فقه الأزمة والفتنة
الحياة مليئة بالفتن والأزمات، والنجاة منها إنما تكون بفقه التعامل معها، وقد ورد في الشرع كثير من الأمور المعينة على ذلك، فأول تلك الأمور: التثبت والتبين من حقيقة ما يقال ويذاع، ثم العدل والإنصاف في الحكم، وعدم الزيادة في العقاب عن مقدار الخطأ، وأن يناصح المخلص ويرشد بالتي هي أحسن مع مراعاة الإخلاص لله تعالى.
وفي الجهة الأخرى: لابد من إعلام صادق، وكلمة صائبة، وتربية تقي المخاطر وتحذر من الانزلاق في الهاوية.(1/1)
موقف المسلم في الأزمات والفتن
الحمد لله، الحمد لله خلق الخلق، وبسط الرزق، وشرع الشرائع، وفرض الفرائض، وكتب الآجال، وقدر الأقدار؛ حكمته بالغة، ونعمته سابغة، ورحمته واسعة، ومشيئته نافذة، له الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى، وعلم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في فقه الأزمة والفتنة نصل حديثنا، وأسلفت غير مرة أن منبر الجمعة ينبغي أن يكون له دوره البارز، لكن على منهجية صحيحة، وبلغة واضحة فصيحة، وبأسلوب منهجي حكيم، ليس فيه مزايدات سياسية، ولا مهاترات إعلامية، ولا مغالطات من هنا أو هناك، ومن هنا فإن ما سأذكره أمر يفيدنا في حياتنا العامة كلها، وفيما قد يمر بنا أفراداً من مشكلات أو معضلات في دوائرنا الضيقة الخاصة، كما أنه ومن باب أولى يفيدنا فيما يحيط بنا كمجتمع وما يحيط بنا كأمة ونحن نرى تكالب الأعداء من كل حدب وصوب، وتوجه سهامهم في كل ميدان ومجال، وحصول كثير من الأمور المؤلمة المحزنة؛ سواء ما كان ذلك مادياً محسوساً بانتهاك العرض، أو استلاب الأرض، أو احتلالها أو غير ذلك، أو ما كان معنوياً فيما تعلق باختراق الأفكار، وإثارة الشائعات، وكثرة الشبهات ونحو ذلك، فلعلنا في أضواء كتاب ربنا وفي ظلال سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى أرضية تاريخنا المشرق الوضيء، ومن خلال واقعنا الذي نتأمله بكل هذه المعاني والمعالم؛ أن نتلمح طريقاً واضحاً نافعاً مفيداً بإذن الله عز وجل.(1/2)
التثبت والتبين
التثبت والتبين معلم واضح في منهج الإسلام؛ إذ لا ينبغي تعجل لا تستجلى فيه الحقيقة، ولا رد فعل تغيب فيه الإثباتات في أي أمر من الأمور صغيرها وكبيرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وكم من خبر في أمورنا الخاصة وحياتنا الشخصية تلقيناه دون تمحيص، ورمينا آخرين بالتهم، وجزمنا بوقوعهم في الخطأ، ثم تبين من بعد أننا لم نع ما سمعنا، وأننا تجاوبنا مع عواطفنا ومشاعرنا دون أن نتثبت على وفق المنهج القرآني.
قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري في الأدب المفرد: (بئس مطية الرجل زعموا)، تسأله: ما حجتك في ذلك؟ فيقول: سمعتهم يقولون: إن وكالة (يقولون) وكالة مذمومة في كتاب الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:151 - 152]، وتلك فرية عظيمة، ومن لم يكن في كل أمره متثبتاً متبيناً فإنه يوشك أن تكون حالته دائماً أنه صحيفة لكل من شاء أن يكتب فيها خبراً صادقاً أو كاذباً، قضية صائبة أو خاطئة؛ فهو حينئذ كما وصف الله عز وجل أهل النفاق، والذين في قلوبهم مرض: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] فهم يتلقون بآذانهم وأسماعهم، لكنهم لما كانوا لا يمررون ذلك على عقولهم، ولا على مناهج التثبت والتمحيص، بل ينطقون به بألسنتهم، كما ذكر الله أن تلقيهم بألسنتهم، ولعل حادثة الإفك وهي شأن لم يكن خاصاً برسول الهدى صلى الله عليه وسلم، بل عم مجتمع المسلمين، وكان حدثاً من أشد ما مضى بهم من الفتنة والأزمة، وشيوع الشائعات، وكثرة القالات، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي شيء فعل؟ نأخذ مما روته عائشة -كما في صحيح مسلم - مواقف وومضات، قالت: (جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما بعد: يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه).
رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة يسألها ويستثبت منها، والأمر كان جد عصيب، ولم يكن في نفسه عليه الصلاة والسلام شك وريبة، لكن الأمر -وقد تعلق به- أراد أن يقطعه قطعاً جازماً، وأن يبينه بياناً يخرس الألسنة، ثم كان له عليه الصلاة والسلام مواقف أخرى، وأسئلة من هنا وهناك، ثم رقى المنبر وقال: (من يعذرني من رجل تكلم في أهلي)؟ حتى اختلف الحيان من الأوس والخزرج؛ فسكنهم وسكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنزلت البراءة من فوق سبع سماوات جازمة قاطعة ناصعة شاهدة لبراءة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها.
وليس المقام مقام إفاضة، وإنما أريد أن نأخذ هذه القضايا في أصولها وفي عناوينها ودلالاتها فحسب.(1/3)
العدل والإنصاف
ما أدراك ما العدل والإنصاف؟! إنه أمر عزيز ثقيل لا تطيقه إلا النفوس المؤمنة الخالصة المخلصة.
إن في النفوس من الأهواء، ومن شوائب البغضاء والعداء ما يحملها على ظلم من تخالفه، بل على الظلم أحياناً بصورة عامة إذا كانت تريد تحصيلاً لمصلحتها، أو تحقيقاً لمنفعتها، والله جل وعلا يقرر العدل تقريراً عظيماً في هذا الدين بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، ذلك هو أمر الله بالعدل على إطلاقه في كل حال، ومع كل أحد، وتحت كل ظرف، فإن العدل قيمة مطلقة، وهو من أسس هذا الدين، ومن أخلاقه العظيمة، ومبادئه الرائعة البديعة، ومن هنا جاء قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] أي: لا يحملنكم بغض قوم على أن تظلموا وتحيفوا عليهم، ولو كانوا من الأعداء ومن غير المسلمين، فيكف بغيرهم من المسلمين؟! وذلك أمر مهم، فإن الفتن والأزمات تثير الضغائن، وتشعل نيران الأحقاد، ومن لم يكن له نفس مؤمنة، وعقل راسخ، فإنه يتحرك ويندفع مع أهوائه، ويقع في الظلم الذي حرمه الله عز وجل، كما ورد في الحديث القدسي عن أبي ذر عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)، وكم من قضية تستطيل فيها الألسنة، وتتحرك فيها الأهواء؛ لتكون حينئذ ظلماً محضاً.
ولننظر مرة أخرى إلى مواقف خلص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم المقربين منه قالت عائشة في روايتها: (فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، فقال: يا رسول الله! أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي رضي الله عنه فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بريرة مولاة عائشة فقالت رضي الله عنها: والذي بعثك بالحق! إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها، إلا أنها كانت جارية حديثة السن تعجن العجين فتنام عنه فتأتي الداجن فتأكله)، أولئك قوم لم يكن لأحد منهم أن يجور في حكمه، بل حموا أنفسهم وتوقفوا عند حدودهم، وأحسنوا ظنونهم.
ورحم الله أبا أيوب الأنصاري عندما نقلت له أم أيوب ما يقال ويشاع، فقال: يا أم أيوب! أكنت فاعلة؟ قالت: لا والله، فقال: فلـ عائشة خير منك، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني.
ذلكم هو الإنصاف والتجرد؛ أن تضع نفسك موضع من أرسلت عليه سهام التهم بغير بينة أو برهان، وأن تتحرى ألا تكون مجرماً معتدياً؛ حتى وإن كان المخطئ قد وقع في خطئه وثبت خطؤه؛ فإن حكمنا عليه ينبغي ألا يتجاوز حدود الخطأ، وإلا كنا عادلين فيما حكمنا عليه من خطأ، وجائرين فيما زدنا عليه مما لم يثبت له، وذلك هو الأمر الذي لابد منه.
ومن روائع العدل والإنصاف الذي لا يكون إلا مع شدة التحري والإيمان والورع، ما كان من أم المؤمنين زينب، وما أدراك من زينب؟ تقول عائشة عنها: هي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هي المنافسة التي قد يكون بينها وبينها شيء، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً)، لم تنتهز فرصة لتشفي غليلاً، ولم تستجب لهوى قد يكون داعياً في النفس بطبيعتها لمن ينافس أو يكون في ذات المرتبة، قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت هي التي تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، وأما أختها -وهي حمنة بنت جحش - فقد خاضت، وكانت تحامي عن أختها، فهلكت فيمن هلك)، فانظروا! صاحب الشأن ترفع واستعلى، وعدل وأنصف، وتورع وأخلص، وغيره فاته ذلك، فوقع وأخطأ وجار في حكمه، وذلك ما ينبغي أن نتنبه له.(1/4)
الإخلاص والتجرد
إن الأزمات يتأكد فيها الإخلاص لله عز وجل، والتجرد من المصالح والمنافع الذاتية، والارتباط بمصالح الأمة والمصالح العامة، فإنه من غير المقبول مطلقاً أن يكون هناك اتباع لأهواء النفوس لتحصيل المكاسب، أو لأخذ المنافع الذاتية، وفوق ذلك إغضاء وإعراض عما قد يترتب على ذلك من مضرة في المصالح العامة، فلابد من الترفع عن الأهواء، والبعد عن حب الظهور، والابتعاد عن الانتصار للنفس والتشفي، وكم في مواقف الصحب الكرام رضوان الله عليهم ما يدل على سمو في هذه المعاني، أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه في معركة وقتال مع الأعداء -ليس في حال من حالات السلم أو السكون- علا بسيفه على رجل من أهل الشرك، فسبه وبصق في وجهه، فأمسك علي سيفه وتركه، لم؟ قال: خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضات الله عز وجل! تلك النفوس التي ترتفع عن الانتصار لذاتها، والتشفي لمتطلبات أهواء نفوسها، وذلك ما ينبغي أن يكون، فكم من مخالف تختلف معه في قضية شخصية، ثم تأتي فرصة فإذا بك كأنما تنتقم منه، متخطياً العدل والإنصاف، متناسياً التثبت والتبين، مندفعاً مع حب الانتقام، أو مع تصفية الحسابات؛ وحينئذ تختلط الأوراق، وتعظم الفتنة، وتتكاثر أسباب الأزمة؛ لأنه تغيب حينئذ الحقائق مع مثل هذه الأمور.
أيها الأحبة! لا عصمة إلا بالإيمان، ولا وقاية إلا بخوف الرحمن، ولا يمكن أن يسير الإنسان في هذا الحقل من الأشواك لما فيه من أهواء النفوس، ووساوس الشياطين، وقرناء السوء، وتسلط الأعداء إلا أن يعصمه الله سبحانه وتعالى باستمساكه بكتابه، واعتصامه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ألسنا نعرف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الكثير التي ترك فيها ما هو لنفسه؛ إرادة المصلحة العامة، وإرادة الخير للأمة؟ بل قد فعل ذلك أصحابه رضوان الله عليهم، فترفعوا عن مثل هذا، والأمر يطول فيه الحديث.(1/5)
المصارحة والمناصحة
لابد في أوقات الأزمة والفتنة أن تكون مصارحة مبنية على الحقائق، ومناصحة تترجم الحرص على المصلحة العامة، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث من جوامع كلمه قدر النصيحة في دين الله عز وجل فقال: (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وهو حديث عجيب جدير بالتأمل ومعرفة دلالاته النصيحة لله عز وجل ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فهل بقيت دائرة تخرج عنها هذه النصيحة ولا تشملها، فأين التناصح بالإخلاص، وقول الحق بالأسلوب والمنهج الحكيم الذي يحقق المنافع والمقاصد، ولا يكون مثيراً لغير ذلك مما يعارضه أو يناقضه؟ نحن نعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يطبق ذلك، ويطبقه أصحابه، ويعلنون الحق، ويبرزون الصدق، خاصة في المواقف العصيبة مع كل الأدب والاحترام، ومع كل الحكمة ووضع الأمور في نصابها، أليست غزوة الأحزاب كانت شدة من أعظم الشدائد، ومحنة من أقسى المحن؟ في ذلك الأتون الذي مر بالنبي عليه الصلاة والسلام والصحابة مع شدة خوف وجوع وبرد، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخفف عن أصحابه، فأراد مقترحاً أن يعطي لغطفان ثلث ثمار المدينة حتى ترجع عن الأحزاب، ويتفكك هذا الجمع الغفير من الأعداء.
فسأل واستشار عليه الصلاة والسلام السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فماذا قالا؟ بكل الأدب وبكل الفقه قالا: أوحي يا رسول الله أم أمر تراه لنا؟ أي: إن كان وحياً فهو موضع التسليم لا اعتراض ولا رأي ولا نقاش، فذلك الذي تخضع له الرقاب، وتمتثل له الأمة المسلمة، وأما إن كان رأياً تراه لنا قلنا الرأي، قال: (بل رأي أراه لكم) فصدقوه القول وصارحوه وقالوا: يا رسول الله! كنا وهؤلاء في جاهلية وكفر وهم لا يطمعون منا بتمرة إلا بشراء أو قرى، أفبعد أن أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم ثمارنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيهم ومشورتهم.
ينبغي أن نخلص النصح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل ذلك في البيعة للإسلام كما ورد في الحديث الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فزادني: والنصح لكل مسلم) لماذا إذا رأينا المخطئ لم يكن عندنا إلا سهام الاتهام والإغلاظ والجفاء دون أن نخلو به، أو يكون فيما بيننا وبينه مناصحة؟! إن أقر بخطئه، وإن ثبت جرمه، قلنا له: عد إلى الله، وتذكر الله وارجع؛ فإن أبواب التوبة مفتوحة، وذلك يعين على تلافي كثير من الأخطاء، وعدم التمادي فيها.(1/6)
المرابطة والمواجهة
المرابطة والمواجهة، وهي أمر مهم، فإننا اليوم على مستوى الأمة الإسلامية جمعاء، وعلى مستوى هذه البلاد والمملكة خصوصاً مستهدفون بالعداء، ولا يحتاج ذلك إلى برهان وتفصيل وبيان، فنحن نعلم الاستهداف فكرياً ومنهجياً وتعليمياً واجتماعياً وسياسياً، وكل ذلك ظاهر بين معلن، فكيف حينئذ لا نلتفت إلى أننا مرابطون على ثغور الإسلام؛ لأن هذا البلد هو بلد الإسلام، فيه نشأ ومنه انطلق، ولا يزال في أصل بلاد الحرمين هذا الإسلام، وإعلان تطبيق شريعته، وإظهار معالم شعائره وشرائعه، والانتداب لذكره ونشره، والدعوة إليه، ثم بعد ذلك ننشغل عن هذا الهجوم الشرس بما قد يكون أدنى منه، وهذا من فقه الأولويات الذي ذكرته من قبل، لابد أن ننتبه إلى الخطر الأعظم، فلا نغفل عنه، ونعطيه من الالتفات إليه ومن المواجهة له، ومن المرابطة لعدم اختراقه لصفوفنا ما يستحق.
ولعلي هنا أنقل نقلاً واحداً في ومضة سريعة لمسئول من المسئولين في تلك البلاد والدول المواجهة والمعلنة لهذا العداء، يقول: (لدينا استراتيجية غاية في البساطة، فنحن نريد في المنطقة نظماً موالية لنا، ثم إننا نريد ثرواتها بلا منازع، فنحن نريد ضماناً نهائياً لأمن إسرائيل؛ لأنها الصديق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه)! فنقول: لا ينبغي أن ننسى في أي وقت وتحت أي ظرف ما يحيط بديننا وأمتنا وبلادنا ومجتمعنا من هذا العداء الذي يبرم أمره كل ليل وكل نهار، وتتوالى أحداثه، وتتوالى إعلاناته، وتظهر ملامحه في كل ميدان ومجال، وهي قضية مهمة لابد من الانتباه لها وعدم نسيانها بحال من الأحوال.(1/7)
الوحدة والاجتماع
تجب الوحدة والاجتماع، ومهما كان من أمر فإنه يجب وجود الوحدة الجامعة والولاية الشرعية المجمع عليها والمنعقدة والمنتظمة التي لا يصح الخروج عنها، ولا الانفلات منها، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية على ذلك، وإلى الأضرار والمفاسد المترتبة عليها، فينبغي حينئذ ألا نتبادل الاتهامات، وألا نسمح للاختراقات أن تشقق أو تفتت وحدتنا، وتزايد على لحمتنا، وتمس أصل اجتماعنا وائتلافنا على أصل ديننا، وعلى أصل ولايتنا، بحيث لا يكون هناك أثر لذلك، والأمر من بعد ومن قبل أوسع وأعظم من أن تحيط به كلماتنا في هذا المقام.(1/8)
الرجوع إلى الكتاب والسنة
لابد لنا في كل أمر من أمورنا الخاصة والعامة، الصغيرة والكبيرة، أن يكون مرجعنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الأئمة من العلماء قديمهم وحديثهم، والاسترشاد بالآراء والتوجيهات التي ترتبط بذلك وتنطلق منه، ومن قبل ذلك ومعه كذلك: الاستجابة والطاعة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولولاتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ على أمة الإسلام أمنها وأمانها، وأن يحفظ عليها وحدتها وقوتها، وأن يعيد إليها قوتها وعزتها، نسألك اللهم لهذه البلاد المقدسة الطاهرة أن تحفظ عليها أمنها وأمانها، وإسلامها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، وإلفتها ووحدتها، ونسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين، وشرور المعتدين، وفتنة الفاتنين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/9)
دور الإعلام في الأزمات والفتن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجتنبوا كل ما شاع وظهر من الفتن، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا منها.
أيها الإخوة! أمران أختم بهما، وأعرج على صور تناقض كثيراً مما ذكرناه: الإعلام والإحكام.
الإعلام اليوم هو الذي يسمعه الناس من الإذاعات، ويقرءونه مكتوباً على الصحف، ويشاهدونه على الشاشات، فهو مصدر من المصادر الأساسية، بل يكاد يكون عند كثير من الناس هو المصدر الأول لمعرفة المعلومة وتحليلها ومعرفة ما وراءها، ومن هنا تأتي مسئولية الكلمة، ومسئولية الإحكام في الحديث عن الأمور كلها، وخاصة في الأحوال التي تكون فيها التباسات واشتباهات، ومن هنا ندرك عظمة الكلمة في منهج الإسلام: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:35 - 36]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري: (الرجل يتكلم بالكذبة تبلغ الآفاق)، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يعذب بكلاليب يؤتى بها إلى فمه ثم تشقه إلى آخر شدقه، ثم يعود كما كان، ومن هنا لابد لكل أحد في كل دائرة من دوائره حتى في أسرته وفي دائرة قرابته من التثبت، فيجب أن نحرص على الانتباه لهذا، والدقة فيه، فإنه قد يكون أمران متناقضان أو متباعدان والوسط بينهما هو الحق، فثمة مبالغة في التهويل، أو مبالغة في التهوين، وليس ذلك مطلوباً، ولا هذا مرغوباً، بل ينبغي الحرص على الحقائق، وليس كل ما يعلم يقال، فإن من الأمور ما ينبغي إخفاؤه أو عدم التصريح به؛ لئلا يتسبب في أمور من البلبلة، أو غير ذلك.
وهذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بلغه في ذلك الموقف العصيب في يوم الأحزاب نقض بني قريظة للعهد، فلم يقبل الخبر على عواهنه، بل أراد تثبتاً وتبيناً فأرسل السعدين ليستجليا له الخبر، ثم قال: (إن علمتما خيراً فأذيعا) أي: إن كان الأمر أن القوم على عهدهم فانشروا ذلك وأذيعوه وبثوه في وسائل الإعلام؛ لتثبت القلوب، وترتفع الروح المعنوية، وتزيل البلبلة، قال: (وإن كان غير ذلك؛ فالحنوا لي لحناً لا يعرفه غيري) أي: قولوا قولاً ليس صريحاً لا يفقهه سواي؛ حتى لا يذاع الخبر فيكون سبباً في شيء من إضعاف المعنويات، أو في شيء من الخوف، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (عضل وقارة)، ذكروه بأخبار بعض من سلف من الغادرين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبشروا، الله أكبر! الله أكبر! أبشروا أبشروا) أراد أن يطمئن النفوس والقلوب، وإن كان قد أخذ بالأسباب، ولم يغب عنه ما ينبغي أخذه في مثل هذا الأمر، لكنه كان يدرك عليه الصلاة والسلام كيف ينبغي أن تبث الأخبار وأن تنشر الوقائع، كما نرى أحياناً في وسائل الإعلام بعض ما يحصل من الجرائم والفواحش، ويذكرون قصصها وتفاصليها، فيكون أثر ذلك في بعض الأحيان من الناحية السلبية أكثر من الإيجابية، فتهون المعاصي في نفوس الناس، وتجرئهم عليها، وقد تبين لهم سبلها، وذلك ما يقوله الإعلاميون والتربيون والنفسيون فيما تبثه الوسائل الإعلامية من الأفلام الإجرامية والعنفية وغير ذلك.
فينبغي أن نراعي ذلك، وأن نلتفت له، فلابد من الدقة في استخدام المصطلحات، وتحرير محل النزاع، وعدم إطلاق الكلمات التي لها دلالات مختلفة دون تعيينها وتحديدها، حتى لا يحصل من ذلك ما يكون فيه أثر غير محمود.(1/10)
الشرع والردع
الشرع والردع هو الأساس الذي ينبغي تحكيمه وإحكامه، فإن إقامة شرع الله عز وجل أمر لابد منه، فكل من وقع في إثم، أو اقترف ذنباً، أو ارتكب كبيرة، أو اجترأ على جريرة، فإنه إن استوفي حكمه بقضاء، وثبت عليه ما عليه؛ فإن حكم الشرع يأخذ طريقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (تدارءوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني فقد وقع)، فإذا بلغ الأمر إلى الوالي والحاكم الشرعي فإنه لا مجال حينئذ إلا تمحيص البينات، وتحقيق القضايا، ثم إقامة الأحكام.
والردع في منهج الشرع أوسع من إقامة الأحكام، فالحدود الشرعية في السرقة والقتل والزنا وغيرها هي من العلاجات التي تحسم مادة الفتن والجرائم، لكنها ليست وحدها، فإن الإيمان قبلها، وإن تنمية الرقابة لله عز وجل، والخوف والحياء منه، والنظر إلى العواقب في الآخرة، وغير ذلك من الأمور التربوية والاجتماعية هي أيضاً من أساليب الردع.(1/11)
التربية والتهيئة
أختم بقضية مهمة وهي: التربية والتهيئة، فإن التربية في المنزل والمدرسة والشارع إن كانت على المنهج الصحيح؛ وقتنا -بإذن الله- الكثير من الشرور، وكانت على مبدأ: الوقاية خير من العلاج، فلو تركنا أبناءنا: لا نعلمهم، لا نربيهم، لا نلفت نظرهم إلى الأخطاء، لا نحذرهم من المشكلات، ثم ذهبوا إلى دور العلم فلم يجدوا من المعلمين توجيهاً وتنبيهاً وتذكيراً، ولفت نظر وعلاج أخطاء كما ينبغي، ثم خرجوا إلى المجتمع، فلم يجدوا من وسائل الإعلام أو من الدعاة والعلماء القدر الكافي الذي يوجه ويرشد ويبين الأخطاء ويوضح المعالم؛ فحينئذ يحصل بعض ما يقع من التفريط والغلو والتطرف، وقد أسلفنا القول فيه من قبل.
ينبغي لنا أن نتحدث بصوت هادئ، فإن الجعجعة والصراخ لا تنفع في هذه الأحوال، وإننا ينبغي لنا أن نتحدث بمنهج سليم سديد، فإن الهيشات والمهاترات لا تنفع، وينبغي لنا ألا نتعجل وألا نجعل هناك شيئاً من الافتراق والتباعد، فلا ينبغي أن نتكلم عن هذا أو ذاك بأنه مخالف للشرع، وبأنه يريد مصادرة الدين، وبأنه يريد كذا وكذا، ولا ينبغي هذا لمن يعتلي المنبر أو يتكلم في الوعظ والإرشاد، كما لا ينبغي للآخرين أن يقولوا عن كل ملتزم أو متدين: إنه مخطئ في كذا، وإنه يقصد كذا، حتى كأن الناس شقوا عن القلوب والنوايا، بل ينبغي لنا أن ندرك عظمة الخطر، وأهمية الاتحاد، ومرجعية الشرع، وينبغي لنا أن ندرك أن مزية هذه البلاد أولاً وآخراً هي قيامها على الإسلام، وتحالف الدولة مع الدعوة، وأن أمر الاستهداف أعظمه وأكثره على ديننا، فلا ينبغي أن يكون منا جميعاً بغي، لا من هذا ولا من ذاك، وألا نصنف الناس فريقين، وأن نقول: أهل المنابر وأهل المحابر، ونجعل هناك أموراً تثار فيها البلابل، ينبغي لكل مسلم -وكلنا مسلمون في أصل إيماننا واعتقادنا- أن يكون مخلصاً لله، وما ذكرته ينطبق على جميع الناس، لا يستثنى منه أحد، ولا يظنن أحد كذلك أن العالم أو الداعي مبرأ من النقص أو منزه عن الخطأ، بل هو إنما يستمد قوة نهجه أو صواب رأيه من أصل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما، وهما عصمة كل معتصم، ونجاة كل راغب في النجاة بإذن الله.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بكتاب ربنا، وأن يعلمنا هدي رسولنا، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي رسولك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، وللحرص على أخوتنا ووحدتنا عاملين.
نسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين، وأن تدفع شرور المعتدين، وأن تصد فتنة الفاتنين، وأن تعيد وتبقي وتقر في هذه البلاد الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، والهدى والتقى، وأن تجعلها أبداً مناراً للإسلام والمسلمين والدعوة إليه، والتبشير به والدفاع عنه في كل الأحوال والعوارض.
ونسألك اللهم أن تجنب الإسلام والمسلمين عداء المعتدين وعدوان الغاصبين.
نسألك اللهم أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور يا رب العالمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تهديهم وتوفقهم لما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب وترضى.
اللهم يا حي يا قيوم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميرا ًعليه يا سميع الدعاء! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين، امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، أفرغ اللهم في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمرنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، ووفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(1/12)
الغنيمة الباردة
الصلاة عماد هذا الدين، وهي آخر عرى الإسلام نقضاً، وتاركها يخشى عليه من الكفر والعياذ بالله! فهو على شفا جرف هار، ويخشى عليه من دخول النار، فإذا كان هذا قدرها وخطرها فجدير بالمسلم أن يحافظ على أدائها بشروطها وأركانها وسننها، وفي أوقاتها؛ ليفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، ومن أفضل الصلوات وأعظمها أجراً صلاة الفجر، ففيها من الفضائل والأجور ما يجعلها بحق غنيمة باردة.(2/1)
تهاون كثير من المسلمين في شأن الصلاة
الحمد لله ذي الجود والإكرام، ولي الفضل والإنعام، الذي أكرمنا بنعمة الإسلام، وفضلنا بهذا الدين على سائر الأنام.
نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، بعثه للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فحديثنا عن الغنيمة الباردة الضائعة، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ساق لنا كثيراً من النعم، وأفاض علينا كثيراً من الخيرات، ويسر لنا أبواباً لاغتنام الحسنات، وجعل لنا من بين سائر الأمم مزية في تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات، ولإن كان ذلك هو السمة الظاهرة في دين الإسلام وفي سنن خير الأنام صلى الله عليه وسلم فإنه أظهر وأشد وضوحاً وأكثر عظمة فيما يتصل بالفرائض والأركان التي هي أسس هذا الإسلام، والتي هي الأعمدة والأركان التي يقام عليها البنيان.
ونحن في هذا المقام نتكلم عن الغنيمة الضائعة، التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فريضة الصلاة التي فرط كثير من الناس فيها، وقصروا في أدائها، وتخلفوا عن أوقاتها، وتقاعسوا عن شهودها في مواطنها في بيوت الله عز وجل، ولست في هذا الصدد متحدثاً حديث الفقه والأحكام الشرعية، ولا حديث العبر والدروس التربوية، وإنما حديث التشويق والترغيب، الذي يهز القلوب المؤمنة، ويثير كوامن الشوق في النفوس المسلمة، الذي يحدو بالمؤمن إلى أن يرنو ببصره إلى الآخرة، وأن يستحضر فضل الله سبحانه وتعالى، وأن يتأمل عظيم المنة والفضل الذي ساقه الله إليه، كيف غفل عنه! وكيف زهد فيه! وكيف لم يلتفت إليه! ذلك أن الغفلة قد غشيت كثيراً من القلوب، وحجبت كثيراً من العقول، وذلك لأن الدنيا فتنت كثيراً من الناس، وشغلتهم بأحوالها وأوضاعها، فاستكثروا القليل الذي ينبغي أن يبذلوه في طاعة الله، واستقلوا الكثير الذي يبذلونه في أمر حياتهم الدنيا، فانتكست الموازين، وانعكست الأمور، وصار الناس في أمر الطاعات -ليست المندوب إليها وإنما المفروضة عليهم- مقصرين مفرطين، وهم في أمور الدنيا -لا في أساسياتها بل في كمالياتها- متسابقون متنافسون.
وهذا لعمري هو عين الخلل حيث اتصل بالفرائض والأركان، فقد جعل الله عز وجل لنا أبواباً كثيرة من الفضائل، وأساسها الأركان والفرائض، وأمها وأولها وأكثرها تكراراً بعد التوحيد الصلاة، التي حصل فيها ما حصل في واقع حياة المسلمين اليوم.(2/2)
أهمية أداء الصلاة في جماعة وما فيها من الأجور
إن الله جل وعلا قد ساق هذا الفضل بما لا يتصوره العقل، إلا أن يكون مستحضراً لعظيم جود الله عز وجل، وعظيم لطفه بعباده سبحانه وتعالى، فأنت ترى أمر الصلاة يحدوك إلى الإقبال عليها والارتباط بها، والسعي الدءوب الحثيث للغنيمة المتواصلة المتكاثرة منها، بما جعل الله في كل شأن من شئونها وكل أمر من أمورها من أجر وفضيلة.
فالنداء إليها -وهو الأذان- هو الذي يعلن التوحيد، ويذكر بأمر الآخرة، وينادي المنشغلين بالدنيا ليأخذوا زاداً من تقوى الله عز وجل، ومن مراقبته سبحانه وتعالى ليواجهوا الباطل من بعد ذلك، وليعرفوا حقيقة الحياة الدنيا، ويجعل الله عز وجل في ذلك فضلاً وأجراً.
ثبت عن سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً غفر له ذنبه).
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته.
حلت له شفاعتي يوم القيامة).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أنس في مسند أبي يعلى بسند حسن: (من قال مثل مقالته) أي: مثل مقالة المؤذن.
وفي حديث بلال رضي الله عنه قال: (من قال مثل مقالته وشهد مثل شهادته) أي: كرر الشهادتين مع المؤذن (فله الجنة)، فهذا في النداء إليها وفي التذكير بها وفي الدعوة إلى شهودها قبل أن تقبل عليها وتتهيأ لها وتتوجه لها.
وفوق ذلك -أيضاً- يهب الله لك مزيداً من الفضل ترغيباً وتشويقاً وتحبيباً، لتأتي إلى بيته ولتناجيه وتدعوه سبحانه وتعالى، فبمجرد سماع هذا الأذان ينسكب في القلوب، فتهتز القلوب شوقاً، وتتعلق بشهود الصلوات في المساجد مع الجماعات، وما يزال المؤمن مرتبطاً بها فيستحق حينئذٍ ذلك الوعد العظيم والأجر الكبير الذي ذكرنا به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن السبعة الذين يظلهم الله عز وجل تحت ظل عرشه في يوم القيامة، وذكر منهم: (رجل قلبه معلق في المساجد)، قال أهل العلم: ومعناه أنه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد! فهو تعلق قلبك عندما تنتهي من هذه الصلاة، فأنت مستحضر في قلبك أنك ستدعى مرة أخرى إلى لقاء الله، وإذا سمعت النداء تهيأت بقلبك ونفسك للإقبال على الله، فهذا لك به أجر عظيم؛ لأن هذا المعنى الذي استقر في قلبك هو من أعظم المعاني، معنى التعلق الدائم والارتباط التام بالعبودية لله عز وجل، فما يزال قلبك مستحضراً أنك بين الفينة والأخرى، بين الصلاة والصلاة وبين النداء والنداء، تنطرح بين يدي الله عز وجل، وتسجد له سبحانه وتعالى، وتخضع له، وتذرف دمع الندامة، وتدعو دعاء المتضرع لله سبحانه وتعالى، كل ذلك ولما تأتي بعد إلى الصلاة.
فإذا تحركت إليها، وإذا مشيت إليها جاءك فضل من الله عز وجل يتلقاك مع أول حركة وأول خطوة، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر: (أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا -وقد كانوا بعيدين عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فلما خلت البقاع من حوله أرادوا أن ينتقلوا ليكونوا على قرب من مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم فإنها تكتب آثاركم وخطاكم إلى المسجد عند الله سبحانه وتعالى.
قال النووي: فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم إلى المساجد.
وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى ترغيباً وتشويقاً.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه متسائلاً يحثهم ويرغبهم ويعلقهم بهذه الصلاة: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)! ومن يسأل مثل هذا السؤال اليوم؟! ومن يتعلق به اليوم؟! ومن يبحث عن جوابه؟! ومن يرتبط بمدلوله؟! ومن يلتزم بمقتضاه؟! قلّ هذا في الناس أو شغلوا عنه.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه في مشهد من أصحابه يلفت أنظارهم وينبه قلوبهم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهل ترى في هذه الخصال الثلاث شيئاً يخرج عن الصلاة؟! إنه الوضوء وهو شرط الصلاة، إنه السعي والإقبال إلى الصلاة، إنه الرباط في انتظار الصلاة.
فالأمور الثلاثة كلها التي يحصل بها هذا المحو للخطايا والرفعة للدرجات والمضاعفة للحسنات ساقها الله عز وجل لنا في هذه الفريضة.
وهناك بشارة عظمى يتعلق بها قلب كل مؤمن، ذلك أن المؤمن الحق إنما ينظر إلى الآخرة، وينظر إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا إلى الهول الأعظم، وإلى الحساب الدقيق، وإلى العذاب الشديد، كيف يفتدي نفسه منه، كيف يفك رقبته منه، كيف يعمل ما يظن أنه ينال به رحمة الله عز وجل ورضوانه سبحانه وتعالى.
جاءت هذه البشارة في حديث سهل بن سعد عند ابن ماجه، وفي سنن أبي داود من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) يوم يحجب النور عن أهل النفاق والكفر والعصيان، يوم يبحث الناس عما يضيء لهم الطريق ليجوزوا الصراط وينجوا من عذاب الله عز وجل ومن كلاليب النيران، يوم تمشي في الظلمات إلى المساجد في صلاة العشاء أو الفجر تسعى إلى طاعة الله، وتتحرك إلى رضوان الله، يفتح الله عز وجل لك في حياتك الدنيا، وينور لك قلبك، ثم يكون ذلك ضياء بين يديك يوم القيامة {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8].
هكذا تتميز عندما تقبل على هذا الأمر العظيم، وليس ذلك فضلاً منك، وإنما هو واجب عليك، ولكن فضل الله سبحانه وتعالى يجعل على الواجب أجراً أعظم من الأجور التي تكون للمندوبات والمستحبات، وهذا من عظيم فضل الله عز وجل ومنته على الناس.
ثم ما الذي يجعلك تتقاعس وأنت في كل حال وفي كل لحظة ووقت وفي كل ما يتصل بشأن هذه الصلاة مأجور عند الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل هذه الصلاة صلة بينك وبينه سبحانه وتعالى، فجعل في كل أمر من أمورها وفي كل شأن من شئونها أجراً عظيماً، حتى يبقى القلب موصولاً بالله، وتبقى الصلة دائمةً بالله سبحانه وتعالى.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة ما لم يُحدث، تقول الملائكة: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه) فهذه ملائكة الرحمن تتنزل من السماء لتشهدك وأنت تنتظر الصلاة في بيت الله ثم تتوجه إلى الله بالدعاء لك بالمغفرة والرحمة والرضوان.
فأي وقت يكون طويلاً وأنت في هذه الحالة؟! ما بالك قد ترى أنك بكرت إلى الصلاة، أو جئت بعد الأذان فتنظر إلى ساعتك وتستطيل الوقت إلى الإقامة، وإذا أطال الإمام قليلاً في قراءته تململت ورأيت أن الوقت -كما يقال- قد ضاع؟! وأي وقت يضيع وأنت في بيت الله، وحولك ملائكة الله، والدعاء مرفوع لك إلى الله عز وجل، وأنت تسجل لك الحسنات وتمحى عنك السيئات؟ فهل ندرك عظيم ذلك الفضل الذي غفل عنه كثير منا ولم يستحضروا في قلوبهم ونفوسهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الصورة العظيمة التي شملت كل فضيلة في هذا الأمر؟ وفي حديث عثمان رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس في المسجد غفر الله له ذنوبه) مغفرة عند الأذان، ومغفرة عند الوضوء، ومغفرة في السعي والمشي إلى الصلاة، ومغفرة عند أداء الصلاة، أليس هذا فضلاً عظيماً من الله عز وجل؟! ما بال الناس اليوم غفلوا عن هذا الفضل؟! فلا تراهم في المساجد إلا قليلاً، ويقلون بشكل أكبر في بعض الفرائض كصلاة الفجر أو العصر أو غيرها مما قد يكون فيه مشقة يسيرة لا يمكن أن تصد أو أن تحجب عن مثل هذا الأجر الكبير والفضل العظيم.
وفي الحديث المشهور -الذي يحفظه كثير من الناس، وهو حديث ابن عمر في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبعٍ وعشرين درجة) وما أدراك ما هذه الدرجات؟! وما أدراك ما فيها من الفضائل والحسنات؟! وهذا فضل عظيم ساقه الله عز وجل، وكلما شهدت الصلاة مع جماعة أكبر كان الفضل والأجر عند الله عز وجل أعظم.
كل ذلك لتبقى مشدوداً متعلقاً بهذه الفريضة، وبعض الناس يختار الأدنى ويرضى بالأقل في أمر الدين، بينما هو في أمر الدنيا يسعى للمراتب العالية وللفرص العظيمة، وإن كانت صعبة أو شاقة، ولذا نجد بعض الناس كلما وجد فرصة للترخص أو لترك الصلاة مع الجماعة في المسجد أو لأي شأن من الشئون رأى أن في ذلك عذراً يكفيه لأن يرضى بالأقل من الأجر، كأنما قد غنمنا أجوراً كثيرة، وأمنا من معاص وسيئات عديدة، نسأل الله عز وجل السلامة.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في سنن أبي داود من حديث أبي بن كعب -: (إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده(2/3)
مكانة صلاتي العشاء والفجر
لقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على أمر كان الصحابة فيه من المتنافسين، وكانوا فيه ممن ضربوا المثل الأعلى في شأن قيام الليل الذي كان يحييه بعضهم من أوله إلى آخره، وبعضهم معظمه، أو من منتصفه إلى آخره، ونحو ذلك، وقد تقاعست الهمم، وضعفت العزائم في عصرنا هذا عن قيام الليل، ولو بركيعات قليلات، ولذا جاء فضل من الله عز وجل عظيم وربطٌ لنا بأداء الصلوات في الجماعات كبير، عندما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فكثيرون ممن يفرطون في الفجر يفرطون في عظيم الأجر.
وكذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً فيه خصيصة لك أيها العبد المؤمن، يا من شهدت صلاة الفجر في الجماعة؛ لأنها صلاة تأتي والناس غارقون في نومهم، أو سارحون في أحلامهم وقد أنسوا بالراحة بعد التعب، وشق عليهم أن ينهضوا من فرشهم الوثيرة بسبب البرد وغير ذلك من أسباب التثاقل والتكاسل، فإذا نهضت من تلك الراحة إلى طاعة الله فإن لك بشارة، وإن لك شهادة عظيمة من الله عز وجل أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه كما عند الطبراني من حديث أبي بكرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله أكبه الله في النار لوجهه) قال أهل العلم في معنى قوله: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) أي: في أمان الله عز وجل، وفي حفظ الله عز وجل، وفي رعاية الله عز وجل تحت عين ونظر الله عز وجل.
فما أعظمها من شهادة! وما أعظمه من حفظ ورعاية! (فمن أخفر ذمة الله أكبه الله في النار لوجهه) قال العلماء: معناه على أحد قولين: الأول: تحذير من ترك صلاة الفجر في جماعة؛ لأن تاركها ينقض ذمة الله عنه فلا يعود محفوظاً، فيصيبه ما يصيبه عندما ينسحب أو ينتقض أمان الله وذمة الله له.
المعنى الآخر -وهو جميل جداً ورائع جداً يبين لنا عظمة هذه الصلاة-: أن (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) أي: فلا تتعرضوا له بشيء، لا تؤذوه ولا تتعرضوا له؛ فإنه في ذمة الله وفي حمايته، فإن تعرضتم له فقد تعرضتم لسخط الله عز وجل، فما أعظم هذه الحماية التي تؤتاها عندما تشهد صلاة الفجر في جماعة.(2/4)
تبكير السلف إلى الصلاة وعدم التخلف عنها
على المسلم أن يتأمل كم في هذه الصلاة من فضائل عظيمة، حتى إن سلف الأمة رحمة الله عليهم عندما فقهوا هذا فقه الإيمان وعرفوه معرفة العباد الأذلاء لله الراغبين في ثواب الله الخائفين من عقاب الله انعكس ذلك صورة حية في واقع حياتهم، فلم يكن أحد منهم يتخلف عن الصلاة، بل كان الأمر كما ثبت عن بعض الصحابة أنه قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وإن كان الرجل ليؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
فهذا وصفٌ واضح قاطع معروف عند مجتمع الصحابة أن المتخلف عن أداء الصلوات في الجماعات منافق معلوم النفاق، أي: كأن نفاقه واضح بيّن دليله قاطع ظاهر.
ولذا كانوا يحذرون من هذه الوصمة الخطيرة وصمة النفاق، حتى إن الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، أي: يستند إلى رجل عن يمينه وآخر عن شماله لأنه مريض، لكنه يؤتى به على هذه الصورة حتى يقام في الصف ليشهد الصلاة مع الجماعة، لئلا يكون متخلفاً فيعد من المنافقين.
وانظر إلى ما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث ثابت البناني أنه كان مع أنس قال: فمشيت معه إلى الصلاة، فقارب بين الخطا -أي: جعل الخطا متقاربة وأسرع في المشي- ثم التفت أنس إلى ثابت وقال له: كنت مع زيد بن ثابت فمشى مثل هذه المشية -أي: قارب بين الخطا- ثم التفت إلي -أي: التفت زيد إلى أنس - وقال: مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمشى وقارب بين الخطا، ثم التفت إلي -أي: التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثابت - وقال: (إنما فعلت ذلك ليكثر عدد خطانا في طلب الصلاة) هذا فقه النبي الأعظم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وانعكس ذلك صورة عملية في الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين.
وهذا عدي بن حاتم -وهو من الصحابة- يقول: ما دخل وقت صلاة قط حتى أشتاق إليها.
أي: يكون قد بلغ به الشوق أنه ينتظر دخول وقت الصلاة، فإذا جاء وقتها كان كمن ينتظر شيئاً محبوباً إليه طال وقت انتظاره إليه واشتياقه إليه.
ويقول أيضاً: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء.
أي أن الاستعداد المبكر والتهيؤ قبل دخول الوقت كان من سمة صحابة النبي عليه الصلاة والسلام ومن تأثر بهم من التابعين.
فهذا إمام التابعين سعيد بن المسيب رحمة الله عليه يقول: ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد.
منذ أربعين عاماً! فلو حسبنا كم في الأعوام من أيام وكم في الأيام من صلوات وما كان يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد طوال هذه المدة! قال عنه بعض أصحابه: صلى أربعين سنة في الصف الأول ما رأى قفا أحد.
أي: لا يصلي في الصف الثاني فيرى قفا من في الصف الأول، بل كان على هذه الحال دائماً.
وفي معجم الطبراني الكبير بسند حسن أن عنبسة بن الأزهر قال: تزوج الحارث بن حسان فصلى الفجر في ليلة زواجه.
أي: في ليلة زواجه صلى الفجر في المسجد.
وهذا أمر مشهور في حياتنا أنه إذا صلى العروس صلاة الفجر في ليلة عرسه فكأنما جاء بأمر غريب.
فقيل للحارث: أتخرج وإنما بنيت بأهلك الليلة؟! فقال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جماعة لامرأة سوء.
أي: إن كان الزواج سيمنعني من صلاة الفجر في الجماعة فهذا لا شك أنه أمر سيئ لا يمكن أن يكون في طاعة الله عز وجل.
فهذه الملامح تبين لنا كيف فَقِهَ سلفنا هذا الفقه، وكيف حرصوا على الغنيمة ولم يضيعوها.
فالله نسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا متعلقين بالفرائض، حريصين على الأجر والثواب، متسابقين في الخيرات ومسارعين إلى الطاعات؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(2/5)
المحافظة على الصلاة فضلها ودلائل التهاون فيها
إن من أعظم التقوى وأساسها ولبها المحافظة على الفرائض بشرائطها وسننها التي جاءتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما نتحدث هذا الحديث نعلم جميعاً أن الناس في هذه الحياة الدنيا لا يفرطون في أي غنيمة تتاح لهم وتعرض عليهم، بل يدعون إليها ويرغبون فيها، فإن فرط أحدهم في هذه الغنيمة أو قصر في مكسب كان يمكن أن يحوزه فلا شك أنه يوصف عند الناس بالتفريط، وربما بالحمق، وهو نفسه يعض أصابع الندم على ما فاته من هذا المغنم والمكسب، فكيف بنا مع هذه الغنائم الربانية العظيمة الأجر التي فُرضت علينا ورغبنا الله فيها وأعطانا عليها العطاء الجزيل الذي لا منتهى لحده ولا حد لوصفه؛ لأنه من عند الله سبحانه وتعالى.
وفوق ذلك كله عندما تشهد الصلاة في جماعة فهذا هو الفضل والأجر، وهذا هو الأداء للفرض، وهذا هو الاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك معالم أخرى جديرة بالاهتمام، فهذا هو شعار الإسلام الذي نعلنه ونرفعه، فإذا خلت المساجد وقل فيها المصلون كان ذلك دليلاً من أدلة ظهور النفاق وظهور التقصير في طاعة الله وظهور التفريط في جنب الله، واستحقاق السخط والغضب من الله عز وجل.
أضف إلى ذلك أن كثيراً من الناس عندهم جهل، فلا يعرفون فقه الصلاة، ولا يحسنون التلاوة، فلو أنهم شهدوا صلاتهم في مساجد المسلمين لسمعوا تلاوة مرتلة وصلاة صحيحة، فيعينهم ذلك على أن يؤدوا صلاتهم على وجه تام؛ لأن بعض من يصلون منفردين هم على جهل، ويصلون صلاة ناقصة، وربما يقع فيها من الخلل ما يحكم به في الفقه بأنها صلاة باطلة.
وهناك معانٍ أخرى كثيرة، مثل التعارف والتآلف والوئام، وفوائد أخرى يطول حصرها.
وأقول: إننا قد فرطنا في هذا الأمر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بداية هذا التفريط هو منتهى التفريط في أمر الإسلام؛ لأن عرى الإسلام تنحل عقدة عقدة في آخر الزمان، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وآخر ذلك الصلاة، وقد يقول قائل: ولم تنحل الصلاة؟ فأقول: هذا المفرط الذي يترك الصلاة في المسجد، ويقول: ليست الصلاة واجبة علي في الجماعة.
ثم بعد ذلك يرى أن الجماعة ولو في غير المسجد ليست لها أهمية، ثم يصلي منفرداً، ثم يتأخر عن أدائها في وقتها، ثم لا تبقى الصلاة كما كانت في حياة الصحابة، وكما أمرنا بها في هذه النصوص على النحو المطلوب، وحينئذٍ لا يكون لها الأثر المطلوب الذي أخبرنا الله عز وجل به في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ولا تكون كذلك على نحو ما أمرنا الله عز وجل ووضحه لنا بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وكل هذه المعاني تغيب وتضيع عندما نفرط في الجماعة على سبيل الترخص والتهاون.
فهذه فضائل عظيمة، وهذه أجور كبيرة، وهذه غنيمة باردة، ينبغي أن لا نفرط فيها، وأن لا نضيعها، ومن الفطنة والذكاء، ومن الإيمان واليقين، ومن الحرص والرغبة أن نكون مترسمين خطا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فنسابق ونسارع ونرابط، ونسعى ونجتهد ونقوم في الليل، ونسعى إلى الصلوات في الجماعات لاسيما في الفجر، لا أن يكون حالنا أننا حتى في الجمعة التي هي مرة في الأسبوع يأتي كثير من الناس متأخرين، بل يأتون وقد انتهت الخطبة أحياناً وشرع الإمام في الصلاة، ونحن نعلم أن من طبيعة حياتنا أن صباح الجمعة ليس فيه أعمال، وأن الناس غالباً يخلدون فيه إلى النوم، فأي شيء يؤخرهم عن هذا الأجر وعن الفضل وعن الفرض قبل ذلك؟! فهذا تفريط وتقصير ينبغي أن نطهر أنفسنا منه، وأن نسعى إلى أن ننبذه في مجتمعنا وفي أنفسنا وفيمن حولنا، وفي أبنائنا وفي جيراننا، عسى الله عز وجل أن يرحمنا وأن يتقبل منا وأن ييسر لنا أمورنا.
اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! أنزل الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار.
اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، اللهم! سكن لوعتهم، اللهم! وامسح عبرتهم، اللهم! ارزقهم الصبر واليقين، اللهم! ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم! واجعل ما قضيته عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم! واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/6)
بلايا الخطايا
لقد كثر في عصرنا الحاضر تناول الأشياء المضرة بالصحة والبدن كالدخان، وارتكاب بعض الفواحش والمحرمات التي أثرت على الفرد والمجتمع، فحلت بسببها عقوبة الأمراض المستعصية التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا، وهكذا عاقبة المجتمعات حين تتمرد على دين الله، وتتعدى حدوده ولم تتمثل أوامره وتجتنب نواهيه.(3/1)
حصاد الدخان
الحمد لله جعل الإيمان أمناً وأماناً، والإسلام صحةً وسلاماً، وجعل السلامة في الطاعات، والبلية في المعاصي والسيئات، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء الأرض والسماوات، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومنار العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! بلايا الخطايا أمر ينبغي أن تلتفت له الأذهان، وأن يعطى حقه من العناية والاهتمام، فإن شيوع المعاصي، وذيوع الخطايا، وتوسع دائرتها يؤذن كسنة ماضية من الله جل وعلا بعظيم البلايا، وجليل الرزايا التي لا تقتصر على موات القلوب، وكدر النفوس، وضعف الإيمان، وزيغ الأهواء وغير ذلك، بل تتعداها إلى الأضرار والأخطار المادية الملموسة، ولعلي وأنا أريد أن ألفت الأنظار، وأن أجعل كل أحد ينتبه من غفلته، ويرعي هذا الحديث سمعه، أبدأ بأن أقول: إن خطيئة واحدة قد حصدت في عام واحد -هو العام الذي انصرم- ثلاثة ملايين من البشر، فهل ترون مثل هذا الرقم الخطير المفزع أمراً هيناً؟ وهل ترونه عقوبة ليست مرئية أو ملحوظة؟ وأزيدكم لأقول: إن جريرة يكاد كثير من المسلمين عموماً، بل ومن الحاضرين في هذا المسجد وفي غيره خصوصاًً يلمون بها ويقترفونها ويمارسونها كل يوم وليلة، ليست مرة واحدة بل مراراً عدة، هذه الخطيئة حصدت في عام (2000) أي: قبل نحو أربعة أعوام خمسة ملايين من البشر.
ولعلكم الآن تتساءلون، وأنا أيضاً أقول: بأيهما أبدأ وهما اثنتان، وغيرهما من الخطايا فيها العظيم والجليل من البلايا والرزايا؟ هل تصدقون -وهذا بموجب إحصائيات علمية معتمدة معتبرة من منظمة الصحة العالمية- أن قتلى التدخين في عام (2000) بلغ خمسة ملايين إنسان، وأنه بموجب معدل الإحصائيات المتزايدة من كل عشر وفيات من الرجال والنساء واحدة سببها المباشر هو التدخين، وأن هذه النسبة ترتفع في الرجال ليكون كل خمسة يموتون منهم واحد يكون سبب موته المباشر هو التدخين؟(3/2)
بلاء الإيدز وانتشاره في المجتمعات الإسلامية
وكذلكم أنتقل بكم إلى الموضوع لنعود إلى هذه القضية مرة أخرى: يكثر الحديث اليوم في وسائل الإعلام صحفاً وإذاعات وقنوات عما ينتظر أو يرتقب مما يعرف باليوم العالمي للإيدز، مرض نقص المناعة الذي فتك بملايين البشر، وتقول الإحصاءات: إن المصابين بهذا المرض والعاملين له بلغ اليوم خمسة وأربعين مليون إنسان، وإن العدد يتزايد بكثرة مذهلة مخيفة مرعبة، وأنه قد حصد في العام الماضي ثلاثة ملايين نفس، وأن هذه الإحصاءات يتبعها إحصاءات دقيقة يصعب أن تحدد أرقامها وهي إحصاءات المبالغ المالية المنفقه على الأبحاث، والمختبرات، وتحليل الدم، والعلاج، والعزل الصحي، وغير ذلك الذي فاق ليس مئات ولا آلاف بل بلغ عشرات ومئات الآلاف من الملايين التي تهدر في مثل هذا الباب الذي سببه الخطايا والفواحش كما سنشير، هذه الإحصاءات تقول: إن العام الحالي الذي سينصرم بموجب التاريخ الميلادي قريباً قد سجل فيه وحده خمسة ملايين حالة جديدة مصابة وحاملة للمرض، فإذا كان هذا يشكل نحو عشر الذي مضى وقد اكتشف المرض عام (1979) إذاً: فهذا العام كأنما ينذر بأن الأمر قد وصل مبلغاً عظيماً خطيراً فتاكاً يوشك أن يكون من أعظم بل هو في الحقيقة أعظم بلايا هذا العصر.
ولعلنا نتساءل: لم نتحدث عن هذا ونحن بحمد الله عز وجل في بلاد الإسلام وبلاد الحرمين؟ فنقول: إن الشر يعم ولا يخص، وإن مثل هذا البلاء قد غزا كل دار وبلاد، إحصاءات المسئول الرسمي في وزارة الصحة السعودية يقول: إن عدد الحالات المسجلة لهذا المرض في المملكة العربية السعودية يصل إلى أقل من ثمانية آلاف حالة، منها أكثر من ألف وخمسمائة لمواطنين، وأخرى لقادمين أو راحلين، ويعطينا مؤشراً ويقول: إن (90%) من أسباب هذا المرض في العالم كله هو الاتصالات الجنسية المنحرفة والشاذة، ويسميها أهل الحضارة المعاصرة: الاتصالات غير الآمنة، ويريدون أن يعلموا الناس كيف يقومون ويمارسون الحرام والفاحشة ولكن بطرق صحية آمنة، والله عز وجل يخبرنا في شطر آية أن هذا أمر بعيد المنال؛ لأنه قد قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، ويخبرنا الحق سبحانه وتعالى بأن للسيئات آثاراً وخيمة مادية ملموسة محسوسة قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] كل سيئة وشذوذ وانحراف وفاحشة لا بد لها من عقوبة دنيوية معنوية ومادية، فضلاً عما هو أعظم وأفظع من العقوبات الأخروية.
وتأتينا الإحصاءات في المملكة لتقول: إن (45%) من أسباب الحالات المسجلة اتصالات جنسية، و (20%) نقل لدم ملوث في خارج المملكة و (6%) جناية أمهات مصابات على أجنة بريئة و (2%) من أسباب إدمان المخدرات، وتبادل الحقن الملوثة و (27%) أسباب مجهولة غير معروفة، وأما الأعمار المصابة فهي ما بين الخامسة عشرة إلى الخامسة والأربعين من العمر، زهرة الشباب وبداية الرجولة تلك التي تحصدها هذه الأمراض الخطيرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268]، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].(3/3)
حرية المرأة المزعومة(3/4)
الترويج الفاسد للانحلال الخلقي
يكثر الحديث في ديار الإسلام عموماً عما يسمى بحرية المرأة، وعن تخفيف قيود التقاليد البالية، وعن إلغاء عوامل الكبت، وإطلاق سبل الترقي والتحضر، وكأن القوم عمي لا يبصرون، صم لا يسمعون، قد أصابهم جنون فهم لا يعقلون.
إن هذه المقالات وتطبيقاتها العملية هي التي أدت بالمجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الإسلامية والعربية إلى أن بلغت مبلغاً عظيماً في آثار هذه الفواحش.
واستمعوا إلى مقالة رجل يهودي أسس انحراف البشرية وقعد له، بعد أن ذكرت لكم ما قد يقال من الأقوال، يقول فرويد اليهودي عالم النفس الشهير: إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي، وكل قيد من دين أو أخلاق أو تقاليد هو قيد باطل ومدمر لطاقة الإنسان، وهو كبت غير مشروع.
قال ذلك وسار القوم على خطاه، وانتهى الأمر إلى أن يمارسوا الفاحشة مع البهائم بعد أن فشا فيهم شذوذ بممارسة الفواحش بين الرجال والرجال والنساء والنساء.
بل قد وجدت مجموعات من هؤلاء الشاذين في بلاد العرب والمسلمين، وكلما تركنا ما أسماه قيد الدين والأخلاق أو التقاليد فتحت أبواب الشر، وتسهلت أسباب الفساد، وعظم ارتكاب الفواحش، وزاد الخنا والزنا والفسق والفجور، وزاد معه ما في هذه البلايا من رزايا.
ولعلنا ننتبه إلى أمور أخرى أحب أن أربطها بهذا الشأن، فإن الذي يقال وربما يردد من هذه الأمور التي يدعى فيها حرية المرأة، والتي يدعى فيها توسيع دائرة دورها، في أمور نحن نعلم كيف بدأت وإلى أين انتهت، وفي أمور لو أنها كانت قائمة على أحكام الشرع، ومنضبطة بضوابطه، لعلمنا يقيناً أن خواتيمها ليس فيها ضرر، غير أنها تبدأ كما يقال: (أول الغيث قطرة ثم ينهمر): نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء وذلك ما نشهده في كل حال المجتمع، وما نشهده في آحاد الأفراد، انظروا إلى من انحرف أو انغمس في بعض الشهوات والملذات، هل تراه بدأ في الفواحش الكبرى؟ وهل تراه بدأ بالكبائر التي قد عظم الله عز وجل ارتكابها؟ إنه بدأ بأمور يسيرة، وبتجاوزات خفيفة، بدأ بنظر آثم، وترخص في حديث واختلاط مغرٍ، وانتهى إلى خلوة محرمة، ومشى إلى أمور انتهت به إلى ما نحن نوقن بأن بدايته ستكون هذه نهايته قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] (لا تقربوا) أي: لا تأتوا دواعيه، ولا تبدءوا بمقدماته، ولا تتساهلوا في أي أمر يتصل به، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، والخطاب كذلك للمؤمنات قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
وإذا جئنا إلى السمع نجد قول الحق سبحانه وتعالى في خطاب أمهات المؤمنين العفيفات المؤمنات: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] إلانة القول سبب لفتنة القلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك من الضحك والملاعبة والأحاديث الإيحائية الإغرائية وغير ذلك، بل حتى الأنف فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيما امرأة خرجت متعطرة يجد الرجال ريحها تلعنها الملائكة حتى ترجع)؛ لأن لذلك أثراً وتأثيراً، وكل الجوارح والحواس مفضية إلى القلب ومؤثرة فيه.
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر النظرة سهم من سهام إبليس، العينان تزنيان وزناهما النظر، وكل جارحة لها زناها.
وبعد هذا البيان القرآني الرباني هل ينكر علينا وعلى كل مؤمن غيور أن يذم، وأن ينتقد، وأن يحرم بتحريم الله عز وجل وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبث على الفضائيات من الغناء والرقص والتبرج والعري، الذي أجزم يقيناً أنه من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في هذه الفواحش، والداعية إليها، والمرغبة فيها، والمؤججة للغرائز والمشاعر ونحوها، والمسهلة لارتكابها، والمهونة لشأنها، والتي تعرضها كأنه ليس فيها آيات محرمة ولا أحاديث مؤثمة، بل تعرضها على أنها من صور التحضر والفنون الراقية؟! وأقول هذا لأخاطب إخواني المؤمنين لينتبهوا لأنفسهم ولأبنائهم ولبناتهم، فإن أول الغيث قطرة ثم ينهمر، ولأن أول الخطايا والفواحش إنما هي صغائر لا يكاد المرء يلتفت إليها: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(3/5)
عاقبة الفساد ومخالفة الشرع
إننا نقول هذا، ويأتينا من يقول: إن مثل هذا القول تشدد في غير محله، بل بعضهم يعده تطرفاً عن الاعتدال والوسطية التي يفهمونها فهماً غير صحيح، بل ربما يرجم بعضهم رجماً أعظم فيقول: إن قائل هذا من أهل الإرهاب والغلو ونحوه، فأي شيء يريدون أن يبقوا لنا من ديننا، ومن عفة وحياء بناتنا، ومن شرف ورجولة أبنائنا، ومن حصانة ورقي وحفظ مجتمعاتنا؟ إنها السدود التي تبدأ بخرم صغير يتسرب منه الماء قليلاً، ثم يتشعب وينصدع ذلك السد، ثم لا يلبث -عياذاً بالله- أن يخرق فيه خرق يتسع على الراقع، ويوشك من بعد أن ينهد السد، وأن يفيض الطوفان، أن يغرق كل أحد حتى من لم يكن سبباً في ذلك.
ولنستحضر حديث أم المؤمنين رضي الله عنها عندما تعجبت وسألت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ويوم يقول المؤمنون ذلك في هذه الأيام، ويربطون بين ما يحصل من البلاء وما يقع من المعاصي يتهمون بأنهم حمقى ومغفلون، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يبين هذه المخاطر يقول: (والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، أو ليس قد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو ليس القرآن قد نص عليه بقوله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]؟ فهل تعليل القرآن وتحليل المصطفى النبي العدنان صلى الله عليه وسلم باطل ولغو؟ حاشا الله عز وجل أن يكون كذلك، فتنبهوا لمثل هذا، وانظروا إلى تشريع الإسلام الحكيم الضابط في كل جانب من هذه الجوانب، وكيف جعل بين الحلال والحرام أموراً تكون بمثابة الوقاية والحماية، وكلكم يحفظ حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، ابحث في حياتك كل أمر من المعاصي الواضحة ارتكبته فانظر إلى الخلف قليلاً فإنك واجد أموراً من المشتبهات، وأموراً مما فيه قليل أو يسير من المحرمات كان هو طريقك إلى هذا، فاقطع الطريق من أوله، واقطع على الشيطان وسواسه، فإن ذلك مؤذن بما هو أخطر.
ولعلي -وأنا أذكر ذلك- أستحضر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة في سننه منفرداً به، ورواه الحاكم وصححه في قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، وهذا هو الواقع ينطق ويشهد بما أخبر به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن كل معصية ومخالفة هي سبب لحصول سخط الله عز وجل وغضبه، وما أدراكم ما غضب الحق جل وعلا، في قصة موسى عليه السلام مع فرعون لما طغى وبغى وتجبر وتكبر قال الله جل وعلا في شأنه وشأن من تبعوه: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] أي: أغضبونا، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56].
ويكفينا كذلك ما جاء في القرآن في قصة قوم لوط وفي أوصافهم فيما ارتكبوه من الشذوذ الذي فشا في دنيا الناس اليوم والعياذ بالله، كل وصف قبيح، وكل سمة رذيلة ذكرت عن هؤلاء في القرآن: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166]، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81] وفي دعاء لوط عليه السلام: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30]، وفي قوله كذلك: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:84]، وعنهم قال الحق جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، وخاطبهم لوط فقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] الفاعلون لهذه الفاحشة قوم عادون، مفسدون مجرمون في الغي سادرون، ليس لهم عقل ولا رشد.
وتأتينا العقوبات والحدود الإلهية من جلد الزاني غير المحصن، ورجم الزاني المحصن، وقتل من يفعل فعل قوم لوط، فيقولون لنا: إن هذه عقوبات ليست إنسانية، وتتعارض مع حقوق الإنسان، ولا يدركون أنهم يقتلون الإنسان بالملايين، ويفعلون ذلك عن سبق علم وإصرار كما يقال، حتى بلغت الوفيات بمثل هذه الأعداد المذهلة والأسباب المباشرة هي هذه الجرائم والفظائع والفواحش، وهكذا نجد أن الله عز وجل قد آتانا في الإيمان والإسلام والشرائع والأحكام ما يحفظ نقاء القلوب، وشرف النفوس، ورشد العقول، وسلامة الجوارح، وطهارة المجتمع، وعفة ورفعة الأخلاق، فإذا تنكبنا نهج ربنا، وخالفنا هدي رسولنا فلنؤذن بما قدره الله عز وجل من البلاء والهلاك، نسأل الله عز وجل السلامة.
اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واصرف عن بلاد الحرمين كل سوء ومكروه يا رب العالمين! أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(3/6)
إحصاءات الآثار المترتبة على إدمان الدخان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والمباعدة عن الحرام، والتوقي من الشبهات، ولعل هذه الخطايا ذات البلايا كثيرة ليست بهذه الفواحش، وليست في التدخين، وإنما كذلك في المخدرات وغيرها، ولسنا في هذا المقام بصدد الإحصاء والذكر لكل شيء، غير أني وقد ذكرت شيئاً عن هذا المرض الخطير قد يقول بعضكم: نحن بعيدون عنه، وفي منأى منه، لكني مرة أخرى أعود بكم إلى التذكير وإلى الإضافة في شأن التدخين، وما أدراك ما التدخين! لعلي أستطيع أن أقول: إن هذا الجمهور الكريم فيه نسبة قطعاً من المدخنين، ولتكن عشرة بالمائة أو عشرون أو أكثر أو أقل، أقول مرة أخرى: إن الإحصاءات قد أثبتت لنا أن قتلى التدخين أكثر، بل قد يصلون إلى ضعفي قتلى الإيدز، فإذا كنا ولابد نفكر وندرك ونحلل فإننا ندرك أن هذا الخطر أعظم، وأن أثره أكبر، وأن مصيبته وبليته أجلى وأظهر.
وتقول الدراسات: إن أعظم الأسباب التي ينتج بها الوفاة بعد قدر الله عز وجل من أسباب التدخين أمراض القلب والأوعية الدموية، ويليها مرض سرطان الرئة التي يتلفها ويحرقها التدخين حتى تصل بصاحبها إلى الوفاة، وأن الوفيات تراوحت الأعمار فيها ما بين الثلاثين من العمر إلى تسعة وستين، وأن هذه الأعداد في تزايد مستمر.
