإمام أحمد والطبراني والبزار والحاكم وصححه، ويوم عرفة أخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أفضل الأيام، وأخبر أن صيامه يكفر عاماً قبله، وفيه فضائل عظيمة، منها: مباهاة الله عز وجل لملائكته بأهل الموقف، ومنها: ما ثبت في الحديث أيضاً: من أن الله عز وجل يغفر لأهل الموقف، إلى نصوص غير ذلك كثيرة.(66/23)
معنى الوقوف بعرفة
ليس له معنى معين، فلو كان هناك مريض ممدد على سريره جاز، إذ ليس معنى الوقوف بعرفة أن تقف على رجليك، ولكن المقصود به أن تكون بعرفة لقصد النسك والوقوف في هذا اليوم وفي هذا المكان لأداء ركن من أركان الحج، وقد وقف النبي عليه الصلاة والسلام على ناقته، ووقف في أسفل الجبل عند الصخرات، وقال: (وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف)، فحيث ما كان الإنسان يقف، ويكون داخل حدود عرفة، ويجتهد في الذكر والدعاء والعبادة وتلاوة القرآن، ولا يضيع لحظة ولا ثانية، إذ بعض الناس يضيعون الوقت في هذا اليوم وهو ساعات معدودة جداً.
أقل من نصف يوم؛ لأن من السنة أن يبقى في وادي نمرة قبل عرفات؛ والنبي صلى الله عليه وسلم نزل به، فلما كان بعد الزوال دخل إلى عرفات، فكان أول فعل فعله صلاة الظهر والعصر جمعاً وتقديماً، وخطب بالناس، فإذاً هو سيدخل بعد الظهر تقريباً أو في وقت الظهر إلى المغرب، فهل في هذا الوقت القصير سيضيع الوقت، وبعض الناس يقول: نرتاح قليلاً وننام، ويفكرون في الطعام والغداء، وهل جاء الطعام أم لا؟ وهل جاء الشراب؟ وهل هو بارد أو حار؟ سبحان الله! إنك في هذه الساعات لابد أن تنسى كل شيء، ولا يبقى لك هم إلا ما جئت لأجله من التضرع والدعاء والعبادة والرغبة الصادقة في أن تعمك رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته.(66/24)
بعض التنبيهات والأخطاء في يوم عرفة
فصعود الجبل تعبداً: بعض الناس يعتقد أنه إذا لم يصعد الجبل لم يقف بعرفات، وهذا خطأ وليس عليه دليل، بل بعضهم يستشهدون بنصوص موضوعة ليس لها أصل في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الجبل لا تصح له تسمية بأنه جبل الرحمة، وإنما هو كلام شاع بين الناس، وللجبل اسم: هو جبل آل، أو اللاني، فله مختلف جداً، لكن الناس أشاعوا فيه هذا الاسم، وليس هناك شيء متعلق بالجبل.
- بعض الناس عندهم اعتقادات كثيرة: لابد أن يأخذوا بعض الشجر الموجود هناك إلى أشياء عجيبة جداً ليس لها وجود في تشريع وهدي وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
- الوقوف خارج عرفة: بعض الناس لا ينتبه للحدود، ويبقى خارج عرفة، وهو يظن أنه في عرفة، وبعض الناس يبحث عن مكان مظلل ليبقى فيه، ومن ذلك مسجد نمرة، ومسجد نمرة مقدمته الأولى -نحو ثلثه أو أكثر -ليست داخل عرفة، وبعض الناس يدخل المسجد ويأتي مبكراً ويبقى في الصفوف الأولى في المكيف وفي الظلال ويبقى إلى غروب الشمس وهو خارج عرفة، ولم يدخل عرفة أصلاً، فعلى الناس أن يتنبهوا إلى هذا ويحذروا منه.
- انشغال الناس بالكلام، وإهمالهم للدعاء والذكر.
- الدفع من عرفات قبل غروب الشمس: والصحيح أن من جاء إلى عرفات قبل غروب الشمس لا يخرج منها إلا بعد غروبها، أما من كان له عذر وما استطاع أن يأتي فجاء في الليل فالصحيح أن حجه صحيح إن شاء الله.
- ارتكاب المحرمات والمعاصي في عرفات وفي تلك المواطن، في الصعيد العظيم، في الاجتماع الحاشد، وتجد بعض الناس يفعلون ويقولون أموراً عجيبة.
في يوم عرفة يبقى الذكر والدعاء، حتى إذا انتهى من غروب الشمس دفع إلى مزدلفة، وليس في مزدلفة إلا المبيت بها، والمبيت هو النوم بالليل، وهو واجب عند المذاهب الثلاثة، وسنة عند أبي حنيفة، والمبيت بمزدلفة واجب، ومن تركه فعليه دم، ورخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والضعفة وللذين يخدمون الناس في السقاية وكل ما يحتاجون إليه في حجهم؛ فرخص لهم في أن يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل؛ لأن من أقام في مكان أكثر من نصف الليل أصبح يعرف بأنه بات فيه، أي: إذا مضى أكثر الليل في مكان، فيقال: بات في هذا المكان، لكن من لم يكن عاجزاً، وليس عنده امرأة، وليست لديه حاجة، فيبقى إلى أن يصلي الفجر ويسفر الصبح، ويذكر الله عز وجل عند المشعر الحرام أو في مزدلفة، ويكثر من الدعاء حتى يسفر الصبح، يعني: حتى يبدأ النور يطلع، ثم يذهب إلى منى يوم العيد.
- أما جمع الحصى فليس شرطاً أن يجمع الحصى مرة واحدة للأيام كلها، فإن جمع فلا بأس، لكن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع حصيات رمى جمرة العقبة، فمن تيسر له أخذ الجمرات كلها لا بأس، ومن لم يتيسر له ذلك فيأخذها من منى في طريقه.
والحصاة تكون صغيرة بين الحمصة والبندقة، وبعض الناس يبالغون في التكبير، والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى الغلو في هذا، وقال لما جمع له الحصى: (بمثل هذا، وإياكم والغلو في الدين)، لماذا؟ لأن بعض الناس يتشددون فيما لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.(66/25)
أخطاء الحاج في مزدلفة
- الإسراع وقت الدفع إلى مزدلفة من عرفات، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (عليكم السكينة، عليكم السكينة، فإذا وجد فرجة نصّ)، يعني: أسرع قليلاً، فالأمر الذي يقع فيه كثير من الناس: أنهم أول ما يصلون إلى مزدلفة يبدءون بجمع الحصى، والذي ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن أول فعل فعله عند وصوله: أداء صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، فلا ينبغي تقديم شيء على الصلاة، حتى أنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يضع رحله وقبل أن ينزلوا نزولاً كاملاً أذنوا وصلوا، فينبغي للإنسان أن يجتهد.
- الاستعجال بالصلاة من غير تحرٍ للقبلة، وبعض الناس في مزدلفة يصلون -والعياذ بالله- إلى قبلات مختلفة من دون تحرٍّ لذلك، مع أن اللوحات الإرشادية موجودة ما بين مزدلفة ومكة.
- الاعتقاد بوجوب التقاط الحصيات كلها: وهذا ليس صحيحاً.
- أداء صلاة الفجر قبل دخول وقتها، وترى من ذلك عجائب، فترى الفجر يمتد من نصف الليل، وبعض الناس يستيقظ من منتصف الليل فإذا رأى من يصلي صلى دون أن يتحرى هل دخل الوقت أو لا؟ فيقع الخلل من الناس في هذا الأمر بشكل عجيب.
- الانشغال بالصلاة، والقيام ليلة المزدلفة، لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مزدلفة لم يقم الليل، ولم يصل بالليل صلاة التهجد، أو صلاة النفل والتطوع، باستثناء الوتر، والكمال في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم.
ولو أردنا أن نلتمس حكمة عدم التطوع في تلك الليلة: نم فإن وراءك غداً يوم العيد؛ فيه رمي وحلق ونحر وطواف وسعي وعمل حتى تتقوى على طاعة الله وعبادة الله، فهذا من حكمة فعله عليه الصلاة والسلام.
- تأخير الدفع من مزدلفة: بعض الناس يبقى إلى الساعة العاشرة والحادية عشرة ثم يخرج، ولو استطاع أن يتابع السنة فهو الأوفق له بإذن الله عز وجل.(66/26)
أعمال اليوم العاشر في الحج
اليوم العاشر هو اليوم الحافل بأعمال الحج: يوم النحر يوم العيد.
أولها: رمي جمرة العقبة.
وهذا من حيث الترتيب، يبدأ برمي جمرة العقبة.
والسؤال هو: هل النساء والضعفة الذين تقدموا وخرجوا بعد منتصف الليل، هل يجوز لهم الرمي قبل الفجر؟ الصحيح أنه يجوز لهم ذلك، وقد ثبت ذلك من فعل أسماء رضي الله عنها، وكذلك وردت روايات في هذا صحيحة من فعل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر فيه سعة إن شاء الله.
أما بالنسبة للذي يبيت بمزدلفة إلى الصبح: فله من الوقت متسع من فجر يوم العيد إلى غروب الشمس وما بعده، فيرمي متى شاء، والأمر في هذا واسع.
ثانياً: الهدي أو الأضحية فمن كان عليه هدي كالمتمتع، أو كان يريد أن يضحي تطوعاً فمن يوم النحر تبدأ مشروعيته، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بمائة من الإبل ونحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين ناقة، ثم أعطى علياً فأكمل ذبحها، وهذا من سنته عليه الصلاة والسلام.
ثالثها: الحلق أو التقصير وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين)، فهم في الدرجة الرابعة.
ومن حكم هذا الحلق: أنك تقول: كل شيء من الزينة والبهاء أتركه وأتخلى عنه ابتغاء مرضاة الله، واتباعاً لأمره، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: طواف الإفاضة وهو ركن، فهذا الذي قد طاف وسعى مع عمرة -المتمتع- عليه طواف وسعي آخر، والذي طاف وسعى مع القدوم -المفرد- ليس عليه سعي.
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ويقع في يوم النحر، لكنه ممتد إلى آخر أيام التشريق، ولمن له عذر كامرأة حائض إلى آخر أيام الحج، أو مرض شخص ولا يستطيع أن يؤدي الطواف حتى يبرأ فيطوف؛ لأنه ركن لا يترك بحال من الأحوال، لذلك الأصل فيه أن يبادر لأدائه في يوم النحر إن استطاع، أو في أيام التشريق؛ لأنه يترتب على فعله التحلل الأكبر.
سعي الحج: إذا طاف سعى معه سعي الحج، وهو ركن أيضاً؛ فعندنا: الإحرام، الوقوف بعرفة، ثم يطوف الإفاضة ويسعى؛ فيكون قد أتم الأركان كلها.
إذاً: طواف الإفاضة إن أداه في وقته بقي عليه طواف الوداع، والسعي إن كان قد قدمه فلا سعي عليه، وإن لم يقدمه فهذا مكانه الصحيح، أو مكانه الذي ثبت فعل النبي عليه الصلاة والسلام به.
وهذه الأعمال إن فعل ثلاثة من أربعة، أو اثنين من ثلاثة بالنسبة لمن ليس عليه هدي: تحلل التحلل الأول، فمن كان متمتعاً: إن رمى وحلق وذبح تحلل التحلل الأول، أو إن رمى وطاف وحلق تحلل ثلاثة من الأربعة، ومن ليس عليه هدي: يتحلل التحلل الأول.
ما هو التحلل الأول؟ بعده كل محظورات الإحرام تصبح حلالاً ما عدا ما يتعلق بالنساء، فيلبس ثوبه، ويتطيب، ويلبس المخيط، ويغطي رأسه، ويقلم أظافره، ويفعل كل المحظورات ما عدا عقد النكاح أو الجماع أو مقدماته، وإذا أدى الأمر الرابع وهو طواف الإفاضة أو غيره أصبح حلالاً، وبعض الناس لا ينتبه لذلك، ويظن أنه تحلل من كل شيء، ولا يعلم أنه ما لم يتم هذه الأعمال يبقى تحلله ناقصاً، ولذلك بعض الرجال تكون امرأته تأخرت في طواف الإفاضة لعذر وتنزل مثلاً إلى جدة، فلا ينتبه ويعاشر زوجته وهي لم تتم طواف الإفاضة وليست حلالاً ولا يجوز لها ذلك، أو قد يكون هو أيضاً لم يطف؛ لأنه انشغل بها أو نحو ذلك.
فينتبه الناس لهذا ويهتمون به ويحرصون عليه.(66/27)
رمي جمرة العقبة
هي أول الأعمال؛ فالسنة أن يجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويرمي بسبع حصيات جمرة العقبة، وهذا من الواجبات، ومن تركه نهائياً فعليه دم، لكن الرمي كله محله أيام التشريق، فمن فاته رمي جمرة العقبة فالصحيح أنه يجوز له أن يقضيه في اليوم الثاني أو الثالث.
أما من فاته رمي الأيام كلها؛ لأنه تعب أو مرض فيجوز له أن يرمي الأيام الثلاثة كلها في آخر يوم، فيرمي ويقضي عما سبق، وهذا من السعة في دين الله عز وجل.
وأما وقتها فيبدأ من منتصف الليل ويستمر إلى الغروب.
تنبيهات وأخطاء: الاعتقاد أنه يرمي الشيطان، ويأتي بالأحذية ونحوها ويقذفها في الحوض وهذا ليس من دين الله عز وجل في شيء.
أيضاً: الرمي بشدة، والصراخ، والبعد عن السكينة.
وهذه عبادة، صحيح أنها رمي حجار لكنها عبادة، ولها أصل، ولها قصة معروفة في سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
- التكبير: لأنه عندما يرمي يعلم أنها عبادة، والتكبير فيها مثل التكبير في الصلاة، وبما أنها عبادة وطاعة فلابد أن يستحضر فيها القلب، وأن تكون فيها سكينة وخشوع، ولذلك فإن من السنة أن يدعو بعدها.
- غسل حصى الجمار: لم يثبت هذا من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
رميها دفعة واحدة بداعي وجود الزحام، وهذا لا يصح، ويعتبر رمياً لحصاة واحدة، وعليه أن يكمل بعد ذلك ستاً؛ لأنه لابد من الرمي، وبعض الناس يدخل إلى قلب الحوض ويضعها، وهذا لا يصح، ولابد من الرمي وهو كاسمه، وأن يضعها ويحرص على أن تكون في حوض المرمى وليس في الشاخص المبني، هذه أيضاً مسألة مهمة، وهي الرمي داخل الحوض.
- التوكيل في الرمي لمن لا عذر لهم: وبعض الناس يقول: أنا زوجتي وكلتني، وهي شابة في الثلاثين، وربما كانت أقوى من نصف الحجاج، لماذا يا أخي توكل؟ هذه عبادة، ولا تحتاج للتوكيل، بل تتأخر في الوقت وترمي بعد المغرب، الآن الوقت فيه سعة، وللفتوى المعروفة التي قال بها كل العلماء، ترمي أنت في الوقت المناسب، وتتفرغ في وقت المساء لتكون مع أهلك وزوجك أو أمك، لكن إذا كانت المرأة عجوزاً أو الرجل كبيراً في السن لا يقوى على المشي فلا بأس بأن يوكل، لكن بعض النساء توكل رغم قدرتها، وهذا لا يتناسب مع الحرص على العبادة.
- توكيل غير المحرم: مثل سائق أو من ليس حاجاً فتوكيله بالرمي لا يصلح، فينبغي أن ننتبه.(66/28)
الأضحية والهدي للحاج
الأضحية هي العمل الثاني من أعمال يوم النحر، وليست واجبة، وإن ضحى يأخذ ثلثاً لنفسه، وثلثاً يهديه، وثلثاً يتصدق به.
هذا السنة، فإن تصدق به كله كما قد يحصل الآن بأن توكل جمعية خيرية فتذبح لك الأضحية فهو جائز.
وأيضاً الهدي بالنسبة للمتمتع: وهو شبيه بالأضحية، أما الفدية التي تكون ناشئة عن خطأ من الأخطاء، أو ترك واجب من الواجبات، أو ارتكاب محظور من المحظورات فهذه كلها لفقراء الحرم، والآن الفتوى توسعت بأن يعطى فقراء الحرم، وما فاض يوزع للمسلمين في البقاع المختلفة.(66/29)
الحلق والتقصير
الحلق: أن يحلق كل رأسه، ويسن للحاج أن يبتدئ باليمين، ويكون الحلق بالموسى حتى يكون هذا هو الحلق المقصود والمذكور في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
التقصير: عليه أن يعمم بالتقصير سائر الرأس ما استطاع، ويقولون: يأخذ بقدر أنملة الأصبع، يعني: قدراً قليلاً، لكن لا يأخذ من جهة واحدة فقط، بل يعمم رأسه أو يحلق الحلاقة العادية التي تقصر الشعر كله، أما المرأة فإنها تأخذ جزءاً من شعرها أو من ظفيرتها، ويغنيها ذلك عن أن تأخذ من سائر شعرها، ولا تحتاج إلى هذا، وليس مشروعاً في حقها.(66/30)
طواف الإفاضة
طواف الإفاضة ركن من الأركان، وسعي الحج أيضاً ركن من الأركان، حتى يكمل أركان الحج كلها.
هذه الأعمال الأصل فيها أنها أعمال يوم النحر، والنبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن شيء في هذا اليوم قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج)، أي: أن الترتيب ليس مقصوداً، وهذا من رحمة الله، إذ لو كان الترتيب مقصوداً لحصل من ذلك مشقة عظيمة، فكل الناس لابد أن يرموا سوياً، ويطوفوا سوياً، لكن الآن توزع الناس على مدى أربع وعشرين ساعة: يرمون، ويطوفون، والذبح لا ينقطع، وهذه من سعة دين الله عز وجل ورحمته بعباده.
أما السعي فإنه ركن من الأركان.(66/31)
أعمال أيام التشريق
بعد يوم العيد عندنا أيام التشريق، وهي اثنان أو ثلاثة، اثنان بعد العاشر، الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر لمن بقي، لكن بعض الناس مع أعمال يوم النحر يظنون أن هذا يوم من أيام التشريق ويبقى اليوم الحادي عشر ويظنون أنه انتهى.
ما هي أعمال أيام التشريق؟ عملان اثنان لا ثالث لهما: المبيت بمنى، ورمي الجمار الثلاث في كل يوم.(66/32)
المبيت بمنى
بعض الناس ليس عنده مكان يبقى فيه في منى إلى ما بعد منتصف الليل فيذهب إلى مكة حيث سكنه أو أهله فلا بأس، لكن إن استطاع أن يبقى ويكون مع الحجاج فهو الأفضل، وحتى يشعر أنه في عبادة؛ لأنه دائماً يأخذ الرخص ولا يستحضر معاني التعبد وأداء الفريضة كما ينبغي.(66/33)
رمي الجمرات
يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى.
أما إذا كان عنده قضاء فيرمي هذه الثلاث، ثم يعود ويرميها مرة أخرى، وهذا الأتم، وأجاز بعض أهل العلم من المعاصرين، أنه إذا احتاج أن يرمي الثلاث في اليومين للصغرى ثم للوسطى ثم للكبرى فإن شاء الله لا حرج في ذلك، لكن المستطيع يرميها على الترتيب.(66/34)
سبب تسمية أيام التشريق
لماذا سميت أيام التشريق بهذا الاسم؟ لأنهم كانوا يأخذون اللحم فيجعلونه شرقاً، يعني: قطعاً صغيرة ثم يجفف ليؤكل على مدى الأيام الثلاثة دون أن يطرأ عليه الفساد، لحاجة الناس، وعدم وجود ثلاجات؛ فسميت لذلك أيام التشريق.
الأحكام في أيام التشريق: المبيت بمنى واجب، ومن تركه فعليه دم، الرمي للجمار الثلاث في هذه الأيام واجب، ومن تركه فعليه دم، هذه هي الأحكام المتعلقة بهذه الأيام.(66/35)
ملخص أعمال الحج
أولاً: من جاء متمتعاً يطوف ويسعى، أو جاء مفرداً ويريد أن يقدم سعي الحج فيطوف معه طواف القدوم.
ثانياً: ينتقل إلى المبيت بمنى في اليوم الثامن، وهو سنة.
ثالثاً: ينتقل منها إلى الوقوف بعرفة، وهو ركن.
رابعاً: المبيت بمزدلفة وهو واجب إلى الفجر، ثم ينتقل إلى منى لرمي جمرة العقبة، ولأداء الأعمال التي ذكرناها، ومنها: الذبح والرمي، ثم طواف الإفاضة وسعي الحج.
خامساً: رمي الجمار في أيام التشريق.
سادساً: طواف الوداع، وهو من واجبات الحج، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليكن آخر عهد الناس بالبيت الطواف).
وهنا مسألة مهمة تتعلق بالوقوف بعرفة: فالحاج إن لم يتمكن من الوقوف بعرفة إلا في الليل صح ذلك، ولو أدرك عرفة قبل الفجر ولو بقليل صح حجه إن شاء الله تعالى.(66/36)
الأسئلة(66/37)
من يجب عليه الإحرام
السؤال
رجل له زوجة تأتي إلى أهله، يعني: عندهم إقامة لكنهم في بلده، وسوف يأتون لتجديد الإقامة، وإن تيسر الحج سوف يذهبون فكيف يحرم؟
الجواب
من يجب عليه الإحرام من الميقات هو الجازم بنية النسك حجاً أو عمرة، أما القادم لتجديد الإقامة أو لزيارة شخص، أو لعمل، أو لعلاج، وهو لا يدري هل سيحج أو لا يحج، أو قد يتيسر الأمر أو لا يتيسر؛ فإن تيسر له وعقد العزم والنية وهو داخل المواقيت فيحرم حيث هو ولا شيء عليه، وهو أعلم بنيته: هل هو قادم للحج أو لا؟ لكن من له بيت هنا مثل حال هؤلاء الناس: هذه المرأة زوجها هنا، وهي مقيمة، وهو إذا عاد فإنه يعود إلى بيته وإلى بلد له فيها إقامة، فهو عائد إلى إقامته، وليس هو من الآفاقيين، فيصح إن شاء الله تعالى أن تأتي هذه المرأة أو الرجل إذا كانت زوجته هنا أو نحو ذلك فيأتي إلى إقامته، ولا شيء عليه إن شاء الله.(66/38)
حكم العمرة للمتمتع أيام الحج
السؤال
المتمتع من أهل جدة هل يصح له أن يأتي بعمرة في أيام الحج، ثم يرجع إلى جدة ويتحلل؟
الجواب
إن شاء الله لا بأس بذلك، وفيه خلاف، لكن ما دام دون المواقيت -إن شاء الله- فليس فيه شيء.(66/39)
حكم إعطاء المرأة مهرها للرجل ليحج عن نفسه
السؤال
امرأة ليس لها مال إلا مهرها، فهل يجوز أن تعطي المهر لزوجها ليقوم بالحج عن نفسه؟
الجواب
هذا أمر ليس مطلوباً على سبيل الوجوب.
أولاً: الله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، والرسول عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة فقال: (الزاد والراحلة)، فمن لم يكن مستطيعاً فليس عليه أن يذهب فيقترض، وهذه المرأة إن أعطت زوجها بطيب نفس منها ليحج عن نفسه فلا بأس، لكنها هي أيضاً يجب عليها الحج، إن قالت: أعطيه فيحج وهو إن شاء الله يكتسب ويعطيني مرة أخرى لا بأس، لكن للوجوب لا يجب مثل هذا على أحد.(66/40)
حكم تأخير طواف الإفاضة إلى الوداع
السؤال
أخرت طواف الإفاضة مع الوداع ولكن بنية طواف الإفاضة والوداع معاً، هل يصح الحج؟
الجواب
نعم يصح؛ لأنك نويت طواف الإفاضة، وطبيعي أنك ستكون مستحضراً أنه طواف الوداع، والتحذير الذي ذكرته متعلق بمن ينوي طواف وداع دون أن يستحضر طواف الإفاضة؛ لأنه إذا أخر فهو ينتبه لطواف الوداع وينسى أحياناً طواف الإفاضة.(66/41)
حكم تأخير طواف الإفاضة إلى آخر أيام التشريق
السؤال
ما حكم تأخير طواف الإفاضة إلى اليوم الثالث من أيام التشريق؟
الجواب
لا بأس به إن شاء الله تعالى.(66/42)
حكم تأخير طواف الوداع إلى العودة من جدة
السؤال
هل يمكن تأخير طواف الوداع إلى بعد العودة إلى جدة؟
الجواب
هذه مسألة تكلم فيها العلماء، قالوا: من ترك الحرم دون أن يطوف طواف الوداع؛ فإن خرج إلى مسافة دون القصر ودون المواقيت مثل جدة فيجوز له أن يرجع ويطوف ولا شيء عليه، وهذا قال به الشافعية وغيرهم، وهو قول معتبر رجحه النووي رحمه الله وبسط القول فيه، ولكن خذ الأكمل والأتم وطف طواف الوداع، فلا تدري: هل تبقى إلى اليوم الذي يليه أم لا؟ لكن من حيث الصحة: من احتاج ورجع إلى جدة فصحيح، لكن عليه المبادرة.
وأنا أخبركم عن نفسي: لم أفعل هذا إلا مرة واحدة في حياتي، فلم أؤد ذلك الطواف إلا بعد وقت أطول مما كنت أتصور، فإن الإنسان يسوف ويسوف فينبغي المبادرة في ذلك.(66/43)
التحلل الذي تحل به معاشرة النساء
السؤال
متى يحل معاشرة الزوجة في حال تأجيل طواف الإفاضة مع الوداع؟
الجواب
حتى يؤدي طواف الإفاضة، لو أخره إلى أيام التشريق، أو أخره إلى ما بعد أيام التشريق يبقى غير متحلل حتى يؤدي طواف الإفاضة.(66/44)
حكم المبيت في جدة والذهاب ليلاً إلى منى
السؤال
ما حكم المبيت في جدة والذهاب ليلاً إلى منى؟
الجواب
من حيث الجواز لابد أن يمضي نصف الليل فأكثر ليسمى بائتاً في منى أو مزدلفة، فإن فعل ذلك رجع إلى مكة أو جدة.
هذا من حيث الجواز والصحة جائز، لكن من حيث الكمال وعظمة الأجر: أخشى أنه لم يأت بما ينبغي أن يكون عليه.(66/45)
حكم حلق الرأس بعد الطواف والسعي لغير المعتمر
السؤال
عند طواف القدوم والسعي هل يحلق الرأس؟
الجواب
لا تحلق شيئاً إذا كنت غير معتمر، أما إذا كنت معتمراً لعمرة التمتع فتحلق، ثم في يوم العيد مرر الموسى مرة أخرى وهي حلاقة ثانية؛ فتنال أجرين، وبعض الناس يقصر في الأولى ويقول: أحلق في الثانية، أحلق في الأولى وفي الثانية إن شاء الله، لكن إذا كان طواف قدوم وسعي فبعض الناس يخطئون؛ لأنه تعود في العمرة دائماً أن يطوف طواف قدوم ويسعى سعي الحج مقدماً له في اليوم الثامن -مثلاً- قبل أن يذهب إلى منى، وبعد أن ينتهي من السعي يأتيه الناس بالمقصات فيقص وهو بهذا قد وقع في محظور؛ لأنه محرم ولن يتحلل الآن، سوف يذهب إلى منى ويكمل حجه، فلا ينبغي له أن يتحلل.(66/46)
حكم نسيان طواف الوداع
السؤال
امرأة حجت قبل سبع سنوات، وعملت جميع أركان الحج ما عدا طواف الوداع؟
الجواب
تذبح دماً ولا شيء عليها؛ لأن طواف الوداع واجب إن شاء الله.(66/47)
حكم النيابة في رمي الجمرات
السؤال
هل يجوز للزوج رمي الجمرات نيابة عن زوجته لمرضها؟
الجواب
أما لمرضها فلا بأس.
أما بسبب الزحام فلا.
ففي أوقات ليس فيها زحام يرمي هو في الوقت المعتاد، ويترك زوجته يتفرغ لها ويكون في حمايتها ورعايتها في وقت ليس فيه زحام.(66/48)
ما تجوز فيه النيابة من أعمال الحج
السؤال
هل هناك أعمال يستطيع الزوج القيام بها نيابة عن زوجته؟
الجواب
بعض الناس يبالغون فيكاد يكون حج عنها وهي موجودة، إذاً: تبقى في بلدها وهو يطوف عنها ويسعى وينتهي الأمر، فلا ينبغي المبالغة في هذا، والنساء خاصة الشابات عندهن قدرة وقوة، فتختار وقت الطواف المناسب، ووقت السعي المناسب، والله عز وجل ييسر للإنسان، والحج جهاد النساء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)، الحج جهاد النساء، فكيف تريد أن تكون مجاهدة وهي نائمة وشاربة وطاعمة دون أن تبذل جهداً.
هذه بعض الأمور التي ليست داخلة في الحج مباشرة.(66/49)
حكم البقاء في مكة للمتمتع
السؤال
هل يلزم المتمتع البقاء في مكة بعد تحلله من العمرة؟
الجواب
ليس لازماً، لكن الأصل أن يكون دون المواقيت، ولو خرج خارج المواقيت فهناك خلاف بين العلماء: هل يحتاج إلى إحرام جديد أم لا؟(66/50)
حكم الإحرام لأهل جدة من مكة
السؤال
ما حكم الإحرام لأهل جدة من مكة؟
الجواب
قال العلماء: إن ميقات أهل جدة ومن دون المواقيت من بيته ومحلته، فإن خرج منها وأحرم من مكة أو من داخل الحرم فهو كمن ترك الإحرام من الميقات وتجاوزه؛ فيكون متجاوزاً لميقاته وعليه دم، فيما ذكر أهل العلم في قول كثير منهم.(66/51)
حكم من شك في وقوع الحصاة في الحوض
السؤال
لو حدث شك في إحدى الحصوات أنها لم تقع في الحوض؟
الجواب
يرمي بدلاً منها، لكن من غير وسوسة؛ وبعض الناس قد يرمي سبعين حصاة، وهو ما زال، وإنما يكون التعبد بغلبة الظن، إذا رميت الحصاة وغلب على ظنك أنها في مكانها الصحيح انتهى الأمر، لكن لو جئت ترميها وجاء من دفعك من الجهة الأخرى وعرفت تماماً أنها لم تقع؛ فارم بدلاً منها، ولا بأس إن شاء الله.(66/52)
حكم المخيمات الخارجة عن منى
السؤال
ما حكم المخيمات الممتدة خارج منى؟
الجواب
أفتى العلماء بأنه إذا اتصلت الخيام، وكان الحجاج موجودين فهي امتداد لمنى، ولا حرج في ذلك، ولا ينبغي التشدد في ذلك؛ لأن منى أصلاً ملأى ولا مكان فيها أصلاً.(66/53)
حكم تكرار العمرة في أشهر الحج
السؤال
رجل اعتمر في أشهر الحج أكثر من مرة، وهو لا ينوي أن تكون عمرة حج؟
الجواب
الصحيح أنه لا يلزم بذلك، لكن كان عليه أن يأتي بعمرة في أشهر الحج وهو ينوي الحج، إلا إذا نوى تمتعاً، لكن إن اعتمر ولم يكن ناوياً الحج ثم حج، فليس هذا بتمتع، ولا يلزمه أن يكون متمتعاً.(66/54)
حكم الطواف قبل الرمي
السؤال
كنت مع والدتي ووكلتني في الرمي، وطفت القدوم والسعي يوم الثامن، وأخرت الإفاضة مع الوداع، وعجلت لوالدتي وتأخرت أنا،
و
السؤال
قدمت الإفاضة والوداع، ثم ذهبت منى للرمي؛ فهل هذا صحيح؟
الجواب
يعني أن والدته طافت ورجعت إلى منى، وبقي عليها رمي، الأصل أن هذا يقع طواف إفاضة، ويجب عليها طواف وداع، وإن لم تؤده فيجبره بدم إن شاء الله ولا شيء عليه.(66/55)
حكم طواف القدوم للمفرد
السؤال
هل على المفرد طواف القدوم؟
الجواب
يمكن أن يذهب إلى منى مباشرة وهو محرم، ثم يطوف ويسعى في يوم العيد وما بعده.(66/56)
طواف القدوم للمعتمر
السؤال
هل على المعتمر طواف القدوم؟
الجواب
المعتمر إذا جاء في العمرة فيطوف ويسعى، وطوافه للعمرة هو طواف قدوم؛ لأنه عندما قدم إلى البيت أول شيء سيفعله هو الطواف.(66/57)
حكم الإحرام من جدة لغير المقيم بها
السؤال
ما حكم الحاج إن قدم من الرياض أو تبوك، ثم أقام لفترة في جدة وأحرم منها أو من مكة؟
الجواب
لا يصح ذلك إذا كان قدومه لنية الحج أو العمرة، لكن إن قدم لعلاج أو لمراجعة في دائرة حكومية، ثم نوى العمرة أو الحج بعد أن لم يكن ناوياً، أو لم يكن جازماً بالنية ثم جزم بها وهو أعلم بنيته؛ فحيث ما نوى أحرم ولا شيء عليه.(66/58)
حكم وجود النجاسة في إحرام الحاج
السؤال
ما الحكم فيمن أصاب إحرامه نجاسة مع محاولة الإزالة بالماء، لكن بقي اللون، علماً بأن الحج كان حج الإسلام؟
الجواب
الأصل أن النجاسة هنا ليست متعلقة بالحج إنما هي متعلقة بالصلاة، فلو كانت في ردائه فينزع رداءه ويصلي ويلبس ثم يلبسه، وليس هناك حرج في أن يغير الإنسان الإحرام، وبعض الحجاج يظنون أنه إذا فك الإحرام بطل حجه، ولا يمكن أن يترك الإحرام بل يغتسل ويلبس إحراماً آخر، فمحظورات الإحرام هي ناحية معنوية، وليس منها أنك لا تفتح هذا الإحرام، أو يقولون: إذا وضعت الحزام أو الكمر فلا تنزعه إلا يوم التحلل.
فهذا ليس بصحيح.(66/59)
ميقات حديث الإقامة بالسعودية غير المستقر
السؤال
أين يكون ميقات من له إقامة في السعودية وكان قدومه قريباً، فهل يحرم من جدة كأهل جدة مع العلم أنه لم يحدد بعد مكان استقراره في هذا البلد؟
الجواب
إذا كانت نية الإقامة وهو في جدة، ثم نوى الحج يحرم من جدة ولا شيء عليه، حتى ولو عينته الشركة بعد ذلك في الطائف أو الرياض، حتى الآن مقامه في جدة، ولا يعلم هل له مقام غيرها ونوى وهو هنا لا شيء عليه.(66/60)
حكم العمرة بعد الحج
السؤال
أديت طواف الوداع ولم أسافر إلى اليمن، وبقيت في جدة، وبعد أسبوع ذهبت إلى مكة كي أعمل عمرة، فهل يجوز لي أداء العمرة؟
الجواب
يجوز إن شاء الله.(66/61)
حكم التكبير عند الحجر الأسود
السؤال
ما حكم التكبير عند الحجر الأسود؟
الجواب
مسنون.(66/62)
لزوم الهدي للمتمتع والقارن
السؤال
هل على المتمتع، أو القارن دم أو هدي؟
الجواب
المتمتع والقارن عليهما الدم.(66/63)
اختلاف الدم الواجب عند الهدي
السؤال
إذا وقع محظور فهل يجب عليه دم غير هدي التمتع والقران الواجب عليه، ويكون عليه هديان؟
الجواب
الهدي الخاص بنسك التمتع أو القران وحده، فإذا ترك واجباً من الواجبات، أو ارتكب محظوراً من المحظورات فعليه دم آخر، ثم جنس الواجب واحد، مثلاً: من ترك المبيت بمنى ليلتين هذا دم واحد، لكن إن ترك المبيت والرمي فدمان، دم عن الرمي ودم عن المبيت، الجنس الواحد عليه دم واحد، هذا إذا لم يؤدِ الدم، يعني: إذا لم يبت في منى، ثم ذبح عن هذا المبيت، وجاء في الليلة الثانية ولم يبت.
يذبح مرة أخرى، لكن إن ترك المبيت كله لأمر أو لعذر ثم أراد أن يذبح فيذبح عنه مرة واحدة.(66/64)
حكم حج من عليه دين
السؤال
هل يجوز حج من عليه دين، أم يلزم استئذانه من صاحب الدين؟
الجواب
إن كان الدين حالاً وصاحبه يطلبه به؛ فالدين أحق بالوفاء، ويقدم هذا الدين وليس عليه حرج، ولا يكلف بالحج لأنه ليس بمستطيع، لكن إن كان الدين غير حال كأن كان موزعاً على مدى سنة كاملة، وأنت عندك مال تحج به، وعندك مال سيبقى لتسدد دينك؛ فلا شيء عليك، أو أردت أن تحج واستأذنت صاحب الدين في أن يؤجل دينك عاماً وأذن بذلك فلا بأس، لكن ليس واجباً عليك الحج، وإنما الوجوب على من استطاع فقط.(66/65)
الحكمة من أن سائق الهدي لا يتحلل
السؤال
ما الحكمة في أن سائق الهدي لا يتحلل من إحرامه؟
الجواب
لأن سائق الهدي تعظيماً للبيت لا يحل من إحرامه حتى يذبح الهدي ويقدمه لله سبحانه وتعالى.(66/66)
الحكمة من الرمل والاضطباع
السؤال
لماذا يرمل الحاج ولماذا يضطبع؟
الجواب
هذه سنة ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (خذوا عني مناسككم) وديننا بالتعبد وليس بالعقل، كما قال علي: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه.(66/67)
حج الأنبياء قبل الإسلام
السؤال
هل ثبت أن عدداً من الأنبياء قد حجوا؟
الجواب
لا أعرف في ذلك ثبوتاً، لكن شريعة الحج من لدن إبراهيم عليه السلام، وبقيت حتى قبل الإسلام، وكان أهل الجاهلية يحجون، لكن كيف كان ذلك؟ وهل حج هود أو صالح، ما الذي سيفيدنا هذا؟ ليس هناك نص فيما أعلم عن هذا.(66/68)
حكم دخول مكة والإحرام منها في اليوم الثامن
السؤال
كثير من الناس يذهبون بملابس عادية قبل الحج بيومين أو ثلاثة بدون نية ولا تلبية، وإذا جاء اليوم الثاني يدخل في النسك، ثم يصوم ثلاثة أيام، خاصة الذين ليس لديهم ترخيص؟
الجواب
هذا الفعل منه مخالف، وعليه ما يترتب عليه من ترك الميقات للآفاقي، وعليه دم، وإن لم يستطع الدم فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع للآية، لكن هناك مسألة يذكرها أهل العلم من العلماء المعاصرين وهي أن هذا الأمر فيه مخالفة لأمر من ولي الأمر بني في الأساس على مراعاة المصلحة، وتوفير الفرصة للمسلمين، فلا ينبغي أن يتحايل عليه، لكن من وقع منه ذلك فتنطبق عليه الأحكام التي أشرنا إليها.(66/69)
صحة ما ورد من أن آدم لقي حواء في عرفات
السؤال
هل ورد أن آدم عليه السلام تعرف على زوجته حواء في عرفات؟
الجواب
أظن أننا لم نكن في ذلك الوقت موجودين، فليس لنا شأن بهذا، يوم عرفة هو يوم مصغر من يوم القيامة، هو تذكرة وعبرة؛ لأن الناس يكونون مجردين من ملابسهم، ليس هناك أمير ولا حقير، ولا غني ولا فقير الناس كلهم سواسية في ذلك الوقت يطلبون رحمة الله ويرجون مغفرته، وكلهم في صعيد واحد عليهم أشعة الشمس لتذكرهم بيوم الحشر العظيم، وإن كان الفارق كبيراً.(66/70)
أدعية يوم عرفة
السؤال
ما هي أفضل الأدعية ليوم عرفة؟
الجواب
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)، وهذا دليل على أهمية قضية التوحيد في الحج؛ لأن الحج كله شعار التوحيد، بدأ من قصد الكعبة والتلبية التي فيها: لا شريك لك لبيك، وبدأ من التوحيد والتكبير الذي يظهر في كل مناسك الحج؛ لأن الحج هو تأكيد على معنى التوحيد والإخلاص لله، ونفي الشركاء في كل الأحوال، وإظهار التعبد والخضوع لله سبحانه وتعالى وحده دون ما سواه؛ فأنت تبذل مالك، وتذبح هديك، وتضني جسدك كله لله عز وجل، وتقول بلسانك: لا شريك لك لبيك، وتؤكد هذا في آخر التلبية، وتقول: لا شريك لك، ثم بعد هذا نجد بعض الناس من غفلتهم وجهلهم، وبسبب سيطرة العوائد عليهم؛ مع ذلك يرجعون إلى بلادهم، ويأتون بأمور تناقض الإخلاص، أو تخالف التوحيد، أو يدخل فيها الرياء، أو يتلبسون بصور من صور التعلق بغير الله، أو التعبد لغير الله في أنواع مختلفة من العبادة، نسأل الله عز وجل السلامة والهداية لجميع المسلمين.(66/71)
حكم الحج لمن لا مال له
السؤال
ما حكم الحج على من ليس لديه المال؟
الجواب
من ليس لديه مال، وليس عنده قدرة على الهدي، يمكن أن يحج مفرداً ولا شيء عليه.
وبالمناسبة يسأل بعض الناس: لو أن إنساناً قال لك: تعال معي وحج على حسابي دون أن تطلب ذلك، ودون أن يكون منك تعرض له؟ لا بأس بذلك ويجوز، وبعض الناس يقول لك: لا بد أن تكون حجة الفريضة من مالك، وما قال أحد بهذا، وليس عليه دليل.(66/72)
توبة من رأى عورة محارمه
السؤال
رجل اطلع على عورات محرمة من بعض محارمه، فماذا عليه؟
الجواب
هذا ذنب حقه لله سبحانه وتعالى؛ فتستغفر الله عز وجل، نعني بالذنوب التي بينك وبين العباد: إن كنت ضربتهم، أو ظلمتهم، أو أخذت حقهم تعيده لهم أو تستسمحهم فيه.(66/73)
حكم تغطية المرأة لوجهها في الحج
السؤال
نرجو بيان مسألة تغطية المرأة للوجه كاملة ومفصلة؟
الجواب
ورد في الحديث الصحيح: (لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)، لكن إسدال الغطاء على الوجه من غير الملاصقة الدائمة أمر مشروع ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها أيضاً، والمسألة واضحة أن المقصود النوع المعين الخاص بالنقاب الذي يكون على الصفة المعروفة.
هذا نهي عنه في الإحرام، وجعل إحرام المرأة بوجهها وكفيها، وإن خالطت الرجال أسدلت على وجهها من غير الصفة أو الهيئة المعروفة في النقاب.(66/74)
حكم صيام بعض أيام عشر ذي الحجة للحاج
السؤال
هل للمتمتع أن يصوم بعض أيام عشر ذي الحجة بعد تحلله من العمرة، لما في ذلك من الأجر؟
الجواب
الأمر فيه سعة، وليس المقصود بالتحلل أن يفطر أو يصوم، إنما المقصود بالتحلل أن محظورات الإحرام حلال له، ويجوز له أن يتطيب ويمس الطيب ويعاشر أهله، ونحو ذلك.(66/75)
حكم رمي الجمرات للمتعجل
السؤال
من تعجل في يومين هل ينبغي له أن يرمي جمرات اليوم الثالث؟
الجواب
لا.
إذا رمى اليوم الثاني من أيام التشريق وخرج من منى فقد أتم حجه، وبعض الناس فيرمي لليوم الثالث، ويقول: حتى أتمم، والمقصود أن من كان قد نوى المبيت وجلس إلى غروب الشمس لا يصح له بعد ذلك أن يخرج إلا أن يبقى إلى اليوم الثالث ثم يرمي، لكن إن عزم على الخروج ثم أعاقه عائق أو زحام السيارات فليس عليه شيء حتى وإن أدركه الغروب بمنى.(66/76)
حكم النيابة في الرمي للمستطيع
السؤال
في أعوام مضت حج رجل وزوجته ورمى عنها، وهي قادرة، وخاف عليها الزحام؟
الجواب
ليس عليها شيء، والحج صحيح إن شاء الله، وإن حجت مرة أخرى فدعها ترمي بنفسها.(66/77)
حكم من خرج من منى يوم العيد وعاد في اليوم الحادي عشر
السؤال
حكم من نزل إلى جدة يوم العيد ولم يرجع إلى منى إلا في اليوم الحادي عشر؟
الجواب
يحسب ما الذي تركه من الأعمال والواجبات عليه وفيها دم، أما الرمي فيستطيع أن يقضيه، لكن إن لم يكن له عذر فلا ينبغي أن يفعل مثل هذا.(66/78)
حكم الحلق والتقصير لمن أراد الأضحية
السؤال
هل الحلق والتقصير لمن أراد الأضحية محرم أو مكروه؟
الجواب
مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام التي وجه إليها.(66/79)
حكم ربط الإحرام بالمشابك أو الأزرار
السؤال
ما حكم من يربط الإحرام بالمشابك أو يجعل له إزاراً؟
الجواب
ليس فيه حرج، لكن لا يستخدم المخيط، ولا يربطه بمخيط.(66/80)
موسم الأجر في الأيام العشر
لقد خص الله سبحانه وتعالى بعض الأمكنة والأزمنة بفضائل ومزايا، حيث ضاعف فيها الأجر والثواب، ومن هذه الأزمنة التي خصها الله بفضائل: العشر الأول من ذي الحجة، فقد جعل الشرع الأعمال الصالحة فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله، فعلى العبد أن يكثر فيها من الأعمال الصالحة، كالصلاة والزكاة والصوم والصدقة وغيرها؛ حتى ينال الأجر الكبير، والجزاء الوفير من الله العلي الكبير.(67/1)
لا تخصيص إلا بتنصيص
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى على نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة، ونسأل الله جل وعلا المزيد من فضله، والعظيم الجليل من نعمه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن اتبع هداه، وعلى من سار واقتفى واهتدى بهداه عليه الصلاة والسلام.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا لقاؤنا المتجدد معكم في يوم الجمعة الموافق التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة عام (1418هـ) مع الدرس الثاني والستين بعد المائة الأولى، وعنوان درس هذا اليوم: عشر ذي الحجة مسائل وفضائل.
ونحن نقارب توديع هذا الشهر شهر ذي القعدة، ونستقبل خلال يوم أو يومين شهر ذي الحجة، نقف مع هذه الأيام الفاضلة لنرى بعض فضائلها والأعمال الواردة فيها، وبعض المسائل التي ذكرها أهل العلم بشأنها.
وأول ما نبدأ به مسألة مهمة: لا تخصيص إلا بتنصيص: فجعل خصوصية لزمان بعينه أو لمكان بعينه أو لقول بلفظه أو لعمل بخصوصه، ليس له سبيل ولا مدخل إلا عن الله عز وجل وبتبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يخص من الأزمنة زماناً ويدعي له فضلاً أو ينسب له مزايا، فإن هذا ليس لأحد من الخلق، قال الحق جل وعلا: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فالاختيار والتخصيص حق لله سبحانه وتعالى، به فرق الله عز وجل بين بعض بقاع الأرض وإن استوت في طبيعتها، فكلها واحدة وطبيعتها واحدة، لكن الله جل وعلا فضل بعضها على بعض، وجعل لمكة وللمدينة من الفضيلة والأجر والثواب ما ليس لغيرهما، وفضل من الشهور رمضان، وفضل من الأيام أياماً سيأتي ذكر بعضها كيوم النحر ويوم عرفة وغير ذلك، وفضل في الأزمان أزماناً بعينها، فجعل وقت السحر والثلث الأخير من الليل فاضلاً على غيره من سائر أوقات اليوم: (وجعل في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن فيسأل الله شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا آتاه الله إياه) كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يدل أيضاً على هذا التخصيص أنه لا يكون إلا بتنصيص، أنه قد تكاثرت النصوص بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لفضائل معينة، فجاءت فضائل كثيرة في فضل يوم الجمعة، ووردت أيضاً خصائص لبعض الأيام كهذه الأيام التي نحن بصدد الحديث عنها، وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تفضيل أقوال بعينها كما في حديث أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها التي كانت تذكر الله عز وجل، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من عندها ثم رجع وهي ما زالت في مجلس ذكرها فقال: (أما زلت على ما كنت عليه حين فارقتك؟! قالت: نعم، فقال: لقد قلت آنفاً كلمات تعدل ذلك كله: سبحان الله وبحمده: عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأقوال فضيلة بعينها.
وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام تخصيص أذكار بعينها، لأدواء بعينها، فذكر للأرق، وذكر عند الهم والغم ونحو ذلك، فكل هذا التخصيص كله جاء بتنصيص يدلنا على هذا.
وقد ورد إبطال تخصيص سابق أو تخصيص منفرد جاء النبي عليه الصلاة والسلام فأبطله وغيره، مما يدل على أنه ليس لأحد مدخل في ذلك إلا بتبليغ الشارع الحكيم، فقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ولهم عيدان فأبطل ذلك وقال: (لنا أهل الإسلام عيدان) فخص ذلك وأبطل ما سواه.
وكذلك كان لهم في بعض الأيام أعمال، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة وهم يصومون عاشوراء مع اليهود فقال: (نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه) فهذا كله يدل على أنه لا تخصيص إلا بتنصيص.
وقد وقع الناس في الخلل عندما لم تفهم هذه المسألة، ولم يلتزم بعض المسلمين بها، فصار بعضهم يأتينا بقول من عنده، فقائل بفضيلة معينة في ليلة الإسراء والمعراج، وقائل بفضيلة بصيام في أول رجب أو في أثناء رجب، وقائل بفضيلة لمكان معين أو مزار معين أو قبر معين أو غير ذلك، ولي في ذلك كله آية من كتاب الله ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتنادون له ويجتمعون عليه، فتعظم بذلك الفتنة، وتنتشر البدعة، وتضعف السنة.
وقد كان السلف رضوان الله عليهم يشددون النكير في هذا، ويحذرون منه أشد التحذير؛ لأنه يتناقض مع إكمال الدين وإتمام النعمة والرضا بالإسلام، والزيادة -أيها الإخوة الأحبة- كالنقص؛ لأن ادعاء الزيادة في دين الله عز وجل اتهام -والعياذ بالله- بنقص الدين، جاء هذا فزاد عليه أو استدرك وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما آتاه الله إياه، وهذه مسائل خطيرة يتهاون بها بعض الناس، ويظنونها أمراً هيناً، وهذه قصة للإمام مالك رحمه الله لما جاءه السائل وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن ميقات أهل المدينة فأخبره، فقال الرجل وهو منصرف: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك: إنها والله الفتنة، فعاد الرجل وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله؟! إنما هي أميال أزيدها، أحرم من المدينة فتزداد مسافتي وأنا محرم فأنال الأجر، قال: الفتنة أن تظن أنك تعمل عملاًَ تفضل فيه رسول الله صلى لله عليه وسلم، ونحن نعلم أنه قد بلغنا كل شيء عليه الصلاة والسلام، ودلنا على الفضيلة في كل عمل وفي كل وقت وفي كل مكان، فالزيادة في مثل هذا طعن في بلاغه عليه الصلاة والسلام وجحد أو إنقاص لنبوته صلى لله عليه وسلم.
فلينتبه لهذا خاصة وأنه قد انتشر في بعض البيئات والبلاد والمجتمعات الإسلامية.(67/2)
فضائل الأشهر الحرم
ننتقل إلى فضيلة عامة تتعلق بالأشهر الحرم، وبعد ذلك ننتقل إلى ما سواها من فضائل، الله عز وجل قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] هذه الحرم الأربعة هي الثلاثة المتتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الفرد؛ يسمونه الفرد لأنه منفرد عن هذه الثلاثة في تتابعها، وقد جعلت هذه الأشهر حرماًَ، وكل الأشهر يحرم فيها ما حرمه الله ويعظم فيها ما عظمه الله، ولكن كانت هذه عند الجاهلية معظمة لا يمسون فيها أعداءهم، ويمسكون فيها عن الاعتداء أو عن الحرب فيها ونحو ذلك، فجعلها الإسلام كذلك أشهراً معظمة محرمة في جملتها، ولا يضاف إلى ذلك شيء لم يكن داخلاً في عموم التشريع من الإسلام، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأله سائل عما يصومه بعد رمضان فقال: (صم من شهر الله المحرم).(67/3)
فضائل أيام العشر الأول من ذي الحجة
وردت روايات كثيرة في عموم تفضيل أيام العشر من ذي الحجة التي نحن بصدد استقبالها، وقد ورد تفضيلها وتعظيمها في قول الله عز وجل {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3] إلى آخر الآيات.
قال ابن كثير في تفسيره: (والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة) كما قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس مرفوعاً: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام) يعني: عشر ذي الحجة.