وأنتقل مرة أخرى إلى إحصاءات تخصنا في بلادنا لنقول: إن الإحصاءات وبموجب قراءات رسمية كانت في عام (1984م) تجعل المملكة ثالث دولة مستوردة للدخان في العالم كله، وأن الذي أنفق من الأموال والاستيراد في عام (1990م) على سبيل المثال كان متجاوزاً لمليار ريال، أي: ألف مليون من الريالات، وهنا للمقارنة البسيطة، نقول: إن مسئول الصحة عن مرض الإيدز أخبر: أن وزارة الصحة قد أنفقت أربعة وعشرين مليوناً في مسائل الإيدز وعلاجه وفحص الدم وغيره، وانظروا إلى ألف مليون في عام تسعين، ثم زادت في عام واحد وتسعين إلى ألف وأربعمائة مليون ريال، ثم هي في تزايد مستمر، حتى قدرت الإحصاءات في أعوام قريبة ماضية بأن الاستهلاك يصل إلى خمسة وعشرين مليار سيجارة.
وبحسابات عملها بعض الباحثين أثبتوا فيها أنه لو كان عدد السكان خمسة عشر مليوناً، وأن ثلثهم يدخنون، فإن نصيب كل واحد في العام خمسة آلاف سيجارة، وأن نصيبه في اليوم الواحد أربع عشرة سيجارة، وهذا معدل واقعي موجود، وأن النتيجة بعد ذلك وبعد كل إهدار هذه الأموال هي الأمراض الفتاكة والقاتلة، ثم يأتينا من بعد مدخنون أو غير مدخنين ويقولون: من قال إن الدخان محرم؟! فأمر يفتك بالصحة قطعاً، ويؤدي إلى الهلاك حتى الموت إثباتاً علمياً طبياً، ويتلف كل هذه الأموال، ويسبب ما يسبب من أضرار أخرى اجتماعية وغير اجتماعية، ثم بعد ذلك نقول: إنه حلال زلال، أو نقول: إنه مفيد ونافع، أو إنه يمكن أن يدل على الرجولة أو البطولة! ولو أردنا أن نكون واقعيين فلنسأل كل أب مدخن: هل ترضى أو تحب أو لا تمانع على الأقل أن يصبح أبناؤك مدخنين؟ لقال بصوت عال: كلا، ولرفض ذلك، فلو كان فيه خير أو كان فيه شيء من منفعة أفلا تحبه لأبنائك؟! وأعجب من المدخنين يعلمون كل ذلك ثم لا يمتنعون عن التدخين، ويدخلون إلى شهر رمضان ويصومونه كله، ويمتنعون في نهاره وإن طال عن التدخين، ثم يعودون إليه.
وقد لقيني في أول أيام العيد أحد المصلين، ولحقني إلى الباب وهو يقول: إنني مدخن منذ اثنين وأربعين عاماً، وأبشرك بأنني مع رمضان امتنعت عن التدخين، ويطلب الدعاء ألا يعود إليه، فتصوروا كم أنفق من الأموال في أعوامه الأربعين، ولو أنه ادخر هذا المال وأنفقه في سبيل الله أو أطعمه لعياله لكان له في ذلك خير وأجر أعظم وأكبر وأفضل.
ولا شك أننا -أيها الإخوة- نحتاج إلى نكون صرحاء في مثل هذا الأمر، ولعلنا ونحن في بيت من بيوت الله وفي يوم جمعة أغر أن ندعو الجميع من المدخنين في هذه اللحظة أن يعقدوا في أنفسهم العزم، وأن يقولوا في أنفسهم عهداً مع الله عز وجل أنهم في هذه اللحظة وعند خروجهم من هذه الجمعة سيقاطعون التدخين إلى الأبد؛ لأنهم يعلمون مضرته، ويعلمون ما ينفقونه ويهدرونه فيه من مال، وما يسببه لهم من إحراج اجتماعي، فنسأل الله عز وجل لهم أن يعينهم على ذلك، وأن نكبت أعداءنا بأن لا نستهلك هذه السموم التي يصدرونها لنا.
تقول الإحصاءات مؤخراً: إن أمريكا والعالم الغربي عموماً يقل فيه التدخين في الأعوام الأخيرة في كل عام (10%) وأنه يزداد في دول العرب والمسلمين، وكأننا نأخذ ما يتركونه، وهم يصنعون ونحن ندفع الأموال لحرق قلوبنا ورئانا، ولإهلاك صحتنا، نسأل الله عز وجل السلامة.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم جنبنا المحرمات، وباعد بيننا وبين السيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت.
اللهم أعنا على ترك المنكرات، ومجانبة الشبهات يا رب الأرض والسماوات! اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم وفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت.
اللهم إنا نسألك صحة أبداننا، وسلامة قلوبنا، وبركة أوقاتنا، وصلاح وبر أبنائنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم اللهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم اللهم لمن خلفهم آية.
اللهم إنا نسألك أن تهزمهم، وأن تنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! عاجلاً غير آجل يا رب العالمين اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، وأقر اللهم أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم ثبت إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك بإخواننا المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(3/7)
دعوة للتطهير
يهتم الناس اليوم بالنظافة المادية والطهارة الحسية اهتماماً بالغاً، لكنهم لا يولون الجانب المعنوي والتطهير النفسي الباطني أي اهتمام، ولأجل هذا نزل بالأمة من البلاء والفتن ما الله به عليم.
وهاهم العلماء ينادون الناس إلى الرجوع إلى أنفسهم لتطهيرها بالأعمال الصالحة، ويلفتون أنظارهم إلى أهمية تطهير المجتمعات والحكومات من السياسات الفاسدة، والأمراض الاجتماعية الخطيرة.(4/1)
أهمية التطهير المعنوي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدانا الله به من بعد ضلالة، وأعزنا من بعد ذلة، وكثرنا من بعد قلة، وقد جعلنا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(4/2)
تطهير القلوب من وحل الشرك
فلذلك لابد أن نسعى إلى تطهير القلوب، وإلى تطهير العقول، وإلى تطهير الجوارح عما حرم الله سبحانه وتعالى، وأول أمر وآكد أمر: التطهر من كل صورة من صور الشرك صغيراً كان أو كبيراً، ظاهراً كان أو باطناً.
طهروا قلوبكم من التعلق بغير الله عز وجل، طهروا قلوبكم من التوكل على غير الله سبحانه وتعالى، نزهوا قلوبكم من الخوف من غير الله عز وجل، نزهوا قلوبكم من الرجاء لغيره سبحانه وتعالى، فإن كثيراً من الناس اليوم قد بات تعلقه بغير الله أكبر، واعتماده على غيره أكثر في صور عملية كثيرة.
وإضافة إلى ذلك: فإن شين الرياء والتصنع قد طم وعم في مجتمعات المسلمين، حتى قل المصلحون وندر وجودهم، بل من أخلص لله عز وجل عد في الناس غريباً شاذاً، بل ربما عده بعضهم ساذجاً لا يعرف كيف يغتنم الفرص، ولا كيف يعيش الحياة كما يقولون.
ولذلك أيضاً: هناك صور أخرى قد شاعت في بعض مجتمعاتنا مما يتناقض مع كمال الإيمان وصفاء التوحيد، أعني بهذا القول: ظاهرة الاعتماد والتعلق الكبير بالجن والسحر والشعوذة والكهانة، وقد شاعت بين الناس في صور كثيرة، وظهرت بينهم وكأنه ما قد وقع فيهم قول الله سبحانه وتعالى بأنهم زادوهم رهقاً، فاستسلموا لهم، وخافوا منهم، والتجئوا إليهم، وسرى بين الناس هذا الداء سرياناً كبيراً، فنحن نرى له صوراً عديدة في واقعنا، فإذا حقد أحد على أحد التمس له من يسحره، أو من يسلط عليه بعض الجان، أو من يقرأ له كفاً، أو من يكتب له حرزاً أو غير ذلك، وتعلقت القلوب بذلك تعلقاً غير مشروع يجرح في أصل إيمانهم، وفي كمال توحيدهم.
وغير ذلك كثير من صور عدم صفاء المعتقد وكمال التوحيد، ومن ذلك: الرضا بالمنكرات إذا كان رضاً قلبياً، والرضا بحكم غير حكم الله عز وجل إذا كان رضاً كاملاً باطنياً؛ فإن ذلك إشراك بالله عز وجل في أعظم حقوق الألوهية، وهو حق الحكم والحاكمية لله عز وجل، وكذلك في إقرار الحق، وإبطال الباطل، ومعرفة الحرام من الحلال، وإن ذلك من أعظم صور الكفر كما ورد في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه لما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان، قال: (إنهم يا رسول الله لم يعبدوهم.
قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد أحلوا لهم الحرام، وحرموا لهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم).
فهذا جانب لابد من تطهير القلوب منه، وتنقيتها من أدناسه؛ لأنه أخطر أنواع الإشراك، وأشدها فتكاً، وأكثرها ضرراً في حياة المرء المسلم؛ لأنها ترتكز وتتصل بأعظم أساس، وهو أساس الإيمان والتوحيد بالله عز وجل.
وهذا باب يطول الحديث فيه جداً.(4/3)
اهتمام الناس بالتطهير الحسي
أيها الإخوة المؤمنون! في ظلال آيات الله سبحانه وتعالى نبقى اليوم مع آية من هذه الآيات العظيمة، التي تُعلِّمنا ما ينبغي أن نكون عليه، وتحثنا على ما فيه خيرنا في دنيانا وأخرانا.
يقول الحق جل وعلا: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، وفي موضع آخر يقول الحق جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
هذه الآيات تشعرنا بأن الحق جل وعلا يحب المتطهرين، وذلك لا شك موجب من موجبات السعي إلى هذا التطهر ما دام فيه مرضاة الله عز وجل، وما دام المتحلي به يكون محبوباً عند الحق جل وعلا.
والتطهر: هو التنزه عن الأدناس، والبعد عن الأرجاس، وحسن المعاملة مع الناس.
فالتطهر: هو أن تبقى محافظاً على ما من شأنه أن يجعلك بين الناس وضيئاً وجيهاً، وعند الله سبحانه وتعالى محبوباً مقرباً.
هذا التطهر يظهر في أمرين واضحين من خلال الأمور العادية المحسوسة التي نعيش فيها ونتعامل بها.
إن التطهر يقتضي أولاً: أن تبتعد عن أسباب الأقذار والأوساخ، فإذا لبس الواحد منا ثوباً نظيفاً أو جديداً فإنه يكون أشد تحوطاً وأكثر تنبهاً من ورود أماكن الأوحال، أو من المرور بأماكن القاذورات، فإذا اضطر وكان قريباً منها فإنه يسعى إلى أن يرفع ثوبه، أو أن يحفظه بما يقيه من هذه الأدناس والأوساخ، ولكنه قطعاً مع شدة تحوطه واحتياطه، ومع عظيم تنزهه وابتعاده سيمر اليوم واليومان والأسبوع والأسبوعان، وسيجد أنه قد أصاب ثوبه بعض القذر، فهل يا تراه يسكت عن هذا ويرضى به؟ إنه يسعى مباشرة إلى خلعه وتنظيفه من جديد؛ لتعود له وضاءته وبياضه ونصاعته؛ لأنه يحب أن يكون متطهراً متجملاً.
وقد تفنن الناس اليوم كثيراً في أسباب التطهر المادي، فهذه أنواع متعددة من الصابون الذي يزيل الأوساخ، والذي يجعل الملابس أشد نصاعة وبياضاً كما يقولون، وهناك مطهرات للفم، وهناك مطهرات للفرش، وهناك مطهرات للحيطان، وهناك مطهرات للبلاط، وهناك مطهرات تجمع مع التطهير طيب الرائحة، وأخرى -كما يقولون- تجمع مع التطهير لمعاناً وبريقاً.
ويظل
السؤال
أين مطهرات القلوب؟ وأين مطهرات العقول؟ أين تطهير البواطن؟ أين السعي إلى التطهير الذي يكون به العبد محبوباً عند الله سبحانه وتعالى؟!(4/4)
تطهير القلوب من دنس المعاصي
إن أمر التطهر عظيم جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نص على أن المتطهرين عنده من المحبوبين، وهذه منزلة عالية لا تكون لأمر من الأمور العارضة، ولا لعمل من الأعمال الظاهرة، بل تكون لجوهر يتصل بأصل الإيمان وجوهر الإسلام؛ فلذلك ينبغي أن ننظر إلى التطهر من هذه الزاوية؛ أعني من زاوية أن شأنه عظيم، وأن أمره خطير، وأن منزلته عند الله سبحانه وتعالى رفيعة.
ولهذا التطهر مجالات واسعة، وعلى نفس ونهج التطهر المادي ينبغي أن تكون لنا عناية وأسباب وأعمال وحرص وتحوط في مسألة التطهر المعنوي الباطني! وكما أن الأصل في التطهر المادي الاحتياط والبعد عن الأدناس والأقذار، فكذلك يكون هذا التطهر المعنوي الإيماني التربوي.
ثم إذا أصابت الإنسان بعض هذه الأقذار، وألم ببعض الذنوب، وضربت عليه الغفلة؛ فإنه لا يرضى أن يبقى وسخ الثياب، يخرج إلى الناس فتشمئز نفوسهم منه، وتنصرف أبصارهم عنه، وتتأفف أنوفهم من كراهية رائحته، فكما يسعى بعد وقوع الأقذار على تطهيرها وغسل ثيابه منها، فلابد له أيضاً أن يكون له بعد احتياطه في البعد عن الذنوب والمعاصي أموراً تغسل هذه الذنوب، وتبيد هذه الأوضار، وتعيد له وضاءه الإيمان، وإشراقة الإسلام، ونصاعة التوحيد، وبريق الطاعة لله سبحانه وتعالى.
ومن هنا نجد النهج القرآني الذي يدلنا على هذا الأمر، فالله عز وجل قد أمر المؤمنين أن يغضوا أبصارهم، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، وقال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فهذا المنهج لنيل الطهارة هو البعد عما يشوبها، أو عما يدنس قلب الإنسان ونفسه من هذه الذنوب والمعاصي، والله عز وجل قال في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وفي آية غض البصر قال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فهو فيه الطهارة والتزكية، فالأصل في طلب هذا التطهر هو التجنب والحذر من الوقوع فيما حرم الله عز وجل.
فإن المرء يقيس التطهر المعنوي على التطهر الحسي، فهل يرضى أن يكون في ثوبه بقعة سوداء ولو كانت صغيرة؟ إنه يراها عواراً وتشوهاً في ذلك البياض الناصع، وكذلك المعصية إن كانت صغيرة كانت كذلك، فإذا سكت وغض الطرف عن هذا، فإذا جاءت أخت لها كانت أهون منها، ثم إذا تكاثرت هذه النقاط من الأقذار والأوساخ فإنه ربما لا يكترث لها، فإذا جاءت ثالثة ورابعة رأى أنه قد سبقتها أخوات، وأنه لن يكترث لها، ثم إذا أراد بعد طول عهد أن يطهر ثوبه فإنه يجد صعوبة، ويحتاج إلى كثير من المطهرات، وإلى قوة دلك، وإلى غير ذلك؛ لأنه لم يسبق إلى ذلك التطهير أولاً بأول كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روي عن حذيفة مرفوعاً وموقوفاً: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب منها واستغفر صقل) أي: القلب، وعاد مشرقاً وضيئاً، وإن لم يفعل ذلك تجمعت هذه الأقذار والنقاط السوداء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (حتى يصبح قلبه أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).(4/5)
مظاهر تطهير الجوارح(4/6)
تطهير الأذن من سماع الحرام
والأذن أيضاً ينبغي أن تتطهر عن سماع الحرام، وعن تسقط الكلمات بين المتحاورين، والله عز وجل قد بين أن لذلك أثراً، فقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]؛ فإن إلانة الكلام والتكسر فيه من المرأة مؤثر في الرجل.
وإن الكلام أيضاً قد يكون عوناً على الباطل، وقد ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم زجر ووعيد على من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، فما بالك بالذي يسمع ويتتبع وينظر، ثم ينقل ويتكلم، ثم يعين الظالم على ظلمه، ويوقع المسلم في المهاوي والمهالك؟! أسأل الله عز وجل السلامة! هناك كثير من الصور التي ينبغي أن تتطهر في ذواتنا، والله أسأل أن يطهر قلوبنا، وأن يطهر بواطننا، وأن يطهر ألسنتنا، وأن يطهر أبصارنا وأسماعنا عن كل ما حرم الله عز وجل.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(4/7)
تطهير الأعين من النظر إلى الحرام
وأيضاً: طهروا الأعين من النظر إلى المحرمات، وما أكثر ما تجوس العيون يميناً وشمالاً! وما أكثر ترداد الأبصار آفاقاً وآفاقاً! وما أكثر ما تتبع العورات! وتتجسس على المحرمات، ولا تلتفت إلى أن لذلك آثاره العظمى في القلب فيما يشغله عن الله عز وجل، ويعلقه بالشهوات الآثمة والملذات المحرمة! قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال الآخر: كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر ولذلك نجد كثيراً من المسلمين قد ابتلوا بالنظر إلى المحرمات، إما عياناً في المشاهد الحية، وإما على صفحات المجلات، أو على شاشات التلفاز، أو عبر وسائل أخرى كثيرة قد تفنن الأعداء في جلبها وبثها بين المؤمنين وفي مجتمعات المسلمين؛ حتى يفسدوا عليهم جوارحهم.(4/8)
تطهير اللسان من الثلب والكذب والنميمة
وكذلك لابد من التطهر في سائر الجوارح، فلابد أن نطهر ألسنتنا مما تساهل الناس فيه تساهلاً عجيباً غريباً؛ حتى كأنهم لم يسمعوا فيه قرآناً محكماً، ولا أحاديث هادية، فإذا بهم -إلا من رحم الله عز وجل- يكذبون ولا يتورعون عن الكذب، وينسون حديث النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسند الإمام أحمد -: (يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة)، أي: قد يقع منه شيء من المعصية أو المخالفة، لكنه إن كان صادق الإيمان لا يكذب أبداً، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن مغبة ذلك فقال: (وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار).
وكذلك صور أخرى من التجاوزات التي أصبح قاموس الألسنة فيها بذيئاً فاحشاً يمتلئ بسباب ما كنا نسمعه من قبل، ويمتلئ بغيبة وتجريح لا تترك ظاهراً ولا باطناً، ولا خفياً ولا معلناً، فإذا مجالس كثير من الناس تتناول أعراض إخوانهم المسلمين تناولاً يتشفون به، وينتظرونه، ويتتبعون الزلات، ويلتمسون العيب للبرآء، في صورة تدل على أن نفوسهم قد أظلمت، وأن قلوبهم قد اسودت، وأن منهاجهم قد انحرفت، وأن تصورهم لهذا الدين قد عراه خلل كبير.
إذ أصل الإسلام مبني على براءة المسلم وطهارته، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى حسن الظن بالمسلم، وإلى التماس العذر له، وإلى إقالة عثرته، ومنعه من الوقوع في المعصية، والتماس نصرته وإعانته كما قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
قالوا: يا رسول الله! قد عرفنا نصرته مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم، فتلك نصرته)، فلابد أن نعرف أن هذه الألسن اللاغية تورد أصحابها المهالك.
وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا، وبين خطورته عندما طلبت منه الوصية، فقال عليه الصلاة والسلام: (كف عنك هذا.
وأخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وسلم)، وكما جاء في حديث معاذ: (قال: يا رسول الله! أو إنا لمؤاخذون بما نقول؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم).
هذه الكلمات بين لنا النبي عليه الصلاة والسلام خطورتها بقوله: (إن الرجل ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً).
فطهروا ألسنتكم من الأقوال المحرمة، ومن الكلام الذي لا نفع فيه ولا فائدة؛ فإن من أعظم صفات المؤمنين ما ذكره جل وعلا بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] واللغو: كل كلام باطل محرم، وكل لغو هذر لا نفع فيه ولا فائدة.
وتأملوا إلى صورة الإيمان في كماله عندما يحدثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن كمال الإيمان: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، عجباً لهذا الربط الوثيق بين الإيمان المستقر في القلب والكلام المنطلق من اللسان! ينبغي أن تفكر قبل أن تنطق الكلمة كيف هي، وما وجهتها، وما حكمها في شرع الله عز وجل؛ ولذلك ذكر أهل العلم -كما أشار النووي في شرح هذا الحديث- أن الكلام إما أن يكون كلاماً استبان رشده ونفعه فيجب النطق به، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، وتوجيه الجاهل، ونحو ذلك مما خرست عنه كثير من الألسن، وانشغلت بغيره من الباطل، وإما كلاماً استبان غيه وفحشه وضرره، فهو مما يجب السكوت عنه وعدم النطق به، من نحو غيبة، أو نميمة، أو سب، أو لعن، أو طعن، أو غير ذلك من جدال ومراء ونحوه.
وإما كلاماً لا تدرى عاقبته إلى خير أم إلى شر، فالسكوت عنه أولى.
فهل تفكرنا في مثل هذه المعاني؟(4/9)
تطهير الحكومات والمجتمعات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.(4/10)
تطهير السياسة والحكم
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن هذه التقوى هي في معناها تدل على التطهر، إذ هي أن يتخذ العبد بينه وبين عذاب الله وقاية باتباع ما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر.
والتطهر -يا عباد الله- أمره عظيم؛ ولذلك ينبغي أن نسعى جاهدين إلى تطهير قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا تطهيراً نبالغ فيه، ونعتني به، ونحرص عليه ونداوم، ونكرره دائماً وأبداً.
وكما نتفنن في جلب المطهرات للأثواب أو البيوت ينبغي أن نحرص على أن نأخذ كل أسباب التطهر القلبي، وكما ذكرت في شأن ذلك التطهر في أفراد المجتمع، فإن هناك صوراً كثيرةً جداً على مستوى المجتمعات -لا على مستوى الأفراد- تحتاج إلى التطهير الذي ينبغي أن يكون جاداً وقوياً، وأن يكون صادقاً وخالصاً، وأن تتظافر الجهود عليه، وأن تتوفر كل أسباب التعاون للقيام به؛ لأنه من أعظم أسباب التعاون على البر والتقوى.
ينبغي أن تتطهر مجتمعات المسلمين من أوضار السياسة، بما فيها من النفاق الدولي، والكذب الدائم، والمخادعة التي لا تليق بمسلم، ومن المكر بالمسلمين، وكذلك الولاء لأعدائهم، والبراءة منهم على عكس ما أراد الله عز وجل وأمر به من الولاء للمؤمنين والعداء للكافرين.
وصور أخرى كثيرة لعل أبرزها: أن كثيراً من السياسات في بلاد الإسلام لا تعتمد شرع الله عز وجل، ولا ترجع إلى كتاب الله، ولا تحكم بشرع الله عز وجل، وهذا لا شك أنه أعظم الأقذار والأوضار والأوزار التي يعم بلاؤها، وينتشر ضررها، وتفتك أمراضها بالمجتمع أفراداً وجماعات؛ لأن هذه هي التي تصبغ حياة الناس وتفرض عليهم كثيراً من الصور.(4/11)
تطهير المجتمعات من التقاليد الغربية
وكذلك في المجتمعات ما يحتاج إلى تطهير، ومن ذلك: تطهير العادات الاجتماعية من التقاليد الغربية، ومن متابعة أهل الإباحية، وعدم التقيد بالآداب الشرعية، فكما ذكر الله عز وجل في غض البصر جاءنا من يشيع في مجتمعات المسلمين مصطلحات الصداقات البريئة، والزمالة الدراسية، وأن النفوس نقية، وأن القلوب طاهرة، ولا يؤثر فيها خلوة بريئة، ولا مناجاة حبيبة، ولا غير ذلك من الأسباب، إضافة إلى صور من العادات الاجتماعية التي خرج فيها جمهور الناس في مجتمعات المسلمين عن شرع الله عز وجل، كأنهم لا يعرفونه، وجعلوا كتاب الله وراءهم ظهرياً إلا من رحم الله عز وجل.
وصور أخرى تحتاج أيضاً إلى التطهير، وهي من أعظم ما يفتك بالناس ويؤثر فيهم سلبياً ولذلك فإن تطهيرها مهم؛ لأن هذا التطهير سينعكس على الناس، وهذا التطهير هو تطهير وسائل الإعلام ومناهج التعليم من كل ما لا يتوافق مع شرع الله عز وجل.
ولكل مسلم أن يقيس، وأن ينظر وإن كان حظه من العلم قليلاً، فإنه واجد بين كثير منها وبين شرع الله بوناً شاسعاً، وفرقاً كبيراً، بل معارضة ومعاكسة ظاهرة واضحة لا تؤسس في المسلم الارتباط بالله عز وجل، ولا تحببه في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تربطه بسيرة الصحابة وأجيال الأمة في تاريخها العريق المجيد، بل تعمد إلى عكس ذلك في غالب الأحوال إلا ما رحم الله عز وجل، وذلك في كثير من ديار الإسلام والمسلمين.
وكل تلك الانعكاسات لها آثارها، ولا تجعل المجتمع أو الأفراد في المرتبة التي يكونون فيها محبوبين عند الله؛ لأن الله عز وجل يحب التوابين ويحب المتطهرين، الذين يتطهرون من هذه الأرجاس والأدناس والأوزار والأوضار، والمعاصي والآثام، التي عندما سرت وانتشرت وتكاثرت وعظمت؛ ألفها الناس فلم يعودوا ينكرونها، واستمرءوها فلم يعودوا يرون فيها غضاضة ولا تحرجاً، والله عز وجل قد جعل التربية الإيمانية تنبني على شفافية روحية، وعلى طهارة قلبية، وعلى صفاء إيماني يميز فيه العبد بين الحق والباطل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، أي: قلوباً حية تفرقون بها بين الحق والباطل، وأنفساً طاهرة تأبى الأدناس والأرجاس، وروحاً محلقة لا ترضى أن تحوم حول الجثث، بل ترقى إلى آفاق السماء العليا، تطلب هواءً عليلاً، وجواً نقياً، وقمة سامقة.(4/12)
الغذاء الإيماني الذي يحفظ الطهارة
نعم -أيها الإخوة المؤمنون- قد عشنا في الأوحال كثيراً، وقد خالطنا الأدناس كثيراً، فلم يعد أحدنا يتنبه إلى ما يقع على أثوابه الباطنية من هذه الأرجاس والأدناس.(4/13)
التطهر بالإنفاق واجتناب المال الحرام
وكذلك أمر مهم لم أشر إليه، وهو قوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، هذا الأمر بالإنفاق هو نوع من تطهير النفس من شحها وبخلها وحسدها للآخرين، نوع من صقلها من هذه الأمراض الخطيرة، ولذلك فإننا أيضاً نحتاج إلى التطهير في الأموال التي خالطها الحرام إلا ما رحم الله، فهذه أموال الربا التي يتعامل بها كثير من الناس ويتعاطونها، وكذلك أكل أموال الناس بالباطل والمخادعة، والتعدي على حقوق الآخرين، واكتساب المال من حل وحرمة.
ومن أعظم هذه الصور التي تشيع في مجتمعاتنا: استعباد المستخدمين، وإلجاؤهم بحكم موقع القوة الناشئة عن كفالتهم، أو عن تأشيراتهم، أو غير ذلك، فيجعله يدفع له ضريبة هي أشبه بالمكوس المحرمة دون أن يقدم له شيئاً، ويضطره إلى ذلك اضطراراً، ويجبره عليه إجباراً، ويأكل هذا المال، وهو مال محرم عليه.
ومن أعظم الآثار الناشئة عن عدم طيب المطعم: حرمان إجابة الدعاء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ سعد: (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة).
أيها الإخوة الأحبة! إننا في حاجة إلى أن نتنبه إلى هذا التطهر، وأن نطهر أموالنا وبيوتنا وقلوبنا وظواهرنا وبواطننا من كل ما حرم الله عز وجل، أسأل الله أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يصرف عنا أسباب الفسق والفجور والعصيان، وأن يبعدنا عن نزغات الهوى، وأن يسلمنا من نزغات الشيطان وهمزه ونفثه ووسواسه.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام نائمين.
اللهم احفظنا من فوقنا، اللهم احفظنا من أمامنا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين.
اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولذرياتنا الصدق والإخلاص برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وأقل لنا العثرات، وامح عنا السيئات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم طهر مجتمعاتنا من كل ما لا تحبه ولا ترضاه برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم طهر سائر أوضاعنا عما لا تحب وترضى يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن ترفع راية الحق والدين، وأن تنكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم يا سميع الدعاء! يا قوي يا عزيز! يا منتقم يا جبار! نجعلك اللهم في نحور أعدائنا، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، ونسألك اللهم أن تحصيهم عدداً، وأن تقتلهم بدداً، وألا تغادر منهم أحداً، وأن ترينا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، وأن تزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأن تأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم نكس جباههم، وسود وجوههم، وأذل أعناقهم، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً أسود قريباً يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم رحمتك بعبادك المؤمنين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ارزقهم الصبر عند البلاء، اللهم وارزقهم الرضا بالقضاء، اللهم وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وفرج كربهم، ونفس همهم يا أرحم الراحمين! اللهم وانصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، انصرهم على عدوك وعدوهم يا حي يا قيوم! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وأقم الصلاة؛ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(4/14)
التطهر بالأعمال الصالحة
إن الأمر يحتاج إلى الاجتناب والابتعاد أولاً، ولا يكفي ذلك؛ بل يحتاج إلى مزيد من التطهر بأعمال مباشرة يبتغي بها العبد زكاء نفسه، ونظافة قلبه، وإحياء روحه، وتقوية عزمه، وصفاء ذهنه، وقوة عقله، وذلك لا يكون إلا بالطاعة والعبادة لله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
وتأمل ما وصف الله عز وجل في شأن هذا الغذاء الإيماني الذي يحفظ الطهارة، ويديم الوضاءة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، جاءت هذه الآية بعد الآية التي ضرب فيها المثل لإشراق الإيمان في قلب المؤمن، وهي قوله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] أين هذا الضياء؟! أين هذا الإشراق؟! أين نجد هذا الغذاء؟! أين نجد هذا الزاد؟! يأتي الجواب في الآية التي بعدها مباشرة: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، فلابد للعبد أن يطهر نفسه وقلبه، وأن يزكيها بدوام الخضوع، واستمرار السجود، ودوام الذكر، ولهج اللسان بالتحميد والتنزيه والتعظيم لله سبحانه وتعالى، وإرسال البصر للتفكر في عظمة خلق الله عز وجل، والسماع لآيات القرآن ولمواعظ الذكر، ذلك كله تطهير للنفس من أوضارها، وتزكية لها ورفع لمستوياتها.
ولذلك قال الله عز وجل: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، أي: في بيوت الله عز وجل والتي لم يعد يرتادها كل المسلمين اليوم، وإذا ارتادوها فإنهم سريعاً ما ينصرفون عنها، ويخرجون منها، فلم تعد قلوبهم معلقة ببيوت الله عز وجل حتى ينالوا وصف المحبة، وحتى ينالوا كرامة التظليل بظل عرش الله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يعود إليها).(4/15)
العلم والدعوة
العلم والدعوة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما، ولا تعارض ولا تنافر ولا تخاصم بينهما، فعلى المرء المسلم أن يجعلهما مسار تعاون وتعاضد وتناصح، وأن يكونا مكملين لبعضهما دون إفراط ولا تفريط.(5/1)
مقدمة بين يدي موضوع العلم والدعوة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على هديه واتبع سنته.
وبعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بحمد الله تعالى هو الدرس الثاني والستون وعنوانه: العلم والدعوة، وينعقد في يوم الجمعة الموافق للخامس والعشرين من شهر شوال عام (1413هـ) ولهذا الموضوع قصة أذكرها قبل ذكر نقاط هذا الموضوع، فقد دعيت مرة للمشاركة في برنامج مفتوح للتوعية الإسلامية في الجامعة، وكان المنظمون قد اختاروا اجتهاداً منهم عنواناً متعلقاً بالدعوة، وعندما حضرت إلى اللقاء كان عدد الحاضرين ربما لم يتجاوزوا عشرة أشخاص، وفي غالب الظن يتصور أن مثل هذا العدد قد يضعف العزم على الحديث أو الحماسة فيه أو الإتقان له، غير أني والحمد لله رأيت أن في هذا خيراً؛ إذ عندما يقل السامعون يتوجه الخطاب بشكل أكثر مباشرة، ويكون الاستيعاب والسؤال والجواب وما يتعلق بذلك أكثر تركيزاً وعمقاً، وعنَّ لي في ذلك المجلس أن أتحدث عن العلم من خلال الواقع الذي يعيشه جيل الصحوة على وجه الخصوص، ومن غير تحضير مسبق ولا إعداد مادة ترسلت في الحديث، الذي كنت أظنه كلمة عابرة لا تتجاوز عشر دقائق أو ربع ساعة حتى أذن العشاء ولما نفرغ من الحديث بعد، وكان حديثاً طيباً بحمد الله سبحانه وتعالى، واتفق أن دعيت في اليوم الذي يليه إلى القاعدة البحرية من خلال دعوة من الشئون الدينية فيها، فكان الموضوع لا يزال عالقاً بالذهن فأعدته عليهم فترسخ أكثر ثم دعيت في أول هذا الشهر إلى لقاء ضم عدداً من الإخوة الدارسين في مجالات العلوم والهندسة من طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان من ضمن ما ذكروا من الأسئلة والإشكالات في ذلك اللقاء ما يتعلق بالعلم والدعوة إذ هم منشغلون متفرغون لتلك العلوم التي سجلوا فيها وتخصصوا فيها من هندسة أو كيمياء أو فيزياء أو اتصالات أو غير ذلك، وعندهم شوق لطلب العلم الشرعي، وقد لا يستطيعون الجمع بينهما، ثم كان هناك نظرات يستفسرون عنها، فمن طالب علم قد بذل جهداً ووقتاً كبيراً في طلب العلم ينظر إلى من يشتغل بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظرة فيها شيء من الازدراء والاحتقار باعتبار أنه لم ينل حظه من العلم مثل ما نال، وآخر مشتغل بالدعوة بما عنده من يسير العلم ينظر إلى من أكب على حلق العلم ودروسه وشغل بحفظ المتون وغير ذلك نظرة يرى أنه قد تخلف بها عن واجب كان أولى به أن ينخرط في سلك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانت مسألة العلم والدعوة وارتباطهما مسألة مطروحة في الساحة بين الشباب، فرأيت أن أستحضر ما سلف في تلك اللقاءات والأحاديث، وأن أضم شتات ما ذكرته فيهما، ثم عدت إلى مراجع وكتب لأؤيد ما كنت قد ذكرته من ذاكرتي ومن خلال ما اجتهدت فيه؛ حتى يكون أدعى إلى التوفيق والقبول والإفادة.(5/2)
ملامح في منهجية العلم
إن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالعلم وحده.
القسم الثاني: يتعلق بارتباط العلم بالدعوة.
الحق أنني لا أريد أن أشغلكم بكثرة ما أعددت من نقول ونصوص، بل أحب أن أترسل لأخاطب إخواني بما نلامسه ونعايشه في واقعنا، من خلال هذا الموضوع على وجه الخصوص، وبقدر ما يتسع له الوقت نستشهد بشواهد وآثار فيما يتعلق بسير وتراجم لأئمة علماء السلف رضوان الله عليهم أجمعين.(5/3)
طلب العلم العيني والكفائي وضوابطهما
فيما يتعلق بالعلم أتحدث عن ملامح في منهجية العلم، وأذكر عشر نقاط: أولها: العينية والكفائية في طلب العلم.
لابد لنا أن نعرف أن قضية طلب العلم ليست قضية ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فإن بعضاً منهم قد يكون حديث عهد بالتزام وقريب عهد بإقبال على الخير، فإذا ارتاد مجالس العلم ويسمع عن طلب العلم وضرورته وأهميته وطلبة العلم والعلماء حينها يظل صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنه فيندفع من غير بينة، ومن غير معرفة للأولويات وما هو أكثر أهمية وأولى تقديماً من غيره.
إن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة كثير من علماء الأمة وأئمتها، فليست المسألة اندفاعاً عاطفياً ولا رغبة عند إنسان يحب اطلاعاً أو حفظاً أو يجيد بعض المسائل والبحث فيها، بل لابد له من مراعاة الضوابط الشرعية، ومن هنا قبل أن يقبل الطالب لابد أن يعرف ما هو الواجب العيني من طلب العلم؟ وما هو الواجب الكفائي؟ الواجب العيني: هو ما يجب على كل أحد بعينه، فهذا لا شك أنه الأول والمقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً، وأنه لابد أن يعلمه؛ لأنه لا يصح اعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك إلا به، وهو الذي لا تصح عبادته إلا به؛ لأن به ينجو من الابتداع وغير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته وتذهب صحتها وأجرها عند الله سبحانه وتعالى.
كما أن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج وطلاق، ويتعلق بمعاملاته المالية وغيرها، وألوان أخرى كثيرة.
إذاً: الواجب العيني هو المعلوم من الدين بالضرورة.
هذا الذي ينبغي ألا يتخلف عنه مسلم، وينبغي أن يكون أول ما يبدأ به على كل حال وفي كل آن.
إذاً: المسلم عندما يبلغ سن التكليف عليه أن يعرف دين الله عز وجل وأن يبدأ بهذه المعارف، ثم هناك فروض كفايات قد يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، وقد يحتاج إليها المرء في وقت دون وقت، وقد مثل لها أهل العلم بالآتي: إن كان المسلم فقيراً ليس ذا مال فإنه لا تجب عليه في هذه الحالة معرفة أحكام الزكاة، سيما على وجه التفصيل، فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم من أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل، وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، وكذلك الذي لم يتيسر له الحج قد لا يكون واجباً عليه في الحال معرفة أحكام الحج، فإذا عزم عليه وتوجه إليه لزمه أن يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها؟ وما هي سننها وآدابها؟ وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض أو يسن أو يستحب، إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه لتصح به عبادته وهكذا، فإذا أراد أن يتزوج تعلم أحكام النكاح والطلاق وما يلحق بذلك، وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة، وهي العلوم التي بها صلاح الناس في هذه الدنيا، وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك، هذه واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها، فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لابد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويتفرغون لها ويبدعون فيها ويتوسعون في معارفها ودقائقها حتى يغني هؤلاء الأمة فيما تفتقر إليه من الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو الحساب أو غير ذلك من أسباب القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة.
إذاً: لا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل أهمية قبل ما هو أعظم وأكثر أهمية.
إذاً: لابد أن نعرف أن هناك قسمين: العلوم غير الشرعية: وهي أوسع من علوم الشرع.
العلوم الشرعية وتنقسم إلى قسمين: علوم شرعية على هيئة فرض الكفاية، وعلوم شرعية على هيئة فرض العين، وبعد ذلك تأتي تقسيمات أخرى أذكر بعضاً منها: يقول ابن حجر رحمة الله عليه: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص.
ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في أعلام الموقعين تفصيلاً أوسع وهو يذكر أنواع العلوم الأساسية، يقول: النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ذكر ما ورد في الآية الجامعة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ} [البقرة:177] إلى آخر ما في هذه الآية.
النوع الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها، وعلم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.
النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فهذه محرمات وردت على لسان كل رسول لا تباح قط، ولذلك أتى فيها بـ (إنما) المفيدة للحصر.
النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيوعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه.
وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، وبالجملة فالمطلوب والواجب على العبد من العلوم والأعمال ما إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني: على غرار القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا احتاج لأمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه إلا بعلم بعض مسائله وفروعه، كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه.
وقال في آخر الأمر: ومدار هذه العلوم الشرعية على التفسير والحديث والفقه.
ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع.
قال: واختلفوا في تلخيص ذلك.
وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الاعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها.
وقد وضع بعضهم ضابطاً لما يتعلق بالفرض الكفائي، فقال: وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص.
وذكر الغزالي أيضاً مقالة ضافية في ذلك قال فيها: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل: الحساب، ولا التجربة إليه مثل: الطب، ولا السماع مثل: اللغة.
أي: العلوم التي وردت عن طريق الوحي بالرسل والأنبياء.
ثم قال: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو مباح.
فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وغير ذلك، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم.
فإذاً: لابد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً، وذلك بمعرفة الأسس اللازمة التي هي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا يعذر المرء بجهلها، والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والاعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس المرء مطالباً على سبيل التفصيل، والرد على كل فرقة، والاستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني، بل هو مخصوص بمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه، أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستفتى ويسأل في مثل هذه المسائل.
ثم على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة إن كان ذا مال وحج إن قصد إليه، فهذا لا شك أنه من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومة من الدين بالضرورة، كحرمة الخمر وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق بهما كالكذب ونحوه، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو يرى ميله إليه إلى غير ذلك من الأنواع.(5/4)
ضرورة التنوع والتوزع في العلوم الشرعية الكفائية
النقطة الثانية: هي التوزع والتنوع.
بعد أن يعرف المسلم العلم من فرض عيني وكفائي، نقول: إن في الكفائي ما يحتاج إلى تنوع وتوزع، فلو سمعت من ينتدب لعلم الحديث على سبيل المثال يقول لك: إن علم الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف هو أهم المهمات وأولى الأولويات، ويذكر لك ما هو صحيح في نفس الأمر، فإذا بكثير ممن يسمعونه يتوجهون إلى قوله، ونرى أن جلّ طلاب العلم توجهوا ليكونوا محدثين، ولم نجد بعد ذلك فقيهاً يستنبط لنا مما رواه هؤلاء الكثرة الكاثرة من الرواة.
أو قد تجد من يقول لك وهو محق في ذلك: إن علم الاعتقاد والتوحيد هو أساس كل شيء وأوله ومبدؤه، وبتوجيهه هذا يجعلك تظن أن التشريعات والتفصيلات والردود في هذا العلم أولى بك من أن تعرف علم تفسير كتاب الله عز وجل، أو فقه الأحكام الشرعية، أو صحة الأحاديث النبوية، فيختلط الأمر عليك مرة أخرى.
أقول: لابد من أن يتوسع طلبة العلم سيما في مجال التخصص، وأن يكون التوسع على العلوم الشرعية المهمة اللازمة التي أوجز ذكرها -كما أشرت- ابن القيم رحمة الله عليه، بدءاً بعلوم التوحيد والإيمان ومروراً بعلوم الفقه والسنة والتفسير وهذه الجوامع الكلية المهمة.
إذاً: نحذر نظرة التركيز التي تطغى فيها العبارات بحيث إذا مدح أي علم ما فكأنه لا أهمية ولا نفع ولا فائدة في غيره من العلوم؛ لأننا نجد أن كل صاحب تخصص حتى في غير علوم الشريعة يقول لك ذلك، فصاحب علم الرياضيات يقول لك: كل الناس يفتقرون إلى الرياضيات، ومثل ذلك الذي يبني البناء، والذي يريد أن يطبب المرضى، والذي يريد أن يطير في الجو، والذي يريد أن يغوص في البحر، والذي يريد أن يحارب في المعارك إلى آخر ذلك، وهكذا كل صاحب علم يشيد بعلمه، لذلك لا ينبغي أن تكون النظرة بهذا الشكل، بل ينبغي إعطاء كل علم أهميته، وأن يشيع بين شباب الصحوة نوع من التوزع والتنوع على فروض الكفايات، فإن التوسع والتفصيل في كثير من المسائل والعلوم ليس واجباً على العين، لكن لا شك أنه واجب على الكفاية، وأنه في حق الداعية وطالب العلم وشباب الصحوة ألزم وأوجب.
إذاً: ينبغي أن يكون هناك مثل هذا التنوع والتوزع؛ لأنه قد يقع اللوم والنقد بين أهل العلم وغيرهم، فالذين رأوا نصرة الإسلام وخدمته في الجهاد العسكري البحت نظروا إلى كل من تفرغ لطلب العلم أو سار في طريق الدعوة نظرة ازدراء واحتقار، وأنه مقصر في خدمة دين الله عز وجل، وأنه لاه عابث لا يقدم شيئاً لهذه الأمة، وقد تكون نظرة الذي يدعو أو يتعلم إلى ذلك نظرة ازدراء واحتقار وأنه ليس له جَلَدٌ في طلب العلم ولا في الدعوة، وإنما همه أن يذهب هنا وهناك مع كل صيحة جهاد.
والحق أن كلاً على خير؛ لأن التنوع والتوزع هو الذي تحتاج إليه الأمة؛ ليكون لها في كل مجالاتها جهاد علمي وجهاد دعوي وجهاد تربوي وجهاد عسكري وجهاد فكري، فإن كل ذلك مندرج في أسباب القوة التي تتقوى به الأمة في داخل صفوفها، وتتقوى به كذلك في مواجهة أعدائها، ومن جميل ما قاله ابن القيم رحمة الله عليه: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، فالعالم وطالب العلم كذلك يقومان بدور الجندي المجاهد وقائد الجيش، فشيخ العلم كقائد الجيش، وطالب العلم كجندي الجيش، كلاهما يجاهد في نصرة دين الله عز وجل.
وتأمل بقية قول ابن القيم فإنك ناظر في ذلك فقهاً دقيقاً ومعرفة رشيدة، وإحاطة بمقاصد هذا الدين فريدة وعجيبة، يقول: ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان وهو الجهاد العسكري، وهذا المشارك فيه كثير.
والثاني: جهاد بالحجة والبيان وهذا هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:51 - 52] فهذا جهاد بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.
ثم قال: والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله.
فإذاً: لابد أن نعرف أن كل جانب من الجوانب هو ثغرة من الثغرات يجب سدها، وأن كل ميدان من الميادين هو افتياد يجب أن ينتدب له من أبناء الأمة وشبابها الصالحين من يبدع فيه ويتفرغ له، ولا يعيبن أحد على أحد صنيعه إلا إن كان يرشده إلى الكمال أو التتميم، فإن الاستغناء بأمر دون الآخر أو النظر إلى أمر على أنه يشمل كل شيء وغيره يسقط كل شيء، فهذه النظرة خاطئة فيها مبالغات ومجازفات، فالذي يجاهد ينظر إلى غيره على أنه لا يصنع شيئاً، والذي يطلب العلم يرى أن غيره يلعب ويلهو، هذا كله قصور نظر وقلة فقه وعدم بصر وإدراك بحقيقة هذا الدين وشموله وكماله.(5/5)
ضرورة القدرة والتأهل وأهميتهما لطالب العلم الشرعي
النقطة الثالثة: القدرة والتأهل، بعض الناس من خلال ما يتأثرون به من الأقوال وشحذ الهمم والعواطف الجياشة والمجامع الحاشدة في المحاضرات أو الدروس يريد أن يكون طالب علم، ويظن أن طلب العلم من أيسر المسائل، وانغرس في أذهان بعض الناس أو كثير منهم أنه إذا لم يحصل الطالب على مجموع عال في الثانوية فعليه أن يذهب إلى كلية الشريعة؛ لأنها الكلية التي يمكن أن يدخل فيها ويدرس فيها ويتخرج منها دون عناء ودون حاجة إلى ذكاء وفطنة أو أي ملكة من الملكات، وهذا لا شك أنه من أقبح الأفكار وأسوأها؛ إذ كان عباقرة الأمة في تاريخها الطويل وأفذاذها من المتميزين بالذكاء الخارق والفطنة العجيبة، كانوا هم علماء الشرع، فمثلاً: تأمل حفظ البخاري واستنباط أبي حنيفة وأدب مالك، وعقولاً أشرقت بأمور ومزايا كثيرة كلها كانت في هذا الجانب.
وقد كان سلف الأمة أصل التوجه عندهم هو أن يدفع بالشباب إلى طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين؛ لأنه هو الذي فيه الخيرية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهو الذي دعا به النبي عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس حيث قال: (اللهم علمه الكتاب) فإذا عجز عن ذلك دفعوا به إلى أمور الصناعات فليكن بناءً أو ليكن كذا أو ليكن كذا، لكن انعكست الأمور اليوم وظن كثير من الناس أن أي إنسان ليس عنده أدنى قدرة ولا أية مواصفات تأهيلية يمكن أن يكون طالب علم، بمجرد أن يحمل كتاباً أو يحمل قلماً أو يكون مالكاً لدفتر جيد عديد الصفحات إلى غير ذلك من الأمور الشكلية.
أقول: لابد أن نعرف أن لطلب العلم تأهلاً وأن له نجابة لازمة وذكاء واستنباطاً وعقلاً مفكراً مدبراً يفتقر إليه؛ لأن طلب العلم ليس مثل قضية شرب الماء، أو مثل أن يذهب لأخذ شيء وشرائه، لا، طلب العلم شيء آخر، ولذلك سيأتي في دقيق المواصفات ما يدل على هذا، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلمسون مخايل الذكاء وبوادر الفطنة عند صغار الشباب ويتفرسون فيهم النجابة فيدفعونهم إلى ما يصلح لهم من علوم الشرع فينبغون ويبدعون فيها، أما النظر إلى أن التأهل أمر عادي فهذه قضية خطيرة جداً، ولذلك لما رخصت هذه القيمة للعلم الشرعي وشاعت هذه النظرة بين الناس رأينا كل الناس طلبة علم، كل من حضر محاضرة أو خطبة أو اقتنى كتاباً واشتراه وحمله في يده أصبح طالب علم، ويمكن أن يكون في يوم من الأيام وربما ليس بعيداً عالماً من العلماء، هذا التصور الذهني البارد البليد ليس مقبولاً ولا صحيحاً في الوقت نفسه، ولذلك لا بد أن يعرف أنه ليس كل إنسان يصلح لكل شيء ولا بد أن يكتشف الإنسان أيضاً ميله وقدرته، فإن من الناس من يميل إلى الفقه والاستنباط وإعمال العقل، وعنده بذلك نظر وقاد وفقه عجيب واستنباط دقيق، حسبك في ذلك ما يذكر من فقه الإمام البخاري في تراجمه رحمة الله عليه، حارت العقول فيها، وأجهد العلماء أنفسهم حتى يصلوا إلى بعض ما كان البخاري يهدف إليه وما استنبطه رحمة الله عليه، وصنفت كتب ومؤلفات ليس في شرح أحاديث صحيح البخاري ولا في أسانيدها ولا غير ذلك، بل على التراجم التي هي عناوين أبواب الصحيح فحسب، فليست القضية قضية عارضة سهلة، وليس أمر التأهل عيباً، كون المرء لا يصلح لعلم الفقه، قد يكون الرجل حافظاً فيصلح أن يكون راويةً، ولا بد أن نفرق، قال الإمام مالك: أدركت سبعين ممن يستسقى بهم كلهم لا يؤخذ منهم الحديث؛ يقال: ليسوا من أهله، وليسوا حفاظاً ما انتدبوا لهذا العلم.
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده فقه ودقة استنباط عجيبة؛ ولذلك انظروا إلى ما نوع به النبي عليه الصلاة والسلام أوصاف أصحابه فإذا أبي أقرؤهم، وإذا معاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وإذا زيد أفرضهم، وإذا علي أقضاهم إلى آخر ما ذكر في شأن الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا ابن عباس أعلمهم بكتاب الله، هذا التميز لا يعني أن حظهم من العلوم الأخرى كان صفراً، لا، لكن كان هناك تميز وتفرد من زيد في الفرائض؛ لأنه نقل أكثر علم الفرائض ومسائله عنه عليه الصلاة والسلام، وكان لـ ابن عباس تميز في التفسير وملئت كتب التفسير بمروياته ومقالاته، وكان معاذ رضي الله عنه عالماً بالحلال والحرام فكان النقل عنه في هذا كثيراً، وأبي كان قارئاً واتصلت الأسانيد إليه أكثر من غيره.
إذاً: لا بد أن نعرف التأهل والتمكن، وأن يكتشف الشاب ميله ورغبة نفسه وما يرى أنه يصلح له؛ لأن المسألة ليست أمراً عابراً، والذي يدل على ذلك اختلاف وصايا النبي عليه الصلاة والسلام، واختلاف إجاباته للسائلين، واختلاف توجيهه لبعض الصحابة كل بحسب ما يرى له، انظر إلى أبي ذر رضي الله عنه يقول عنه عليه الصلاة والسلام: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلت السماء أصدق لهجة من أبي ذر) ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحذره من الإمارة ويقول له: (يا أبا ذر! إنها الإمارة وإنها يوم القيامة خزي وندامة) وأبو ذر الصحابي رضي الله عنه الإيمان في قلبه كأمثال الجبال الشامخة الراسية، فهو عابد زاهد تفرد بين كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن، لكنه مع ذلك ليست له مؤهلات الإمارة والسياسة وتقبل الناس والتعامل معهم؛ لأنه كان صارماً كالسيف رحمة الله عليه ورضي الله عنه.
إذاً: ليس هذا عيباً فيه وإنما هذا اكتشاف لما يحسنه، وإبعاد له لما لا يطيقه ولا يتقنه، فلا بد أن نفطن إلى هذا وأن نسلم به، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام اختلفت وصاياه فجاءه من يستوصيه فيقول له: (لا تغضب) ويأتيه ثان يستوصيه فيقول له: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ويأتيه ثالث يستوصيه فيقول له: (أمسك عليك لسانك) فهو عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن كلاً منهم يحتاج إلى شيء معين، وأن كلاً منهم له قدرته التي يتميز بها، وأن كلاً منهم له حاجة ماسة تخصه، وهكذا كان توجيه النبي عليه الصلاة والسلام في كثير مما سئل عنه، ففي حديث: (أي الأعمال أفضل؟) فكان عليه الصلاة والسلام يغير الجواب بحسب حال السائل.
وذكر ابن حجر مقالة جميلة فريدة رائعة في قضية طلب العلم، وأنه إذا لم يكن عندك مكنة ولا قدرة ولا تأهل لطلب العلم، فهل يعيبك ألا تكون من طلاب العلم، أعني: فيما وراء فرض العين، وفيما وراء العلم الذي يكون عندك فيه حظ لا بأس به؟ ليس في ذلك عيب.
يقول ابن حجر في مسألة التفاضل بين العلم ونوافل التطوعات: إن وجد في نفسه مكنة لطلب العلم من سعة حفظ وتوقد ذهن ودقة استنباط كان العلم في حقه أفضل من نوافل العبادات، وإن لم يجد ذلك كانت نوافل العبادات أفضل في حقه من العلم.
لماذا؟ لأنه سيمضي إلى طلب العلم ويمضي وقته فيه ولا يفهم ولا يحفظ ولا يتعلم، فلا صار عالماً ولا صار عابداً، فلا بد أن يعرف المرء هذه الحقيقة، ولو أن كل الناس كانت لهم مؤهلات ومكنة لكانوا بعد حين من الزمن علماء، لا يوجد فيهم عامي يسأل عالماً، ولا طالب يتتلمذ على شيخ.
فإذاً: لابد أن نعرف أن القدرة والتأهل أمر مهم جداً.(5/6)
أهمية الحفظ والضبط والفهم لطالب العلم
النقطة الرابعة: أريد أن أشير إلى ظواهر أراها متفشية بين كثير من الشباب، يريدون طلب العلم على أسهل ما يكون، يريد الواحد من هؤلاء أن يكون مضطجعاً متكئاً في جو مكيف، وربما يروح عليه من يروح ويريد بعد ذلك ألا يقرأ وألا يحفظ وألا يراجع، وأن يبقى مع ذلك طالب علم، وربما يفتي في المسائل ويجيب كل سائل ويرتقي المنابر، وهذا لا شك أنه من أقبح الأمور.
ومن ضمن هذه الأمور: الضبط والحفظ، فطلب العلم بلا حفظ كالذي يكتب فوق الماء، فلو سطّر ما سطّر فإنه فوق الماء لا يبقى له أثر، ولذلك كانت الطريقة التعليمية الأولى تعتمد على الحفظ والفهم، ولم يقل أحد: إن هناك حفظاً بلا فهم، ونحن نريد أن نكون طلاب علم من غير حفظ، هذه في تصوري من خلال ما اطلعت عليه من التراجم وأحوال علماء الأمة لا يمكن أن يكون هناك طلب علم وتحصيل علم بلا حفظ مطلقاً، ولذلك انظر إلى ما كان عليه سلف الأمة وهذا يتعلق بالتدرج الذي سيأتي معنا.
أولاً: يبدءون بتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم صغاراً، وعد إلى من شئت من العلماء في تراجمهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن سبع وهو ابن ست وهو ابن تسع وهو ابن عشر، وأقلهم من كان يتجاوز هذه السن أو قريباً منها ولم يحفظ القرآن، ثم بعد ذلك ينشط الطالب لحفظ المتون والكتب والأحاديث والمسائل.
إذاً: لا يمكن أن يستحضر المرء إلا بالحفظ، وكما قيل: علم لا يعبر بك الوادي لا يعمر بك النادي.
العلم الذي في رأسك وفي صدرك، تسافر وتقطع البحار وتصعد الجبال وعلمك معك، أما إذا كان علمك في الكراريس والكتب فلابد أن تجهز الصناديق وتدفع نقود الشحن، حتى إذا أردت علمك لابد أن ترجع إلى كتبك.
وهذه قصة تذكر للغزالي: أنه سئل فاحتاج إلى أن يراجع كتابه فقال: إذا كان الأمر كذلك فلا حصلت علماً، فاجتهد بعد ذلك حتى صار آية في الحفظ.
المهم أن الحفظ لابد منه، ولابد أن يعلم الشباب أن طلب العلم ليس بمجرد أن يسمع الشخص محاضرة؛ لأن بعضهم يأتي إلى درس علمي في فقه أو حديث أو تفسير في كتاب معين يأتي وليس معه ورقة ولا قلم يقيد به ولا كتاب ينظر فيه، ويلتمس أقرب عمود يتكأ عليه، ويحدق ببصره يميناً وشمالاً، ويعد اللمبات التي في المسجد والأبواب وكذا.
ويقول بعد ذلك: إنه طالب علم ويصر على هذا، وقد يكون متكبراً على غيره متعالياً عليهم، فهذا لابد أن نعرف أنه يتميز طالب علم عن غيره.
إن أول أولويات هذا التميز هو الحفظ، وقد كان حفظ السابقين عجيباً، ولو استطردنا في ذكر ذلك من تراجم العلماء لانقضى الوقت قبل أن نذكر جزءاً مما ذكر عنهم، حسبك بحفظ الشافعي وما يروى عنه، حتى المتنبي كان يشتغل بالوراقة، فإذا نسخ كتاباً حفظه.
كان الوراقون عندهم كتباً قد تصل إلى عشرة كتب أو عشرين كتاباً؛ لأنه لم تكن هناك مطابع، فيأتيهم من يرغب أن ينسخ له الوراق ما عنده من الكتب، فإذا نسخ ما عند هذا الوراق من الكتب حفظها وانتقل إلى وراق آخر؛ ليكتب كتباً أخرى فيحفظها.
وقيل للأصمعي: كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.
يعني: راجعت.
وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: (أتينا أم الدرداء تحدثنا فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء؟ فقالت: ما أمللتموني لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئاً أشفى لنفسي من مذاكرة العلم) أي: مراجعة لهذا الحفظ.
وقال ابن أبي ليلى: إن إحياء الحديث مذاكرته، فقال عبد الله بن شداد: يرحمك الله! كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات.
وحديث: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) يقول ابن عبد البر: في هذا الحديث دليل على أن من لم يتعهد علمه ذهب عنه.
وذلك لأن العلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إذا لم يتعاهد فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟! فإذاً: لابد من هذا المصير لهذا العلم.(5/7)
أهمية الفهم والاستنباط لطالب العلم
النقطة الخامسة: الفهم والاستنباط، فليس الأمر حفظاً، فإن بعض الناس قد يكب على كتابه أو على نص يحفظه ويدندن به، فإذا سئل عن شيء لم يكن إلا نسخة جديدة من ذلك الكتاب، أو شريطاً بدلاً من الكتاب.
فلابد أن يكون لطالب العلم فهم يستنبط به، وهناك مسائل كثيرة ذكرت لأهل العلم تبين دقة فهمهم وعمق استنباطهم لكثير من المسائل والمعضلات، وقد كان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر استشار واستفتى علياً رضي الله عنه، ومن ذلك المسألة المشهورة التي ذكر فيها: (أن رجلاً جاء بامرأته وقد ولدت لستة أشهر يتهمها، فقضى علي أن الولد منه، واستشهد بأن الرضاعة حولين كاملين -أي: سنتين- وقال: إن حمله وفصاله ثلاثون شهراً، فيمكن بعد الفصل أن يكون الحمل ستة أشهر).
وهناك من المسائل الكثيرة التي فيها بيان لفقه العلماء ودقة استنباطهم، حتى قال القائل في شأن أبي حنيفة رحمة الله عليه: لو شاء أن يجعل لك هذه الإسطوانة ذهباً لجعلها.
أي: من قوة حجته وقدرته على فهم النصوص وبيان معانيها ودلائلها.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من يرد به الله خيراً يفقهه في الدين) والفقه: هو الفهم والاستنباط.
وقال سبحانه: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] أي: لا تفهمون تسبيحهم، ولذلك من وراء الفقه التفقه.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فإذاً: لابد أن نعنى بهذا الجانب وهذا متعلق بالملكات والقدرة.(5/8)
أهمية التأسيس والتدرج لطالب العلم
النقطة السادسة: التأسيس والتدرج، وهذه مسألة ظاهرة عند كثير من الشباب، ولعل لها سبباً يختص بواقعنا أحياناً، فإن كثيرين منا مع الدراسات المنهجية والمدارس التي تستنزف من عمر المرء اثني عشر عاماً يفاجأ الشاب عندما يلتزم بأنه في سن لا بأس بها وليس عنده من العلم شيء؛ لأنه ربما لا يحسن تلاوة القرآن، ولا يحفظ إلا قصار السور، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولم يقرأ شيئاً من الفقه، ولم يعرف شيئاً من التفسير إلى غير ذلك، فإذا به يندفع إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً فتراه يريد أن يقفز قفزاً عالياً، وبقدر ما تكون قفزته عالية بقدر ما تكون نكسته شديدة وخطيرة، فلابد أن يرقى السلم درجة درجة، إذا أراد أن يقفز فليقفز درجتين لا بأس إذا كان عنده بعض القدرة، أما أن يقفز من أول الدرج إلى آخره لا شك أنه سيسقط سقطة تبقى أثر هذه القفزة طيلة حياته.
يقع كثير من الناس في أخطاء، فإذا أراد أن يتعلم مثلاً في الحديث قال: أعظم كتاب في الحديث (فتح الباري) لابد أن أبدأ بفتح الباري مباشرة، نقول هناك: (الأربعين النووية) وهناك (بلوغ المرام) وهناك (رياض الصالحين) وهناك (مختصر البخاري) و (مختصر مسلم) ثم تدرج في ذلك.
وكذلك إذا جاء إلى الفقه قال: (المغني) لابد أن أغتني من المغني، فذهب ليدرس المغني، فإذا به يقرأ في المسألة الواحدة ليس أربعة أقوال أو أربعة مذاهب بل أكثر من ذلك، ويقرأ دليل هؤلاء ودليل هؤلاء، ثم يقول ابن قدامة: وحجتنا في ذلك أو ودليلنا في ذلك، ويخرج بعد هذه المسألة وليس عنده إلا -كما يقولون- من كل بحر قطرة، فإذا سئل ما استطاع أن يجيب؛ لأنه لم يؤسس له علماً، فإن الأقوال المختلفة المتضاربة أو النقول العديدة والفروع الكثيرة تشوش الفكر؛ ولأنه خالي الذهن، إذاً: لابد أن يكون هناك تدرج في الطلب؛ لأنك إذا جئت الآن تريد أن أعلمك نظريات في الرياضيات كنظريات فيثاغورث أو غيرها، وأنت لا تعرف الأعداد ولا تعرف جدول الضرب، قل لي بربك: كيف تفهم؟! فإذاً لابد أن تؤسس، وكذلك لو جئت لك بكتاب حروفه كبيرة ومشكل بعلامات ملونة، لكنك لم تعرف الأحرف من قبل لا يمكن أن تقرأ، وعلى هذا كيف تدخل في فروع الفقه واختلافات الفقهاء وأنت لم تعرف أصل المسألة ولا قولاً واحداً فيها من قبل؟! وهكذا إذا جاء إلى التفسير قال: أبدأ بتفسير ابن جرير، ويذهب حدثنا، حدثنا، حدثنا، ويأتي في الآية الواحدة أو الكلمة الواحدة ربما بعشرة آثار أو أكثر من ذلك.
فإذا رجع للناس وسئل قال: يا أخي! في كل مسألة أقوال كثيرة واختلافات عديدة، وهي قد لا تكون اختلافات كما سبق أن أشرت في بعض الأمثلة، مثل قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
قالوا: السابق بالخيرات الصلاة في أول وقتها، والمقتصد الصلاة في وقتها، والظالم لنفسه الصلاة في آخر وقتها، أو الزكاة التي يؤديها وما معها من الصدقات، أو الزكاة فقط إلى آخر ذلك من الأنواع.
المهم أن التأسيس مهم جداً، أن يبدأ بأساس يكون كالقاعدة يستطيع أن يبني عليه، وأن يكون بعد ذلك التدرج، والأقوال في هذا كثيرة جداً، ولكني أرى كثيراً من الشباب يندفعون إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً بغير تقدير لقضية العلم يجعلهم هذا الاندفاع يقفزون قفزاً لا يفيدهم علماً ولا ينتج لهم أدباً.
كذلك إذا جاء مثلاً في أمر العقيدة وأهمية العقيدة وكذا، قال: أقرأ الطحاوية أو ما هو أوسع منها، وإذا في الطحاوية من الردود على الفرق ما لم يعرفه ولم يسمع بالمصطلحات في هذا العلم، ويمر به مثلاً قول المعتزلة، من هم المعتزلة؟ ما سمع بهم من قبل أو يقال له: الكلابية أو كذا أو كذا، فتراه يخلط خلطاً عجيباً، وتمر به مسائل دقيقة تشوش فكره، ويضطرب لها عقله دون أن يحصل علماً.
إذاً: لابد من التدرج، ولذلك ذكر صاحب كتاب (تذكرة السامع): أن من لم يتقن الأصول حرم الوصول، لابد من أصول وأسس وإلا لن تصل إلى علم، وقال القائل أيضاً: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وكذلك قيل: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، يعني: يضل الفهم.
هنا مثال: لو أن عندك ورقة بيضاء صافية وكنت تكتب فيها جملة ثم تكملها في السطر نفسه وبعده الذي بعده، فإنك تخلص في آخر اليوم أو آخر الأسبوع بكلام منتظم قد يكون متفرقاً في أبواب، لكن إن كنت تسجل في هذه الورقة خبراً سمعته وحدثاً رأيته، وهذا بخط مائل وهذا في الوسط، وهذا بلون وهذا باختصار وهذا بتوسع، بقيت عندك الورقة مشكلة لا تستطيع أن تخرج منها فائدة واحدة، ولذلك لابد لكل فن من أصول تحفظ كما في مسألة الحفظ، وأبواب ذلك كثيرة.