وروى البخاري عن ابن عباس تعليقاً: (أن المراد بالعشر عشر ذي الحجة) وقد ذُكرت أقوال أخرى منها: أن المراد بالعشر هي العشر الأول من محرم ذكره ابن جرير كما قال ابن كثير ولم ينسبه لأحد، ومنهم من قال: هي العشر الأول من شهر رمضان، والصحيح هو القول الأول الذي عليه الدلالات، وقد ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العشر عشر الأضحى) قال المحقق: وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم عندي، والمتن في رفعه نكارة، لكن عموم ما ورد عن بعض الصحابة يؤيده، والقول الراجح والشائع عند جمهور العلم في شأن هذه العشر أنها عشر ذي الحجة.
وأما وجه التفضيل لها فهو أنها دخلت في القسم الرباني، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وما يقسم به الله عز وجل فهو عظيم شريف، فقسمه سبحانه وتعالى بما يقسم به إشارة إلى التعظيم والتشريف.(67/4)
فضل الأعمال الصالحة في هذه العشر
الفضيلة المشهورة لهذه العشر ما ورد في الحديث الذي خرجه البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- يعني: أيام العشر الأول من ذي الحجة - قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) أي: خرج بنفسه وماله فذهب ماله وأزهقت روحه في سبيل الله عز وجل، كما جاء في الحديث الآخر: (من أعظم الناس أجراً رجل خرج بماله وفرسه، فذهب ماله، وعقر فرسه، وأزهقت روحه، كل ذلك في سبيل الله) فهذا استثني من ذلك، ولنا مسائل في هذا الاستثناء.
هذا الحديث هو أجل وأظهر وأعظم حديث في فضيلة العشر، وهو حديث في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة المشهورة، ووجه عظمته؛ لما ورد فيه من الإطلاق الذي لم تستثن منه إلا صورة محددة بعينها، نادرة في وقوعها، قليلة في حدوثها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: ما من يوم من الأيام في كل العام أو في سائر العام العمل الصالح يكون فيه أفضل من هذه العشر، فهو تفضيل فيه معنى الإطلاق، وفيه معنى الشمول.
وأما كونه عظيماً فلكونه فضل على الجهاد، وهو عمل كلنا نعلم فضيلته، وقد عده بعض أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام؛ لأن به تحفظ الأركان الخمسة ويسعى لنشرها، ويذاد عنها، قال بعض الشراح: إذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيها وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ومعنى ذلك: أن العمل المفضول الذي رتبته أقل يمكن أن يصبح هو الأفضل عندما يؤدى في هذه الأيام؛ لعموم فضيلتها، وعظمة فضيلتها كما أشرنا، وتأكيد هذا التفضيل بالمقارنة بالجهاد.
وسؤال الصحابة رضوان الله عليهم يدل على عظمة الجهاد وعظمة مثوبته: (فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد؟) فالجهاد عندهم من أعظم الأعمال أجراً، فاستعظموا أن تكون فضيلة هذه الأيام أعظم، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام (أي الجهاد أفضل؟ فقال: من عقر جواده، وأهريق دمه)، فصاحبه أفضل الناس درجة عند الله.
وكذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يدعو ويقول في دعائه: (اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال عليه الصلاة والسلام: إذن يعقر جوادك وتستشهد) فهذا هو العمل الذي استثني على وجه الخصوص.
وقد ورد في الحديث بعض روايات أخرى في بعضها مع صحتها مزيد من الفوائد، وفي بعضها مع ضعفها تنبيه على ما قد يمر بالإنسان من رواية غير مقبولة عند أهل العلم، من هذه الروايات ما ذكر في مسند الإمام أحمد من ذكر بعض الأعمال التي على الإنسان أن ينشغل به في هذه العشر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن عمر في مسند الإمام أحمد (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
وقد ورد أيضاًَ زيادة في رواية ابن عباس وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة) ولكن هذه الزيادة إسنادها ضعيف.
وقد روي من حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بقيام ليلة القدر) وهذا حديث ضعفه أهل العلم ولم يصححوه.
وقد رويت آثار عن الصحابة في فضل العشر منها عن ابن عمر أنه قال: (ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر -يعني: باستثناء العشر- فإن العمل فيها يعدل عمل سنة) وهذه رواية عن صحابي.
ننتقل إلى فضيلة أخرى في ذكر عموم هذا الفضل مع تخصيصه، عن ابن عمر عند الإمام أحمد مرفوعاً: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر)، وأيضاً في صحيح ابن حبان من رواية جابر: (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة) وأيضا رويت زيادة في هذه الرواية: (ولا ليالي أفضل من لياليهن، فقال بعضهم: أهي أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قال: هي أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله، إلا من عفر وجهه تعفيراً، وما من يوم أفضل من يوم عرفة) أخرجه أبو موسى المديني وغيره، وفي بعض الروايات في مسند البزار عن جابر (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) وهذه الروايات في مجملها تشير إلى عموم الفضيلة دون فضيلة العمل.
لاشك أن فضيلة العمل في أيام العشر دليل على فضيلتها، ولكن هذه النصوص التي أوردناها تدل على إطلاق الفضيلة في زمانها وأعمالها وكل ما يلحق بها، حتى يكون فيها شيء من الخير والبركة بإذن الله سبحانه وتعالى.
وقد روي عن كعب أنه قال: (اختار الله الزمان، وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله شهر ذي الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول).
وقد روي هذا مرفوعاً ولا يصح رفعه.(67/5)
أحكام تتعلق بأيام عشر ذي الحجة(67/6)
حكم صيام أيام العشر من ذي الحجة
هناك فضيلة عامة في الأشهر الحرم، وفضيلة لشهر ذي الحجة، وفضيلة للعشر، ولكن العشر هذه فيها يوم عرفة، وفيها يوم النحر، فهناك خصوصيات وفضائل متكاثرة من فضل الله عز وجل علينا، ونذكر هنا مسألة صيام الأيام العشر على اعتبار أن الصيام من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأخصها: ورد عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) وفي رواية: (في العشر قط)، وهذا الحديث أوجد بعض الإشكال، ولذلك نعتبره مسألة للتنبيه، ذكر أهل العلم: أن صيام العشر فضيلة ثابتة لا شك فيها، وقد ورد إثبات صيامه في مسند الإمام أحمد عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر)، وقد ورد هذا الحديث أيضاً في سنن أبي داود وعند النسائي.
وورد في رواية صريحة عن حفصة رضي الله عنها عند النسائي في السنن أنها قالت: (أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة).
فهذا يدلنا على ثبوت ذلك عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع بين حديث عائشة وبين حديث حفصة بما يلي: أولاً: عائشة قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر)، فهل يدل ذلك على أنه لم يصم؟ هي أخبرت أنها لم تره عليه الصلاة والسلام، وأزواجه غيرها كـ حفصة قد أثبتت ذلك، هذا وجه من الوجوه، وهو وجه حسن.
ونقل ابن رجب عن الإمام أحمد أنه أجاب بأجوبة مختلفة، فقال مرة: هذا قد روي خلافه من غير عائشة، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة، فمعنى ذلك: أنه رجح حديث غير عائشة على حديثها.
ثانياً: المثبت مقدم على النافي، وهذا التوضيح مهم، قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً ومبيناً هذه المسألة: هذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل فيها أفضل منه في هذه الأيام) يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها: (لم يصم العشر) أنه لم يصمه على سبيل الالتزام الدائم، أو لم يصمه لعارض عرض له كالمرض أو نحو ذلك، وقد ذكر هذا النووي رحمه الله وأشار إليه ابن رجب في "لطائف المعارف" وغيرهما.(67/7)
حكم قيام ليالي العشر من ذي الحجة
مسألة أخرى: وهي مسألة قيام الليالي العشر من ذي الحجة، إذا قلنا صيام الأيام فتأتينا مسألة قيام الليالي في هذه العشر هل هو مستحب أو ورد فيه شيء؟ قال أهل العلم: إنه مستحب؛ لأنه من العمل الصالح ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؛ لأنه قد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة في جوف الليل، أو في دبر الليل الآخر) ونحن نعلم أن صلاة الليل فيها فضيلة وأجر عظيم، وأن وقتها فاضل لاسيما في الثلث الأخير من الليل، هذا على العموم، إضافة إلى أنه قد وردت رواية في هذا وهي وإن كانت ضعيفة؛ فإن بعضهم يتساهل في أحاديث فضائل الأعمال ما دامت تندرج تحت أصل من الأصول، بشرط ألا يكون الضعف فيها شديداً بمرة، ووردت بعض الأقوال عن العلماء كالشافعية في استحباب ذلك، وكان سعيد بن جبير وهو الراوي لحديث ابن عباس إذا دخلت العشر -يعني: الأول من ذي الحجة- اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر.
يعني: صلوا وقوموا فيها لله عز وجل، وكانت تعجبه العبادة فيها.(67/8)
الذكر في العشر من ذي الحجة
ما ينبغي أن يشغل الإنسان وقته في هذه الأيام الفاضلة من الأعمال؟ قالوا: أشهر ذلك الذكر، ودل عليه قول الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] وقوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] قالوا في الأيام المعلومات والمعدودات: إما عموم العشر أو خصوص أيام التشريق، وكل ذلك يدخل في عموم أيام العشر وما يتبعها؛ لأنها ذات صلة بها، وقد وردت رواية عن ابن عمر عند الإمام أحمد أنه قال فيها عليه الصلاة والسلام: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) فينبغي حينئذ أن يكثر من ذلك، وقد توسع أهل العلم في هذا، وبينوا أن المقصود لغير الحاج على وجه الخصوص التكبير مطلقاً؛ لأن ذكر الله عام، وورد في الحديث تخصيص هذا الذكر بالتهليل والتكبير والتحميد، وورد عن الصحابة رضوان الله عليهم ما يشير إلى مزيد من تخصيص التكبير؛ لأن بعض الصحابة كانوا يخرجون إلى الأسواق فيكبرون فيها، حتى يكبر الناس بتكبيرهم، ومن هنا ذكر أهل العلم اختلافاً وقالوا: هل يشرع إظهار التكبير والجهر به في الأسواق في العشر، فأنكره طائفة، واستحبه الإمام أحمد والشافعي، وخصه الشافعي برؤية بهيمة الأنعام إذا رآها، أي: بالأضحيات ونحو ذلك، والإمام أحمد يستحبه مطلقاً.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة (أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)، وأيضاً روي عن مجاهد أنه قال: (كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان الأسواق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك).
فهذا الذكر عموماً وهذا التكبير خصوصاً من الأمور التي ينبغي الانشغال بها والإكثار منها وإظهارها، والتكبير عموماً لغير الحاج آكد وأظهر، وأما للحاج فإنه مخصص ومقيد، فإنه إنما يأتي به في أعقاب التلبية، وإنما يشرع بعد الانصراف من عرفة ومزدلفة، وبعد رمي جمرة العقبة ينقطع من التلبية، ويبدأ ويشرع في الذكر وفي التكبير، وهو أيضاً للحاج خاص في أعقاب وأدبار الصلوات، أما غير الحجاج فالتكبير والذكر لهم مستحب مطلقاً في كل وقت بلا قيد بصلاة، وبلا قيد أيضاً بأيام بعينها، بل محله العشر كلها، وهذه أيضاً مسألة من المسائل.(67/9)
مسألة التفضيل بين الحج والجهاد
مسألة: قد يقال: ينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد، فإذا قلنا: إن العشر مفضلة على الجهاد إلا في حالة بعينها، فالحج أفضل من الجهاد؛ لأن موعد الحج في هذه العشر إحراماً وتمتعاً، ثم يوم الثامن والتاسع والعاشر، ويلحقها أيام التشريق، ولكن ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) فكأن هاهنا تعارضاً يحتاج إلى توفيق، وليس في الأمر إشكال، قالوا: التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج، والفرض في الحج أفضل من الفرض في الجهاد؛ لأن الحج إذا أديته في هذه العشر فهو فرض عين، أما الجهاد فهو فرض كفاية.
وأما التطوع بالجهاد فيكون في عمومه أفضل من الحج في خصوصه.
وأيضاً قالوا: يمكن الجمع من وجهين: الأول: أن حديث ابن عباس الذي معنا في فضيلة العشر صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع بنفسه وماله بشيء يفضل على العمل في العشر، فيمكن أن يقال: الحج أفضل من الجهاد عموماً إلا في هذا النوع من الجهاد، فيبقى كأن تقديم الجهاد على الحج مخصوص بنوع بعينه، وهو أعلى ذرا الجهاد، حيث يذهب بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك بشيء.
الثاني: وهو الأظهر كما أشار إليه ابن رجب يقول: إن العمل المفضول قد يقترن به ما يجعله أفضل من الفاضل في نفسه، فحينئذ الحج يقترن به ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل، فإن كان الحج مفروضاً فهو أفضل من التطوع بالجهاد؛ لأن الأعيان مقدمة على الكفايات عند جمهور العلماء، وقد روي هذا في الحج والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(67/10)
فضل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر على غيرها
مسألة: هل كل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر أفضل من جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته أم لا؟ بمعنى: عملك في العشر هل هو أفضل من عملك في ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً بقية العام أم أن العمل في العشر أفضل من عمل مماثل له في عشر غيرها؟ هذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الناس في الواقع المعاصر تأثروا ببعض الأمور غير الجيدة، لا أقول: هو تأثر كنسي، لكن فيه شبه، ومنها: افعل ما شئت ثم ائت في يوم معين واستغفر أو افعل كذا وانتهى الأمر، وكونه ثبت في الحديث الصحيح عن عمل أنه يكفر أو يغفر لا نشك فيه، وفضل الله عز وجل ورحمته أوسع، لكن الركون إلى ذلك أو الإسراف على النفس؛ ليس من شأن المؤمن، وهذا نوع من الكهنوت الذي عند النصارى، افعل ثم ائت واعترف أو خذ صك غفران كما يقولون! لكن ليس هذا في دين الله عز وجل.
المراد أن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها؛ حتى لا يلتبس علينا الأمر.
هذه العشر ينبغي أن تكثير فيها من الأعمال الصالحة باستمرار في جميعها لا في بعضها، وما دامت خصت بالفضيلة فإنه يقبح ترك الطاعة فيها، بل ويقبح فيها أعظم فعل المعصية.
المهم عملك في هذه العشر يفضل عملك في غيرها إن كان مماثلاً، أو كان في غيرها زائداً، فإن فضيلتها ترجح عن زيادة العمل في غيرها، لكنها ليست دليلاً على تفضيل ما فيها من العمل على تفضيل ما في كل الأيام بمجموعها، فهذا ينبغي أن يلتفت إليه، قال بعضهم: إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل مستغرقاً للأيام العشر كلها، فيفضل على الجهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر، وإن كان العمل مستغرقاً لبعض أيام العشر فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر، والمسألة عند الله عز وجل محسوبة، وينبغي ألا نكون متشعبين في هذا الأمر.(67/11)
التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان
مسألة مهمة: وهي أيهما أفضل هذه العشر أم الأواخر من رمضان التي فيها ليلة القدر؟ ذكر العلماء في ذلك أقوالاً، ومن ألطف ما قيل في هذا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله واستحسنه واستجاده تلميذه ابن القيم، وهو: أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر من عشر ذي الحجة؛ لأن تلك الليالي فيها ليلة القدر، وهي مخصوصة بعظيم من الفضل والأجر، وهذه الأيام في عمومها فيها هذه الفضيلة.
وبعضهم خصه بمسألة الفرائض، أي: أن المراد ما فعل في العشر من ذي الحجة من فرض فهو أفضل مما فعل في العشر الأواخر من رمضان، وهذا أيضاً قول من أقوال أهل العلم.(67/12)
فضل يوم عرفة
في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه لقي رجلاً من اليهود فقال له: يا أمير المؤمنين! آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً -انظر قوله: (لاتخذنا) فقد كان القوم يفعلون ما يشاءون باستحسانهم دون الوقوف عند حدود ما أنزل إليه من ربهم- فقال عمر رضي الله عنه: أي آية؟! فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم جمعة).
انظر إلى التنبيه على هذه الفضيلة من أنها نزلت في يوم عرفة يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم قائم بين الناس، ففيها إشارة إلى هذا.
أيضاً وردت فضائل في شأن يوم عرفة عظيمة، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فهذا فيه تفضيل وتعظيم، أي: أن ركن الحج الأعظم الذي لا يتم الحج إلا به هو وقوف عرفة.
أيضاً وردت فضيلة الصيام في يوم عرفة، فقد ورد من حديث أبي قتادة عن الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه سئل عن صيام يوم عرفة؟ فقال: كفارة سنتين: سنة ماضية، وسنة متأخرة) وروي مثله عن سهل بن سعد في مسند عبد بن حميد، ومثله أيضاً عن أبي سعيد الخدري في سنن ابن ماجة، وروي عن أبي قتادة أنه قال: (يكفر السنة التي قبله) وهي رواية عن عائشة في المسند.
وفي حديث عند الإمام مسلم طويل عن أبي قتادة يبين مثل هذا، ويشير إلى بعض الدلائل الأخرى، في هذا الحديث: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ فغضب -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- فقال عمر بن الخطاب: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وببيعتنا بيعة، قال: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل صام الدهر؟ فقال: لا صام ولا أفطر، أو: ما صام وما أفطر، قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم؟ فقال: ومن يطيق ذلك! قال: فسئل عن صيام يوم وإفطار يوم؟ فقال: ذاك صوم أخي داود، قال: فسئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: وددت أن الله قوانا لذلك، قال: فسئل عن صيام يوم الإثنين؟ فقال: ذاك يوم بعثت فيه، وولدت فيه، وقال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر، قال: وسئل عن صوم يوم عرفة؟ قال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: يكفر السنة الماضية).
فهذا الحديث في فضل صوم يوم عرفة.
وورد في فضيلة يوم عرفة غفران ذنوب العباد من الله سبحانه وتعالى، ومباهاة الله عز وجل بأهل الموقف ملائكته، وهذه كلها من فضائل هذا اليوم الجليل العظيم، وهو يوم عرفة الأغر، الذي هو ركن الحج الأعظم.(67/13)
فضل يوم النحر
يوم النحر، يوم العيد، يوم الحج الأكبر له فضائل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله أبدلكم يومين خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى) فهو يوم عيد ويوم تفضيل كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، قال أهل العلم: قد أبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي ذكر وشكر ومغفرة وعفو، وهذه خصيصة لهذه الأمة.
وقال بعض أهل العلم: عيدان في العام، وعيد يتكرر في كل أسبوع وهو عيد الجمعة.
وقال بعض أهل العلم في سر الأعياد سواء في الجمعة أو غيرها: إنها تأتي في أعقاب الأركان، فالصلاة إذا أديت كاملة جاء الاحتفال بعيدها في يوم الجمعة بعد أن يكون المسلم قد أتم أسبوعاً وهو مصل قائم بالفرائض الخمس في أوقاتها في سائر الأيام، وعيد الفطر يأتي عقب ركن الصيام، وعيد الأضحى في أثناء ركن الحج، وأما الزكاة فلأنها غير محدودة بزمان، بل تجب بتمام الحول أو باكتمال النصاب أو بشروطها فلم يكن لها عيد بعدها، وأما الشهادتان والتوحيد فهو أصل الإيمان والعبادة والطاعة كلها مترتبة عليه.
فهذه من فضائل هذا اليوم.
وقد ذكر العلماء أن عيد النحر هو أكبر العيدين وأفضلهما، وقد بينوا لفضيلته أو تقديمه على فضيلة يوم الفطر وجوهاً: أولها: دخوله في عموم العشر التي ذكرنا تفضيلها.
ثانيها: كونه يأتي في عقب يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة؟ يوم تكفير الذنوب والخطايا، يوم اجتماع الناس في صعيد واحد، يوم يباهي الله عز وجل بأهل الموقف الملائكة.
ثالثها: لوجود تفضيل وتنصيص على يوم النحر، فقد ورد في بعض أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أفضل الأيام يوم النحر).
رابعها: لكونه يجتمع فيه بعض العبادات المختلفة، مثل النحر والأضحية، فإن من أعظم القربات الذبح لله عز وجل.
خامسها: أن فيه إحساناً إلى الفقراء بهذه الأضحية، فيدخل السرور على فقراء الحرم على وجه الخصوص من الأضاحي، وعلى غيرهم في بلاد الإسلام كلها على وجه العموم.
فهذه وجوه تفضيل عيد الأضحى على عيد الفطر، وإن كان هذا عيداً وهذا عيداً.
وهنا إشارة لطيفة في قولهم: صوم العشر، المقصود بها التسع؛ لأن العاشر يوم عيد يحرم صومه، وإنما يقولون: صوم العشر تغليباً لشأن بيان الفضيلة التي أشرنا إليها في نزول هذه الآية.(67/14)
تفسير قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)
نشير إلى معنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] حتى ندرك فضيلة اليوم التي نزلت فيه، قال بعض أهل العلم في تفسيرها: أكثر المسلمين لم يكونوا قد حجوا حجة الإسلام؛ لأن الحج فرض في العام السادس، وحج أبو بكر ببعض المسلمين في التاسع، وحج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أكثر الصحابة العام العاشر، فبذلك أتموا إسلامهم؛ لأنهم أتوا بالركن الخامس، فقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فأتموا أركان الإسلام.
ومنها: أن الله عز وجل أعاد الحج على قواعد إبراهيم، ونفى الشرك وأهله، وأبطل ما كانوا يجعلونه من انحراف أو تغيير وتبديل في هذا الحج.
وأيضاً: إن تمام النعمة هو حصول المغفرة، وحصول المغفرة قد وقع في يوم عرفة الذي نزلت فيه هذه الآيات، ومعنى تمام النعمة حصول المغفرة، ويدل على ذلك دلائل كثيرة من كتاب الله عز وجل، منها قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2]، وقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] أي: التطهير من الذنوب هو تمام النعمة.
وقوله عز وجل: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] هذا عموم يبين أن الكمال وأن المغفرة هي النعمة التي يجد بها الإنسان أعظم الفضل، فيرضى بدين الله عز وجل الذي فيه هذه المنن والفضائل كلها.
ونشير هنا إلى عظمة التشريع الإسلامي وعموم فضل الله عز وجل، فالحج فرض في العمر مرة واحدة تيسيراً، وإن كان فضله عظيماً، وهذا تيسير؛ لأن الإتيان به مكرراً فيه مشقة، فكيف ينال المرء فضيلة ما فيه من الفضل؟ جعل الله عز وجل هذا معمماً للناس عندما فضل هذه العشر كلها، فمن حج أصاب فضيلة الحج، ومن لم يحج فعنده فضيلة العشر؛ لما فيها من تكفير للذنوب، ولما فيها من أعمال صالحة، ومن رجحان فضيلة وأجر الأعمال الصالحة فيها، كما قال القائل: جعل الله عز وجل موسم العشر مشتركاً بين السائرين للحج والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قد يوفق في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج، وهذه نعمة من الله عز وجل.
ليالي العشر أوقات الإجابة فبادر رغبة تلحق ثوابه ألا لا وقت للعمال فيه ثواب الخير أقرب للإصابة من اوقات الليالي العشر حقاً فشمر واطلبن فيها الإنابة(67/15)
النصوص الدالة على فضل يوم عرفة
روى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أفضل الأيام يوم عرفة).
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟) إلى آخر الحديث.
وفي المسند عن عبد الله بن عمرو أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم).
وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يباهي بأهل عرفات يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً).
وعن جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير أكثر عتيقاً من النار في يوم عرفة) إلى روايات أخرى كثيرة، وهذا داخل في ضمن فضائل العشر، فللحاج هذه المزية، ولغير الحاج مزية وفضيلة الصوم التي أشرنا إليها.(67/16)
حكم صيام يوم عرفة للحاج
صوم يوم عرفة لغير الحاج مؤكد تأكيداً عظيماً، ولم يرد في فضل صيام يوم منفرد مثلما ورد في صيام يوم عرفة، فضلاً عن كونه مندرجاً في العشر نفسها، وأما الصيام للحاج فقد ورد حديث أم الفضل بنت الحارث: (أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم -وانظر إلى ذكاء نساء المؤمنين- فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره في يوم عرفة، فشرب منه عليه الصلاة والسلام)، فهذا كما يقولون: "قطعت جهيزة قول كل خطيب فلم يصمه النبي عليه الصلاة والسلام عندما حج، وقد وردت رواية ضعيفة عن أبي هريرة: (أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن صوم يوم عرفة)، وقد اختلف أهل العلم في حكم صيام يوم عرفة في عرفة: روي عن عائشة أنها كانت تصومه وهي حاجة، وروي عن عثمان بن أبي العاص وابن الزبير أنهما كانا يصومانه، والصحيح الذي ذكره كثير من أهل العلم كـ الشافعي ومالك: أنه لا يستحب للحاج صيامه؛ وذلك ليتقوى الحاج على الطاعة والعبادة، ولكن من صامه فإنه لا شيء عليه، والنهي على فرض ثبوته إنما هو نهي كراهة لا نهي تحريم، أي: أن النهي إنما هو من أجل التقوي على الطاعة والعبادة، فإن استطاع أن يقوى على الطاعة والعبادة مع الصيام فلا شيء عليه في هذا.(67/17)
حكم صيام أيام التشريق
ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) أخرجه أصحاب السنن، وورد أيضاً: (أنه بعث في أيام منى منادياً ينادي: لا تصوموا هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)، وإن كانت هذه الرواية فيها ضعف كما ذكر بعض أهل العلم.(67/18)
الأحكام المتعلقة بالأضحية
وقفتنا الأخيرة عن الأضحية؛ لأنها داخلة في العشر، ونبدأ بفضيلتها: ورد في فضل الأضحية حديث قال الترمذي عنه: ضعيف لضعف بعض رواته، والحديث عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة الدم -يعني: الذبح- وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع في الأرض، فطيبوا بها نفساً) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا يعرف من حديث هشام إلا من هذا الوجه، فيه راو اسمه: أبو المثنى، ضعفه أبو حاتم جداً.(67/19)
ما يستحب وما يكره في الأضحية؟
ما يستحب في الأضحية وما يكره فيها؟ ورد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، يطأ على صفاحهما -والصفح هو جانب العنق- ويذبحهما بيده ويقول: باسم الله، والله أكبر) والحديث متفق عليه، وفيه: استحباب وتأكيد اختيار الأفضل والأحسن، وما ليس فيه عيب كما سيأتي؛ لأنه قال: (كبشين أملحين)، والأملح هو الذي فيه سواد وبياض، ويكون البياض أكثر، ويدل هذا على نوع من الجمال أو البهاء فيه.