إذاً: قبل أن يبدأ الطالب بالفقه المقارن لابد أن يأخذ فقهاً مختصراً في مذهب من المذاهب مجرداً عن الأدلة، ثم إذا فقه المسائل زيد له بعد ذلك في كتاب آخر أكثر توسعاً وفيه الأدلة، ثم بعد ذلك يكون في كتاب ثالث أكثر توسعاً وفيه بعض الآراء الأخرى وأدلتها، ثم يتوسع بعد ذلك في مقارنة المذاهب، ما الذي يحصل هنا؟ تمر به المسألة أول مرة ثم يعيدها في الكتاب الثاني ثم تمر عليه بتوسع في الثالث، فإذا بها ترسخ في ذهنه، أما عندما يأتي إليها وهي بأقوالها المتعددة المتشعبة لم يبق عنده أصلها، وإنما بقي عنده نتف منها وأقوال متفرقة عنها.
ولذلك على سبيل المثال: من أراد أن يدرس الفقه الحنبلي يبدأ بزاد المستقنع، ثم المقنع من بعده للخلاف المذهبي، ثم المغني للخلاف العالي، وكان لا يسمح للطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية وهكذا.
إذاً: لابد من المختصرات قبل المطولات، وعندي نقول كثيرة عن تدرجات كتب العلوم ليس هذا موضعها، ربما نذكر بعضاً منها في الجولات الآتية إذا أكملنا جولات في علوم القرآن وكتبه.
وذكر أيضاً ابن قدامة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية حيث قال: الأصول: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معاني تنبهت لها العقول، والمقدمات: هي علوم الآلة التي تجري مجرى الآلات كعلم النحو واللغة أيضاً لابد أن يفرق بين هذه العلوم، والمتممات: كعلم القراءة ومخارج الحروف وما يلحق بذلك.
لابد من هذا التدرج؛ لأنه مهم، وهذا التدرج على أنواع، منه: أن يبدأ بالقليل ثم بعد ذلك يتوسع فيه، وأن يبدأ باليسير ثم بعد ذلك بالصعب العسير، أما إذا بدأ بالعسير إما أن تنقبض نفسه ويرجع عن طلب العلم، وإما أن يكابر فيظن أنه فاهم وليس بفاهم، ولذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري فيه مسائل نفيسة جداً من ذلك في إحدى التراجم قال: الرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وكباره: ما دق منها، أما غير الرباني فهو يعلمهم جزئياته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده هذا الذي يخلط.
ولـ ابن خلدون كلمة جامعة أذكر جزءاً منها قال: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريب شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي لآخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها ملكة جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا معلقاً إلا وضحه، وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد، أما غير ذلك فهو تشويش وليس تعليماً، وهذا أقوله عن التعليم المدرسي الذي عندنا، أرى أن التعليم السابق هو الناجح الذي يقتصر على علم أو علمين ثم بعد إمكانهما وإحكامهما ينتقل إلى غيرهما، وهذا فرق ما بين الطالب في المدرسة والجامعة، أن طالب الجامعة مواده أقل، فبالتالي عنده شيء من التركيز في التخصص، أما طالب المرحلة الأولى في الثانوي على وجه الخصوص، فهناك إحدى وعشرون مادة من كيمياء إلى فيزياء إلى قواعد إلى جغرافيا إلى تاريخ إلى بلاغة إلى نحو، يأخذ من كل بحر قطرة ويخرج من كل شيء بلا قطرة، وهذه من المشكلات، فتجد الطالب يتخرج من الثانوية وهو لا يجيد النحو أو اللغة، ولا يعرف الكتابة ولا الإنشاء، ولا يعرف الحساب والرياضيات، ولا يتقن الفقه أو التفسير أو الحديث أو التوحيد إلى آخر هذه الأمور، وهذا باب واسع فيه نقول كثيرة جداً.(5/9)
أهمية الجدية والهمة لطالب العلم
النقطة السابعة: الجدية والهمة، لابد أن يكون عند طالب العلم جدية وهمة عالية، وهناك كثير من النماذج والتراجم، منها: ما نقل أن ابن حجر رحمة الله عليه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات، وصحيح مسلم في أربعة مجالس في نحو يومين ومن اليوم الثالث إلى الظهر، وانتهى من ذلك في يوم عرفة في يوم الجمعة عام (813هـ).
والفيروزآبادي قرأ في دمشق صحيح مسلم على شيخه قراءة ضبط في ثلاثة أيام.
وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، والإمام النووي يذكر عن نفسه أنه كان له في اليوم الواحد اثنا عشر درساً في اثني عشر علماً، ليس هذا ميسوراً لكل أحد، فالأصل ألا تختلط في العلوم، والأولى أن تأخذ علماً واحداً أولاً فإذا مكنته أخذت في الذي بعده، لكن هناك من عنده همة تبلغ به ذلك، وكما يقال: العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك؟! وانظر إلى الهمة عند كثير من طلبة العلم اليوم، إذا كان الدرس بعد الفجر قال: هذا درس صعب ولا يمكن المواظبة عليه، ولماذا لا ننقله إلى وقت آخر؟! وإذا كان الدرس يمتد إلى أكثر من ساعة، قال: لابد أن نأخذ الحكمة والسنة في عدم إملال الناس وكذا وكذا، وإذا كان الدرس في كتاب فيه بعض الدقة والصعوبة، قال: لماذا لا نأخذ كتاباً أيسر منه؟! وهكذا.
هذا كله دليل على ضعف الهمة، أما قوة الهمة فينبغي أن تكون على ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم، حتى قال بعضهم عندما كان يأخذ علم القراءات: كان الناس يسبقونني إلى شيخ القراءات في دمشق، فعزمت على أن أكون سابقاً، فاستيقظت قبل الفجر الأول ومضيت إلى المسجد؛ ليكون أول الناس، قال: فجئت وإذا أنا الثلاثون، قبله تسعة وعشرون قد بكروا لذلك، وكان من دأب علماء الأمة وطلبة العلم من قبل أن تبدأ دروسهم قبل الفجر، ثم بعد ذلك يصلون ما تيسر أو يوترون ويصلون الفجر وتبدأ دروس أُخر.
وهذا الإمام الشوكاني، فقد ذكر أنه كان يدرس في كل يوم ثلاثة عشر درساً في أنواع مختلفة من العلوم.
إذاً: لابد أن نعرف أن الهمة في طلب العلم مطلوبة؛ لأن طلب العلم بلا همة لا يمكن أن يكون، والأمثلة في ذلك كثيرة.
وهناك أمثلة معاصرة على علو الهمة حتى لا يقال: إن هناك ظروفاً كانت تناسب وتلائم أولئك، لكن من كان طالباً للمعالي فإنه لابد أن يصل إليها أو إلى بعض منها، ومن هذه الأمثلة: أعرف أحد الإخوة الذين يسر الله لهم الهداية عندما انقدح في قلبه حب طلب العلم وكان بصيراً وجاداً، تفرغ لحفظ كتاب الله عز وجل فأتمه في أقل من عام، ثم مضت به همته أعلى من ذلك فجوده وأخذ الإجازة فيه، ثم واصل أكثر من ذلك فإذا به يقرأ بالقراءات العشر ويحفظ المتون اللازمة لها، ثم مضى إلى أكثر من ذلك فانتسب إلى كلية من كليات الشريعة، ومضى إلى أكثر من ذلك وهو في دراسة غير الدراسة الشرعية فتخرج، ثم مضى إلى الدراسات العليا وانتهى من مرحلتها الأولى، وهو في آخر المراحل الدراسية ولا يزال مرتبطاً بعلمه الأول وعمله السابق، ولكن جمع بين جنبيه همة عالية صارمة.
قال كثير من السابقين مستشهدين لهذا بقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]: أي: بهمة عالية، أما بترخص وضعف فلا يكون ذلك، ولذلك قيل: يحتاج في العلم والتفقه إلى جد ثلاثة: المتعلم والأستاذ والأب إن كان حياً حتى يحرض ابنه على ذلك.
يقول الشاعر: تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون وليس اكتساب المال دون مشقة تحملها فالعلم كيف يكون إذا كان طلب المال وطلب الدنيا يحتاج إلى جهد فكيف بطلب العلم؟! ويقول الشاعر: بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلى سهر الليالي تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي علو القدر بالهمم العوالي وعز المرء في سهر الليالي تركت النوم رب في الليالي لأجل رضاك يا مولى الموالي ومن رام العلى من غير كد أضاع العمر في طلب المحال فوفقني إلى تحصيل علم وبلغني إلى أقصى المعالي(5/10)
أهمية الاجتهاد والتورع لطالب العلم
النقطة الثامنة: الاجتهاد والتورع، إذا أردت أن تقول قولاً أو تبحث أمراً أو تفتي في مسألة فلا يكونن ديدنك أن تنظر إلى عناوين هذه المسألة في بعض الكتب، أو تسمع إلى قول مفرط ومتساهل، ثم تظن أنك قد جمعت القول فيها وقتلتها بحثاً، وأنك قد جئت فيها بالقول الفصل الذي لا تقبل فيه منازعة؛ لأن الأصل في طالب العلم إذا سئل أو أراد أن يبحث شيئاً أن يجد ويجتهد ويرجع إلى المراجع، وأن يبحث في الكتب ويسأل أهل العلم، وبعد هذا كله وقبله أن يستعين بالله سبحانه وتعالى حتى يفتح له، وبعد كل هذا يقول: هذا مبلغ علمي، ويكون متورعاً غير متكبر، واستمع إلى ما ذكره البزار في الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية: يقول ابن تيمية عن نفسه: إن كنت لأقرأ في الآية مائة تفسير، ثم أخرج إلى بعض المساجد الخالية إلى أطراف دمشق فأمرغ وجهي في التراب وأقول: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، اللهم يا مفهم سليمان فهمني.
إذاً: ليست المسألة أن تحفظ أو تأخذ ما تيسر وتفتي دون أن تجهد نفسك وتبذل وقتك وتعمل فهمك، كان السابقون إذا قالوا قولاً في مسألة، فإنهم لا يقولونه إلا بعد استفراغ للجهد والوقت بشكل كبير، ثم بعد ذلك يقول: هذا مبلغ علمي، أو أحسبه كذلك، أو أرجو أن يكون كذلك، ولا يصادر قول غيره كما رأيت في مطوية صغيرة اطلعت عليها، فيها وصف صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول فيها كاتبها مثلاً في بعض المسائل: والنزول من الركوع إلى السجود على اليدين وسواه لا يصح، هذا غير صحيح، يا أخي! ما هذه الجرأة كأنك قد أحطت بقول السابقين واللاحقين، وعرفت الأدلة كلها واستنبطت المعاني كلها، ثم جزمت وخطّأت من سلف ومن سيأتي، هذا لا شك أنه مناقض لطلب العلم سيما فيما يحتاج إليه الشباب في أمر الدعوة.
كذلك على طالب العلم أن يهتم بجانب الإخلاص لله عز وجل والخشية له سبحانه وتعالى؛ فإن العلم بلا خشية لا فائدة منه، كذلك يجب عليه العمل بما يعلم؛ فإن العلم بلا عمل لا فائدة منه.
نادى العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل كذلك على طالب العلم أن يتحلى بأمور كثيرة منها: عدم التكبر وازدراء الآخرين، وهذه للأسف ذميمة أرى لها انتشاراً عند بعض الشباب، ينبغي أن يحذروا منها وأن يخشوا على أنفسهم من ضررها؛ فإنها حرمان للعلم وبعد من التوفيق وذهاب للمنزلة والقبول عند الناس.
ومن حلية طالب العلم حسن أدبه مع غيره من أهل العلم، سيما عند المخالفة فلابد له من مراعاة أدب الاختلاف، ومن ذلك موقفه من خطأ غيره كما قال بعض أهل العلم: إذا بصرت بوهم لعالم فلا تفرح به للحط منه ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام، لاسيما المكثرين منهم، وما يشغب بذكر المخالفات ويفرح بها للتنقص إلا متعالم يريد أن يطب زكاماً فيحدث به جذاماً، وهذا لا شك أنه لا يليق بطالب علم ولا يحسن به.
وهناك أيضاً أمور كثيرة جداً أذكر منها مقالات لبعض أهل العلم قال بعضهم: العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع؛ لأنه عرف حقيقة العلم، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ليس بعالم؛ لأن العلم بحر واسع.
فلذلك لا تكن من أهل الشبر الأول الذي يدخل من الباب فيفرح بما يرى ويزدهي ويتكبر ويتعمم، وكما قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا فإذا سدتم قبل أن تفقهوا فاتكم خير كثير، ولذلك لابد من الحذر من التصدر قبل التأهل، وكذلك لابد من مراعاة كل ما يتعلق بذلك الأدب، ومنه أمانة النقل ونسبة الأقوال إلى قائليها.(5/11)
أهمية المواصلة والاستمرار لطالب العلم
النقطة التاسعة: المواصلة والاستمرار، فإن الذي يظن أنه بعد جولة أو جولتين أو بعد كتاب أو كتابين أو شهر أو شهرين أو عام أو عامين أنه قد أتى على العلم كله أوله وآخره وفرغ منه، فإنه لم يفقه العلم ولم يعرف ما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) والعالم ما يزال يغترف من العلم، فكلما اغترف جديداً علم أنه بافتقار شديد، ولذلك هناك ظاهرة موجودة وهي عدم المواصلة في طلب العلم، يبدأ الدرس في كتاب الفقه أو الحديث أو غيره بخمسين أو ستين طالباً ثم لا يلبث أن ينتهي بخمسة أو ستة طلاب، وهذا يدل على أنه ليس هناك جلد ولا شغف، وهذا غالباً ما يكون سببه عدة أمور، منها: أمور إيمانية من عدم الإخلاص وعدم القصد لله عز وجل، ومنها كذلك: أمور علمية فهو لم يفقه العلم ولم يفقه أسبابه وطرائقه وتأهله، ومنها كذلك: عدم الإدراك للثمرة المرجوة من العلم، فإنه يكتفي بحضور الدرس؛ ليقول: حضرت الدرس الفلاني، أو يقرأ في الكتاب مرة واحدة على شيخ؛ ليقول: إنه من تلاميذ هذا الشيخ، بل ربما قد يتصل بالهاتف بالشيخ الفلاني ويسأله سؤالاً ثم يقول: أنا من تلاميذ ذلك الشيخ، أو يقول: قال شيخنا فلان.
سبحان الله! عندما تقرأ عن أهل العلم وملازمتهم تجد أمراً عجيباً، هذا ابن كثير رحمة الله عليه يلازم أبا الحجاج المزي ملازمة طويلة حتى تزوج ابنته، وبذلك يصبح بعد الزواج من أهل الدار وستكون الملازمة طويلة، وبعضهم لازموا شيوخهم لسنوات طوال، وأخذوا العلم وعصارته وخلاصته بالمجالسة والمواصلة، وكان بعضهم يحمل أوراقه وأدواته في كل وقت، فإذا تكلم الشيخ في سفر أو حضر دوّن عنه، وكتب ما يرى من الأحوال وما يسمع من الأقوال، أما هذا الانقطاع السريع والنفس الضيق لا شك أنه من الأمور التي ينبغي أن نتنبه لها.(5/12)
أهمية الأخذ والتلقي لطالب العلم
النقطة العاشرة: الأخذ والتلقي، فلا يكفي خاصة عند الابتداء أن يرجع طالب العلم إلى الكتاب، وهذه مشكلة كبيرة، فإن بعض الشباب بمجرد أن يسمع عن الكتب المشهورة مثل: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والطحاوية في العقيدة، والمغني في الفقه، فتراه يمسك الكتاب ويقرأ فيه، ويريد أن يتعلم منه قبل أن يتلقى عن شيخ متقن مجيد فاهم حافظ عالم بهذا العلم، لا شك أن هذا يخلط خلطاً عجيباً، بل يقع في أخطاء شنيعة وفظيعة، وأذكر مثالاً يذكر على سبيل الطرفة وهو متعلق بقراءة قارئ ليس بمتقن لحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سد فرجة في الصلاة فله كذا وكذا) فعندما قرأ لم يضبط القراءة فقال: من سد فرجه في الصلاة، فنكس المعنى وشنع وقبح، وهكذا قال بعض أهل العلم: إنه يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم، وهي معدومة عند المعلم وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، أحياناً أخطاء مطبعية وتسمع عند من يقرأ بعض الكتب قراءة خاطئة يشكو منها سيبويه والكسائي في قبورهما أو في تاريخهما.
بسبب هذه الأخطاء لا يعرف خاصة في كتب المتقدمين وكذلك الغلط بزوغان البصر قد ينتقل من سطر إلى سطر أحياناً، ويعجب من هذا النص الفريد كيف كذا ولا ينتبه، بينما الشيخ المحكم المتقن يستحضر في ذهنه فيرده، وكذلك قلة الخبرة بالإعراب، وكتابة ما لا يقرأ وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب إن كان مخطئاً، وفي هذه المسألة لم يصب على وجه الخصوص، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وهذه كثيرة جداً يقرأ المقطع فيقف في موقف ويصل بعد ذلك الكلام بجملة أخرى، فلا تعرف هل هو يقرأ بالعربية أم بغيرها؟! لأنه شتت المعاني وجزأ الكلمات فلم يحسن ولم يفهم عنه غيره، إلى غير ذلك.
ثم قال: وخلط مبادئ التعليم وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة إلى آخر ما يقال في مثل هذه المسائل، هذا ما يتعلق بالشق الأول وهو ملامح منهجية طلب العلم.(5/13)
ضرورة معرفة ارتباط العلم بالدعوة
المسألة الثانية: ما يتعلق بالعلم والدعوة، هناك أمور عند ابتداء الجيل الناشئ، فالذي ولد في أحضان البيئة الإسلامية والأسرة المسلمة فلا إشكال، فيبدأ من صغره في حفظ القرآن وفي تلقي العلم، ولن يكون عنده هذا الفطام الذي نشكو منه، فإنه قد يأخذ في التدرج في هذه العلوم ويحصل كثيراً منها في أوائل عمره، ثم من صغر سنه عند المراحل الأولى يمكنه أن يجمع بين الدراسة النظامية والدراسة العلمية الاختيارية، لكن الذي نفاجأ به الآن أن الشباب في العشرين يبدأ في طلب العلم، وهو في ذلك السن لا يجيد قراءة القرآن، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولا يعرف شيئاً من مسائل الفقه، ولا يعرف النحو والإعراب، خالٍ من أغلب ما يحتاج إليه ويفتقر إليه طالب العلم، ثم هو بعد ذلك في هذه السن ملزم بمجال علمي آخر يحتاج منه إلى وقت، أو بمجال عملي يحتاج منه إلى وقت، وهنا يحصل الاصطدام، لذلك لابد أن نراعي هذا الأمر في الجيل الناشئ مراعاة لا يحصل بها التناقض، فلابد أن يؤسس الأساس العلمي وهو الأول؛ لأن أمر الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغالب لا يكون في هذا السن، بل عندما يبلغ ويكلف، فليكن ذلك السن الأول هو سن النقش على الحجر، فليحصن الجيل الناشئ وليحفظ وليدرك وليتعلم، فإذا بدأ في ذلك السن بدأ وقد أسس على علم، ثم بعد ذلك يوجه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتيسر له من هذا الشأن، ثم يمضي في الأمرين معاً فيكتملان بإذن الله بلا تعارض ولا تنافر وضيق في الوقت.(5/14)
عدم التعارض بين الداعية وطالب العلم
أما الوضع الحالي فإنني أشير أيضاً إلى نقاط مهمة: أولها: ينبغي أن يفهم أن الذي يأخذ في أمر الدعوة والنصح والإرشاد بما عنده من علم يؤهله لذلك هو على خير، كذلك الذي يتفرغ للعلم وطلبه وتحصيله ولا يغفل أيضاً أن يذكّر ويعلّم ويرشد لا شك أن الأمرين ليس بينهما تناقض، فإن كان حظ امرئ من العلم أكثر وعنده حظ من الدعوة يغني ويقيم به الواجب عليه، والآخر عنده حظ من الدعوة والاجتهاد أكبر وحظه من العلم أقل فكلاهما إن شاء الله على خير.(5/15)
ضرورة معرفة الحاجة الملحة للداعية وطالب العلم
الأمر الثاني الذي أشير إليه: ينبغي أن نعرف الحاجة الملحة لكل منهما للآخر، فإن الداعية لا يمكن أن يدعو من غير علم قطعاً، لا نقول له: لا تدع حتى تعلم علم الأولين والآخرين، فإنه سيموت قبل أن يدعو، كلا، ولكن المقصود ألا يدعو إلى أمر حتى يعلمه، وألا يخوض في مسألة حتى يعرفها، وكثير من الأمهات المعلومات من الدين بالضرورة يشترك فيها الناس، هل يحتاج تذكيرك للناس بالصلاة وأهميتها وفضيلتها وحضك لهم على أدائها وزجرك لهم عن تركها، هل يحتاج ذلك إلى العلم الغزير؟ كلا، فإنك تستطيع أن تقوم بمثل هذا الواجب.
كذلك النهي عن المنكرات المحرمة من شرب الخمور وأكل الربا وفعل الفواحش لا شك أنها أمور معلومة من الدين بالضرورة، يمكن أن تقوم فيها بأمر الدعوة والتذكير من غير حاجة إلى ذلك التوسع والإلمام والشمول بالعلم، وفي الوقت نفسه لابد أيضاً أن يعرف العالم أو طالب العلم أنه لابد له من الدعوة والتعليم والإرشاد، فإن العالم الذي يعيش بين كتبه أو طالب العلم ويقتل المسائل بحثاً بين صفحات الكتب ويكتب على الورق ويشرق ويغرب ولا يعرف ما الناس محتاجون إليه، ولا يجيب سائلاً، ولا يعلم جاهلاً، ولا يذكر غافلاً، ولا ينصح متكاسلاً، ولا يزجر مخالفاً، لا شك أن علمه لم ينتفع به، لا له ولا لغيره، فنعلم أنه لا بد من حد أدنى لحاجة كل منهما للآخر.(5/16)
الآثار المترتبة على النظرات القاسية وردود الأفعال الشديدة
الأمر الثالث وهو مهم جداً: بعض النظرات القاسية وردود الفعل الشديدة، بعض الإخوة قد يكون في كلية الطب أو الهندسة وقد توغل فيها وتوسط، فإذا به في وسط البحر ليس الرجوع إلى المبتدأ بسهل، وليس سهلاً أن يصل بسرعة إلى المنتهى، هذا قد يأتيه عارض وخاطر يقول له: لم قصرت في طلب العلم الشرعي؟ فيترك ذلك كله ويعود إلى هذا، وهذه طامة كبرى، إذا كان لم يكتشف قدرته وتأهله وصدق رغبته وصفاء نيته، فيخرج من هنا ويذهب إلى هناك وإذا به ليس هناك وليس هناك، هذه مشكلة يقع فيها بعض الشباب، وبالمقابل هناك من يجد في طلب العلم وتحصيله ويثني الركب عند مجالس العلماء، ويضيق وقته على أن يخرج لينصح هؤلاء، وأن يرحل ليذكر هؤلاء، فإذا رأى بعض الفساد أو الشر أو نحو هذا قال: لابد أن أترك العلم وحلقه لأصلح أحوال الناس.
نقول: لا يكن فعلك رد فعل، فإن رد الفعل كثيراً ما يفتقر إلى الصواب والدقة والإتقان.(5/17)
ضرورة استصحاب طالب العلم للاستدراك المتدرج
الأمر الرابع: ليكن عندك استدراك متدرج؛ حتى لا تبقى حزيناً أو كسيف البال، خاصة بعد فترة من الزمن وأنت قد فرغت أو أمضيت في علمك من طب أو هندسة مبلغاً لا بأس به، نقول: خذ ما تستطيع من ذلك الوقت والجهد لطلب العلم.
أي: إذا كنت قد أعطيت وقتك لهذه الدراسة وذلك الجهد ثم تخرجت فأعط وقتك بعد الدراسة لطلب العلم الشرعي الذي تنتفع به، وإذا كنت قد حفظت المتون وحزت الفنون وجمعت بعض مسائل العلم وأمهاته وكلياته، فليكن لك اهتمام أن تزيد من وقتك وجهدك في شأن الدعوة والتذكير والوعظ والإرشاد والتصويب والتقويم إلى غير ذلك.
فهنا يحصل التعادل ليس النكسة الشديدة ولا ردة الفعل العنيفة بل الانتقال والتدرج؛ ليحصل التوازن الذي يراد بإذن الله عز وجل.(5/18)
أهمية معرفة قدرات الناس في تحصيل العلوم ومعرفة الفوارق
الأمر الخامس: اعلم أن كلاً ميسر لما خلق له وهذا متعلق بما سبق، فليس ضرورياً أن يكون كل طبيب عالماً شرعياً، مع أنه إذا كانت هناك همة واستدراك فإنني أعرف في بعض البلاد الإسلامية من كان أميناً للفتوى فيها بجدارة، وهو طبيب تخرج من كلية الطب، ونعلم كثيراً من الناس عندهم ملكات، هؤلاء ليسوا بكثرة في الناس، لكن أقول: لابد من الانتباه لهذا الجانب.
إذاً: لا تقارن نفسك بغيرك دون أن يكون هناك قياس مطرد، هناك قياس مع الفارق، أنا أقول: لماذا لا أكون مثل فلان وهو طالب علم جيد أو طيب؟! انظر إلى حالك مع حاله: هل عندك ذكاؤه؟ هل عندك سرعة حفظه؟ هل عندك ما تيسر له من كونه مكفياً في أمور المعاش؛ لا عنده من المال ما يغنيه عن الاشتغال به؟ هل عندك ظرفه الذي هيئ له من الانتقال والارتحال إلى طلب العلم هنا وهناك؟ إذاً: إذا توافر لك ما له فقس نفسك عليه، أما إذا كانت هناك فوارق فلابد من مراعاة هذه الفوارق.(5/19)
ضرورة التكامل بين أصناف الناس في جانب العلم والدعوة
الأمر السادس: ينبغي ألا يكون هناك حرب بين الفريقين بل تكامل، والأصل أن كلاً منهما لابد أن يحصل قسماً آخر، فليس هناك داعية يدعي أنه يدعو بلا علم، وليس هناك عالم أبداً يقول: إنه يتعلم لا للدعوة ولا للإرشاد، بل يتعلم لتحصيل المعلومات وحفظها، كلا.
فلذلك الأصل أن العالم هو الداعي، وأن الداعي هو العالم، كذلك ينبغي ألا نجعل هذا مسار صراع ونزاع، بل ينبغي أن نجعله مسار تعاون وتكامل، وبعض الشباب من قد بلغ من العلم مبلغاً جيداً فليفض من علمه على إخوانه، ومن كانت له تجربة في سياسة النفوس والتلطف مع الناس، وله الأساليب في مداخل الكلام، وله القدرة على مصابرة أذى الناس والاحتمال بمشكلاتهم، وعنده القدرة على تربية الأطفال، فليعلم ذلك الذي حفظ ودرس وعلم، وهناك نماذج كثيرة في حياة السلف، وحتى في أوقاتنا المعاصرة، فإنني أعلم بعض من أتقن علماً من العلوم وتهيأ له وإذا به يدرس في الجامعة، وإذا بشيخه وأستاذه الذي يدرسه في الجامعة في كلية شرعية يطلب منه أن يتعلم على يديه ذلك العلم الذي لم يأخذه، وهنا يحصل التكامل، لم يستنكف من تقدم في الدعوة وليس عنده حظ من العلم أن يجلس إلى قرين له أو شيخ كبير عالم، أو حتى إلى من هو أدنى منه في العمر وكان أكثر منه في العلم؟! لماذا لا يكون الذي حصل بعض العلم من الشباب يستفيد من تجربة من ذكر ووعظ وأرشد وعرف أحوال الناس، وعرف كثيراً من مفاسدهم، وألواناً من تقصيراتهم؟ لابد أن نجعل هذا مجال تكامل وتعاون، إذا كان هذا الأمر على هذا النحو استفاد كل فريق من الآخر، وحصلت المصلحة المرجوة للأمة، وانتفع المجتمع انتفاعاً كبيراً كاملاً، فليس هناك فصام ولا تنافر كما يسمى بين الدين والدولة، وكذلك لا يوجد فصام وخصام بين العلم والدعوة، وإن كان بعض الناس يردد ويقول: إن كثيراً من العلماء لا يعرفون الواقع ولا يعرفون حال الناس، ولا يؤثرون أمر الدعوة، نقول: هذا على إطلاقه باطل، وكل الإطلاقات الكلية الجزافية يغلب عليها أنها غير صحيحة، ولا يقال كذلك: إن هناك دعاة قد هدى الله على أيديهم فئاماً من الناس، وصلحت بهم أحوال كثير من المجتمعات وهم جهلة؛ لأن الجاهل لا يصلح حالاً، ولا يستقيم بجهله الناس مطلقاً، لكن قد يكون عنده حظ من ذلك، وإنما المقصود أن يكمل نقصه، وكل إنسان ناقص، حتى من كان في أمر التذكير والإرشاد قد بلغ مبلغاً كبيراً فإنه ناقص فيه وناقص في غيره، ومن بلغ في العلم مبلغاً جيداً فإنه ناقص فيه وفي غيره، فلماذا لا نجعل هذا مجالاً لاستكمال النقص عند أهل الخير والصلاح من هذه الأمة، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن العلماء والدعاة هم زبدة هذه الأمة وخيرها، وهم ملح البلد، من يصلح البلد إذا الملح فسد.
إذاً: لابد أن يعلم الذين يسيرون في طريق الدعوة أن هذا السير بلا زاد من العلم لا شك أنه سير لا يكمل ولا يعطي ثماره المرجوة، ولابد أن يعلم سالك طريق العلم أنه إنما يحصل العلم؛ ليدعو إلى الله عز وجل، وليعلم الناس أمور الخير، ويزجرهم عن أمور الشر، ويكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.
وحسبنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم المثال الأعظم في ذلك، وحسبنا في سيرة أعلام الأمة وعلمائها وأئمتها من ضربوا المثل الأعظم في كل هذا، وفيما هو أعظم من هذا.
ولست بمستقص ولكن أذكر ابن المبارك رحمة الله عليه ورضي الله عنه كان تاجراً غنياً ثرياً ومجاهداً فارساً مغواراً، وحاجاً عابداً متألهاً، وعالماً معلماً ومذكراً ومرشداً، وداعية وواعظاً ومنبهاً، وجمع أموراً من الخير عجيبة وفريدة.
وانظر إلى ابن تيمية رحمة الله عليه كان عالماً يدرس الناس ويبين الأخطاء ويرد على المبتدعة، فلما جد الجد ودعا داعي الجهاد كان في مقدم الصفوف رحمة الله عليه.
وهكذا انظر إلى سير علماء الأمة فإنك تجد هذا واضحاً جلياً.
فالله أسأل أن يجعلنا من أهل العلم والدعوة، وأن يسلك بنا سبيل طلب العلم النافع الصحيح المشروع المفيد، وأن يسلك بنا طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يوفقنا بإذنه تعالى لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(5/20)
الاحتساب فضله وأهميته
دين الإسلام دين كلي متكامل لا يقوم إلا بجميع أجزائه وأعمدته، ومن أعظم أعمدة الدين التي تقوم عليه جميع جزئياته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه يحفظ للأمة عزتها وكرامتها، وبه تدوم النعم وتبسط الخيرات، وبه تحفظ دماء المسلمين وتصان أعراضهم، وبه تنتشر الفضيلة وتنعدم الرذيلة، فلا حياة ولا سعادة ولا خيرية للأمة إلا بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سفينة النجاة.(6/1)
سفينة النجاة
الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد سبحانه وتعالى، منه الرزق والنعمة، وله الفضل والمنة، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أقام الدين والملة، ونصح الأمة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في بيت من البيوت أراد أحد الأبناء أن يشعل النار لغرض من الأغراض، لكنه جعلها تشتعل في شيء من الأثاث وجانب من البيت، فبادر آخر ليطفئ تلك النار بالماء وقت اشتعالها، فزجره ثالث بدعوى ألا يتلوث الأثاث بالماء، وأحسب أن مثل هذا لا يتصور وقوعه على النحو الذي ذكرته، لكنه يحكي صورةً تشبه واقعنا الذي نعيشه سواء كان ذلك في بيوتنا كآحاد وأفراد، أو كان في مجتمعنا كمجتمع وأمة.
وأبلغ من مثالي هذا، وأعمق منه دلالة، وأظهر تأثيراً ما قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد ضرب لنا المثل الذي يستحق منا كل تدبر وتأمل، وهو حديث مشهور محفوظ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
سفينة الحياة والمجتمع كلنا ركاب فيها كلنا نلتمس بها الوصول إلى شاطئ الأمان كلنا يدرك أن أي أثر سلبي أو إيجابي في هذه السفينة يلمسه مباشرة، فإن تعرضت لخطر الغرق فهو قطعاً سيكون واحداً من الغرقى، وإن نجت وأسرعت فهو من السالمين الغانمين بإذن الله عز وجل.
ابن النحاس من علماء أمتنا يوضح لنا هذا التشبيه ويقول: الدين سفينة النجاة إلى الآخرة، وسفينة هذه الدنيا كسفينة من ضرب فيهم المثل عليه الصلاة والسلام، فالذين يخرقون في السفينة يسببون الهلاك لجميع السفينة، ومثلهم الذين يخرقون في سفينة نجتنا في دنيانا إلى أخرانا.
أي: الذين يخرقون في الدين، وهذه شركة واضحة، فالجميع على حد سواء، المسلمون مشتركون في الدين الذي هو النجاة في الآخرة كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي نجاتهم في الدنيا، وكما أن السكوت على شركاء السفينة إذا أفسدوا فيها يكون سبب هلاكهم، فكذلك المسلمون عند تركهم الإنكار على الفاسق يكون سبب الهلاك لهم، فإن أخذوا على يده -أي: أخذ بعضهم على يده- حققوا سبب النجاح، وذلك مثل ظاهر في فرض الكفاية، إذا قام به البعض قياماً يفي بالغرض لم يكن في ذلك عتب أو حاجة في دور الآخرين، ثم قال: لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظم حمقه، وقل عقله، وجهل المعصية وشؤمها.
عندما يأتي خارق السفينة ليخرقها هل تظنون أحداً يثني على فعله، أو يقول ما نسمعه اليوم: ذلك حرية شخصية، وهو إنما يفعل شيئاً يخصه حتى ولو كان في دينه وخلقه أو في أهله وزوجه أو في بيته وخاصة نفسه؟ وهل ترون أحداً في هذه السفينة ينظر إليه وهو يخرق الخرق في نصيبه ويتأمل متعجباً أو ينظر إليه متبسماً أم أنه لا يملك إلا أن يمنعه؛ لأن الضرر لا يخصه بل يتعداه إلى غيره، ولا يقدم من الشركاء على خرق السفينة إلا من هو أحمق يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع؟ وكذلك العاصي المقترف لما حرم الله سبحانه وتعالى، والحديث ظاهر في دلالته، وأزيد في إيضاحه ببعض رواياته التي تبين المزيد من معانيه، فقد ورد في الحديث روايات أخرى منها رواية عند الإمام أحمد في مسنده قال: (مثل أولئك مثل ثلاثة ركبوا في سفينة، وعندما قام أحدهم يخرق في نصيبه، قال الآخرون: لا، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا جميعاً، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعاً).
وفي رواية ثالثة (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، والمداهن فيها).
فهنا أقسام ثلاثة: الواقع أي: المرتكب للمحرم والواقع في المنكر، والمداهن فيها أي: المجامل الساكت المضيع للحقوق، التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما القائم على حدود الله فهو المستقيم على أمر الله فعلاً لأمره وتركاً لنهيه، ومن ذلك قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأقسام الثلاثة ظاهرة بينة في واقع حياتنا.(6/2)
قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث
ننتقل نقلة قصيرة إلى آية تبين المعنى الذي جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية قصة وعبرة، ومثل وحكمة، قصها الله عز وجل لنا في شأن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163].
ثم جاء الوصف من بعد فيما كان من أثر لبقية أهل القرية إزاء الموقف الذي اعتدى فيه المعتدون على ما حرم الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
ماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
نهى الله بني إسرائيل عن الصيد في يوم السبت، وجعله خاصاً بالتفرغ لطاعة الله، والعبادة والانقطاع لها، وترك العمل، وابتلاهم بسبب فسقهم -كما قال جل وعلا- بأن جعل الأسماك تظهر في يوم السبت كأنما تقول: من يصيدني؟ آمنة ظاهرة على سطح الماء، سهلة ميسورة، قريبة مغرية، فلم يستطع نفر منهم أن يمتنع من ذلك، وأراد الصيد، وأخذ بالحيل الإبليسية الشيطانية، فجعلوا يحفرون الأخاديد، ويضعون الشباك في يوم الجمعة، فتدخل فيها الأسماك وينحدر الماء وتقع الأسماك الأخرى في الشباك، فلا يأخذونها ولا يلمسونها في السبت، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، زاعمين أنهم مبرءون من المعصية، مجانبين لارتكاب المحرم والاعتداء على حدود الله، فجاءت الغيرة الإيمانية، والانتصار لحرمات الله من قوم مؤمنين صادقين، يعلمون أن الضرر سيعم ولا يخص، وأن الأثر سيحيق بهم كما يحيق بغيرهم، فجاءوا ناهين، وجاءوا معترضين، وجاءوا مذكرين.
فجاءت فئة ثالثة فقالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164] لا فائدة من وعظ أولئك، فهم قوم لا ينفع فيهم الوعظ، ولا يثمر فيهم التذكير، ولا يرعوون ولا يرتجعون عن مثل هذا، فجاء
الجواب
{ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] نقوم بما أوجب الله علينا نؤدي فريضة الله عز وجل فينا نحقق حقيقة إيماننا نترجم صورة مشاعرنا نبين ونعلن كلمة الله عز وجل وحكمه حتى لا يلتبس الأمر على الناس، ولا يختلط الحق بالباطل، ولا ينقلب المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
(لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) لسنا معنيين ولا مكلفين بأن يتغيروا وأن يتركوا المنكر، فذلك أمره إلى الله، إنك لا تهدي من أحببت، حسبك أن تؤدي الأمر أن تقول الذكرى أن تحذر بالنهي أن توبخ بما يستطاع، وبكل وسيلة يمكن أن يكون فيها أثر نافع مشروع، فانتهت النتيجة إلى ما سمعنا: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165].
في وضوح وجلاء بأن الذين قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلنوا حكم الله، وأظهروا الغيرة على حرمات الله كانوا من الناجين: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف:165] أي: الذين اعتدوا وارتكبوا المنكر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
ثم بقي السؤال ما شأن أولئك الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)؟! هل نجوا أم عذبوا؟! قال ابن كثير رحمه الله: لم يذكر؛ لأنهم ساكتون، فليس هناك فعل لهم يوجب مدحهم، ولم يرتكبوا المنكر فيوجب ذمهم، وإن كان أهل التفسير ذكروا فيما ذكروا أنهم من الناجين في الجملة لأسباب ظاهرة، وهو أن النص لم يتناولهم، ولم يكونوا ظالمين أي: فاعلين للمنكر، ولأمر آخر، وهو أنهم إنما قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ).
للدلالة على أنهم قد نهوا من قبل فلم يستجب لهم، فقالوا مثل هذا، أو أنهم في ظاهر قولهم أبدوا إنكارهم بلسانهم وبما يعتمر في قلوبهم، لكن الأمر حينئذ أصبح ظاهراً في أن الجميع ينالهم الأثر في آخر الأمر، حتى وإن برئت ذممهم عند الله في الآخرة إلا أن عقوبة الدنيا وما يحصل من البلاء هو من سنة الله سبحانه وتعالى.
هكذا قال ابن حجر إقامة الحدود -أي: في الدنيا- يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية، والساكت بالرضا بها، وفي الحديث استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، والأمر في هذا ظاهر بين، وثمة أمور لا بد أن نقف معها هنا لأنها تحكي واقعنا.
ما قص الله علينا القصص عموماً وقصص بني إسرائيل خصوصاً إلا للعظة والعبرة، ألم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما تكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطنا بقصة بني إسرائيل، وأنهم وقع فيهم الهلاك بسبب أنهم كانوا إذا وقع فيهم المنكر لم ينكروه، واستشهد بقوله جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]؟! وذكر الله العلة في ذلك بأنهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ} [المائدة:79].(6/3)
صور من واقعنا المعاصر(6/4)
استخدام الحيل في إباحة ما حرم الله
صورة ثانية مهمة وخطيرة، وهي: التحايل على دين الله، والحيل التي يستحل بها الناس ما حرم الله كثيرة، فهذه صورة ذكرتها آيات القرآن، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل أن الله لما حرم عليهم الشحوم ماذا فعلوا؟ جملوها وأذابوها، فاستعملوها وهي زيت ولم يستعملوها وهي سمن، وقالوا: هذا حلال وذاك حرام، تركنا الحرام وأخذنا الحلال، وكم هي الصور التي يرتكب بها الحرام مع بعض التغيير في الأسماء! فالخمور مشروبات روحية، والربا فوائد اقتصادية، والعري والعهر فنون جميلة أو راقية، وغير ذلك مما قد تستمعون له، ونجد هذا وللأسف يزداد وتتسع دائرته حتى تعم أخياراً من الناس يقعون في مثل تلك المنكرات، وقد تلبس عليهم الأمر حقيقة في بعض الأحوال، فنحن في زمن الاختلاط والالتباس الذي اشتبهت فيه على كثير من الناس حرمة أمور مقطوع بحرمتها، حتى فعلها أناس وهم لا يشكون في حلها وجوازها، وهذه صور كثيرة تزداد كل يوم، وتتسع دائرتها في جوانب من حياتنا العامة في أمتنا المسلمة، لا سيما في قضية المرأة -وما أدراك ما المرأة؟ - في اتساع الدوائر التي تأخذ لنا شيئاً من الأمور المختلف فيها عند الفقهاء، لتصل بنا بعد ذلك إلى ما وراءه من أمور محرمة لم يقل بها أحد من العلماء سابقاً ولا لاحقاً، ويكون الاتكاء على ذلك الأمر المختلف فيه كما نرى ونعرف دائماً، وإذا تأملنا فإنا نجد أن هذه الحيل والألاعيب والصور هي التي تصيب الأمة في مقتل من جهات ثلاث: الجهة الأولى: ارتكاب المحرم والوقوع فيه.
الثانية: تخفيف وقع ارتكابه بهذه الحيل والألاعيب.
الثالثة: العمل على نشره وتطبيعه دون وجود من ينكره، ودون وجود من يرى فيه مخالفة أو غير ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: في هذا زجر عظيم لمن يتعاط الحيل على المناهج الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، وليس المتحايل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه، وهذه مسألة مهمة.(6/5)
قلة السالكين منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مسألة ثالثة أيها الإخوة! وهي مسألة الإنكار، أين هو الأمر بالمعروف؟ أين هو النهي عن المنكر؟ تفكر في نفسك ارجع قليلاً إلى الوراء لمدة أسبوع أو شهر، تذكر كم مرة نطق لسانك بأمر بمعروف أو نهي عن منكر! تذكر كم انقبض صدرك واهتم واغتم قلبك لمنكر رأيته! تذكر كم استطعت أن تقوم بشيء من تغيير المنكر بيدك فيما تستطيعه وتقدر عليه ولا يترتب عليه ضرر! وإذا فعلت ذلك فانظر إلى دائرة من حولك وتأمل: هل وقع شيء من ذلك؟ إن الأمور تنحسر شيئاً فشيئاً، فلا نكاد نسمع لساناً ناطقاً بمعروف أو ناهياً عن منكر، ولا نكاد نرى وجهاً متمعراً لما يرى من صور الفساد وارتكاب المنكرات، ومثل هذا خطره عظيم، وضرره كبير، وأذكر من ذلك أموراً خطيرة مهمة؛ لأن هذه هي الدوائر التي تصلنا بها الآثار السلبية، قالوا: معذرة إلى ربكم، لماذا لا تنكر؟ فيجيب: من يسمع لي؟ وهل سيتغير الواقع؟ وهل تظن أن كلمة مني ستغير هذا الفساد؟ إذاً: فلنبق كلنا كالشياطين الخرس لا تنطق بكلمة حق، لا في حال من أحوال اليسر أو العسر، {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
سيسألك الله وسيسألني وسيسأل كل أحد: ماذا فعلت في تلك المنكرات؟ ستقول: لا فائدة، الواجب عليك: (فليغيره) الواجب عليك: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].
ذلك واجبك قم به معذرة لله عز وجل، وتأمل، فإنه من الممكن أن تقع الكلمة موقعها، وأن تؤثر في نفس سامعها وقلبه، وما يدريك فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ورب طاغية مجرم أو ظالم معتد أو فاسق فاجر تردعه وترده إلى الحق والهدى والصواب كلمة، فلا تحتقرن شيئاً تقوله لوجه الله، وتتحرك فيه غيرة على دين الله، وتؤدي فيه واجب الله، وتقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أثر ذلك يكون عظيماً بإذن الله عز وجل ولنتصور أن كلاً منا نطق بمعروف ونهى عن منكر، فكم من منكر سيزول بسبب من يقول لصاحبه: قف! وانتبه! واحذر! وخف الله عز وجل! ولو أن كل واحد سكت لما سمعنا شيئاً من ذلك، تأمل هذا المعنى فإن التقصير والتفريط فيه عظيم وكثير للأسف الشديد.(6/6)
الحرية الشخصية والوصاية الدينية
انظر متأملاً إلى صور كثيرة في واقعنا من أجلها وأخطرها المفاهيم المغلوطة، إن أموراً كثيرة تقال اليوم هي مما يخالف المفهوم الصحيح في دين الله، ومن ذلك مسألة الحرية الشخصية، والوصاية الدينية، إن الذين يرتكبون المنكر يخرقون في سفينتنا، إنهم لا يعملون شيئاً يخصهم، إنهم لا يتصرفون في ملكهم، إنهم يتصرفون في أمر نشترك فيه، إن الدين ديننا، وإن الإسلام إسلامنا، وإن الأمة أمتنا، وإن المصلحة مصلحتنا، فلا يقال: إن لأحد حرية شخصية، إن تبرجت المرأة وأظهرت نحرها وذراعيها أو كشفت عن فخذها وساقها فهل نقول: حرية شخصية؟ إنها تعتدي على حرمات الله، إنها تسبب الفتنة في المجتمع، إن الذي يعمل بأمر من الأمور المحرمة شاء أم أبى لن يقتصر أثره العملي فضلاً عن أثره الكوني في سنة الله عز وجل عليه وحده، بل سيتعداه إلى غيره قطعاً وجزماً واقعاً مشاهداً حياً، وهذه مسألة مهمة.
ولذلك تأتينا الوجهة الأخرى إذا جئت تنكر، إذا قلت: لا تشعل النار، إذا جئت لتطفئ؛ قالوا: وما الذي يعنيك من هذا؟ وكيف تجترئ على حرية الناس؟ ويقال لك: لماذا تهددنا بالوصاية الدينية؟ ولماذا أنت الذي تريد أن تكون مهيمناً علينا وكأن عندك تفويضاً ربانياً إلهياً بأن تحكم على الخلق؟ نقول: إن ذلك التفويض موجود حقيقة، وهو معني ومقصود به الجميع بلا استثناء: (من رأى منكم -معاشر المؤمنين والمسلمين- منكراً فليغيره، -على صيغة الأمر- بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية أخرى: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هذه مهمة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عماد ديننا وعموده، فكيف يقال: إننا نقوم بوصاية دينية؟! إنها ليست قضية شخصية، إنها قضية الأمة والمجتمع.(6/7)
الأسباب المؤدية إلى الحديث عن موضوع الحسبة
أنتقل إلى مسألة مهمة: وهي ما الذي دعاني إلى هذا الحديث اليوم؟ أحسب أنه لو تفكرنا قليلاً لعرفنا الأسباب، وأذكر هنا أمرين:(6/8)
ما كشفته الحملات الأمنية من الجرائم
الأول: ما طالعتموه على مدى الأسابيع الماضية وربما الأشهر الماضية من الحملات الأمنية التي قامت بها الشرطة في عدد من المدن، وقد كانت النتائج مفزعة ومثيرة للعجب، كم كشفت من شبكات دعارة؟ كم كشفت من شبكات مخدرات ومصانع خمور وتزوير هويات وممارسة السحر والشعوذة؟ كل ذلك واقع في مجتمعنا وبين أظهرنا، وقريباً منا، وفي ذلك الطريق أو ذلك الشارع الذي نمر به كثيراً، هل كل هذا الذي اكتشف لم تكن عين رأته من قبل، ولا أذن سمعته؟ كلا، بل كان ذلك موجوداً، وخرست الألسن، وأغمضت الأعين، وصمت الآذان، وضعفت الغيرة، وغاض ماء الإيمان في القلب، ولن يدرك أحد أن السفينة إذا غرقت سيكون الجميع غرقى.
أليس هذا الذي رأيناه ونقرأ عنه في صحف كل يوم أمراً لم يكن لنا به عهد بمثل هذا الحجم؟! كيف وصل الأمر هكذا؟ لم يكن في يوم وليلة، لكن أحداً خرق خرقاً صغيراً فقلنا: وما عسى أن يفعل؟ وقال الثاني: دعه مالك وله؟ وقال الثالث: هل أنت وكيل الله على خلقه؟ وقال الرابع: مالي وللناس؟ وهكذا حتى اتسع الخرق على الراقع، وأصبحت القضية ضخمة هائلة.(6/9)
الحرب الضروس على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الثاني: وهو من عجائب ما يحير عقلي، ويكشف لي عن أمور تحتاج إلى شيء من المصارحة والوضوح، وهو أيضاً مما قص، ومما ذكر في وسائل الإعلام الصحفية على وجه الخصوص، ففي الآونة الأخيرة تذكر أخبار هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهودها المشكورة، وأعمالها المبرورة التي رأيناها في الواقع دائمة، وليست مؤقتة، ولكن الذي أظهره الإعلام في الصحف مؤخراً أنهم استطاعوا مرات ومرات أن يكتشفوا مثل هذه الجرائم في هذه الشبكات الأخلاقية المنحلة، وفي توزيع الخمور والمخدرات وغيرها، لكن عجبي! هو أن أحداً في الجملة لم يذكر لهم ذلك الخير، بينما ترى الكتاب ينتقدون الهيئة إذا أخطأ عضو من أعضائها في أسلوب من الأساليب أو في موقف من المواقف، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويكتبون على التشدد والتزمت والتطرف وغير ذلك، ويكتبون لنا عن الاعتداء على الحريات الشخصية، وعلى التنفير من الدين وغير ذلك، لم لا يكتبون عن هذه الجهود التي هي حماية لنا، ووقاية لأبنائنا، وسلامة لمجتمعنا، وحفظ لديننا وإيماننا وإسلامنا؟! لماذا لا تذكر إلا المثالب إن صح وقوعها؟! لماذا لا نكون صرحاء؟! لماذا نشعر حينئذ بأن الأمر إنما هو تلمس المعايب وتتبع القبائح على افتراض وجودها مع أن غاية ما يقال فيها: إنها أخطاء اجتهادية أو ممارسات فردية؟! إن ذلك يدلنا على أن كثيراً من هذا الزخم الإعلامي ليس معنياً في الحقيقة لمصلحة المجتمع، ولا بالأثر الإيجابي فيه بقدر ما يعبر فيه أولئك الكتاب عن ذواتهم وأهوائهم ونزواتهم ورغباتهم وآرائهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بالمجتمع ومصالحه وكل ما يتعلق به، وهذه مسألة خطيرة مهمة، وهذا أمر ينبغي لنا نحن ألا نكون كذلك، ينبغي أن نشكر الله عز وجل ونحمده على كل من يقوم بأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لأنه يدفع عنا سخط الله وعذابه؛ لأنه يدفع عنا فتنة وبلاء؛ لأنه يكون سبباً من أسباب نجاتنا وعدم استحقاقنا للعذاب، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أجر ومدح من الله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
إن الفلاح في ذلك، وإن الأثر المحمود دنيا وأخرى في ذلك: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ليست لنا خيرية إلا بأداء شرط هذه الأمة وسمتها في قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].
من أراد رحمة الله فذلك طريقه، وفي الوقت نفسه مقابل ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدح واستحقاق للعذاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78].
قال الزمخشري معقباً على مثل هذا الأمر: فيا حسرة على المسلمين! -والزمخشري في القرن السادس الهجري أي: قبل نحو تسعة قرون من تاريخنا هذا- في إعراضهم عن التناهي عن المنكر، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
أي: من المبالغات في التشديد في هذا الباب.
والفتنة والعذاب لازمة عند ترك هذه الشعيرة المهمة العظيمة، وهي التي قد نفسر بها كثيراً مما هو واقع بنا، كما قال الحق جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
ستعم كما بين ذلك أهل التفسير، لا تصيب الظالمين بل تصيب معهم غيرهم ممن لم يغير المنكر ولم ينه عنه، وإن كان لم يظلم كما قاله ابن جزي في تفسيره، والحق جل وعلا يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116].
والتسلسل يمضي لئن لم ننكر فسيكون الجيل من بعدنا في حال أسوأ منا، والمجتمع يغرق في هذه المعاصي والسيئات، ويأتي جيل فيقصر أكثر؛ فيكون الأثر من بعده أعظم، ولله سبحانه وتعالى في ذلك سنة ماضية: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الذي يرويه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم.
والأمر في هذا يطول، قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى: وهذا من الفقه العظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة، وإن السكوت على المنكرات تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق.
نسأل الله عز وجل السلامة! وهذا حديث حذيفة أختم به هذا المقام روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي.
نسأل الله عز وجل أن يصرف عن السوء والفحشاء، وأن يحفظ علينا في مجتمعنا إيماننا وإسلامنا، وأخلاقنا وذرياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(6/10)
الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغيرة على حرمات الله، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل حب لله، وتعظيم وإجلال له؛ لأنه كما قالت عائشة أم المؤمنين في وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (ما نيل من شيء قط فينتقم لصاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم منه) رواه مسلم.
قال ابن القيم في شأن هذه الغيرة: المهم أن نحميها في قلوبنا، أي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟! وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورئاستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وأهله؟ وتأملوا فقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: سئل ابن مسعود رضي الله عنه: من ميت الأحياء يا ابن مسعود؟ قال رضي الله عنه: (الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً) فكم بين أحيائنا أموات وإن كانوا يتحركون ويتكلمون ويأكلون ويشربون نسأل الله عز وجل العافية! ومن المآثر المهمة لمثل هذه الشعيرة: أن تبقى الذكرى قائمة، وأن يبقى ما ينزع وما يبطل الغفلة حياً مذكوراً مشاعاً في المجتمع، حتى لا تغفل العقول، ولا تموت القلوب، ولا تخمد النفوس في دينها، بسبب عدم إنكار المنكر الذي يرتكب في واقعها ومجتمعها.
قال إمام الحرم الشيخ ابن حميد حفظه الله في هذا المعنى كلاماً جميلاً، قال: ولو طوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل علمه وعمله؛ لتعطلت الشريعة، واضمحلت الديانة، وعمت الغفلة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وحينئذ يحل عذاب الله، وإن عذاب الله لشديد.
أبلغ هذه النصوص الشرعية والأحاديث النبوية والمقالات العلمية، وهو يحتاج منا إلى أن نعيده ونكرره عسى الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وغيرتنا، وحميتنا وانتصارنا لدين الله، وانتصارنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، ولا تؤاخذنا اللهم بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم ارحم إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم سهل عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(6/11)
الصيف بين الإهدار والاستثمار
الوقت من أهم ما يجب على المسلم المحافظة عليه، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وإن لم تستثمره في الخير أهدر في الشر وما لا فائدة فيه، وهذه الإجازة الصيفية التي تُمنَح للمعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات من أوسع ميادين الإهدار والاستثمار للوقت، فعلى الآباء والأولياء الأخذ بأيدي أبنائهم إلى استثمار هذه الإجارة الصيفية بما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، وذلك عن طريق وضع الخطط والبرامج المناسبة، أو عن طريق الالتحاق بالمخيمات الصيفية الهادفة ونحو ذلك.(7/1)
مظاهر سيئة في المجتمع المسلم
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومنار العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(7/2)
وجوب تربية الأبناء على إجلال المصحف
إن مسألة الإجلال والتقدير ليست مسألة نظرية ولا لائحة عقابية ولا أنظمة تعليمية، إنها قبل ذلك كله تنشئة إيمانية وتربية.
لم لا نوجه العناية في صيفنا هذا كله لنجعله تربية إيمانية عملية لأبنائنا على تقديس كتاب الله وخدمته؟ لم لا نجعل في الأسر برامج تعلم الأبناء كيف يتعاملون مع كتاب الله، ونجعلهم يقومون بأعمال تتعلق بخدمته ونشره، فيشتري هذا مصحفاً مسجلاً ثم يبذله لأحد، أو يشتري مصحفاً ويضعه في المسجد أو يصنع أي شيء من الأعمال الإيجابية التي لا تقف عند التقديس والتقدير والاحترام نحسب، بل تقود إلى ما هو ترجمة لذلك بالخدمة والنشر والإعانة.(7/3)
إهانة القرآن وتبلد مشاعر المسلمين
وهكذا نجد الصور تتشكل، حتى تبلغ الصور الصارخة أعداد كثيرة.
وإنني كلما أردت أن أطوي هذا الحديث تجدد في النفس والقلب من الحزن والأسى ما يجعله يعود، وتجدد في الواقع أيضاً ما يذكي جراحه ويثير نزف دمائه من جديد، مثل قضية تدنيس المصحف، وقد قرأنا خلال هذا الأسبوع تقريراً يتضمن نتائج التحقيق في تلك الجريمة ويقول: إنه لم يثبت إلا خمس حالات فقط، وسميت هذه الحالات بـ (إساءة التعاطي مع القرآن الكريم)! ألفاظ مهذبة مشذبة! ما هي هذه الإساءة لهذا التعاطي؟ بنص التقرير فقد ذكر صوراً تتعلق بتبول -أكرمكم الله- على كتاب الله، وأخرى فيها ركل أو دعس لكتاب الله، وثالثة فيها قذف شيء من الماء على كتاب الله.
ويأتينا الخبر مجدداً اليوم عن اعتداء مماثل في سجون الكيان الصهيوني على المصاحف التي يمتلكها ويقرأ فيها إخواننا الأسرى المسجونون المظلومون من أبناء الشعب الفلسطيني.
وتتجدد هذه الأمور وكأن شيئاً من ذلك لم يكن ليحدث، ولعلي هنا أنتقل سريعاً إلى ما ينبغي أن نغيره في أذهاننا ونفوسنا فضلاً عن أذهان ونفوس أبنائنا.(7/4)
تمزيق الكتب الدراسية في نهاية السنة الدراسية
أيها الإخوة المؤمنون: "الصيف بين الإهدار والاستثمار"! وقد أوشكت أيام الدراسة على النهاية ليحل موسم الإجازة أو العطلة كما يطلق عليها، والتي تمتد وقتاً طويلاً ليس أياماً ولا أسابيع، وتنتظم أعداداً كبيرة من الطلاب والطالبات على وجه الخصوص، والأسر من الآباء والأمهات على وجه العموم، إذ كثيراً ما تكون إجازات الأعمال متوافقة مع إجازات الدراسة.
فهذا الوقت الطويل الممتد، فيم يستغل؟ وهذه هي الطاقات والإمكانات كيف توظف؟ ثمة صور متناقضة أو متعارضة، ولعلي أبدأ بصورة ربما رأيناها وسنراها في الأيام القادمة، وهي صورة محزنة مؤلمة، شدد عليّ بعض الإخوة في ذكرها، وأهمية التنبيه عليها، وهي صورة لا تبشر بخير، وهي ظاهرة قذف الطلاب لكتبهم وتمزيقهم لمناهجهم، وشعورهم بأنها قيد يتخلصون منه، أو عبء يلقونه عن كواهلهم، ونرى -وللأسف- الكتب على أرصفة الطرقات، بل نراها في بعض الأحيان وهي في حاويات النفايات بما فيها من الآيات والأحاديث والعلوم المختلفة المتنوعة! ومناهجنا بحمد الله عز وجل لا تخلو من ذلك في شتى نواحي العلم.
هل هذه صورة تبين لنا أن هؤلاء الطلاب سيستقبلون الصيف بقراءة نافعة، وثقافة واسعة، ونشاطات متنوعة؟! ولماذا يحصل مثل هذا؟ وهنا نؤكد على أمر مهم، فالقضية في مثل هذا ليست ناشئة عن أوضاع دراسية أو تعليمية أو عن نظم يمكن أن تفرض، بل هي التنشئة الإيمانية والتربية الإسلامية والتهيئة الأخلاقية، والتثقيف الفكري والإعداد النفسي الذي فقده بعض طلابنا في بيوتهم وأسرهم، ومن أساتذتهم وفي معاهدهم، فخرجت الصورة النهائية لتعبر لنا عن خطوات قبلها: عن خلل في تفسيرهم ونظرتهم لهذا العلم، وشرفه وفضله وأجره وثوابه، وكذلك أثره الذي يعود عليهم وعلى مجتمعهم وأمتهم بالنفع والفائدة.(7/5)
مواجهة هذه الظاهرة مسئولية الجميع
فهذه الصورة لم تجعل العلم في مقام التوقير الذي لقننا إياه منهج الإسلام: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، أين معنى هذا العلم؟ أين غرسه؟ أين تعظيم ما هو معظم من كلام الله جل وعلا وآياته وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين نحن من إعجاز العلم وكتبه ومناهجه؟ أين هذه المنهجية التي ينبغي أن تكون غرست؟ وهنا يجب أن ننتبه إلى هذا الخطر، وندرك تماماً أننا جميعاً مسئولون عن ذلك التفريط العام؛ سواء في الأداء التعليمي أو في الرسالة الإعلامية التي تبث ما يحط من قدر العلم والعناية به، إنها لا تمجد ولا تشيد بأحد من الطلبة المتفوقين ولا المتميزين ولا المتخرجين، وإنما تشجع المغنين والمغنيات والرياضيين والرياضيات، حتى أصبح حجم هذا البث يكفي أمة العرب وعشر أمم من أمثالها من ضخامته وزخمه، فمن أين لطالب أن يعنى بالعلم وأن يلتفت إليه في ظل هذه الأجواء الإعلامية التي يغلب على كثير منها الجوانب السلبية تجاه العلم والتعليم؟ وكذلكم ما قد نشهده هنا وهناك من تصرفات بيئية أسرية في داخل البيوت، فإن الأب كما أشرنا من قبل يعتني كثيراً في تعليم أبنائه اللغة الإنجليزية، ويحضر لهم المدرسين، وقد يفرغهم في فترة الصيف لدراسة طويلة داخل البلاد أو خارجها، لكنه لا يسأل مطلقاً ولا يلتفت أبداً إلى حال أبنائه في تعلمهم لكتاب الله أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأحكام الفقه أو لتربية الأخلاق، أو لغير ذلك من الأمور، ويراها ثانوية! فحينئذ تُعظَّم تلك وتضعف هذه في نفوس الأبناء تلقائياً.(7/6)
إقامة الدورات الصيفية من الصور المشرقة في استثمار العطلة
ونحن نقف اليوم على أبواب الصيف نرى صوراً أخرى مشرقة بالاستثمار في الدورات القرآنية الصيفية، التي هي تربية إيمانية تجعل الناشئ من أبنائنا يأتي إلى بيوت الله متشوقة إليها نفسه راغباً فيها قلبه، وتجعله كذلك يعكف الساعات يرطب بكتاب الله لسانه، ويحيي به قلبه، ويدرك أنه يستغل هذا الوقت في هذه اللحظات والساعات في مقابل أوقات أخرى يقضيها غيره في اللهو والعبث.
إننا نصنع من خلال هذه الدورات أموراً عظيمة في التنشئة والتربية والتقويم والسلوك، أكثر من النتائج التي نرقبها من الحفظ والمراجعة والتجويد والإتقان، ولذلك ينبغي أن ندرك أن النتائج إنما تنشأ من المقدمات؛ فكل أب يرى من ولده سلوكاً غير محمود فليعلم أن ثمة مقدمات من داخل الأسرة أو من المحيط العام، أو من وسائل الإعلام؛ أثرت في سلوك الولد حتى وصل إلى هذا الحد، وأنه لم يكن هناك ما يكافئها ولا ما يعارضها.
فظاهرة تمزيق الكتب ينبغي الآن وفي هذه الأيام أن نسعى بين أبنائنا بالتوجيه والإرشاد لتجنبها والحد منها.(7/7)
البذخ والتبذير في حفلات الأعراس
وهناك صور أخرى من صور الإهدار، وبعضها محزن مؤلم، كصور البذخ والتبذير والإسراف الذي يرافق فترات الصيف عموماً ومواسم ومناسبات الأفراح خصوصاً.
ليست الأموال أيها الإخوة آلافاً ولا مئات الآلاف، بل ليست ملايين ولا عشرات الملايين إنها تبلغ أكثر من ذلك، ولا شك أن من ذلك ما هو مباح ومندوب ومستحب في إقامة الوليمة وإعلان العرس، لكننا نوقن تماماً أن ثمة صوراً من التبذير والبذخ في الألبسة وفي الأطعمة وفي الأماكن التي تعقد فيها هذه المناسبات وغير ذلك، وكل هذا يحدث في مقابل وجود صور من الفقر كثيرة في كل أنحاء مجتمعنا الإسلامي بما فيه هذه البلاد، فكم من عاطل عن العمل يحتاج إلى من يعينه، وكم من عاجز عن الزواج يحتاج من يساعده، وكم من أسرة فقيرة تحتاج من يواسيها، وهذا البذخ في مقابله.(7/8)
حكمة الإسلام في تحريم التبذير
والإسلام عندما يحرم التبذير فإنه يحفظ الثروة العامة للأمة ككل، بل ولصاحبها الذي لا يعلم ما يستقبل من الأيام، فقد يحتاج إلى هذا الذي أسرف فيه في يوم تدور فيه الدوائر ويحتاج فيه إلى أقل من ذلك، فضلاً عما ينتج عن ذلك من أثر في الناحية المعنوية والتربوية الاجتماعية من وجود هذا التفاوت وحنق الضعفاء على الأغنياء، ووجود المفارقات والطبقيات التي لها من الآثار ما لها.
وحسبنا في الأمثلة والقدوات ما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم تزوج ويوم زوج، فهل ثمة أشرف وأعظم من زواج النبي صلى الله عليه وسلم أو تزويجه لبناته؟! كم كانت مقادير المهور، وكم كانت تكاليف مناسبات الأفراح في تلك النماذج المشرقة الوضيئة؟ ولئن كان فرق بيننا وبين ذلك المجتمع فإن الصورة النسبية ظاهرة لا تخفى على أحد، حتى لا يقال: إننا في عصر غير ذلك العصر، ونجد أن الإحصاءات تدلنا على أمور أخرى، وقد نشر خلال الأيام الماضية تقارير أعتقد جازماً أن من رآها بكى قلبه قبل أن تبكي عينه.
إنها تقارير مجاعة في النيجر، يموت فيها الأطفال دون الثانية من العمر، وصورهم تمثل هياكل عظمية وتنبئ عن أمراض خطيرة، وبمجرد النظر يجد الإنسان نفسه قد كاد يفقد لذة طعامه الذي يأكله ومائه الذي يشربه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه لا يؤمن من بات شبعان وجاره طاو.
أين نحن من التكامل الذي حرك النبي صلى الله عليه وسلم وأثر في مشاعره يوم رأى الفقراء من مضر، فتمعر وجهه -أي: تغير حزناً- ثم دعا الناس للإنفاق، فبادر الأنصاري بصرة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، فتتابع الناس واجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه بهذا التعاطف وبهذه الروح الإيمانية، وبهذه النفوس الرقيقة الرحيمة التي وإن أخذت بقوله جل وعلا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]؛ فإنها لا تنسى ذلك الجانب الآخر.
صورة تتكرر في مواسمنا الصيفية وأفراحنا المتتابعة، حيث نجعل الأفراح مقترنة في كثير من الأحوال بترك المباح، أو على أقل تقدير بتجاوز المندوبات والمستحبات إلى دائرة الشبهات والمكروهات، بل نتعداها إلى أكثر من ذلك، وهذا يحتاج منا إلى تأمل وإعادة نظر.(7/9)
تقارير اقتصادية تبين مدى التهاون عند أثرياء المسلمين
واليوم نشرت تقارير لبعض المجلات الاقتصادية عن حجم الثراء وزيادته، فعدت في الشرق الأوسط خمسة وعشرين ألفاً وثمان مائة شخص من الأثرياء، قدرت ثروتهم بترليون دولار أي ألف ألف مليون دولار، وبحساب زكاتها نجد أن في كل ألف مليون خمسة وعشرين مليوناً، أي: أن مجموع زكاة هذه الأموال: خمسة وعشرون ألف مليون دولار، لو أخرجت هذه الزكوات وصرفت في مصارفها لم تبق الأحوال على ما هي عليه! ولكن للأسف فإننا نرى من يصرف على غناء ماجن وعلى تسويق داعر وعلى اختلاط آثم في هذه الأفراح ما هو أضعاف أضعاف ما يمكن أن يكفي لعدة أسر لأعوام متعاقبات.
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27].
والإسلام دين الوسط {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29].(7/10)
إقامة المخيمات الصيفية صورة إيجابية
وأنتقل إلى صورة ثالثة لنرى فيها المفارقات، ونرى صوراً من الإيجابيات وكيف تواجه بالمخالفات والمعارضات، ففي صيفنا دائماً تجد المخيمات الدعوية، وهي مع تطورها أصبحت تشتمل على برامج متنوعة، لا تكتفي بالمحاضرات ولا تقتصر على الندوات، ولا تطعم برامجها بالأمسيات الشعرية فحسب، بل تزيد إلى ذلك فقرات ترفيهية وأنشطة رياضية ومسابقات ثقافية، وتشتمل على برامج للرجال وأخرى للنساء، وثالثة للأطفال والأبناء ويشهد لنجاحها وتنوعها وتأثيرها وإيجابيتها أمور كثيرة، منها كثرة الإقبال عليها، وقد جاء في إحصائية المخيم الدعوي الذي كان يعقد في المطار القديم أنه بلغ عدد الذين زاروه خلال أسابيعه الخمسة ثمانمائة ألف إنسان رجالاً ونساءً.
وهذا شيء يشرح الصدر ويدل على الخير والإقبال عليه، ويدل على أن هذه البرامج كان فيها من التشويق والتنوع والإفادة ما جعل هؤلاء يقبلون عليها.
وثانياً: وهي شهادة قررها محافظ هذه المحافظة ومدير شرطتها والمسئولون فيها في دور هذه المخيمات في مكافحة المخدرات وإقلاع الشباب عنها، فبسبب البرنامج الشهير الذي كان يجذب هؤلاء الشباب الذين ربما لا يأتون إلى المساجد في المحاضرات ولا تعجبهم بعض تلك البرامج التي يصفونها بأنها متشددة أو منغلقة، جاءوا بالآلاف وأقلعوا أمام الناس وعلى مرأى منهم ومع الكاميرات التي صورتهم؛ أقلعوا عن التدخين، وأقلعوا عن استخدام الحبوب المخدرة، ورأى ذلك المسئولون في الأمن وأشادوا به وعرفوا به.
وصورة ثالثة أيضاً: وهي ما يتعلق بالإيجابيات التي تدفع إلى سلوكيات أخرى، فثمة مسابقات في البحوث، ومسابقات في الأسئلة والأجوبة تدفع أبناءنا في هذه الأوقات إلى أن يقرءوا وأن يطلعوا.
والقراءة قد دفنت فلا نكاد نجد من شبابنا قارئاً يحسن قراءة نص من النصوص أو يحفظه، أو يقرأ التاريخ أو غير ذلك.
هذه جوانب أخرى غير الجوانب الأساسية في هذه البرامج، فكم في هذا من خير وكم في هؤلاء الثمانمائة ألف -وهم في برنامج واحد ومخيم واحد- من انتفعوا بكلمة بارك الله فيها، وعرفوا حكماً كانوا جاهلين به، ومنهم من تحمسوا إلى عمل وبذل كانوا معرضين عنه، ومنهم من أقلعوا عن إثم ومحرم كانوا مرتكبين له.(7/11)
تشويه المرجفين والدخلاء للمخيمات الصيفية والمتدينين
ثم يأتينا اليوم كما أتانا من قبل من يقول: إن هذه المخيمات تفرخ الإرهاب وتنتج القتل والتدمير! ويقول لنا: إنها تمثل أحادية الرأي وتسلط الفكر وقهر الآخر، وتجعل الناس يقطبون وجوههم ويعبسونها فلا تكاد ترى فيها ابتسامة ولا تسمع كلمة طيبة.
وأجزم جزماً أن واحداً من هؤلاء لم يدخل مثل هذه المخيمات ولم يعرف برامجها، وقد قرأت اليوم نصوصاً من صحافة اليوم تحدثنا عن بعض هذه الصور مقرونة بجانب آخر وهو جانب التعليم والمدارس.
فهذا كاتب يقول عن بعض البرامج التي قدمت في المدارس لكي تكون فيها مواطن عظة وعبرة وفيها صور أخرى لم يذكرها من مواطن الترفيه والتنشيط؛ فيذكر لنا ويقول في سياق النشاط الذي يقدم في المدارس ناهيك عن تلك الأفلام التي تعرض في مدارس البنات أيضاً، وفيها تصوير لمجازر ومشاهد الذبح والقتل والدمار وأفظع الجرائم التي ارتكبت في البوسنة والهرسك والشيشان، ثم يعلق مباشرة ويقول: ألا تؤدي تلك المشاهد إلى تكريس الكراهية للآخر في نفوس النشء ودون تمييز؟! ثم يقول: لأنه لا يقابلها ثقافة إيجابية توفر لهم معرفة حقيقية بالآخر! يرى أن تعريف أبنائنا بجرائم الأعداء وضرب أمثلة اجتمعت البشرية كلها -إذا صح التعبير- على إنكارها؛ غير ملائم ولا مناسب.
ثم يقول: إنه تذكر أيام كان طالباً في المدرسة، يقول: وكانت لدينا جمعيات مختلفة: جمعية للعلوم وجمعية للرياضيات وجمعية للتوعية الإسلامية، ثم يخبرنا عن هذه الجمعيات فيقول: كانت مجرد أسماء وكانت تتعرض للعطل وتتوقف عن العمل، وكأنها آلة ليس لها إلا هيكل من الخارج ولا محرك لها من الداخل.
ثم ينتقل إلى جمعية التوعية الإسلامية فيقول عنها: كانت شديدة النشاط قوية الهمة تنظم المخيمات وتقيم المحاضرات، وتلقي الخطب وتوزع الأشرطة كما كانت تتخذ لها مقراً داخل المدرسة.
وكأنه بهذه المقارنة يدين نفسه لكنه يستدرك ويقول: كنت أمر بجانب هذا المقر وأرى فيه من الداخل صخوراً وصوراً توحي بأنك في كهف مظلم وإضاءة خافتة! ويقول: إني لم أدخل هذا المكان؛ لأنه كان يعبر عن شيء من الخوف والرهبة! لست أدري ماذا يقول هؤلاء وما الذي يريدونه لأبنائنا إذا كان هذا تفكيرهم وتصويرهم الذي لا أعتقد أنه مبالغ فيه فحسب، بل أعتقد أنه مجانب للحقيقة، فأي مقر لنشاط مدرسي فيه صخور وظلمة وفيه مثل هذا الذي يصور ويقال؟! وهكذا نجد مثل هذا في كتابة أخرى تصور لنا صراع الأجيال، وتصوروا أن هذا الوصف الذي يكتب في صحافتنا يبين فيها اختلاف الأب عن جيل جديد من الأبناء سماه هو: جيل (استر أكادم) وجيل الفضائيات، وجيل الإنترنت، وجيل ثالث هو الجيل المفكر فكراً انحرافياً حداثياً انكسر من قبل، ويزعم ويقول: إن في كل بيت من بيوتنا هذه الأصناف الثلاثة.
وأجزم بأنه مخطئ قطعاً وأن الوجود الذي يصفه وجود محدود لو شئنا أن نبحث لوجدنا النسب تشهد بغير ذلك.
يقول في وصفه للأب: سنجد في البيت أباً متديناً يلبس الثياب القصيرة ويصلي الصلوات كلها في المسجد وله المرجعية الدينية التي يتعامل معها ومع أحاديثها على منزلة التقديس؛ محافظاً على كل ما تشير به هذه المرجعيات من القيم والالتزامات الدينية والخلقية.
إنه في هذا الوصف يعطينا وصفاً لا نرى فيها عجباً، بل نراه هو الوصف الطبعي، وكما قلت من قبل: لم لا يكون المسلم متبعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! ولم لا يكون معظماً ومقدراً لعلماء الأمة ومستمعاً ومصغياً إليهم؟! ويقولون لنا: إن الإرهاب سببه عدم شيوع العلم وعدم الاستماع إلى العلماء! ولم لا يكون الإنسان مصلياً كل صلواته في المسجد، وهل بنيت المساجد لغير ذلك؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه- في صفة المسلم أنه يلبي الصلوات حيث ينادى بهن؟! أي: في المساجد، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم كما صح من حديث أبي هريرة (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة في المساجد فأحرق عليهم بيوتهم؟).
ألم يكن من دلائل النفاق -كما نص على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- عدم الحرص على أداء الصلوات في الجماعة؟! ألم يقل الصحابة: كان لا يتخلف عنها -أي: العشاء والفجر- إلا منافق معلوم النفاق؟! فيصور هذا على أنه مدرسة قديمة، ثم يصور لنا جيلاً جديداً ووصف لنا شعره ووصف لنا لباسه، ووصف لنا تعقله، ثم يأتينا بالحكم، وتأملوا هذا الحكم بنصه كما نشر؛ يقول: الذي سينتصر حتماً جيل التكنولوجيا والاتصالات، وهو القادم والآخران مدبران، وهو الآتي ومعه مفاتيح الزمن ومعطياته.
ويصور لنا أن كل متدين ملتزم لا يعرف الكمبيوتر والحاسب الآلي ولا يعرف العلوم الحديثة، ويعيش في العصور الوسطى ويعيش في الكهف الذي صوره لنا في مدرسته كما يزعم.
والواقع يشهد بخلاف ذلك، فدورات القرآن اليوم تدرس الحاسوب، ومخيمات الدعوة تقدم الدورات التدريبية والعلمية الحديثة، وتشهد بكذب هذه الادعاءات وزورها وأنها إنما تعبر عن خيالات وأوهام في رءوس أصحابها، أو عن مرض في نفوسهم وقلوبهم، أو عن عمالة! ولا ندخل في نياتهم، لكن واقعنا يشهد بغير ما يطرحونه وما يصورونه.
وهنا ينبغي لنا أن نقف هذه الوقفة المهمة ونحن على أبواب الصيف، إما الإهدار وإما الاستثمار؛ فثمة أوقات كثيرة وطاقات عديدة وبرامج متنوعة وصور للاستثمار ينبغي أن يحرص عليها، أسأل الله جل وعلا أن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يحفظ علينا وعلى أبنائنا وبناتنا الأوقات والطاقات، وأن يسخرها في الطاعات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(7/12)
قبل أن نقول: الصيف ضيعت اللبن!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى بشكل عام اغتنام الأوقات وعمرانها بالطاعات، والحذر من الغفلة، والإسراف في الشهوات.
وهنا أستحضر بعض أمثلة العرب ومن أشهرها فيما يتعلق بموضوعنا: (الصيف ضيعت اللبن)! قد نقف بعد عدة أشهر وقد انتهى الصيف وقد يقول بعضنا لنفسه: (الصيف ضيعت اللبن)! أي: ينقضي الوقت ويمر على الأبناء والبنات والآباء والأمهات والمجتمع، ونرى ما نراه في كل عام من سهر حتى انشقاق الفجر، ونوم حتى انتصاف النهار، وتبديد للطاقات بلا فائدة ولا نفع، ونصدق أيضاً عندما نجد بعض الأمور المؤلمة من الحوادث المرورية أو من الجنايات الأخلاقية، ونشكو منها عموماً وفي الصيف خصوصاً، وأقول حينئذ: يداك أوكتا وفوك نفخ، فأنت الذي أسهمت في هذا وكنت عاملاً من عوامله.
فينبغي لنا ونحن في هذه الأوقات قبل بدء الإجازات أن نحزم أمرنا وأن نرتب أوقاتنا وأن نجتمع بأبنائنا وبناتنا، وأن نفتح لهم القنوات، وأن نحثهم على النشاطات، وأن نجعل بيوتنا وكأنها مخيمات أو مراكز صيفية، ولنجعل بعض المسابقات بين الأبناء والبنات، ولنجعل بعض البرامج الترفيهية؛ لئلا تستولي عليهم القنوات والتجمعات وغير ذلك من الأمور التي تعلمونها وتعرفونها.
وكما قلت: نسبة الإهدار عظيمة وعظيمة جداً، ولعلي أحث مرة أخرى على أن نتبنى جميعاً في هذا الصيف برامج تتعلق بتربية أبنائنا على تعظيم وتقديس القرآن من جهة، وعلى خدمته ونشره والدعوة إليه من جهة أخرى، ويكفي أن أقول لكم: إن بلاداً مسلمة عربية فضلاً عن غيرها من البلاد الإسلامية لا يوجد لكل مسلم فيها مصحف، بل إن في بعض بلادنا العربية يمزق المصحف تمزيقاً حتى يوزع بين عدد من الأسر؛ لأنه لا توجد أعداد كافية من المصاحف، وقد يكون في بيوتنا فائض يمكن أن نوجهه إلى من ليس عندهم أو إلى من يحتاجون إلى ذلك.
خذ وفكر في أي مجال نحول هذا السلوك الذي نستنكره بقلوبنا ونصيح فيه ونجعجع حوله بألسنتنا ولكننا لا ننشئ شيئاً مقابلاً وتياراً معاكساً، ويكفي أن أقول: إنما حدث من هذه الأحداث ينبغي أن يشكل برنامجاً عملياً لكل فرد في الأمة لنصرة القرآن من الناحية العملية في نفسه وسلوكه وأسرته، وفيما يقدمه لمجتمعه، فنحن أحياناً نزيد الصراخ ونزيد البكاء، لكننا في كثير من الأوقات لا نجيد العمل، فلماذا لا نتحول إلى العمل الذي نواجه به قصور أنفسنا وانحراف مجتمعاتنا وتفريط أبنائنا، وتغير أفكارنا، وشيئاً من شذوذ نفسياتنا.
كل ذلك نحن في حاجة إليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلا وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم تولَّ أمرنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، اللهم أنزل علينا من رحماتك وأفض علينا البركات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا وأبناءنا وبناتنا بالإسلام قائمين، وأن تحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن تحسن ختامنا، وأن تجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن تجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم أنطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحضه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها وسلمها وإسلامها وسعة عيشها ورغد رزقها يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الإسلام والمسلمين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً؛ أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين؛ اللهم امسح عبرتهم وسكن لوعتهم وفرج همهم ونفس كربهم وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم وزد إيمانهم، وعظم يقينهم واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعل ذلك فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء! اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(7/13)
خطبة عيد الفطر
نِعَمُ الله عز وجل علينا كثيرة، وفضائله تجاهنا وفيرة، فيجب شكر الله سبحانه وتعالى وحمده عليها، ويجب أن يحذر المسلمون كل الحذر من مقابلتها بالذنوب والمعاصي، فإن الذنوب والمعاصي تزيل النعم، والنعم إذا شُكرت قرت، وإذا كُفرت فرت.(8/1)
كثرة نعم الله عز وجل وأهمية استشعارها
الحمد لله، الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، والله أكبر كبيراً.
الحمد لله خلق كل شيء وقدره تقديراً.
الله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر كلما صلى مؤمن وأناب.
الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب.
الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الحمد لله على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: معاشر المؤمنين! العيد فرحة، والفرحة لا تكون إلا بالنعمة، والنعمة نعمتان: نعمة باطنة، وأخرى ظاهرة، نعمة معنوية وثانية حسية، نعمة روحية وأخرى بدنية، ولقد أتم الله علينا نعمته، وزادنا من فضله، فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً.
إن المتأمل من أهل الإيمان يستشعر عظمة نعمة الحق سبحانه وتعالى في نعمة الإيمان والإسلام، ونعمة الطاعة والعبادة، ونعمة الأمن والأمان، ونعمة الرزق ورغد العيش، ونعم أخبر الله جل وعلا أن أحداً لا يستطيع حصرها، ولا يمكن أن يقدر قدرها، ولا أن يوفيها حق شكرها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].(8/2)
الفرحة بالعيد
أحبتنا! إخواننا! أهل ملتنا وديننا! العيد فرحة عظمى؛ لكنها فرحة دين، لكنها فرحة طاعة، لكنها فرحة عبادة، قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، فلا تخرج أفراحنا عن ديننا، بل إن ديننا هو سبب أفراحنا، فما من عيد إلا بعد ركن وطاعة وعبادة من العبادات العظمى التي تجمع أهل الإسلام والإيمان في كل الأقطار على صفة واحدة وهيئة واحدة، فما أجلها من نعمة! وما أعظمها!(8/3)
أهمية التأمل في نعمة الإسلام والإيمان
تأمل أخي! هذه النعم: نعمة الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، والله جل وعلا يسوق لنا النعم في سياق منته وفضله سبحانه وتعالى علينا، كما قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، أليست نعمة الإيمان نشعر بها طمأنينة قلب، وسكينة نفس، وهدوء بال، واستقامة جوارح، وبركة رزق، ورغد عيش، وخيراً كثيراً ليس له أول ولا آخر؟ ألسنا نشعر بهذه النعم ونستحضر قول الحق جل وعلا: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]؟ إننا نستشعر هذه النعمة كلما رأينا قسوة القلوب، وظلمة النفوس، وضلال العقول، وانحراف السلوك فيما نراه في هذا العالم من حولنا يموج بالكفر، ويفيض بالعهر والفسق نسأل الله عز وجل السلامة! فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53].(8/4)
وجوب شكر النعم بالقول والفعل
وحتى تستشعر هذه النعم تحتاج منك إلى ذكرها، وتحتاج منك إلى شكرها، قال عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فمن أراد هذه النعمة أن تبقى وأن تحفظ، وأن تزاد وأن تضاف؛ فإن طريق ذلك شكرها، وشكر النعم يكون في الباطن إقراراً واعترافاً ورضاً وتسليماً، ويكون شكر النعم في الظاهر قولاً وإظهاراً لها وإشهاراً لها وإعلاناً بها، فنحن نؤذن كل يوم، ونردد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة، ونذكر الشهادتين في كل الأحوال تحدثاً بنعمة الله وإظهاراً لها.
ثم بعد ذلك يجب شكر النعم بالأفعال، قال عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فتلك هي ما ينبغي لنا أن نحرص عليها، وأن نتواصى بها، وأن يكون لنا حظ دائم منها؛ عل الله عز وجل أن يزيد لنا فضله، ويضاعف علينا نعمه، ويواصل بنا لطفه سبحانه وتعالى.(8/5)
نعمة الاستقامة، وأهمية الاستمرار عليها
ونحن في هذه الديار قرب مهبط الرسالة العظيمة ومثوى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نشعر بهذه النعمة، فلا نرى في جملة أحوالنا ما يناقضها ولا ما يعارضها، ولا ما يخالفها أو ينحرف بها عن مسارها، وتلك نعمة عظمى يعرفها من رأى غيرها في بلاد الإسلام المختلفة.
فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، نحمد الله على نعمة الطاعة والعبادة، ففي رمضان كان القرآن يتلى في المحاريب، وكانت المساجد تغص بالمصلين، وكان الإنفاق في كل الأحوال وفي سائر الأوضاع، وكانت القلوب لله عز وجل خاشعة، والعيون من خشيته سبحانه وتعالى باكية، والأيدي تسأل من عطائه ضارعة، فالله الله! في هذه النعمة أن نقدر قدرها، إنها نعمة يحرم منها كثير من الناس، فنعمة الطاعة والتوفيق لها، ونعمة العبادة والاستقامة عليها من أعظم نعم هذه الدنيا التي تنفعنا في الآخرة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
ولما طلب بعض الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجز خلاصة الإسلام كله قال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، فهي نعمة عظمى كما قال الحق جل وعلا: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:162] كل هؤلاء في سياق واحد: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:162].
إنها نعمة عظيمة ينبغي أن نستشعرها إذا استشعرنا غيرها، إذا استشعرنا يوم مرض أقعدنا عن الطاعة، أو استشعرنا شبهة شوشت علينا الاستقامة، أو وقعنا أسرى لشهوة أغرقتنا في معصية.
فكم نرى من الناس أسارى شهواتهم! وكم نرى من الناس قاعدين مع ضعف نفوسهم وهممهم! وكم رأينا المساجد ممتلئة وكانت الأسواق بالناس غاصة! أليس أولئك محرومين من تلك النعمة؟! أليس الذين شغلوا بالأدنى عن الذي هو أسمى قد فقدوا خيراً كثيراً، وحرموا نعمة عظيمة؟! إنها نعمة ينبغي لنا أن نتدبرها، وأن نتأملها، وأن نذكرها، وأن نشكرها، وليس شكرها إلا بالاستقامة عليها، فينبغي ألا تعود المساجد خاوية بعد أن كانت ممتلئة، وألا تعود المصاحف مهجورة بعد أن كانت متلوة، وألا تعود الصلات منقطعة بعد أن كانت ممتدة، فلا ينبغي أن نرتد على أعقابنا خاسرين، ولا ينبغي لنا أن نبدد ما أكرمنا الله عز وجل به من الخيرات وما ضاعف لنا من الحسنات فنمحقها بالمخالفات، ونبيدها ونضاعف أضعافها مما يعاكسها ويناقضها من السيئات، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا لذكر نعمته وشكرها، والحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً!(8/6)
نعمة الأمن والأمان
نحن أيضاً في نعمة أمن وأمان، نعمة نتفيأ فيها ظلال الطاعة والقلوب مطمئنة، والنفوس مستقرة، والأحوال هادئة، والأهل والأولاد محيطون، فتأمل هذه النعمة! لو رأيتها وحدها لرأيت أن كل ما في الدنيا لا يقدر مقدارها؛ بل لا يأتي عشر معشارها، فكيف بما هو سابق لها من تلك النعم كالإيمان والعبادة والطاعة؟! قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، ألسنا نرى أحوال إخواننا في العراق؛ لا يأمن أحدهم على نفسه، لا يستطيع أن يجتمع بأهله، لا يدري إذا خرج هل يرجع إلى سربه؟! ألا نتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وذكر أهل العلم في تفسير قول الله عز وجل: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة:20] قالوا: من كان له سكن وخادم، وعنده قوت يومه فهو ملك.
فكلنا أو جلنا ملوك بفضل الله عز وجل.(8/7)
التحذير من ازدراء نعم الله عز وجل والتذمر منها
يأتي من ينظر إلى شيء من تعسير أو قلة ذات يد فإذا به يجحد، وإذا به يتذمر، وإذا به يعترض على قسم الله عز وجل، وينسى النعم العظيمة الكثيرة التي عليه.
إننا نعرف وندرك أن أربعة وخمسين ألفاً في غضون أيام قلائل ماتوا في زلزال باكستان، ويتبعهم أكثر من سبعة وسبعين ألفاً من الجرحى، وما يقرب من أربعة ملايين من المشردين، إننا نسمع التقارير عن أربعة ملايين ونصف مليون من الأيتام في بلد واحد! فأين هذا كله مما نحن فيه من نعم الله عز وجل؟ فكيف تجحد وتنسى؟ ألا نتذكر وننتبه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم من رواية أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
قم بزيارة هذا اليوم إلى إحدى المستشفيات، فستحمد الله أنك تمشي على قدميك، وأنك تبصر بعينيك، وأنك تأكل الطعام فتستلذه، ولا يصيبك شيء مما لو قلت لأحدهم: ما تريد؟ لقال: عافية بدني وصحة جسدي.
أفليست هذه نعماً؟! وقد روى هذا الحديث الترمذي بلفظ أكثر وضوحاً وجلاءً من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من فُضل عليه في الخلق والرزق -كما نرى اليوم ونقول: هذا عنده السيارات، وعنده الفلل والقصور، وعنده الأموال- فلينظر إلى من أسفل منه -ممن فضل هو عليه- فإنه أجدر ألا يزدري نعمة الله عليه).
فكم هذه النعم تحتاج منا إلى أن نتذكرها وأن نشكرها! وكم هي نعم الله سبحانه وتعالى وفيرة! فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.(8/8)
أهمية إظهار نعم الله عز وجل
إن نعم الله عز وجل الكثيرة تحتاج منا إلى أن نذكرها، وألا نضيق على أنفسنا، فنحن لا نقول ذلك لكي يكون هناك شيء من عدم إظهار نعمة الله؛ كلا، فقد روى أبو داود والنسائي في سننهما والإمام أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل عليه رجل في ثوب دون -أي: غير حسن، وغير مناسب- فقال له صلى الله عليه وسلم: ألك مال؟ فقال الرجل: نعم؛ من كل المال.
فقال: ما هو مالك؟ قال: الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق.
فقال صلى الله عليه وسلم: إذا آتاك الله مالاً فلير عليك أثر نعمته وكرامته).(8/9)
تحريم استخدام نعم الله عز وجل في الحرام
قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، لكن بطراً أو أشراً أو تبذيراً يحصل من الناس في مثل هذه الأيام؛ وكأنما هو عدم إقرار بهذه النعم، أو كأنما هو -والعياذ بالله- استجلاب لمحقها؛ إذ توضع في غير موضعها، وخاصة إذا استغلت النعمة فيما حرم الله، فمن أنفق مالاً ليقتني ما حرم الله، أو ليدخل إلى الأماكن التي فيها ما حرم الله، أو ليعين على شيء مما حرم الله فإنه قد جحد أعظم جحود لنعمة الله يوم جعلها في معصية الله التي آتاه الله إياها.
وعجباً لأمر الناس! خير الله إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد! يتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي! ونعمتنا أن أفراحنا دين وعبادة وطاعة، كما قال عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].(8/10)
فضل صيام ست من شوال
إننا في العيد نصل عبادة رمضان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله).
إننا نصل عبادة بعبادة، وطاعة بطاعة، وبينها ومعها فرح بنعم الله عز وجل كلها ظاهرة وباطنة، فرح نعلن فيه إقرارنا بفضل الله، ونذكر فيه نعم الله، ونستقيم فيها على شرع الله عز وجل، ولا نقع في معصية الله، فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.(8/11)
نعمة النصر على هوى النفس والشهوات
كم هي النعم عظيمة! فالله الله! في هذه النعم الكثيرة الوفيرة، ومنها نعمة النصر.
وقد يقول أحدنا: أين هو النصر؟ إنه النصر الأول، إنه النصر الذي لابد منه في كل معركة، إنه انتصار المرء على نفسه وشهوته وضعفه وهواه، لقد كنتم منتصرين حين أعلنتم الحرب على الشيطان، وأعلنتم المعارضة للهوى، وأعلنتم رفض كسل النفوس وميلها إلى الأرض وإخلادها إليها يوم قمتم إلى الله طاعين، يوم ظللتم على مدى شهر كامل صائمين، يوم قطعتم يومكم ونهاركم ذاكرين ضارعين داعين، لقد أعلنتم أنكم بالإيمان تقهرون كل شيء، وتزيلون كل عارض، وتستطيعون بإذن الله عز وجل أن تنتصروا في كل معركة تواجهون فيها أعداءً حقراء من أولئك البشر الضعاف مهما كانت قوتهم، ومهما تسموا بالقوة العظمى أو الكبرى؛ فإن الله جل وعلا قد ذكر كل قوى الأرض في شطر كلمة فقال: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، فكلهم دون الله عز وجل، وكلهم لا يستحقون من أهل الإيمان إلا وقفة صدق مع الله عز وجل، و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، فالحمد لله على نعمة النصر على الهوى والشهوة، والحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً.
فاحمدوا الله على نعمه، واثبتوا على طاعته، واستقيموا على شريعته، والحمد لله رب العالمين.(8/12)
التحذير من كفر نعم الله عز وجل وعدم تذكرها
الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الحمد لله على آلائه ونعمائه، والشكر له على سرائه وعطائه، والصبر له على ما قدر وقضى من بلائه، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن نبيه ورسوله المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: معاشر المؤمنين! إن الله جل وعلا نبهنا أن نذكر نعمته فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:103]، ألم نر ماء الوصل يجري بين القلوب؟ ألم نر روح المحبة تسود بين الأقارب والأحباب؟ ألم نر تلك النعمة العظمى التي قال الله عز وجل عنها: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة:11] فاذكروها ذكراً عملياً كل ذلك تذكير بنعم الله عز وجل.
وينبغي لنا الحذر ألا نكون كحال من قال الله عنهم: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83]، أو كحال الذين بدلوا نعمة الله كفراً! وما ذكره الحق جل وعلا في ذلك عظيم جليل يحتاج منا إلى مثل هذا التدبر والتأمل؛ حتى نكون ظاهراً وباطناً على ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى.
إن هذه النعم الكثيرة التي قد فاضت وزادت وعظمت في شهرنا الذي مضى تستدعي منا أن نستنظر رحمة الله، وأن نستجلب نعم الله بفيض ذلك الذي كان في هذا الشهر الكريم.(8/13)
وجوب الاستمرار في أعمال الخير بعد رمضان
إن ما وجدناه من الخير والشعور بالرحمة، والإحساس بالنعمة إنما هو لذلك الإيمان والإخلاص والتجرد لله، إنما هو لتلك العبادة والإقبال على الله، إنما هو لذلك الذل والانكسار بين يدي الله، إنما هو لذلك التعلق والتشوق إلى مرضات الله، إنما هو لأجل التضحية والفداء والبذل في سبيل الله؛ فإن أردنا دوام ما أكرمنا الله به في رمضان فليكن لنا كل عامنا رمضان، وليكن لنا كل دهرنا رمضان، فإن تجديد رمضان بتجديد أعمار رمضان، وإن تجديد الخيرات والنعم التي أفاضها الله في رمضان بفعل الأعمال التي استوجبنا بها تلك النعم.
وينبغي لنا أن نؤكد مرات ومرات على أن النعم عظيمة، وأن كل نعمة تستدعي تدبراً وتأملاً خاصاً بها.(8/14)
وصية للنساء
وإلى أخواتنا المسلمات حديث توجه به النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب العيد ليخصهن بحديث لا يكون إلا لهن وحدهن، وكذلكم نفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، ونقول: أختي المسلمة ذات الصحة والعافية! ذات الجمال والبهاء والوضاءة! لا تجحدي نعمة الله عليكِ بالتبرج والسفور، أو بفعل ما يدعو إلى الفسق والفجور، أو بالتعلق بغير مرضات الله عز وجل بتلك الأنماط أو الصور التي يغري بها أهل الكفر أو أهل العهر مما تمتلئ به القنوات ووسائل الإعلام التي تريد اليوم أن تمسخ ما كان بالأمس، وأن تمحق كل خير أصابته نفوسنا، وكل نور أشرقت به قلوبنا، وكل طاعة استقامت عليها جوارحنا.
فالحذر الحذر! أخيتي المسلمة! من أن تكوني سبباً في ضرر نفسك، واستحقاق غضب ربك، أو فتنة غيرك، وإلحاق واستشراء الفساد في أهلك ومجتمعك.(8/15)
أهمية سؤال الله عز وجل حفظ النعمة وشكرها
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً.
نعم الله لا تُعد ولا تحصى، فاسألوا الله جل وعلا أن يحفظ علينا نعمه، وأن يوفقنا لشكرها، وأن يزيدنا منها بشكرنا عليها، وأن يجعل شكر نعمته نعمة تستوجب شكره عليها، لك الحمد ربنا على آلائك ونعمك التي لا تعد ولا تحصى حمداً كما تحب وترضى، أنت أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم أتم علينا نعمتك، وأوف لنا فضلك، وأكمل علينا نعمتك يا رب العالمين! نسألك اللهم المزيد من فضلك ونعمتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم يا أرحم الراحمين! نسألك في هذه الأيام المباركة اللطف بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى والمنكوبين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم.
اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تكون قد ختمت لنا رمضان بالمغفرة والقبول والرضوان، والعتق من النيران.
اللهم ارزقنا الاستقامة على الطاعات بعد رمضان، اللهم وارزقنا صلة رمضان بصوم التطوعات يا رحيم! يا رحمان! اللهم وفقنا في غير رمضان إلى الإنفاق في سبيلك، وإلى مد حبال الوصل لإخواننا في كل مكان.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تلطف بهم فيما تجري به المقادير، اللهم ثبتهم في وجوه الصهاينة المعتدين.
اللهم أخرج أولئك المجرمين من المسجد الأقصى أذلة صاغرين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(8/16)
في صحبة الإمام أحمد
المقصد من عرض سير العلماء والدعاة والمصلحين هو أخذ العظة والعبرة، والاستفادة من مواقفهم عند حلول الفتن، وكيف صبروا وثبتوا على الحق، وإن قتلوا وحبسوا وعذبوا.
وعندما يطالع المسلم تلك النماذج لا يسعه إلا أن يقتدي بأولئك الرجال الأفذاذ، ويصبر كما صبروا، ويرجو الثواب والأجر من الله.(9/1)
جولات وقبسات من مواقف وسيرة الإمام أحمد بن حنبل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذا موعدنا مع الدرس السابع والأربعين، وهو بعنوان: في صحبة الإمام أحمد، وهي صحبة كريمة مع إمام جليل، وغرض الصحبة أن ننظر في حاله، وأن نستمع إلى أقواله، وأن نقتبس من أفعاله، غير أنا جزماً لا نزعم أنا نحيط بسيرته، ولا نجمع جميع دروس وعبر مواقفه وأقواله وأفعاله، فإن المدعي لذلك كمن يدعي قدرته على أن يجمع ماء البحر في قارورة، فلو ادعى ذلك فلن يحظى إلا بقدر ملء هذه القارورة من ماء البحر، وحسبنا أن نغترف من بحر علمه وفضله وجوده وكرمه وجميع خلاله الحميدة، فإن في ذلك ما ينفع ويهدي بإذن الله عز وجل، في زمن قل فيه الثقات، وصعد فيه النكرات، واختلطت فيه الأولويات، وقل من الناس من عاد يميز بين الغث والسمين، ومن يفقه فقه أولئك الأئمة رحمة الله عليهم ورضوان الله عنهم، وكما قال القائل أقول: من أين أبدأ قولي أيها البطل وأنت أبعد مما تخطب الجُمَلُ كل القوافي التي استنصرتها وقفت مبهورة وبدا في وجهها الوجل ماذا نقول وصرح العلم شامخة أركانه وبناء المجد مكتمل ماذا تقول قوافي الشعر عن رجل كل يقول له هذا هو الرجل ولذلك حسبنا ومضات وقبسات من مواقف وسيرة الإمام الجليل أحمد رحمة الله عليه؛ وسنمضي بصحبة متنوعة، غرضنا منها أن نرى التمايز والبون الشاسع بينما كانوا عليه وما صرنا إليه، عل ذلك يقوي العزم على اقتفاء آثار السلف، وأن نفقه فقههم الإيماني، وأن نسلك سلوكهم القرآني، فنبدأ مع الإمام أحمد بعيداً عما تستلهمه التراجم من ذكر المولد والشيوخ والتلاميذ، وما يتعلق بالرحلة في طلب العلم ونحو ذلك؛ لأنا نريد أن نخلص إلى ما هو أكثر تأثيراً فينا واحتياجاً لنا بإذن الله عز وجل.(9/2)
الجولة الأولى: قبسات ومواقف من ورع الإمام أحمد
نمضي في جولة مع الصبي الورع، إذ كان رحمة الله عليه صفحةً بيضاء مشرقة، كتب الله له أن يكون على حظ وافر من النجابة والذكاء، ومن العلم والفطنة ومن الصفاء والطهارة منذ نعومة أظفاره؛ فهذه الروايات في ترجمته تذكر أنه كان في الكتاب كما يروي أبو عفيف أحد أقرانه يقول: كان معنا في الكُتّاب وهو غليم نعرف فضله، وكان الناس الرجال والنساء تأتيهم الكتابات والمراسلات ممن لا يعرفون الكتابة ربما أرسلوا إلى المعلم يقولون له: ابعث لنا أحمد بن حنبل حتى يكتب لنا، فكان يبعث لهم بـ أحمد بن حنبل وكان يذهب إليهم وهو مطأطئ الرأس من حيائه وغض بصره مع كونه صبياً صغيراً، فيكتب جواب كتبهم! فربما أملوا عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم، فهذا وهو صغير يأبى أن يكتب ما فيه منكر، بل كان يعف ويتورع عن ذلك.
وكان إبراهيم بن شماس يقول: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام صغير وهو يحيي الليل منذ نعومة أظفاره.
ومن القصص المؤثرة والدالة على حسن سمته وعظيم رعاية الله له سبحانه وتعالى ما ذكره داود بن بسطام حيث يقول: أبطأت علي أخبار بغداد أي: الأخبار والأحوال التي كانوا يتناقلونها ويكتبونها عبر البريد إلى الولايات وإلى المسئولين أو إلى الخليفة، قال: فوجهت إلى عم أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ لأن عمه هو الذي كان يبعث بالأخبار.
فقلت له: لم تصل إلينا الأخبار اليوم وكنت أريد أن أحررها وأوصلها إلى الخليفة، فقال لي: قد بعثت بها مع ابن أخي أحمد؛ ثم بحث عن أحمد وجاء به وقال له: أليس قد بعثت معك بالأخبار؟ قال: نعم، قال: فلأي شيء لم توصلها؟ قال: أنا أرفع هذه الأخبار قد رميت بها في الماء؛ لأن فيها من المنكر ومن الظلم فلا أرفع مثل تلك الأخبار.
رمى بها في الماء ولم ينتظر مشاورة ولا مراجعة، إنه يتورع وهو في سن الطفولة، قال ابن بسطام: هذا غلام يتورع فكيف نحن؟! فهذه القصة تدلنا على عظيم أثر التربية في الصغر، مع أنا نعلم أن الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) ومات والده وهو صغير ابن ثلاث سنوات، لكنه تربى تربية إيمانية صبغته بهذا النهج القوي منذ صغره.
وكما ذكر أبو بكر بن الأثرم قال: أخبرني من كان يطلب الحديث مع أحمد بن حنبل قال: ما زال أبو عبد الله بائناً من أصحابه؛ منذ صغره وهو متميز، وهذه الوقفة تدلنا على ما للتربية الإيمانية في الصغر من أثر ومن استقرار، وإذا ربي الصغير على هذه المعاني الإيمانية فإنها تصبح ملكةً ذاتية وطبيعةً نفسية وسلوكاً دائماً لا يخشى عليه بإذن الله أن يتغير؛ لأنه كما قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ومن شب على شيء شاب عليه.
فلذلك الإسلام أمر بتربية الصغير والعناية به من الصغر؛ لما لذلك من أثر في استقرار الكلمات والأفعال والصور في ذهن الصغير وإن لم يكن عاقلاً مدركاً، فإن من السنن عندما يستهل الوليد صارخاً أن يؤذن في أذنه اليمنى وأن يقام في أذنه الأخرى؛ حتى يكون أول شيء يسمعه في هذه الدنيا شهادة التوحيد والدعوة إلى الصلاة والفلاح، ثم يحنك، ثم تكون هناك من الأمور والدلائل في التربية ما يدل على أثرها وإن لم يكن الصغير يعقل معناها، كأن لا يكذب عليه كذبة -كما يقولون- صغيرة أو بيضاء أو نحو ذلك.(9/3)
الجولة الثانية: قبسات ومواقف من طلب الإمام أحمد للعلم
فنمضي مع الطالب المؤدب في جولة أخرى مع طلبه للعلم، لقد كان للإمام أحمد سمت فريد وصفة عجيبة في كمال التوقير لأهل العلم من مشايخه؛ ومن ذلك ما رواه عمرو الناقد قال: كنا عند وكيع وجاء الإمام أحمد بن حنبل، فجعل وكيع يصف من تواضعه ويثني عليه ويكرمه إكراماً عجيباً؛ لما له من منزلة ونجابة كان يعرفها الناس فيه وهو صغير، قال: فقلنا له: يا أبا عبد الله! إن الشيخ يكرمك فما لك لا تتكلم؟ فقال: وإن كان يكرمني فينبغي أن أجله.
أي: أن هذا الإكرام جعل عليه من الحياء ما ألجم لسانه، حتى يجل شيخه ولا يجاريه ويصبح مثله في المنزلة، وإن كان قد أفاض في مدحه وثنائه.
وقد قال قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ الإمام أحمد، وإن كان قد روى عن الإمام أحمد، فـ ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه (مناقب الإمام أحمد) عقد فصلاً لشيوخ الإمام أحمد الذين رووا عنه؛ لأنه قد بلغ منزلة عالية من العلم واحتاج الناس إلى علمه، فروى بعض شيوخه عنه، ومنهم: قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم.
يقول قتيبة: قدمت إلى بغداد وما كانت لي همة إلا أن أرى أحمد بن حنبل، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، فقلت: يا أبا عبد الله! اجلس مكانك، فقال: لا تشتغل بي إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه.
انظروا كيف جلس بين يديه جلسة الطالب مع أستاذه، وبعضنا في هذه الأزمان التي قل فيها مراعاة الأدب إذا أثنى عليه أستاذه أو كذا فأعطاه كلمة رد عليه بكلمة، وإذا وضع يده على ظهره مكرماً أو مبجلاً ربما فعل مثل فعل شيخه أو أستاذه، وهذا مما يدل على أن قضية الأدب والتوقير ليست على الصورة المطلوبة، وهذه دروس نقتبسها من الإمام أحمد رحمة الله عليه.
وهذه قصة تجمع كثيراً من أهل العلم مع الإمام أحمد قال إسحاق الشهيدي: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى منارة المسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني إمام أهل الجرح والتعديل، والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم حتى تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً له ولا يطلبون منه ذلك.
قد يقول القائل: في ذلك مبالغة! ولكن أقول: لا يجتمع أمثال هؤلاء على مثل هذه المبالغات تنطعاً أو تكلفاً؛ ولكنها سجية التوقير غرست في نفوسهم، والتعظيم للعلم ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل.
وتأمل هنا! قال: (ما رأيت أحفظ ولا أعلم بفقهه ومعانيه) أي أن العلم السلوكي والتربية الإيمانية قد اقتبسها الإمام أحمد مع الحفظ رحمة الله عليه.(9/4)
الجولة الثالثة: حسن تعامل الإمام أحمد مع أصدقائه
نمضي مع الجولة الثالثة: كيف كانت علاقته وحسن تعامله ولين جانبه مع أصدقائه ولطافته في المعاملة! فإن بعض الناس يظن أن العلم والوقار يقتضي التجهم وعبوس الوجه وتقطيب الجبين أو نحو ذلك وما ثمة شيء، بل ينبغي أن يكون لكل مقام مقال ولكل موضع حال؛ فهذا الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة أهل العلم ومن أئمة الإسلام يقول: زرت أحمد بن حنبل فأجلسني في صدر داره وجلس دوني، قال: فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال: صاحب البيت أحق بصدر بيته؟ كما قد يحتج بعض الناس دائماً ببعض النصوص في كل موضع، ولا يعرف الحال الذي قد لا تكون معارضة للنص.
فقال الإمام أحمد مباشرة: نعم، يقعد ويقعد فيه من يريد؛ إكراماً له وإجلالاً واستضافة، قال: فقلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيدة فائدة.
إذاً: كان الواحد من السلف يأتي للزيارة لا لمجرد المتعة والفكاهة والكلام والمزاح، وإنما كان يأتي لغرض المذاكرة والانتفاع، فقال في نفسه: خذ إليك فائدة.
قال: ثم قلت: يا أبا عبد الله! لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم.
أي: لو أنني أزورك على قدر مرتبتك وحقك لكان واجباً علي أن أزورك كل يوم، كأنه يعتذر من قلة زيارته على عظيم قدره.
فقال له أيضاً على البديهة: لا تقل هذا، إن لي إخواناً لا ألقاهم إلا في كل سنة مرة، وأنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم.
أي المهم أن تعرف صدق المحبة وصدق التعامل وحسنه، وليس الغرض هو كثرة الزيارة ودوامها؛ فإن ذلك ليس بالضرورة.
فقال: أبو عبيد: فقلت في نفسي: خذ أخرى يا أبا عبيد، هذه الثانية، قال: فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله.
كما يفعل بعض الناس الآن عندما يودع ضيفه يقول: في أمان الله، كأنه يطرده من بيته.
قال: فقام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه؛ قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة.
فاستفاد أبو عبيد هذه الثلاث من الإمام أحمد؛ بسبب حسن التعامل مع الزائر والتودد له وهذا من أسباب توطيد عرى المحبة والمودة بين القلوب.(9/5)
الجولة الرابعة: مواقف من خوف الإمام أحمد من الله عز وجل
نمضي مع الخائف الوجل الإمام أحمد رحمة الله عليه، يقول عبد الله: سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا لي ولا علي.
هذا الذي كان طاهر الذيل نقي النشأة حافظاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يعلم ويوقن عظمة المهمة والواجب الملقى على عاتقه، ويعلم قصور العبد وقلة حيلته، ويعلم عظمة الرب وعدم القدرة على إيفاء حقه سبحانه وتعالى، فيقول: وددت أني نجوت كفافاً لا لي ولا علي.
وكان إذا دعا له رجل يقول: الأعمال بخواتيمها.
وكثيراً ما كان يسمع منه قول: اللهم سلم سلم؛ لأن القلوب الخائفة الوجلة مهما عملت فإنها تبقى على وجل من عدم القبول، أو على وجل من أن تكون الأعمال دون الصور المطلوبة ودون المنزلة المرجوة، ولذلك كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] حين نزلت هذه الآية قالت عائشة: (يا رسول الله! الرجل يشرب الخمر ويزني ثم يخاف؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه) هذا حال أهل الإيمان، يقول الحسن البصري رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف منكم ألا تقبل حسناتهم من خوفكم أن تحاسبوا على سيئاتكم.
فهم في خوف عظيم أكثر من خوفنا من سيئاتنا، خوفهم أعظم ليس من السيئات لكن من عدم قبول الحسنات، وهذا لا يكون إلا مع استحضار عظمة الله عز وجل، وفهم الحق الواجب له سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل الإمام أحمد: كيف أصبحت؟ قال مقالة عجيبة فريدة تدل على عظيم ما كان يفقه من دين الله وما يحمل من أمر الله؛ قال: كيف أصبح مَنْ ربه يطالبه بأداء الفرائض، ورسوله يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يطالبه بقبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟! كلها أمور يحتاج الإنسان فيها إلى مجاهدة واستقامة على أمر الله، واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحر للإخلاص وصدق التوجه لله عز وجل، وبراءة من شهوات النفس ومجاهدة لها، محاربة لإغواء الشيطان وتزيينه.
وفوق ذلك كله انتظر الموت على وجل وخوف؛ ولذلك كان رحمة الله عليه مع ما له من قدم سابقة في العلم والعمل كان دائماً يستحضر عظمة الله عز وجل، والواجب الذي ينبغي أن يكون له، فيرى أن على الإنسان المسلم ألا يكون مطمئناً ولا واثقاً ولا آمناً من مكر الله وعذاب الله سبحانه وتعالى.(9/6)
الجولة الخامسة: مواقف من وقار وهيبة الإمام أحمد
نمضي في جولة مع الرجل الوقور، فقد كان رحمة الله عليه مع خوفه لله عز وجل ومع حسن تعامله مع الناس وقوراً يهابه الناس، فحتى إن شيوخه وأهل العلم والتقوى وأهل الإمامة في الدين كانوا يراعون الإمام أحمد ويهابونه ويوقرونه.
فهذا يزيد بن هارون وهو من أعظم شيوخه ومن كبار أهل العلم، قال أحد التلاميذ: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه الذي يملي عليه الحديث فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب يزيد على خده كالمتأسف وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح.
لقد كان الإمام رحمة الله عليه أعظم وأشد توقيراً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وللعلم.
وعن أحمد بن شيبان قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لـ أحمد بن حنبل، ولا رأيته أكرم أحداً إكرامه لـ أحمد بن حنبل، وكان يوقر الإمام أحمد ولا يمازحه أبداً.
وقال أحدهم: كنا عند إسماعيل بن علية فتكلم إنسان فضحك بعضنا وثم أحمد بن حنبل -أي: جالس معهم- فأتينا إسماعيل بعد ذلك فوجدناه غضبان فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل.
من شدة هيبته ووقاره رحمة الله عليه.
وهناك قصة لطيفة تدل أيضاً على سمت الإمام رحمة الله عليه: يقول أحمد بن منصور: صحبت الإمام أحمد ويحيى بن معين وكنت خادماً لهما في رحلتهما لطلب الحديث عند عبد الرزاق، ولما رجعا ذهبا إلى أبي نعيم، قال ابن معين: أريد أن أختبر أبا نعيم وحفظه، فقال له الإمام أحمد: لا تفعل فإنه حافظ ثقة، فقال: لا بد لي من ذلك، فعمد إلى ثلاثين حديثاً وجعل في كل عشرة منها حديثاً ليس من حديث أبي نعيم، ثم ذهب ثلاثتهم إليه، فخرج إليهم وجلس معهم على دكة طين عند باب بيته أو قريباً من بيته، فجعل يقرأ عليه أول أحاديثه، فلما جاء إلى الحديث المغلوط قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثاني قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثالث فقال: هذا ليس من حديثي، ثم بعد ذلك التفت إلى الثلاثة وقال موجهاً حديثه إلى الإمام أحمد: أما هذا -أي: الإمام أحمد - فأورع من أن يفعل هذا، وأما هذا -يعني: أحمد بن منصور - فأقل من أن يفعل هذا يعني: لا يعرف مثل هذه الأمور.
ثم قال: ما فعلها غيرك يا فاعل، قال: ثم رفسه حتى أسقطه من الدكة، فقال الإمام أحمد لما انصرفوا لـ يحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك: إنه ثبت؟ قال: والله لرفسته أحب إلي من سفري.
وهذه القصة من كتيب لطيف اسمه (من لطائف المحدثين).(9/7)
الجولة السادسة: مواقف من تعظيم الأئمة للإمام أحمد
نمضي بعد ذلك عندما تحقق للإمام أحمد هذه الجوانب كلها من ورع في الصبا، وأدب في العلم، ووقار في الرجولة، وحسن تعامل مع الأصدقاء والقرناء، صار حينئذ إماماً وقدوة، فنمضي معه وهو قدوة الأئمة فنرى أن المقتدى بهم يقتدون بالإمام أحمد، وأن المعظَمين لعلمهم وفضلهم يعظمون الإمام أحمد رحمة الله عليه.
فهذا علي بن عبد الله بن جعفر يقول: أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة في كل يوم وهو يزداد خيراً.
لو أن شخصاً خلال خمسين يوماً فقط يزيد في كل يوم عملاً من أعمال الخير لا شك أنه سيأتي بعد هذه الأيام الخمسين وقد تحول تحولاً كبيراً في حياته.
ويقول يحيى بن معاذ: أراد الناس أن أكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا أكون مثل أحمد أبداً.
يعني: أنه لا يطيق؛ لأن الإمام أحمد قد بلغ منزلة عظيمة في كل باب من أبواب الخير، حتى انقطعت دون اللحاق به الرقاب.
وكان بشر بن الحارث من قرناء الإمام أحمد، وقد ذكر عنه كثير من الأقوال التي تبين تبجيله وتوقيره للإمام أحمد وإبراز إمامته على الأئمة، فها هو يقول عندما ابتلي الإمام أحمد وثبت: إن هذا الرجل قام اليوم بأمر عجز عنه الخلق، أرجو أن يكون ممن نفعه الله بالعلم.
وقال أيضاً: أحمد إمام من أئمة المسلمين.
ثم لما جاءوا إليه قالوا له: أنت تقول بقول أحمد فلماذا لا تعلن قولك وتقف موقفه؟ فقال: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء، إن أحمد قام مقام الأنبياء.
ولما بلغه أن الإمام أحمد ضرب بالسياط مد بشر رجله وخاطب ساقه قائلاً: ما أقبح هذه الساق ألا يكون فيها القيد نصرة لهذا الرجل، ولكنه قال: هذا مقام النبيين لا أستطيع أن أقومه.
هذا مما يدل على أن الإمام أحمد وقف وقفة لم يقفها مثله من العلماء والأئمة، وإن كان ذلك ليس جرحاً فيهم ولكنه علو في منزلة الإمام رحمة الله عليه.
وهذا أبو زرعة جمع لنا هذا كله في كلمات وجيزة حيث قال: ما رأت عيني مثل الإمام أحمد، فقال له السائل: في العلم؟ فقال: في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل شيء.
وهذا الإمام البويطي رحمة الله عليه من تلامذة الشافعي سجن في المحنة وكتب من سجنه وقال في كتابه: إني لأرجو أن يجزي الله عز وجل أجر كل ممتنع في هذه المحنة لسيدنا الذي ببغداد.
يعني: الإمام أحمد؛ لأنه هو السيد المبجل المقدم في هذا الأمر، وكل من وقف وقفة في هذه المحنة فإنما كان يقتدي بالإمام أحمد؛ فهو الذي كان مقدماً في هذه المحنة.
وقال بشر عن الإمام أحمد: أحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، فكان فيها مستعصماً بالله عز وجل، تداوله المأمون والمعتصم والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس، ثم تداوله المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا انتقل عن حاله الأولى رغبة في الدنيا ولا رغبة في الذكر، وهذا هو الثبات العظيم الذي تميز به الإمام أحمد رحمة الله عليه.
من لطائف توقير وتعظيم الأئمة له أن حجاج الشاعر وهو كان من المحدثين وكان يقول: كنت أكون عند الإمام أحمد بن حنبل فأنصرف في الليل -أي: من بيته- فأذكره في الطريق فأبكي؛ شوقاً إلى لقاء الإمام أحمد والانتفاع به.
فهذا كلام الأئمة في هذا الإمام الجليل.(9/8)
الجولة السابعة: مواقف من متابعة الإمام أحمد للرسول صلى الله عليه وسلم
نمضي أيضاً في جولة أخرى مع السلفي الأصيل الإمام أحمد، كيف كان حريصاً على أن يكون متبعاً للسلف، مع فقه أصيل ومع متابعة دقيقة! سئل الإمام أحمد عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة والتابعون.
فكان يرى أن ما لم يتكلموا فيه من المسائل ولا يحتاج إليه في رد شبهة ونحو ذلك أنه لا يفتح على الناس به، وإلا كان ذلك نوعاً من عدم الفقه بمنهج السلف، إذ لو كان في مثل هذه المسائل من نفع لذكروه، ولذلك كان رحمة الله عليه يحرص على تعلم السنة وفقهها، وكان لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه؛ فإن علم بذلك اتبع رأيهم ونفى غيره، وإن لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه واستعصم؛ لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهاج السلف وإلحاد في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا يتكلفون التعمق في المسائل العقلية التي كثرت في وقت الإمام رحمة الله عليه، وضل بها كثير من الناس، ولذلك لما سئل عن علم الكلام، كتب إلى السائل قائلاً له: أحسن الله عاقبتك! الذي كنا نسمع عنه وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله لا تعد ذلك.
يعني: لا تزد عليه ولا تبحث عن شيء وراءه.
ولم يزل الناس يكرهون الجلوس مع المبتدع ليردوا عليه، إلا إذا احتيج إليه في رد ما شبه على الناس ولبس عليهم في دينهم.
يقول الإمام أحمد عن نفسه: ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به.
ومسنده فيه نحو من أربعين ألف حديث، وحتى لو كان بالمكرر فكونه يعمل بكل حديث كتبه فهذا أمر عجيب! وقد ذكر في ترجمته أمور عجيبة من حرصه على المتابعة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد احتجم وما به من علة وأعطى الحجام ديناراً كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولما أمر بالاختفاء ذهب إلى بيت بعض أصحابه ومكث فيه ثلاثة أيام ثم قال له: التمس لي طريقاً أخرج، قال: لا آمن عليك، قال: التمس لي وأعطيك فائدة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختفى في غار حراء ثلاثة أيام ثم خرج فسهل الله أمره.
وقال عنه بعض أهل العلم: إنه سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب عنها كلها وفي كل جواب يقول: أخبرنا أو حدثنا؛ ينسب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت المسألة امتثالاً يشمل كل ما بلغه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكل ما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم.
ونحن اليوم نحتاج إلى مثل هذا الأمر، أن يكون أخذنا بما يبلغنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة أخذاً جاداً عازماً شاملاً كاملاً، لا أن يكون تقويمنا ونظرنا إلى أمور دون أمور، أو إلى حالات دون حالات، بل كما كان عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه.
يقول عنه عبد الملك الميموني: ما رأت عيني أفضل من الإمام أحمد؛ ما رأيت أحداً من المحدثين أشد تعظيماً لحرمات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا صحت عنده ولا أشد اتباعاً منه رحمه الله تعالى.
فهذه جملة تبين لنا كيف كان الإمام أحمد حريصاً على اتباع السلف، وقطع ما لم يكن في عهدهم من المقالات والمسائل التي شققها الناس وفرعوها وخرجوا بها عن نهج السلف، ولبسوا فيها على الناس دينهم، وكثر فيها القيل والقال، ولم يقفوا فيها عند ما أثر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وقد رويت عن الإمام أحمد في مسائل الفقه أقوال متعددة؛ لأنه لم يكن رحمة الله عليه يرى أن يخرج عن مجموع النصوص، بل كان يرى أنه يفتي بموجب هذه النصوص الواردة، وإن كان ليس بينها تعارض ربما قال بالقولين في المسألة الواحدة ليجري الأثرين أو الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من فقهه في سجود السهو على سبيل المثال أنه قال: يتبع في كل حالة ما كان من فعله صلى الله عليه وسلم، فما روي في النقص من سجود السهو فيتبعه، وما روي في الزيادة من سجود السهو فيتبعه، حذو القذة بالقذة، وهكذا كان رحمة الله عليه إمام أهل السنة في وقته، لحرصه على هذا الاتباع.(9/9)
الجولة الثامنة: مواقف من تواضع الإمام أحمد وهيبته
نأتي إلى جولة أخرى مع المتواضع المخلص الذي كان إماماً للأئمة والذي كان متبعاً للسنة، كان رحمة الله عليه متواضعاً يحب خمول الذكر ويبعد عما يحفه به الناس ويزيدون فيه، وهذا لا شك أنه من أعظم مراحل الإيمان والتقوى، وهو ألا يغتر الإنسان وألا يفتن عندما يوفق إلى بعض الخير، سيما والناس يحفون به، فقد كان أحمد رحمة الله عليه لا يحب أن يتبعه أحد قال ابنه: وربما خرج الجمعة فيتبعه بعض الناس فيقف حتى ينصرفوا عنه؛ لئلا يتبعه أحد؛ يأخذ ذلك من تواضع الصحابة، كما ذكر ابن القيم في الفوائد: (أن ابن مسعود خرج فتبعه بعض الناس، قال: ألكم حاجة؟ قالوا: لا وإنما نتبعك، قال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للمتبوع، فتنة للتابع) هكذا كان أولئك القوم يحرصون على براءة نفوسهم وطهارة قلوبهم، والحذر من الرياء أو من الكبرياء ونحو ذلك.
وهذا ابن معين رحمة الله عليه وهو من أصحاب أحمد والمقربين إليه يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان عليه من الخير والصلاح.
أي: لم يذكر يوماً أنه أعلم منهم أو أن عنده فقهاً أكثر منهم، أو أن عنده عبادة أكثر منهم، أو أن عنده أصلاً أو شرفاً أو كذا مطلقاً، مما يدل على أنه لم يكن يرى لنفسه شيئاً، بل كان يرى منزلته بين يدي الله عز وجل فلا يجد نفسه شيئاً مذكوراً، وكان ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم فيقيس نفسه إليهم فيرى أنه قزم صغير عند عمالقة عظام رحمة الله عليهم أجمعين.
وهو كما هو معروف أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني من قبائل العرب الصحيحة الأصيلة الأقحاح، فهذا محمد بن الفضل الملقب بـ عارم يتردد على أحمد فقال مرة: يا أبا عبد الله؛ بلغني أنك من العرب، فمن أي العرب أنت؟ فقال الإمام أحمد: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين.
ما أجابه على السؤال.
وقيل له مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً.
وكم نسمع هذه الكلمة لمن لا يبلغون عشر معشار الإمام أحمد، وإن كانوا على خير وفضل وصلاح؛ قال له رجل مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً؛ فقال له: لا، بل جزى الله الإسلام عني خيراً؛ ثم قال: من أنا وما أنا؟ من هذا الذي يكون له فضل على الإسلام؛ الإسلام هو الذي بصرني بالنهج، وهو الذي رزقني الله به الإيمان، وهو الذي عرفت به الحلال من الحرام، وهو الذي شرفت به في الدنيا وأنجو به في الآخرة بإذن الله عز وجل.
وهذا يدلنا على أن النفس قد تطهرت من هذه الأوضار والأمراض التي تفتك بالنفوس، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، وقيل له مرة: ما أكثر الداعين إليك؟ فاغرورقت عيناه بالدمع وقال: أخشى أن يكون استدراجاً، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجعلني خيراً مما يظنون وأن تغفر لي ما لا يعلمون.
مثل ما روي من قول الصديق رضي الله عنه.
وهكذا كان رحمة الله عليه ولذلك كان الناس يسمعون عن الإمام أحمد بن حنبل، ويسمعون عن تعظيمه وتوقيره وعلمه وصلاحه وموقفه الذي كان شائعاً في الأمة كلها، فكان بعض الناس يظنونه شيئاً غير البشر، حتى إن الذهبي ذكر: أن رجلاً جاء من خراسان ورأى الإمام أحمد بن حنبل فقال: الحمد لله الذي رأيته هكذا؛ فقال له الإمام أحمد: اقعد أي شيء ذا؟ ومن أنا؟ وكان موصوفاً بهذه الهيبة مع كونه على هذا التواضع.
إذا رمى بصراً في مجلس هدأت ضوضاؤه واستقر الناس واعتدلوا يشير في هيبة الإيمان تحرسه رعاية الله لا جند ولا خول وليس في كفه سيف يذل به من لا يطيع ولا في ثوبه بلل ولكنها طاعة الرحمن عز بها عزاً له في حياة المصطفى مثل كأنما هو والهامات خاضعة شدا إليها جبال التهم ترتحل(9/10)
الجولة التاسعة: مواقف من عدل وإنصاف الإمام أحمد لغيره
من عظيم مواقفه ومآثره ودروسه ما نمضي فيه مع المنصف العادل، الذي ينصف الناس ويعدل معهم ويعذرهم ويحسن بهم الظن، وفي ذلك مقالات فريدة جديرة بأن تكون موضع اعتبار وادكار، فهذا الإمام أحمد لما جاءت المحنة التي قد نذكرها وقد نرجئ ذكرها في درس مع محن الأئمة لأن فيها دروساً كثيرة.
هذا الإمام أحمد كان معه جمع ممن حملوا إلى الحبس منهم: محمد بن نوح وعبيد الله القواريري وسجادة فبعضهم لما حبس أجاب في أول يوم، وبعضهم في اليوم الثاني، وأما محمد بن نوح لما حمل مع الإمام أحمد مات في الطريق وصلى عليه الإمام أحمد، فكان الإمام أحمد يسأل عمن كانوا معه وأجابوا والتمسوا لأنفسهم تأويلاً يعذرون به عند الله وهم أهل علم وخير، يقول الراوي: سمعت الإمام أحمد وقد ذكر الذين حملوا إلى الرقة إلى المأمون وأجابوا إلى ما طلب منهم من خلق القرآن تورية أو تأولاً؛ قال أبو عبد الله: هؤلاء لو كانوا صبروا وأقاموا لله لكان الأمر قد انقطع وحذرهم الرجل -يعني: المأمون -، ولكن لما أجابوا وهم عين البلد اجترأ على غيرهم.
يعني: هؤلاء كانوا أعيان الناس لو أنهم ثبتوا لما اجترأ على غيرهم ولتراجع المأمون.
وقد كان المأمون أراد أن يعلن الفتنة في العام الثاني عشر بعد المائة الثانية، قال المأمون: كنت أريد أن أعلن بخلق القرآن لولا خوفي من يزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد، فقالوا له: من يزيد بن هارون؟ قال: أخشى أن أقول فيقول بغير قولي فيبطل.
كان يحسب حساب العلماء والأئمة؛ لأن كلمتهم هي المسموعة، لكن لما جاء العام الثامن عشر بعد المائتين أعلن المأمون ودعا بخلق القرآن وامتحن الناس، فكان الإمام أحمد يقول: لو أنهم ثبتوا في ذلك الموقف لكان الأمر قد انقطع.
كان أبو عبد الله رحمة الله عليه يعذر القواريري وسجادة ويقول: قد أعذرا وحبسا وقيدا، وقال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ثم قال: القيد كره والحبس كره.
التمس لهما العذر ولم يقل: ضَعُفا وجَبُنا ولا انتقدهما ولا قدح فيهما ولا ازدراهما ليعلو بنفسه عليهما، وإنما التمس لهما العذر وأثنى على ما علم من حالهما وأحسن الظن بهما، ولذلك فهذا الموقف درس عظيم فيما ينبغي أن يكون من حسن الظن والتماس العذر وعدم التشنيع، وإن كان ثمة خطأ فينبغي أن يكون النصح بالحسنى وبالسر، حتى يقوم الإنسان أخاه بما يحصل به النفع دون الضرر، وبما يحصل به الخير دون الشر؛ لأن كثيراً من الناس ربما تغلبهم نفوسهم فيلتمسون علوها وشرفها بنقد الآخرين وجرحهم، وعندما تكون ثمة مواقف أو مقالات أو نحو ذلك ترى الناس يكثرون القول واللغط فيقولون: فلان كان جريئاً، وفلان كان خائفاً جباناً وغير ذلك، وهذا التقويم ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً، فإنما اجترأ من اجترأ حمية لدين الله عز وجل، وإنما سكت من سكت ربما فطنة أو حكمة أو مداراة ومراعاة لمصلحة.
وهذا أحمد بن نصر الخزاعي في أمر المحنة رأى رأياً حتى قتل، فأثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل، وغيره تأول فالتمس له العذر؛ فكل على خير ما دامت المقاصد بإذن الله عز وجل صحيحة، ولم يبلغ الناس خطأ متعمد، فإن هذا ينبغي ألا يشاع عنه قالة سوء، ولذلك يقول أحمد بن حفص السعدي: سمعت الإمام أحمد يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل: إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.