وفيه: استحباب أن يذبح المرء الأضحية بنفسه إن قدر على ذلك، بل قد قال أهل العلم: وكذا يستحب للمرأة أن تذبح أضحيتها إن قدرت عليها، فقد روي عن أبي موسى: (أنه كان يأمر بناته أن يذبحن ضحاياهن بأيديهن)، وهذا مما يستفاد من هذا الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه ضحى بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، ويشرب في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد) والحديث حسن أخرجه الترمذي، والفحيل هو: الكريم المختار من الفحلة، أي: الجيد، وقيل أيضاً: الفحيل: المنجب في ضرابه، وأراد به النبل وعظم الخلق، أي: يختار من الجيد.
قوله: (يأكل في سواد) أي: أحاط بفمه لون أسود.
وكذلك بالنسبة لقوله: (ينظر في سواد، ويمشي في سواد) إلى آخره، أي: تلك المواضع سوداء، وسائر بدنه أبيض، وهو مطابق لقوله: الأملح.
وقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام في اختيار الأضحية، فروى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديث علي قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء)، المقابلة: ما قطع طرف أذنها.
والمدابرة: ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء: المشقوقة الأذن، والخرقاء: المثقوبة.
ولعل سائلاً يقول: وما دخل الأذن بالأضحية، إنما يؤكل لحمها؟! نقول: هو عيب يبخس من قيمتها، فكأن المرء لا يضحي لله إلا بما هو هين عنده أو هين عند الناس، وهذا لا ينبغي أن يكون، بل يستحب أن تكون الأضحية من الأواسط والكرائم إن استطاع.
وقوله: (نستشرف العين والأذن) أي: ننظر إلى صحتها وعظمها، وهذا مثل هذا.(67/20)
سنن الأضحية
عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً) أخرجه الإمام مسلم وغيره، والمقصود بذلك أنه يتشبه بالمحرم، فلا يقص من أظفاره، ولا يقص شعره، ولا شيئاً من أنواع الشعور على اختلافها، وهذا فيه نوع من الاشتراك مع الحاج في بعض العمل، والاشتراك أيضاً في بعض الأجر الذي ساقه الله عز وجل لأمة الإسلام عموماً، واختلف العلماء في ظاهر هذا الحديث فبعضهم قالوا: لا يجوز لمن يريد الأضحية بعد دخول العشر أن يأخذ من شعره أو ظفره إلى أن يذبح، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وقال به ربيعة والإمام أحمد وإسحاق، وكان مالك والشافعي يريان ذلك على الندب والاستحباب، ورخص أصحاب الرأي في هذا.
وأيضاً قالوا: هذا الحديث دليل على أن الأضحية غير واجبة، من أين وجه الاستدلال؟ من قوله: (فإذا أراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره)، فقوله: (إذا أراد) معنى ذلك أنه إذا لم يرد فالأمر بالخيار، وليس الأمر واجباً وإنما هو سنة مؤكدة، والنبي عليه الصلاة والسلام نحر عن نفسه، ونحر عن أهل بيته، ونحر عن أمته، وقد نحر عليه الصلاة والسلام في حجة ثلاثة وستين من الإبل قائمة ثم وكل علياً فأتم المائة، وهذا كله دليل على التفضيل، ودليل على أن الذبح لله عز وجل من أفضل القربات, وأنه من أكثر ما يتعاطاه الناس في بيان المحبة وبيان الخضوع وبيان التقرب والتذلل لله عز وجل.
وبعض أهل العلم رأى أنها واجبة، وذهب إلى ذلك بعض أهل الرأي، واستدلوا بحديث مخنف بن سليم (أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عرفة فقال: على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة) والعتيرة هي التي تسمونها: رجبية، والحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، ولكن في سنده بعض الضعف، ويعارضه تلك الأحاديث الصحيحة، فالقول الصحيح قول الجمهور، وهو أنها ليست واجبة، وقد ذكر الأكثرون أن العتيرة التي في رجب منسوخة؛ لأنها كانت تذبح في رجب تعظيماً له فيما مضى ثم نسخت بعد ذلك، وقد ورد في حديث مرفوع عن أبي هريرة: (لا فرع ولا عتيرة) والفرع هو أول نتاج الأنعام كانوا يذبحونه لطواغيتهم في الجاهلية، والعتيرة في رجب، فهذا نهي عنها، وحديث أبي هريرة هذا متفق عليه عند البخاري ومسلم.(67/21)
حكم الاشتراك في الأضحية
يجوز الاشتراك في الأضحية، قال جابر رضي الله عنه فيما رواه مسلم: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) أي: اشترك سبعة فيها، وفي حديث جابر: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) ووردت رواية عن ابن عباس: (اشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة) والمشهور هو الأول.
وأما الاشتراك في الأضحية الواحدة فقد ورد أن الإنسان إذا ضحى ولو بشاة واحدة عنه وعن أهله جاز؛ لأنه على الاستحباب، وإذا كان على الاستحباب وليس على الوجوب على كل أحد فكأنها عنه، وأراد أن يشرك في أجرها أهله؛ فلا بأس، فهي في الأصل تجزئ عن واحد لكن لو قال: عني وعن أهل بيتي فحسن؛ لأنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه ضحى بكبش وقال: هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) أخرجه أبو داود والترمذي وهذا الحديث حسن، وأيضاً صح عن عائشة: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، وينظر في سواد، فلما جاء ليذبحه قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) أخرجه الإمام مسلم، وقد سأل عطاء أبا أيوب الأنصاري عن الضحايا فقال: (كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس وصار كما ترى!)، أي: بعد عهد النبي عليه الصلاة والسلام.(67/22)
حكم أكل لحوم الأضحية وادخاره
يباح أكل لحوم الأضاحي حتى بعد زمن، وقد ورد أن أيام التشريق سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشرقون اللحم ويقددونه حتى يجف، فيأكلونه خلال أيام التشريق، وكان هناك نهي عن الأكل بعد الثلاث، ولكن ورد عن جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام: (نهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا) فالمسألة فيها سعة، وقد نسخ هذا المنع ولا إشكال في هذا.(67/23)
الأسئلة(67/24)
وجه التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان
السؤال
عندما ساق ابن القيم المقارنة بين فضل العشر من ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، فضل ليالي العشر الأواخر من رمضان، وفضل الأيام العشر من ذي الحجة، فهل نستفيد من ذلك أن قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] يقصد بها العشر الأواخر من رمضان؟
الجواب
القول في هذا أنها عشر ذي الحجة كما ورد عن ابن عباس وعن ابن الزبير، وقد ثبت ذلك معلقاً مجزوماً عند البخاري عنهما، وهو قول مجاهد وكثير من أئمة السلف والخلف من المفسرين.
وأما ورود مسألة التفضيل فهي مسائل ترد على الخاطر ثم يأتي فيها جواب أهل العلم، وعموم الفضل ثابت، لكن التحديد يكون بنص أو بنقل، خاصة في مسائل التفسير، وكأن الأخ يقول: إذا قلنا: تلك الليالي أفضل من هذه الليالي فلماذا لا تكون (وليال عشر) هي العشر الأواخر؟ فكما قلنا: هي عشر ذي الحجة كما نص عليه السلف، وعشر ذي الحجة منصوص في فضيلتها الأيام والليالي مع بعضها، وليس الليالي وحدها.(67/25)
الأعمال المترتبة على فضل الزمان والمكان
السؤال
ماذا يترتب على فضل الزمن كليلة النصف من شعبان؟ هل معنى ذلك مضاعفة العمل، مع العلم بأنه لا بد لذلك من فائدة؟
الجواب
حقاً لا بد له من فائدة، فإذا عرفت فضيلة الزمان أو فضيلة المكان فينبغي أن تجتهد بأن تملأ الزمان أو أن تشتغل في هذا المكان بالطاعة وتكثر منها، فتكون لك فضيلة العمل نفسه، ومضاعفة الأجر لفضيلة الزمان أو المكان، مثل: أن تكون في الحرم، فأنت تعرف فضيلة الصلاة في الحرم، فعليك أن تصلي الفرائض، وأن تستكثر من النوافل، وتزيد من الأعمال والبر؛ فإن ذلك فيه خير، وكذلك تجتهد في الطاعة في الزمان الفاضل.
وبالنسبة لليلة النصف من شعبان حديثها فيه اختلاف بين أهل العلم، بعضهم ضعفه وبعضهم حسنه، وقد مال إلى تحسينه بعض المحدثين من المتقدمين والمتأخرين، لكن ما خص بعمل بعينه يواظب عليه، وبعض الناس لا بد أن يأتي في ليلة النصف من شعبان بعمرة، لا بأس إن أتى بها من باب العمل الصالح، لكن كونه يعتقد أنها سنة ويواظب على ذلك كما يفعله بعض الناس من التأكيد على هذا كالسنن فهذا لا ينبغي؛ لأنه كما قال الشاطبي وغيره: لا ينبغي المواظبة على عمل بعينه من الأعمال المطلقة، وينبغي أن يتركه في بعض الأيام أو الأحوال؛ لئلا يشبه بالسنة الماضية.
الأعمال المطلقة مثل: صلاة النافلة، يمكن أن تصلي في أي وقت ركعتين أربعاً عشراً، ثم قد تواظب أنت على شيء بقدر طاقتك، تواظب مثلاً على ست ركعات كل ليلة بعد العشاء، لا حرج في هذا، لكن لا ينبغي أن تواظب عليها طول دهرك وعمرك، وخاصة عندما تكون محل نظر الناس، أو كنت من أهل العلم، فقد يقول الناس: ما يواظب على الست الركعات إلا لأنه ورد فيها حديث بعينه أو نص بعينه، قالوا: فالمواظبة على ما لم يثبت على الدوام فيه بعض المؤاخذة، وقد يكون فيه شيء من الابتداع، وإن كان أصل العبادة المطلقة ليس لأحد أن يمنع أحداً منها.(67/26)
حكم تقديم الحج على الجهاد والعكس
السؤال
أيهما يقدم الحج أو الجهاد؟
الجواب
إن كان الجهاد فرض عين، والعدو قريب، وهناك إنسان لم يحج الفريضة وهو في الجبهة، وليس عنده إلا خياران لا ثالث لهما: إما أن يجاهد، وإما أن يحج، وإن قلنا: يجاهد ثم يحج فقد يستشهد في المعركة، فنقول: الله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، إن كان لم يقصر في أداء الفريضة في وقتها فلا إشكال، ولكن لا شك أنه إذا تعين الجهاد وهو في بلد، والحج بعيد، فإنه لا يترك بلده ويذهب ليحج؛ لأن الجهاد فرض الوقت، وفرض الوقت في آنه يقدم على غيره، والله أعلم.(67/27)
قاعدة المثبت مقدم على النافي وبعض أمثلة لها
السؤال
قاعدة: المثبت مقدم على النافي هل لها أمثلة أخرى غير حديث عائشة؟
الجواب
هي قاعدة تطبق على غيرها، ومن أمثلتها ما جاء في حديث لإحدى أمهات المؤمنين قالت: (ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط) يعني: ما صلى سنة الضحى قط، وأبو هريرة يقول: (أوصاني خليلي بثلاث، وذكر منها الضحى)، وحديث عتبان بن مالك (أنه جاءه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته ضحى فصلى وصلى هو معه).
فهي ما رأته، وغيرها رآه، فليس كل أحد رأى كل شيء ولا علم كل شيء، أما إذا قال: سمعته يقول كذا، فحينئذ تحتاج المسألة إلى تحرٍ، أما إذا قال لك: ما رأيت، والثاني يقول: رأيت، فهنا لا إشكال أن نقدم المثبت على النافي.(67/28)
حكم صيام العشر الأواخر من ذي الحجة لمن لم يصم العشر الأول منه
السؤال
ما حكم من صام العشر الأواخر من ذي الحجة إذا ما صام العشر الأوائل من ذي الحجة؟
الجواب
لا وجه للتخصيص، إن كان هو يكثر من الصوم عموماً فليصم العشر أو العشرين ما في بأس، بشرط ألا يصوم الدهر، والأفضل له ألا يصوم إلا ما يستطيعه حتى لا يبدأ في طاعة ثم ينقضها، وأفضل الصيام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صيام داود، صيام يوم وإفطار يوم).(67/29)
وجه عبارة الترمذي: حديث غريب مع تضعيفه للحديث ووجه الاقتران بالحسن
السؤال
بالنسبة لعبارة الترمذي: حديث غريب، ما وجه اقترانه بصفة الحسن؟
الجواب
هناك اختلاف في نسخ سنن الترمذي بين قوله: حسن، أو حسن غريب، أو حسن صحيح، وقد يكون فيها بعض اختلاف في النسخ، وأما الغرابة فالمقصود بها التفرد، وليس المقصود بها الإشارة للضعف، والنص على الضعف، فيكون مقصوده أحياناً أن الحسن قد يأتي من وجه، ويترجح بطريق آخر، ولكن في هذا الحديث بعينه ما بحثته حتى أنظر هل قوله: حسن مع قوله بعد ذلك: وأبو المثنى سليمان بن يزيد فيه ضعف، فهل هناك نسخة أخرى ليس فيها قوله: حسن؟ فهنا ذكر أنه غريب مع التضعيف، والله أعلم.(67/30)
طلب بإفراد الأعياد بدرس خاص
السؤال
نقترح إفراد درس خاص عن الأعياد؟
الجواب
لعلنا إن شاء الله نتكلم عن أحكامها وآدابها وما يستفاد منها.(67/31)
حكم رفع أصحاب السيارات للأجرة عند نقل الحجاج بين المشاعر
السؤال
أصحاب السيارات الخاصة ينقلون الحجاج بين المشاعر بمبالغ مرتفعة جداً عن الأيام العادية؛ فهل في ذلك شيء؟
الجواب
إذا كان مبنياً على التراضي فلا شيء فيه، وزيادته لها وجه؛ لأنه في الغالب يستغرق في الذهاب من الوقت أضعاف ما يذهب في أيام غيرها؛ وذلك بسبب شدة الزحام، فارتفاع له مقابل؛ لأنه قد يذهب من مكان إلى مكان بسرعة في الأيام العادية، ويأخذ أجرة خمسة ريالات مثلاً، لكن في أيام الحج يأخذ خمسة عشر أو عشرين؛ لأنه في غير الحج يستطيع أن يذهب أكثر من أربع أو خمس مرات، ويحصل على أكثر من هذا الأجر، لكن لا شك أن الرفق بالحجاج أمر مطلوب، وأن الإجحاف أو الظلم أو المبالغة الزائدة عن الحد لا تليق بالمسلم على إخوانه المسلمين، ولا تليق بمن يقيم بهذه الأرض مع من يفد إليها لطاعة الله عز وجل وحج بيته، فلابد من تقدير ظرف الحاج والإحسان إليه، وإذا ترك شيئاً أو خفف أو قلل في السعر ابتغاء وجه الله فإنه يؤجر إن شاء الله تعالى.(67/32)
حقيقة الأضحية والفدية والهدي
السؤال
الأضحية والفدية والهدي ما حقيقة كل واحدة منها؟
الجواب
الأضحية: هي سنة عامة للحاج وغير الحاج، تضحية لله عز وجل وابتغاء الأجر.
والفدية: هي التي تكون مترتبة عن ترك واجب في مناسك الحج والعمرة في غالب الأحوال.
والهدي: هو الذي يسوقه الحاج معه ويهديه إلى الحرم، وهو نوع من الأضحية، لكنه أحياناً قد يكون من ضمن النسك كما في شأن القارن بين الحج والعمرة.(67/33)
حكم أخذ الظفر والشعر في العشر من أهل المضحي
السؤال
إذا أراد أن يضحي الرجل عن نفسه وعن أهله فهل يأمر أهله بألا يأخذوا من أشعارهم وأظفارهم؟
الجواب
الصحيح أن المقصود بهذا هو الذي يضحي بنفسه، أما من يضحى عنه فليس بشرط، وهذا حتى للحاج إذا أراد الأضحية، فينبغي له أن يحلق شعره وأن يقلم أظافره قبل دخول العشر، حتى لا يحتاج إلى ذلك عندما يريد أن يحرم؛ لأن من سنن الإحرام أن يحلق عانته، وأن يزيل شعر الإبط، وأن يقلم الأظافر، ويغتسل، ويتطيب، فلو أراد أن يضحي فيحسن به أن يفعل ذلك قبل شهر ذي الحجة حتى ينال الأمرين معاً إن شاء الله تعالى.(67/34)
فدية الحج ووقت وجوبها
السؤال
ما هي فدية الحج؟
الجواب
إذا ترك واجباً من الواجبات فعليه فدية، ويشبهه أو قريب منه المتمتع الذي عليه ذبح الدم عن تمتعه.(67/35)
حكم وطء الرجل امرأته أثناء الحج
السؤال
ما حكم وطء الرجل لامرأته في أيام الحج؟
الجواب
إن كان قبل التحلل الأول فإنه يبطل الحج كلية، ويجب عليه إتمامه، وعليه الفدية، وعليه الحج من قابل، ومسألة القضاء مهمة سواء في الحج أو العمرة، فمن تلبس بالنسك وشرع فيه -ولو كان تطوعاً- ثم خرج منه بغير عذر أو لعذر له فيه مأخذ شرعي فالقضاء لا بد منه.(67/36)
صيام العشر
السؤال
هل الأفضل صيام العشر كلها أم يوم عرفة فقط؟ وهل العتق من النار في يوم عرفة لكل الناس؟
الجواب
صوموا كلها إن كنتم غير حجاج، والعتق من النار في يوم عرفة خاص بالحجاج فيما ورد من النصوص وليس عاماً لكل أحد.(67/37)
حكم حج الحائض والنفساء
السؤال
بالنسبة للمرأة إذا حاضت أو نفست في أيام الحج أو قبل الحج ما عليها؟
الجواب
يجوز لها أن تهل بالحج وأن تحرم به، وأن تنوي من ميقاتها ولو لم تكن على طهر، وتؤدي كل مناسك الحج إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فإذا طهرت طافت، ولها أن تؤخر طواف الإفاضة حتى تطوف للإفاضة وللوداع طوافاً واحداً في وقت واحد، لكن بشرط أن تنوى أنه طواف إفاضة؛ لأنه ركن.(67/38)
حكم من حج عن ميت أجنبي دون أن يعلم أهله
السؤال
سائل يريد أن يحج عن أخ له في الله قد مات، فهل يجب عليه أن يخبر أهله علماً بأنه قد حج عن نفسه؟
الجواب
ليس بواجب عليك أن تخبر أهلك؛ لأن هذا نوع من الإحسان إلى أخيك أو صديقك الذي بينك وبينه معزة، وقد توفاه الله عز وجل، فتحج عنه وتنوي الثواب له فلا شيء في هذا إن شاء الله.(67/39)
حكم الرجم في ثاني أيام التشريق قبل الزوال والخروج من منى بعد الزوال
السؤال
هل الرجم في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الزوال والنفرة من منى بعد الزوال جائز؟
الجواب
قد يفتي به بعض أهل العلم للترخيص، لكن لا بد أن تنظر فيمن أفتى به، هل هو من أهل العلم المعتبرين؛ لأن بعض الناس يسمع كلام أي واحد ويأخذ به، فإذا أخذت بقول رجل ليس من أهل العلم المعروفين من كبار العلماء، أو من مجامع الفتوى، فقد تأخذ بقول مرجوح أو تبطل حجك أو تأتي بنقص فيه، والمسألة كلها ساعة أو سويعة، وأنت قد أتيت للحج من أفق بعيد أو أتيت له حتى من قريب، لكنك قد تعبت وجهدت في أداء المناسك، فتمم ذلك، وليس في مثل هذا داع للترخص أو التعجل.(67/40)
حكم من وقف في يوم عرفة بعرفة وهو غير حاج
السؤال
من كان في عرفة واقفاً وليس بحاج، فهل هو ممن يباهي الله به الملائكة؟
الجواب
ظاهر الحديث يخص الحجاج؛ لأنهم أتوه شعثاً غبراً ضاحين؛ ولأنهم تجردوا من ملابسهم، ولكن في الحديث: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) والله عز وجل فضله عميم، وهذه الأمور لا ينبغي أن يكون فيها السؤال؛ لأن الله عز وجل يفيض بالخير على من أقبل عليه، سواء في عرفة أو في غير عرفة، والإنسان في عرفة يشاهد الناس الحجاج وهم يلبون ويبتهلون ويبكون فيكون متأثراً بهم، وقد يذهب ويحرم ولم يكن قد نوى الحج؛ لما يرى من هذا، فلعله إن شاء الله يؤجر بخدمته للحجاج، وبدعائه لله عز وجل في هذا المكان الفضيل وفي هذا الزمان الفضيل، ويكون مع القوم الذين باهى الله بهم ملائكته، وفضلهم، ووعدهم بالمغفرة والعتق، فهذه كلها مسائل كثيرة في مثل هذا.(67/41)
حكم من حج عن غيره مبتغياً الأجر والثواب
السؤال
بالنسبة لمن حج عن رجل هل له أجر أو ليس له أجر؟
الجواب
فضل الله عز وجل عظيم، أنت إن حججت عن أبيك ألست تفعل فعلاً خيراً ابتداءً؟! وكل فعل خير له أجره عند الله عز وجل، ثم ألست تذكر الله وتتلو وتدعو؟! وبعض الناس يظن المسألة فيها انفصال، فإذا حج عن غيره فهو يدعو وليس في قلبه خشية ولا تعلق ولا رجاء في الله عز وجل! كلا، المقصود بالحج أنه عمل تصح فيه النيابة، فيستطيع الإنسان أن يؤديه ثم ينويه بجملته كاملاً عمن نواه عنه، وليس فيه أنه لا بد أن يقول: أنا أرمي هذه عن فلان، وفي غير وقت الطواف مثلاً ليس بحاج وكأنه شيء آخر، فتراه لا ينشغل كما ينشغل في حجه بالتلاوة أو الذكر، وكأنه في وظيفة، وإذا ذهب ليرمي رمى ثم يرجع!! ليس كذلك، فالأجر إن شاء الله حاصل من كل وجه بإذنه سبحانه وتعالى.(67/42)
حكم من حج على نفقة غيره
السؤال
من أراد أن يحج وليس عنده نفقة فأعطاه بعض الناس إما هبة وإما مودة وإما صدقة مالاً ليحج به، هل يجوز أو لا يجوز حجه حج الفريضة؟
الجواب
الله عز وجل بين لنا: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الاستطاعة الزاد والراحلة) فمن أين أتى الزاد؟ من أين أتت الراحلة؟ إذا لم يكن من حرام فلا إشكال، بل حتى لو كان من حرام يصح الحج وعليه الإثم كما ذكر أهل العلم.
الإسلام يدعو المسلمين أن يعينوا إخوانهم في كل شيء، فإذا أعانك أخ لك على أن تحج معه وهو مقتدر، أو أن تحج على حسابه وهو ميسور فلا إشكال في ذلك، ولا توجد أدنى شبهة في جوازه وكماله، سواءً كان حج فريضة أو حج تطوع.(67/43)
حكم إرسال الحاج بثمن أضحيته إلى بلده
السؤال
الأضحية هل يرسل الحاج بثمنها إلى أهله في بلده حتى يضحوا لحاجتهم وحاجة من في بلدهم؟
الجواب
ليس هناك بأس، ولا يشترط أن يضحي الحاج في بلد الحج، لكن الحاج الذي عليه فدية فيذبحها لأهل الحرم، أما غير ذلك فجائز، والأمر في هذا واسع، وإن كان فيه بر بأهله وبقرابته فلعله يكون له بذلك أجر إن شاء الله عز وجل.(67/44)
حكم ذبح الأضحية بعد أيام التشريق
السؤال
هل يجوز أن أذبح الأضحية بعد عودتي من الحج هنا في جدة بعد أيام التشريق؟
الجواب
الظاهر أن الفضيلة في يوم النحر، وأتبع بها أيام التشريق؛ لأنها محل الطاعة والعبادة، ولا زالت حاجة الحجاج إليها، وأما بعد ذلك فالصحيح أنها جائزة، لكنها في غير الوقت الفاضل، والله أعلم.
نكتفي بهذا، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(67/45)
مقارنات في الاختبارات
تمر الأمة الإسلامية في هذه الآونة بمراحل صعبة وظروف قاسية واختبارات حاسمة، ولهذا كان لزاماً على كل فرد فيها أن يقوم بما يستطيع للدفاع عن دينه وأمته، وأن يبذل ما في وسعه لدحر العدوان وصد المؤامرات، وأن يسعى قبل ذلك كله لإصلاح نفسه وسد خلله حتى لا يكون هدفاً سهلاً تؤتى الأمة من قبله.(68/1)
بين اختبارات الطلاب واختبارات الأمة
الحمد لله جعل الدار الدنيا ممراً، والدار الآخرة مقراً، وجعل الدنيا دار العمل والبذل والابتلاء، والآخرة دار الحساب والثواب والجزاء، له الحمد سبحانه وتعالى خلق فسوى، وقدر فهدى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوعنا: مقارنات في الاختبارات؛ لأن طلابنا في نهاية العام يدخلون في الاختبارات.
والاختبارات عندنا مهمة، ولها من الاستعداد والإعداد والتهيؤ مالها، غير أن أمتنا تمر باختبارات أكبر وأصعب، دون أن يكون هناك ما يكافئ هذه الاختبارات من الاستعدادات.
ولعلنا نعرف ما ذكرته مراراً وتكراراً من أن القضية الأولى، والمسألة العظمى، والاختبار الأصعب الذي تمتحن فيه الأمة في إيمانها وعقيدتها وفي سيادتها وإرادتها، وفي مبادئها وأخلاقها وحضارتها، هو الاختبار على أرض فلسطين، وفي قضية الأقصى.(68/2)
أهمية التركيز والانتباه لما يحاك للأمة
وفي الاختبارات يحصل كذلك التركيز والدقة، فعندما يأتي الطلاب للإجابات يركزون في معرفة وفهم الأسئلة، ويقرءونها قراءة فاحصة، ويعيدون النظر إليها؛ ليعرفوا مغازيها ومراميها، وما قد يكون فيها من بعض الحيل المقصودة، وما قد يريده أصحاب الأسئلة من المعلمين من اكتشاف الذكاء والفطنة، واستحضار الانتباه والذكاء، ثم بعد ذلك يجيبون كل سؤال في مكانه مع الشمولية، فإنه لو أتقن إجابة سؤال واحد وحاز فيه على الدرجة الكاملة ثم ترك بقية الأسئلة فنتيجته إلى رسوب قطعاً.