ابتدأ هذا القول بالثناء على إسحاق وإن كان يخالفه في المسائل أو يخالفه في الاجتهادات، لكن هذا الخلاف لم يمنعه من أن ينصفه، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى الاختلاف ولا إلى نفرة القلوب، بل كان من فقه الإمام رحمة الله عليه وإيمانه وورعه وتقواه أن أثنى على إسحاق، وأبلغ من هذا وأكثر منه ما رواه عبد الله بن محمد الوراق -وهذا درس عظيم- يقول: كنت في مجلس الإمام أحمد فأقبل عليه قوم فسألهم: من أين أقبلتم؟ فقالوا: من مجلس أبي كريب محدث من المحدثين فقال: اكتبوا عنه فإنه شيخ صالح، والمتوقع أن يكون هذا صديقاً حميماً للإمام أحمد، قال: فقلنا له: إنه يطعن فيك -يعني: يذكرك بسوء ويذمك- فقال الإمام أحمد: فأي شيء حيلتي فيه؟ شيخ صالح قد بلي بي.
انظروا إلى عدل الإمام أحمد وإنصافه، فإنه لم يمنعه ذلك أن ينصفه وأن يذكر فضله وأن يكف عن الرد عليه بما قد يسوء ويشوه ويبلبل الناس، ولذلك فإن من أعظم ما ينبغي أن نفقهه وأن نعلمه وأن نستفيده من دروس الأئمة هو تجردهم لله عز وجل، وعدم انتصارهم لأنفسهم؛ لأن قصدهم المصلحة العامة دون المصلحة الشخصية، ولأن دورانهم مع الحق دون دورانهم مع أنفسهم ولا آرائهم، ولذلك هذه المواقف من هذا الإمام العظيم إمام أهل السنة تبين لنا منهج السنة في إحسان الظن والتماس العذر، وعدم الرد على من يخالف لغرض الرد عليه وإنما لإظهار الحق إن كان ولا بد منه، على ما كان من رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يقولون كذا، ما بال أقوام يفعلون كذا) وهذه جولة من الجولات المهمة التي ينبغي أن نستفيد منها كما ينبغي، علينا أن نستفيد من فقه الأئمة كلهم في هذا الباب، فإن المأثور عنهم في هذا يطول ذكره، وهو من الأمور التي يفتقر إليها ويحتاج إليها كثيراً في هذه الأيام، التي إذا خالف فيها امرؤ شخصاً آخر ربما صرح بهذه المخالفة، وجعل توكيد نهجه وصحة رأيه لا تبنى إلا على نقد الآخر وتجريحه، أو الإكثار من ذكر فساد قوله على ما يعتقده هو، دون أن يكون هناك تبادل بالحب والمودة والتماس للعذر وثناء على الخير مثل ما يقع اليوم من اضطراب، فإذا الناس متحيرون وإذا بهم يتشككون في كثير من الخير وأهله؛ لأنهم يسمعون من هذا قدحاً في هذا ومن ذاك لمزاً في الآخر، فيسقط عندئذ هذا وذاك، ولا يبقى عند الناس حرمة لأهل العلم ولا للدعاة، فضلاً عن العلماء، وهذه الأمور هي لكل مسلم يوصف بالإسلام، فكيف إن كان عالماً أو داعية أو مجاهداً في سبيل الله، أو كان قائماً بأمر من أمور الخير والدين لا يقوم بها مثله، فإنه ينبغي أن تكون المراعاة لحاله وشأنه والثناء عليه والتوصية به وإرشاد الناس للاقتداء به أكثر مما ينبغي أن يذكر مخالفته لغيره في رأي أو اجتهاد.(9/11)
الجولة العاشرة: مواقف من عبادة الإمام أحمد وصلته بربه عز وجل:
نمضي مع الإمام أحمد في صلته بالله عز وجل وإذا به العابد الذي وصفه ابنه فقال: كان أبي يصلي في كل يوم ثلاثمائة ركعة، فلما ضرب بالسياط في المحنة وسجن ثمانية وعشرين شهراً ضعف فكان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة وقد بلغ الثمانين؛ فأي أحد في هذه العصر إلا من رحم الله يستطيع أن يفعل مثل هذا الفعل؟! فلذلك لا يكون أهل العلم علماء حقيقيين إلا أن يجمعوا مع العلم العبادة والصلة بالله سبحانه وتعالى.
يقول أحد طلاب العلم: إنه جاء إلى الإمام أحمد مسافراً فنزل ضيفاً عليه قال: فأعد لي ماءً ثم ذهب فجاء في الصباح فرأى الماء لم أمسه فقال: طالب حديث لا يقوم الليل! قال: فقلت: أنا مسافر؛ قال: وإن كنت مسافراً فإن مسروقاً حج ولم ينم إلا ساجداً.
أي: من كثرة ما كان يصلي يغلبه النوم في سجوده؛ فهذا يدلنا على ما كان عليه أهل الإيمان من الصلة بالله التي نفتقر إليها اليوم كثيراً، قد نكثر من الكلام وقد نكثر من الخطب والمواعظ وقد نكثر من القراءة في الكتب وقد نكثر من سماع الدروس، لكننا إلا من رحم الله نقل ونقل ونقل كثيراً من الصلة والطاعة والعبادة والصلاة والقيام والذكر والتلاوة، ويقول أيضاً عبد الله في وصف أبيه: كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً، يعني: يختم القرآن في سبعة أيام، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو.
ويقول: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم وكان يكثر الدعاء ويخفيه، وكانت قراءته خفيفة وربما لم أفهم بعضها، وكان يصوم ويدمن الصوم ثم يفطر ما شاء الله، ولا يترك صوم الإثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات، فهذا كان حاله في العبادة والصلة بالله سبحانه وتعالى على أمر فريد عجيب.(9/12)
الجولة الحادية عشرة: نماذج من أدعية الإمام أحمد
نمضي مع دعوات الإمام أحمد، وقد كانت له دعوات جليلة عظيمة، حتى إن ابن الجوزي أفرد فصلاً في دعوات الإمام أحمد، لنرى كيف كان دعاء أولئك الصالحين، من دعائه رحمة الله عليه أنه كان يقول دبر كل صلاة: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك.
وكم من الناس من يقع في المسألة لغير الله عز وجل من غير أن يشعروا، ويقعون في شيء من الرجاء أو الخوف لغير الله سبحانه وتعالى.
ينبغي أن يكون المسلم محباً للخير عند الآخرين؛ لأن هذا من علامة كمال الإيمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فهذه النفسية إن وجدت في قلب المؤمن نظر إلى الطائع، فإذا به ينظر إليه نظرة محبة وإجلال واقتداء، وإذا نظر إلى العاصي لم ينظر إليه نظرة ازدراء واحتقار، بل نظرة شفقة ورحمة ورغبة في الإصلاح والإرشاد مع النصح واللطف، وهذا هو الذي يفارق فيه المسلم الفطن الحكيم في دعوته من ينظر إلى الناس شزراً ولا يرى فيهم إلا شراً ولا يتوقع منهم إلا نكراً، فكأنه يفرح بخطيئة الرجل ويفرح بزلته في القول، وإذا به يريد أن يجرم الناس أو يفسقهم أو يبدعهم أو يكفرهم، هذه نفس مريضة مظلمة ليست نفساً مشرقة بالإيمان محبة للخير، فكان من دعاء الإمام أحمد رحمة الله عليه حين كثرت الأهواء والفتن والبلايا وانحرافات العقيدة في عهده فكان يقول: اللهم من كان على هوىً أو على رأي وهو يظن أنه على حق وليس هو على حق فرده إلى الحق، حتى لا يضل من هذه الأمة أحداً.
انظروا إلى القلب الشفيق الرحيم، وقد رأى الفتن تغتال العقول وتفسد القلوب، وأشفق على هذه الأمة مما جاءها من هذا البلاء، ومن هذه الفتنة العمياء، ومن هذه المقالات الفلسفية والانحرافات العقلية فكان يدعو بهذا الدعاء.
وكان يقول في دعائه: اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، ولا ترنا حيث نهيتنا، ولا تفقدنا من حيث أمرتنا؛ أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية.
ومن دعائه أيضاً يقول: اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر علينا فنطغى، ولا تقلل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغاً لنا، وأغننا بفضلك يا رب العالمين.
هذه الدعوات تبين لنا فقه الإمام أحمد وبصره بهذا الأمر.(9/13)
موقف الإمام أحمد من فتنة خلق القرآن وثباته
إن أمر الفتنة والمحنة التي وقعت للإمام أحمد هي أبرز صورة ومرحلة من مراحل حياته، بدأت في العام الثامن عشر بعد المائتين واستمرت إلى العام الرابع والثلاثين بعد المائتين، وابتلي فيها الإمام أحمد بصور شتى، كان منها: السجن، والضرب ومنها: أن يعلق من رجليه فيدلى رحمة الله عليه، وكان منها: أن يلف في بساط ويداس وهو في داخل البساط حتى يدمى رحمة الله عليه، وكان كالطود الشامخ؛ لأن عنده حجة مفحمة وبرهاناً قاطعاً أعيا به العقول وأخرس به الألسنة، ووقف الجميع أمامه لا يملكون إلا حجة الضعيف، وحجة الضعيف هي القوة والبطش، تلك الحجة التي أظهرها فرعون مع موسى، فإنه لما انقطعت حجته وحيلته قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وهي الحجة التي قالها النمرود لما أعيته الحجة مع إبراهيم الخليل عليه السلام فلذلك أذكر أولاً بعض المواقف والرؤى التي كانت قبل المحنة ذكرت في كتاب كامل عن محنة الإمام أحمد بن حنبل يقول أحدهم: رأى الإمام أحمد في المنام: كأن عليه بردة مخططة وكأنه بالرجل يريد المسير إلى الجامع يوم الجمعة، فاستعبرت بعض أهل التعبير؛ فقال: هذا يشتهر بالخير؛ قال: فما أتى عليه إلا قريب حتى ورد ما ورد من المحنة.
ويروى عن الإمام أحمد أنه قال: رأيت في المنام علي بن عاصم فأولت علياً بالعلو، وعاصماً عصمة من الله عز وجل فالحمد لله على ذلك، فعلا بين الناس ذكره، وعصمه الله عز وجل من الفتنة والمحنة، ومن عجيب ما كان عنده من الحجة مثل هذه المواقف، كان إذا أرادوه على شيء قال: ائتوني بشيء من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم ربما جاء ببعض الآيات التي يستشهدون بها مثل قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] أليس القرآن شيئاً؟ إذاً: فيكون مخلوقاً، هذه هي أصل فتنة خلق القرآن، فيقول لهم: يقول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فدمرت كل شيء إلا ما أراد الله عز وجل فلا يكون هذا عموماً مطلقاً، بل فيه ما هو مستثنىً بأمر الله سبحانه وتعالى، ويحتجون عليه باحتجاجات أخرى فإذا به يرد عليهم هذه المقالات كما احتجوا بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] فقالوا: أليس القرآن مجعولاً فإذاً هو مخلوق؛ فقال لهم: يقول الله سبحانه وتعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] فهل معناها خلقهم كعصف مأكول، أو أن الجعل ما يصير إليه الشيء وينتهي إليه.
وذكروا له قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] والمحدث مخلوق، فقال لهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] فقال هنا: القرآن ذي الذكر هو القرآن، فهو معرف بأل، وأما (ذكر) غير المعرف فلا يراد به القرآن، فكلما جاءوه بحجة ألجمهم حجة أخرى، فما استطاعوا أن يظهروا عليه بالحجة، فأرادوا أن يكون ظهورهم عليه بالقوة والفتنة والمحنة.(9/14)
الدروس المستفادة من فتنة خلق القرآن ووقت نشوئها
في هذه المحنة دروس كثيرة منها: كيف نشأت هذه الفتنة العظيمة؟! كان في آخر عهد الرشيد بداية لانتشار المقالات الفلسفية التي وردت إلى المسلمين من أولئك الفرس وغيرهم ممن فتحت بلادهم، وكان المأمون ممن تتلمذ على العلاف وهو شيخ من شيوخ المعتزلة، ثم قرب إليه هؤلاء الناس فألقوا في عقله ونفسه الشبه فاقتنع بها، ولذلك من أهم الأمور التي يجب أن تتوافر في الحاكم والخليفة أن تكون له بطانة صالحة من أهل الخير والصلاح، فيحسن حينئذ حاله وتحسن حال الأمة من ورائه، لكن لما كان هؤلاء المبتدعة بطانة المأمون حدثت منه هذه المحن التي ابتلى بها الناس.
وخلاصة هذه الفتنة أن القرآن مخلوق وهذا هو قول المعتزلة؛ لأنهم أنكروا بعض الصفات ومنها صفة الكلام، قالوا: ننكرها لأنا نقع في التشبيه ووصف الله عز وجل بما لا يليق من الأوصاف، فجعلوا القرآن مخلوقاً، وكونه مخلوقاً يقتضي أموراً كثيرةً من الفساد، منها: أن المخلوق يخطئ ويصيب، وبالتالي تزول حرمة القرآن وقدسيته، التي يتلقى بموجبها المسلمون كل شيء وارد في القرآن على أنه حكم مقطوع مجزوم به، فلما أراد أن يقول بهذه الفتنة وبهذه المقولة خشي من بعض العلماء من أهل السنة، فزين له أهل الباطل أن يعلن هذه الفتنة، فهذا يدلنا على أثر أولئك القوم وأثر البطانة، فلما قال: أخشى يزيد بن هارون قالوا: ومن يزيد بن هارون هذا؟ فلما أججوه أعلن هذه الفتنة في سنة (212هـ) لكنه لم يدع الناس إليها حتى جاء عام (218هـ) فأعلن فيها هذه المقالة وحمل علماء الأمة عليها، وبدأ يمتحن الناس عليها فأخذ عشرين من كبار العلماء والأئمة في بغداد منهم: الإمام أحمد يريد أن يمتحنهم بهذا القول، وممن حمل إلى الخليفة: محمد بن نوح والقواريري وسجادة كما ذكرنا.
يروى أن أبا جعفر الأنباري عبر النهر ليلقى الإمام أحمد فلقيه وسلم عليه فقال: يا هذا! إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبون، فتحمل أوزارهم إلى يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً، قال أحمد: فكان كلامه مما قوى عزمي وثبتني.
هذا مما يدلنا على أن المرء يثبت بإخوانه ويعان بإذن الله عز وجل.
نذكر بعض المواقف في هذه المحنة ومن أعظمها: أنهم لما قدموا على المأمون كان محمد بن نوح قد مات في الطريق، فجاء إلى الإمام أحمد خادم الخليفة وهو يمسح دموعه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال: فجثا الإمام أحمد على ركبته ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي! غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولئك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته؛ قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد: ففرحنا، وفي بعض الروايات: أن الإمام أحمد قال: اللهم إني أسألك أن لا أراه ولا يراني، فكان الأمر كما كان.
وفي هذه الفترة رجع الإمام أحمد مع محمد بن نوح لمقابلة المعتصم، وكان مرض ابن نوح وموته في الطريق قبل أن يصل إلى المعتصم.(9/15)
صور من تعذيب الإمام أحمد في الفتنة
من الصور التي مرت بهم في هذه المحنة أنه قال رحمة الله عليه: ضربت بالأسواط أول يوم فطفقت أعد سبعة عشر سوطاً، ثم أغمي علي ولم أدر ما كان.
يقول الذين غسلوا الإمام أحمد عند موته وكانت وفاته سنة واحد وأربعين ومائتين يقول: رأيت أثر السياط في ظهره ما زال ظاهراً.
ويقول أيضاً عن نفسه: علقت من رجلي وبيني وبين الأرض مسافة ذراع، فكانوا يضربونني بالسياط حتى انقطع الحبل بي ودقت عنقي بالأرض وأغمي علي ولم أدر ما وراء ذلك.
وما أشبه الليلة بالبارحة، نسمع عن مثل هذا في هذه الأيام، بل نسمع عما هو أفظع وأشد؛ لأن القوم ممن مضوا كانوا على اجتهاد وإن انحرفوا، أما من يعذبون دعاة الإسلام وأولياء الله عز وجل اليوم، فإنهم قد نقموا على الإسلام كله ونقموا على أهله، وأبوا أن يكون لهذا الإسلام دولة يطبق فيها شرعه، ويحكم فيها بحكمه سبحانه وتعالى.
ويقول أيضاً فيما وقع له من البلاء: إنه جيء بحصيرة ولفوه فيها، وظلوا يدوسونه بأرجلهم حتى أغمي عليه، وفي كل ذلك يقولون له: قل كما نقول بخلق القرآن، فيأبى.(9/16)
موقف الإمام أحمد ممن يريد أن يثنيه عن موقفه من فتنة خلق القرآن
في فترة سجنه جاء بعض تلامذته يترخصون، وكان معهم ابن أبي زهير فقال له: أيها الإمام! ما عليك أن تجيب؟ لك عيال ولك كذا ولك كذا فنظر إليه الإمام وقال: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت.
أي: إن كنت تفكر بنفسك بهذه النظرة الضيقة والمصلحة الشخصية والعيال والأولاد فقد استرحت؛ لأنك لا تحمل هم الأمة، ولا هم الدعوة، ولا تحمل هم الحماية لهذا الدين والذود عن هذه العقيدة، فإذاً: أنت مما عنى به القائل توبيخاً وهجاءً: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي هل يفكر مثل الإمام أحمد في طعامه وشرابه وأهله وعياله ودوره وما فيها؟! إن صاحب الهمة العالية وصاحب العقل الذي يفكر في هموم المسلمين وفي مصالح الأمة لا يستريح بل يبقى منشغلاً ويبقى حاملاً للهم، ولذلك قال الله عز وجل في وصف رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] كان يحمل هماً ويديم التفكير ويواصل العمل والتدبير لا لشيء يعود عليه بالنفع؛ وإنما ليستنقذ الناس من الكفر إلى الإيمان ومن الظلمة إلى النور، ليخرج الناس من هذا الموات إلى الحياة؛ لأن بالإيمان يحيا الناس وتكون نجاتهم في الآخرة بإذن الله عز وجل.(9/17)
موقف الإمام أحمد ممن آذاه
أخرج الإمام أحمد من السجن ورجع إلى منزله، ولما جاءه الطبيب جعل يقطع من جسمه لحماً ميتاً من أثر السياط، وكان قد مكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً.
ومن عظمة نفسه رحمة الله عليه أنه كان قد أحل من آذاه، إلا من كان صاحب بدعة حتى يرجع عن بدعته، أما المساكين الذين كانوا يجلدونه بالسياط فقد عفا عنهم، ولم يحمل في قلبه حقداً ولا غلاً؛ لأنه لم يحتمل ذلك لأجلهم، وإنما كان يرى في ذلك ثباتاً على أمر الله عز وجل، والتماساً لثواب الله سبحانه وتعالى.
وكان يقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، تريد أن تقتص منه مرة أخرى، أو أن تقول: هذا الذي فعل كذا وكذا، وأن تغري به حتى يقع به الضر، ما هذه نفوس المؤمنين ولا النفوس الكبيرة التي تتعب الجسد معها وهي أعظم من هذه الأجساد.
ثم أيضاً قيل له: ادع على ظالمك، فقال: ليس بصابر من دعا على ظالمه.
هذه مراتب عالية عند الأنبياء فسؤالهم لله عز وجل لم يكن سؤالاً مباشراً؛ لأنهم كانوا يستعظمون بعد نعمة الله عز وجل أن يسرعوا في الجزع وأن يلحوا في الدعاء، كما في قصة أيوب عليه السلام، وكما في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، ولذلك الإمام أحمد كان عندما يذكر ما حصل له كان يتلو: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].(9/18)
أثر الوشاة والمنافقين في إيذاء العلماء والدعاة والمصلحين
ومن القصص: أنه عندما كان يضربه السياط كان الخليفة يشهد هذا الضرب ويقول للضارب: شد عليه قطع الله يدك.
يعني: هذا ضرب خفيف.
ثم تأتي القالة السيئة عندما بالغوا في ضربه ولم يرجع عن قوله، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي اقتله.
هؤلاء الذين لم يكونوا يرعون حرمة لمسلم ولا كرامة لعالم ولا منزلة لإمام من الأئمة.
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين! أنت صائم وأنت في الشمس قائم، فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به؛ فرجع وجلس وقال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، فجعلوا يضربونه وهكذا، ثم جاء دور بعض الأشرار فقال: لا تقتله فيقولون: مات في مجلسك صبراً فيعظم عند الناس ويكون إماماً، ولكن أرسله حتى إذا مات في بيته لم يكن له مثل ذلك؛ فكانوا يعرفون ارتباط الناس وأثرهم في مثل هذه الأمور.
وبعد المعتصم جاء الواثق واستمرت المحنة أيضاً ولكنه في فترة من الفترات منعه من مجالسة الناس ومن شهود الجماعات إلى غير ذلك من الأمور.(9/19)
أثر مناظرة الشيخ الشامي لابن أبي دؤاد على الخليفة الواثق
ذكر بعضهم مناظرة وقعت لأحد الأشياخ من أهل الشام، جاء فناظر أحمد بن أبي دؤاد الذي كان قاضي القضاة وشيخ المعتزلة، وهو صاحب هذه الفتنة التي خفض فيها ووضع، هذه المناظرة ذكرها الذهبي وغيره وفي سندها مقال، لكن فيها حكمة وحجة، فجاء هذا الشيخ وأدخل ليناظره ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن مقالتك هذه أهي داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم، قال أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ستر شيئاً مما أمر به؟ قال: لا؛ قال: فدعا إلى مقالتك هذه؟ فسكت، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين واحدة.
ثم قال الشيخ: أخبرني عن الله حين قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أكان هو صادقاً في إكمال دينه أم أنت صادق في نقصانه حتى قلت هذا القول؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال: الثانية؛ قال: أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة أم جهلها؟ فقال: علمها؛ فقال: هل دعا إليها؛ قال: لا، قال: فأمر اتسع له علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه ولم يطالب أمته به، ووسع الخلفاء من بعده وسكتوا عنه أما يسعك أنت أن تسكت عنه؟ فأطرق الواثق يفكر فقال: بل يسعني، فكوا قيود هذا الشيخ.
لما طال الأمد وقويت حجة الإمام مع صبره وثباته، العجيب الذي جعله إماماً للممتحنين حينئذ قضى الله عز وجل بعد وفاة الواثق وقد بدأ بعض تراجعه أن هيأ الله المتوكل بعده فهداه الله إلى السنة، فرفع المحنة عن الإمام أحمد وعظمه ووقره، وجعل له أمر تولية القضاة وأمر تغيير أحوال الدولة.(9/20)
ثبات الإمام أحمد في الفتنة وثباته أمام الشيطان عند الوفاة
الإمام أحمد ابتلي بالضراء فصبر، وابتلي بالسراء فشكر، وجاءته الدنيا صاغرة تحت قدميه فلم يخفض رأسه لينظر إليها، بل ظل شامخ الرأس ووطئها بأقدامه ماضٍ على طريق الله سبحانه وتعالى، وكانت وفاته أيضاً درساً وعبرة، فإنه رحمة الله عليه مرض نحو تسعة أيام، وجعل يطلب أبناءه وأحفادهم وجعل يشمهم ويودعهم، وكان في وقت مرضه إذا اشتد عليه يقول: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثم يغمى عليه، فسأله ابنه؟ فقال: إن الشيطان كان يقول: فتني يا أحمد، يعني: لم أستطع أن أبلغ منك مبلغاً؛ يقول: فكنت أقول: لا بعد، لا بعد، حتى مات.
كان يخشى على نفسه الفتنة حتى في مثل هذه اللحظات، قيل: إن الإمام أحمد سمع حديثاً عن ترك الأنين فلم يئن، حتى لا يدخل في الجزع من قضاء الله سبحانه وتعالى، ولما مات الإمام أحمد خرجت بغداد كلها في جنازته، حتى قالوا: لم يصلوا العصر ذلك اليوم؛ لأن وفاته في صبيحة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول عام (241هـ) وكانت ولادته أيضاً في الثاني عشر من ربيع الأول عام (164هـ).
يقول الذهبي: فأحصي من حضر جنازته فكانوا: ألف ألف نفس، وظل الناس يصلون على قبره وقتاً طويلاً.
وفرح الناس بموكب جنازته لما أظهرت من نصرة السنة، وإن كانوا قد حزنوا لموت الإمام رحمة الله عليه.
فهذه وقفات سريعة أمضيناها مع الإمام أحمد، وإن كانت كل واحدة منها جديرة بأن تكون موضعاً للاقتداء، ورؤية للواقع الذي نحن فيه، لما بيننا وبين الإمام وغيره من الأئمة من بون شاسع، خاصة فيما يتعلق بالصلة بالله عز وجل، والتقوى والورع مع العلم والفقه في الدين، وفيما يتعلق بالنفوس وتهذيبها والإخلاص وتحريره لله سبحانه وتعالى، ورعاية مصلحة الأمة والجهاد في سبيل نشر دعوة الله عز وجل والثبات على ذلك.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الاقتداء والتأسي بأمثال هؤلاء الأئمة رحمة الله عليهم.(9/21)
الأسئلة(9/22)
الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن
السؤال
ما سبب فتنة خلق القرآن وما يترتب عليها من آثار؟
الجواب
من أهم الآثار أن القائلين بخلق القرآن أنكروا صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الكلام، وهذا إبطال وتعطيل للصفات، وهو من مقالات الكفر التي تؤدي إلى إنكار ما ثبت في القرآن والسنة، ومن ذلك أيضاً زوال القطعية في كتاب الله عز وجل من حكم، وأنه حق لا يسع الإنسان إلا اتباعه؛ وغير ذلك أيضاً من المقالات الفلسفية العقلية التي تصرف الناس عن التسليم لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(9/23)
موقف الإمام أحمد من خلق القرآن والخروج على الحاكم
السؤال
لقد كان موقف الإمام أحمد من مسألة خلق القرآن موقفاً عظيماً، ولكن بعض الناس يظن هذا الموقف لو حدث مثله اليوم لكان يعد خروجاً على الحاكم؟
الجواب
لا، ذكر ابن حجر رحمة الله عليه: أن بعض الأئمة كانوا يكرهون رواية بعض الأحاديث مخافة ما قد يسبق إلى الأفهام من سوء فهم لها، ومن ذلك أن الإمام مالك كان يكره رواية حديث الصفات، ومحمد بن الحسن كان يكره الغرائب، والإمام أحمد كان يكره رواية الأحاديث في الفتنة والخروج على الأئمة؛ لئلا يسبق إلى الناس فهم خاطئ فيها، وهو الذي استجاب لأمر أمير المؤمنين لما أمره أن يحتجب عن الناس ولا يوافقهم في مجالسهم، ولا يأتون إليه أيضاً في مجلسه، التزم ذلك ولم يكن ذلك إعلاناً منه للخروج؛ لأن للخروج ضوابط كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فهذه المقالة هي مقالة كفرية، لكن القائل بها ليس بالضرورة أن يكفر؛ لأنه كان يظن ذلك صدقاً وحقاً ولبس عليه وفتن في مثل هذا الأمر؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة أثراً عن الإمام أحمد: أنه دعا لبعض من خاضوا في هذه الفتنة قال: لأنهم لم يكونوا يعلمون أنهم على باطل، فهذا ينبغي أن يعلم من مثل هذا الأمر.(9/24)
العلاقة بين الإمام أحمد وأحمد بن نصر الخزاعي
السؤال
ما علاقة أحمد بن حنبل بـ أحمد بن نصر الخزاعي؟
الجواب
كلاهما من أئمة الحديث الكبار ومن أهل السنة العظام، وكان الإمام أحمد بن نصر الخزاعي أيضاً ممن ثبت في هذه المحنة والتمس لها تغييراً واقعياً جذرياً، حتى إنه كان يعلم الناس السنة ويعلم الناس المعتقد الصحيح، ويبين فساد هذا القول وما يترتب عليه من الآثار ووجوب إزالة هذا المنكر، حتى رأى أن يثب على الخليفة ليغيره ويغير هذا المنكر الذي فشا في الأمة دهراً طويلاً، لكن نبأ علمه إلى الخليفة وقتل ونصب رأسه في سر من رأى وجسمه في بغداد أو العكس، وظل كذلك منصوباً نحو سبع سنوات، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يثني عليه ويقول: ذاك رجل جاد بروحه في سبيل الله عز وجل، وهذا تنبيه لطيف في مواقف الإمام أحمد، يقول: إن سبب هذه الفتنة أن المأمون تتلمذ على المعتزلة.
نقول: واليوم في هذه الأعصر يتتلمذ بعض كبار القوم وأبناء الحكام والسلاطين في بلاد الكفر فوقع لهم مثل ما وقع لأولئك، نقول: نعم قد حرص المستخربون أن يأخذوا أبناء أكابر القوم وأبناء أهل الحكم ليغرسوا في عقولهم الشبهات والشهوات، وليجعلوهم تابعين لملل الكفر وموالين لأعداء الله عز وجل، حتى إذا كانت في أيديهم سلطة أو حكم أو قدرة على فعل أمر من الأمور فعلوا فيه فعلاً يناقض الإسلام ويضر بأهله، ولذلك جعلوا التولية في أمور كثيرة من الإعلام أو التعليم أو غيرها من المجالات لمن صنع على أعينهم وربي في ديارهم وتغذى بأفكارهم، وخفق قلبه بحبهم وتعظيمهم والولاء لهم، وهذا أمر شائع معروف.(9/25)
ذكر مراجع سيرة الإمام أحمد وما حصل له
السؤال
هذه المرويات تحتاج إلى ذكر المراجع؟
الجواب
أخشى من الإطالة وإلا كلها مراجع معروفة، ولعلنا نشير إلى بعض هذه على الإجمال، هناك كتاب (مناقب الإمام أحمد لـ ابن الجوزي) ساق فيه كثيراً من الروايات بالأسانيد وذكر فيه تفصيلات كثيرة، ومن هذه أيضاً مصادر ترجمة الإمام أحمد في سير أعلام النبلاء، وكذلك كتاب عن الإمام أحمد للشيخ محمد أبي زهرة، وكذلك كتاب عن إمام الصابرين، يتعلق فقط بالمحنة لـ عبد العزيز المسند وغيرها، أيضاً كتاب عن الإمام أحمد إمام أهل السنة لـ عبد الغني الدقر، وهناك كتب كثيرة أفاضت في مثل هذه الروايات، ولا شك أن تصحيح هذه الروايات وتوثيقها ليس بالضرورة أن تكون كلها صحيحة على مثل هذا، فإن ما يروى في التاريخ غير ما يروى في السنن، وما يروى في التراجم أدنى من ذلك وأقل، لكن كثيراً من هذه الروايات تطابقت عليها الكتب، وذكرها من ترجم للإمام أحمد.(9/26)
طلب الرد على من يطعن في المناهج الدراسية وغيرها
السؤال
هنا في الأسبوع الماضي ذكر أن أحدهم كتب عن المناهج الدراسية كتابة غير جيدة، وأن الكاتب نفسه كتب عن البث المباشر في هذا الأسبوع بأسلوب يفهم منه أن الغرب أفضل من المسلمين وبطريقة لم يذكر فيها الأسلوب الأمثل للتصدي لمثل هذه الأفكار الهدامة ما هو دورنا نحو هذا؟
الجواب
اكتب للجريدة فإنها تنشر، وقد ذكر الكاتب أنه يريد من يرد عليه أو من يخالفه في الرأي؛ واكتب لمن ترى أن بيده أمراً حتى يصلح؛ لأن هذا الفساد ليس بالضرورة أن يكون لمجرد رأي راءٍ أو لقول قائل أو لكتابة كاتب أن يقر، وأن يسكت عنه؛ بل الناس ينبغي أن يقولوا الحق وأن يلهجوا به ويبلغوه، ودين الله عز وجل هو الأحق أن يتبع؛ لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ومعلوم أن أكثر ما ينبغي أن نحرص عليه هو أن نعرف أن هذه البلاد بما فيها من الحرمين قائمة بإذن الله عز وجل على شرع الله سبحانه وتعالى، وينبغي ألا يقبل أي شيء مما يخالف هذا الشرع، والأنظمة المنصوص عليها سواء في التعليم أو في الإعلام أو في غيرها مبنية ومصاغة صياغة تراعي أحكام الشرع، فبموجب الشرع وبموجب النظام مثل هذا القول ومثل هذه المطالبة مخالفة للشرع أولاً، ومخالفة للنظام ثانياً؛ فالمعترض عليها صاحب حجة قوية.
فالله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/27)
إنذار وإعذار
لا يزال أعداء الإسلام يحوكون المؤامرات، ويحاولون نزع الإيمان من قلوب المسلمين، وإبعادهم عن الأخلاق السامية الطاهرة، وقد ساعدهم بعض المسلمين على ذلك بالغفلة والجهل والتفريط في الدين، ولا خلاص من ذلك إلا باليقظة والتحصن والوعي التام.(10/1)
تفريط المسلمين في كنزهم الثمين
الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل الدائرة على الكافرين، والعاقبة للمتقين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً؟ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصر به من العمى، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إنذار وإعذار في تفاقم الأخطار، وكثرة الأضرار، وثمة أمور يغفل عنها الناس ولا ينتبهون إلى خطرها، ولا ينتبهون إلى معالجة ضررها إلا عندما تشتعل النار، وتعظم الأخطار، وتنحرف الأفكار، ويصبح الأمر حينئذٍ أصعب معالجة، وأثقل مدافعة، ولعلي أبدأ بقصة غريبة وهي: أن رجلاً كانت عنده ثروة كبيرة من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة، ولكنه لم يحفظها في مكان أمين أو خزينة مستقلة، بل أودعها بيته وهو على الطريق العام، ولم يجعل على بيته حراسة، ولم يكن متيقظاً، فنوافذه مفتوحة وأبوابه مشرعة، فمرة من المرات تسلل بعض اللصوص وسرقوا شيئاً يسيراً من هذه الثروة، فلم يلتفت إلى ذلك، ولم يحتط لثروته، بل ترك الأبواب مفتوحة بعد أن كانت النوفذ مفتوحة، فكثر اللصوص وعظمت السرقات، فماذا فعل؟ أزال النوافذ، وخلع الأبواب، حتى كادت كل الثروة أن تنتهب وتسرق، وحينئذ وضع يده على وجهه متحيراً متندماً، ناظراً في أمره كيف يحرس ثروته وقد ضاعت، وكيف يبقي ماله وقد سرق! أظنكم تعتقدون أن القصة خيالية، ولكنكم ستعجبون إن قلت إنها حقيقية، وسيزداد عجبكم إن قلت: إننا -إلا من رحم الله- قد فعلنا مثل ذلك، وإننا جميعاً يصدق فينا -إلا من رحم الله- أننا مثل ذلك الرجل، تركنا ثرواتنا نهباً لكل سارق، حتى إذا عظمت السرقات ووصلت إلى أعلى الدرجات وقفنا نفكر ونتساءل: كيف سرقنا؟ وكيف ذهبت ثرواتنا؟ وحتى الآن ما زال في أذهانكم تساؤلات كثيرة عن ذلك، ولعلي أزيل الغموض عندما أقول: إن الذي سرق منا ليس الأرزاق، بل الأخلاق! وإن الذي ضاع منا ليس الأموال، بل الأحوال! وإن الذي تضرر منا ليس الأبدان، بل الإيمان! لو تأملنا في هذه المعاني قليلاً وكنا صادقين لشعرنا جميعاً أنه قد سلب من إيماننا ومن ديننا ومن أخلاقنا كثير وكثير مما كنا عليه حريصون، ومما هو ثروة أعظم من كل ثروة، وقيمة أغلى من كل قيمة، فمتى نتنبه؟ هل نتنبه إذا جاءت الكوارث الكبرى، وإذا جاءت الحوادث العظمى، وإذا سمعنا بتدنيس المصحف الشريف بالأيدي النجسة، وبالأفعال القبيحة؟ وقد أشرت من قبل إلى شيء من ذلك، إلا أنني وجدت أن الأمر أخطر، وأن الضرر أعظم من أن يكتفى فيه بإشارة، أو أن يقال فيه ما قلناه فيما سبق من أننا فرطنا حتى كنا سبباً فيما يحل بنا، وفيما يحاك لنا، وفيما نقع فيه.(10/2)
صور من التفريط الديني عند الأفراد(10/3)
ضياع التربية عند كثير من المسلمين
ولعلي أشير بعد هذا الإجمال إلى شيء من التفصيل، أبدؤه بتفريط الأفراد من أمة الإسلام، ولو أردت أن أفيض لما انقضى حديثي هذا، لكنني أوجز في ومضات سريعة: أولها: التربية الضائعة: فأين نحن من الحفاظ على إيماننا، وسمت إسلامنا، ونضارة أخلاقنا في واقع بيوتنا، وفي سلوك أبنائنا، وفي مظاهر حياتنا، وفي صورة أسواقنا، وفي منظر شوارعنا، وفي كل لمحة وحركة وسكنة من حياتنا.
أبناؤنا سلمناهم للشوارع تختطف أخلاقهم، وتركناهم لرفقاء السوق يسرقون حياءهم، ويفقدونهم تقديرهم واحترامهم، وتركناهم حتى أفسدوا فيهم نقاء الفطرة، وسرقوا منهم سمت الالتزام، ونهبوا منهم معاني الحياء، واختلسوا منهم صور الوضاءة والنقاء، وبعد ذلك لا نشعر بأن أمراً قد وقع، أو أن ضرراً قد حل، أو أن ثروة قد سرقت، لكنه لو سرق منا عقد ذهب بعشرة آلاف لبلغنا الشرطة واستدعيناها لتبحث عمن سرق هذا المبلغ الزهيد، دون أن نبحث عمن سرق الإيمان والإسلام والأخلاق، ونحتاط لهذه الأموال فنودعها في البنوك، أو نجعل لها الخزائن، أو نحفظها في الأماكن السرية، دون أن نحرص على حفظ أخلاق ودين أبنائنا، بل وأنفسنا أنفسنا!(10/4)
فتح المجال للفضائيات المفسدة
وهناك مظهر آخر في الوسائل المفسدة: قلت لكم: إن الرجل قد نزع النوافذ وخلع الأبواب، وكأنكم تقولون إنه بهذا يفعل فعلاً لا يعقل، ولكن كثيرين منا دون أن يفتحوا النوافذ والأبواب فتحوا القنوات الملهية المغرية المفسدة التي تغتال الحياء في النفوس، وتجرح الفضيلة في القلوب، وتحرف الفكر عن الاستقامة، ونحن الذين أدخلناها بأنفسنا، ونحن الذين اشتريناها بأموالنا، ونحن الذين ضبطناها وقسناها ووزناها بأيدينا، ونحن الذين استجلبنا المهندسين ليضبطوها لتحكم ضرباتها على قيمنا وثوابتنا، ولتحكم زعزعتها لإيماننا ويقيننا، فنحن الذين فعلنا فعل ذلك الرجل حتى تضاعفت المخاطر، وعظمت البلايا.(10/5)
المقاييس الخاطئة عند كثير من الناس
وثالثة أتم بها ذلك الأمر، وهي المقاييس الخاطئة التي نقيس بها في أسرنا: فالدراسة أعظم وأكثر أهمية من حيث التطبيق الواقعي والسؤال والاستفسار ودفع الأموال من الصلاة والقرآن والمسجد وغير ذلك؛ لأن الدراسة يُسأل عنها، ويُصرف عليها، ويُنظر في نتائجها، أما الصلاة والقرآن والمسجد فلا تكاد ترد في سؤال ولا تخطر على بال إلا من رحم الله، وهكذا أصبحنا كحال ذلك الرجل، سرقت منا أعظم الثروات التي نملكها، فإذا سرق الأبناء والبنات وضاعت الأسر وحلت هذه الكوارث، فأي شيء يبقى بعد ذلك؟(10/6)
تفريط الأمة في أراضيها وثرواتها
وأنتقل إلى صورة أخرى وهي صورة الأمة بمجموعها: فهناك الأراضي المغتصبة التي صحنا وانتفضنا وقت اغتصابها قليلاً، ثم نمنا وسكتنا بعدها كثيراً، حتى أصبحت اليوم تقاس بالأشبار، وتوزع بالأمتار، وتوضع على الطاولات، وتناقش في المؤتمرات، وتصبح جزءاً من المشروبات والوجبات.
ثم بعد ذلك من الأراضي المغتصبة إلى الثروات المنتهبة، إلى المقدسات المدنسة، إلى السياسات المرتهنة، إلى العمالات الدنيئة، إلى المحاربات الوضيعة، حتى إن بعض بلاد الإسلام لا تحرك ساكناً ولا تنبس ببنت شفة حتى تأخذ التعليمات من الأسياد، بل إنها قد تجاوزت ذلك، وأصبحت هي الأداة المنفذة التي تقوم بحرب الإسلام في عقر داره، والتي تمتهن حملة الإسلام ودعاته وعلمائه في بلادهم وديارهم، والتي تقوم بتدنيس المقدسات والمساجد وغيرها في نفس بلاد الإسلام والعرب، ثم بعد ذلك يمكن أن نقول مثل ما قال ذلك الرجل: أين ذهبت ثروتي؟ وكيف اعتدى عليها الأعداء؟ وكيف عرف اللصوص طريقها؟ فنحن الذين مهدنا، ونحن الذين أعددنا، ونحن الذين ساعدنا، بل نحن الذين نفذنا وفعلنا إلا من رحم الله.
ولعلي حينئذ -وأنا أصل إلى هذه النقطة- أجد أني رسمت صورة سوداء قاتمة، أو إن شئتم فهي صورة مخيفة مرعبة، وهل ذلك مقصد؟ إنه مقصد لأمر واحد فقط: نريد أن نشعر أنفسنا بأن الخطر حقيقي، وأن السرقات قد كثرت، وأن الثروات قد ضاعت، فإن لم نشعر بذلك فلن نغلق أبواباً، ولن نسد نوافذ، ولن نحكم احتياطاً، ولن نأتي بحراسة، ولن نقوم بشيء مهم لنا هو أساس حياتنا، إنه ديننا، إيماننا، إسلامنا.
ماذا كان العرب قبل الإيمان؟ وماذا كانت الجزيرة قبل الإسلام؟ وأي قوم كان أولئك؟ لا يعرف أحد لهم ذكراً، ولا يسطر لهم التاريخ في صفحاته سطراً، فما الذي جعلهم قادة الدنيا، وسادات العالم، ومعلمو البشرية؟ وما الذي جعلهم يأتلفون من شرق ومن غرب، ومن أسود وأبيض، ومن كل اللغات والثقافات؟ إنه دين الله، إنه الإسلام العظيم، إنه الإيمان واليقين، إنه لا قيمة لأمة لا دين لها، ولا قيمة لمجتمعات لا مبادئ لها، ولا قيمة لحضارة لا أخلاق لها، إن الذي يتخلى عن دينه، عن معتقده، عن أخلاقه، عن مبادئه؛ قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.(10/7)
كيفية تحصين الأفراد والبيوت والمجتمعات من الأخطار
نوجه الدفة إلى تدارك الأمر، وإلى تحصين أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا: أولاً: لابد أن ندرك هذه الحقيقة، وهي أن الحياة دين وعقيدة، وإيمان وإسلام، وليس في الحياة تجارة ولا مال ولا زوجة ولا أبناء ولا علاقات ولا صلات، إنها قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك حياة إيمان وإسلام واعتقاد، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] إنه توجيه رباني، ومثله قوله جل وعلا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:43 - 45]، فهذه هي حقيقة الحياة.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43] أي: يتفرقون وينقسمون، {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] ثم الجزاء بالحسنى لمن آمن وعمل الصالحات، والجزاء بالسخط والعذاب لمن أبى ذلك وأعرض عنه.
قال السعدي في تفسير قوله جل وعلا: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ): أقبل بقلبك، وتوجه بوجهك، واسع ببدنك لإقامة الدين بجد واجتهاد، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة، وبادر زمانك وحياتك وشبابك من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.
فتأمل هذه الكلمات: أقبل بقلبك، واسع ببدنك، وتوجه بوجهك، أي: كل حياتك مرتكزها ومحورها ومربط فرسها دينك وإيمانك واعتقادك.
وقال ابن عطية في تفسيره: إقامة الوجه هو تقويم المعتقد، والقوة على الجد في أعمال الدين، والمعنى: اجعل قصدك ومسعاك للدين، أي: لطريقه ولأعماله واعتقاداته.
وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] إن أمة الإسلام لها صبغة، ولها سمت، ولها مزية، إنها أمة إيمان وإسلام ودين يصبغ حياتها في كل شيء بدءاً من خفقة القلب، ومشاعر النفس، وخطرة العقل، وكلمة اللسان، وحركة الجوارح، إلى علاقات المجتمع، وإلى جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والعسكرية، وغيرها، ذلك هو سمت الإسلام وحقيقة الإيمان، وكم من أمة قد ضيعت دينها، وحُرف من قبل أحبارها ورهبانها، وأعلنوا في دساتيرهم أن أديانهم وراء ظهورهم وإن كانوا يقدمونها في واقع التطبيق العملي في زماننا الحاضر.
ودعك من قوم يرددون مقالهم، ويكتبون في صحفنا، ويظهرون على شاشاتنا، ويتصدرون في مؤتمراتنا ليقولوا لنا: دعوا الدين في المساجد واجعلوه في تمتماتكم وأذكاركم ودعواتكم! وخلوا بيننا وبين الدنيا العريضة الواسعة نسرح ونمرح فيها بلا خطام ولا زمام ولا إيمان ولا إسلام، ولا أحكام ولا تشريعات ولا حلال ولا حرام! ودعوا المرأة تأخذ حريتها، أي بالفسق والفجور والمجون! ودعوا الاقتصاد يتحرر من قيد الدين ليكون رباً وقماراً وغشاً وخداعاً! ودعوا السياسة تنطلق من مبدأ المصالح لتكون خيانة ونفاقاً ومؤامرة! ودعوا الحياة كلها لتصبح أكثر شيء فساداً وأعظمه ضرراً، وأشده خطراً، وأكثره ضياعاً لحقوق الإنسان، وحقوق الأديان، وحقوق الأبدان! فأول أمر في تدارك الخطر أن نعرف موقع الدين في حياتنا، وموقع الإسلام والإيمان من قلوبنا ونفوسنا.(10/8)
عداوة الكفار للمسلمين متنوعة ومبنية على العقيدة
وهناك مسألة ثانية وهي: ما الذي يجمع الأعداء حولنا؟ وما الذي يوجه السهام نحو صدورنا؟ وما الذي يجعل المؤامرات تحاك لنا؟ أتراها ثرواتنا؟ أتراها عقولنا المبدعة واختراعاتنا المتكاثرة؟ إن كان شيء من ذلك فهو قليل نادر، لكن الحقيقة جلية واضحة ساطعة، صورها النبي صلى الله عليه وسلم تصويراً بديعاً في حقيقتها حين قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها).
إنها صورة من هذا التكالب، تكشف الآيات القرآنية عن حقيقته في صورة مطردة وحقيقة دائمة؛ قال عز وجل: {َولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فصدقوا القرآن وأيقنوا به، فقوله: (لا يزالون) فعل مضارع يدل على الاستمرار والدوام، فهم: (لا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ) فلا تظنوا أن وقتاً سيمر وهو وقت للسلام كما يقال، وليس بالضرورة أن تكون المقاتلة منازلة في الميدان بالحرب والقتل، فإن مقاتلة قد وقعت وأدمت في إيماننا وإسلامنا أكثر؛ وذلك عبر وسائل الإعلام، ومناهج التعليم، ودسائس السياسة وغير ذلك.
وقوله: (ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) أي أن تلك هي الغاية، فلو أعطيت (10%) من التنازلات فستظل المطالبات، وستظل الاعتداءات (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ)، أي: حتى يصل الأمر إلى أن يكون قلبك قلبهم، وعقلك عقلهم، وهواك هواهم، وعداؤك عداءهم، وولاؤك ولاءهم، وبراؤك براءهم، كما قد وقع من أبناء ملتنا في صور كثيرة نراها ونعرفها.
وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة:217] أي: من وصل إلى هذه المرحلة فأي خسارة خسر؟ وأي أمر في حياته وقع؟! {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] انتهى كل شيء، فمن باع دينه باع حياته ودنياه وأخراه، ومن هان عليه دينه هانت عليه قيمته، وهانت مكانته، وهانت قوته أمام أعدائه؛ لأن أي أمة أو رجل أو إنسان بلا مبدأ ولا قيمة ولا معتقد يستهان به ويذل مهما كان عنده من أسباب القوة المادية.
قال السعدي في تفسيره عند هذه الآية: هذا الوصف عام لكل الكفار.
وقال القاسمي: المقصود تحذير المؤمنين منهم -أي: من الكافرين- وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور.
فكم نرى ممن يغتر بأن هناك أموراً كثيرة نتفق فيها، ونجتمع عليها، وتقربنا من أعدائنا، وغير ذلك مما تسمعون.(10/9)
أهمية معرفة حقيقة دين الإسلام وما يجب نحوه
ثم أنتقل إلى أمر مهم، وهو أمر التعريف، أن نعرف حقيقة ديننا، فديننا وإسلامنا ليس كغيره من الأديان، وليقل غير ذلك من شاء وكيف شاء، وليعدوا ذلك عنصرية أو يعدوه شيئاً من الأشياء التي يذمونها، فإن بين أيدينا كتاب الله عز وجل يخبرنا بأن الإسلام هو الدين المرتضى، قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
ويخبرنا الله عز وجل أن الإسلام هو الدين المقبول فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
ويخبرنا بأن الإسلام هو الدين القيم فقال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة:36] أي: المستقيم، ويخبرنا عز وجل بأنه الدين الحق فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33].
ويخبرنا بأنه الدين الخالص فقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
وأنه الدين الخاتم فقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
فإسلامكم أعظم وأكمل وأشرف وأبقى؛ لأن الله عز وجل اقتضت حكمته ذلك، فختم به الرسالات، وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم النبوات، وختم بالقرآن الكريم الكتب التي أنزلها للخلق أجمعين.(10/10)
أهمية تعليم الأبناء العقيدة الصحيحة
وأضيف إلى هذا أمراً آخر، وهو التوريث: فما الذي نورثه لأبنائنا؟ وما الذي نعلمه لهم؟ وما الذي نعتني به في شأنهم؟ قال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، إن أعظم ما تعطيه وتعنى به، وتنتبه له، وتحرص عليه، وتتابعه وتقيمه، وتنميه وتزيده؛ هو الدين، (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) رسل الله، أنبياء الله، وصوا بالدين والإيمان والإسلام، وورثوه لأبنائهم، وعنوا به، وذلك ما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي كان في آخر حياته من الكلمات والألفاظ؟ هل أوصى بالزوجة والأبناء؟ أو بالثروات والأموال؟ أم كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) ويقول: (لا تتخذوا قبري عيداً) إلى آخر نفس، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]؟ فهذا سعد بن الربيع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وبعد أن أصيب عند آخر لفظة من حياته كان يقول: (بلغوا قومي: أنه ليس فيهم خير قط إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عين تطرف) استولى الإيمان والدين على القلوب فنطقت به الألسنة في أحرج اللحظات وأحرج المواقف، بل في وداع الدنيا واستقبال الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يظهر الإسلام في أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(10/11)
وجوب التمسك بالدين
ثم ننظر فنرى أموراً كثيرة، منها الأصل الأصيل المهم، وهو التمسك بالدين: إن الأمر الذي أنزله الله في كتابه، وبعث به رسوله، والدين والشرع الذي ارتضاه لنا لا لنجعله قولاً على الألسنة، ولا لنجعله مصاحف نزين بها الأبنية والأمكنة، إنما ليكون ديناً نطبقه في واقعنا، ونمارسه في حياتنا، ونحققه في علاقاتنا، ونقيم عليه كل شيء نعمله أو نتركه في حياتنا، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44].
وتأملوا اللفظ القرآني: (فَاسْتَمْسِكْ) ولم يقل: فأمسك، وكذا قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170] (يمسكون) أي: بقوة وبشدة وبحرص وبعناية وبصدق وبإخلاص، وبكامل التوجه في حياتهم، فليس صوراً ظاهرية، ولا مناظر شكلية، ولا مقالات لفظية، بل حقائق إيمانية، وممارسات عملية، ومبادئ ثابتة لا تنفصم عراها، ولا تنحل قواعدها المتينة، قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
إنه لابد من المفارقة والمباينة، فلا نجمع مع الإيمان كفراًًً، ولا مع الإسلام غيره؛ لأن الإسلام هو الدين الكامل القيم المرتضى الحق الخالص، كما بينت آيات القرآن الكريم، فهل نحن كذلك في واقعنا؟ وهل هذا متجلٍ في حياتنا؟ وهل هو الذي يظهر فيما يعنى به في واقعنا؟(10/12)
وجوب التحصن من الأخطار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ومن أعظم التقوى تعظيم أمر الدين والإيمان واليقين في القلوب والنفوس والسلوك والوقائع والحياة كلها، ولعلي أختم بنقطتين مهمتين: الأولى بعد الذي ذكرناه أيضاً: التحصين: فلا تتركوا الأبواب مفتوحة، ولا تتركوا النوافذ مشرعة، ولكن حصنوا إيمانكم، وحصنوا أخلاقكم، وحصنوا بيوتكم، وحصنوا أفكاركم قبل أن تُغزوا في كل ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
وفي هذا المعنى جاء منهج متكامل في القرآن، ففي شأن العقيدة وقاية وحماية وتحصين؛ قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، وقال سبحانه: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخر} [الإسراء:22].
وفي أمور التربية النفسية وقاية أيضاً وحماية وحصانة، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وفي الأمور الخلقية قال عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، ولم يقل: لا تفعلوا الفواحش، بل قال: (لا تَقْرَبُوا) ومثل ذلك: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] أي: لا تأتوا دواعيه، ولا تقتربوا مما يوردكم فيه، وما يؤدي إليه.
وهكذا نجد ذلك أيضاً في الأخلاق الاجتماعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] إلى آخر ما هو مذكور في ذلك.
وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المحذرة المصدرة بقوله (إياكم)، كقوله: (إياكم والدخول على النساء!) وقوله: (إياكم والجلوس في الطرقات!)، وقوله: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث)، فكل تحذير هو تحصين من أمر قد يقع، فمن لم يأخذ بالحذر وقع في خطر.(10/13)
الاطمئنان بوعد الله
وأخيراًًً: لابد من رسالة نختم بها، وهي رسالة التطمين: فلنطمئن لا بشخصنا، بل لأن الله عز وجل قضى بأن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يرفع رايته، فإن لم يكن بنا فسيكون بغيرنا، وإن تخلينا: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
فخذ التطمين من قوله سبحانه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3]، فلن يستطيعوا له استئصالاً وإن فعلوا ما فعلوا، ولن يستطيعوا عليه غلبة وإن تقووا بما تقووا، لكن المطلوب منا ما ذكره سبحانه في تتمة الآية: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [المائدة:3] فاجعلوا خشية الله في قلوبكم أعظم من خشية الدول العظمى، والمؤسسات الدولية، والأنظمة العالمية وغيرها، فحينئذ تكونون أثبت وأقوم، وأقدر على مواجهة كل خطر، قال عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] فاطمئنوا، لكن الطمأنينة وعد الله بفعل البشر الذي يقدره، فلابد من بذل كل غالٍ ورخيص حفاظاً على ديننا، وغيرة على حرماتنا، ونصراً وانتصاراً لمقدساتنا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأخلاقنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع درجاتنا، وامح سيئاتنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه وأنت راضٍ عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم اللهم بدداً، ولا تغادر اللهم منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اقذف اللهم الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين، اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين المعذبين المشردين، والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، والحمد لله رب العالمين.(10/14)
الانتخابات البلدية مسائل ورسائل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول ديننا الإسلامي، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتنوع وتختلف باختلاف الزمان والمكان، وإن إعانة المرشح الصالح في الانتخابات، وإقصاء الفاسد عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعلى المترشح أن يتقي الله في المسئولية المناطة به، وفي الأمانة التي تحملها، وعلى الناخبين أن يراعوا توافر الشروط الشرعية في المرشح وعلى ضوئها يكون التأييد أو الإقصاء.(11/1)
أهمية المنبر في توجيه الناس وإرشادهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً ويمحو الله به عنا وزراً ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فحديثنا متعلق بالانتخابات البلدية مسائل ورسائل حولها، وهذا الموضوع قد يقال على منابر المساجد في خطب الجمعة وغيرها، فما علاقة منبر المسجد وخطبة الجمعة بمثل هذا؟! وأي صلة لهما؟! كما قد يجول في خواطر بعض الناس، أو كما هو اعتراض بعض آخر، وهنا أقول: خطبة الجمعة تُعنى بكل أمر يتصل بشأن الناس وقضاياهم وحوائجهم، وهذا هو جوهر نفعها وفائدتها وحقيقة قوتها وتأثيرها، وهذا مدخل أولي.(11/2)
شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة
وأمر ثان مهم: هو تأكيد وتجلية حقيقة شمولية إسلامنا العظيم، لكل جوانب الحياة فلا يصح قصره على أسس الاعتقاد وأحكام الفقه في تفصيلات العبادات، بل هو معني بكل شأن من شئون الحياة، معني بأن يوجه الناس ويبين لهم حكم الله جل وعلا في معاملاتهم المالية الاقتصادية وفي شئونهم الزوجية الاجتماعية، وفي أحوالهم القضائية العدلية، وفي كل باب من أبواب الحياة، كما قال الحق سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3]، وكما عبر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شمول ما جاءهم به وما أرشدهم إليه في أدق الأمور وأصغرها فضلاً عن جليلها وأكبرها، كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى قضاء الحاجة، وكما قال أبو ذر رضي الله عنه: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما) فذلك هو الإسلام العظيم في كل شأن من شئون الحياة يبينها ويفصلها ويظهر جوانبها المختلفة.
وأمر ثالث: وهو حسن الإرشاد والتوجيه في أي مسألة تحدث للناس وفيها خواطر وحوائج يريدون فيها بياناً للحكم أو تفضيلاً لأمر على أمر أو كشفاً لشبهة، وحري وجدير أن يكون ذلك من دور المسجد ومن أمانته ورسالته.
وقد قال الشاطبي رحمه الله: الشرع جاء ليقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصداً لإقامة مصالح الدنيا حتى يأتي فيها سلوك الآخرة.
فليس في ديننا دنيا منعزلة عن الدين أو دين ليس له شأن بالدنيا، فذلك أمر لا يصح في الإسلام، بل هو مناقض لأصوله وقواعده ومخالف لحقيقته وتاريخه، وهو أساس ومقصد أعظم لمن يريدون إضعاف الإسلام وأهله بالفصل ما بين دينهم واعتقادهم وأحكامهم وتشريعاتهم وبين مسالك حياتهم، فلتمتلئ المساجد بالمصلين ولتعج أجواء الفضاء بهم تالين وذاكرين، ثم يكونون في الاقتصاد مرابين وفي الاجتماع مختلطين وغير ملتزمين بحجاب ولا غيره، ذلك هو غاية ما يريده أعداء الإسلام وبعض المسئولين من أبناء المسلمين ممن اختل فهمهم أو اعوج سلوكهم وفتنوا بغيرهم.
إذاً فنحن مدخلنا إلى ذلك مدخل أصيل نتحدث فيه ونتناوله، وربما يكون لنا به أحقية أكثر من غيرنا؛ ذلك أننا نريد دائماً وأبداً أن نكون كما ينبغي، وأن يكون هذا المنبر أخلص قصداً وأنزه مسلكاً وأرشد رأياً وأصوب قولاً فيما يعود إليه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(11/3)
مشروعية الانتخابات
وقفتنا الأولى في مشروعية هذه العملية، وهنا مسائل: أولها: أن هذه الانتخابات وغيرها إنما هي وسيلة لغاية، فقد تكون اليوم على هذا النحو في سبعة أجزاء، وقد تكون من بعد في عشرة، وقد يكون الأمر في أشخاص عدتهم كذا ثم يكونون كذا، فهي وسيلة، والقاعدة تقول: إن للوسائل أحكام الغايات ما لم تناقض شرعاً أو يكون فيها محرم.
والغاية لمثل هذا الأمر هو أن يكون من بين الناس من يؤدي أدواراً مهمة كما هو معلن وكما هو مراد، وأولها: تحسين الأداء والعمل الذي تقوم به هذه البلديات، ونحن نعلم -ولا إشكال في وضوح ذلك وبيانه- أن من أكثر الجهات التي يشتكي منها الناس وقد يعانون من خدماتها وقد يكون فيها من التجاوزات ما فيها هذه البلديات، وهذه المشاركة -مما هو ظاهر فيها ومعلن عنها- تهدف إلى تحسين الأداء.
وثانيها: أنها تهدف إلى الضبط والمراقبة ومنع ما قد يكون من خلل أو تجاوز أو تغيير لحق أو تأخير له ونحو ذلك، وهذا أيضاً أمر مهم وغاية محمودة ينبغي الحرص عليها.
والثالث: توصيل حوائج الناس وقضاؤها والتعجيل في تحقيق مطالبهم، ذلك أن الذين ينتخبون ليسوا محسوبين على الوظائف المعتادة التي يستند فيها الموظف إلى تعيينه دون التفات إلى مصالح الناس، وأول مهمة هؤلاء أنه ينبغي أن يسمعوا أصوات الناس، وأن يسمعوا مشكلاتهم، وأن يكونوا ساعين لهم وأجراء عندهم ووكلاء عنهم في حقيقة الأمر؛ لأن هذه هي حقيقة الولاية في الإسلام، حتى الولاية العظمى -أي: ولاية أمر المسلمين- إنما ولي أمر المسلمين فيها وكيل عنهم في إقامة الدين وسياسة مصالح الدنيا، وإنما هو أجير عند الأمة يقوم بما كلفه الله عز وجل إياه لتحقيق مصالح الأمة، فإذا كانت هذه هي الغايات المحمودة من حسن الأداء والعمل ووجود الرقابة والضبط، وكانوا أجراء عند الناس ووكلاء عنهم في الحرص على مصالح الناس وتحقيقها، فالوسيلة حينئذٍ تأخذ حكم هذه الغاية في جوازها وفي مشروعيتها وفي استحبابها.
ثاني تلك المسائل: أن مثل هذا بالنسبة للناس هو لون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قلنا: إن هناك خللاً أو فساداً أو تقصيراً وجاءت وسيلة يمكن من خلالها أن نقوم هذا الخلل أو نكمل ذلك النقص أو نقوم هذا الاعوجاج فلا شك أن هذا مطلب في حق كل مسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل سمة المؤمنين في المجتمع المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، بل جعل سمة الأمة كلها مرتبطة بذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فهذه وسيلة لك ولمن يصل إلى ذلك الموقع ليؤدي هذه المهمة ويتقي الله سبحانه وتعالى، فلا يرى منكراً إلا ويمنعه بقدر جهده وطاقته، ولا يرى خيراً إلا ويسعى إلى إنفاذه وإقراره ونشره وإقامته بين الناس.
الثالث: أن هذا الانتخاب شهادة، فإن قيل لك: إن هذا موقع من المواقع ومنصب من المناصب يتنافس فيه عشرة من الناس ونريد منك أن تشهد شهادة لله عز وجل لمن ترى أو تعرف أنه أقدر على قيامه بالواجب في هذه المهمة والمسئولية، فالشهادة حينئذٍ مطلوبة، والمؤمن لا يشهد إلا بالحق، وإذا قصر عن الشهادة في وقت يحتاج فيه إلى شهادته فترتب على غياب شهادته إقرار لباطل، أو تقديم لفاسد أو نحو ذلك فإنه قد يكون آثماً بهذا؛ إذ سكت عن حق وكتم شهادة، وكلنا يعلم ذلك في قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، فاشهد بالحق، وقل بما يغلب على ظنك أنه الصواب، وتحر الإخلاص، وتنزه عن أن يكون لك مقصد غير إقرار الحق والنطق به والشهادة به، كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2].
فقوله تعالى: (أقيموا الشهادة لله) أي: ابتغاء وجهه ومرضاته، لا لمصلحة ولا ميل إلى من لك عنده مصلحة.
فانتخابك شهادة فلا ينبغي لك أن تكتم الشهادة وأنت قادر على إنفاذها، وأنت تعلم أن إنفاذها يكون فيه خير.(11/4)
كلام العلامة ابن باز في شأن الانتخابات
إن مقالات أهل العلم في هذا الشأن من علماء الأمة المعاصرين وأقوالهم كثيرة، فقد قال الشيخ ابن باز رحمه الله عن الانتخابات التشريعية أو المجالس النيابية إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله.
إذاً فهذه ومضات ظاهرة واضحة للمشروعية، بل وفي الندب إلى ما فيه أمر بمعروف ونهي عن المنكر وشهادة بالحق، وتحقيق لغايات فيها مصالح للناس وقضاء لحوائجهم.(11/5)
رسائل موجهة لمن يدلون بأصواتهم
الرسائل نوجهها لمن يدلون بأصواتهم ولمن يرشحون أنفسهم قبل ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام في مدين حكاية عن شعيب: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].(11/6)
على المسلم أن يتقن ما أنيط به من عمل ومسئولية
وثمة مسألة أخرى تقال هنا، وهي الإتقان، فليس أداء الواجب بأدنى الدرجات، بل ينبغي الحرص فيه على أعلاها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روت عائشة رضي الله عنها: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) فينبغي لمن يتصدى لذلك أن يعلم أنه لا يلزمه القيام بالواجب فحسب، بل الإتقان فيه والحرص على أعلى المراتب، وحسبنا ما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما تولوا المسئوليات الكبرى، فقد تولى أبو بكر الخلافة وقال قولته المشهورة: (وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) وقوله: (إنما وليت بقولكم ورأيكم واجتماع كلمتكم) وفيه إشارة إلى أن قول أهل الحق والإسلام في أمر يكون به مثل ذلك.
وعمر رضي الله عنه كان يفعل ويفعل ويفعل ثم يقول: (والله لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله لم لم تسو لها الطريق؟!) إن كنت تريد أن تتصدى لمسئولية عامة فتذكر هذه الأمثلة، وتذكر الذين سهروا ليلهم ونهارهم وكان أمر المسئولية يؤرق نومهم ويقض مضاجعهم إخلاصاً لله ورعاية لمصالح الناس، واستشعاراً للمسئولية وحرصاً على الإتقان.