ثم كلنا يعلم أنه لابد من المراجعة قبل تسليم أوراق الامتحانات؛ للتأكد من دقة الإجابات وصوابها، وذلك أيضاً مطلوب في هذه القضية المهمة، وفي كل اختبارات أمتنا الملمة، فلابد أن يكون الأمر كذلك.
أما هذه السذاجات أو إن شئت قل: المؤامرات والتآمر على الإسلام والمسلمين فأمرها بين، فنحن لا نكاد نرى أن القوم يقرءون الأسئلة، ولا يعرفون مغازي ما يقدم لهم من المبادرات، أو ما يطرح لهم على ما يسمى طاولة المفاوضات، بل يقرءون الأسئلة قراءة الطالب الغر الساذج الذي لا يفهمها، ثم يجيب في غير ذلك المجال، ثم يخفق في آخر الأمر.
ونحن نرى تشتتاً، وليس هناك تركيز، ونحن نرى هلامية وليس هناك وضوح، ونحن نرى جزئية وليس هناك شمول، وهذه من أخطر القضايا، حيث أصبحت قضية المسلمين ومقدساتهم قضية لشعب واحد، بل ربما لجزء من شعب، بل ربما لفئة محدودة من جزء من شعب؛ حتى تتلخص بعد ذلك في أشخاص معدودين، وكأنهم هم الذين يعنيهم الأمر، وهم الذين إذا قبلوا ينبغي أن نقبل، وإذا وافقوا ينبغي أن نوافق، وكأنما ننظر إلى سؤال واحد، ونترك بقية الأسئلة، وكأننا لا ندرك أن ما يجري اليوم في أقصى الأرض يمس من في أدناها، وما يحصل من حدث في شرقها وصل تأثيره إلى غربها، فكيف ونحن أبناء دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد، ونحن نعرف اليوم بلا أدنى شك أن الاستهداف هو لديننا بذاته، وهو لكل مسلم منتسب للإسلام وإن لم يتحقق بحقائقه، فهو لهذه الأمة بمقدراتها ثقافية وحضارية ومادية واقتصادية، ثم نجيب هذه الإجابات، ولا نسعى إلى المراجعات قبل أن نقدم الإجابات.(68/3)
استغلال الفرص
والراسب نعلم أنه قد تتاح له فرصة حتى يعوض، فإن أتيحت له فرصة فكيف تجدونه؟ هل تجدونه مهتماً مغتماً، حريصاً جاداً، يريد أن يعوض ما فات، أم أنه يعود إلى لهوه وغيه، وإلى تضييعه وتشتته، فيعاود الكرة؟ ولو عاود الكرة فرسب لأعاد عاماً كاملاً، ولو أعاد الرسوب لطرد من هذه المدارس.
تلك هي النتائج ولا شك، ولكننا نرى أن الراسبين في واقع أمتنا في هذه القضية ينجحون وينتقلون إلى مراحل أخرى، ويزدادون رسوباً ويرتفعون، وهذه من المعجزات الغريبة المحيرة للعقول.
ونحن لم نر أحداً من طلاب المدارس يرسب عشرات الأعوام، ثم يظل مع ذلك هو الطالب الناجح المتقدم في الفصول من مرحلة إلى مرحلة، إنه أمر عجيب! ونرى لذلك توقعاً خيالياً ونتائج عكسية ورسوباً متواصلاً.
نسأل الله عز وجل أن يقي أمتنا الشرور والآثام، وأن يجعلنا ممن يأخذون بأسباب نصر الأمة وعزها، ويعملون لدفع أعدائها، وأن يسخرنا لنصرة دينه ورفع رايته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(68/4)
أخذ الحذر والاحتياط في جميع الأمور والأحوال
الوقفة الثالثة: التوقع والاحتياط: فالطلبة عندما يذاكرون يستعدون لكل شيء، ويتوقعون أن يأتي السؤال في أي باب من الأبواب، ويتوقعون أن تأتي الأسئلة في غاية الصعوبة، ولا يعيشون على أوهام وأحلام.
فلو أن أحدهم كان يذاكر درساً واحداً ويقول: ستأتي الأسئلة كلها فيه، ويقول: ستأتي الأسئلة كلها سهلة، ويقول: سيعطوننا الدرجات وننجح، فبماذا نصف هذا الطالب؟ سنقول: إنه طالب غبي خائب ومصيره إلى الرسوب.
ولكننا نجد بعض الأحوال في هذه القضية، فقد حصرت الدروس والاختبارات كلها في درس واحد، وفي سؤال واحد أعدت له إجابة واحدة لجميع الأسئلة، وهذا ما نراه في قضية فلسطين اليوم، وفي مشهدها السياسي المعلن العام.
إنهم يقولون: ما هي الحرب؟ ونحن نقول في تعريفها وجوابها: هي السلام، ويقولون: ما هي أدوات المقاومة؟ هل هي الأسلحة والطائرات؟ ويكون
الجواب
هي السلام، ويقولون: ما هي الوسيلة الناجعة لمواجهة تهديم البيوت وقتل الأطفال وتشريد الناس؟ فيكون
الجواب
هي السلام، ونظن أن النتيجة ستكون نجاحاً بامتياز، وهذا حال الطالب الخائب الذي ذكرته، ولا يحتاج الأمر إلى بيان.
ولو أننا نفقه من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مراجعة الدروس واستحضارها لوجدنا كيف تدرج عليه الصلاة والسلام مع اليهود أنفسهم، فعندما كان غدرهم في أول الأمر في دائرة معينة، وفي اعتداء على امرأة مسلمة، كانت العقوبة والإجابة في حصار وإجلاء مع سلامة الأرواح والأنفس ونقل الأموال والثروات، فلما تكرر الأمر مرة أخرى كان الجواب مختلفاً، كان حصاراً وطرداً وعقاباً مع سلامة الأرواح والأنفس، دون نقل الأموال والثروات، فلما تكرر الأمر في بني قريظة وكانت الخيانة أعظم، كان الحكم الذي وكله النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، يوم أن حكم بأن يقتل الرجال، وأن تسبى النساء والذرية والأموال، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)، ولما دعاه النبي أن يحكم في اليهود بحسب طلبهم، وتعيينهم لـ سعد بن معاذ ظناً أنه يراعيهم، ويداهنهم، ويجاملهم؛ لعلاقات سابقة، ومصالح سالفة، فقالها سعد كلمات تدوي في سمع الزمان: (لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم)، لقد أراد أن يذكر نفسه بأنه لابد أن يقول بالحق، وأن يحكم بالعدل، وأن يأتي بالجواب الصحيح للسؤال المباشر، وأن يجعل العقاب المناسب للفعل الشنيع، فحكم بحكمه الذي ثبته وأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام وفياً بعهده، قائماً بواجبه وبواجب أمته، لكنه كان يمثل قولة عمر رضي الله عنه: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني)، فقد أعطى الحقوق، وأوفى بالعهود، فلما وجد الخلل، ولما وجد الطعن في الظهر كانت الإجابات مناسبة، وكانت الأحوال ملائمة، وكانت الاستعدادات والتوقعات والاحتياطات والتحسبات موجودة.
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين)، فكيف بعشر مرات وعشرين مرة؟! أين ذهبت فطنة المؤمن؟! وأين ذهبت عزة المسلم؟! وأين غيرة صاحب الحق وحميته؟ كل ذلك يطوى فيما نشهده من المشهد العام.(68/5)
مراجعة الدروس الماضية لتصحيح الأخطاء
الوقفة الثانية: المراجعة والمذاكرة: فطلابنا اليوم يعودون إلى أول درس، وإلى بداية المنهج، ويمرون عليه صفحة صفحة، ويقرءونه درساً درساً، ويراجعونه وحدة وحدة من البداية إلى النهاية؛ لأن المنهج لا يكون إلا متكاملاً؛ ولأن المنهج لابد أن يُستوعب استيعاباً شاملاً، وفي كل ذلك يمرون على الأخطاء السابقة، ويراجعون الاختبارات السالفة، ويرون كيف مرت بهم تلك الدروس، وفاتهم فقه بعضها ومعرفة بعض أسرارها، وكيف مرت بهم تلك الاختبارات فأحسنوا في بعض الإجابات وأخفقوا في تحقيق بعض النتائج، وكل ذلك يدخرونه لكي يتهيئوا لهذا الاختبار النهائي الكبير! وهنا نسأل: هل أمتنا مراجعة لمنهجها من أوله إلى آخره؟ وهل لها في ذلك مذاكرة ومشاورة؟ وأهم من ذلك: هل تعي دروس الماضي؟ وهل تراجع الاختبارات وما كان فيها من نجاحات أو إخفاقات، أم أنها تمر على ذلك مرور الكرام؟ إنها ترسب في اختبار مدريد لتواصل الرسوب بعد ذلك في اختبار أوسلو، ولتواصل المسيرة المنحدرة في المستوى الهابط فيما يأتي بعد ذلك، في صورة تبين أن الإجمال لهذا الحال الذي يتصدر فيه من يتصدر في أمتنا يدل على أن لا مراجعة، وأن لا مذاكرة، ولا منهج يقود، ولا رؤية تسدد، ولا قواعد تضبط قيادتها المتصدرة لمهامها العظمى كما ينبغي أن يكون عليه الحال.
عجباً لهزيمة أمتنا في عام (1984م) من قبل شراذم عصابات اليهود عليهم لعائن الله، وكان درس الفرقة، وكان درس المؤامرة، ثم تكرر درس النكبة في الخيانة العظمى والمؤامرة الكبرى في (1967م)، ثم توالت الحيل وتواصلت الإخفاقات فيما بعد ذلك دون أن نعي دروس الكذب والمراوغة، ودروس الغدر والإجرام، ودروس المفاوضة والمناورة.
فأنت صاحب حق وصاحب دار، ثم يأتيك ضيف -إن اعتبرته ضيفاً- فيحل ولا يخرج، ثم يدعي أنه صاحب المنزل، ثم يطردك، ثم يفاوضك على أن يكون لك مكان خارج الدار، أو بعد ذلك يمن عليك أن يجعلك في فنائه، ولكنك تحت قوته وسطوته، ثم يقول لك بعد ذلك: كيف تطلب أكثر من هذا؟! ونحن نرى كيف دارت الأمور حتى أصبحت اليوم هذه القضية الإسلامية الإيمانية العقدية التي تمثل بؤرة المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه؛ أصبحت اليوم تقاس بالأشبار والأمتار، وتقاس بالطرقات والشوارع، بعد أن كانت قضية الإيمان والعقيدة قضية الحق الثابت، وقضية المبدأ الراسخ.(68/6)
وجوب التهيؤ والاستعداد لما تمر به الأمة من اختبارات ومصاعب
هنا وقفات سريعة ننظر فيها بين اختبارات طلابنا واختبارات أمتنا: الوقفة الأولى: التهيئة والاستعداد: في اختبارات الطلاب تهيئة أسرية يُعنى بها الآباء والأمهات، حيث يهيئون الأجواء، ويوفرون أسباب الراحة، ويقدمون الخدمات، ويخففون التبعات والمسئوليات على الأبناء والبنات، وإن سألتهم: ما لكم؟ قالوا: إنه موسم الاختبارات.
ونجد كذلك استعداداً اجتماعياً, والمجتمع كله يراعي ذلك، فلا ترى المناسبات ولا المباريات، ولا المشاركات المعتادة في سائر الأوقات، فإن سألت لماذا؟ قالوا: لأنه موسم الاختبارات.
وترى أيضاً تهيئة واستعداداً إعلامياً، فلا ترى كثيراً من البرامج واللهو والترفيه المعتاد، بل تجد الدروس والتذكير والندوات والمساءلات في قضية الاختبارات.
وترى كذلك تهيئة واستعداداً نفسياً، وكل هذه العوامل توطد في نفوس الطلاب أن يثقوا بأنفسهم، وألا يتهيبوا تلك الاختبارات، وأن يقووا عزائمهم، وأن يعلوا هممهم، وأن يوطنوا أنفسهم على أن يبذلوا الجهد، ويواصلوا المسير حتى يجنوا النتائج والثمار.
كلنا يدرك هذه الأجواء ويعرفها، فكيف والأمة في اختبارها الصعب، ومرحلتها المريرة التي تستهدف وجودها وإيمانها، والذي تعادي مناهجها وأخلاقها، والتي تريد اجتثاث جذورها وأصولها، فهل ترون الأسر تستعد لمثل هذا الاستعداد أم أننا نرى غير ذلك؟ إننا نرى أسراً مضيعة لمهمات التربية، وآباء مهملين لصناعة الأجيال، وأمهات متخليات عن صناعة صانعات الأجيال.
ثم نرى المجتمع كذلك من المجتمعات المنشغلة وراء لقمة العيش، أو الكدح في هذه الدنيا، المنشغلة بأمور عارضة واهتمامات دنيا، فتلك هي مواسم ومسابقات الرياضات، وتلك هي مهرجانات الفنون والأفلام والتمثيليات، وتلك هي وسائل الإعلام التي تصم الآذان وتدمي القلوب، وتحزن النفوس، بكل لهو رخيص وتفاهات مغرية، وسخافات مضللة عن مشكلات الأمة ومهامها.
فهل أمتنا تستعد للاختبارات العصيبة بمثل تلك الاهتمامات الهزيلة؟ إنها وقفات ومقارنات لا أحتاج فيها إلى كثير من التعليقات، ولكنها تحتاج منا جميعاً إلى كثير من التأملات والمراجعات والتصحيحات، ليس على المسار العام الذي دائماً ما نلقي عليه بالتبعات، بل على مسارنا الخاص، وعلى تكويننا النفسي والقلبي، وعلى أدائنا الأسري والتربوي، وعلى معايشتنا الحياتية والمادية، فضلاً عن طموحاتنا وآمالنا، فضلاً قبل ذلك كله عن إيماننا واعتقادنا ومبادئنا وأخلاقنا.
فكيف نخوض خضم هذه العولمة الجارفة التي يراد بها تغيير الثقافة والأخلاق والفكر ونحن لا نهيئ شيئاً في تلك المواجهة، ولا للاختبارات العصيبة الرهيبة؛ فهل هذا إنصاف، وهل هذا معقول؟! ونحن ندرك أن هذه الأمة هي الأمة التي اصطفاها الله عز وجل واختارها لتؤدي أعظم دور، وتقوم بأسمى وأرقى وأعظم رسالة في هذا الوجود، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة).
فالجد والاجتهاد صورة حية واقعية في اختبارات طلابنا، والوقت مستغرق في الاختبارات، والجهد مبذول فيها، والفكر منشغل بها، والإمكانات مسخرة لأجلها، وكل شيء في هذه الأيام منصب في هذا الهدف، فإن قلت: لماذا؟ قالوا: لأهميته، وإن قلت: لم هذه الجهود المضنية وسهر الليالي وإمحال الجسم وترك الراحة؟ قالوا: لأنها معمعة يوشك بعدها أن نخرج إلى النجاح والتقدم.
ونحن نريد نصراً مؤزراً، وعزاً مؤثلاً، ومجداً فاخراً، وأمتنا تشهد تاريخها، دون بذل جد ولا جهد ولا اجتهاد، دون أن تسد خللاً ودون أن تنفق الأموال، ودون أن تسهر الليالي، ودون أن تتضافر كل الجهود، وأن تجتمع كل الحشود؛ لكي تتجاوز المرحلة العصيبة، والفترة القادمة من تاريخ أمتنا، من المواجهات الصعبة التي تتحداها، وذلك أمر أيضاً نراه في غير مساره الصحيح في جملة من أحوال أمتنا.
فأين الأوقات المبذولة حتى في ميادين الحياة العملية؟ لقد صدرت بعض الدراسات التي تقيس مدى إنتاج الموظف والعامل في بلاد عربية وبلاد إسلامية، وبلاد غير إسلامية أو عربية، فظهر التفاوت العظيم، والبون الشاسع، وتبين أن أوقاتنا غير مبذولة حتى في تقوية أمورنا المادية، وأين نحن من بذل الأموال في الأبحاث العلمية والتقدم التقني؟ وأين نحن من بذل الجهود الفكرية في معالجة أوضاع أمتنا المختلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وغير ذلك؟ أين نحن من هذا كله ونحن نرى الاجتماعات والمؤتمرات، ونرى الجهود والأوقات، ونرى غير ذلك يصرف فيما أشرت إليه من الجوانب التي ذكرناها، والحق جل وعلا يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، إنه ميدان العمل الذي يكون جزاؤه يوم القيامة.
إن من لا يقدم عملاً لا ينال ثمرة، إن من يريد النتائج وهو ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويرتاح ملء جنبيه، إنما هو حالم واهم لا يجني إلا ما يجنيه القابض على الهواء، وينبغي أن ندرك ذلك، قال الشاعر: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فكيف نريد أن نعود أمة رائدة قائدة كما هو الشأن الذي كان لنا، وكما هو الواجب المنوط بنا، دون أن نبذل شيئاً يكافئ ذلك؟! ألا نستحضر تاريخ أمتنا؟! ألا نستحضر سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم؟! ألا نستحضر الأمة التي شرقت وغربت، وجاهدت، وبذلت الأنفس والأرواح، وعمرت الدنيا، وأسست الحضارة، وتفوقت في العلوم؟! أليس هذا هو ميدان الاختبار ونحن نرى أمتنا في مجمل أحوالها متخلفة في ميدان العلم، متأخرة في مجال التكنولوجيا، متراجعة في مجالات الفكر، دون جد ولا اجتهاد.(68/7)
أهمية شعور الأمة بالمرحلة التي تمر بها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولاشك أيها الإخوة الأحبة! أننا بحاجة إلى أن نستشعر أن أمتنا كلها، وأننا جميعاً كأفراد وأسر ومجتمعات في مرحلة اختبار، وهو اختبار صعب، ونتائجه خطيرة، وإذا لم نستشعر ذلك فلن نتهيأ للاختبارات، ولن نجدَّ ولن نجتهد، ولن نذاكر، ولن نراجع، ولن نركز، ولن نصيب، ولن ننجح، ولن نتفوق.
فهل نشعر أننا في اختبار؟ راجعوا أنفسكم لتسألوا هذا
السؤال
هل نحن مستشعرون في ذواتنا وأفرادنا وأنفسنا أننا في اختبار صعب عناصره كثيرة: الثبات على الدين، والحفاظ على الهوية؟! إنه اختبار نتعرض له كل يوم عبر المداولات السياسية، والغزوات الفضائية الإعلامية، والمناقشات الثقافية الفكرية، نحن في اختبار ممحص للاستعلاء بالإيمان، والاعتزاز بالإسلام.
وقد رأينا من دعا إلى تبديل وتغيير وتراجع، وغير ذلك مما نسمعه ونقرؤه، فنحن في حاجة إلى اختبار عصيب في قوة الحق، وحق القوة، ونحن اليوم أصحاب حق، ولكننا ننخذل عن نصرته، وندعو إلى ترك هذه النصرة، وأصحاب القوة بلا حق يقلبون بقوتهم الحق باطلاً موهوماً مزعوماً، ثم نعترف به ونكرسه، وندعو إلى الحفاظ عليه وإلى مراعاته، إنها أمور عجيبة! واختبارات لبعض القوم مخفقة وراسبة.(68/8)
في الأمة رموز خير
ونحن في اختبار كبير في الانتصار على الضعف، وقهر العجز الذي يشيع في أجواء كثيرة لأمتنا، ومع ذلك أيها الإخوة الأحبة! نحن نعلم جميعاً في الاختبارات كلها أنه مهما وجد راسبون، ففيها ناجحون متفوقون، وأوائل مبرزون، وهم الذين يتصدرون تلك الصحف فيما تكتبه عن أسمائهم، وما تذكره من جهودهم، وما تسطره من مآثرهم، وما تبرزه من نتائجهم.
ونحن في هذه القضية رأينا الأوائل والسابقين، ورأينا المتفوقين والمتقدمين من الأبطال المقاومين الثابتين على الحق، الرافعين لراية الإسلام الذين عرفوا كل الدروس وراجعوها، وعرفوا الإخفاقات في تلك الهزائم المتوالية، وعرفوا تلك الحيل في تلك المفاوضات المتوالية، فكان بطل واحد منهم يتعرض لجريمة في محاولة اغتياله فتسمع الدنيا كلها به، وتتحدث عنه، وقلت في نفسي وحدثت غيري: من هذا الرجل؟ هل هو رئيس دولة حتى يأتي في صدر كل نشرات الأخبار بشرق الدنيا وغربها؟ هل هو صاحب ثقل سياسي أو وزن اقتصادي؟ ماذا يملك؟ وما قيمته؟ ولمَ كل هذه الأهمية؟ حتى يعرف التافهون والرخيصون كيف تكون القيمة؛ إن قيمته كانت بوقوفه شامخاً، ورفع رأسه عالياً يوم جثا الناس على الركب، وطأطئوا الرءوس إلى الأرض، إن قيمته في استمساكه واعتصامه بما لا يزول ولا يحول ولا يتبدل ولا يتغير من عقائد الإيمان والإسلام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن قيمته وعلوه وسموه كان في أنه استطاع هو وغيره من أصحابه أن يقولوا للإجابة الخاطئة في الاختبار الصعب: لا! يوم قال آخرون: نعم، وأخذوا تصحيحات من المدرسين غير المؤهلين؛ لينجحوا نجاحاً كاذباً، وليرسبوا في حقيقة الأمر رسوباً مريعاً.(68/9)
طلب النجاح في جميع الأمور
إنها قضية مهمة، نحن اليوم في اختيار صعب، وكل منا يعود إليه الأمر فإن شاء أن يكون من الراسبين أو من الناجحين، أو إذا أراد أن يكون من المتفوقين، وهذا هو حال طلابنا اليوم، إنما يفكرون في هذه الدوائر، وهذا حال أمتنا في اختباراتها الصعبة، وحال كل واحد منا فيما يوجه له من اختبار، فبعضنا يرضى بالدون، ويسكن بالركون والخنوع، ويظهر أنه لا يعنى بهذا الأمر، وكيف يكون حينئذ طالباً مجداً مجتهداً راغباً في النجاح؟ إنها مخاطبة لابد منها؛ لكي نسعى إلى القمة ونطلب العزة بطريقها الصحيح، ومنهاجها القويم، خلف الذين ساروا فيها من الرسل والأنبياء، والدعاة والمخلصين، والمجاهدين والمضحين، والأشراف الأحرار الأبرار، لا خلف يهود أو نصارى، أو دجاجلة كاذبين، أو خونة منافقين، فإن السائر وراء هذا الطريق لا يفضي به إلا إلى خسران الدنيا وعذاب الآخرة، نسأل الله عز وجل السلامة.
إلى أولئك النفر المتفوقين ننادي: يا نخبة الأفراد إني ناصح والنصح يقبله اللبيب العاقل المجد مهما عز ظل وارف ونجيه مهما تكبد واصل وصباحه مهما تأخر مشرق ونتاجه مهما تمنع حاصل فاستمسكوا بالصبر إن سبيلكم صعب وليل سراكم متواصل لا مثلكم عن نيل أسباب العلى متخاذل في سيره متكاسل أو تصرفن نفوسكم عن جنة دنيا يتوق لها ويشرف خامل! بل وطنوا هذه النفوس على الندى وتناولوها بالجميل وواصلوا صونوا حقوقاً للإله وحرمة لكتابه ورسوله وتخاللوا لا يرتقي درب المكارم تافه أو يبلغ العلياء يوماً جاهل لكنه عزم يبين ونية تعلي وحال يستبين وصاقل إن كان في الدنيا نعيم يرتجى فنعيمها الغرر الكرام أوائل لا نرضى إلا أن نكون أوائل، ولا أولية إلا باستمساك بديننا ونهج ربنا، وأن نعلم حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة، وما الذي يضحى به لأجل الآخر، فهل نضحي بآخرتنا وديننا لأجل دنيانا، وحفاظ أرواحنا وسلامنا وأمننا، كما يدعون ويزعمون، أم أننا نؤثر أخرانا، ونقدم لأجلها مهجنا وأرواحنا، ونستحضر الصفقة الرابحة التي أخبر الحق سبحانه وتعالى بها، والتي ذكرها في آيات القرآن الكريم ترغيباً وبياناً لهذه الحقيقة المهمة التي لابد لنا أن ندركها، وأن نعيها، وأن نتشبث بها دائماً وأبداً في كل أحوالنا، ونتذكر كذلك قول رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم تخلى صهيب الرومي عن دنياه وعن ثروته، وأقبل إلى دينه وإلى أمته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!)، ذلكم هو الربح، وتلكم هي النجاة، وذلكم هو التفوق، كما قال الشاعر: ألا بعنا الإله أنفساً تزكو إذا الله اصطفاها ربح البيع جناناً وعلاً في هذه الأرض وجاها ربح البيع فهل من بائع فالضلال اليوم قد صال وتاها والشعارات وأصنام الهوى ويد الشحناء لا تلقي عصاها والجراحات وأشباح الأسى في قفار التيه تختال دُماها أين منا الأمس إذ كنا به غرة الدنيا ومشكاة ضياها موثقاً حقاً وفتحاً ناجزاً يملأ الأرض عدلاً لا يضاها وجهاداً يحمل الناس إلى قمم الإيمان يعليهم سناها وبطولات تراءت قبساً ساطعاً كالشمس في أوج ضحاها نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جملة المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وكفر عنا السيئات، برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم رحمتك ولطفك وعونك وعزك وتأييدك لإخواننا المسلمين، المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وأظهر عزهم يا رب العالمين، اللهم اجعل ما قضيته عليهم زيادة لهم في النور واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطواتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كملتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(68/10)
المرأة بين الحرية والعبودية
لقد أنصف الإسلام المرأة، وجعل لها حق الحرية والاختيار في أشياء كثيرة؛ بخلاف ما يزعم الغرب من أن المرأة في الإسلام مظلومة مستعبدة، وأي استعباد أعظم مما يجري في كل البلاد المتبجحة بإعطاء أهل الحقوق حقهم؟! فالمرأة عندهم مهانة مستضعفة، وليس لها مفهوم إلا أنها محل تفريغ الشهوة كالبهائم وأشد، أما في الإسلام فإن المرأة له مفهوم آخر له معنى جميل، وذوق رفيع في الحياة الإيمانية السعيدة.(69/1)
العلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة الأسرية
الحمد لله المتفرد بعزته، المتعالي بعظمته، اللطيف برحمته، القوي بقدرته، خضعت له الرقاب، وذلت له الأعناق، وسجدت له الجباه، وخافت منه القلوب، وجارت إليه النفوس، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى على سائر آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في موضوع المرأة بين الحرية والعبودية، وبين الاستقلالية والتبعية، وحديثنا يختص ببعض ما يثار من الشبهات، وما يفهم خطأً لكثرة الجهالات، وأمر القوامة والطاعة من أهم الأمور التي تستقيم بها الحياة الأسرية الزوجية، وتنتظم بها الحياة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه يحقق العدالة الربانية، والمصالح الدنيوية التي جاء بها تشريع الله جل وعلا، وطبقه وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
الطاعة والقوامة للزوج على زوجته، وللرجل على المرأة أمر من أمور الشرع، تتجلى فيه حكم، وتظهر فيه منافع، وتستخلص منه دروس وعبر، ومع ذلك فإن أصحاب قصر النظر، أو خلل الفكر، أو زيغ المعتقد، أو فتنة الهوى يرون في ذلك من وجهة نظرهم القاصر إنقاصاً لحق المرأة، وجعلها تابعة للرجل بلا استقلالية، أو يرون في ذلك صورة من صور العبودية مستشهدين بذلك القول الرباني زعموا وكذبوا في الوقت نفسه، قوله جل وعلا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، فقالوا: هذه درجة علو واستعلاء، وتسلط وتحكم.