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لطاعته ومرضاته، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا للصالحات واصرف عنا السيئات، واغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأنزل علينا الرحمات وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات وكفر عنا السيئات برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداةً مهديين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم ألفِّ على الحق قلوبنا، وثبت على طريقه أقدامنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمأسورين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم ردهم على أعقابهم خائبين، نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، ورزقها ورغد عيشها، اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تول علينا شرارنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
وفق اللهم ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/7)
تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرماً
إن الانتخاب أو التصويت هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وشهادة ينبغي أن تقوم بالحق، وأن يكون فيها تقوى الله سبحانه وتعالى، وأما وقد جاء في هذه الوسائل ما يقدم فيها المرء نفسه ويذكر للناس ما يعرف ببرنامجه أو ما يريد أن يفعله لهم، وقد تكون هناك صور أخرى أنسب أو أوجه منه، فإنا نقول: هذه الصورة في ذاتها ليست محرمة، وإن كانت النصوص قد يكون فيها ما يدل على أن هناك ما هو أولى، إلا أن قول الله سبحانه وتعالى في قصة يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فيه إشارة إلى أن من وجد في نفسه كفاءة لأمر يرى أنه يحقق فيه للمسلمين مصلحة فلا بأس أن يتقدم له، وأن يذكر ما عنده فيه، فإن يوسف عليه السلام لما علم ما علم من شأن الرؤيا التي أراه الله إياها ورأى أن للناس مصالح وهو قادر عليها قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] فطلب الولاية، وكذلك بين ما لديه من قدرات فقال: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، ومن هنا فإن الجمع بين هذا وهذا يرجى أن يكون واضحاً، وأنَّ ذكر ما يعمله الإنسان أو ما عنده من علم إنما هو باب من الأبواب التي فيها اجتهاد بين الجواز أو المنع عند بعضهم، أو رؤية غير ذلك أولى، لكن الأمر المهم في وجوب ذلك أو جوازه هو أن لا يكون مظنةً أو مدخلاً إلى الغرور والاغترار والإعجاب بالنفس والاستكبار أو طلب الشهرة بين الناس ونسيان المقصد الأعظم، وهو أنه يريد أن يقوم بواجب وأن يؤدي أمانة وأن يتحمل مسئولية، وأن يكون وكيلاً عن الناس في تحقيق مصالحهم.
فلا يلتفت المرء عن مثل هذا لمثل ذاك، فإن من فعل فإنه أساء -ولا شك- وأخطأ، ولذلك ينبغي أن ندرك أن من يتصدى لذلك فإن عليه أن ينتبه إلى الأمانة، فإن كل مسئولية صغرت أو كبرت فهي أمانة، وينبغي أن نتذكر قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
وأن يعلم أن الأمانة العظمى ومثلها الأمانات الأخرى مسئول عنها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وأن ندرك أيضاً أنه يؤدي واجبه، وأنه بعد ذلك مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى عما استأمنه الله عليه وعما ولاه الله إياه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
وكذلك أن يدرك المسئولية وأنها عظيمة، وأن الله سبحانه وتعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرتهنة بعملها إن أحسنت أعتقت نفسها وإن أساءت أوبقت نفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يعتقها من النار ومن العذاب بأن يؤدي الواجب ويحفظ الأمانة ويقوم بقدر استطاعته بما ينبغي عليه القيام به، وإما أن يفرط فيوبقها ويلجمها بالإثم ويستحق بذلك العقاب.(11/8)
أن يكون الاختيار مبنياً على أساس إسلامي
أول رسالة أن يكون اختيارنا مبنياً على أساس إسلامي ومنهج قرآني وهدي نبوي، فقد قالت الفتاة: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) قال السعدي في تفسيره: أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة.
وهذان الوصفان ينبني عليهما الإنجاز في كل من يتولى أمراً من الأمور في إدارة أو غيرها، فإن الخلل يكون بفقدهما أو فقد أحدهما، وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل، فلابد من أن ننظر إلى من يقدر وإلى من يظن أنه يستطيع أن يقوم بالمهمة على وجه حسن، وأن ننظر إلى ديانته وأمانته وصدقه وإخلاصه فيما نرى وفيما نجتهد؛ لأن من لا يقصد وجه الله عز وجل ويخلص له قد يُفتن وقد يَفتن، وقد ينصرف إلى حظ نفسه، وقد يغلب مصالحه، وقد يضيع أمانته ويفرط في مسئوليته، فينبغي أن ننتبه لذلك جميعاً.(11/9)
مقصود الولاية العظمى إقامة الشرع
ورسالة ثانية توجه للجميع، فما المقصود من هذه المسئولية أو المهمة؟ بل ما المقصود مما هو أعظم منها وهو الولاية العظمى؟ إن مقاصد الإسلام في كل ولاية هي إقامة الدين ورعاية المصالح في الدنيا، فكل ولاية ومهمة الجزء الأساسي في غايتها هي مصالح الناس ورعاية أمور دنياهم، وإقامة الحق والشرع فيهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربةً يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إلى الله بطاعته وطاعة رسوله أفضل القربات.
ثم تكلم عن واقع مهم، وهو قول مطرد في المجتمعات، قال: إن الناس انقسموا إلى قسمين: الأول: من اتخذ الولاية لحظ نفسه فاستعملها في مصالحه وفي تحصيل المال، وضيع أمور الناس.
وقسم آخر لما رأى الولاية والسلطان اقترنا في كثير من الصور بالاستئثار بالمال والاعتداء على الحقوق وتضييع المصالح رأى أن لا يكون له في ذلك نصيب وأن ينقطع عنه وينعزل.
قال: وكلا السبيلين غير محمودٍ، بل ذكر أن هذين السبيلين هما سبيلا المغضوب عليهم والضالين من الأمم، فاليهود أخذت المال، وجعلت السلطان حظاً للمال وللفساد في الأرض، وغيرهم انقطعوا وانعزلوا أو جعلوا انقطاعهم وانعزالهم إلى الصوامع وإلى البيع وتركوا أمور الناس وشئون الحياة.
قال: وسبيل الحق بينهما، وهو أن يأخذ المسلم من هذه الولايات ما يعتبره أمانة يحملها ومسئولية يؤديها فيقوم فيها بالصلاح والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال رحمه الله: إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لأجل ذلك وبه أنزل الكتب وأرسل الرسل.
وقال أيضاً: وجميع الولايات إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل ولاية السلطان، والصغرى مثل ولاية الشرطة، ودون ذلك مثل ولاية المال أو ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة، فكل ولاية هي ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الدين ورعاية مصالح الدنيا.
ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى فيكون للذي ينتخب نية في أنه يسهم في هذا الأمر إحقاقاً للحق وتقديماً له ورعاية للمصلحة، وأن يعرف من يرشح نفسه أنه إنما ينتدب لمهمة يتقرب فيها إلى الله، ويخلص فيها له سبحانه لا لحظ نفسه، ولا لشهرته أو جاهه أو غير ذلك.(11/10)
الولاية في الإسلام لا تعطى لمن يطلبها
وهنا -أيضاً- رسائل أخرى تبين لنا عظمة ديننا من جهة، وتبين لنا ما ينبغي أن نكون عليه من جهة أخرى، وهي أن الولاية في الإسلام -كما هو معلوم- لا تعطى لمن يطلبها، ولا ينبغي أن يستشرف لها من ليس أهلاً لها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بصريح حديثه: (إنا لا نعطي هذا الأمر من سأله) وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي ذر المشهور: (يا أبا ذر! إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها).
فليست المسألة أن نسارع إلى أمر نظنه هيناً، إنها أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة ومهمة دقيقة، ومن أخلص فيها كانت له عبادة جليلة، ومن فرط فيها وأساء وأفسد ربما كانت له سمة ذميمة وإثماً عظيماً، نسأل الله عز وجل السلامة.
ومن هنا نجد التوجيهات النبوية في هذا الشأن وهي تدلنا على أمور كثيرة مهمة، منها: ما الذي ينبغي لمن يقوم بمهمة أو يتولى مسئولية؟ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم! من ولي من أمر المسلمين شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به) وهذا يدلنا على الواجب المطلوب لكل مسئول من أعلى مسئول إلى أدنى مسئول، وأنه إنما هو أجير وخادم للناس وراع لمصالحهم، وفي الحديث: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وجاء -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أن في المسلمين من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه الحاكم في مستدركه وصححه، وسكت عنه الذهبي.
إذاً فالمسألة دين وأمانة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا في كل أمورنا أن نقصد وجه الله وأن نتابع شرع الله، وأن نقتفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نجتهد في إصابة الحق، وأن نتناصح به وبالصبر.(11/11)
الاستيعاب والاقتباس في الدعوة
موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة موضوع مهم جداً؛ لأنه يوسع دائرة الدعوة ويكثر الراغبين في حملها والتفاعل معها، ولأن أمر الدعوة أمر عظيم، فهو ميراث النبوة، والمهمة التي شرف الله عز وجل بها هذه الأمة، وهذا الموضوع له أسباب وفوائد وضوابط وأسس يجب معرفتها ومراعاتها حتى لا تختلط الأمور عند الأخذ بها.(12/1)
مقدمة عن أهمية موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى في كل آن وعلى كل حال، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه.
أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (الاستيعاب والاقتباس في الدعوة).
وهو موضوع من المواضيع الدعوية التي لها أهميتها فيما نحتاج إليها في الاستفادة من الدعوة، وتوسيع دائرتها، وتكثير الراغبين في التزامها وحملها والتفاعل معها، فإن أمر الدعوة إلى الله عز وجل أمر عظيم، هو وراثة النبوة والسير على هدي سلف الأمة، وهو المهمة التي جعل الله عز وجل شرف هذه الأمة مكنوزاً فيه، كما قال سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وكما شرف الله عز وجل أصحاب الدعوة وأربابها وحملتها والناطقين بها والرافعين للوائها بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ولذا فإن تناول هذا الموضوع وغيره من الموضوعات، إنما هو لأهمية الدعوة، سيما في وقتنا المعاصر وفي بيئتنا الحاضرة، وكثير من الموضوعات المتعلقة بالدعوة هي اجتهادات قابلة للأخذ والرد، ومحتملة للصواب والخطأ، وهي في كثير مما تستخلص منه تجارب واجتهادات ناشئة عن علم وبصيرة، وعن ممارسة وتجربة، وهذا الموضوع هو عبارة عن رءوس أقلام؛ لأن التفصيل فيه يحتاج إلى تطويل، خاصة فيما يتصل بالأمثلة المتعلقة بالواقع المعاصر، وخاصة إذا استجبنا لما قد يطلبه الإخوة من إجابة على بعض التساؤلات في وقائع معينة، أو في صور ومشكلات يمرون بها ويتساءلون عنها، ولذلك سوف يكون ما نجمله إن شاء الله عز وجل معيناً على الفهم والتطبيق في أمثلة أخرى، وفي ممارسات كثيرة متعددة.(12/2)
أسباب الحديث عن موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة
إن الحديث عن مثل هذا الموضوع على وجه الخصوص له أسباب كثيرة، من أبرزها:(12/3)
السبب الأول: الانفتاح والإقبال الكبير والشديد من الأمة نحو الالتزام بالدين
إن الانفتاح والإقبال الكبير والشديد الذي تشهده الأمة الإسلامية في مجتمعاتها في شرق الأرض وغربها نحو الالتزام الإسلامي، والرغبة في خدمة هذا الدين، والحرص على العلم به والفقه فيه، والالتزام العملي بموجباته وأحكامه، فنحن نرى اليوم إقبالاً عجيباً، لا يوجد أحد ولا جهة ولا مجتمع ولا دولة يكون سبباً فيه، وإنما هي ظروف وعوامل متعددة ومختلفة ساقتها أقدار الله عز وجل وعنايته سبحانه وتعالى ورحمته، بعد أن كان هناك شرود وبعد عن دين الله عز وجل، فصارت -بحمد الله عز وجل- هناك صحوة وأوبة إلى هذا الدين العظيم.
وهذا الإقبال أصبح أكبر بكثير من الجهود التي تبذل في مجال الدعوة، فإن الصحوة قد سبقت الدعوة، فإذا بكثير من العقول تستنير وتطلب العلم والفقه والفهم، وإذا بكثير من القلوب تستضيء وتطلب النعمة والإيمان والهدى والاستقامة قبل أن تصلها جهود الدعوة بالكلمة المسموعة أو المقروءة، أو بالدعاة الذي يجوبون البلاد والديار، وهذا السبق لم يكن سبقاً عادياً أو محدوداً، بل كان سبقاً كبيراً ومنتشراً، فلذلك لابد من الحديث عن الاستيعاب لهذه الجموع الغفيرة المقبلة على الخير الراغبة في هذا الدين ونصرته وتأييده وحمل رسالته ونشر دعوته في كل مكان، ولا شك أن الناحية النظرية تقصر كثيراً عن الناحية العملية في مسألة الاستيعاب الذي سأذكر مرادنا منه والنقاط التي سأتعرض لها ضمن هذا الموضوع.(12/4)
السبب الثاني: التنوع والاختلاف
وذلك الإقبال الكبير يشمل أنماطاً مختلفة من البشر، وأنواعاً متباينة من التفكير، وأناساً أتوا من بيئات مختلفة، ومن أنماط من التربية أو التعليم متباينة، فهذا التنوع والاختلاف لابد من أن يثير عندنا التساؤل الذي نطلب له إجابة عملية قبل أن تكون نظرية، وهو: كيف نتعامل مع هذا التنوع؟ فنحن اليوم نشهد إقبالاً من الأعاجم والعرب، ومن الأميين والمتعلمين، ومن أصحاب المهن العلمية وكذلك أصحاب التخصصات الأدبية أو العلوم الإنسانية، نشهد إقبالاً في صفوف الرجال والنساء، في صفوف الصغار والكبار، لم تعد القضية محدودة في فئة معينة يمكن أن يرسم لها برنامج محدد، وأن تصاغ لها لغة تناسبها، بل صار الأمر -بحمد الله عز وجل- أوسع وأشمل، وأكثر تنوعاً واختلافاً، مما يستدعي أن يكون هناك مجال وحاجة ملحة للتفكير في هذا الاستيعاب.(12/5)
السبب الثالث: المنافسة بين الدعوة الإسلامية والدعوة الشيطانية
إن المنافسة في الساحة الاجتماعية في ديار المسلمين ليست بين إسلام وإسلام، وإنما التنافس بين الدعوة الإسلامية والدعوة غير الإسلامية، فهناك دعوة العلمنة التي تريد منك أن تحافظ على مكتسباتها التي كابدت وخسرت من أجلها خلال عقود من السنوات طويلة، وهناك دعوات التغريب التي تريد أن تلحق المجتمعات الإسلامية بالمجتمعات الغربية، وتجعل طبيعة حياتها وتفكيرها يسير في هذا الاتجاه، وكل صاحب فكرة أو دعوة يسعى بكل جهده من الجهد العقلي والجهد الفكري والجهد الإعلامي والجهد المادي ليسحب البساط من التيار الخيِّر الذي سرى -بحمد الله عز وجل- في الأمة الإسلامية اليوم، وهو تيار الأوبة الإسلامية والصحوة الإيمانية بحمد الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لا يمكن لأرباب الدعوة الإسلامية أن يتألفوا القلوب، وأن يرشدوا العقول دون أن يطوروا أساليبهم، ودون أن يفكروا في اجتهاداتهم، وأن يراجعوا حساباتهم؛ ليستطيعوا أن يكونوا أكثر قرباً من المسلمين والمجتمعات الإسلامية من أولئك الأشرار، وليكونوا أيضاً أكثر إقناعاً للناس وترغيباً لهم في هذا الحق والخير الذي تخفق به قلوبهم وتطمئن إليه نفوسهم، ولذلك لابد لنا من أن نتحدث عن الاستيعاب والاقتباس في الدعوة، عل هذا الحديث يثير تفكيراً متواصلاً وتجارب متتابعة تزيد من قوة الدعوة وقدرتها على كسب مزيد من المسلمين إلى صفوفها وإلى رحابها الواسعة الخيرة.(12/6)
حقيقة الاستيعاب
الاستيعاب: هو القدرة على اجتذاب الناس واستمالتهم للدعوة والخير.
ولابد من أن نعلم أن المسلم مهما شرد وغرق في أوحال المعصية، ومهما تلوث عقله بكثير من الشبهات فإن بذرة الخير في قلبه ما تزال موجودة وإن كانت مخبوءة، ولذلك ليس من مهمتنا أن نئد هذه البذرة، وأن نطمس قليل الضوء الذي فيها، بل مهمتنا أن نزيل الركام من حولها، وأن نوسع الطريق لها لتشق بضيائها القليل طريقها نحو القلب والنفس، فتملأ الجوانح بنور الإيمان بإذن الله عز وجل.(12/7)
نماذج من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستيعاب والاقتداء به
علينا أن نحسن الدعوة وأساليبها وطرائقها لنستميل القلوب والعقول بصورة نظرية قوية، وبصورة عملية أقوى منها، وحسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً وقدوة في هذا الشأن؛ لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام تعامل مع الصغار والأطفال، وتعامل مع الشيوخ والكبار، وخاطب الرجال وأقنع النساء، وسلَّم له الموافق والمخالف، واستمال بحجته عقول المعرضين والمعاندين، ودمغت أدلته حجج المغالطين والمرائين وأصحاب الشبهات والمغالطات.
لقد كان في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنموذج الداعية الذي يستوعب كل صنف من أصناف البشر في كل حالة من حالات الحياة عبر كل ظرف من ظروف الزمان والمكان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مثالاً يقتدى به، فلقد اشرأبت إليه الأعناق، وأحبته سويداء القلوب، وتعلقت به الأمة كلها، حتى إن مخالفيه شهدوا له بالحق والعدل والفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان الداعية الكامل الذي ينبغي أن يحتذى ويقتدى به.
فهذا على سبيل المثال ثمامة بن أثال، وقد كان على كفره، فأسره بعض المسلمين واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربطه في المسجد عليه الصلاة والسلام لينظر إلى هذا المجتمع المسلم كيف يؤدي صلاته وعبادته، وكيف يسجد لربه ومولاه، وكيف يطيع رسوله وقدوته صلى الله عليه وسلم، وكيف تمتزج صفوفه وتلتحم، وكيف تأتلف قلوبهم وتعتدل، وكيف يمثل نموذجاً للمجتمعات البشرية على أرقى مستوى يمكن أن يعيشه الإنسان في هذه الأرض، وإذا بهذا البصر لذلك الكافر، وبذلك العقل لذلك المعرض، وبذلك القلب لذلك الذي حرم من نور الإيمان يفكر ويشتغل ويتدبر، ثم يخاطبه النبي عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أما آن لك يا ثمامة أن تسلم؟) فيقول ثمامة: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك.
ثم بعد ذلك أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقيم عليه سيفاً ليقطع رقبته، ودون أن يثير له رعباً ينخلع له قلبه، ودون أن يمارس عليه ضغطاً يرغمه على أن يقتنع بما لا يقبله عقله ولا منطقه، بل ترك له بعد هذا الأسلوب الدعويّ المؤثر الخيار، فإذا به يخرج من المسجد فيذهب إلى أقرب مكان فيغتسل، ثم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتحول إلى معين ناصر للدعوة الإسلامية، ويمنع الميرة عن قريش.
وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، جاء إلى مكة وسبقت إلى أذنه الدعايات المغرضة، والحملات الإعلامية المشوهة أن لا تسمع محمداً صلى الله عليه وسلم ولا تجلس إليه؛ لأنه يفرق بين المرء وزوجه، ولأنه يسفه أدياننا وتراثنا وآباءنا وأجدادنا.
وظلوا به كذلك حتى نجحوا نوعاً ما، لكنه نجاح هزيل لا يعتمد على قوة الإقناع، نجحوا إلى أن وصل نجاحهم أن أخذ كرسفاً -أي: قطناً- ووضعه في أذنيه ليصم أذنه عن سماع محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نقول: حبل الكذب قصير.
ثم إنه فكر بعقله وقال: أنا رجل من عقلاء الناس أعرف الكلام صوابه وخطأه، وأعرف الشعر نظمه ونثره، فلماذا لا أسمع فإن وجدت خيراً عرفت، وإن وجدت شراً أنكرت؟! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما هي إلا كلمات يسيرة حتى دخل الإيمان قلبه، وأقنعت الحجة عقله، وانقلب من فوره إلى مسلم لا يقبل بعلاقة مع زوجه ومع أبيه إلا أن تكون علاقة بمقياس هذا الدين، ووفق حقيقة التوحيد.
وهكذا سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوض في صلح الحديبية بغطرسة الكفر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم).
فيقول سهيل: لا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
فيغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف؛ لأنه يريد أن يسحب الحجج الشكلية الواهية، وأن يبتعد عن المعارك الجانبية الكاذبة ليخلص إلى جوهر الموضوع، قال سهيل اكتب: باسمك اللهم.
فقال لـ علي: (اكتب: باسمك اللهم)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لو كنا نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله).
وفي بعض الآثار أن علياً رضي الله عنه أبى أن يكتب من غيظه لتعنت المشركين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أصر عليه، وفي بعض الآثار والروايات أنه قال لأصحابه: (أشيروا على مكانها.
فلما أشاروا إلى موضعها مسحها عليه الصلاة والسلام بيده) وهذا يمثل لنا قمة القدرة على ضبط النفس لأجل استيعاب الموقف وإقامة الحجة وإعلاء الراية.
وهكذا في مواقف شتى أختمها بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي نعلم من قصته لما صلى وعطس في الصلاة، ثم حمد الله وسط الصلاة، ولم يكن يعرف النهي عن الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إلي -يعني: الصحابة- قال: فقلت -على طبيعته وسليقته في أثناء صلاته-: واثكل أمياه! مالكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعا بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي فوالله ما نهرني ولا كهرني ولا ضربني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده خيراً منه قط، إنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس).
وهكذا أمثلة كثيرة جداً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الاستيعاب عند الناس؛ لأنه ليس كل الناس يستوعبون الأمر كاملاً، ولا يأخذونه على تمامه، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله).(12/8)
القواعد الأساسية المهمة للاستيعاب
من أجل أن يكون هناك استيعاب صحيح -بإذن الله عز وجل- فهناك أمور مهمة وقواعد أساسية ينبغي أن يدركها العاملون في مجال الدعوة على وجه الخصوص.(12/9)
القاعدة الأولى: الناس مراتب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)، فلم يكن كل الصحابة مثل أبي بكر وعمر، بل كان فيهم كثيرون ليسوا على تلك المراتب، فينبغي أن نعلم أن في الناس أصحاب همم عالية ومراتب سامقة، وأن منهم من هو أضعف من ذلك، وأن منهم من هو أدنى مرتبة، وقد ذكر الله لنا أن من الناس من هو سابق في الخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، ولذلك ينبغي -لكي نستوعب كل المسلمين في إطار الدعوة- أن ننظر إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف استوعب كل المجتمع المسلم، بما فيه من أعراب أجلاف ذكر الله وصفهم في القرآن الكريم، وبما فيه من نساء عجائز ليس عندهن عقول مفكرة ولا نظرات ثاقبة، ولكن عندهن قلوب مؤمنة وعقول مسلمة، ولذلك ورد في الحديث الصحيح بروايات مختلفة في شأن نزول القرآن على سبعة أحرف (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل فقال له: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن في أمتي الرجل الكبير، والمرأة العجوز، ومن لا يفقه في دين الله -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فنزل جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف).
إذاً لابد من أن نعرف أن منازل الناس تتفاوت بتفاوت أفكارهم وهممهم وحماسهم وقوة عزائمهم، فينبغي لنا أن نسير بسير الضعيف، وكما قيل: سيروا بسير أضعفكم.
وكما قيل: الضعيف أمير الركب.
هذا من حيث النظرة العامة، أما عندما نطلب مهمات خاصة وأموراً ذات حساسية كبيرة وقضايا ذات أهمية خاصة فلابد من أن نطلب لها الأكفياء الذين عندهم من المؤهلات ما يناسبها، أما أن أطلب من الرجل العامي المسلم الضعيف الذي لم يتلق تعليماً عريضاً، ولم يحفظ من القرآن والسنة والفقه شيئاً كثيراً فإنني أحمله ما لا يطيق، فإذا حملته ما لم يطق أدبر وولى، وإذا لم أستوعبه خسرته، وخسرت كذلك الطاقة الدعوية الموجودة عنده التي كان ينبغي أن تستثمر وأن يستفاد منها.
ولقد كانت امرأة عجوزٌ على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم تقم الأذى من المسجد، فلما ماتت وهي امرأة عجوز ليس لها تلك المنزلة العالية غضب لها النبي عليه الصلاة والسلام حين لم يؤذنوه حتى يشهد دفنها عليه الصلاة والسلام.(12/10)
القاعدة الثانية: القدرة على استثمار الطاقات ومعرفة الاحتياجات
لابد من أن يكون عند أرباب الدعوة قدرة على استثمار الطاقات ومعرفة بالاحتياجات، فليس من الحكمة بحال من الأحوال ولا من الفطنة أن نطلب من كل الناس أن يكونوا خطباء مفوهين، أو كتاباً مبدعين، أو علماء فقهاء، بل ينبغي أن نعرف أن هناك حاجات كثيرة، وأن هناك طاقات معينة لابد من أن توضع في مكانها المناسب لها، فليس من الحكمة أن آتي إلى طبيب مسلم أحب هذا الدين ورغب في نصرته فأصر عليه أن يكون خطيباً أو معلماً أو شيخاً معمماً، فإن هذا قد لا يكون مناسباً له، ولابد من أن نعرف أن الاحتياجات هي احتياجات الحياة كلها، فالأمة المسلمة تحتاج إلى الذي يجيد الخط، كما تحتاج الذي يصلح البناء، كما تحتاج الذي يكون ممن يكثر سواد الأمة فحسب، فالكل يمكن أن يؤدي دوراً، أما إذا قلنا: ليس إلا هذه الأدوار فإننا سنخسر كثيراً من الطاقات.(12/11)
القاعدة الثالثة: اعتماد التدرج في السياسة الدعوية والتربوية
بعض الدعاة بمجرد أن يستشعروا عاطفة حارة من المقبلين على الخير يبدءون في إعطائهم مهمات كبيرة، وإلقاء كثير من التبعات عليهم ظناً أن هذه الطائفة تستطيع أن تتحمل التبعات وأن تقوم بالمهمات، كلا، فلابد من أن نعطي للزمن حظه، ولابد من أن نعطي للتدرج منزلته وأهميته، وأن نسير الهوينى شيئاً فشيئاً ومرتبة مرتبة، فإن الأمر الذي يأتي سريعاً يذهب سريعاً، والعاطفة المقبلة على الخير إذا زدناها اشتعالاً ربما تهب عليها ريح لا تلبث أن تطفئها، ولا يعود لها بعد ذلك اشتعال من جديد.(12/12)
القاعدة الرابعة: معرفة الواقع معرفة دقيقة
إن الذي يدرك هذا الواقع ويعرف أحوال الناس وما يؤثر في بيئتهم يستطيع أن يعرف أفكارهم، ويستطيع أن يلتمس الأعذار لما قد يكون في أذهانهم من الشبهات، أو في سلوكياتهم من الأخطاء، ويستطيع أن يدرك أن هناك عللاً معينة لو تم علاجها لصلحت أحوال الناس، أما الذي يريد الكمال والتمام فإنه يفصل قوالب جاهزة إما أن يدخل الناس فيها ويحشرهم فيها حشراً ويقسرهم عليها قسراً، وإما أن تبقى هذه القوالب فارغة والناس بعيدون عن الدعوة والخير وبعيدون عنه, فصار منفراً وليس مرغباً، وهذا أمر مهم جداً، ولذلك لابد من أن نعرف أن اقتحام العقول والنفوس أصعب بكثير جداً من اقتحام المواقع والثغور.(12/13)
الصفات المؤهلة للداعية في الاستيعاب
أنتقل إلى صفات تتعلق بالداعية ليكون مؤهلاً للاستيعاب.(12/14)
الصفة الأولى: الفقه في الدين
لابد من أن يكون الداعية عالماً فقيهاً بدين الله سبحانه وتعالى؛ لأن الداعية يتصدى للناس الذين يلجئون إليه لحل مشكلاتهم، ويعرضون عليه تساؤلاتهم، فينبغي أن يكون عنده حظ من العلم والفقه، وأعني بالفقه ما هو أدق وأشمل من العلم، فإن العلم كمحفوظات قد تكون كثيرة، لكن العلم كاستنباطات قد يكون قليلاً عند كثير ممن يتصدرون في ميادين الدعوة فيأتون بالنصوص ليلقوا بها في أوجه الناس، أو ليصدروا أحكاماً في التكفير أو التبديع أو التفسيق، أو غير ذلك من أساليب التنفير، دون أن يكون عندهم بصر بكليات هذا الدين ومقاصد الشريعة، وتغير الأحكام بتغير الظروف والأحوال، وما يتعلق بذلك وفق ضوابط شرعية ووفق أصول علمية مقررة عند أهل العلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، والله عز وجل يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الآفات الكبرى في المجتمعات أن يقل أهل العلم والبصيرة، ويتصدر غيرهم فيضلون ويضلون، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، فإذا ذهب العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وهذه زلة عظيمة؛ لأن الذي ليس له فقه وبصر بهذا الدين يضل فئاماً من الناس، نسأل الله عز وجل السلامة.(12/15)
الصفة الثانية: الصلة بالله عز وجل
إن الداعية المقطوع الصلة بالله لا يفلح ويحرم التوفيق والتسديد؛ لأن مشكلات الناس ومعاناة الدعوة أمر لا يمكن النجاح فيه بمجرد العلم ولا بالخبرة والتجربة، بل أكثر أسباب النجاح مخبوءة في التوفيق الإلهي, وحسبنا قول الله سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة:111] فلم يؤمنوا بحجة عيسى ولا بفصاحته وبيانه وبرهانه فحسب، بل كان الأساس هو أن الله سبحانه وتعالى قذف في قلوبهم حب الخير واستقبال الهداية، كما قال الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فمن أراد أن يرزق القبول عند الناس، وأن يلهم الصواب فيما يقول وفيما يعمل، وأن يسدد إلى التوفيق في الأمور ووضعها في مواضعها فإنه لابد من أن يكون موصولاً بالله عز وجل بالليل والنهار، بالذكر والدعاء، وبالصلاة والعبادة، ويعلم أن كل أمر لا يمكن أن يكون له نجاح إلا من خلال هذا التوفيق الإلهي الذي مصدره الصلة الدائمة الحسنة الصحيحة بالله سبحانه وتعالى.(12/16)
الصفة الثالثة: الصبر والحكمة
إن مسألة استيعاب الناس ليست مسألة هينة، فهذا يريد أن يأخذ جواب سؤاله، وذاك يريد أن يأخذ حل مشكلته، والآخر يريد أن يأخذ الرأي في معضلته، وهذا يريد وقتاً خاصاً، وذاك يريد لقاءً موسعاً، والآخر يريد دعوة عامة، وهذا يريد احتفاء في مناسبة، وأمورٌ كثيرة جداً قد وقع مثلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنافس الصحابة في أن يأخذوا مواعيد خاصة ومقابلات شخصية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل النهي والتذكير للصحابة رضوان الله عليهم عن الأثر السلبي لهذا، فامتنعوا بعد ذلك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده صبر عجيب، تأخذه المرأة العجوز التي ربما لا نرى اليوم لها قيمة واعتباراً، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر ورأس الدولة وإمام الأمة، تأخذه -كما ورد في الأحاديث الصحيحة- فتقوده إلى أي سكة شاءت فتخلو به حتى يقضي حاجتها، أما الذي يتبرم بالناس ويضيق بهم ذرعاً ولا يحتملهم، ولا يريد أن يعطيهم من وقته، ولا أن يبذل لهم شيئاً من مشاعره، ولا أن يحسن كيفية استقبالهم، وكيفية الاعتذار منهم إذا أراد الاعتذار فإنه لا يمكن أن يستوعب الناس، بل في الغالب أن الناس ينفرون منه على غرار ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أضاع دابته، فجعل الناس يريدون أن يعيدوها له، فهذا يسوقها من هنا، وهذا يصيح بها من هنا، فلو أنهم خلوا بينه وبينها لتلمس لها شيئاً من القوت فاستطاع أن يتألفها وأن يأخذها، ولذلك في الناس كثيرون من أصحاب الحاجات، وفي الناس كثيرون من أصحاب الجهالات، ولابد للداعية الذي يريد أن يستوعب من أن يكون واسع الصدر، وأن يكون عظيم الصبر، ولذلك الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وجاء في وصف الناجين من الخسران: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
والحكمة -أيضاً- مطلوبة، فإنه قد يضيق الوقت، وقد لا يمكن بذل الجهد، لكن لابد من أن يكون هناك الحكمة التي يخلص بها الداعية مما يطلب منه ولا يستطيعه في صورة مؤدبة وحكيمة، فقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكيم بن حزام فسأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه أي: طلب حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصده ولا يمنع عنه عطاءه؛ لأنه يريد أن يكسب القلوب وأن يتألفها، وأن يجعل القلوب تتعلق بالداعية الذي يمثل الدعوة ويمثل القدوة، بل قال له عليه الصلاة والسلام: (يا حكيم! إن المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه) كلمات مؤدبة وموجهة ومربية، فقال حكيم -وقد كان حكيماً رضي الله عنه وكان لبيباً تغنيه الإشارة عن العبارة- قال: (والله لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً يا رسول الله) يعني: لا أسأل أحداً بعدك شيئاً، فلما جاء عهد عمر وأراد أن يعطيه من العطاء الذي له من حقه في بيت مال المسلمين قال: (لا أرزأ أحداً شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأبى أن يأخذ عطاءه رضي الله عنه.
فلابد من الصبر والحكمة عندما يجهل الجاهل، وعندما يخطئ السائل، وعندما يعترض المعترض، لابد من أن يكون مع الصبر حكمة تسدده وتصوبه.(12/17)
الصفة الرابعة: التيسير المشروع للناس
لابد من أن نعلم أن الناس في وقتنا المعاصر قد غلب عليهم الجهل، وضعفت عندهم العزيمة، وكثرت في أقوالهم وأفعالهم الأخطاء، وضلت بهم كثير من السبل، فهم كناقة شرود لابد من أن نتألفها، ومن التألف أن نأخذ بالأمر اليسير المشروع، ولا يقصد بالتيسير التفريط مطلقاً، بل كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فالذي لا يريد اختيار التيسير كأنه لا يريد اختيار ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً وأبا موسى عندما بعثهما إلى اليمن فقال: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا) ولعمري فهذه الوصية الجامعة منه صلى الله عليه وسلم من موافقات الاستيعاب لكل داعية، سيما في مجتمع جديد، ولكم صد اختلاف أهل الخير أو الدعاة إلى الخير كثيراً من الناس عن الإقبال على الخير والارتباط به ولكم صد التنفير دون التبشير! ولكم صد التعسير دون التيسير! فلذلك لابد من التيسير والائتلاف.(12/18)
الصفة الخامسة: الخلطة والمعاناة
إن الذي يعيش في أبراج عالية ويريد أن يصلح المجتمعات من خلال الصحف، ومن خلال الأخبار المقروءة، ومن خلال الكتب المؤلفة لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون قادراً على استيعاب الناس، فلابد من أن يخالطهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
قال الرافعي الأديب رحمة الله عليه في وصف الذي يعتزل الناس: لماذا يعتزل؟ ولسان حاله يقول: إنه يعتزل لما في المجتمعات من فتنة وفساد وكذا.
قال الرافعي: ولعمري إن اعتزاله لرذيلة الرذائل.
ماذا سنستفيد من هذا الاعتزال؟ هل ستصلح به الحال؟ بل كما قال: لم نعرف صدقه ولا أمانته ولا سريرته وهو معتزل بين أحجار وكهوف لا يتعامل مع الناس، فيخبرون وعده إذا وعد، وصدقه إذا قال، ونجدته إذا استنجد به.
ولذلك لابد للدعاة من أن يخالطوا الناس، وأن يعرفوا معاناتهم في حياتهم اليومية، وفي مناهجهم التعليمية، في وسائلهم الإعلامية، وفي مشكلاتهم الاجتماعية، وفي عاداتهم وتقاليدهم، عندئذ يمكن من خلال المخالطة والمعاناة أن يكون الداعية بتوفيق الله عز وجل قادراً على أن يلمس الجراح، وأن يضع عليها نقاطاً من الدواء الذي يكون فيه الشفاء بإذن الله عز وجل.(12/19)
الصفة السادسة: السماحة والكرم
قد يأتيك السائل فيكفيه منك بسط الوجه والكلمة الطيبة ولو لم تعطه شيئاً، وقد يقبل سائل على من يعطيه شيئاً كثيراً ولكنه مقطب الجبين وليس على لسانه كلام حسن، فهذا لا يمكن أن يكون له تأثير في النفوس ولا استمالة في القلوب.
وإنما يستعبد الناس الإحسان، كما قال الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان فلابد من سماحة وطلاقة وجه، وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى مفتاح القلوب، وإلى السلاح الذي يكسر الحواجز والأبواب حول النفوس التي غلفتها الأهواء عندما قال: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فما أحسن ذلك الرجل الذي تلقاه فتلقى ابتسامته تشرق كأنها شمس النهار، فيدخل السرور على قلبك، ويبدد ما علاك من الهموم، ويمسح عنك ما قد خالطك من الأحزان والأرزاء، ولا شك أن الداعية يلقى عناء كثيراً ومشكلات ومواعيد وكذا فيتبرم ويضيق، لكنه يكظم غيظه، ولا يبدي للناس إلا السماحة والكرم، فإذا جاءه الناس كان بيته مفتوحاً، وإذا أتاه السائلون كان ماله مبذولاً، وإذا استشاره المستشيرون كان نصحه جاهزاً ومبذولاً، فلابد من أن يكون على هذا النحو؛ لأنه إن كان كذلك استمال القلوب وارتبط الناس به.(12/20)
الصفة السابعة: النجدة والتضحية
إن مجرد البسمة والكلمة الطيبة لا تغير في الواقع شيئاً، إن الفقير المعدم لا يكفيه أن تسرد له الأقوال والنصوص في الصبر والاحتساب للأجر عند الله عز وجل، سيما عامة الناس وعموم المجتمعات لا يمكن أن تخاطب بمثل هذا، إن الذي يجد ألم الجوع في بطنه يحتاج إلى اللقمة في فمه، وإن الذي يجد أثر الإرهاب والخوف على نفسه وحياته يحتاج إلى من يؤمنه، وإن الذي يشكو ويتلوى من المرض يحتاج إلى من يعالجه، فمن يتقدم؟ إنه هو الذي يكسب القلوب.
ونحن نعلم أن أعداء الله عز وجل من النصارى واليهود وغيرهم قد دخلوا إلى كثير من ديار المسلمين عبر هذه الأبواب الثلاثة: باب الجهل، والفقر، والمرض، واستغلوا حاجة الناس فقدموا لهم الخدمات، وقدموا لهم معها الدعوات.
ونقول: إن الدعاة أولى الناس بهذا من الأعداء، هذا إذا أرادوا أن يستوعبوا وأن يؤثروا.
إذاً على الدعاة أن يكونوا أصحاب النجدات والتضحيات والمروءات، والمسابقة إلى تقديم الخدمات في كل المجالات، ولذلك لو نظرنا إلى بعض آثار هذا الإقبال على الدعوة والخير والإسلام سنجد أن من أسبابه أن الدعوة والدعاة وأن أهل الخير والصلاح وجد الناس -عندما خافوا- بعض أمنهم في هؤلاء الدعاة، ووجد الفقراء -عندما احتاجوا- سد حاجتهم في أموال الدعاة، ووجد الناس عندما مرضوا نجدتهم وإعانتهم من أرباب الصلاح والخير والدعوة والرشاد، ولذلك توجه الناس -بحمد الله عز وجل- توجهاً طيباً نحو الخير بإذنه سبحانه وتعالى وتوفيقه.(12/21)
حقيقة الاقتباس وتعلقه بالاستيعاب
لابد من أن نعرف أن لهذا الاستيعاب أهميته الكبرى، ولعل من أهم قضايا الاستيعاب مسألة الاقتباس.
والاقتباس: هو استغلال الجوانب الحياتية والعلوم المادية في خدمة الدعوة واحتياجات المجتمعات الإسلامية.
إن هذا الدين الكامل الشامل جاء صالحاً لكل زمان ومكان، وجاء متواكباً مع كل جديد نافع، ليس فيه ما يتعارض مع علم صحيح، ولا مع خير يسوقه الله عز وجل للناس في هذه الحياة الدنيا، ولذلك من أهم أبواب الاستيعاب الاقتباس، وكما أشرت في أول الحديث فإن كل الموضوعات فيها حاجة إلى تفصيلات، ولكن حسبنا التأصيل والتذكير بالأصول المهمة التي يمكن أن تنبه على غيرها، وأن يستفاد منها في مجالات أخرى أكثر.(12/22)
تعريف الاقتباس وحكمه وأهميته
الاقتباس: هو أخذ الجزء من كل للاستفادة منه، ويقول أهل اللغة: اقتبس من النار أي: أخذ منها شعلة أو قبساً لينتفع به.
وعندما نتأمل سنجد أن هناك علوماً كثيرة، وأن هناك انجازات كثيرة، وأن هناك نجاحات كثيرة حققها غير المسلمين، أو غير أرباب الدعوة الإسلامية، فهل من حرج أن يقتبس أهل الدعوة من هذه الجوانب الخيرة والعلوم النافعة ليطوعوها لخدمة الدعوة وينتفعوا بها؟ الجواب لا حرج؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد اقتبس والتمس مما ينفع الأمة في مجالات الوسائل والتبليغ للدعوة والتأثير في حياة الناس وتقديم حلول المشكلات شيئاً كثيراً عظيماً، وجاء من بعده من أصحابه، فكانت أبواب الاقتباس والانتفاع أوسع وأوسع، سيما في عهد الخليفة العادل الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه دون الدواوين، وأنشأ ما لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور المسلمين العامة، ومن المصالح المرسلة التي يحتاجون إليها، والتي ينتفعون بها دون أن تكون متعارضة مع دين الله عز وجل، ولا مخالفة لنص شرعي، ولا لقاعدة كلية من قواعد هذا الدين العظيم، ولذلك جعل دواوين للجند، فجعل هناك جيوشاً نظامية وكتب أسماء أفراد الجيوش لتصرف لهم الرواتب، وجعل هناك نظاماً للبريد، وجعل هناك أنظمة أخرى كثيرة، وأوجد أنظمة للعس والمراقبة الليلية، وأوجد أشياء كثيرة مما تحتاجه الأمة، واقتبس هذا مما كان في الأمم من حوله، ومما أدى إليه اجتهاده مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين.
إذاً لابد أن ندرك أن هناك حاجة ماسة للاقتباس في مجالات الدعوة، وأن الدعاة الذين يمارسون العمل الدعوي والتوجيه للمجتمع عبر كل صورة من الصور، وخلال أية وسيلة من الوسائل يحتاجون كثيراً إلى أن ينتفعوا وأن يقتبسوا ممن ليسو على ملة الإسلام؛ لأنه كما ورد في الحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)، وهذا حديث مرسل من رواية زيد بن أسلم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي وغيره، لكن المعنى فيه واضح وصحيح وصريح أن الإنسان المؤمن ينبغي أن يكون كيساً فطناً يستفيد من كل شيء حوله ما دام أنه ليس هناك ما يمنع من ذلك شرعاً.(12/23)
أسس الاقتباس(12/24)
الأساس الأول: الاقتباس من أمور الدنيا وأسباب المعاش
نحن لا نقتبس أي شيء، فإن عندنا ديناً كاملاً لا نحتاج في أمر عقيدتنا ولا أمر عباداتنا ولا تشريعاتنا وأحكامنا إلى أن نقتبس من شرق أو غرب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديداً في هذا الباب، ليعلم الأمة أن عندها ما يغنيها في أمر دينها، ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب يحمل صحفاً من التوراة غضب عليه الصلاة والسلام وقال لـ عمر: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) فأمر عقيدتنا وأمر عباداتنا وأمر تشريعاتنا وأحكامنا لا مجال للاقتباس فيه أبداً، ولا مجال للاجتهاد مع نص، ولا مجال للأخذ من غير مصدر هذا الدين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن فيما نحتاج إليه من أمور الدنيا من أسباب المعاش والحياة، من المستجدات والاختراعات والمبتكرات فالباب في هذا واسع، فما احتجنا إليه نقتبس منه، وتاريخ الأمة عريض وواسع في هذا المجال في كل الفترات التاريخية التي مرت بها الأمة الإسلامية، سيما في عهد الدولة العباسية، وإن كان هناك نماذج وصور للاقتباسات التي كانت وبالاً على الأمة؛ لأنها خرجت عن هذا القيد، وذلك عندما أمر المأمون وغيره من خلفاء بني العباس بترجمة الكتب اليونانية وكتب الفلسفة والكلام والمنطق التي تتحدث عن الحقائق الكونية والقضايا العقدية الإلهية، حينها حصل الاضطراب والخلط والفتنة في الدين، والانصراف عن المعتقد الصحيح؛ لأن الاقتباس كان من بشر، بحيث تركنا ما أعطانا إياه رب البشر سبحانه وتعالى، فلذلك أول قيد لهذا الاقتباس حتى لا نشذ ولا نخطئ: أن لا نقتبس إلا فيما فيه حاجة دنيوية، أما الدينية فلسنا في حاجة بعد قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(12/25)
الأساس الثاني: الاقتباس وفق الحاجة
نقول: نحن نحتاج في مجال الدعوة للاقتباس من علوم الإدارة، لكن لا نأخذها بغثها وسيمنها وبخيرها وشرها وبسهلها وصعبها، بل نأخذ بعد علمنا بالحاجة ما يوافق حاجتنا فحسب؛ فإن الإنسان بصير بنفسه عالم بما يحتاج إليه، ولذلك لابد من هذا الجانب.(12/26)
الأساس الثالث: فهم الاقتباس وتطويعه لخدمة الدعوة
نحن نعلم أن في الإدارة أموراً كثيرة نافعة، فيها قضايا وموضوعات عن التخطيط وإدارة الوقت والتنظيم وتفويض المسئوليات، وكيفية اتخاذ القرارات، وأمورٌ أخرى كثيرة جداً، لكن ينبغي أن نحسن فهم هذا الأمر حتى نعرف كيف نجعله خادماً للدعوة نافعاً لأربابها وأهلها، وإذا كنا نريد أن نطور الدعوة فلابد من أن نأخذ الأساليب الإدارية من كتب الإدارة، لكن لا نخاطب بها الناس قبل فهمها؛ لأننا إذا لم نفهمها نحن لم يفهمها الناس، ولم نستفد منها نحن ولم يستفد منها الناس.
إذاً لابد من أن نفهم وأن نهضم هذه الأساليب الإدارية حتى نخرج النتيجة في صورة عملية تنفع الدعوة ويستفيد منها الناس.(12/27)
الأساس الرابع: ضرورة إعطاء التخصص أهميته في الاقتباس
إنه ليس هناك مجال في عصرنا الحاضر للعشوائية، ولا للنية الطيبة، ولا لمجرد الاكتفاء بالصلاح، بل هذا منهج قد ذكره لنا أسلافنا، وقد روي عن مالك وغيره أنه قال: أدركت سبعين ممن يستسقى بهم -أي: لصلاحهم وعبادتهم وزهدهم- كلهم لا يؤخذ منه الحديث، يقال: ليس من أهله.
فهؤلاء أصحاب صلاح وتقوى وعبادة، لكن لا نأخذ منهم الحديث؛ لأنهم ليسوا متخصصين في علم الحديث، ليسوا حفاظاً، ولم يضبطوه لم يتفرغوا له، ولذلك أضرب مثلاً قد يكون طريفاً لكنه في صميم المسألة، أقول: عندما تعرض لك مسألة فقهية قد ترجع فيها إلى إمام المسجد، وعندما تحتاج إلى مشكلة اجتماعية قد تستشير فيها إمام المسجد، ولكن ما رأيك في رجل تعطلت سيارته وشكا إلى صديق له هذه المشكلة فقال له: اذهب بها إلى المهندس.
قال: لا، لكن -إن شاء الله- سأعرضها على إمام المسجد.
فقال الصديق: يا أخي! إمام المسجد ليس عنده علم بهندسة السيارات، فقال: لا.
إن إمام المسجد رجل طيب صالح.
قلنا: صلاحه ليس له تأثير في هذه المسألة، ولا شك أن هناك تأثيراً للصلاح بالجملة، لكن التخصص له دور، فإذا أردنا أن نقتبس من علم الإدارة فلنأت بأهل علم الإدارة المتخصصين من أهل الخير والتقوى ليفيدونا وليبينوا لنا هذا العلم، وما يمكن أن نستفيده منهم، وإذا أردنا أن نستفيد من الإعلام ووسائله وطرائقه فلابد من أن نأتي بمن يعرف الإعلام، أما أن يكون الداعية هو الذي يفهم كل شيء ويعرف كل علم فهذا الذي أظنه لم تنجبه لنا النساء في عصرنا الحاضر، إلا من رحم الله، وإن وجد أمثال هؤلاء الذين يجمعون كثيراً من المزايا فإنهم قليلون، بل أقل من القليل.
نعم هناك عند بعض الناس عقول نيرة وملكات متميزة، لكن هؤلاء قلة.
إذاً لابد من أن نعطي التخصص أهميته ودوره، ولا يمكن أن يفتي الداعية مريضاً في مرضه كما يفتي الناس الآن في أمور لا يعرفونها، تجد الإنسان يشكو من مرض فيستفسر من أي شخص، فيقول له ذلك الشخص: نعم هذا المرض قد سبق وأن مرضت به وأعطاني الطبيب كذا وكذا فخذ هذا الدواء.
فهذه فتوى جاهلة؛ لأنها لا تعرف مجال العلم، ولا تتأسس على مبدأ التخصص.
لذلك إذا أردنا أن تنتفع الدعوة فعلينا أن نستفيد من أرباب التخصصات.(12/28)
الأساس الخامس: العناية بالضوابط الشرعية والسياسية الدعوية
ليس لنا أن نستفيد وأن نقتبس وفق ما نحتاج ووفق ما نرى أنه ينفعنا دون ضوابط، بل نحن قوم محكومون بشرع الله، وعندنا قواعد كلية وأصول فقهية وأدلة شرعية، لابد من أن نعلم أن كل شيء لابد من أن يمر عبرها وخلالها، فإن أجيزت فبها، وإن لم تجز فلا ولا كرامة، ولذلك بعض المتحمسين الآن في مجالات الدعوة يريدون أن يستفيدوا من ملكات ومجالات كثيرة، كالإعلام، أو الإدارة، أو النظم الأمنية، أو النظم العسكرية أو كذا، لكن لا يضبطون الأمور بالضوابط الشرعية، فعلى سبيل المثال: قد يكون لكل شيء تأثير، فقد يكون للرسم تأثيره، أو للنحت تأثيره في مسألة من المسائل أو على جانب من الجوانب، أو على بعض فئات من الناس الذين يحبون هذا الأمر، فهل يمكن أن نقتبس هذا وأن نستفيد منه دون أن ننظر في حكمه الشرعي وأن هناك من النصوص ما يمنع منه ويحرمه؟
الجواب
لا.(12/29)
الأساس السادس: التأصيل الشرعي
لابد للدعاة الذين يستفيدون من المتخصصين أو المتخصصين الذي يلجون إلى مجالات الدعوة من أن يصنفوا ويكتبوا مباحث حول هذه العلوم في ضوء الشرع، وفي ظلال التأصيل الشرعي، وهناك كثير من المجالات والكتب والبحوث التي تخدم هذا الجانب، لكن ما تزال قاصرة ودون المطلوب، أعني بذلك أننا ينبغي أن نقدم للدعاة ولمجتمعات المسلمين إعلاماً مؤصلاً تأصيلاً شرعياً، وإدارة منضبطة مستفيدة من الخبرات والتجارب والعلوم، لكنها أيضاً مؤصلة بأدلتها الشرعية.(12/30)
المحاذير المتعلقة بمسألة الاقتباس
هناك محاذير في مسألة الاقتباس يجب التنبيه لها، وقد أشرنا عندما تكلمنا عن الأسس أن هناك أموراً قد تكون فيها أخطاء.(12/31)
تضخم الحاجة إلى الاقتباس
بعض الناس يقول: الدعوة تحتاج إلى الإعلام.
ويضخم هذا الأمر، حتى كأنه يريد أن نصبح إعلاميين وأن نصبح مذيعين وصحفيين، وتنتهي كل الدعوة إلى فئة من الإعلاميين فحسب! أقول: هذا التضخيم ليس أمراً مقبولاً، والمبالغات عموماً ليست مقبولة؛ لأن المبالغات هي عبارة عن تضخيم، والتضخيم مثل الأورام السرطانية، ورم غير حميد يتضخم فيغطي جانباً آخر فتضيع أهميته وتقل في مقابل هذا التضخيم الزائد، وهذا التضخيم من حيث الاقتباس ينشأ عن جانبين: الجانب الأول: جانب التخصص، فالذي يكون متخصصاً في الإدارة -على سبيل المثال- يقول لك: لا يمكن أن ينجح أي عمل دعوي إلا أن يأخذ بعلوم الإدارة.
بل هذه قضية منتشرة على مستوى العلوم كلها، فصاحب علم الجيولوجيا يقول لك: علم الجيولوجيا هو الأساس.
وأهل الكيمياء وأهل الفيزياء كذلك، أما صاحب الرياضيات فيقول لك: لا يمكن أن تصعد إلى القمر، ولا أن تغوص إلى الأرض، ولا أن تضرب في القتال إلا بالرياضيات.
فكل صاحب تخصص يجعل كل الدنيا لا يمكن أن تتحرك إلا في ضوء تخصصه.
الجانب الثاني: الجانب العاطفي، فهناك عاطفة صادقة في الرغبة في التطوير والتحسين في وسائل الدعوة، ولذلك تطلب من منطلق العاطفة دون أن تعطي الأمر قدره وحقه.
ونقول: لو استجبنا لهذا التضخيم فأخذنا بجانب الإدارة والإعلام والأساليب الأمنية والعسكرية المتاحة والتجارب الموجودة دون أن نعطي الأمر حقه وقدره المطلوب فإننا سنضيع ما هو أهم، ألا وهو أساس الدعوة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلم الشرعي والتربية الإيمانية والتقويم السلوكي، أما تلك الأمور فإنما هي اقتباس لتكميل هذه المسيرة الدعوية لا أقل ولا أكثر.(12/32)
تحكم العلم المقتبس بطريقة الدعوة وأساليبها
بعد أن جئنا واقتبسنا من الإدارة وجدنا أن الإدارة تقول لنا كذا وكذا وكذا وكذا، وأصبحنا عبيداً لعلم الإدارة، وأنه لا يمكن أن نمارس الدعوة إلا بما تحكم به هذه العلوم الإدارية وقوانينها، كأنها قرآن منزل من عند الله، وهذا -للأسف- يوجد في صفوف الدعوات وضمن الاجتهادات الدعوية، وهو خطأ ينبغي الحذر منه.(12/33)
المزالق في المخالفات الشرعية ومخالفة الأولى
عندما نقتبس لابد من أن ننضبط بالشرع وأن نراعي الأولويات.(12/34)
المحاولة المتكلفة للتأصيل الشرعي
بعض الناس إذا اقتبس شيئاً وأخذ به يرى أنه لابد من أن يأتي له بدليل، وإذا لم يجد دليلاً يطابق -ولو من بعيد- ما اقتبسه فتراه يطوع الدليل لغرض ما استقر عليه الحال من أمر الداعية أو الدعوة، وهذا خطأ كبير ومزلق خطير.
وأضرب مثالاً الذين يريدون أن يبرزوا الجانب العلمي في الآيات القرآنية، وأن القرآن أخبر عن حقائق علمية سبق القرآن في ذكرها وبيانها قبل أن يكتشفها العلم الحديث، نعم هناك كثير من هذه الأمثلة، مثل خلق الإنسان من نطفة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة، لكن قد تكون هناك حقائق أو نظريات ليست بثابتة ولم تثبت بعد، فيأتي بالنص أو الدليل القرآني ويقول: هذا المقصود به كيت وكيت.
مع أن الدليل لا يدل عليه أو الآية لا تشير إليه، فهذا أنموذج قد يقع أيضاً في مسألة الاقتباس في مجالات الدعوة.(12/35)
فوائد الاقتباس
ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي: فوائد الاقتباس.
حتى نرى لماذا هذا الاقتباس.(12/36)
التكامل والشمول في صناعة الحياة
إن الاقتباس هو أحد روافد التكامل والشمول في صناعة الحياة، فنحن نوقن أن هذا الدين شامل لكل مناحي الحياة، وكامل في كل احتياجات البشر، فلذلك لا يمكن أن يكون هناك أمر نافع لا يصطدم مع الشرع ولا يتعارض مع الفطرة إلا وله حظ ونصيب في هذا الدين، يقول عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فينبغي أن نأخذ بالاقتصاد ونظرياته الحديثة وأساليبه التي هي خاضعة لحكم الشرع ولا تتعارض معها، كذلك أساليب الإعلام وكيفية نقل الأفكار والتأثير على المجتمعات والتنبه للشائعات ومكافحة هذه الشائعات، كل تلك الأمور لها أساليب علمية، فعندما نأخذ بها نبين للناس أن هذا الدين شامل كامل في اقتصاد واجتماع وسياسة وجند وجيوش، وكل مجالات الحياة التي يعيشها الناس.(12/37)
الاستثمار للطاقات والتوزيع للأعمال
لا يوجد الشخص الذي يجيد كل شيء، فلابد من أن نعطي للاقتصادي مهمة الاستثمار الإسلامي، ولابد من أن نعطي الإعلامي مهمة تبليغ الدعوة عبر وسائل الإعلام، ولابد من أن نعطي الإداري فرصة ليعطينا الأطر التنظيمية التي يمكن أن تساعد على ضبط الأمور وتحسينها، وضبط الاتصالات وتنظيمها.(12/38)
استيعاب أصحاب التخصصات من العلوم المقتبسة
لماذا نجعل أهل الطب والهندسة والإدارة والإعلام نهباً لأهل العلمنة والكفر والتغريب؟ لماذا نجد قلة من المسلمين في مجال الإعلام، وقلة من الاقتصاديين البارزين المسلمين الملتزمين؟ لأن الفترات التي سبقت لم يكن فيها للدعوة ولا لحركتها في الحياة اهتمام وعناية باقتصاد وإدارة وكذا، فلم يكن هؤلاء الناس مستوعبين إلا ضمن الأطر العلمانية والكفرية أو التغريبية، ولذلك أثروا في الأمة تأثيراً سلبياً كبيراً، عبر الإعلام وعبر الطب وعبر الهندسة، واليوم لابد من أن يتحول هذا التأثير إلى تأثير إيجابي إسلامي عبر الهندسة والطب والصحافة والإعلام، ولن نستوعب هؤلاء الناس إلا إذا أقررنا بأهمية هذه العلوم والاقتباس والاستفادة منها، وانظر إلى النقابات المهنية عندما تسلم أمرها أصحاب الدعوة وأرباب الالتزام الإسلامي كيف انطوى تحتهم كل أرباب المهن من الأطباء والمهندسين، ورأوا فيهم نموذج القدوة والعفة عن أكل المال العام، والخبرة في مجال التخصص والعمل الميداني المؤثر في واقع المجتمع، فكسبت الدعوة مكاسب عظيمة، ربما لم تكن تكسبها بمجرد الخطب ولا الكتب ولا المقالات، وإنما عبر هذه الأعمال الدعوية من خلال العلوم المقتبسة.(12/39)
إبراز مزايا الإسلام لغير المسلمين
إن إبراز مزايا الإسلام لغير المسلمين مهم جداً؛ لأن غير المسلمين عند بعضهم صور شوهاء عن الإسلام، منها أن الإسلام محصور في العبادات، وأنه لا يقبل ما استجد من أمور الحياة، ولا يوجد فيه منهج للناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فهذا الاقتباس وتطبيقاته العملية يبرز صورة الإسلام في تكامله وشموله لغير المسلمين.(12/40)
التأكيد العلمي والقناعة الواقعية لشمول الإسلام
كثيراً ما نقول للناس: الإسلام شامل لكل شيء.
لكنهم يجدون في مجتمعاتهم اقتصاداً ربوياً غير إسلامي، ونقول لهم: الإسلام يشمل كل شيء.
ولكنهم يجدون إعلاماً لا يمت للإسلام بصلة في مجتمعاتهم، ونقول لهم: في الإسلام نظام في الحكم كامل رفيق شامل نافع محكم.
ولكنهم يجدون مجتمعاتهم تحكم بغير شرع الله عز وجل، فإذا تم الأمر للدعوة وفي المجتمعات الإسلامية واقتبست كل ما ينفع للمجتمعات من هذه العلوم بدا للناس التطبيق العملي في هذا الجانب.(12/41)
الفروق بين الاقتباس في العمل الإسلامي الدعوي وبين غيره
هناك من يقتبسون من أرباب الأحزاب، أو من أصحاب الدعوات الهدامة والأفكار المشبوهة، وفي المقابل هناك من يقتبسون من أهل الدعوة، لكن هناك فرق شاسع وبون كبير بين المسلم الداعية وأصحاب الخير وبين غيرهم في الاقتباس.(12/42)
الفرق الأول: الميزان الصحيح للمقتبسات والأفكار والآراء
إن العمل الإسلامي لديه المنهج الأصيل الذي يقيس ويزن به كل الأعمال والمقتبسات والأفكار والآراء، ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(12/43)
الفرق الثاني: التوفيق الإلهي لأتباع المنهج الرباني
إن السائرين على طريق الله الراغبين نشر دعوة الله يوفقهم الله ويسددهم، ويبعدهم عن الخطأ والمزالق الوخيمة، ويوفقهم إلى إصابة واستخلاص ما يكون نافعاً ومفيداً.(12/44)
الفرق الثالث: سرعة التذكر والعودة إلى الحق مباشرة
إن الداعية المسلم إذا أخطأ رجع إلى الحق، وإذا رأى أنه لم ينجح في أمر وأنه تجاوز الحد في مسألة، فإنه أواب رجاع مستغفر منيب، ومصحح ومقوم لمسيرته من جديد.(12/45)
الفرق الرابع: رصيد الفطرة الإنسانية
إن بعض الأحزاب والأفكار لا يهمها إلا مصالحها الذاتية، ولو داست على كل القيم والمبادئ، بل ولو طمست الفطرة الإنسانية والمعاني الإنسانية البشرية في نفوس الناس.(12/46)
الفرق الخامس: انفراد الدعاة بالاستفادة من الربط بين الإيمان وبين العلوم المقتبسة
إن الربط بين الإيمان والعلوم المقتبسة لا يستفيد منه إلا أرباب الدعوة.
وأحسب أن فيما ذكرت إشارة للفكر، ليكون هناك إمعان للنظر وإعمال للفكر وتجربة وممارسة لتوسيع دائرة الاستيعاب للدعوة، وتوسيع دائرة الاقتباس النافع من العلوم والمجالات الحياتية التي تنفع الدعوة، وتفيد أمة الإسلام والمسلمين، ولعلي أذكر مثالاً يمكن أن نرى فيه ملامح معينة لبعض العلوم، أو لبعض المسائل التي تذكر في علوم الإدارة أو غيرها، دون أن يكون هناك اعتساف للنصوص.(12/47)
مسألة التكليف بالمهمات في العمل الإداري وجوانبها في حديث معاذ
جاء في حديث معاذ رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وماذا قال له عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في آخر الحديث؟ قال: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
نستنبط من هذا الحديث مسألة التكليف بالمهمات في العمل الإداري وجوانبها: أولاً: لابد من معرفة المهمة والبيئة المحيطة بها.
ثانياً: لابد من إعطاء بعض التعليمات في خطوات التنفيذ.
ثالثا: لابد من التحذير من عوائق النجاح.
وهكذا نجد هذا في حديثه صلى الله عليه وسلم، حيث بين له البيئة التي سيأتي فيها حتى يعرف مهمته وطبيعته، وذلك بقوله: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)، وأعطاه وسائل التنفيذ وهي التدرج بأن يبدأ بالعقيدة، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بين له عوامل ومحاذير ينبغي تجنبها حتى لا تفشل مهمته، فقال: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
وستجد كثيراً من الأمثلة يظهر لك فيها أن ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من الغناء والكمال ما أنت في غنية غيره، لكنك تستفيد من هذه العلوم في كيفية فهمك لها من خلال هذه النصوص الشرعية.
عسى الله أن يوفق لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/48)
فاطمة الزهراء
فاطمة رضي الله عنها هي بنت رسولنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحبها حباً شديداً، ويؤثرها على كثير من أحبابه، وهي سيدة نساء أهل الجنة، وهي زوجة علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، وأم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وفي سيرتها من صبرها واحتمالها وفضلها ومكانتها ما يدعو المسلمين جميعاً -خاصة النساء- إلى الاقتداء بها والتأسي بشخصيتها رضي الله عنها وأرضاها.(13/1)
فوائد الحديث عن سير الأعلام
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، أكرمنا بالإيمان وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، والصلاة والسلام على نبي الإسلام خير الأنام، أفضل من صلى وصام، وعلى آله وصحابته الذين عرفوا بسلامة القلوب وصحة الأفهام، واشتهروا بالنجدة والإقدام، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هذا موضوع نفتتح به سلسلة مواضيع، وعنوان هذه السلسلة (شباب كانوا أئمة الهدى)، وفاتحتها الخيرة -إن شاء الله- هذا الموضوع: (فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة).
ولا شك أن الحديث في سير الأعلام له فوائد عظيمة، وهذه مقدمتنا الوجيزة تختصر هذه الفوائد في ثلاثة جوانب: الأول: إبراز القدوات السامية الصحيحة التي يجدر بنا أن نجعلها خطوات نتأسى بها، ونترسم خطاها بدلاً من القدوات الزائفة الزائغة.
ثانياً: شحذ الهمم العالية؛ فإن في السير سبقاً عظيماً، وتنافساً شريفاً، وقدوات بلغت مراتب عالية، فمتى ما قرأنا هذه السير، ووقفنا عندها؛ شحذت منا هممنا الضعيفة، ورفعت معنوياتنا التي يعتريها كثير من الوهن أو الخلل.
الثالث: الإلمام بالمعارف المتنوعة؛ فإن السير تتضمن علوماً مختلفة، فقد تمر فيها ومضات من الحكمة، وقد يمر فيها صور من الجرأة، وقد تتجلى فيها ملامح من الحياء، وقد تمر فيها فوائد من تفسير أو فقه أو أصول أو غير ذلك، فهذه فوائد عظيمة جدير بنا أن نعنى حينئذ بمطالعة السير، وليس أعظم ولا أنفع من سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(13/2)
فاطمة رضي الله عنها وجوانب الحديث عنها
حديثنا عن فاطمة رضي الله عنها حديث عذب، يرقق القلوب، ويذكر بالمعاني الإيمانية اللازمة لنا، ونحن نمر هاهنا مروراً وجيزاً بقدر ما يتسع له المقام، ونبدأ بمحطات مختلفة: أولها: الحسيبة النسيبة.
وثانيها: الوليدة الجديدة.
وثالثها: الزوجة الأثيرة.
ورابعها: الشبيهة الحبيبة.
وخامسها: الصابرة العظيمة.
ثم نقف وقفات لابد منها مع الأفهام الخاطئة والأفكار الزائغة التي تفسد علينا كثيراً من هذه المعاني الفاضلة والآثار الحميدة.(13/3)
حسب فاطمة ونسبها
أولاً: الحسيبة النسيبة.
عمن نتحدث؟ من هذه الشخصية التي نتجاسر على أن نذكرها، ونمر على سيرتها، ونشنف الآذان بذكرها، ونعطر الأنوف بعبق ريحها الطيب الأخاذ، ونملأ القلوب بمعاني الإيمان في مواقفها العظيمة ومآثرها الجليلة؟! من هذه الشخصية والناس يبحثون عن الأحساب والأنساب؟! فهل ثمة حسب أو نسب يمكن أن يضاهي ما لـ فاطمة رضي الله عنها؟ فمن أبوها؟! إنه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، حسب الشرف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله نظر إلى بقايا العرب والعجم فمقتهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فاصطفى العرب، واصطفى كنانة من العرب، ثم اصطفى قريشاً من كنانة، ثم اصطفى بني هاشم من قريش، ثم اصطفاني من قريش، فأنا خيار من خيار من خيار) ذلك هو صلى الله عليه وسلم.
وأما حسب الدين فمن مثله عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وأما حسب الخلق فحسبك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فمن مثل أبيها صلى الله عليه وسلم؟! وإن جنحنا إلى أمها فـ خديجة بنت خويلد، وما أدراك ما خديجة بنت خويلد؟! أم المؤمنين، وأول أزواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يجمع معها غيرها، ولم يتزوج إلا بعد وفاتها، ومن هي في حسبها وشرفها ديناً وخلقاً ونسباً؟ هي الشريفة المعروفة في حسبها ونسبها رضي الله عنها، وأما حسب الدين فهي أول من آمن بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، هي أول من تلقى خبر الوحي، هي أول من كان المثبت المعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جاء يرجف فؤاده فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
جاء جبريل عليه السلام إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول له: (إذا أتتك خديجة فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) رواه البخاري والترمذي.
هي واحدة من قلائل النساء الكمّل في هذه الدنيا؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا خديجة ومريم بنت عمران وآسية زوج فرعون).
وفضائلها كثيرة جداً، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد).
وروى البزار والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين).
ولننظر إلى زوج فاطمة فارس الفرسان، أول المسلمين من الفتيان، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب الفارس المغوار الشجاع البطل الهمام الكمي رضي الله عنه وأرضاه، قال أبو رافع (أول من أسلم من الرجال علي، وأول من أسلم من النساء خديجة) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
قال الذهبي رحمه الله في مقدمة ترجمة فاطمة رضي الله عنها: سيدة نساء العالمين في زمانها، البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، بنت سيد الخلق رسول الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشية الهاشمية، أم الحسنين رضي الله عنها وأرضاها.
ونعيش هذه المعاني وقد خفق بها قلب إقبال الشاعر الكبير فقال: نسب المسيح بنى لمريم سيرة بقيت على طول المدى ذكراها والمجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمة فما أعلاها هي بنت من هي زوج من هي أم من من ذا يداني في الفخار أباها هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها ولزوج فاطمة بسورة هل أتى تاج يفوق الشمس عند ضحاها أسد بحصن الله يرمي المشكلات بصيقل يمحو سطور دجاها في روض فاطمة نما غصنان لم ينجبهما في النيرات سواها فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة الوئام والاتحاد ابناها هي أسوة للأمهات وقدوة يترسم الفجر المنير خطاها لما شكا المحتاج خلف رحابها رقت لتلك النفس في شكواها جادت لتنقذه برهن خمارها يا سحب أين نداك من جدواها فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها رضي الله عنه وأرضاها.(13/4)
ولادتها ولقبها
ثانياً: الوليدة الجديدة.
ولدت رضي الله عنها -كما ذكر ابن سعد في الطبقات- وقريش تبني البيت، وذلك قبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
وقال ابن حجر في الإصابة: ولدت فاطمة والكعبة تبنى، والنبي ابن خمس وثلاثين سنة، وبهذا جزم المدائني.
قال ابن حجر: وهي أسن من عائشة بخمس سنين.
وأما الزهراء فهو وصف لم يذكر في شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكنه ذكر في تراجمها غلبة لهذا المعنى الذي هي أشبه به رضي الله عنها، قال صاحب التاج: والزهراء: المرأة المشرقة الوجه، والبيضاء المستنيرة المشربة بحمرة، والزهراء: البقرة الوحشية.
ومعلوم أنهم يضربون بها المثل في الجمال، كما قال قيس بن الحظيم: تمشي كمشي الزهراء في دمث الـ ـرمل إلى السهل دونه الجرف قال: الزهراء كذلك السحابة البيضاء التي تبرق وتستنير بذلك البرق.
فهذه ولادتها رضي الله عنها، فهي أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه كما سيأتي ذكره.(13/5)
خطبتها رضي الله عنها
ونمضي إلى صورة واسعة هي أوسع الصور فيما ورد من ترجمة فاطمة رضي الله عنها الزوجة الأثيرة ليكون درساً للآباء والأمهات والبنات وللأمة كلها كيف يكون الزواج، وكيف يكون المهر، وكيف تكون الحياة، وكيف يكون تدبير الأمور، ونحن اليوم نعاني ما نعاني من هذه المشكلات التي أورثت خللاً في المجتمعات، والتي ساعدت على شيوع المعاصي وكثرة السيئات، وقللت من الحصانة والعفة وغير ذلك مما نعلمه.
أما خطبتها فقد كانت -على ما رواه ابن سعد في الطبقات- بتدرج وببيان لمكانها ومقامها رضي الله عنها، فقد روي أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا بكر! انتظر بها القضاء) وخطبها عمر فقال له: (انتظر بها القضاء) ثم قال بعضهم لـ علي: اخطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: بعد أبي بكر وعمر؟! فذكروا له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطبها فزوجه النبي إياها.
وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن حجر بن عنبس قال: (خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي: هي لك يا علي؛ لست بدجال) أي: لست بكذاب.
قال الشراح: وذلك أنه قد وعد علياً بها قبل خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
والنبي صلى الله عليه وسلم شاورها واختار لها علياً ربيبه الذي تربى في حجره وعلى نظره، وكان علي يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع سنين لا أصلي إلا أنا وهو.
يعني: قبل أن يفشو الإسلام، وقبل أن تظهر الجماعة، وقبل أن يكون دار الأرقم وغير ذلك.
يقول ابن سعد في الطبقات: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة: (إن علياً يذكرك -يعني: يخطبك- فسكتت؛ فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم).
وفيما جاء أيضاً في خطبة علي رضي الله عنه ما رواه بريدة أن نفراً من الأنصار قالوا لـ علي رضي الله عنه: اذكر فاطمة واخطبها، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرضه نفر من الأنصار، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما حاجة ابن أبي طالب؟ قال: ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً وأهلاً، لم يزده عليهما، فقال: ورجع، فقال له الرهط: ما قال لك؟ قال: ما زاد أن قال: مرحباً وأهلاً.
قالوا: يكفيك من رسول الله إحداهما، أعطاك الأهل وأعطاك المرحب، فلما كان بعد أن زوجه قال: يا علي! إنه لابد للعروس من وليمة).(13/6)
زواجها رضي الله عنها وأرضاها
تلك كانت خطبتها رضي الله عنها وأرضاها، وعندما تزوجها علي -كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب- كان عمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وكان عمر علي واحداً وعشرين عاماً على الصحيح في هذه الروايات، وكان هذا الزواج في رجب بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمه المدينة بنحو خمسة أشهر، ثم بنى بها -أي: دخل بها- بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر، وأخطأ من قال: إن البناء كان بعد يوم أحد؛ لأن القصة فيها أن حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نحر شارفين في وليمة عرس علي رضي الله عنهما.
فهذه قصة زواج فاطمة رضي الله عنها، فكيف جهزت؟ وما كان مهرها؟ وكيف كانت وليمتها؟ وكيف كان بيتها وجهازها؟ ثم كيف كانت عيشتها ومسيرتها في حياتها؟ أما المهر فالروايات متكاثرة في أنه عندما خطب علي رضي الله عنه وتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله ما لي من شيء.
فقال: وكيف؟ قال: فذكرت صلته وعائدته علي -يعني: فضل النبي عليه الصلاة والسلام عليه- فتجرأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟) أي: ما تعطيها من المهر؟ فمن هذه الممهورة؟ ومن هذه المخطوبة؟ هي بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما عندي ما أصدقها) ليس عند علي مهر، قال: (ولم يكن يومئذ صفراء ولا بيضاء)، لا ذهب ولا فضة عند علي ولا عند غيره إذ ذاك في أول الهجرة وفي مطلع الشدة حين كان المسلمون في شدة كبيرة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أين درعك الحطمية؟)، وهي درع أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، و (الحطمية): نسبة إلى بطن حطم بن محارب كانوا مشتهرين بصناعة الدروع، وقيل: الحطمية التي تحطم السيوف، وقيل: الثقيلة الحصينة.
قال: (أين درعك الحطمية؟ قال: هي عندي يا رسول الله، قال: أصدقها إياها، فباعها بأربعة وثمانين درهماً فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها بلالاً وقال: اجعلوا ثلثيها في الطيب، وثلثاً في المتاع)، وهذا من فقه النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بطبائع النساء، أمرهم أن يجعلوا ثلثيها في الطيب وثلثاً في المتاع واللباس وغير ذلك، فهذا كان مهر سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها وأرضاها، فما بال من يغالون في مهور بناتهم؟ أيظنون ذلك منقبة وشرفاً؟! أيظنونه تعظيماً لمقام بناتهم؟! لو كان ذلك كذلك لكان الأحق به بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد توليت عقد نكاح فذهبت أكتب هذا العقد لأصحابه، فرأيت عقداً قبله والمهر مسطور فيه بمائة ألف، فقلت: يا للعجب! وما ينفع ذلك أو يفيد؟! ونرى أننا بهذا نسد كثيراً من أبواب الحلال ونفتح أبواباً ونيسر طرقاً للحرام، وقد نكون بذلك آثمين، وقد يكون الآباء في هذا ممن يعضلون بناتهم، وممن يكون عليهم وزر في هذا إذا فاتها قطارها، وتأخر عنها حظها من بعد، فهذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مهرها.(13/7)
جهازها وأثاث بيتها رضي الله عنها
أما جهازها فقالت أم أيمن: وليت جهازها، فكان فيما جهزتها به مرفقة من أدم -من جلد- حشوها ليف، وبطحاء مفروشة في بيتها.
هذا هو الفراش الوثير الذي كان في بيت فاطمة رضي الله عنها.
وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، وقد جاءوا بهذا التراب والحصى ليفرش في هذا البيت كأنما هو توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث مع فاطمة بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحائين وسقاء وجرتين، فكم هي هذه الثروة عظيمة؟ وكم هي موجودة في هذا البيت الذي كأنما هو قصر عامر؟ وهو كذلك عامر بالإيمان والتقوى، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلا الليف، بل قد ورد في صداقها أنه كان لهم جلد لخروف، إذا ناموا جعلوه على جهة الصوف، وإذا احتاجوه لفوه من جهة الجلد، وهذا يدلنا على البساطة.
ورواية أم أيمن المذكورة رواها الطبراني وإسناده رجال الصحيح.
لننظر إلى هذه المعاني، فمن كانت هذه مقدمتها في خطبتها وفي مهرها وفي جهازها فأي شيء تكون عيشتها؟ وعلى أي صورة تكون حياتها؟ هل فيها مثلما عند نسائنا حيث لابد أن يكون المسكن فيه كذا من الغرف، ولابد أن يكون فيه غرفة للنوم، وأخرى للطعام، وثالثة للجلوس، ورابعة لكذا وكذا، وخامسة لكذا؟ وكأنما يريد أن يسكن في جنة قبل جنة الآخرة، ولا نقول هذا -ونحن نعرف أوضاع الحياة الاجتماعية- تحريماً له، لكن إذا وجد ما يقتضي التنازل عنه مما هو خير في جمع بين زوجين صالحين فالعاقل من يصنع ذلك، ويتأسى بخير خلق الله عليه الصلاة والسلام، ولتكن ابنته في شرفها وفخرها أنها كان لها أثر من فاطمة أو غير فاطمة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأين كان سكنها وكيف عاشت؟ في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلاً، فطلب علي منزلاً حتى يسكن فاطمة فيه، فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، والنبي لم يكن يحب بعد فاطمة عنه أبداً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت فاطمة فقال: (إني أريد أن أحولك إلي تكونين قريبة مني.
فقالت: كلم حارثة بن النعمان أن يتحول) وكان بيته قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن يتحول لتأتي مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد كلمت حارثة وقد تحول عنا حتى استحييت منه) يعني: أكثر من واحد يريد الجوار وهذا ينتقل.
فسمع حارثة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك، وهذه منازلي وهي ألصق بيوت بني النجار بك -أي: أقربها- وإنما أنا ومالي لله ولرسوله، والله -يا رسول الله- للمال الذي تأخذ أحب إلي من الذي تدع، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتحولت إلى جوار أبيها عليه الصلاة والسلام.(13/8)
فاطمة وعلي رضي الله عنهما ومكابدة الحياة
خذ هذه اللوحة المعبرة المؤثرة في هذه الحياة الزوجية: أقبل علي ذات يوم على فاطمة ودخل وهو منهك متعب مجهد من طبيعة الحياة وشدتها وكسب العيش وكده، فقال: والله! لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، والسانية: البعير الذي يستقى به الماء، كان علي يسقي الماء عن طريق الناقة وأحياناً بنفسه، قال: قد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه.
انتصر المسلمون في معركة، وكان عند الرسول صلى الله عليه وسلم سبي، فقال: اطلبي منه خادماً؛ فأنت ابنته أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه.
فذهبت فاطمة إلى أبيها عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك.
واستحيت أن تذكر حاجتها، وقد قالت عندما قال علي ذلك: وأنا قد طحنت في الرحى حتى مجلت يداي.
والمجل: هو ثخن الجلد ووجود البثور فيه، وذلك من كثرة ما كانت تطحن الشعير رضي الله عنها وأرضاها، فلما ذهبت إلى أبيها استحيت أن تذكر حاجتها فرجعت، فقال علي: كلمتيه؟ قالت: لا.
فأخذها علي وذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: والله -يا رسول الله- لقد سنوت حتى اشتكيت صدري.
وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، قال: وقد أتى الله بسبي وسعة فأخدمنا.
فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم؟ قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها)، فهناك أولويات، فهذان يريدان خادماً، وفي المسلمين من أهل الصفوة من لا يجد طعاماً، قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم).
لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مسائه وليله يأتي إليهما، ويطرق عليهما بابهما، وقد دخلا في كسائهما، وعليهما غطاء إن غطيا الرأس بدت الأقدام، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأرادا أن يقوما فقال: (مكانكما.
ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى يا رسول الله! فقال: كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا ثلاثاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم).
قال علي: فما تركتها منذ سمعتها، فقال ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين يا أهل الطرق! أي: أهل الفتن.
فذكر علي ذلك في محافظته على ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى هذه الصورة: علي يشقى، وفاطمة تتعب، والسبي موجود، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل، لا يريد خادماً في الدنيا، وإنما خداماً في الجنة، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار، ولذلك صرفهما إلى عبادة، لكن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما، ولا ينسى أنما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيئاً من هم أو غم، فمسح ذلك بقدومه عليهما، وإيناسه لهما، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام.
وهناك صورة أخرى لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج، حتى أصبح هذا الباب باباً تسطر فيه الأقلام، وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع، بل وتضرب فيه الأمثال.
فهذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال: قال علي لأمه: اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحطب، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن.
وهذه صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفة الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة ونحو ذلك.
هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها، وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير من التعليق والتفريع من كلامنا وقولنا، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً، وأن كان فراشها أدماً حشوه ليف، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ورحائين، وأن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.(13/9)
شبهها بالنبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها في قلبه
كانت فاطمة شبيهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داود في السنن.
وفي رواية عند البخاري في الصحيح تخبر فيها عائشة بما كان من آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها وقال: مرحباً بابنتي).
وفي حديث مسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني) رواه البخاري في الصحيح، والبضعة: القطعة من اللحم.
وفي رواية من هذا الحديث في الصحيح أيضاً: (مضغة مني)، وفي رواية حذيفة: (شدنة مني) أي: قطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام ينص على ذلك ويذكره، وكانت عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبصر الشبه وتدرك المقام وتعرف الصلة وتعرف وتدرك خفقات قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته الحبيبة الأثيرة رضي الله عنها.
وهذا ابن عباس رضي الله عنه يروي أن المصطفى عليه الصلاة والسلام دخل على علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما يضحكان، فلما رأيا النبي عليه الصلاة والسلام سكتا، فقال لهما عليه الصلاة والسلام: (ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتماني سكتما؟! فبادرت فاطمة فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، قال هذا -تعني علياً -: أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فقلت: بل أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك.
فتبسم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: يا بنية! لك رقة الولد، وعلي أعز علي منك)، وهذا من بديع قوله وفصيحه ومن حسن مأخذه عليه الصلاة والسلام، (لك رقة الولد وعلي أعز علي منك)، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وفي رواية مسور الأخرى: (فاطمة شدنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها، وإنه تنقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وحسبي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث رجاله ثقات كما ذكره الهيثمي في المجمع.
وعن عمران بن حصين قال عمران: (إني لجالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت فاطمة فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: مقابلة له- فقال: ادني يا فاطمة فدنت دنوة، ثم قال: ادني يا فاطمة.
فدنت دنوة، فقال: ادني يا فاطمة.
فدنت دنوة حتى قامت بين يديه، قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها، وذهب الدم من شدة الجوع وشظف العيش.
قال: فبسط النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ثم وضع كفه بين ترائبها -أي: عظام صدرها- فرفع رأسه وقال: اللهم! مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الوضعة، لا تجع فاطمة بنت محمد.
قال عمران: فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عتبة بن حميد وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات.
وهذا يدلنا على مكانتها ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وحسبنا بذلك منقبة وفضيلة وشرفاً وعزاً وكرماً لا يدانيها فيها غيرها كما سيأتي في تعليل ذلك، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني -وقد رواه ابن عبد البر في الاستيعاب- قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه) لم؟ لأنها وحيدة بناته التي بقيت رضي الله عنها وأرضاها.
وهذا ابن سعد في الطبقات يروي عن ابن أبي ثابت قال: كان بين علي وفاطمة كلام -أي: شيء من الخلاف- فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فألقوا له شيئاً فاضطجع عليه، فجاءت فاطمة فاضطجعت من جنب، جاء وعلي فاضطجع من جنب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ويدها فوضعها على سرته ثم أصلح بينهما، وخرج عليه الصلاة والسلام، فقيل: دخلت وأنت على حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك! قال: (وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي) رضي الله عنهما وأرضاهما.
هكذا كانت فاطمة رضي الله عنها شبيهة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبيبة إلى قلبه، وكانت مضرب مثله، ومضرب المثل لا يكون إلا في العزيز القريب الأثير، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: (يا فاطمة بنت محمد! اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً)؟ لم يخصها بالذكر؟ لقربها وحبها.
ألم يقل عليه الصلاة والسلام يوم قصة المخزومية: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)؟ إنه يدل على تعظيمه ومحبته لها عليه الصلاة والسلام.
وذكر ابن حجر في الإصابة عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: كانت فاطمة أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه، سئلت عائشة رضي الله عنها -كما روى الترمذي في سننه بسند حسنه- فقيل لها: (أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة.
قيل: فمن الرجال؟ قالت: زوجها.
إن كان كما علمت صواماً قواما).
وتكلم الذهبي في السير على صحة هذا الحديث، وإن كان قد حسنه الترمذي ورواه الحاكم وصححه.
وفي حديث بريدة: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي.
قال إبراهيم النخعي: يعني: من أهل بيته.
ورواه الترمذي كذلك.(13/10)
أسباب فضل فاطمة وخصوصيتها التي امتازت بها رضي الله عنها
ولعلنا نتساءل هنا: لماذا كانت لـ فاطمة هذه الخصوصية التي حظيت بها رضي الله عنها وأرضاها؟ هناك إجابة طويلة، لكن لابد من ذكرها مع الإيجاز.(13/11)
معنى كنيتها الفريدة رضي الله عنها وأرضاها
الأمر الأول: لأن لها كنية فريدة، وليس المقصود الكنية وإنما معناها، فكنيتها التي ذكرها الذهبي وابن حجر وغيرهما من العلماء هي (أم أبيها)، ولا أعرف أحداً من النساء كنيتها أم أبيها، فهي ابنته ولكنها تكنى بأنها أم أبيها، فلم كان ذلك كذلك؟ لأسباب كثيرة.
فـ فاطمة رضي الله عنها أصغر بناته، وكان بعض بناته قد تزوجن، فبنتاه الأوليان كانتا متزوجتين من ابني أبي لهب عم النبي عليه الصلاة والسلام، تزوجا بهما في الجاهلية قبل الإسلام، وزينب مزوجة من أبي العاص بن الربيع، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة، فكانت تشهد ما يلقى النبي عليه الصلاة والسلام من الأذى والصد والإعراض من قريش، وكانت معه عليه الصلاة والسلام في هذه المواقف كما سيأتي معنا، وبعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لم يكن قد دخل بـ عائشة فمن كان يخدمه؟ ومن كان في بيته يقوم بشأنه؟ ومن كان يعد طعامه؟ ومن كان يهيئ له أحواله؟ إنها ابنته أم أبيها رضي الله عنها وأرضاها، ولذلك كانت قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت بهذه الكنية الفريدة.(13/12)
امتداد نسل النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقها رضي الله عنها
الأمر الثاني: الذرية الحبيبة، فإنه قد قضت حكمة الله عز وجل أن ينقطع نسل بنات النبي صلى الله عليه وسلم الأخريات، وألا يبقى أبناؤهن، فلم يبق نسل متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ونعلم كيف كان النبي يحب الحسن والحسين، وكيف كان يحني ظهره فيرتحله الحسن والحسين فيقول: (نعم الراكبان أنتما، ونعم الجمل جملكما)، وعندما جاء الحسن والنبي يخطب في المسجد فعثر في مرطه نزل النبي عليه الصلاة والسلام من منبره وأخذه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو الحسن والحسين إلا بـ (ابني)، وكانا يدعوانه: (يا أبتي)، فـ فاطمة رضي الله عنها أبقت لنبي الله عليه الصلاة والسلام بفضل الله جل وعلا من يقول له: أب، ومن يقول هو لهم: أبناؤه.(13/13)
صحبتها الطويلة لأبيها صلى الله عليه وسلم
الأمر الثالث: الصحبة الطويلة؛ فإن أخواتها من بنات رسول الله عليه الصلاة والسلام تتابعت وفاتهن وتقدمت، وبقيت هي مع النبي صلى الله عليه وسلم دهراً طويلاً، رقية ماتت وشغل بها عثمان في يوم بدر، وأم كلثوم توفيت بعد ذلك في العام الثامن أو التاسع من الهجرة، ولم يبق إلا فاطمة رضي الله عنها، فصحبت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتوفي ولفظ أنفاسه الأخيرة إلى الرفيق الأعلى وهي في هذه الحياة رضي الله عنها وأرضاها، فهذه صفحة من صفحات حياتها في شبهها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه إياها.(13/14)
صبرها رضي الله تعالى عنها على البلاء
يوجد الكثير من المناقب لـ فاطمة رضي الله عنها، لنرى قدوة للنساء، فالمرأة اليوم من أدنى عارض تجزع وتصيح وتتراجع ولا تكاد تحتمل شيئاً، أما فاطمة فهذه محطات من الابتلاء مرت فيها بنجاح منقطع النظير.
كلنا يعرف القصة الشهيرة المروية في السيرة لما ائتمر أبو جهل ومن معه من سفهاء قريش في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إذا سجد فضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، وقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ففعل ذلك، فلما نمى إلى فاطمة الخبر -وهي التي كانت في بيته عليه الصلاة والسلام- تحركت -وكانت صغيرة في السن- فذهبت فألقت ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظفته وطيبته، فما رفع رأسه من السجود إلا بعد أن فعلت ذلك.
لقد كانت ترى صناديد قريش وهم يتعرضون له عليه الصلاة والسلام بالأذى القولي والفعلي وتحتمل ذلك، وترى في صبر النبي عليه الصلاة والسلام قدوتها وأسوتها رضي الله عنها وأرضاها.
ثم بعد ذلك كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الشعب الظلوم، عاشت ثلاث سنوات من أشد وأقسى السنوات التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والمسلمين الذين معه حتى أكلوا ورق الشجر، وحتى قرحت أشداقهم، ولقد روى سعد رضي الله عنه أنه ذهب يتبول قال: فإذا أنا أسمع قعقعة فأخذتها فإذا هي شنٌ -يعني: قطعة من جلد- فأخذتها فغسلتها فدققتها فسففتها فكانت قوتي أياماً.
هكذا كانوا وكانت فاطمة البنت الرقيقة الصغيرة الفتية في عمرها، وإذا كان قد تزوج بها علي وهي بنت خمس عشرة سنة في المدينة فكم كان عمرها إذ ذاك؟! كانت صغيرة رضي الله عنها وأرضاها، فصبرت واحتملت ومرت بهذه الظروف العصيبة وشظف العيش وشدته تتأسى بأبيها عليه الصلاة والسلام.
ثم من بعد ذلك كان فقد الأم العظيمة في عام سماه أهل السير (عام الحزن)، فقد كان من أشد ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أن فقد زوجته خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها الحبيبة إلى قلبه المواسية له المؤازرة والمساندة له عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك عظيماً على أصغر البنات التي لم تكن تزوجت بعد وهي فاطمة رضي الله عنها، فصبرت واحتسبت ومضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم من بعد كانت هناك محطة رابعة في معاناة الهجرة الحزينة، فيوم هاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يصحب معه بناته، ثم من بعد أرسل أبا رافع مولاه فأخذ زينب وفاطمة رضي الله عنهما، فلحق بهم الحويرث الأشقى فنخز بعيرهما وآذاهما فسقطتا من عليه وقد وهت أجسادهما، وكانتا ضعيفتين، وهذا هو الذي أعلن النبي عليه الصلاة والسلام عنه وعن نفر معه يوم فتح مكة أن يقتلوا ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وذلك لما فعل هذا الشقي ببنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومضت هذه الفتاة في ريعان شبابها تحتمل كل هذه الصعاب بإيمان عظيم وصبر جليل واحتساب للأجر عند الله سبحانه وتعالى، ومواصلة على الطريق دون جزع ولا تراجع ولا تضعضع ولا ضعف بحال من الأحوال.
ثم ماذا بعد ذلك؟ لقد كان موت الأخوة والأخوات، فإخوانها جميعاً ماتوا إبراهيم والقاسم أبناء النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أخواتها واحدة إثر الأخرى وهي تشيع وتدفن رضي الله عنها وأرضاها، والحزن يملأ قلبها فينصب على يقينها وإيمانها، فإذا بها ترضى بقضاء الله وقدره، لكن ذلك أمره عظيم.
وقد ورد في بعض الروايات أنها شهدت أحداً، وكان لها شيء من المشاركة، ورأت ما رأت مما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج رأسه ودميت قدماه ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ثم كان المصاب الأعظم الذي لم تتماسك بعده حتى أدركتها منيتها وحانت وفاتها، ذلك الحدث هو فقد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، يوم قالت فاطمة رضي الله عنها عندما زارت النبي صلى الله عليه وسلم: واكرباه! فقال عليه الصلاة والسلام: (لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة).
ثم لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: واكرب أبتاه، إلى جبريل ننعاه، جنة الخلد مأواه.
ثم لما دفن عليه الصلاة والسلام قالت لـ أنس -كما في الصحيح-: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! وفي بعض الروايات أنها ما رئيت مبتسمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وسنذكر الآن بعض فضائلها وما جاء في هذه القصص العظيمة، فكانت صابرة رضي الله عنها صبراً عظيماً يدلنا على ما ينبغي أن تتحلى به النساء المؤمنات من الصبر والاحتمال فيما يتعرضن له في طاعة الله سبحانه وتعالى والثبات على هذا الدين، لا أن يكون ذلك برقة وضعف وخور كما نرى، نسأل الله عز وجل السلامة.(13/15)
فضائلها رضي الله عنها وأرضاها
فضائل فاطمة رضي الله عنها كثيرة، ففي الصحيح من رواية عائشة: (كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها وقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن يساره، ثم سارها -أي: أسر إليها كلاماً- فبكت -رضي الله عنها- ثم سارها مرة أخرى فضحكت، فقالت عائشة: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين؟! ما قال لك؟ قالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها عائشة: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك.
قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني ثانية فقال: يا فاطمة! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت).
وفي رواية في لفظ آخر: (لما رآها استبشر وتهلل، فسارها فبكت ثم ضحكت، فقالت عائشة: ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من بكاء) ثم سألتها.
وفي رواية ثالثة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنت لأرى هذه -تعني فاطمة - لأعقل نسائنا فإذا هي امرأة من النساء، أي: أنها كانت تظنها ذات جلد، فلما رأتها تضحك وتبكي قالت: هذه امرأة من النساء ليس عندها شيء مختلف، فلما علمت بذلك عرفت.
وفي رواية: (فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة وأنك أول أهلي لحوقاً بي؟! فضحكت) وهذا عند البخاري ومسلم، وكان الأمر كذلك كما سيأتي في وفاة فاطمة رضي الله عنها.
وهذا الحديث روي بروايات كثيرة، منها رواية الترمذي وفيها: (أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت).
وفي رواية حذيفة عند الترمذي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (هذا ملك نزل من السماء لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي وأن يبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أخرجه الترمذي وحسنه.
وعندنا رواية في الفضائل -وسيأتي ذكرها باختصار فيما هو من الشبهات والأخطاء- هي رواية عند البخاري ومسلم، وكذلك عند أبي داود والترمذي من حديث مسور بن مخرمة في قصة علي بن أبي طالب حين خطب بنت أبي جهل يريد أن يتزوجها على فاطمة، قال: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: (إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها.
ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس، ثم قال: وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً، ولكن -والله- لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً).
وفي الرواية الأخرى قال: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها).
وهذا الحديث أيضاً من فضائلها رضي الله عنها وأرضاها.
ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وفاطمة سيدة نسائهم إلا ما كان من مريم بنت عمران).
والروايات كثيرة في فضائلها رضي الله عنها، ومما ذكره الترمذي أنه قال عليه الصلاة والسلام في شأن قصة إرادة علي خطبة بنت أبي جهل: (إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم؛ فإنها بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.(13/16)
وقفات من شبهات المغرضين(13/17)
وقفة مع شبهة هجرها لأبي بكر رضي الله عنه في قضية الميراث
وقفة مع الأوهام الخاطئة ومع الأفكار الزائغة التي تشوه علينا هذه الصورة المشرقة الوضاءة في سيرة وتعامل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك بعض الأوهام التي أخذها بعض الناس مآخذ تبعد عن فهم حقيقة إيمان الصحابة وفضيلتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن ذلك ما هو مشهور في الحديث الصحيح عند البخاري أن عائشة روت أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيها سألت أبا بكر ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة) فغضبت فاطمة وعاشت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، والحديث عند البخاري في الصحيح، وقد أورده بألفاظ مختلفة كثيرة، وبعض الناس أخذوا هذا مآخذ شتى، وجعلوا ذلك خصومة بين أبي بكر رضي الله عنه وفاطمة رضي الله عنها، وبين عائشة رضي الله عنها وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وما فقهوا فقه الإيمان، وما عرفوا كيف كان أولئك النفر من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن قد عرفنا ما روت عائشة في فضائل فاطمة وما كانت تلمحه وتدركه من شبهها برسول الله عليه الصلاة والسلام ومحبته لها عليه الصلاة والسلام.
وأما هذا فقد ذكر العلماء فيه -بإيجاز- أنه أخذ فيه أبو بكر بسنة وحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاطمة كانت متأولة، فقد كانت تظن أن هذا الحديث لا يدخل فيما أفاء الله عليه من الأراضي كأرض فدك وخيبر وغيرها، ولم يكن من فاطمة رضي الله عنها إلا ما كان من حزنها على أبيها؛ فإنها لم تمتنع عن أبي بكر فحسب، بل كانت بعيدة عن الناس وعن مؤانستهم بسبب حزنها الشديد على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كانت أول أهله لحوقاً به كما ذكر عليه الصلاة والسلام.
والروايات يذكرها ابن حجر ويبين معانيها في الفتح، فقد ذكر أن فيما رواه أحمد وأبو داود أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ قال: بل أهله.
قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده)، فرأيت أن أرده على المسلمين.
قالت: فأنت وما سمعته.
قال: فهذا لا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران، ولا يدل على الرضا، ثم ذلك فيه لفظة منكرة، وبعد ذلك ذكر رواية الشعبي عند البيهقي أن أبا بكر عاد فاطمة -أي: زارها- فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك.
قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم.
فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت.
قال ابن حجر: وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة في هجر أبي بكر، وقال بعض الأئمة: إنما كان هجرها انقباضاً عن لقائه والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرم، فإن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا ويعرض هذا، وكأن فاطمة لما خرجت رضي الله عنها من عند أبي بكر رضي الله عنها تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نورث)، ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم رضي الله عنه.
فهل في مثل هذا الفقه ما يثيره أولئك القوم من هذه الفتن والمحن التي يجترءون بها على مقام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذمون من ثبت في القرآن مدحهم والثناء عليهم.
ونحن نعرف في هذا أقوالاً كثيرة، حتى إن ابن حجر رحمه الله أفاض فيها وذكرها، ومن ذلك في هذا السياق ما ذكر في الصحيح -أيضاً- أنه لما ماتت فاطمة رضي الله عنها دفنها علي ليلاً لم يؤذن بها أبا بكر.
فقالوا: ذلك خصومة، وذلك لئلا يصلي عليها أبو بكر وغير ذلك.
لكن ماذا قال أهل العلم؟ قالوا: كان ذلك بوصية منها لإرادة الزيادة في التستر، ولعله لم يعلم علي أبا بكر بموتها لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عليه، وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها ولا صلى عليها.
وعلي بايع أبا بكر وكان الناس قريباً منه، ورجع إلى المعروف رضي الله عنه وأرضاه بعد موت فاطمة وأعلن بيعته، ولم يكن في تركه للبيعة قبل موتها شق عصا ولا مخالفة، ولا إبطال لهذه البيعة، لكنه احترم شعور فاطمة وحزنها، وانشغل بها حتى قضى الله ذلك الأمر، قال المازري رحمه الله: العذر لـ علي في تخلفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد، ولا يجب الاستيعاب.
ولا يلزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته والانقياد له بألا يخالفه ولا يشق العصا عليه، وهذا كان حال علي، فلم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر، وقد ذكر سبب ذلك.
وأما رواية البخاري أن ذلك كان كراهية حضور عمر، قالوا: لأن عمر كان رجلاً صلباً شديداً، فخشوا من أن تكون المعاتبة وشدة القول في الأخذ والرد، وهم كانوا يريدون المصافاة، حتى إنه لما أراد أن يذهب قيل له: لا تذهب إليهم.
فقال: وما عساهم أن يفعلوا بي! وقال علي رضي الله عنه في سياق هذا الحديث كلاماً نفسياً رضي الله عنه وأرضاه، وقال أبو بكر كلاماً نفيساً كذلك، فتشهد علي -أي: قال: أشهد ألا إله إلا الله- واستفتح الكلام فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر.
وفي شرح ذلك قالوا: إن علياً كان يرى أن بعض الأمور كان ينبغي أن يشهدها ويستشار فيها، وأبو بكر رضي الله عنه كان يرى جزم الأمر والإسراع فيه؛ لئلا لا ينفرط الحبل، وعلي شغل برسول الله عليه الصلاة والسلام وبـ فاطمة من بعده، فلم يكن إلا ذلك.
قال علي رضي الله تعالى عنه: وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً.
قال الراوي -كما في البخاري -: حتى فاضت عينا أبي بكر بكاءً رضي الله عنه، فلما تكلم قال: والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيه عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعته.
فقال علي لـ أبي بكر: موعدك العشية للبيعة.
فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر، ثم تشهد علي فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا.
فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت.
وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع المعروف.
فهل في هذا النص ما يقوله القائلون وما يرجف به المرجفون وما يقوله الذين أفسدوا على الناس مقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يكون عليه حالهم؟! إن كان الناس يبرءون أنفسهم من مثل هذه الشحناء فكيف بأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! بل كيف بالصفوة المباركة من المقربين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(13/18)
وقفة مع شبهة منع النبي صلى الله عليه وسلم علياً عن زواج ابنة أبي جهل
وقفة ثانية في هذه الأوهام والأخطاء، ففيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم).
قال النووي رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه، وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي عليه الصلاة والسلام، وهذا بخلاف غيره، فلما كان ذلك يؤدي إلى إيذاء فاطمة وذلك يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم حرم من هذا الوجه.
أو لم يكن ممكناً الجمع بينهما من هذا الوجه، قال النووي: وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لـ علي بقوله: (لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً) ولكنه نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين: إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيهلك من آذاه، فنهى عن ذلك لتمام شفقته على علي وعلى فاطمة.
والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة.
وقيل: هذا كان بسبب الغيرة، وهو مذكور أيضاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني أخشى أن تفتن في دينها) أي: بسبب غيرتها؛ لأنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي ابن عمها رضي الله عنهما، ولذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين هذا، فترك علي خطبتها لئلا يؤذي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وثبت أن علياًَ لم يتزوج معها غيرها، بل ولم يتسر بغيرها من السراري أو الإماء حتى توفيت رضي الله عنها وأرضاها.
هذا موجز ما ذكره النووي، وقد أفاض -أيضاً- القرطبي في شرح مسلم والمازري والقاضي عياض في هذه المعاني بنفس هذا المعنى أو قريباً منه.
وهذه المسائل عند أهل السنة والجماعة وأهل الإيمان والتقوى واضحة لا تلتبس، إلا عند الزائغين والمنحرفين الذين نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من طرقهم، وأن يجنبنا مسالكهم، وأن يهديهم إلى سواء السبيل والصراط المستقيم؛ فإن الثلم والذم لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام معارضة لكتاب الله عز وجل ولما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ذم لهم حتى ولو لم يكن ذلك في النصوص، فلئن كان ذلك كذلك فأي قوم كان هؤلاء؟ وكيف عن لهم أن يكونوا من أصحاب النبي وحملة الدين ثم يكونوا على هذا الذي يصور من فرقتهم وخلافهم وكيد بعضهم لبعض ونحو ذلك؟ وكيف يمكن أن نفهم وندرك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه؟! وكيف ندرك هذه العلاقات العظيمة والمآثر الكريمة والأقوال الجليلة في مدح بعضهم بعضاً، وثناء بعضهم على بعض، ومعرفة بعضهم حق بعض، حتى قال سعد -وهو حديث مشهور- ثلاث لـ علي تمنيت لو أن لي واحدة منها، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أما أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) وذكر كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فهذا كله معروف شائع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومقامهم وحالهم يدلنا على أنهم أليق بذلك وأجدر به، وإن كنا اليوم نعيب الإنسان إذا كانت له خصومة مع صديق أو حبيب أو قريب، ونرى في ذلك جفاء في طبعه، ونرى في ذلك سوءاً في خلقه؛ فكيف ينسب ذلك إلى صفوة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف ينسب إلى أبي بكر وهو الذي يبكي عندما يذكر أبناء وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهو الذي جعل نفسه قائماً بأمر الأمة كلها عموماً وأمر أهله صلى الله عليه وسلم خصوصاً! وكيف بـ عمر رضي الله عنه الذي كان يعطي أمهات المؤمنين أكثر ما يعطي من العطاء الذي يوزعه للمسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور معلوم ثابت في الصحيح.
فلاشك أن هذا من زيغ الفكر، ومن ظلمة القلب، ومن انحراف النهج والقصد، ومن الفتنة التي ينبغي لكل مسلم أن يبرأ منها، وأن يجتنبها، وأن يحذر الناس منها، وأن يدعو إلى غيرها، وأن ينبه الواقعين فيها، ونحن -بحمد الله عز وجل- في قلوبنا من الإيمان واليقين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعظيم والإجلال لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يكون وقاية لنا من ذلك.(13/19)
وفاة فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها
وقفتنا الأخيرة في وفاة فاطمة رضي الله عنها، وما أدراك ما وفاتها؟! توفت -على الصحيح- بعد ستة أشهر من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي يوم وفاتها نادت مولاتها أم رافع، وجاءت بماء فاغتسلت أحسن اغتسال، ثم لبست أحسن ثيابها، ثم طلبت أن يكون فراشها في وسط بيتها، ثم اضطجعت واستقبلت قبلتها وقالت: كأني مقبوضة.
فما لبثت أن قبضت روحها إلى خالقها وبارئها رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك وهي ابنة ثلاثين سنة على الصحيح، كما روى ذلك عبد الله بن محمد بن الحسن.
وقد صلى عليها العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في قبرها علي والفضل رضي الله عنهم أجمعين، وكانت فاطمة رضي الله عنها هي أول من وضع له القباء من نساء المسلمين؛ لأنها كانت رضي الله عنها حيية تحب الستر، فكانت في حديث مع أسماء تقول لها: هؤلاء النساء عندما يكفن يكون الثوب فوقهن فكأنه يصف أجسادهن! فقالت: لقد رأيت شيئاً عند أهل الحبشة.
وذكرت لها أنهم يضعون جريداً فيرفعون به عن جسم المرأة، فلما ماتت فاطمة رضي الله عنها صنع بها ذلك، فكانت أول امرأة في الإسلام فعل بها ذلك.
ومضت إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الصبر والاحتمال والقرب من رسول الله عليه الصلاة والسلام، والنموذج المثالي للمرأة المسلمة الصابرة المحتسبة، والزوجة الوفية العاملة البارة بزوجها الوفية لعشرتها، وكان لها أعظم الفضل فيما أكرمها الله عز وجل به من الأبناء الذين كان لهم أثر عظيم وبر كبير ومنفعة، حتى ذكر النبي عليه الصلاة والسلام من مناقب الحسن والحسين ما هو معلوم.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها في عباده الصالحين، وأن يجعلها في أعلى عليين، وأن يجعلها قدوة لنساء المسلمين، وأن يلحقنا بها وبأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على خير ما يحب ويرضى سبحانه وتعالى من الإيمان والتقى والهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.(13/20)
الأسئلة(13/21)
الوقعة التي أعطي فيها علي الدرع الحطمية
السؤال
هل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الدرع الحطمية لـ علي رضي الله عنه في غزوة أحد؟
الجواب
القول بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاها لـ علي رضي الله عنه بعد غزوة أحد غير صحيح، بل أعطاه إياها بعد غزوة بدر؛ ولذلك استشكل بعض الناس: كيف نحر حمزة شارفين في وليمة عرس علي رضي الله عنه؟(13/22)
حكم القول للعروس: جمع الله بينكما كما جمع بين علي وفاطمة
السؤال
ما حكم القول للعروس: جمع الله بينكما كما جمع بين علي وفاطمة؟
الجواب
لا أعرف لذلك أصلاً، والذي ذكر في الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (إذا أخذت زوجك فلا تصنع شيئاً حتى آتيك)، وأم أيمن هي التي تولت الجهاز، فجاء صلى الله عليه وسلم فسلم فردت أم أيمن فقال: (أين أخي؟) قالت: كيف أخوك وزوجته ابنتك؟! (قال: ذلك يكون) يعني: هو أخي في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين علي يوم آخى بين المهاجرين والأنصار، فلم يكن لـ علي أخ من الأنصار، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أخاه.
ثم لما جاء دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء، قيل: توضأ فيه، وقيل: مج فيه.
ثم سكب منه على علي وفاطمة ودعا لهما وبرك عليهما -أي: دعا لهما بالبركة-، ثم قال لـ علي: (خذ أهلك وزوجك).(13/23)
التخفيف في نفقات الزواج لسد حاجة الأمة
السؤال
هل من باب الأولويات التوفير والتخفيف في نفقات الزواج لنسد الثغرات الكثيرة في جراحات الأمة؟
الجواب
هو كذلك، فلم يسرف الناس في هذا والمسلمون اليوم في كرب وضنك وحاجة شديدة؟! وكثير من المال الذي يصرف في غير مكانه قد يكون في كثير من الأحوال إثماً يسجل على صاحبه، وبعض الناس يقولون: هي ليلة العمر، وبعض الناس يقولون غير ذلك، فنقول: ما جاوز حد الاعتدال فهو سرف، وما كان فيه إثم أو حرمة فهو حرام في ذلك اليوم وفي غيره، في تلك الليلة وفي غيرها.(13/24)
الاقتداء ببيت علي رضي الله عنه
السؤال
أيكون بيت علي رضي الله عنه أنموذجاً لبيوت المسلمين؟
الجواب
نعم، هو أنموذج ينبغي أن يقتدى به.(13/25)
حكمة عدم مجيء الأولاد للنبي صلى الله عليه وسلم من غير خديجة من الزوجات
السؤال
هل ورد بيان لحكمة عدم مجيء الأولاد للنبي صلى الله عليه وسلم من غير خديجة رضي الله عنها؟
الجواب
كذا قدر الله عز وجل.(13/26)
حكم اختصاص فاطمة رضي الله عنها بمكانتها العالية عند أبيها
السؤال
لم خصت فاطمة بتلك المحبة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من بين أخواتها، وهل كان ذلك قبل موتهن أو بعده؟
الجواب
الغالب أنه بعده، والغالب أنه لقربها منه، ولكونها امتدت في حياتها معه ذلك الوقت كله، فكان من هذا ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام من فضائلها، ولأخواتها أيضاً من الفضائل ما قد ذكر في نصوص أخرى، لكن فضل فاطمة قد اشتهر؛ لأنها بقيت إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي أبقى الله عز وجل ذريتها ليكون امتداد نسب النبي عليه الصلاة والسلام من فاطمة رضي الله عنها.(13/27)
الحل العملي لطالب الزواج وحكم الزواج المبكر
السؤال
هناك من يطلب الدعاء بأن ييسر الله له الزواج؛ وما حكم الزواج المبكر؟
الجواب
الدعاء مبذول، ولكن نقول: على الناس جميعاً أن يسعوا في ذلك سعياً عملياً صحيحاً، وأن يكونوا بالفعل قائمين بهذا، وأما الزواج المبكر فنقول: هو خير كله، وابحث في سير الأصحاب وفي سير الأئمة والعلماء فإنك ستجد ذلك ظاهراً وواضحاً لا يحتاج إلى دليل.(13/28)
شبهة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي ابنة ست سنين
السؤال
بعض الناس عندهم شيء من الشبهات المعاصرة حيث يقولون: كيف نقول للناس: إن النبي عليه الصلاة والسلام عقد على عائشة وهي ابنة ست، وبنى بها وهي ابنة تسع؟
الجواب
كيف لا يصلح أن نقوله لغير المسلمين وهم يصنعونه سفاحاً، ويصنعونه جريمة، ولا يقبلون أن يكون نكاحاً! وقد كان ذلك مشهوراً في بيئة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون مستغرباً الآن، لكنه في وقته لو كان مطعناً أو كان سبباً للذنب لما تأخر المشركون والكافرون الذين يتربصون برسول الله عليه الصلاة والسلام الدوائر في ذمه وفي التشنيع عليه، وما نقل لنا عنهم في ذلك مقالة.(13/29)
الجمع بين قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ) وإخباره صلى الله عليه وسلم ببقاء نسبه يوم القيامة
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون:101] مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنساب يوم القيامة ستنقطع إلا نسبه صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
قال عليه الصلاة والسلام: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً)، ولكنه عندما قال: (إلا نسبي)؛ فإنه يخبر عما أخبره الله سبحانه وتعالى به من غيب في شأن من اتصل به نسبه، وهي فاطمة رضي الله عنها، وقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، والنبي يخبر بالوحي عليه الصلاة والسلام، فليس لأحد أن يقول كيف ذلك أو لم ذلك؟ فهو عليه الصلاة والسلام يبلغ أمر الله سبحانه وتعالى ووحيه.(13/30)
حكم قول: (فاطمة صلى الله عليها وسلم)
السؤال
أحد الأعلام عندما يذكر فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أو أحد أبنائها يقول: صلى الله عليها وسلم فما حكم ذلك؟
الجواب
ما أعرف هذا، ولا يصح أن يقال هذا، فالصلاة والسلام لا يجوزان استقلالاً إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز لغيره بالتبع، فيقال: اللهم صل وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ومن اتبعهم وعلينا معهم.
فلا بأس بذلك، وأما الصلاة استقلالاً فهي من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، وقوله: (اللهم صل على آل أبي أوفى) قالوا: هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، قال شيخ الإسلام أبو زكريا الأنصاري: ويمنع منه استقلالاً لئلا يكون تشبهاً بأهل البدع.
فلا يقول: عن فلان من الصحابة أو فلانة من الصحابيات عليه الصلاة والسلام أو عليها السلام استقلالاً؛ لأنه صار شعاراً لأهل البدع، فيجتنب ذلك.(13/31)
مجموع ما روته فاطمة رضي الله عنها من أحاديث
السؤال
كم روت فاطمة رضي الله عنها من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
روت ثمانية عشر حديثاً، وروى عنها ابناها، وروى عنها علي رضي الله عنه، وروت عنها عائشة رضي الله عنها، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.(13/32)
موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من تقديمه فاطمة وحبه لها
السؤال
هل كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشعرن بالغيرة حين يقدم فاطمة عليهن؟
الجواب
لما نزل قول الله سبحانه وتعالى في شأن أهل البيت: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بمرط مرحل -أي: كساء- ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم بسط عليهم الكساء وقال: (اللهم! هؤلاء أهل بيتي، فأحب من أحبهم، وأبغض من أبغضهم).
رواه مسلم.
والمقصود به من كان معه، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وأنا منهم.
قال: (إنك على خير كثير) فالنبي عليه الصلاة والسلام يعطي كل أحد حقه، ويؤنس النفوس، ويذكر الفضائل، ولا ينبغي أن يشتغل الناس بقولهم: لماذا لم يكن هذا كذلك؟ فهل نحن الذين نعرف أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان يبلغ الوحي وما ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام؟! والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقول من ذلك شيئاً لميل نفس أو لهوى في نفسه عليه الصلاة والسلام، بل هو المعصوم صلى الله عليه وسلم من كل ذلك، وهو يبلغ عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي لنا أن نبقى مع النصوص، فإنه لا عصمة إلا بما هو من كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما أشكل من ذلك فمن كان يعرف الحقائق والقواعد الكلية قاده ذلك إلى بصيرة تجعله مصيباً للحق غير مجانب له أو ذاهب إلى إفراط أو إلى تفريط، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، ولو كان مثل هذا مما يجتنب لما أورده البخاري في صحيحه، ولما أورده مسلم في صحيحه، ولو كان الحال كما يقول أولئك القوم: إن أهل السنة لا يحبون آل البيت فلم ذكر أهل السنة مثل هذه النصوص؟ ولم ذكروا هذه الفضائل؟ ولم ذكروا هذه القصص التي فيها بعض ما قد يكون شبهة؟ إنما نقلوا وأثبتوا وبينوا ما كان عليه أولئك النفر الأخيار الأبرار الأطهار من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين نبرئهم مما نبرئ منه أنفسنا، فهم من باب أولى في ذلك الأمر.(13/33)
موقف فتيان الصحابة من تقديمه صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين وحبه لهما
السؤال
هل كان الفتيان يشعرون بالغيرة عندما كان صلى الله عليه وسلم يقدم الحسن والحسين؟
الجواب
إن أوضاعنا وأحوالنا وخلل نفوسنا وطبيعة حياتنا أصبحت تسيطر علينا، وننظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وكأنه لا يدرك أنه نبي الأمة كلها، وكأنه لا يفيض على أمته كلها مما عنده من الخير.
لكنه جد الحسن والحسين، وليس جد ذلك ولا ذاك، ألم يكن الناس غير النبي عليه الصلاة والسلام يحبون أحفادهم حباً أكثر من غيرهم من أبناء الناس؟ أفليس الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً في هذا؟ ثم عندما يخبر بهذا فهو معصوم يخبر عن وحي الله سبحانه وتعالى.
وإنما ما كان من حياتنا أو ما هو من طبيعة أحوالنا وتغيراتها قد يجعلنا نضطرب في مثل هذا الأمر، ونسأل مثل هذه الأسئلة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ونرضى.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل القول حجة لنا لا علينا، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان، وأن يجعلنا مقتفين لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مستمسكين بسنته متبعين لآثار أصحابه رضوان الله عليهم.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/34)
قضية فلسطين بعد العراق
منذ عقود والمسلمون يبكون ليلهم ونهارهم، ولم يستطيعوا الخروج بنتيجة ولو يسيرة في قضية فلسطين، فأروقة السياسة ودهاليز المباحثات ميعت القضية وضيعت المصطلحات، وما زالت كذلك مع الأيام في ازدياد، ولا ندري إلى أي مدى ستصل، وها هي قضية العراق تفتح أبوابها لتكون قضية أخرى كسابقتها كل هذا من أجل ضمان أمن دولة المسخ المصطنعة على أرض الإسلام، دولة إسرائيل المزعومة.(14/1)
قضية فلسطين في عقيدة الأمة الإسلامية
الحمد لله، الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، له الحمد سبحانه وتعالى؛ خلق فسوى وقدر فهدى، وجعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، وجعل الدائرة على الكافرين؛ له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الجراح كثيرة، ولكننا نعلم أن بعضاً أخطر من بعض، وجرح القدم ليس مثل جرح في البطن، وليس هذا مثل جرح في الرأس، ولا يمكن أن تقاس هذه الجراحات كلها بجرح في القلب يوشك أن يكون سبباً للوفاة، قال ابن القيم رحمه الله: (الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل)، نشرق ونغرب، نتحدث عن جرح نازف هنا أو هناك، نتحدث عن مأساة في العراق أو عن مشكلة وقضية في الشيشان، ونذهب يمنة ويسرة لكن قضية القلب، قضية الأثافي، ومحور الصراع، وقطب الرحى، وملتقى المعارضة والمواجهة الدينية العقدية، والصراعات الحضارية الثقافية لابد لنا دائماً وأبداً أن نعيد القول فيها ونزيد، ولابد أن ندرك عظمة أهميتها.
والقضية الأكثر خطراً، والأعظم أهمية: قضية فلسطين وبيت المقدس ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى الذي فتحه الصحابة ورووه بدمائهم في سبيل الله، هذه القضية الفلسطينية التي ما يجري شيء في واقعنا المعاصر إلا وله صلة بها، وهي أساس فيه؛ حتى مأساتنا القريبة التي تحدثنا عنها وزدنا القول فيها إنما هي حدث ضخم كبير طريقه وجسره إلى قلب الأمة في أرض فلسطين.
ولعل كل عاقل يدرك بجلاء ووضوح ما هو جلي رأي العين، ودويه ملء الآذان فيما يجري الآن؛ فقضية فلسطين مرتبطة دون فاصل زمني ودون تباعد سياسي، ودون مغالطات أو مداورات بين ذلك الحدث العظيم وما يدبر ويضغط على تحقيقه في أرض فلسطين، ودعك من هذه الأسماء التي تدور هنا وهناك، ولسنا في مقام هذا المنبر نتحدث عن الأحداث كنشرة إخبارية ولا عن الوقائع كتحليلات سياسية؛ فمنطقنا عقيدة إيمانية، وحديثنا آيات قرآنية، وأخبارنا أحاديث نبوية، وتقريرنا وقائع تاريخية، وشواهدنا حقائق واقعية.
ينبغي أن ندرك تلك الحقائق أولاً، وأن نعيها، وقد قلناها من قبل ولكنه لابد من إعادتها وتكرارها، لأننا لا ينبغي أن ننصرف إلى بنيات الطريق، ولا ينبغي أن ننشغل بالجراح الجانبية مهما عظمت وننسى الجرح الأكبر؛ إنه ليس من العقل أن نفرغ جهودنا لعلاج الأقدام وجروحها، أو البطون وشقوقها أو غير ذلك وننسى علاج القلب الذي إن وقف نبضه فلن يجدي شيء بعد ذلك.
قضيتنا الأولى قضية إيمان وعقيدة، إنها ليست قضية أرض وطين ومفاوضات سياسية، ولا قضية دول وسلطة ذاتية وغير ذاتية؛ إنها قضية آيات قرآنية؛ قبلة المسلمين الأولى التي توجه إليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام نحو ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، فخاض في ذلك اليهود -عليهم لعائن الله- منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إما أن قبلتك الأولى صحيحة فانصرفت إلى باطل، وإما أنها ليست صحيحة فكنت على ضلال، فأنزل الله سبحانه وتعالى ما يرد مقالتهم، ويبطل إرجافهم، وثبت أهل الإيمان على أمره سبحانه وتعالى.
ومن بعد ذلك كانت تلك البلاد مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسري به من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى ليصلي بالأنبياء إماماً، ثم يكون عروجه إلى السماء منها عليه الصلاة والسلام، ليدل ذلك على وراثة الإسلام لكل الرسالة والأديان، وعلى إمامة المصطفى صلى الله عليه وسلم لسائر الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وليظهر أن الإسلام هو الدين الأحق بأرض النبوات، وتاريخ العقائد والديانات الربانية الإلهية بعد أن تنكر لها وجحد رسلها، وحرف كتبها اليهود -عليهم لعائن الله- وضل في الضلال من كان كذلك من النصارى.
ثم من بعد ذلك الفضيلة الثابتة الدائمة التي لم ترتبط بتاريخ ولا بوقت بعينه: (لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى)، إنها استثناءات قالها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، إنه تعبد شرعه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، إنه دين لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وفي حديث أبي ذر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت بني لله عز وجل؟ فقال: البيت الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: بيت المقدس)، فنحن عندما ننظر إلى هذه الأصول، نعرف أن هذه هي الأرض التي باركها الله عز وجل، وجاءت الآيات تترا في كتاب الله تبين ذلك: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، وهي الأرض المباركة التي يبقى ويظل لها صلتها وارتباطها بالإسلام إلى آخر الزمان وإلى قرب قيام الساعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد مسند أبيه، والطبراني بسند رجاله ثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأوى -أي: من أذىً وضر في تلك المواجهات- قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث شتى، وأخبر أن: (عمود الكتاب رفع، قيل: أين ذهب به يا رسول الله؟ قال: إلى بلاد الشام).
مرة أخرى أيها الإخوة! تلك آيات تتلى، وأحاديث تروى هل تنسخها السياسية القذرة؟ هل تنسخها المفاوضات الدنيئة؟ هل ينسخها الرجال الأقزام؟ إن رضينا بذلك فإننا نرضى لأن ننسخ جزءاً من إيماننا وعقيدتنا، وأن نلغي حقائق مذخورة مكتوبة محفورة في كتاب ربنا وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فلننتبه لذلك ولننظر اليوم إلى صفحات التاريخ المشرقة ونحن نعرفها، لكننا نريد أن نقول: إن هذا القرآن والسنة كانت ملء قلوب أسلافنا؛ فعرفوا كيف يتوجهون على مراد الله، وعلى منهج الإسلام، وعلى درب الجهاد، وعلى طريق العزة، وعلى إقامة الحق ورفع رايته.
يوم فتحها عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً ليس في التاريخ له مثيل، فتح قوة الإيمان أمام أباطيل الكفر وانحرافاته، فتح قوة الحق أمام أراجيف الباطل وظلماته، فتح قوة الحضارة أمام الهمجية، وفتح نور الإسلام أمام تلك الظلمات العظيمة، فتح العدالة التي ألغت الظلم، فتح السلم الذي عم بخيره الناس جميعاً، وكانت معاهدة عمر التي أثبتت سماحة الإسلام، وأظهرت ترجمته العملية في واقع الأمة الإسلامية، وكانت تلك الصورة الحضارية العظيمة لأمة الإسلام يوم كانت على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن بعد ذلك جاء تحرير صلاح الدين بعد عقود وقرون متتالية فجدد ذلك العهد الأول، وأثبت أن منهج الإسلام لا يتغير، وأن الحقائق فيه لا تتبدل، وأن أراجيف اليوم إنما هي كذب وافتراء روجته وسائل الإعلام الصهيونية، ورددته -وللأسف- وراءها وسائل الإعلام العربية والإسلامية، وراجت تلك الفتن والأباطيل، وأصبحت اليوم من المسلمات، حتى نظرنا اليوم فإذا بنا نرى العقد ينفرط حبة حبة، ويوشك -إلا من رحمه الله- ألا يبقى فيه حبة.
منذ سنة 48 ضيعوا وضيعت الأمة شطراً من القدس، ولحقها الباقي في 67، وتوالى من بعد ذلك ما يراد له أن يضيع في دهاليز السياسية والمفاوضات عبر تلك الألاعيب والأحاييل التي تضيع حق الإسلام والمسلمين في أرضهم وديارهم، بل في عقيدتهم ودينهم.(14/2)
مفارقات بين ساسة الإسلام وساسة اليهود
نرى المفارقة العجيبة بين الذين يتصدرون لهذه القضية باسم العروبة والإسلام، وبين اليهود -عليهم لعائن الله-، إنهم في كل حركة وسكنة، وفي كل تصريح وكلمة، وفي كل جولة ومفاوضة يعلنون حقائقهم الدينية، ويعلنون واقعهم المفروض، ولا يفرطون بشيء، والآخرون يتراجعون خطوة بعد خطوة بعد خطوة، حتى لم يعد لهم شيء إلا الهاوية التي في حقيقة الأمر قد وقعوا فيها وتدنسوا بوحلها شاءوا أم أبوا، انظروا إلى الفروق العجيبة بين تلك التراجعات والتنازلات وبين ما كان يصر عليه اليهود ليس عندما قامت دولتهم الغاصبة بل قبل ذلك.
زعيم الصهيونية هرتزل في عام 1902 تقدم بطلب للسلطان عبد الحميد العثماني رحمه الله آخر الرجال والحكام الشرفاء الأطهار الذين وقفوا بقامة الإسلام وعزة الإيمان، وثبتوا على مواجهة مطامع اليهود وتدنيسهم، تقدم اليهودي الصهيوني الأكبر طالباً إنشاء جامعة في القدس، وقال في طلبه: إنها ستنشر العلم بين أبناء بلاد الشام بدلاً من أن يسافروا إلى بلاد أخرى، ويتعرضوا لتأثيرات الثورات والأفكار وغير ذلك، فأبى الخليفة المسلم المؤمن الغيور.
وما إن جاء الانتداب البريطاني وقبل أن يستتم، وقبل أن يبدأ في حقيقة الأمر، وقبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية جاءت هذه الجامعة عام 1918 وأسسها اليهود، وافتتحها وأصر على حضورها بلفور؛ صاحب الوعد المشهور؛ الذي أعطى فيه ما لا يملك لمن لا يستحق، وجاء ليقول في ذلك الزمان قبل أن تقوم الدولة الغاصبة بعقود من الزمان: (إنه يأمل أن تصبح هذه الجامعة مركز إشعاع سياسي وقومي للحركة الصهيونية في جميع منطقة الشرق الأوسط من سيناء إلى سوريا إلى شرق بغداد إلى مدى أوسع من ذلك)، قاله ذلك الصهيوني اليهودي قبل أن نسمع ونعي ما يدور اليوم من هذه الأحداث، وتشابك الأرض والبقاع، وما وراء ذلك عظيم! ثم انظروا إلى سياسة اليهود التي قبلها: الضعفاء أو الأذلاء، أو الخونة يوم جعلوا قضية القدس في كل جولة من الجولات تؤجل وتؤجل دون أن يطالبوا بتأجيل أي تغيير في واقعها، حتى أصبحت اليوم وقد امتلأت بالمستوطنات اليهودية، وقد منعوا وخربوا كل أملاك المسلمين والعرب، وأغلقوا أكثر المؤسسات، حتى صارت أو أرادوا ويريدون أن تصير يهودية صرفة ليس فيها للعرب والمسلمين إلا نسبة قليلة، ويكون الحل في آخر الأمر هو الاستفتاء على انضمامها لتلك الدولة أو تلك الدويلة، وينتهي الأمر إلى أن تكون نصوص القرآن والسنة وتاريخ الأمة ومصيرها مرتبط بألسنة اليهود ليقولوا: نعم أو لا، وذلك مسلسل واضح معروف.
وللأسف الشديد نرى أن أعداءنا يبذلون له، لا ينسونه أبداً، منذ أول رئيس لدولة الكيان الصهيوني الغاصب، وهو يقول: (إن قضية القدس قضية إرادة عسكرية)، ويوم جاء المندوب السامي أو مندوب المفاوضات في ذلك الوقت ليعرض خطوة من خطوات السلام -التي لم نكن نسمع عنها إذاك- وقال: ينبغي أن يكون للعرب في القدس نصيب، فجاءه الجواب من وزير الخارجية: إن حكومة إسرائيل -اللعينة- شعرت بالامتهان البالغ بسبب اقتراحكم الخاص بمستقبل القدس، ذلك الاقتراح الذي نرى فيه شراً مستطيراً، ففكرة تسليم القدس للعرب يمكن أن تساعد على تسوية سلمية لا تزول بالخاطر إلا إذا تجاهل المرء تاريخ المشكلة وحقائقها، وهي الروابط التي تربط اليهود بالمدينة المقدسة، والدور الفريد الذي قامت به القدس في ماضي اليهود وحاضرهم، وهم يعلنونها عاصمة أبدية لدولتهم لا تقبل المفاوضات، وفي كل انتخابات لابد أن يعلن من يتصدر فيها مثل هذا الإعلان، ومع ذلك ما زالوا يقولون هذه الأسماء المختلفة.(14/3)
وقفة مع أبناء المقاومة
إن الجهاد الذي يجري ماض في طريقه لن يوقفه أو يؤثر فيه دهاقنة السياسة مهما أوتوا من الذكاء، ولا أرباب الفنادق والمؤتمرات، إنما الذي أربك خطط الأعداء، وأقض مضاجعهم، وجعلهم يحركون الآلة العسكرية الضخمة في هذه الحروب الهائلة ليصلوا إلى تركيع الجميع، وليفرضوا على الجميع قضية واحدة هي همهم الأكبر اليوم كيف توقف المقاومة الجهادية المسلحة في وجه اليهود عليهم لعائن الله؟ كيف يسخر الجميع لهذا الغرض؟ كيف توظف جميع القوى والتجمعات والمجتمعان والدول والمؤسسات لتحقيق هذا الهدف؟ كيف يركع الجميع ليؤمن الرمز الوحيد والعمل الوحيد الذي صارت وأصبحت تخشاه قوى الصهيونية ومن يحالفها من الصليبيين؟ إنه وقد ثبت هذا بالواقع المعاش في الحدث القريب في العراق -وفيما قبله- لم تعد هناك خشية من دول ولا من جيوش، ولا من مقاومة اقتصادية، ولا مواجهة إعلامية، ولا مجابهة حضارية، ولكن العملة الصعبة، والرقم الذي خرج عن المعادلة، والصوت الذي شذ ونشز عن هذه الفرقة كلها هو: صوت المقاومة الإسلامية الجهادية الباسلة، فهل نسيناها؟ وهل نظن أن طي صفحتها سيحقق ما يزعمونه من السلام؟ وهل يكون فيه أثر ونفع وفائدة لأمة الإسلام أو للعرب أو للشرق الأوسط كما هو المسمى الجديد؟ يريدون الدولة اليهودية أن تدخل في هذا النسيج بلا تمييز في الدين، ولتدخل في هذا النسيج الشرق أوسطي بلا تمييز في اللغة، ولتدخل في هذا النسيج بلا أي صلة بالتاريخ، وذلك أمره خطير! وهنا لابد أن نذكر أمرين مهمين لكي يكون الوعي بهذه الأمور عظيماً وكاملاً: أولهما: وقف المقاومة: إن وقف المقاومة كما قال أبناؤها وأبطالها: أمر مستحيل بالنسبة لهم، إنه أمر موتهم أو حياتهم، إنه أمر وجودهم أو عدمهم، إنهم قد قرءوا القرآن وعرفوا حقائقه، وقرءوا التاريخ وعرفوا سننه وقضاياه، ثم عرفوا واقع اليهود اليوم الذين كذبوا كما كذب أسلافهم، وغدروا كما غدر أسلافهم، وما زالوا يمارسون أبشع أنواع الجرائم على سمع الزمان والدول والمجتمع كله دون أن يتحرك ساكن، ودون أن يجف حبر ما يقال من هذه القرارات الدولية التي تطبق -كما هو معروف- بمكيالين، بل أقول بمكيال واحد؛ لأنه لا مكيال آخر غيره.