وكذلك ما ورد في قول الله جل وعلا في شأن النساء اللائي ينشزن على أزواجهن: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، وقالوا: هذا ضرب من الرجل للمرأة كأنما هي أمة أو عبدة أو كأنما هي حيوان أو غير ذلك مما يقال.
ونحن نقف هنا وقفات عديدة نظهر فيها جهل أولئك أو تجاهل بعضهم؛ لأنهم ذكروا شقاً ونسوا غيره من الأحكام والتشريعات، ثم لم يصدقوا فيما ذكروه، بل لبسوا وأظهروا شيئاً وأخفوا أشياء أخرى.
نريد أن نقف على حقيقتين اثنتين مهمتين: الأولى: ما هي حقيقة العلاقة بين الرجل والمرأة في شأن الزواج والحياة الأسرية؟ الثانية: في شأن الرجل مع المرأة بإطلاق.(69/2)
المرأة طائعة مطاعة
إن طاعة المرأة لزوجها أمر مطلوب، لكن لما نظهر هذا الشق ونخفي آخر، استمع معي إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ فقال: زوجها، ثم سئل: أي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ فقال: أمه)، فالمرأة هنا تطيع وهنا تطاع، فلم نغفل هذا الجانب الذي فيه إعزاز وإكرام للمرأة؟! وكذلك الجانب الأول سيظهر أثره وبيانه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في هذا الحديث أن أعظم حق على الرجل هو حق أمه، براً بها وطاعة لها، وحرصاً على رضاها.
والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه الرجل يسأله: (يا رسول الله! أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فأين أدعياء حقوق المرأة وحريتها من هذه المنزلة الرفيعة العالية؟ وما من أحد من الرجال إلا وله أم مهما كبر سنه، أو علا قدره، أو زاد علمه، أو كثر ماله، فإنه ابن لها، عليه برها، والجنة تحت أقدامها، وطريق رضوان الله عز وجل في طاعتها، فأي إعزاز وأي إكرام لما ننظر لطاعة المرأة لزوجها ولا ننظر لطاعة الرجل لأمه؟(69/3)
وجوب معاشرة النساء بالمعروف
أمر آخر: وهو أن قضية الضرب أو الولاية مسبوقة بتشريعات ربانية حكيمة بالغة في تقدير المرأة، معطية للمرأة أعظم الحقوق، وأكثرها طمأنينة لقلبها، وحفظاً لحقها، وحماية لعرضها، وإعلاءً لمنزلتها، يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، والآية أمر رباني قرآني بصيغة الأمر الجازم الذي لا يحتمل تأويلاً، {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فإن الله جل وعلا بالتشريع الإسلامي والآيات القرآنية أنزل هذه الأوامر الربانية التي تفرض وتلزم الرجال أن يحسنوا عشرة النساء.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن الآية مطلقة، {وَعَاشِرُوهُنَّ} [النساء:19]، أي: أيها الرجال عاشروا النساء بإطلاق، وإن كان يغلب على الآية تخصيصها بالأزواج في السياق؛ لكنها تشمل عشرة الأم وإحسان عشرتها بالبر والطاعة، وعشرة البنت وإحسان عشرتها بالعطف واللطف والرحمة والرعاية والتربية، وإحسان عشرة الزوجة، وذلك كما ذكر القرطبي في تفسيره: بتوفية حقها من مهرها والنفقة، وأن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: هي المخالطة والممازحة، فأمر الله جل وعلا بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن ليكون حسن الصلة فيما بينهم وصحبتهم على الكمال.
وقال بعضهم في المعاشرة بالمعروف -أي: في تفسيرها-: أن يتصنع لها كما يحب أن تتصنع له، أي: أن يتجمل لها ويريها منه ما يرغبها فيه كما يحب أن يرى منها ما يرغبه فيها.
ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: طيبوا أقوالكم لهن، وأحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله؛ لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].
ثم قال: وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم، ويوسعهم النفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها فيسبقها وتسبقه، وكان يجلس مع سائر نسائه بعد صلاة العشاء ويتعشى، ثم ينصرف إلى بيت التي هي ليلتها، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أين هذا التشريع المحكم الذي فيه إعزاز المرأة، وحسن الصلة بها، وتقديم حقها، والتلطف معها، واللين معها، من ذلك الجانب الذي يذكرونه بمعزل عن هذا كأنما يذكرون شقاً وينسون شقاً؟! كما قال قائلهم: ما قال ربك ويل للألى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا فقد ذكر {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ولم يتم الآية.
فالذي شرع القوامة شرع قبل ذلك أمراً من الله جل وعلا للرجال بأن يحسنوا معاشرة النساء، وأن يحافظوا على حقوقهن.(69/4)
مسألة الضرب ومراحل تأديب المرأة
ثم ننتقل إلى الشق الآخر وهو أمر القوامة، وما قد يكون من حق الزوج على زوجته، وخاصة موضوع الضرب الذي يذكرونه.
أولاً: الآية القرآنية التي ورد فيها هذا الحكم وردت فيها قبل ذلك مراحل ومراتب، يقول الحق جل وعلا: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] وهنا عدة أمور ينبغي أن نتنبه لها: أولاً: أن هذا الحكم لا يكون إلا بسبب من الزوجة: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، فإن عقت زوجها، أو نفرت منه، أو عصت أمره، أو نكدت عيشه، أو أساءت تربية أبنائه، أو فرطت في حفظ ماله، فالأصل أنه لا شيء عليها إلا إن أساءت ابتداءً، وهذا ما ستوضحه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر في هذا التوجيه سواء كان بالضرب أو الهجر لهوىً في نفس الرجل أو تحكم أو تسلط منه، وإنما بما قد يقع من خلاف من المرأة فيما أمرها الله به في حق زوجها.
ثانياً: أن هناك مراحل سابقة: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34]، قال الشافعي: وهو قوله لها: اتقي الله فإنه لا يحل لك ونحو ذلك من الوعظ، فإذا انزجرت به لم يجد أن يتجاوزه إلى غيره، فإن لم يجز ذلك نفعاً فإنه يهجرها في مضجعها، والحديث يقول: (ولا تهجروهن إلا في البيت)، لا يفعل كما يفعل بعض الناس أن يترك لها البيت كما يقولون، أو يشاهدون في التمثيليات، أنه يترك لها البيت وما فيه ويهرب أو يخرج، فليس هذا هو المقصود بهذه الآية، ثم إن لم يجد هذا ولا هذا فلنعلم أن طبائع النفوس تختلف، فامرأة لم تعرف حق زوجها، ولم تقدر قدره، ولم تذكر خيره، ولم تعترف بفضله، ثم عصت أمره، وأعرضت عن وعظه، ثم لم تأبه بهجره، فإن ضربها في مثل هذا الحال فله مشروعية فطرية منطقية عقلية وهي كذلك شرعية.
ثالثاً: هناك مواصفات محددة للضرب، فليس الضرب مصارعة حرة، ولا ملاكمة قاتلة كما قد يفعل بعض الرجال الذين ينسون شرع الله، ولا يتذكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر ليس مطلقاً على غاربه، فإن شرع الله محكم، وإن شرع الله عز وجل قد تضمن كل معاني الإنسانية، ومعاني حسن العشرة الأسرية حتى يحفظ مسيرة المجتمع كله.
يقول الرازي في تفسيره: الذي يدل على تخفيف الضرب الابتداء بالوعظ، ثم الترقي منه للهجر في المضاجع، ثم الترقي منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق.
ثم ما هو هذا الضرب؟ ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عمرو بن الأحوص في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على زوجها؟ قال: (أن يطعمها مما يطعم، وأن يكسوها مما يكتسي، وأن يؤدبها، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت).
وورد عن ابن عباس في تفسير هذا الضرب غير المبرح الذي ورد تصريحاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: (الضرب بالسواك ونحوه)، فهل المقصود بالضرب بالسواك هو ذلك التعذيب والإيلام، أو التسلط والتحكم؟ إنه معنى تأديبي، إنه معنىً توجيهي، إنه معنىً فيه إشارة إلى أن الأمر قد بلغ حداً تجاوزت فيه المرأة ما ينبغي أن تكون عليه.
وورد أيضاً في بعض التفاسير عن هذا الضرب أنه الذي لا يكسر عظماً، ولا يشوه جارحة كاللكزة ونحوها، وكالضربة البسيطة التي قد تضربها لصديقك وأنت ممازح له.
بل قد ورد في التفسير عن بعضهم: أن يضربها بمنديل ملفوف، معنىً من المعاني وليس ضرباً من الضرب المعروف الذي سيأتي ذكر بعضه.
بل قد ورد في صحيح الإمام البخاري حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه معنىً عظيم، ولفتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ينسون أنفسهم، وينسون حق أزواجهم، وينسون حسن العشرة، وينسون ما ينبغي أن تبنى عليه الأسرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم).
قال ابن حجر في تفسيره: في الحديث استبعاد الجمع بين الأمرين، كيف يضرب ثم يعاشر؟ فإن أراد هذا فليمنع هذا، فإن النفرة تقع في قلب المرأة من ذلك التسلط أو التجبر وليس هو من دين الله عز وجل في شيء.
فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم تعضيداً لما جاء في التشريع القرآني: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، فانظر إلى هذا الحديث العظيم كيف جعل خيريتك في المجتمع المسلم مرتبطة بخيريتك لأهلك، وإحسانك لزوجك وأبنائك وبناتك، إن لم يكن لك خير في أولئك فأي خير يرجى منك لغيره؟! وفي حديث عمرو بن الأحوص قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضرباً غير مبرح)، وهذا لفت نظر وتنبيه منه عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن وبيانه.
وانظر إلى تطبيق عملي وقع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي في سننهما، وصححه الحاكم وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضربوا إماء الله، قال: فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمر الذي كان يخفق الرجال بالدرة- فقال: يا رسول الله! ذئر النساء على الرجال) -أي: نشزن لما أمن العقوبة أو كما يقال: سحبت الصلاحيات من الرجل أو الزوج- (فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بضربهن) أي: بنصف التشريع الذي ذكرناه في مرتبته وقدره وحده (فطاف بأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء يشكين أزواجهن) وهذا يدلنا على انفتاح المجتمع المسلم، وكرامة المرأة، جاءت تشكو مما قد يكون وقع عليها من ظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد طاف بآل رسول الله سبعون امرأة، كلهن يشكين أزواجهن ثم قال: ولا تجدون أولئك خياركم)، هؤلاء الذين يضربون أزواجهم ليسوا من خيار الناس ولا من كرمائهم، أي: إذا تجاوزوا الحد المشروع.
أي كرامة، وأي شخصية، وأي مروءة عند هذا الرجل الذي يضرب زوجته ضرباً مبرحاً لا يتقي فيه وجهاً، ولا يخشى فيه أذىً أو جرحاً، فهذا لا شك أنه قد خرج عن حد المروءة المتعارف عليها بين الناس، الرجل في الجاهلية القديمة كان ربما يعف عن مثل هذا ويترفع عنه، ويقول شاعر العرب في ذلك: سمعت بأقوام يضربون نساءهم ألا شلت يميني حين أضرب زينب الرجل الشهم لا يرى ضرب المرأة إلا لوناً من ألوان الدناءة؛ لأن المرأة بطبعها وضعفها وقدرته عليها ينبغي أن لا يدفعه ذلك إلى مثل هذا.
إذاً: الأمر بسبب خلاف أو تقصير أو مخالفة من الزوجة، ثم قبله مراحل سابقة، ثم هو محدود بمواصفات معينة ليس مطلقاً لمن شاء أن يفعل كما يشاء.
وأخيراً: فإن له نهاية ملزمة، وله حد يتوقف عنده، وهذا الحد جاء في قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34]، أي: زال السبب الذي كان سبب العقوبة: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].
وتوقف أهل التفسير عند السر في ذكر اسم (العلي والكبير) من أسماء الله في هذا الموضع بالذات، رغم قلة تكرر تلازم الاثنين في خواتيم الآيات، فقال القرطبي رحمه الله: في هذا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي: إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله، فيده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعلي أحد على امرأته فالله له بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلو والكبر، وهذا أعظم إنصاف، وأعظم حرية، وأعظم حق يعطى للمرأة، فإن الله جل وعلا جعل مقام العلو والكبرياء الذي له تذكيراً وتنبيهاً وتهديداً وزجراً للأزواج أن لا يتجاوزوا الحد، فإن الله أعلى وأكبر منه.
وزاد الرازي على هذا الوجه وجوهاً أخرى فقال في تفسيره في سر هذا الختم للآية القرآنية: إن النساء عندهن ضعف وعجز عن الانتصاف، فلئن عجزن عنه فإن الله العلي الكبير ينتصف لهن ممن بغى عليهن.
وقال أيضاً: إن الله جل وعلا مع علوه وكبريائه لا يكلفكم أيها الناس إلا ما تطيقون، فكذلك أيها الرجال إن كان لكم علو أو تكبر أو قوة فلا تكلفوا النساء إلا ما يطقن، وكذلك الله جل وعلا مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، فلا تأخذوا النساء إذا رجعن إلى الطاعة إلى غير ذلك من الأسرار الكثيرة التي ذكرت في تفسير هذه الآية، وتنبيه المسلمين إلى الحد الذي ينبغي أن يعرفوه وأن ينتهوا إليه، ولذلك ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، فهذا كله تذكير وتنبيه للمسلم ووضع لهذا التشريع في مكانه الصحيح، وفي موقعه الذي ينبغي أن يعرفه المسلم.
وقال الإمام ابن حجر في شرحه لبعض هذه الأحاديث: ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، يعني: إن كان يكفي التهديد بأني سأفعل وأفعل فتخاف وترتدع وتستقيم فيكفي هذا التهديد عن الفعل، قال: لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن العشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله عز وجل.
وفي حديث عائشة الذي يرويه النسائي في سننه قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ولا خادماً قط، ولا ضرب بيده شيئاً إلا في سبيل الله، أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله).
إذاً: لو تأملنا هذا لوجدنا أن هذه الطاعة للزوج من المرأة في مصلحتها، وهي كذلك في مقابل أمر آخر مهم، وهو(69/5)
وقفات مع حال الزوجة الغربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى حسن معاشرة الأزواج، والقيام بحقهن، وإعزازهن، وإكرامهن؛ لأن في ذلك أثراً في تربية الأبناء من بعد، وأقف وقفة مع قليل من بعض صور الحضارة الغربية المظلمة في هذا الشأن الذي يطعنون فيه على الإسلام، أو يدعون فيه وجود النقص في تشريعات الإسلام.
وقفات مع حال الزوجة وقضية الضرب أو التسلط من الرجال على النساء.
بحث أعد في جامعة كاليفورنيا الجنوبية في أمريكا في أوساط الطلبة الذين يمثلون النخبة المثقفة الجامعية، تقول هذه الدراسة: إن (79%) من الرجال يضربون النساء وخاصة الزوجات منهن.
وفي دراسة أخرى فحصت ألفاً وثلاثمائة وستين سجلاً من سجلات النساء في المستشفيات قال صاحب الدراسة في أمريكا: إن ضرب النساء ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تصاب بها النساء.
أما إحدى الباحثات واسمها آن فلت كرفت تقول: إن ضرب النساء هو إحدى حقائق المجتمع الأمريكي، ومشكلة اجتماعية واسعة الانتشار.
ومن ثم وجدت عندهم المنظمات لصد العنف عن المرأة، ونحن لا نحتاج إلى هذا؛ لأنه ليس عندنا مثلما عندهم.
وهناك منظمة اسمها: منظمة الائتلاف الوطني ضد العنف المنزلي، ومقرها واشنطن عاصمة أمريكا، تقول المنسقة في هذه المنظمة: الرجال يضربون نساءهم في سائر أنحاء الولايات المتحدة؛ مما يؤدي إلى دخول العشرات من الآلاف منهن إلى المستشفيات، وقارنوا مع ضرب السواك والمنديل الملفوف والتهديد الذي ذكرناه في تشريع الإسلام.
وتقول عندما سئلت عن حجم هذه الضربات وتأثيراتها: إنها تتراوح ما بين اللكمات حول العينين، والكسور، والحروق، والجروح، والطعن بالسكاكين، وجروح الطلقات النارية، وضربات أخرى بالكراسي والسكاكين والقضبان المحماة.
هذه هي المرأة في حضارة الغرب اليوم! وهذا هو الرجل المتحضر الأنيق الذي يلبس من الثياب ويأتي من الكلمات ما يتأثر به بعض أبناء المسلمين.
ثم تقول في تقديراتها الإحصائية من خلال منظمتها الائتلافية الوطنية ضد العنف المنزلي: إننا نقدر عدد النساء اللائي يضربن في أمريكا كل عام بستة ملايين امرأة، وقد عقد في امستردام ندوة شارك فيها ممثلون من إحدى عشرة دولة في أوروبا وأمريكا عنوانها: إساءة معاملة المرأة في العالم أجمع.
ثم في دول أوروبا، وليس الحال ببعيد عن هذا، بل هو مماثل وأكثر في بعض الأحوال، فهذه فرنسا تشكو من هذه الظاهرة، وتعطي إحصاءاتها التي تصدر عن مراكزها ومراكز بحوث دراساتها تقول: إن هناك مليوني امرأة يضربن في العام الواحد.
وتقول أمينة سر الدولة الفرنسية لحقوق المرأة التي تعتبر بمثابة وزارة لرعاية حقوق المرأة: حتى الحيوانات تعامل أحياناً أحسن من النساء، فلو أن رجلاً ضرب كلباً في الشارع فسيتقدم شخص ما بشكوى إلى جمعيات الرفق بالحيوان، ولكن إذا ضرب رجل زوجته فلن يتحرك أحد.
وتأتي هناك إحصاءات، وأرقام أخرى، وأمور كثيرة فيها صور من هذا الاضطراب والاختلال الذي يقع في غياب التشريع الإسلامي، وفي غياب الأمر بحسن العشرة، وفي غياب الأمر ببر الأم، وفي غياب الأمر بحسن الصلة مع الزوجة إلى غير ذلك مما هو مذكور في شرع الله سبحانه وتعالى.
ولسنا بصدد أن نذكر ونسرد الكثير في هذا، وحسبنا أن نقول: إن هذه أمثلة تبرز بعض الحقائق وما خفي كان أعظم، والذي يطالع ما تنشره صحفهم، وما تخرج به مراكز أبحاثهم يرى العجب العجاب في هذا الشأن وفي غيره من الشئون.(69/6)
مفهوم القوامة الشرعية ودفع الشبه حولها
إن القوامة هي نوع من الإدارة، ولا يمكن أن تكون هناك مؤسسة أو شركة ليس فيها شخص مسئول يكون له بعد المشاورة والمداولة الكلمة النهائية والفصل، وإلا لكانت الأمور فوضى، ولكان هناك تنازع وشقاق، مدير المؤسسة له حق الطاعة على الموظفين، فإن قالوا: ولماذا يكون له هذا الحق؟ فلم يطيعوه لاضطرب حال المؤسسة كلها، وتضرر الجميع بلا استثناء.
وكذلك شأن الأسرة إما أن تترك فوضى فلا رب لها، وهذا لا يمكن أن يكون أمراً صالحاً أو مصلحاً، وإما أن تكون القوامة للمرأة أو للرجل، وهم يعترضون أن تكون للرجل، فلو كانت للمرأة فما رأيكم ألا يتظلم الرجل أيضاً؟ ثم انظر أيضاً إلى أمور أخرى، فإن المرأة تغلبها عاطفتها، وتفقد حسن تصرفها مع غضبها، فهذه لا تصلح للإدارة مطلقاً، لا لنقص فيها، ولكن: لأن طبيعتها تصلح لأمر آخر، وقلنا: إن الحقيقة الصحيحية للمساواة هي المراعاة وليست المساواة مع اختلاف وجود الأسباب.
ثم المرأة يعتريها ما يعتري النساء من حيض وحمل ونفاس، وهذه أمور تضعفها في بدنها، وتضعفها في نفسيتها، وتضطرب حتى أحياناً في تفكيرها واهتماماتها، فماذا نصنع؟ هل نعطي للأسرة إجازة لفترة الحمل أو لفترة النفاس أو غيرها وتضطرب الأمور والأحوال؟ ثم أين خبرة المرأة في هذا الشأن الذي تتعرض فيه الأسرة لأمور كثيرة تحتاج فيها إلى خبرة بالمجتمع، ومزاولة لأعماله، ومعرفة ببعض المشكلات والمعضلات، مما لا يتوفر لها ولا يليق بها، ولا يصلح مع فطرتها وطبيعتها؟ وإذا عرفنا ذلك وعرفنا أن القوامة للرجل ليست قوامة تسلط ولا تحكم، وإنما قوامة مسئولية، فهي تكليف لا مجرد تشريف، ففيها عليه النفقة والحماية، وعليه حسن الرعاية، وأن يلبي الطلبات لما هو لازم ومحتاج إليه في شئون الأسرة والمنزل والأبناء، فليس الأمر حينئذٍ إلا نوعاً من الأسلوب الذي تمضي به الحياة على أتم وأكمل وجه فيما تتحقق به المصلحة للرجل، والمرأة على حد سواء.
ولذلك يأتون فيقولون: تشترطون على المرأة أن لا تسافر إلا بمحرم، كأنها قاصرة، كأنها لا قيمة لها، كأنها كما يقولون: لا شخصية لها تتبع الرجل.
ونقول: هذا من جهلكم وحمقكم، فإن الناس يعرفون أن الذي لا قيمة له هو الذي يذهب ويجيء دون أن يكون معه أحد، ولا ينتبه أحد لرعايته ولا للاهتمام به، أما عكس ذلك فغير ذلك، نحن نعلم مثلاً: أن المدير إذا خرج من إدارته أو ذهب في مهمة فإن المرافقين له يكونون أكثر من الموظف العادي أو المراسل الذي يراسل بين مؤسسة وأخرى، لا، ليست له من الأهمية والقيمة ما يحتاج إليه من المرافقين الذين يقدمون له الخدمات، أو الذين يحرصون على حمايته ونحو ذلك مما قد يكون في شأن أصحاب الحكم والسلطان، فإنه إذا خرج أو سافر لابد أن يكون له من يقوم برعايته وحمايته.
والمرأة لما كانت منزلتها عظيمة، وقدرها كبير، والحفاظ عليها أمر مهم في مجتمع المسلمين؛ حفظاً للأعراض، وحفظاً للأمن، وحفظاً للمجتمع والصحة والفطرة، كان شأنها أن يوظف الرجل المحرم لها ليرافقها إيناساً لها من وحشتها، وحفظاً على عرضها، وذوداً عنها، فإن السفر عرضة لأن تتعرض فيه المرأة لسرقة أو لعدوان، أو لاغتصاب، أو لغير ذلك، ونحن نعلم -والإحصاءات في ذلك كثيرة- أن نساء الغرب لا يستطعن لا أن يسافرن، بل لا يستطعن أن يسرن في الطرقات في المدن بعد دخول الليل خوفاً من الاغتصاب والاعتداء والسرقة وغير ذلك، فالله عز وجل قد أكرم المرأة ورعاها.
ومن هنا نجد أن هذه الأمور التي يظنونها قيوداً إنما هي إكراماً وإعزازاً للمرأة.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ نساءنا، وبيوتنا، وعوراتنا، وأبناءنا، وبناتنا، اللهم إنا نسألك أن تجملنا بالتقوى، وأن تجعلنا من أهل البر والتقوى، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك أعمارنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام نائمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وردهم إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب، وألزمهم كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على سائر أعداء الدين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والشيوخ الركع، والأطفال الرضع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، ونفس همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تدفع عن بلدنا هذا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن، وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير، وتحضهم عليه، وتحذرهم من المنكر وتنهاهم عنه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر وذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(69/7)
المرأة القدوة
إننا في مجتمع نفتقر فيه إلى المرأة القدوة، فكان لزاماً علينا أن نقوم بإعداد المرأة القدوة وإيجادها، وذلك لما يترتب على ذلك من المصالح والمنافع، ولأن ذلك من أعظم أسباب القوة والالتزام والحشمة والعطاء في المجتمع، وهناك معالم تتعلق بوجود المرأة القدوة، منها: أهمية وجودها في تماسك المجتمع وصلاحه، وتأثير المرأة القدوة على بنات جنسها، ومعرفتها بأحوالهن أكثر من غيرها، والحاجة الماسة لوجودها، وهناك مجالات تتعلق بالمرأة القدوة تجدونها مفصلة في ثنايا هذه المادة.(70/1)
أهمية إعداد وإيجاد المرأة القدوة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم أجورنا وأن يحسن خواتمنا، وأن يجعلنا منقلبين إليه على خير وفي طاعة وعلى ثبات وهداية؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أخي الكريم! موضوعنا عنوانه (المرأة القدوة) وهذا الموضوع أحسب أنه من الموضوعات التي لها أهمية عظيمة، ذلك بأنه تترتب عليه كثير من الفوائد والمصالح، كما أن فقدانه يترتب عليه كثير من المضار والمفاسد، ولعلنا نشرع في هذا الموضوع بهذه النقطة المتصلة بأهمية الموضوع وخصيصة التركيز على المرأة القدوة.
فأقول مستعيناً بالله عز وجل: إن وجود المرأة القدوة من أعظم أسباب القوة والالتزام والعطاء في المجتمع المسلم، وذلك لأن وجود المرأة القدوة يعني وجود البنت الصالحة والزوجة الصالحة والأم المربية، وبالتالي وجود الأسرة الناجحة والذرية الصالحة والمجتمع المسلم المنشود، فنحن عندما نولي المرأة اهتماماً كبيراً فإننا نهيئ أسباباً عظيمة لأهم الأمور وأخطرها في بناء المجتمعات عموماً، وفي بناء المجتمع المسلم خصوصاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لهذا مزيةً بحيث جعل خصوصية لمن عال جاريتين أو رباهما بأنهما يكونان من أسباب دخوله الجنة، وكما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (من ابتلي بشيء من هؤلاء البنات فأحسن تربيتهن والقيام بأمرهن كن له نجاة من النار).
ليس هذا القول منه عليه الصلاة والسلام لمجرد معاني الشفقة والرحمة فقط، وإنما لمعاني البناء والتربية والتأسيس الذي ينتج عنه بعد ذلك، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أعظم النعم وأعظم المتاع التي يبحث عنها في هذه الحياة الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا، وذلك عندما قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وعندما جعل الظفر بهذه النتيجة من أعظم نتائج الظفر وأبلغه قال عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، بعد ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حقوق الأمهات، لما لهن من فضل في التربية والتنشئة والتعليم والتعويد على أمور الخير: (الجنة تحت ظلال الأمهات).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البر عندما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك) (وهذا رجل يكتتب في الغزو فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إني اكتتبت في الغزو وإن أمي مريضة.
قال: ففيها فجاهد).(70/2)
معالم وأمور تتعلق بوجود المرأة القدوة
ننظر إلى المعالم في تلك المراحل، فنرى أن وجود المرأة القدوة بنتاً وزوجة وأماً يعني وجود هذه القنوات المهمة في تماسك وصلاح وقوة المجتمع المسلم، فليس الأمر مجرد توجيهات أو كلمات عابرة، بل هو صياغة وتأسيس وأخذ بأسباب قيام مجتمع إسلامي صالح نظيف يؤدي مهمته في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالأمر إذاً هو أبلغ في الأهمية وأعظم في الخطورة، ونعلم جميعاً أن كل فرد منا كان يوماً رضيعاً وربيباً لامرأة غذته بلبانها، وفي نفس الوقت غرست فيه من معاني التربية ما غرست من أمور الخير والصلاح، والأمور التي يحتاج إليها المسلم ويحتاج إليها المجتمع المسلم بوجه عام.
فإذاً الأمر كما قال أمير الشعراء: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق فبإعداد الأم يعد شعب كامل؛ لأننا ندخل في هذه الدوائر من خلال تكوين الأسرة وتربية الذرية.
الأمر الثاني: المرأة أبلغ في التأثير في صفوف النساء، فنحن عندما ننصب القدوات من الرجال فإن هذا لا شك أن له تأثيراً عاماً في المجتمع كله رجالاً ونساءً، ولكن خصوصية وجود المرأة القدوة له تأثير أكثر وأظهر وأشهر في صفوف النساء.
فإذا قلنا للمرأة: إن الرجل مجاهد غاز في سبيل الله قالت: ذاك شأنه وتلك طبيعته.
لكن إن جئنا لها بمثال من امرأة مجاهدة كان ذلك أقوى في التأثير على نفسها، ودفعها إلى أن تكون في مثل هذه المجالات والأعمال والميادين.
والأمر الثالث: أن المرأة في مجمل الأمور أعلم بأحوال النساء من الرجال، فمهما كانت عقول الرجال بليغة ومهما كان علمهم غزير فإن عندهم نقصاً في معرفة أحوال النساء وطبائعهن، ولا يستطيعون أن يكونوا في مجالس النساء وفي مجتمعاتهن ليعرفوا ما قد يكون من خور أو قصور يحتاج إلى توجيه وتنبيه أو إلى إرشاد وتوضيح، ستكون المرأة القدوة حينئذ أقدر على معرفة الداء ووصف الدواء، فهي الخبيرة المعايشة المعاشرة لأولئك النساء.
الأمر الرابع: هو الحاجة العظيمة للمرأة القدوة بسبب تشويه قضايا المرأة في الإسلام، فنحن نعلم أن أكثر مخططات أعداء الإسلام وجل شبهاتهم تنصب في دائرة المرأة والحياة الاجتماعية، مثل دعوى حرية المرأة، ومن نزع الحجاب، ومن الدعوة للاختلاط، ومن صور السفور والعري أو غير ذلك من الأمور، فإذا نظرنا فإنا نجد أن أكثر الشبهات والمغالطات والدعوات المغرضة أنها تنصب في هذا المجال، فلذا وجب أن نوجد من نساء المسلمين من تكون على نموذج يحتذى وقدوة تؤتسى ومعرفة تفند مثل هذه الشبهات، وتدحر مثل هذه المفتريات، لتكون لها دورها بين النساء حتى نصد هذه الغارة وهذه الهجمة الشنيعة الفظيعة التي كما نعلم أنها تعقد لها المؤتمرات وتعقد لها الندوات وتفرغ لها كثير من الطاقات وتبذل فيها الأموال وتطبع فيها المطبوعات لغرض هذا التأثير السيئ في مفاهيم المرأة المسلمة، أو المفاهيم المتصلة بالمرأة والأسرة والتربية في ميدان الإسلام.
وأخيراً وليس آخراً فحاجتنا لهذا الموضوع وأهميته كبيرة؛ لأنه قد برز في مجتمعات المسلمين في مجال المرأة قدوات سيئة، واليوم إذا التفتنا لنرى الأسماء اللامعة ولنرى من يتصدرن الأقوال على صحف الجرائد أو المجلات أو من يذكرن بأنهن الرائدات لوجدنا ألسنة شانئة ممسوخة ليست بالأمثلة التي تمثل الإسلام، بل ربما لا تنتسب إليه إلا انتساب الاسم والرسم دون الحقيقة والجوهر، ولذلك كان الأمر في هذا الجانب خطيراً مهماً، خاصة إذا كانت النساء من أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا.
وهناك نماذج وأمثلة في مجالات متعددة للقدوة في حياة المرأة المسلمة، نبغي بذلك أن نؤكد وجود هذه المجالات، وأن نبرز الصور العملية الحية التي كانت في سير الأولين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمهات المؤمنين ومن غيرهن ممن برزن على آثارهن، ونريد من ذلك أيضاً أن نثير في نفوس النساء الغيرة المحمودة بالتنافس في مجال الخير والرغبة للتطلع إلى هذه الأمثلة السمية العلية من نساء المؤمنين، ثم لنقوم بعد ذلك بالمقارنة بين تلك الأمثلة وبين ما يموج به واقع كثير من مجتمعات المسلمين من أمثلة رديئة.(70/3)
مجالات المرأة القدوة وأمثلتها في الواقع
ونمضي مع القدوة ومجالاتها وأمثلتها في حياة المرأة المسلمة، ذاكرين الأهم منها والأقل من أمثلتها، ليكون هناك فسحة لبقية عناصر الموضوع.(70/4)
مجال العبادة والطاعة
هذا هو الهدف الأسمى من وجود الإنسان في هذه الحياة، كما نعلم من قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
والمرأة المسلمة في كثير من أحوالها هي أكثر تعبداً وطاعة لله من الرجل في هذه الأوقات؛ لأن الرجال شغلوا بكثير من الأعمال وتفقد الدنيا، وكثير من النساء ربما كان عندها من الوقت وهدوء البال وقلة الانشغال ما يجعلها أقدر على أن تصرف من وقتها لطاعة ربها، ولذكره سبحانه وتعالى، ودوام التبتل والانقطاع إليه ما لا يتاح لغيرها من الرجال، وهذا ينبغي أن يكون ميدان تنافس بين الرجل والمرأة، لكننا نقول: إن كانت المرأة أكثر وأظهر فهو في الآخر أنفع لنا وأنفع لأبنائنا ولأجيالنا بإذن الله عز وجل، فقد ورد في سنن أبي داود حديث لطيف، يصور لنا هذا التعاون ويصور لنا هذا التنافس بين الرجل والمرأة في طاعة الله، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حديثه: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) صورة جميلة رائعة من التعاون والتكامل، أحسب لو أنها طبقت في بعض بيئاتنا فلو أن امرأة قامت تصلي ثم نضحت زوجها بالماء لتوقظه للصلاة ربما قابلها بالويل والثبور وعظائم الأمور وما لا تحمد عقباه.
أمثلة التعاون كثيرة في سير الصحابيات رضوان الله عليهن، أذكر منها القليل اليسير من سير أمهات المؤمنين، ففي الحديث أنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المسجد فرأى حبلاً مدلىً في المسجد فسأل عن هذا الحبل فقالوا: حبل لـ زينب رضي الله عنها تصلي من الليل فإذا تعبت تعلقت به فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا إلى الاعتدال وقال: ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد).
وفي رواية أخرى: (فإن الله لا يمل حتى تملوا).
لكن الشاهد هو هذه الصورة العظيمة للعبادة الخاشعة الخاضعة الكثيرة من أم المؤمنين رضي الله عنها، تصلي حتى يبلغ بها التعب مبلغاً لا تستطيع معه القيام فتستعين بحبل تربط نفسها أو تربط يدها به حتى تواصل عبادتها وطاعتها لله عز وجل.
وتُذكر لنا صورة أخرى لبعض أزواجه، وهي جويرية رضي الله عنها عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قاعدة في مصلاها تسبح الله وتستغفره وتدعو، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لبعض شأنه ثم رجع وإذا بها في محرابها مازالت تذكر الله وتستغفره سبحانه وتعالى، فقال: (أما زلت في مجلسك الذي كنت عليه؟ قالت: نعم يا رسول الله.
قال: فإني قلت بعدك أربع كلمات تعدل ذلك كله: سبحانك -اللهم- وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك) فجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، لكن الشاهد الذي أردت الوقوف عليه هو استغلال المرأة وقتها في الطاعة والعبادة، ولست أريد ذكر الصور المقابلة؛ لأنا نريد أن نفردها بالحديث في كل مجال بقدر الاستطاعة.(70/5)
مجال الدعوة
مجال آخر من المجالات المهمة التي قد يظن بعض الرجال والنساء أنها مقصورة على الرجال دون النساء، وهو مجال الدعوة، نحن نريد المرأة القدوة في مجال الدعوة؛ لأهميتها في هذا الجانب.
وهنا دوران أساسيان للمرأة في قضية الدعوة: الأول: هو دور المساعدة.
الثاني: هو دور الممارسة.
أما دور المساعدة فهو أن تكون ردءاً وعوناً وسنداً وإمداداً لزوجها عندما يمضي في شئون الدعوة، أو يذهب في الغزو والجهاد في سبيل الله، أو يسعى في أمور الخير لنصرة المسلمين وإغاثتهم، فلا تعترض عليه إذ ينفق المال في هذا الباب، ولا تعترض عليه إذ يغيب الوقت الطويل في خدمة الإسلام والمسلمين، بل تكون عوناً له وردءاً في هذا الجانب، فتكون حينئذ مثلاً رائعاً، وتقدم دوراً رائداً، وتكون عنصراً فاعلاً، وتكون قوة لدعم هذا الدين، وهي بهذا كأنما تمثل صفوف الإسناد عند التقاء الجيوش، فالجيوش لها متقدمة تقاوم وتدافع وتحارب، لكن وراء هذه الجيوش المتقدمة إمدادات من الأغذية والأطعمة والمعلومات وغير ذلك من الأسباب الأخرى، فلو لم يوجد هذا السبب وهذا الردء لما استطاعت المقدمة أن تقوم بهذا الدور، ولو أن كل رجل عالم أو داعية أو مجاهد أو ساع لخدمة المسلمين وإغاثتهم وجد امرأة تطلب منه أن يبقى في بيته وأن يقصر ماله عليها وعلى ولدها، وأن يكثر انشغاله وكل وقته وكل همه لمتاعها وزينتها لما وجدنا من المسلمين من يخرج في هذه الميادين، وأبرز وأعظم وأظهر مثال للمرأة المسلمة في هذا الشأن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تلك المرأة العظيمة التي كانت أعظم سند لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره، انظر إلى هذا المثل في المراحل المتعددة التي كانت قبل الرسالة، وفي أول الرسالة حتى حفظ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وذكر فضلها، وما زال يكرر من وفائه لها وبره بها بعد موتها عليها رضوان الله سبحانه وتعالى.
هذه خديجة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء الليالي ذوات العدد يتفكر في هذا الكون يخلو بنفسه من تلك الجاهلية الظالمة المظلمة، ليخلص إلى الكون بصفائه ونقائه، ويسرح البصر والنظر متأملاً متفكراً، ويجعل القلب متدبراً متأملاً، كانت رضي الله عنها وأرضاها تعينه على ذلك وتعد له زاده وطعامه، وتشجعه وتساعده في هذا، ثم لما جاءت مرحلة أخرى ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة التي نعرفها ونعرف ما جاء فيها من حديث عنه عليه الصلاة والسلام، وجاء الدور الثاني بعد دور التشجيع والمساعدة وهو دور التثبيت والطمأنينة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دثروني دثروني.
زملوني زملوني وقال لها: (إني قد خشيت على نفسي.
فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نواب الخير) فهذه كلمات تدل على الإيمان والوعي، وعلى النصرة والتثبيت والطمأنينة، فإن الرجل إذا واجه الصعاب ووجد بعد ذلك امرأة مشفقة خائفة مضطربة فت ذلك في عضده، وانقطع ما كان من عزمه وجده، بينما لو وجد مثل المرأة المسلمة التي مثلتها خديجة رضي الله عنها لزاد ذلك في قوته قوة وفي عزمه عزماً بإذن الله عز وجل، ولم يقتصر دورها على ذلك التشجيع ولا هذا التثبيت، وإنما تحركت معه بحركة إيجابية فيها تأييد، فهناك تشجيع ثم تثبيت ثم تأييد عملي، فمضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتخبره الخبر ولتستشيره في أمر ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال: (هذا -والله- الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال: عليه الصلاة والسلام أو مخرجي هم؟! قال: ما أتى رجل بمثل ما تأتي به إلا حاربه قومه -أي: نازعه قومه- ثم قال ورقة: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فكانت هذه حركة عملية من خديجة رضي الله عنها ثبتت رسول الله وشجعته وأيدته في مقتبل أمره وأول دعوته.
الجانب الثاني في الدعوة جانب الممارسة، ليس مجرد المساندة للرجل، بل ممارسة الدعوة في صفوف النساء، وفيما يعود على مجتمعهن بالفائدة والنفع، وهذا أمره مهم؛ لأن هناك جهلاً كثيراً بين صفوف النساء، ولأن هناك عادات غير حميدة قد سرت بين كثير من النساء، وطبائع من القيل والقال، ومن المنافسة في أمور الدنيا ونحو ذلك مما تضمنته كثير من وسائل الإعلام، أو مناهج التعليم، أو قصص الأدب، أو غير ذلك مما يحتاج معه إلى أن تمارس المرأة المتعلمة المتحرقة لخدمة الإسلام والمسلمين الدعوة في صفوف النساء.
ومثل عظيم من أمثلة الدعوة يذكره لنا ابن حجر في الإصابة في ترجمة أم شريك الأسدية القرشية، ذكر أنها أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت في الفترة المكية تدعو النساء إلى الإسلام سراً، وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، ما كان أحد من الرجال يستطيع أن يقوم بهذا الدور في ذلك الوقت، لكن المرأة بطبيعتها تستطيع أن تزور تلك المرأة وتلك المرأة، فكانت تستغل طبيعتها النسوية وتدخل لتغزو كفار قريش في عقر دارهم، قد كان كفار قريش يأخذون المسلمين من الرجال ويعذبونهم ليصدوهم عن الدين، فإذا بالغزو يأتيهم من وسط بيوتهم ومن بين نسائهم، قال ابن حجر رحمه الله: كانت أم شريك تدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر الإسلام في النساء وبلغ شأن دعوتها قريشاً.
فإذا ببيوتهم تتزعزع من الداخل، وإذا بالإسلام الذي يحاربونه في الخارج يرفع بأيدي نسائهم وعلى ألسنتهن، حينها قال كفار قريش: والله لولا قومك لفعلنا بك كذا وكذا.
قالت: فحملوني على بعير ليس عليه شيء، ثم جعلوني ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب.
حتى بلغ بها من الإعياء والشدة مبلغاً عظيماً، حتى إنها صارت لا تسمع ولا تميز، قالت: فأخذوني فأنزلوني منزلاً فأوثقوني في الشمس، واستظلوا تحت الشجر وناموا.
وقد بلغ بها الأمر ما بلغ وهي صابرة محتسبة، قالت: فإذا أنا بأبرد شيء على صدري دلو من ماء من الله عز وجل.
قالت: فشربت منه حتى رويت، ثم شربت حتى رويت، ثم شربت حتى رويت ثم صببت منه على بدني، فلما استيقظوا رأوا الماء فقالوا: حللت وثاقك وشربت من سقائنا! قالت: ما فعلت من ذلك شيئاً.
قالوا: إن كان قولك حقاً فإن دينك دين خير، فذهبوا إلى أسقيتهم فوجدوها معصوبة لم يفكها أحد فأطلقوا سراحها.
وذكر ابن حجر أنها هي المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، ونزلت الآيات في سورة الأحزاب في هذا الشأن، فانظر إلى هذا المثل، ولتنظر المرأة المسلمة إلى هذه المرأة الداعية التي استولى الإيمان على قلبها رغم سرية الدعوة وصعوبة الجهر بالإسلام، لقد كانت تغزو الجيوش وتغزو النساء، وتستميل القلوب إلى هذا الدين.
وهذه أم سليم مثل عظيم آخر، تبين لنا فيه كيف ينبغي أن تؤثر المرأة الدعوة إلى الله وإلى الإسلام على كل شيء، فلما جاء أبو طلحة يخطبها ويريد نكاحها قالت قولاً حكيماً يدل على رجاحة عقل، كما يدل على بعد نظر وحرص على مصلحة الإسلام، قالت: إنك رجل كفؤ وما مثلك يرد -هذا نوع من الجزل والترغيب والاستمالة-، ولكنك رجل كافر وأنا مسلمة، فإن أسلمت فإن إسلامك مهري لا أبغي بعده شيئاً.
فقال أبو طلحة الراغب فيها: وكيف لي بذلك؟ قالت: لك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أقبلت قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه) فجاء وأسلم فكان مهرها إسلامه رضي الله عنها وأرضاها، فانظر إلى رجاحة العقل حيث قدمت مصلحة الإسلام، وكيف حملت هم الدعوة إلى الله عز وجل.
وفي بعض الروايات أنها قالت له: ما مهري عندك يا أبا طلحة؟ قال: مهرك الصفراء والبيضاء -أي: الذهب والفضة-.
قالت: ما أريد صفراء ولا بيضاء، ولكن إن أسلمت كان إسلامك مهري.
فآثرت إسلامه ودعوته إلى الإسلام على حظ نفسها وعلى متاع الدنيا.
ومثل آخر يرويه لنا بعض الصحابة رضوان الله عليهم في شأن إحدى النساء المسلمات المؤمنات، فقد روي عمران بن حصين رضي الله عنه أن الصحابة كانوا في مسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بهم العطش مبلغاً، وإذا بهم بامرأة على حمار لها معها مزادتان من ماء، فاستسقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقته، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فبارك الله في الماء فشربوا منه، وبقي ماؤها، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنك رجل خير.
ثم أسرت الإسلام في نفسها ورضيت باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتمت إسلامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ لها صنيعها ويشكر مساعدتها للمسلمين وحسن معاملتها لهم، فكانت الحملات والغزوات والسرايا تغزو هنا وهناك، لكنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تجتنب قوم تلك المرأة، كان النبي يوصي أصحابه في السرايا أن لا يغيروا وأن لا يغزو ذلك الحي الذي كانت منه تلك المرأة، فماذا صنعت هذه المرأة الحصيفة اللبيبة؟ قالت لقومها: هاتوا ما عندكم؟ فجمعوا لها من الطعام والتمر حتى أتت أهلها، ثم قالت لهم: أتيت من عند أسحر الناس أم أهو نبي كما زعموا؟ فقصت لهم خبر المزادتين، ثم إن تلك المرأة أسلمت وأسلم قومها، وفي بعض الروايات أنها قالت لهم: أترون أن القوم تاركوكم لا لشيء، فإنما تركوكم لأجل هذا الأمر.
أي: لأجل قصتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت يوماً لقومها كما في رواية أخرى: ما أرى هؤلاء القوم تركوكم عمداً، هل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام، فانظر إلى امرأة دخل قومها الإسلام بدعوتها ليس النساء فقط وإنما الرجال والنساء، وحديثها في الصحيحين.
فهذه أمثلة، وغيرها كثير أيضاً من نماذج نساء المؤمنين التي تبين هذا المجال المهم من المج(70/6)
مجال التعليم
المثال الثالث -وهو قريب الصلة بالذي قبله- مجال التعليم، وهذا المجال تدخل فيه الدعوة، لكنه ربما يشمل غيرها من أمور التعليم كلها من غير ما تخصيص.
نحتاج إلى المرأة القدوة في مجال العلم والتعليم من الناحية الشرعية حتى تعلم بنات جنسها، وكذلك من ناحية الأمور الحياتية العامة، والعلوم النافعة التي تحتاجها النساء، فتكون باباً من أبواب التعليم والخير، وتكون أيضاً باباً يسد أبواب الاختلاط التي يريد أعداء الإسلام أن يدخلوا إلى مجتمعات المسلمين من خلالها.
فهذه عائشة رضي الله عنها أعظم مثل في هذا، وهي العالمة التي كان الصحابة يراجعونها ويستفتونها، وكانت ترد عليهم أقوالهم وتصوب آراءهم رضي الله عنها وأرضاها.
قال لها عروة بن الزبير -وهو ابن أختها وربيبها-: ما أعجب من علمك بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أن هذا أمر مفروغ منه أنها تعلم القرآن والسنة بحكم حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم- ولكني أعجب من علمك بالطب -لقد كانت رضي الله عنها خبيرة بهذا المجال- كيف لك به؟! قالت: يا عرية -تصغير عروة -! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرض، وإن الوفود كانت تفد عليه وتنعت له النعوت -تعني: تصف له الأدوية من الأعشاب- فأحفظ ذلك مما كان يقال ويوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الشفاء بنت عبد الله العدوية كانت من عقلاء النساء، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يزورها ويقيل عندها، وكانت تعرف القراءة والكتابة، فطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلم أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وكانت امرأة راقية -أي: ترقي بالقرآن- فعرضت رقاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينظر فيها ويصوبها أو ينبهها إلى ما قد يكون من خطأ إن كان فيها، فأجازها وقال لها: (علميها حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها) ومجالات التعليم في شأن النساء ومايحتجن إليه من تطبيب أو تعليم في هذه الشئون من الأمور المهمة التي نحتاج فيها إلى المرأة القدوة في هذا المجال.(70/7)
مجال الجهاد
المجال الرابع: مجال الجهاد، وأنا أذكر هذه الأمثلة التي ربما ينظر إليها على أنها بعيدة حتى نقطع دابر المقالة التي توهم كثيراً من النساء بأن هناك مجالات مخصوصة للرجال، وهناك مجالات مخصوصة للنساء، أما على وجه العموم فالمرأة المسلمة شاركت وقدمت أمثلة، ولها في هذه المجالات دور بحسب ما يحتاج إليه فيها، وبحسب ما تستطيعه بضوابط الشرع.
هذا المجال العظيم الذي اشتهر فيه الرجال برزت فيه قدوات عظيمة من نساء المسلمين، من أبرز هذه الأمثلة نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها، قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات - وليس الأمر عارضاً أو عابراً، بل متكرراً في شئون مختلفة- قالت: فكنت أخلفهم في الرحال وأصنع لهم الطعام، وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى.
تقوم بخدمات متكاملة في هذا المجال، قال ابن إسحاق: وكانت ممن بايع بيعة العقبة، وممن كانت تشهد الحرب.
وروى عمر رضي الله عنه من خبر يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا رأيت نسيبة تقاتل عني).
فقد كانت من النفر القليل الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تغير ميزان المعركة لصالح الكافرين، قال: (ما نظرت يميناً ولا شمالاً إلا رأيتها تقاتل دوني) وكان معها ابنها فأصيب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (اعصب جرحك)، فالتفتت إليه أمه فعصبت جرحه وقالت له: قاتل أعداء الله في سبيل الله.
ما قالت له: هذا يكفي وارجع إلى الخلف، ولا بد من أن تعالج، ولا بد من أن تذهب إلى المستشفى والعناية المركزة وغير ذلك من الأمور، بل قالت: (قاتل أعداء الله في سبيل الله.
ثم نظرت إلى من أصاب ابنها وكانت ترقبه بين الفينة والأخرى حتى سنحت لها فرصة فشنت عليه الغارة فضربته ضربة بسيفها فبترت ساقه فوقع من على فرسه فضربته بسيفها فقتلته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسيبة رضي الله عنها وقال لها: (قد استقدت يا أم عمارة -يعني: أخذت بالقود والثأر- الحمد الله الذي أظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك) فهذا مثل عظيم للمرأة المسلمة المجاهدة، ثم أقبل ابن قمئة يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله، فتصدت له نسيبة أم عمارة رضي الله عنها، ثم لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بلاءها قال: (بارك الله عليكم أهل بيت مؤمنين -فما شغلها القتال عن انتهاز الفرصة- فقالت: يا رسول الله! ادع الله لنا.
فقال: اللهم! اجعلهم رفقائي في الجنة.
قالت: أم عمارة فما أبالي بعد ذلك بما أصابني) تعني: بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى هذه المرأة ما الذي شغل بالها وما الذي لفت نظرها في ظرف عصيب وكرب شديد.
والأمثلة في الحقيقة في هذا الجانب كثيرة، ولسنا بصدد الحصر وإنما يكفينا التمثيل.(70/8)
مجال الاهتمام والطموحات
المجال الخامس: مجال الاهتمامات والطموحات.
أي شيء كان يشغل بال المرأة المسلمة؟! أي قدوة تبرز لنا؟ فيم تفكر فيه وتطمح إليه وتحزن لأجله وتفرح لأجله؟! أما نساء اليوم فربما حزنت على لباس فاتها، أو (موضة) كما يسمونها أو (موديل) لم تعثر عليها أو نحو ذلك، وانظر إلى القدوات من نساء المسلمين أي شيء كان يلفت نظر إحداهن أو يعنيها في شأنها؟! أمثلة كثيرة جداً في هذا الشأن، منها: (أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها، كان يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيل عندها، فجاء إليها مرة فغفا عندها ثم استيقظ وهو يضحك ويتبسم عليه الصلاة والسلام، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (رأيت في المنام قوماً من أمتي يغزون يركبون البحر جهاداً في سبيل الله) ولم يكن للعرب عهد بركوب البحر في ذلك الوقت، فماذا لفت النظر في هذا القول عند أم حرام رضي الله عنها؟ قالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معهم.
الأمر خبر مستقبلي، والقضية في ميدان جهاد ليس هو الميدان الرئيسي للمرأة، والأمر في صورة جديدة غير مألوفة، فيها صعوبة وخطورة وهي ركوب البحر، ومع ذلك استشرفت نفسها بأن تكون في هذا الركب المجاهد، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معهم فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغزت البحر في عهد معاوية مع جيش المسلمين واستشهدت في تلك المعركة رضي الله عنها وأرضاها.
ويأتينا المثل الذي لا يعطي أنموذجاً لامرأة واحدة، وإنما يقدم صورة حية لنساء المسلمين قاطبةً في مجتمع الصحابة وفي مدرسة النبوة، هذه أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها، وكانت امرأةً من نساء المسلمين عظيمة البلاء شهدت اليرموك، وقتلت بنفسها تسعة من علوج الروم، هذه المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت فصيحةً، حتى كانت تلقب بخطيبة النساء- وقالت: يا رسول الله! إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن.
هي ممثلة النساء ومندوبة الاتحاد النسائي الإسلامي في عهد الصحابيات رضوان الله عليهن، قالت: يا رسول الله! إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن، يقلن بقولي وعلى مثل رأيي.
فأي شيء كانت تريد؟! وأي مسألة كانت تشغل بال النساء حتى ائتمرن واتفقن وانتدبن مندوبة تتكلم باسمهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات قواعد البيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا علينا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أبناءهم، أفنشاركهم في الأجر؟ هذه المرأة تبين لنا ما الذي كان يهم المرأة المسلمة، والذي يشغل بالها هذه المجالات في شرع الله عز وجل، من تفضيل الرجال على النساء، وذلك بشهود الجماعات ونحو ذلك، فهل في مقابل ما تقوم به المرأة المسلمة من حفظ الزوج ورعاية الأبناء والقيام بشغل الأسرة هل تشاركه في الأجر؟ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثني على النساء وعلى خطيبة النساء، فالتفت إلى أصحابه رضوان الله عليهم وقال: (هل سمعتم مقال امرأة قط أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟ قالوا: لا.
يا رسول الله -أي: هذه قد بلغت الغاية في هذا-.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وابتغائها لموافقته يعدل ذلك كله).
فهذا العدل والإنصاف في شرع الإسلام، وهذا أنموذج من النماذج التي تبين لنا اهتمامات المرأة، ويظهر ذلك أيضاً في حديث أم سلمة رضي الله عنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما لنا لا يذكرنا القرآن مثل ما يذكر الرجال -هذا هو الذي أهمها ولفت نظرها- قالت: فما عجبت إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إذا هو على المنبر وأنا أمشط شعري، فلففته وخرجت أستمع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو ما نزل إليه من القرآن {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلى آخر الآية} [الأحزاب:35]).
الآية ذكرت النساء والرجال، تكرر في كل وصف من الأوصاف، وهو ما ذكر في سبب نزول الآية، وأيضاً في ذلك آية التخيير التي وردت في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما جاء التخيير بقوله جل وعلا: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29].
ففضلت أمهات المؤمنين الله ورسوله والدار الآخرة، وأعرضن عن متاع الدنيا.
وهذا منهن طموح إلى معالي الأمور لا انشغال بسفاسفها.(70/9)
مجال القوة والصبر والاحتمال
كثير من النساء والرجال يذكرون ويعرفون ما هو من طبيعة المرأة من قلة احتمالها وسرعة جزعها وضعفها، لكن ينبغي أن لا نجعل مثل هذه الأمور مبالغاً فيها، ونجعل المرأة كما هو حال كثير من نسائنا اليوم كأنها لا يمكن أن تقوم بأي شيء، ولا أن تتحمل أي أمر، ولا تقدر على أي قضية، فهذا غير مقبول، فقد ثبت نساء المسلمين، وضربن أمثلة عظيمة في هذا الشأن، ينبغي أن نعود المرأة على شيء من القوة والصبر والاحتمال في دين الله عز وجل، فهناك أمثلة كثيرة في هذا الشأن، وأبرز هذه الأمثلة مثال سمية رضي الله عنها وثباتها، وقد كان بنو المغيرة يعذبونها على الإسلام، وهي تأبى غيره حتى ماتت شهيدة، وكانت أول شهيدة في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بها وهي تعذب وابنها وزوجها ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وقصة الخنساء مثل عظيم في هذا الشأن لما كانت معركة اليرموك، وهذا مثل معروف، لكنه يحصل ذكره بما فيه من عظيم التأثير في هذا الباب من أبواب الصبر والمصابرة والقوة الاحتمال، فهذه الخنساء جاءت ببنيها الأربعة وقالت لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم أبناء أب واحد وأم واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت أخوالكم.
ثم حضتهم على الجهاد، فلم تأت بأبنائها لتقول لهم: ابحثوا عن الزوجات الفاتنات، واستكثروا من الأموال لنفعل كذا وكذا، وإنما جاءت تخطبهم لتحضهم على الجهاد وتحرضهم عليه.
فمضى أبناؤها إلى الجهاد واستشهدوا جميعاً في تلك المعركة، فلما بلغها خبرهم ما جزعت ولا ضربت خداً ولا شقت جيباً، وإنما قالت: الحمد الذي شرفني باستشهادهم، وأسأل الله أن يجمعني بهم.
وكانت مثلاً في هذا الشأن، وكانت وصيتها موضع تذكر لأبنائها وسط المعركة، فقد كانوا يتذكرون قولها فتزيد في نفوسهم الحمية للجهاد والمصابرة، تذكر بعض الروايات في التاريخ عن أحد أبنائها أنه كان يقول: يا إخوتا إن العجوز الناصحة قد أشربتنا إذ دعتنا البارحة نصيحة ذات بيان واضحة فباكي الحرب الضروس الكالحة فإنما تلقون عند الصائحة من آل ساسان كلاباً نابحة قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحة أو ميتة تورث غنماً رابحة ويتذكر وصيتها، وأنها حضتهم على الجهاد، وأن بني ساسان من الفرس إنما هم كلاب نابحة، فشدوا عليهم فإنكم منتصرون.
وقال الثاني: إن العجوز ذات حزم وجلد قد أمرتنا بالثبات والرشد نصيحة منها وبر بالولد فباشروا الحرب حماة في العدد وقال الثالث يتذكر وصيتها: والله لا نعصي العجوز حرفاً نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً فبادروا الحرب الضروس زحفاً حتى تكفوا آل كسرى كفاً وقال الرابع يتذكر وصيتها أيضاً: لست للخنساء ولا للأخرم ولا لأمر بالسماء الأعلم إن لم أرد بالجيش جيش الأعلم ماض على الهجوم خضم خضرم فكان هذا القول منها وهذا الصبر والثبات نموذج يحتذى ويقتدى.(70/10)
مجال البذل والإنفاق
هذا مجال آخر أيضاً هو مجال البذل والإنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث النساء ويقول: (تصدقن يا معشر النساء؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)، وكان بلال رضي الله عنه يطوف بالرداء فتلقي المرأة بقرطها وحليها تتصدق به في سبيل الله عز وجل، والمثل في ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة لأزواجه: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى قالت عائشة: فجعلنا نمد أيدينا ونقيسها من هي أطولنا يداً حتى نعرف من ستكون أولنا لحوقاً -أي: موتاً- بعده.
قالت: ما لبثت زينب أن لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: فعرفنا أن طول يدها كثرة صدقتها؛ لأنها كانت امرأة صناعاً -تعني: عندها حرفة يدوية تصنع- قالت: فكانت تبيع فتتصدق في سبيل الله عز وجل.
وقالت: عائشة في زينب قولاً جميلاً عظيماً مؤثراً في هذا الجانب قالت: (لقد ذهبت حميدةً متعبدةً، ففزع الأرامل واليتامى والمساكين من بعدها، كانت تتفقدهم وتتصدق عليهم وتحنو عليهم رضي الله عنها وأرضاها).
وعائشة رضي الله عنها مثل يضرب في هذا، وهي التي تصف زينب بهذه الصفة، وهي التي جاءها عطاء مرة فقسمته كله ولم يبق عندها شيء وكانت صائمة، فلما جاء وقت إفطارها قالت لها مولاتها: يا أم المؤمنين! لو أبقيت لنا شيئاً.
قالت: (لو كنت ذكرتني لأبقيت شيئاً نأكله) تعلمت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي إحدى المرات -كما في الحديث- كانت عندها يوماً شاة فأنفق منها النبي صلى الله عليه وسلم حتى ما بقي إلا كتفها، قالت: يا رسول الله! ما بقي إلا كتفها.
قال: (ذهب كتفها وبقي كلها) وعائشة رضي الله عنها تعلم النساء أيضاً، فقد ورد في كتاب (الأموال) لـ أبي عبيد وغيره أن سائلاً جاء إلى عائشة رضي الله عنها ومعها بعض النسوة، فأعطته حبة عنب، فتعجب النسوة من هذا الصنيع، فقالت: كأنكن تعجبن من هذا والله إن فيها لمثاقيل ذر كثيرة.
تقصد قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]).
أي أن هذه الحبة من العنب فيها كثير من مثاقيل الذر.
والأجر عند الله سبحانه وتعالى عظيم، فهذه أيضاً أمثلة في هذا الجانب وهي من الأمثلة التي تحتذى وتقتدى.(70/11)
مجال قوة الشخصية ورجاحة العقل
من المجالات الأخيرة قوة الشخصية ورجاحة العقل.
يسرف بعض الرجال في وصف النساء بضعف الشخصية والميل للعاطفة، حتى كأن المرأة ليس لها من إيمانها ولا وفور عقلها ولا قوة شخصيتها ولا متطلبات إيمانها ما يجعلها تقدم أمثلة رائعة أو رائدة في هذا الباب، وليس كل امرأة لا يهمها إلا حليها، أو لا يهمها إلا طعامها، أو لا يهمها إلا زينتها، ليس هذا كله في هذا الجانب، بل المرأة المسلمة بما يعطيها الإيمان من معطيات تكون متميزة في مثل هذا الجانب، فعندها من قوة الشخصية ومقتضيات إيمانها ما يجعلها تثبت على الحق، كما ضرب الله عز وجل المثل بامرأة فرعون التي كانت في وسط بيئة الكفر، ومع ذلك قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
وأم سلمة رضي الله عنها تضرب أيضاً مثلاً من الأمثلة في هذا التميز في الشخصية، لما أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم دون الاعتمار، وأمر الصحابة أن يحلقوا فشق ذلك عليهم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك الناس.
قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمرتهم بأمر فلم يأتمروا.
قالت: يا رسول الله! قد علمت ما دخل على الناس في هذا الشأن، فلو أنك خرجت إليهم فأمرت حالقك أن يحلق رأسك لابتدروا إليه) فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لمشورتها وأخذ برأيها، فتسابق الصحابة لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلق حتى كاد يجرح بعضهم بعضاً، أي: من شدة مسارعتهم إلى استجابة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصة أم سليم لما توفي ابنها وصبرت وتلطفت لزوجها وأحسنت هي لتخفيف المصيبة عنه دليل أيضاً على قوة شخصيتها وتميزها.
والشجاعة والقوة في هذا الشأن مثل مضروب لـ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهي التي خاضت غمار تجهيز ومساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وهي التي وقفت الموقف الشجاع من الحجاج بن يوسف الذي كان سفاكاً للدماء، وكان يهابه الرجال الأشاوس، وقفت له أسماء رضي الله عنها لما أرسل إليها بعد مقتل ابنها، فأبت أن تأتي إليه، فأرسل إليها: إن لم تأتي إلي أرسلت من يجرك بقرونك.
فقالت: أرسل من يجرني بقروني.
فلما جاءه الرسول لبس نعاله وأتى إليها فقال: ما ترين أني فعلت بهذا -أي: بابنها-؟ قالت: أراك قد أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد عرفناه، وأما المبير فما أراه إلا أنت، فخاف الحجاج من قولها، وانسحب ورجع على أعقابه.
وأمثلة أخرى كثيرة يمكن أن تذكر في مثل هذه المجالات وهذه الأبواب، وكما قلت: ليس الغرض هو ذكر القصص والأخبار، وإنما لأهمية الموضوع من جهة ولهذه المجالات الكثيرة من جهة أخرى.(70/12)
وقفة مع القدوة السيئة ومعوقات مجال المرأة القدوة
نقف وقفة أخيرة في هذا الموضوع تتعلق بشقين اثنين أوجز الحديث عنهما إيجازاً شديداً.
الشق الأول: القدوة السيئة في الواقع المعاصر، والشق الثاني: أفكار وأخطاء تعيق مجال القدوة في صفوف النساء.(70/13)
القدوة السيئة في الواقع المعاصر
لو أخذنا هذه المجالات التي ذكرناها وأردنا أن نقارنها ببعض الواقع في حياة كثير من مجتمعات المسلمين اليوم لوجدنا تناقضاً كبيراً، فعلى سبيل المثال: لو أخذنا جانب الاهتمامات والطموحات فالفتاة اليوم فيم تفكر؟ وفي أي شيء؟ تأمل ليس هذا عيباً فيها، ولكنها صياغة المجتمع الذي تواجهه عبر صفحات الكتاب الذي تقرؤه، والقصة التي تتسلى بها، والمشاهدة التي تنظر إليها.
الفتاة اليوم همها جمالها، فلا تفكر إلا في صبغة الشعر، وفي ألوان الموضة والألبسة، ومن اهتماماتها ما يسمى اليوم بفارس الأحلام، وتجد كل الكلام والمقابلات والمقالات والمشاهدات تدور حول هذه الدائرة، ربما تجد كثيراً من نساء المسلمين -وللأسف- قد وُجِّهن هذه الوجهة، حتى يكون مجال القدوة في هذا الشأن أن نأتي بالمقابلات مع خبيرة التجميل، أو مع التي ابتكرت زياً جديداً، أو مع التي استطاعت -كما يقولون- أن تختار شريك حياتها بنفسها، ونحو ذلك من الأمور والأساليب التي تنحرف بالمرأة في مجال القدوة السيئة.
كذلك مجال البذل والإنفاق والصدقة على سبيل المثال آخر الصورة الواقعية في بعض جوانبها تضاده وتعارضه، فتجد المرأة اليوم لا تنفق إلا على زينتها وعلى لبسها، وتجمع الأموال، بل ربما يحصل بينها وبين زوجها من الشقاق والخلاف وأسباب النزاع ما الله به عليم؛ لأنها تريد منه أن يقتطع من راتبه أو من ماله حتى تشتري لبساً جديداً لمناسبة جديدة أو نحو ذلك، ولا تجد عندها سخاء اليد ولا الإنفاق في سبيل الله، وتغفل عن أحوال المسلمين واليتامى والأرامل والثكالى والمغتصبات من نساء المسلمين في بقاع الأرض، وهذا جانب -أيضاً- نجده مثالاً من أمثلة القدوة السيئة التي تبرز في مجتمعات المسلمين.
أضف إلى ذلك أيضاً مجالاً ثالثاً، وهو مجال قوة الشخصية، يرتبط اليوم بواقع المرأة المنحرف في بعض المجتمعات الإسلامية وبعض البيئات بأن قوة الشخصية هي أن تكون المرأة نداً للرجل، وأن تكون المرأة متبرجة لا متحجبة، مختلطة غير منحسرة عن الرجال، فإن قوة الشخصية هو المثل الذي يقدم على أن المرأة تستطيع أن تكون نداً للرجل، كأن الحياة وجدت بين المرأة والرجل للصراع والمصارعة والمحاربة، لا للتكامل والتعاون والتعاطف، فمثلاً هم يأتون بامرأة ويقولون: هذه من الرائدات أو من القائدات من أصحاب الشخصيات القوية اللواتي لهن سبق في ميادين كثيرة، ويقصدون بذلك أنها تمردت على شرع ربها ولم ترض هدي نبيها صلى الله عليه وسلم، ولم تقتد بأسلافها من أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين، فهذا المثل أيضاً ضرب من ضروب الانحراف، والأمثلة في ذلك -كما أشرت- كثيرة متعددة، ولو أخذنا كل مجال من هذه المجالات لوجدنا أمثلة مضادةً، فعندما نقول: أمثلة الصبر والثبات نجد اليوم في مجال المرأة في كثير من المجتمعات -وخاصة المجتمعات المدنية والحضرية- أن المرأة اليوم تخاف من ظلها، وأن المرأة لو وجدت في البيت جرادة لأعلنت حالة الاستنفار وأعلنت حالة التأهب القصوى؛ لأن هناك غزواً بالطائرات النفاثة أو غير ذلك، هذه أمثلة ربما بعضها يكون من طبيعة المرأة، لكن هذه المبالغات التي وقعت فيها مجتمعاتنا أدت إلى أننا لا نجهز ولا نعد المرأة التي يمكن أن يكون لها الإسهام المطلوب والمهم في واقع حياة المجتمع المسلم.
ولو قلنا: مجال العبادة والدعوة وتفرغ المرأة له لوجدنا في هذا الوقت بعض نساء المسلمين تفرغت فضيعت وقتها في سماع اللهو والغناء والقيل والقال، فبدلاً من أن تنشغل بالدعوة والتذكير فهي تنشغل بالأخبار والأقاصيص والأحوال، وما فعلت فلانة، وما لبست فلانة، حتى كأنك تجد نشرات الأخبار مفصلة تفصيلاً أبلغ من كل تفصيل عند أولئك النساء، شغلن بذلك أوقاتهن وأوغرن الصدور وفرقن الصفوف، إلى غير ذلك من هذه المجالات التي ينبغي أن تربأ المسلمة بنفسها عنها.(70/14)
عوائق في طريق المرأة القدوة
الفقرة الأخيرة بعض العوائق في طريق المرأة القدوة، وأحب أن أنبه إلى أن أكثر هذه العوائق تتعلق بالرجال، فإننا قد ذكرنا إعانة المرأة للرجل وأثرها، ولعل إعانة الرجل للمرأة أبلغ أثراً وأعظم في حصول المقصود، فمن هذه العوائق أولاً: الإهمال من الرجال، فالرجل إذا أهمل تربية بناته ونصح زوجته أو زوجاته، وإذا أهمل إعطاءهم جزءاً من وقته وشيئاً من علمه وبعضاً من خبرته وجهده ومشاركة في همه وأحوال وهموم المسلمين فإن ذلك يكون عاملاً من عوامل التثبيط والممانعة، وعدم حصول نموذج المرأة القدوة الذي نطمح إليه وذكرنا بعض مجالاته وميادينه، فهذا عائق مهم من العوائق.
الجانب الثاني: الإهمال بصورة عامة، فنحن نرى أن ميادين كثيرة تسهل وتيسر ويعتني بها ويبذل فيها الجهد فيما يختص بالرجال والذكور، ولا تحظى بمثل ذلك الاهتمام في مجال النساء، فدروس العلم ومحاضرات التوعية وكتب الثقافة وغير ذلك من المجالات نجد أن الغالب الأعم والجزء الأكبر يُعنى بجانب الرجال والشباب والذكور أكثر من عنايته بجانب النساء والمرأة والبنت، رغم خطورة هذا الشر كما أشرت في أول الموضوع، فالحق أنه ينبغي أن تزاد الجهود والمحاضن التربوية والتعليمية التي تحتضن الفتيات والنساء، فنحن عندنا المساجد للشباب أو للذكور وهناك ميادين ومحاضن كثيرة، بينما لا يوجد مثل ذلك بالقدر الذي يكفي ويعين ويكمل نفس الجوانب بالنسبة للنساء، وهذا أيضاً عائق من العوائق وباب من الأبواب التي تكون سبباً في التعثر في الوصول إلى القدوة.
الجانب الثالث: المعارضة الجاهلة، فإن بعض الرجال مع أنه قد أهمل في أول الأمر ولم يقدم شيئاً، وإذا كانت زوجته أو ابنته تريد أن تقوم بأمر أو تستفيد من مجال من المجالات لا يكفي أنه لم يقدم شيئاً، بل يأتي ويكون عائقاً وعقبةً من دونما حجة شرعية، أو من غيرما عذر وسبب شرعي، فلو لم يكن هو معلماً لزوجته فأرادت أن تتعلم كتاباً أو تحفظ شيئاً منه -والأمر ميسور، وليس هناك حرج شرعي ولا محذورات، كما هو الحاصل في بيئتنا بحمد الله عز وجل، فرص كثيرة ومجالات عديدة ليس فيها اختلاط ولا تبرج ولا محاذير شرعية- تجده يمنع دون أي حجة، بل عنده بعض الأوهام والأغاليط التي ربما يظنها من الإسلام أو ينسبها للإسلام وليست من الإسلام في شيء.
فهذه أبواب -أيضاً- يحصل من ورائها منع وإيقاف لكثير من الخير الذي يمكن أن يكتسب للنساء وللفتيات والأمهات بشكل عام، فينبغي أن يكون هناك التعاون والإيجابية لا المعارضة، فإن بعض الناس يشدد بما ليس في الإسلام، ويأتي بأمور من الأعراف والعادات أو من غيرته هو أو من حرصه هو ويريد أن يجعلها من الإسلام، وليست هي من الإسلام، فينبغي أن نتخلص منها، وقد رأينا -فيما سلف من حديثنا- أن المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحدثت إليه في حضور الرجال، وسألته سؤالها وطلبت طلبها، ولم يكن في ذلك حرج ولا مانع شرعي، وإلا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو اقتضى أمر من الأمور فيما فيه مصلحة ومنفعة وليس فيه محذور شرعي فينبغي أن لا تكون هناك العقبات والعوائق، إلا عندما يكون هناك أمران: إما محذور شرعي بين وواضح، وإما مصلحة ضرورية للأسرة أو لربها فيما يتعلق بهذا الجانب والشأن، فينبغي أن يكون هناك التعاون لأجل هذا الأمر، والمنفعة في آخر الأمر تعود إلينا جميعاً، فلو تعلمت زوجتك لعلمت أبناءها، ولو حفظت شيئاً من كتاب ربها لكان لذلك أثره في أبنائها، ولو استقامت وصلحت وتوجهت وتوعت لكان لذلك أثره عليك وعلى بيتك وأسرتك، فينبغي أن يكون هناك مثل هذا التعاون.
نسأل الله عز وجل أن يصلح نساءنا وبناتنا وشبابنا وشاباتنا، وأن يعصمنا من الفتن، وأن يقينا من الانحرافات، وأن يجعل مجتمعاتنا نظيفة طاهرة، وأن يجعلنا مؤتسين بالنبي صلى الله عليه وسلم، متبعين لسير أسلافنا من الرجال والنساء الصالحين والصالحات؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(70/15)
المساجد أحكام وآداب
لا يخفى على المسلم أهمية المساجد وعظيم قدرها؛ إذ هي بيوت الله عز وجل التي تقام فيها أكبر شعائر الدين وأجلها، فحري بكل مسلم أن يعرف للمساجد حقها وقدرها، وأن يعظمها حق تعظيمها، وذلك بعمارتها بذكر الله عز وجل، والتأدب فيها بالآداب الحميدة التي بينها لنا الشرع الحكيم.(71/1)
أهمية المساجد ومعرفة آدابها
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، رفع السماوات بلا عمد، وبسط الأرض ومد، وأفاض النعم بلا حصر وعد، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وبما يوافي ويكافئ فضله وإنعامه، له الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هو الرسول المجتبى والنبي المصطفى، علم الهدى ومنار التقى، بصر الله جل وعلا به من بعد عمى، وأرشد به من بعد غواية، وكثر به من بعد قلة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المساجد بيوت الله جل وعلا؛ فيها يذكر اسمه، ومنها ينادى إلى طاعته وعبادته، وفيها تحيا القلوب، وترق الأرواح، وتسجد الجباه، وتترتب بالذكر الألسنة، وتتراص الصفوف، وتتوحد وتأتلف النفوس.(71/2)
فضل المساجد وعمارها
المساجد بيوت الله عز وجل لها أحكام وآداب، وقد كثر من عدد غير قليل من إخواننا المصلين شكواهم من عدم معرفة تلك الأحكام، ولا مراعاة تلك الآداب، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أخطر وأعظم ضرراً وشراً، ومن ثمَّ فالمسجد وخطبته تعالج الأوضاع التي يعيشها أهل المسجد ومن يجاوره، كما تعالج أوضاع الأمة كاملة.
فإن لنا في هذا المقام وقفات كثيرة، وهي لا تتحدث عن شرق أو غرب، ولا عن بلاد في هذه الجهة أو تلك، إنما تتحدث عنا وعما يجري في مسجدنا وواقعنا، ومثله وغيره كثير من المساجد.
فكيف الأمر ونحن نتحدث عن بيوت الله عز وجل التي ذكر الله عز وجل نسبتها إليه فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:18] إنها بيوت الله عز وجل، فهل هي في المقام والقدر وفي الرعاية والحفظ تعطى حقها؟! وهل نجعلها مثل بيوتنا على أقل تقدير؟! وهل نحن عندما نأتي إليها أو نكون فيها أو نتعامل في داخلها نراعي حرمتها، ونراعي مقامها؟ فقد صح عند البخاري من حديث عثمان عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله بيتاً في الجنة)، فهي بيوت الله جل وعلا.
والصورة الأخرى التي ينبغي أن نستشعرها ونحن نقدم هذا الحديث هي: أن عُمَّار المساجد هم أهل الله عز وجل وعباده، وهم في خلاصة الأمر صفوة من العباد والخلق الذين يجيبون نداءه، ويسعون إلى طاعته، ويقبلون إلى مرضاته، فكيف بهذه الصفوة إذا كانت تخل بالأحكام، ولا تراعي الآداب، ولا تلتفت إلى الحرمة، بل ويقع من البعض ما هو أكثر من ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] يقول ابن كثير: شهد الله بالإيمان لعُمَّار المساجد.
وذكر ابن كثير: أن عبد بن حميد روى في مسنده عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما عُمَّار المساجد هم أهل الله).
ورواه البزار كذلك عن أنس.
وروى عبد الرزاق عن عمر بن ميمون أنه قال: (أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها)؛ لكن الضيف ينبغي أن يراعي أدب المكان، وأدب المضيف، وهو الرحمن سبحانه وتعالى، فنحن في بيوته، ونحن إنما جئنا لعبادته، ونحن إنما تفرغنا لذكره، فكيف بنا نخدش ذلك أو لا نلتفت إلى الأمور الواجبة؟(71/3)