القضية الثانية الخطيرة هي: قضية التطبيع؛ التطبيع الذي هو رفيق السلام، أو عربونه، أو شرطه الأول؛ إنه الاختراق الثقافي العقدي الديني، إنه كما وقع فيما سبق مما لم يكن مخفياً، ومما لم يكن بعيداً في زماننا هذا، قد وقع وأزيلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وغيرت الخرائط الجغرافية؛ لتكون المناهج وفق النظرة الصهيوينة الصليبية الاستعمارية، وذلك قد وقع فيمن وقع وطبع، فهل يراد لذلك أن يعم؟ تلك هي النظرة الخطيرة التي ينبغي الالتفات إليها.
وأمر آخر وهو: التدمير الاقتصادي والهيمنة المالية التي يتقنها اليهود، والتي قد فعلوا بموجب تلك القرارات والاتفاقيات ما هو ظاهر للعيان مما يدل على عظمة خطورته.
أضف إلى ذلك ما وراء ذلك من الاختراقات الأمنية، ومعرفة ما في داخل المجتمعات العربية والإسلامية؛ لئلا يكون هناك من بعد أي قدرة على أي عمل أو فعل، وهي تلك الأهداف التي يرمي إليها ذلك التطبيع.
وأخيراً: التوطين لأبناء الأرض الذين شردوا ليستقروا في تلك البلاد التي هم فيها، أو ليهجروا إلى بلد واسع شاسع فيه ثروة نفطية، وفيه اليوم هيمنة استعمارية لتلف القضية، ولأن يكثر الصراخ وتصدع الرءوس بهؤلاء فليأكلوا وليشربوا، ولتنفق الدول عليهم، وليس هذا اليوم أيضاً؛ بل منذ أكثر من نحو عقد من الزمان عقد مؤتمر لشباب الشرق الأوسط -كما هو إعلانه- يجتمع فيه شباب من أرض فلسطين وغير فلسطين من بلاد العرب مع غيرهم من اليهود، مع بعض المجتمعات من بلاد الغرب؛ ليعطوا توصية للشباب وآمالهم وطموحاتهم المستقبلية، إنه على المجتمع الدولي أن يقوم بمهماته ومسئولياته الإنسانية تجاه هؤلاء المشردين في الأرض، وينبغي أن يخيروا في الاستيطان، وأن ينقلوا من تلك المخيمات غير الإنسانية لتوفر لهم أسباب الحياة المادية، ولتطوى الصفحة بعيداً عن الأرض التي انتزعها اليهود غصباً بالقوة العسكرية، وحيلة بالشراء والممارسات الاقتصادية، وهذه القضية اليوم هي قضية المسلمين الأولى كما كانت من قبل، فلعلنا نعي وننتبه إلى ذلك.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بحقائق ديننا، وأن يعرفنا بالمخاطر التي تحدق بأمتنا، ونسأله جل وعلا أن يصرف عنا وعن أهل الإسلام في كل مكان الشر والضر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(14/4)
دور المسلمين في قضية فلسطين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنين! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، ولعل قائلاً -أيها الأحبة- يقول: ولم مثل هذا الحديث مرة أخرى؟ أقول: أولاً: حتى لا ننسى الحقائق والثوابت الإيمانية والعقدية الإسلامية.
ثانياً: حتى لا ننشغل ببنيات الطريق وحدها، وحتى لا ننصرف كل مرة إلى جهة يوجهنا إليها الأعداء بجرح نازف جديد، ولا نقيم على الجرح الأكبر في مقامنا ومرابطتنا.
ثالثاً: أن قضية اليوم وحادث الساعة وحديث الوقت لم يعد العراق على الحقيقة، وإنما هو هذه القضية، وما يحاك لها، وما يضغط به على جميع الدول والمجتمعات والشعوب، وتأتلف عليه الدول كلها، وتجتمع عليه الاتحادات والمؤسسات الدولية التي ليس فيها -وللأسف الشديد- للعرب ولا للمسلمين ذكر ولا دور، وكأن تلك البلاد ليست بلادهم، والقضية ليست قضيتهم، والشعب والأمة ليس لهم به صلة ولا سبب ولا نسب، فهل رأيتم في تلك اللجان دولة عربية أو إسلامية؟ إنها من الشرق والغرب واليهود، وممن يصنعون ما يشاءون ويدبرون، وعلى الآخرين أن ينفذوا! رابعاً -وهو المهم-: ما هو دورنا وواجبنا؟ وكثيراً ما نؤكد على هذا، وكثيراً ما قد زدت وعدت في أمر مهم وهو دور الحكام والأمراء، ودور الدعاة والعلماء، دورهم عظيم، وواجبهم مهم، وعليهم ما عليهم، وفي تقصيرهم ما فيه، لكنني أقول: ما دوري ودورك؟ وهل سيعفو الله سبحانه وتعالى عنا أو لا يسألنا إذا فرط أولئك أو قصر هؤلاء؟ إننا مسئولون كل بحسبه، وأول هذه الواجبات: الوعي الصحيح، والإدراك التام، والمعرفة الحقة لهذه القضايا.
الثاني: التوعية بها ونشرها وجعلها حديث المجالس والالتفات إلى ذلك دائماً وأبداً.
الثالث والمهم: المقاومة السلبية، وأعني بها أن نكون صخوراً صلبة عصية على كل هذه المؤامرات، وألا نكون متقبلين لها، أو راضين بها، أو مروجين لها أو مسهمين في تحقيقها، ولو بغض الطرف، ولو بالإشاحة عنها، أو البعد عنها؛ إن الأمة الإسلامية اليوم في حالة عظيمة من حالات الوعي بخطورة أعدائها واستهدافهم لدينها، ولقوتها الاقتصادية، ومقوماتها الحضارية، بل ولوجودها كله، وقضية العراق كانت نموذجاً لفت الأنظار إلى ذلك، وكثر الحديث فيه على جميع المستويات السياسة والإعلامية والشعبية، ثم كاد أو عاد الحديث مرة أخرى ليخفت ونرجع إلى الانشغال بالطب والجراح والمساعدات على أهميتها.
ثم أيضاً هذه المقاومة السلبية تعني ألا نكون سبباً في تقوية أعدائنا بأي وجه من الوجوه ألا نكون سبباً في تقويتهم اقتصادياً أو سياسياً أو إعلامياً، ونستطيع أن نفعل في ذلك الكثير، وبأيدينا أن نقاطع ونمانع، وأن نوجه ونوعي ونكشف ونفضح هذه الأمور بكل ما نؤتى من أسلوب وقدرة وحكمة حتى نشعر بذلك الانتماء.
الأمر الرابع والأخير: المقاومة الإيجابية، ونعني بها العمل، والعمل تتنوع أساليبه بدءً من الدعاء والتعاون والتعاطف مع إخواننا في أرض فلسطين، ومروراً بدعمهم الاقتصادي والمالي لتثبيتهم، وإعانتهم على الثبات في وجوه أعدائهم؛ يكفي أيها الإخوة أن أشير إشارة واحدة إلى أن المقيمين في القدس لا يسمح لهم بأن يرمموا بيوتهم، ولا أن يصلحوها، ولا أن يغيروا فيها شيئاً، ومن أراد أن يبيع بيته يعطى أضعافاً مضاعفة من المال، ومن أراد أن يخرج يساعد على ذلك؛ فإن الأوضاع الاقتصادية التي تحيط بهم عصيبة جداً؛ فكيف لا نثبت هؤلاء مجرد تثبيت ليبقوا في أماكنهم، وأن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا هناك في تلك المواقع ليكونوا على أقل تقدير شوكة في حلوق اليهود -عليهم لعائن الله- وهذا من أقل القليل؛ فضلاً عما يمكن أن يكون وراء ذلك، والحديث ذو شجون وذو حزن أليم، ولكنه من قدر الله الذي يوقظنا وينبهنا؛ لأن قضية القدس وفلسطين والمسجد الأقصى فيها خير كثير، وما ازدياد التآمر -بإذن الله- إلا مزيداً من اليقظة والوعي في الأمة، إنها قضية توحد الأمة وتمنع فرقتها، إنها تجمع قواها في اتجاه صحيح تجاه أعدائها بدلاً من أن توجه القوى فيما بينها، وإنها وراء ذلك تحيي من معاني الإيمان والإسلام والوحدة الإيمانية والإسلامية ما هو كفيل بأن يكون فيه خير كثير.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصرف عنا السوء والبلاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الأعداء؛ نسألك اللهم أن تجعل إيماننا في قلوبنا عظيماً، ويقيننا في نفوسنا راسخاً، اللهم اجعلنا أوثق بما عندك من كل شيء في أيدينا، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل اللهم لنا إلى سواك حاجة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم وفقنا للاستمساك بكتابك ولاتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك متبعين، ولآثار الصحابة والسلف الصالح مقتفين، وللجهاد في سبيلك عاملين، وللبذل في نصرة دينك باذلين يا رب العالمين! اللهم استخدم جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلنا عباداً لك مخلصين، وجنداً في سبيلك مجاهدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم واجعلنا من ورثة جنة النعيم يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود ومن حالفهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم أجمعين، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، يا قوي يا عزيز يا متين، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تجعلنا لنصرة الإسلام والمسلمين من العاملين، وأن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر ذو القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأقم الصلاة {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(14/5)
معالم العصمة عند وقوع الفتنة
لقد ظهر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الفتن العظام التي محصت الناس فتبين المؤمن فيها من المنافق، والصالح من الطالح، والسعيد من الشقي، فتمايز الناس بأعمالهم وأوصافهم التي ذكرها حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وهناك مخارج ومعالم من أخذ بها اعتصم من الفتن، ونجا من مقت الله سبحانه وتعالى، وغضبه وعقابه.(15/1)
كثرة الفتن وظهور علامات الساعة
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافةً أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدانا به من بعد الضلالة، وأرشدنا من بعد الغواية، وأعزنا من بعد الذلة، وكثرنا من بعد القلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن (معالم العصمة عند وقوع الفتنة) أمر مهم، وموضوع خطير نحن في أمس الحاجة إليه مع تعاظم البلية وتفاقم الرزية، وكثرة الاختلاف والتنابذ والتنابز بالألقاب، والتباعد والتجافي في الآراء، والافتراق والانقطاع في الصفوف، وغير ذلك مما نمر به ونشهده، نسأل الله سبحانه وتعالى العصمة من الفتنة، وإنه جل وعلا قد قدر الفتنة والابتلاء، والفتنة ابتلاء وامتحان واختبار، ثم صارت تطلق على كل مكروه أو كل ما يئول إليه الأمر من المكروه والسوء والشر والفساد، نسأل الله عز وجل السلامة، وقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى وقوع الفتن وجريان المحن تمحيصاً للإيمان، وتمييزاً للصفوف، وابتلاء يصدق به الصادقون، ويظهر به الكاذبون، ويفتن به وينصرف عن الحق المنافقون، وقد قال سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
قال ابن كثير في تفسيره: هذا استفهام استنكار.
أي: هذا السؤال على صيغة الإنكار، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، وقال السعدي رحمه الله: سنته تعالى وعادته في الأولين وفي هذه الأمة أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وأن يسلط الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة وفتنة الشهوات المعارضة للإرادة، فمن صدق وثبت فأولئك هم المؤمنون.
ثم بين عاقبة هذا الابتلاء، فقال رحمه الله: فمن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكاً وريباً، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
وكم نرى مَنْ تحير شكاً في الثابت المقطوع به من دين الله، بل من غير وبدل وصار مخالفاً مخالفةً واضحةً تامةً للمقتضى الظاهر البين مما جاء في آيات الله وثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه ينبغي أن يعلم أن الإيمان ليس كلمةً تقال، وإنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، والفتنة هي الدالة على أصل الإيمان، وهي سنة الله جل وعلا الجارية، ونحن لا نشك أبداً في أننا في زمن فتنة وأحداث عظيمة وجليلة، لكننا عندما ننظر بنور الله، وعندما نستهدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكشف لنا حقائق الأمور، وتبدد ظلمات الشبهات، ونعزف بإذن الله سبحانه وتعالى عن إغراء الشهوات، ولعلنا نصف واقعنا المعاصر وحالتنا الراهنة التي يتكالب فيها الأعداء وتفترق فيها الآراء ليس بوصف من عندنا، ولا بقول من زماننا، وإنما بما ذكره المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففيما صح عند الشيخين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وصف به أواخر الزمان قال عليه الصلاة والسلام: (يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج.
قيل: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل).
فهل ترى صورةً أوضح وأدق من هذا التعبير في وصف أحوالنا اليوم في تقارب هذا الزمان واختصاره -كما يطلقون عليه اليوم أنه أصبح كقرية صغيرة- وقبض العلم بموت العلماء، وذهاب المخلصين الصادقين منهم إلا من رحم الله؟ ولقد ظهرت الفتن واشتهرت كما ذكر الشراح، فتأتي فتنة عظيمة ترقق التي قبلها، وفتنة في الشرق تنسي فتنة الغرب، وفتنة في عقر الدار بعد فتنة في نائي الديار، حتى يرى الإنسان هذا الظهور والاشتهار والكثرة رأي العين، لا يحتاج إلى بيان، ولا إلى شرح.
(ويلقى الشح) أي: يغرس في النفوس.
وكم نراه ظاهراً! والهرج والقتل ما أدراك ما هو؟! وكم أعداده؟! وما هي أسلحته الفتاكة؟! وما هي جرائم القوى العظمى التي تتولى كبره وتنأى وتحمل عقابه وإثمه إنسانياً ودينياً؟ ثم كذلك ننظر إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في صورة توضيحية أكثر، كما ورد في الصحيح عند البخاري ومسلم أيضاً من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أشرف على أطم من الآطام فقال لأصحابه: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر) أليس قطر المطر يصيب كل شيء كل قطعة من الأرض وكل مكان من الأمكنة؟ وذلك من كثرة الشيوع وعموم البلوى بمثل هذه الفتن، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسى كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) رواه مسلم في صحيحه.
والله لكأنا نرى ذلك رأي العين، نرى من اسمه اسم المسلمين وسمته سمتهم، ثم نرى حاله ومقاله وفعله لا يختلف عن فعل الكافرين، بل ربما كان أشد، ولأجل أي شيء يفعل ذلك؟ لا ترى سبباً، ولا تستطيع أن تبحث عن علة إلا أمر يتلعق بدنياه، حفاظاً على روحه، أو رعاية لمصالحه، أو حفظاً لمطامعه، أو خوفاً على شيء من عرض هذه الدنيا.
قال الحسن البصري في تعليقه وبيانه لهذا الحديث -وهو من أفصح البيان وأوضحه-: يصبح الرجل محرماً لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلاً له.
أهواء تعبث، ومصالح تحكم، ودين يضوي، وإيمان يرق، ويقين يضعف، نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم يقول الحسن رحمه الله عندما ذكر قوله: (يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل): فو الله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً، فراش نار، وذباب طمع، يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز.
(والله لقد رأيناهم) من القائل؟ الحسن البصري، في أي زمن؟ في زمن التابعين، مع وجود بعض الصحابة الغر الميامين، (والله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً) ثم بين حالهم، أفلسنا نرى من ذلك ما هو أظهر وما هو أشهر وما هو أكثر وما هو أخطر؟ بلى والله، ومن لم ير ذلك فربما لم تكن له عين بصيرة، نسأل الله عز وجل السلامة.(15/2)
الآيات ووصفها الجلي للطوائف المعاصرة
لنتأمل هذه الومضات الإيمانية القرآنية التي تبين الافتراق بين المؤمنين الصادقين وبين المنافقين الزائغين والكافرين المعتدين الظالمين، والتي تبين كيف تمحص الفتن الناس، وكيف تظهر مكنونات ما في قلوبهم، وتخرج دخائل نفوسهم، وتظهر خواطر عقولهم، وتكشف ذلك في فلتات ألسنتهم، وفي كثير من أحوالهم وأفعالهم.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، بمجرد الابتلاء اليسير والمحنة العارضة نجد من ينسلخ من دينه ويتجرد من إيمانه، ويمسخ حتى من فطرته وخلقه، لأي شيء؟ لأجل عذاب دنيوي، أو لأجل رهبة بشرية، وينسى عذاب الآخرة، وينسى قوة الله رب الأرباب وملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ينسى أن أمر الله جل وعلا بين الكاف والنون، وأن كل قوى الأرض لا يمكن أن يكون لها أثر ولا ذكر ولا خبر إذا أراد الله سبحانه وتعالى إفناءها، وإذا أراد الله عز وجل ردها في نحور أربابها، وإذا أراد الله عز وجل أن تكون شقوة لمن يأخذون بها ويؤذون بها ويعتدون بها.
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].
أليس هذا حالاً نراه؟ أليست هذه صورة ينبغي أن تمتلئ قلوبنا رهبة وخوفاً من أن نكون من أربابها أو أن نكون من أصحابها؟ إنها الفتن التي تقلب القلوب، وتعبث بالآراء، فإن لم تكن لنا عصمة من الله فسنضيع مع الضائعين، ونزيغ مع الزائغين، ونهلك مع الهالكين.
نسأل الله عز وجل أن يعصمنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينجينا، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا.
إننا إذا تأملنا وجدنا حالاً تصوره الآيات يشبه حالنا اليوم وقد تكالب علينا الأعداء، وقد اختلفت آراء الأولياء والأحباء، بل تضاربت مصالحهم، بل وقد تهيأت أسباب ظهور صراعهم وعدائهم، وصارت جلية واضحة.
أي شيء في كتاب الله يصور لنا ذلك؟ قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]، سبحان الله! كأن الآيات تنطق بألسنة كثير ممن يقع منهم ذلك في هذا اليوم {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
قاعدة مطردة، نفي مؤبد، هذا كلام رب العالمين (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) أين هم؟ إن وجدوا فلن يكون للكافرين عليهم سبيل، قد تكون جولة، ولكن الدولة تعود إلى أهل الحق إلى قيام الساعة.
ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون، وعند الشدة لا يثبتون، وذلك هو أثر الفتنة التي يقضيها الله عز وجل، فإن ثبت الثابت واعتصم بالله عز وجل فيوشك عما قريب أن تنكشف الغمة، وأن تفرج هذه الملمة، وأن يكون للناس من ورائها خيرٌ عظيم وفرج كبير ونصر عظيم، ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون، ولكن كثيراً من الناس لا يصبرون ولا يثبتون، نسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك، وعندما نتلو هذه الآيات نجد ما بعدها مباشرة: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].(15/3)
معالم العصمة من الوقوع في الفتنة
من مواقف المنافقين أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أي شيء أوضح من بيان أن هذه المواقف هي مواقف النفاق الذي لا يصدق معه الإيمان؟ إنما يكون ظاهراً لا باطناً، وإنما يكون صورةً لا حقيقة، وإنما يكون مداهنةً لأغراض وليس صدقاً كما هو الأصل في هذا الإيمان، ولسنا نريد أن نفيض الحديث عن الفتنة، فإنها مما يراه الناس ويعرفونه، لكننا نريد أن نقف مع معالم العصمة من هذه الفتنة والنجاة من هذا الهلاك والخروج من هذا المأزق، سيما وأن الأحداث تتوالى، وأن البلايا تتعاظم، والله عز وجل قد من علينا بكثير مما نحتاج إليه، ونحتاج إلى التبصر به حتى نسلم بعون الله عز وجل، وهذه بعض المعالم:(15/4)
الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
الأمر الأول: الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل شأنه وثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، يريد بذلك تعالى ذكره: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله.
وقال ابن كثير: وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ.
يعصمون من الخطأ إذا ائتلفوا واتفقوا، وينجون من الآراء الزائغة والمواقف الحائرة والمواقف الخاطئة كذلك، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك في آيات كثيرة: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، عندما تأتي الفتن وتشتد المحن نجد الناس يلجئون ويفزعون إلى ما يظنونه مستمسكاً ومستعصماً وملاذاً، فبعض الناس يرجع إلى قوى من قوى أهل الدنيا وإن كانت قوىً كافرةً باغيةً ظالمة، يلتمس الأمن في ظلالها، والحماية في جوارها، والنصرة في طريقها أو في مسيرها، وذلك من أعظم الزيغ وأشد الفتنة، وأكبر الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل السلامة.
والله جل وعلا يبين أنه لا عصمة إلا لمن اعتصم به، يقول سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146]، وغير أولئك لا ينجون، وغير أولئك لا يصيبون، وغير أولئك لا يكون لهم ما يقع به أمنهم من الخوف، ولا نجاتهم من الهلكة.
لا بد أن نتأمل في هذه الآيات وفي غيرها، وكذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175]، لا شك أن المسائل مختلطة، وأن الأمور محيرة، فكيف تنكشف الطريق؟ وكيف يعرف المسار؟ وكيف تنجلي الغمة؟ وكيف تكشف الظلمة؟ إنه لا كشف إلا بنور الوحي، ولا بصيرة إلا ببصيرة الإيمان، ولا معرفة إلا بمعرفة اليقين، فكلما اعتصمنا بكتاب ربنا اعتصاماً حقيقياً عن وعي وإدراك، وعن إيمان ويقين، وعن ثبات وصبر فإن ذلك هو العون الأساسي.(15/5)
تقوى الله
الأمر الثاني: تقوى الله، ونعني التعلق الذي يزداد عند الفتن والمحن، والذي يعظم عند اشتداد الكرب والبلاء، مع أن كثيراً من الناس إذا ازدادت الشدة ذهلت عقولهم، وفزعت قلوبهم، فانصرفوا عن حياض التقوى، وخرجوا من دائرة العبادة، ولم يكن ذلك دافعاً لهم لمزيد من التعلق، وللإكثار من الارتباط بالعبادة والطاعة؛ لأن الناس في وقت الفتن يذهلون وينشغلون بأمور أنفسهم، وينصرفون كثيراً عن أمور تعلقهم بطاعة ربهم وعبادته سبحانه وتعالى، أليس قد قال الحق جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]؟ كن مع تقوى الله وسوف تجد -بإذن الله عز وجل- كل عسير يسيراً، وكل صعب سهلاً، وكل مغلق مفتوحاً، وذلك وعد الله القاطع الذي لا يتخلف بإذن الله عز وجل.
وتأمل كيف يبين النبي صلى الله عليه وسلم أثر العبادة في وقت الفتنة على وجه الخصوص، وفي ذلك أحاديث كثيرة عندما تتأملها تدرك أنه كلما زادت الفتنة ينبغي أن تزيد من العبادة والطاعة، هذا حديث معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم، وفي رواية أخرى عند الطبراني -وهي صحيحه-: (عبادة في الهرج أو الفتنة كهجرة إلي) قال الشراح: لما كانت فتنة الدين كانت النجاة منها في زمنه صلى الله عليه وسلم الهجرة إليه وإلى دار الإسلام لتثبيت الإيمان وإعلاء رايته، والعبادة لله عز وجل، فلما كانت الفتن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كان المنجى هو العودة إلى العبادة والطاعة، والاستكثار منها، فهي هجرة من المعاصي إلى الطاعات، ومن الفتن إلى الثبات، ومن كل سوء إلى كل خير بإذن الله سبحانه وتعالى، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السجدة في زمن الفتنة تعدل الدنيا وما فيها، وكم نرى من الناس انصرافاً وذهولاً، فكلما اشتد الخطب زاد الشرود والبعد والغفلة عن الطاعة والصلة بالله سبحانه وتعالى.(15/6)
دعاء الله جل وعلا
الأمر الثالث: دعاء الله جل وعلا، وقد يكون ذلك مندرجاً فيما قبله، لكن التفصيل مهم، وذكر الآحاد والأفراد مهم، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، أفليس وقت المحن هو وقت الدعاء الخالص الذي ينطرح فيه المؤمنون بين يدي الله؟ أليس رسولنا صلى الله عليه وسلم قد ضرب لنا المثل في سيرته في كل شدة ومحنة؟ كانت يداه الكريمتان مرفوعتين تضرعاً إلى الله، وعيناه تذرفان تبتلاً وخضوعاً وتضرعاً إلى الله، وقلبه يخفق، ولسانه ينطق، إنها صورة لا بد أن تعظم وأن تكثر في حياتنا الذاتية عموماً، وعند هذه الفتن خصوصاً.
والله سبحانه وتعالى بين لنا أثر الدعاء، وبينه لنا في سير الرسل والأنبياء، كما في قصة آدم وزوجه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، عندما وقعت الفتنة بالأكل من الشجرة كان المخرج الدعاء والتبتل والتضرع لرب الأرض والسماء، فكان الفيض، وكانت التوبة، وكانت النعمة من الله سبحانه وتعالى على آدم.
وفي قصة يونس عليه السلام نعرف جميعاً ماذا كان يقول في جوف الحوت، وماذا كان دعاؤه وذكره الذي كان سبباً من أسباب تفريج همه وكربه ونجاته مما ألم به: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وفي مثل هذا الدعاء إقرار بالخطأ، واعتراف بالذنب، ورجاء وابتهال، وتضرع بطلب السلامة من الآثار الوخيمة، ولذلك ورد كذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللفظة {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] قال عليه الصلاة والسلام: (لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) رواه الترمذي في السنن.
ومن الدعاء الاستغفار، وهو من أسباب النجاة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
والإكثار من الذكر، كما في قصة يونس: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، والله سبحانه وتعالى جعل لنا أنواعاً من ذكره ودعائه والتبتل إليه من اعتصم بها وأدمن عليها وأكثر منها حيي الإيمان في قلبه، وعظمت التقوى في نفسه، وانكشفت البصيرة في عقله، وأصبح له من نور الله ومن اعتصامه به ومن دعائه له ومن تضرعه إليه ما يفيء به إلى خير كثير بإذن الله.
ومن ذلك الاستعاذة والتعوذ من هذه الفتن وشرورها وضلالها وزيغها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) رواه مسلم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا التعوذ: لا يقولن أحدكم: إني أعوذ بالله من الفتن؛ فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مشتمل على فتنة: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن.
نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من مضلات الفتن، وأن يصرفنا عنها، وأن يفيء بنا إلى الحق والثبات، والاعتصام بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(15/7)
الصبر والثبات
من معالم العصمة من الفتنة الصبر والثبات، ولا بد من ذلك، فإنها محن لا بد أن تصيب بالأذى، ولا بد أن يشعر بما فيها من البلاء، ولكن الصابرين بإذن الله عز وجل تكون لهم الغلبة والمخرج السالم البريء من أثر وخيم على إيمانهم ويقينهم، أو على سلوكهم وأخلاقهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:155 - 157].
هذه آيات ناطقة بأثر هذا الصبر في مثل تلك المحن والبلايا، وقد قال جل وعلا: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] لا يضرنا كيد الكائدين، ولا ظلم الظالمين، ولا عدوان المعتدين، وأهم شيء أن لا يضرنا في ديننا واعتقادنا وإسلامنا وثوابتنا والتزامنا شرع الله سبحانه وتعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر).
وقال في دلالة هذا الصبر عند المحن: (يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر)، ومن هذا الصبر -كما ذكر العلماء- الصبر بكف اللسان، والمنع من الخوض في الفتن من غير بصيرة وعلم وبيان، ونحن نعلم أن كثيراً من القول في مثل هذه الأحوال باندفاع وعواطف ومجاراة لمن يقول ويخوض مع الخائضين إنما تعظم به الرزية، ويكثر به الاختلاف، وتعظم به الحيرة والاضطراب، وكثير من ذلك ليس له أساس يثبت، وإنما هو محض هذه الاضطرابات والاختلافات، وكذلك التنابز بالألقاب، والاختلاف بين الناس يعظم أثره بما يكون من قول اللسان في هذه الفتن، حتى عظم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك على وجه الخصوص في الفتنة، كما روى عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تكون فتنة تستنظف العرب) أي: تستوعبهم هلاكاً، (تكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف) رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما، وأحمد في مسنده بسند صحيح.
(اللسان فيها أشد من وقع السيف) وذلك أمر مهم.(15/8)
الإيمان بالولاء والبراء
ولعلنا نختم هذه المعالم بحقائق الإيمان وأباطيل الكفر، ومعرفتها في ضوء هذه الثوابت، فإننا نعرف من حقائق الولاء والبراء، ومن حقائق معرفة الظلم والاعتداء، ومن حقائق وجوب نصرة أهل الإيمان والإسلام، ومن حقائق الولاء لهم والبراء من أعدائهم ما ينبغي أن لا يتغير؛ لأن آيات القرآن لا تتغير، ولأن الحقائق الإيمانية الثابتة المقطوع بها لا تتبدل، والله عز وجل قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1].
وبين الله سبحانه وتعالى لنا حقيقتهم فقال: {إِِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].
وقال سبحانه وتعالى لأهل الإيمان وضرب لهم مثلاً وعبرة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4]، وهذا أمر واضح ميزانه، وتفريقه هو الإيمان والكفر، من آمن بالله رباً، وبرسوله صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً فهو الذي نواليه، ومن برئ من ذلك، بل وحاربه وعاداه فنحن أعداؤه إلى يوم الدين، بدل من بدل، وغير من غير، سيما إذا اجتمعت حقائق أخرى من الظلم والبغي والعدوان؛ فإن الله عز وجل قد بين ذلك بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
وأولئك قوم قد عرفنا أنهم أصحاب كل قتال لأهل الإسلام في كل ميدان، قد شهدت بذلك أدغال إفريقيا، كما شهدت به مواطن الضياء التي يزعمون في أوربا، كما شهدت به مواقع شرق وغرب كثيرة، ولا ننس أنه لا بد لنا من معلم مهم، وهو النظر الشامل الكامل في الأحداث، فإنها ليست قضيةً واحدة، وإنها ليست مسألةً عارضة، وإنها ليست مصلحةً عابرة، وإنما هي قضية شاملة، ومواجهة كاملة، نحن لن ننسى، ولا يمكن أن ننسى، ولا ينبغي أن ننسى قضيتنا الأولى في حرب أهل الإسلام والإيمان مع اليهود وأحلافهم من الصليبيين والنصارى، وقضية فلسطين ليست مما يجري ببعيد، بل هي أساسها وجوهرها، وهي هدفها وغايتها، وهي طريقها ومعبرها، ينبغي أن ندرك حقائق كلية شاملة، لا أن نسير مع السائرين، إن تحدثوا غرباً نظرنا غرباً، ولم يكن لنا إلا الغرب، وإن جاءوا شرقاً ذهبنا معهم، واهتممنا بما يقولون وما يفعلون، وننسى أن وراء ذلك الحقائق الثابتة والتاريخ الذي تشهد له ليست الأيام ولا الأعوام بل العقود والدهور والقرون، ولذلك ينبغي أن نعرف ذلك وأن نحرص عليه.
وأخيراً لا بد من الحرص فيما بيننا على أن نكون على قلب رجل واحد، وأن نسد أبواب الفتن والاختلاف التي تعظم الفرقة وتزيد الفتنة، حتى نبرأ بإذن الله عز وجل، وتنكشف الغمة، وتنجلي هذه الملمة، ولا بد لها من أن تكون كذلك، وليس لها من دون الله كاشفة.
نسأل الله عز وجل أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهلك الظالمين، وأن يقصم ظهور الجبارين، وأن يرينا فيهم عجائب قدرته وعظيم سطوته.
اللهم! زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، واجعل بأسهم بينهم، واشغلهم بأنفسهم، اللهم! اجعلهم عبرةً للمعتبرين، اللهم! لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! اجعل عدوانهم بدايةً لضرهم، وبدايةً لشرهم، وبداية لما يعود عليهم بالأذى والهلاك بإذنك يا رب العالمين.
نسألك -اللهم- أن تعيذنا من شرورهم، وأن تبرئنا من كيدهم، نسألك -اللهم- أن تحبط كيدهم، وأن تبطل مكرهم، وأن تجعل الخلف فيما بينهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
نسألك -اللهم- أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم! خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين.
اللهم! اجعلنا بكتابك معتصمين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم مستمسكين، ولآثار السلف الصالح رضوان الله عليهم مقتفين، اللهم! اجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، اللهم! لا تجعل لنا إلى سواك حاجة، واجعلنا -اللهم- أفقر الفقراء إليك، اللهم! أغننا بفضلك عمن أغنيته عنا، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجةً يا رب العالمين، اللهم! إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، وأن تهلك رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى والمأسورين والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! فرج همهم، ونفس كربهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم! زد إيمانهم، وعظّم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادةً لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنةً لهم في الدين.
اللهم! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم، اللهم! أنزل بأعدائك بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم! انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، يا قوي يا عزيز يا متين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانةً صالحةً تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(15/9)
فوائد الفضائل
لا تزال منح الله تعالى تتوالى على العباد في كل أيام السنة، ومع هذا فقد جعل الله لهم مواسم يزدادون فيها من الطاعة، ومن أعظم تلك المواسم والمنح الحج؛ إذ فيه يوم عرفة الذي يكفر الله بصيامه ذنوب عامين، وأما الحجيج فلهم عند الله ما هو أعظم، فالله يخرج أهل الموسم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، هذا مع ما يحيط بهذا الموسم من الطاعات والقربات العظيمة لله سبحانه وتعالى.(16/1)
خصائص أيام عشر من ذي الحجة
الحمد لله جعل العديد من الفضائل في هذه العشر، ووعد فيها جل وعلا بجزيل الأجر، وجعلها فرصة لتكفير الخطايا ومحو الوزر، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، وشمس الهداية الربانية، ومعلم الرحمة الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالفضائل التي يسوقها الله جل وعلا لنا في أيام الدهر من نفحات الرحمات، ومن أبواب البركات، ومن مضاعفة الأجور والحسنات، ومن محو الخطايا والسيئات، هذه الفضائل لها فوائد عظيمة، بها تحيا القلوب، وتنشط النفوس، وتدكر العقول، وتستقيم الجوارح، وبها كذلك -من فضل الله عز وجل- تكون الفرصة للمراجعة والمحاسبة وللتقويم والاستدراك على مستوى الفرد والأمة كلها.
وهذه الفضائل لابد لها أن تغير في حياة المسلم المسار والمنطلق الذي قد يغفل عنه في بعض الأحيان، وقد ينحرف عنه في أحيان أخرى، وقد يستبدل غيره به في أحيان ثالثة، فتأتي هذه المواسم لترده إلى المنطلق الصحيح المنطلق من شرع الله عز وجل، وإلى الغاية الصحيحة، وهي ابتغاء رضوان الله عز وجل، وإلى المسلك والنهج الصحيح، وهو اتباع خطا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم نحن في حاجة إلى الاعتبار من هذه الفضائل.
إن أيام العشر هي التي أقسم الله عز وجل بها مجتمعة، وببعض أيامها منفردة، كما في قوله جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3]، روى جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر)، رواه الإمام أحمد والنسائي في تفسيره، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
تأمل هذا الإقسام العظيم من الرب العظيم سبحانه وتعالى بالعشر كلها، وبيوم منها وهو يوم عرفة، وبيوم آخر وهو يوم النحر.
وحسبك بهذه الأيام المفردة أيام فضيلة عظيمة، وأيام اختصاص جلي، فهذا يوم عرفة يوم أقسم الله به في قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3]، روى أبو هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة)، رواه الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وتأمل كذلك الفضل الذي اختص به ذلك اليوم في أصله وفي العبادة التي فيه، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن صيام يوم عرفة أنه قال: (إني لأحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة التي بعدها) فما أعظمه من يوم يكفر الله جل وعلا به بفضله ومنِّه ذنوب عامين كاملين، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عباداً من النار من يوم عرفة)، ويوم النحر يوم الحج الأكبر، كل هذا الفضل والتعظيم والإجلال يمر بالمؤمن دون أن يعتبر به ويدكر، سيما وأن هذه الأيام تدخل فيها الفريضة العظيمة، فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، فيجتمع مع فضل وأجر عظيمين وتعظيم وإجلال كبيرين جليلين فريضة وشعيرة على مستوى الأمة كلها، فالصوم يؤديه المسلمون فرادى أو مجتمعين في كل مكان، وفي كل أرض، والصلاة يؤديها المسلمون جماعات صغيرة هنا وهناك في كل مكان، إلا الحج فإنه لا يؤدى إلا باجتماع حجاج المسلمين جميعاً، وليس في أي مكان، بل في البقاع المقدسة في رحاب بيت الله عز وجل، وفي المناسك المختلفة من عرفات إلى منى ومزدلفة وغيرها.
إذاً فكل هذا الفضل وهذا الفرض يمر بالمسلم دون أن يدكر ويعتبر، ودون أن يكون هذا الادكار والاعتبار ذا أثر عظيم عميق ممتد يستمر ويدوم، ولا يكون كسحابة صيف عابرة.
ولعلنا قبل أن نلج في مثل هذه الفوائد نقف وقفة مهمة، إذ إن هذه الفريضة فرضت على المسلم مرة في العمر، فكأن أثرها وفضلها وما يبقى للمؤمن في قلبه وفكره وحياته وحاله وسلوكه منها يكفيه الدهر كله إن أداها على الوجه المطلوب، وإن فقهها بالصورة الصحيحة، وإن امتزجت في أدائها مشاعره قلباً ونفساً وروحاً وفكراً وصوتاً وجوارح، فإنه حينئذ يخرج منها بصياغة جديدة في الحياة تجدد إيمانه وتؤكد إسلامه، وتصحح مساره بإذن الله عز وجل، ومن لم يحج فإنه لا يعدم الفضل والأجر، كما نعلم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث المشهور المحفوظ من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري في صحيحه.
فهل نرى صيغة أبلغ في وصف الفضل وأعظم في بيان الأجر من هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذن كل هذا الذي يمر بنا، والخير الذي يساق إلينا في كل عام وفي كل موسم من مثل هذا العام كيف يكون لنا منه استفادة حقيقية؟(16/2)
معالم من شعيرة الحج
لعل وقفاتنا هذه تكون تذكرة لنا جميعاً حتى نأخذ من هذا الموسم على وجه العموم، ومن فريضته وشعيرته على وجه الخصوص ما لعله ينفعنا في سائر أحوالنا وأوقاتنا وأعمالنا بإذن الله عز وجل.(16/3)
التذلل لله عز وجل والالتجاء إليه
إن فضل الله عز وجل عندما يسوقه إلينا ورحمته عندما يفتح أبوابها ويشرعها بين أيدينا فإن ذلك فضل من الله عظيم يوجب التذلل له، والتضرع إليه، والإنابة إليه، والانكسار بين يديه، والإقرار بفضله، والشكر لنعمه، والاستحضار لعظمته، والتأمل والتدبر فيما ساقه الله جل وعلا لأهل الإيمان والإسلام، وذلك كله من الأمور العظيمة التي نشعر بها في كل موسم من مواسم الفضل والأجر؛ إذ نتذكر فنفيء إلى الله، ونبكي على ما سلف وما مضى من التقصير والتفريط، ونندم على ما ارتكبنا من المحرمات، وما اقترفنا من السيئات، ونشعر بتفريطنا وتقصيرنا ونتذكر واجبنا تجاه خالقنا سبحانه وتعالى.
ولعل هذا المعلم المهم ينبغي أن يكون حياً في القلوب في كل وقت؛ لأن فضائل الله جل وعلا وإن كانت في هذه المواسم العظيمة في العام كله فإن فضائله في كل يوم وليلة وفي كل لحظة، أليست فضائل الصلوات الخمس -مما هو معلوم ومعروف- تطهر وتكفر الذنوب مرة بعد مرة؟ أليس الله عز وجل ينزل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي عباده: (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه.
وذلك الدهر كله)، أليست هذه الفضائل متجددة في كل وقت وآن؟ أليس حرياً بنا أن نرفع أكف الضراعة في كل وقت، وأن نسكب دموع الندامة في كل ليل، وأن نلهج بذكر الله عز وجل وشكره والإقرار بفضله ونعمته في كل لحظة وآن؟ ألسنا نستيقظ في كل صباح فنقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا؟ ألسنا ننغمس في نعم الله، ونغرق في فضله في كل لحظة وسكنة، في كل كلمة لسان نستطيع نطقها، وكل نفس تمتد به حياتنا وتسير به أيامنا، وكل خطوة نمضي بها إلى مصالحنا، وكل رزق يفيضه الله علينا لنتدبر أمورنا، ولنكسب معاشنا؟ أليس ذلك كله مما ينبغي أن تستغل فيه هذه المواسم العظيمة لنخرج بالفوائد المستمرة الممتدة الطويلة التي لا تكون عابرة، ثم نعود من بعد الذكر إلى الغفلة، ومن بعد التذلل إلى التكبر، ومن بعد الإنابة إلى الإعراض؟ ينبغي لنا أن نحول هذه المواسم إلى تغييرات حقيقية في واقع حياتنا؛ لأن الله جل وعلا إنما ساقها إلينا لأجل أن تقومنا مرة بعد مرة، ولأن تصبح بعد ذلك مدداً وعوناً على طاعة الله مستمراً وتذكيراً وتوجيهاً دائماً، وتقويماً وتهذيباً لكل خطأ يقع من الإنسان، فما أحرانا أن نستحضر معنى التذلل لله والالتجاء إليه، كما نتذكر ذلك في المشهد العظيم في يوم عرفات، يوم يجتمع الحشد الهائل والجموع الغفيرة على ذلك الصعيد، كلهم متذللون منكسرون خاضعون باكون راجون خائفون طامعون في رحمة الله، ومستعيذون من غضب الله ومن سخط الله.(16/4)
الاتباع والاقتداء
إن هذه الشعيرة على وجه الخصوص، وهذه الأيام التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لمن نوى فيها الأضحية: (فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً) عندما قال لنا هذه الفضائل صرنا نحرص على فعل الخيرات، لم؟ لأننا نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونقتدي به، وفي الحج قال: (خذوا عني مناسككم)، ووصف الصحابة حجته في كل حركة وسكنة كأنما نحج اليوم بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا من أمره شيء، أين وقف، وكيف مشى، وكيف طاف، وماذا قال، وما الذي خطب به، كل أمره جلي واضح كالشمس في رابعة النهار، فهل كان ذلك فقط في هذه الفريضة، أم أنه في كل أحواله عليه الصلاة والسلام، في معاملته مع زوجه وأبنائه أو أحفاده، ومع أصحابه وأصدقائه، ومع خصومه وأعدائه، وفي كل أحواله؟ فأين نحن من معلم الاقتداء والاهتداء ونحن نراه في هذه الأيام دقيقاً وظاهراً وجلياً عند الحجاج وعند غيرهم من الذين لا يحجون؟ فإنهم يترسمون الهدي النبوي، ويأتون به على ما أشار وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الأضحية التي يأتي حديثنا عنها إن شاء الله.
إذاً فلم لا نجعل هذا مساراً مهماً وطريقاً واضحاً نسير في إثره كما سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وعندما وصف الله عز وجل الصحب الكرام وأتباعهم وصفهم بهذا الاتباع الذي كانوا فيه على سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي لنا أن نأخذ من هذه الفضيلة العظيمة في هذه الأيام الجليلة وهذه الفريضة العظيمة هذا المعلم المهم في حياتنا، ثم نعود إلى ذوات أنفسنا.(16/5)
التذكر والاهتداء
لئن كان لنا مع الله تذلل والتجاء، ولنا مع رسوله صلى الله عليه وسلم اتباع واقتداء فإن لنا مع أنفسنا تذكر واهتداء، تذكر فيه المراجعة والمحاسبة، والتصحيح والتقويم، والعزم والحزم الذي يقود إلى الطاعات، وينجي -بإذن الله عز وجل- ويخلص من المعاصي والسيئات، إلى متى تكبلنا ذنوبنا؟ إلى متى تقيدنا خطايانا؟ وإلى متى تلجم وجوهنا وأفواهنا أمواج الشهوات والشبهات؟ إلى متى ونحن مستسلمون والمواسم تمر فلا تكون الذكرى التي تخرجنا من غفلة إلى ذكر غير منقطع، ومن ضعف إلى عزيمة قوية لا تتضعضع ولا تضعف ولا تتراجع بإذن الله عز وجل، لقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعظ الموعظة تتغير بها المسارات، ويقول الأمر والحكم فيتم إنفاذه في الوقت والحال، ويتذكر الناس لأنهم يعلمون أن الخطاب الرباني والهدي النبوي موقعه عند المؤمن عظيم وجليل، ولذلك عندما تحدث النبي مع بعض أصحابه وأخبر عن حل الذهب والحرير للنساء وحرمته على الرجال كان من القوم رجل في يده خاتم من ذهب فخلعه وطرحه من وقته ولحظته، وعندما قام القوم قيل له: خذه فانتفع به.
قال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هكذا يكون التذكر مباشرة يؤدي إلى الاهتداء، والعمل الذي يمتثل فيه الإنسان أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، والأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن كثير يحتاج منا دائماً إلى مثل هذا التذكر والاهتداء، ومرة أخرى في ذوات أنفسنا إلى التفكر والارتقاء، وهي مسألة مهمة، التفكر في حقيقة الدنيا، وصلتنا بها، وانشغالنا بها، وتعلقنا بها، هذه الدنيا هل تساوي فضائل هذه العشر على سبيل المثال؟ هذه الأيام العمل الصالح فيها هو الأحب إلى لله عز وجل، فهل تساوي الدنيا يوماً يكفر سنتين؟ هل تساوي فريضة يخرج بها العبد من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ ما بال الموازين قد اختلت؟ ما بال الأثمان قد أصبحت على غير المقياس الصحيح؟ فكأن الدنيا اليوم في واقع حياة الناس أرجح من الآخرة، وكأن نعيمها وشهواتها ومالها وما فيها من هذه الخيرات أعظم عند كثير من الناس من صلوات وركعات ودعوات، بل أعظم في واقع الأمر من فرائض وشرائع مما هو من شرائع الإسلام ومن فضائله العظام، إذاً هذا أمر جدير بالاعتبار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].
هذا المقياس والميزان القرآني، كل متاع الدنيا ليس بشيء، وغاية وصفه أنه قليل، أي: دون أن يكون له أثر يذكر، أو مقياس أو مقام أو وزن يمكن أن يقارن بما في الآخرة.
وحسبنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) كل الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، ولو عدلت جناح بعوضة لم يسقِ كافراً شربة ماء، هي أدنى من جناح البعوضة، فهل البعوضة عند أحدنا لها قيمة؟ وهل جناحها معروف أو منظور حتى يكون له قيمة؟ لقد ضربها النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة عظيمة في حقيقة الدنيا، فعندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- قال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ من يشتري هذا بدرهم؟ ثم قال: والله لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم)، وقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)، وهذه الفريضة أين يقضيها الناس؟ هل يقضونها في الدور والقصور، أم في الخيام والعراء؟ ماذا يأخذون من دنياهم؟ قليل من الملابس، وشيء من الزاد على قدر الأيام، فإذا انتهت أيامهم تركوا كل شيء وراءهم، ورجعوا إلى ديارهم، وانتقلوا إلى دورهم، وارتحلوا إلى المكان الذي هيئوه وإلى الدنيا التي أسسوها، ذلك هو درس الحج الأعظم في حقيقة الدنيا والآخرة، وهذا درس الأيام الفاضلة التي نرى فيها الفضل والأجر أعظم من الدنيا وما فيها.(16/6)
التوحد والولاء بين المسلمين
أخيراً بالنسبة لأمتنا بعد ذواتنا أمر مهم، وهو التوحد والولاء، التوحد بين أبناء الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يضرب لذلك أمثلة كثيرة، فنقول: (مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)، وعند البخاري في الأدب المفرد: (المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى)، إلى ما هو معلوم من هذه الأحاديث، أمة تجتمع من كل صقع، وبكل لون، ومن كل لغة، على صعيد واحد، بهتاف واحد، ومشاعر واحدة، وخطوات ومسار موحد، ثم بعد ذلك تفترق صفوفها، وتختلف قلوبها، وتتنافر نفوسها، وتتباعد آراؤها، أنى يكون ذلك؟ إن مثل هذه الأيام العظيمة والفريضة الجليلة أعظم ما ينبغي أن نخرج به من فضلها هو هذا التوحد والولاء لأهل الإيمان والإسلام {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ينبغي أن ندرك أن الإيمان والإسلام لا يتحققان فقط بمجرد أداء الصلوات والزكوات فحسب، وإنما بالاصطفاف وراء أمة الإسلام، والنصرة لها، والولاء لأهلها، والبراء من أعدائها، والتخلص والتبرؤ من كل جاهلية وكفر وشرك يخالف أمر الله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، ذلك هو فضل الله عز وجل بهذا الإيمان والإسلام، حول المفترقين إلى مؤتلفين، والمختلفين إلى متفقين، والمتناثرين إلى متوحدين، حول أمة في بقاع الأرض وأصقاعها المختلفة إلى أمة واحدة لا تفصلها الحدود، ولا تحول بينها الحواجز، كان قائلها يقول الكلمة فتتجاوب الأمة من أقصاها إلى أقصاها، ويوم صاحت امرأة: (وا معتصماه)، سير الخليفة جيشاً أوله عند العدو وآخره عند المسلمين وانتصر لها، ويوم صاحت امرأة في بني قينقاع وفي سوقهم تنتصر انتصر لها محمد صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام، وأخرجوا اليهود الذين فعلوا تلك الفعلة النكراء.
وهكذا ينبغي لنا أن ندرك أن حقيقة الانتماء للأمة الإسلامية وللإيمان والإسلام ينبغي أن يكون بالقلب والنفس والفكر مرتبطاً بهذه الأمة، يحزننا ما يحزنها، ويؤلمنا ما يؤلمها، ويفرحنا ما يفرحها، ولا نكتفي بحدود المشاعر، بل نتقدم لتحقيق معنى الولاء بعد المحبة بالنصرة بكل وسيلة ممكنة، وذلك من دروس هذه الوحدة في الفضيلة والفريضة.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعوج أنفسنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يمن علينا في هذه الأيام الفاضلة بتعظيم الأجر، ومحو الوزر، وإدراك الفضل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(16/7)
أحكام الأضحية
إن أيام العشر موسم التقوى، وفريضة الحج زادها التقوى، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
وهنا مسألة أحب أن أعيد التذكير بها، وهي أن لكل موسم فضل وأجر ينبغي أن لا يمر دون ادكار واعتبار مما يدوم ويستمر، ولا تكن مواسمنا مواسم عمل ثم انقطاع، وذكرى ثم غفلة، وتقدم ثم تأخر؛ فإن ذلك يدل على فقه ضعيف، وعزم كليل، وتأثر يسير لا ينبغي أن يكون مع توالي فضائل الله جل وعلا، ومع دوام واستمرار تلك المواسم.
ومن فضائل هذه الأيام ومن شعائرها الأضحية، وهي عبادة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل وعلا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صح أنه (ضحى بكبشين أملحين أقرنين) فذبحهما بيده عليه الصلاة والسلام، وهذه الأضحية سنة مؤكدة يكره للقادر عليها تركها، وقد قال بعض أهل العلم بوجوبها، والجمهور على أنها سنة مؤكدة من استطاعها فينبغي له أن يبادر إليها، وأن لا يتأخر عنها، وهي ذبح شاة أو التقدم بسبع بدنة أو ناقة.
والذبح مقصود في هذا، وهو أفضل من أن تخرج القيمة أو أكثر من القيمة؛ لأن هذه هي عبادة الوقت، ولأن الفضيلة إنما تكون في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في هذا الوقت ذبح ونحر عليه الصلاة والسلام، ولم ينفق المال وقد كان عليه الصلاة والسلام منفقاً وجواداً كالريح المرسلة، ولكنه في ذلك الوقت وفي تلك الشعيرة واقتداء بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام ذبح ونحر وضحى عليه الصلاة والسلام، ولذلك فالتضحية والذبح هو الأفضل، ومن أراد أن يتصدق بمال فليزد من المال بعد أن يقوم بهذه الشعيرة العظيمة، والأضحية للأحياء، وتجوز عن الأموات تبعاً كما تجوز عن الأموات استقلالاً إذا كانت وصية من الوصايا التي أوصى بها الميت وله مال يقضيها، وكذلك يمكن للإنسان أن يضحي عن نفسه، ثم يدعو بالأجر له ولأهله ولمن وراءه، كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما ضحى فقال: (بسم الله! اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد، ومن أمة محمد)، وهكذا ينبغي لنا أن ندرك هذا المعنى، بمعنى أن الأضحية عن الفرد وأجرها بدعائه وبفضل الله عز وجل يعم.
ولا يصح أن يشترك اثنان في أضحية واحدة، بمعنى أنهما يدفعان قيمتها شراكة، بل إذا دفعا القيمة كانت الأضحية عن أحدهما، ويدعو بعد ذلك له ولصاحبه أو لأهله بما شاء، فالله عز وجل فضله عظيم، ويعم بالأجر والثواب من دعي له بذلك إن شاء الله تعالى.
ووقت الأضحية بعد أداء صلاة العيد من يوم النحر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم بعد ذلك ننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك -أي: قبل الصلاة- فإنما هو شيء قدمه لأهله وليس من النسك في شيء).
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليعد)، ولذلك فإن موعدها بعد أداء الصلاة، ويمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، فهي مدة واسعة تشتمل على أربع ليال وثلاثة أيام، وهذا فيه مزية وفائدة ليعم النفع والأثر المطلوب لتلك الفريضة والشعيرة، وهكذا نجد المقصود من هذه العبادة أموراً كثيرة يتعلق بعضها بالذي يضحي وبعضها بعموم الأمة ومن ينتفع بمثل هذه الأضاحي.
أما المضحي فإنه يتقرب إلى الله عز وجل بالأضحية، وذلك تنويع، فأنت تتقرب بصلاة، وبإنفاق مال، وبالذبح الذي هو من أشهر أنواع القربات في فعل الإنسان، فكثيراً ما يذبح للطواغيت أو للأصنام أو لغير ذلك، فجعل هذا تضحية لله عز وجل ليتقرب العبد لله بمثل هذا، كما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وقال بعض أهل التفسير في النسك: هو ما ينسكه الإنسان ويضحي به لله عز وجل.
وفيه كذلك اقتفاء أثر إبراهيم الخليل عليه السلام في استسلامه لأمر الله، وأن الله عز وجل فداه بذبح عظيم، وفيه بالنسبة لأهل الإسلام إظهار شعائر الإسلام، فاليوم نرى كل هذه البهائم تجمع في كل بلاد الإسلام، وليس في مواطن الحج فقط، بل كل أهل بلد يهيئون أضاحيهم، حتى إذا جاء ذلك اليوم رأيت الذبح والنحر والدماء التي تنهر لله عز وجل، وذلك مقصد من إظهار الشعائر وتعبد الأمة وتقربها لله سبحانه وتعالى.
ثم من بعد ذلك إفاضة الخير وتعميم الطعام واللحم لمن لا يستطيع أن يحصل عليه وللفقراء والمساكين، ليكون العيد حينئذ -بإذن الله عز وجل- توسعة وفرحاً، كما قال صلى الله عليه وسلم عن أيام يوم النحر ويوم التشريق: (أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)، وهذا فيه إظهار لشعائر الإسلام، وسد لحاجات المسلمين، ومنع للأبواب التي يدخل منها غير المسلمين على فقراء المسلمين في بقاع الأرض فيقدمون لهم طعاماً وشراباً ومعه فتنة وانحراف وزيغ وضلال، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على أداء هذه الشعيرة وهذه السنة الفاضلة، وأن نبادر إليها، وأن نوصلها إلى كل أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق حديثه عنها: (كلوا وأطعموا وادخروا)، وذلك هو الذي يقول به أهل العلم، فيسن للإنسان أن يضحي بيده؛ لأن هذه عبادة وقربة، فإن استطاع أن يفعل بنفسه فذاك، وإلا فلو فعل غيره نيابة عنه فلا حرج، ثم يأكل منها ويهدي ويتصدق، ولو أنه تصدق بها كلها جاز، ولو تصدق بأكثرها وأبقى له جزءاً منها جاز، ولو أكل أكثرها وتصدق بالجزء الأقل منها جاز، ولكن الأجر يقل، وكل هذا واسع، ومن استطاع أن يجمع بين هذا وذاك فهو خير، وهذه من فضائل الله، ومن أعمال هذا الوقت.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن ييسر لنا ولإخواننا المسلمين في كل مكان مشاعر ومناسك الحج في أمن وأمان وسلم وسلام وراحة ويسر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم! اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم! فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين، اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، ووفق -اللهم- ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.(16/8)
ألف باء في مواجهة الأعداء
أعداء الإسلام يكيدون للإسلام منذ أن بزغ فجره، وظهر نوره، ولم يكلوا ولم يملوا، ويستخدمون في ذلك شتى الوسائل والطرق، والمؤسف أن كثيراً من المسلمين في غفلة عن هذا، فتراهم يعلمون بهذه المكايد وهم نائمون، ويرون خبثها وهم غافلون، فأصبح المسلمون لقمة سائغة تنهش منها الكلاب، وتجتمع حولها الفئران والجراد، فيجب على المسلمين قاطبة أن يصحوا من نومهم، وأن يستيقظوا من غفلتهم، كي يواجهوا الأعداء، وعليهم أن يبدءوا بالأهم فالأهم.(17/1)
فائدة معرفة الخطوات التي يواجه بها الأعداء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فاعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد كانت الأحداث القريبة موضع اهتمام وتفاعل وتعلق، ثم عندما انقضى من هذه الأحداث ما هو مباشر في العدوان رأينا أن كثيراً من الناس انصرف تفكيرهم عن مثل هذه القضية، ولم يعد لنفوسهم تأثر أو تعلق، وربما مضوا إلى حياتهم كأن لم يكن شيئاً.
والواجب ألا يكون الغالب على أحوالنا: ردود أفعال مؤقتة، وانفعالات نفسية عارضة، وحيرة وتردد، وهدوء ورجوع بعد كل حدث وبعد كل قضية.
وهذه بعض الخطوات العملية التي لابد أن نأخذ بها، وقبل الشروع في ذكرها أود أن أبين مدى وحدود هذه الخطوات التي نتحدث عنها وفائدتها، فأقول مستعيناً بالله جل وعلا: الأمر الأول: ما نتحدث به يخصنا نحن؛ فهو يتعلق بي وبك وبهذا وذاك، بعيداً عن الدوائر التي لا نملك الآن أن يكون لنا تغيير فاعل فيها، وبعيداً عن الجهات التي عليها مسئوليتها، وعليها واجباتها، وليس من مهمتنا أن نوزع التهم، وأن نجعل التقصير هنا وهناك ثم لا ننظر إلى أنفسنا، ولا نعرف تقصيراتنا، نحن ندرك أن هناك خللاً وقصوراً عند الحكام والأمراء، وأن هناك ضعفاً وقلة في أداء المهمات كما ينبغي عند الدعاة والعلماء، ولكن لا ينبغي أن نقول: هؤلاء قصروا، وهؤلاء فرطوا، ثم نقعد بدون عمل إما بإحباط ويأس، وإما بعدم مبالاة واكتراث، وإما بعدم استشعار للمسئولية ومعرفة للدور.
فمن هنا لابد أن يكون هناك مصارحة ومناصحة واضحة تخصنا مباشرة، وتتوجه إلينا بعيداً عما قد نتعلل بأننا لا نستطيعه أو لا نحسنه.
الأمر الثاني: التنبيه على أن الانتفاع بالأحداث، والاستفادة من المصائب والمشكلات لا ينبغي أن يكون مؤقتاً غير دائم، ولا ينبغي أن يكون ظاهرياً غير راجع إلى الأصول والثوابت والمرتكزات والمنطلقات.
الأمر الثالث: أن كثيراً من الناس ينظر إلى الأمور الكبيرة، ويرى أنه لا قبل له بها، ولا يوجه إلى أمور يستطيع أن يأخذ بها وأن يعملها، فلعلنا بهذا الحديث أن نسد مثل هذه الثغرة بعون الله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: ألف باء، وألف باء كما تعرفون هي حروف الهجاء، والمقصود: أننا نريد أن نبدأ بالأصول، وبالأشياء والقواعد والأركان الأساسية، حتى لا يقول قائل عندما نتحدث الآن: لم تتحدث عن هذا ونحن نعرفه؟ فأقول: إن كنا نعرفه فهل نحن قائمون به؟ وهل نحن مداومون عليه؟ وهل نحن متواصون فيما بيننا بالحفاظ عليه؟ فكثيرة هي الثغرات وأوجه القصور التي نقع فيها، ليس تجاه أمور من النوافل أو التطوعات أو الزيادات بل كثيراً ما تكون في الفرائض والأركان والواجبات.(17/2)
معرفة الجوانب الفكرية في مواجهة الأعداء
نشرع بعون الله سبحانه وتعالى مستعينين به سائلينه التوفيق والسداد في ذكر بعض الجوانب الفكرية في مواجهة الأعداء: أولاً: الجانب الفكري: ونعني به جانب التصور والاعتقاد والمعرفة للحقائق والمبادئ، وصورة ما يحيط بنا في هذه الحياة، وكيف نزن الأمور، وكيف نقوّم الأشخاص، وكيف نتخذ المواقف، وكيف تتضح لنا الرؤية، حتى نأخذ بما هو واجب ولازم ونافع ومفيد في مواجهة ما يحل بنا من الخطوب والأحداث.
فنقول: لابد لنا من أمور كثيرة، منها:(17/3)
أهمية تصحيح الخلل عند بعض المسلمين
معرفة الخلل وطريقة العمل أساس فكري لابد من توضيحه، فكثيرة هي الأسئلة التي دارت بخواطر الناس: ما الذي يجري بنا؟ ولماذا حل بنا ما حل بنا؟ وما هي الأسباب ونحن أمة الإسلام؟ ولم حل ذلك ونحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور من خلال آيات القرآن، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، هذا تحليل وتعليل قرآني لابد من التسليم به، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس وكثرة الذنوب، فلما وقع بالصحابة ما وقع في يوم أحد -وكان ثقيلاً على النفوس، شديداً على القلوب، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه- قالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] فرد الله عليهم: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
ولو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل قوة ووضوح وصراحة ومواجهة لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير وتغيير ظاهر، ويكفينا أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر وعمَّ وساد وانتشر وفشى في الأمة إلا من رحم الله؟! قال ابن القيم: من آثار المعاصي والذنوب: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الحق، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال، يقول: وكل هذه تتولد عن المعصية والغفلة من ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء.
فإذا كان هذا في هذا الباب، فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة ومن معاصٍ كثيرة؟! يقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ولو رجعنا إلى أسلافنا لرأينا كيف كان الشعور عندهم بأثر المعاصي في دقيق الأمور وجليلها، كما جاء عن ابن مسعود -وهو يروى مرفوعاً وموقوفاً-: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، كانوا يرجعون كل شيء يحصل من الخلل إلى خللهم فيما نسوا من أمر الله، أو فيما اجترءوا عليه من حدود الله، ومن مقالات السلف: إن أحدنا ليجد أثر الذنب في خلق زوجته ودابته.
وقد علمنا كثيراً من تعليلهم وتحليلهم لأسباب ما يحل بهم، وأنه بأثر ذنوبهم.(17/4)
الصراع بين المسلمين وأعدائهم مستمر إلى قيام الساعة
ليس هناك جولة واحدة ولا ميدان واحد إذا كُسرنا فيه أو هُزمنا فيه فقد انتهى الأمر، كما رأينا من أحوال بعض الناس وما في نفوسهم من إحباط ويأس، أو فيما لهم من انشغال وانصراف عن مهمات الأمور وعن الانشغال بأحوال المسلمين.
وما أحسن قول القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات، وأنها ليست في مرحلة ولا في ميدان واحد: قطفوا الزهرة.
قالت: من ورائي برعم سوف يثور.
قطفوا البرعم.
قالت: غيره ينبني في رحم الجذور.
قلعوا الجذر من التربة.
قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور.
كامن ثأري بأعماق الثرى.
وغداً سوف يرى كل الورى: كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور.
تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور.
أي: أنه لابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك وعالمة به من خلال وضوح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها.
إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا.
فالريش قد يسقط من أجنحة النسور.
والعطش الطويل لا يخيفنا.
فالماء يبقى دائماً بباطن الصخور.
هزمت الجيوش إلا أنكم لم تهزموا الشعور.
قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور.
فستظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها.(17/5)
وضوح الرؤية والبصيرة في الدين من أهم الأمور
وضوح الرؤية وقوة العصمة: ونعني بذلك أن نكون على بصيرة من ديننا، وبينة من أمرنا، وقوة في اعتقادنا، ورسوخ في يقيننا، ولا يكون عندنا شك من أمرنا، ولا حيرة في ثوابتنا، ولا تذبذب في أصولنا، ووراء ذلك كله أن نعرف كل ما يحيط بنا، وكيف نتعامل معه.
يقول الحق سبحانه وتعالى في بيان شافٍ وفي آيات متوالية توضح لنا هذه الحقيقة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:104 - 106]، ثم يأتي النداء من بعد: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:108 - 109].
وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة، يبينها قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فإن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا، وإن كان عند بعضهم حيرة، وإن كان غير المسلمين يعارضون عقائدنا ويخالفونها، وإن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها ولا تدري ماهيتها، ولا تعتقد بصحتها، فكل ذلك لا يضرني، قال سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وزيادة تثبيت وزيادة توضيح: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي: في كل الأحوال والاضطرابات والمخالفات والمعارضات ابق على نهجك القويم، وتصورك الصحيح، واعتقادك السليم، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من التردد، ومن هنا يأتي هذا الوضوح؛ ليكون هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره، كما قال سبحانه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، وتكون الرؤيا واضحة لنا؛ لأن العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، لا يتغير ذلك ولا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة والقوة الإيمانية الجازمة أنها إنما هي مراحل وابتلاءات، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده، وينجز لعباده نصره، إذا هم أخذوا بالمهم من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وتغيير الأحوال على وفق مراد الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.(17/6)
الجوانب العملية في مواجهة الأعداء
ثانياً: الجانب العملي، وكما أشرت في مقدمة الحديث نحن نتحدث في ألف باء، أي: في الأصول والأسس؛ لأن هذه الأصول والأسس قد اعتراها الضعف، وجرى فيها النقص، وعظمت فيها الغفلة، فنحن في حاجة إلى مراجعتها.
والمقصود بالجانب العملي: توجيهات وتذكير بأعمال لابد من الأخذ بها.(17/7)
الدعاء وأثره في نزول النصر
لابد من استدامة الدعوات، فنحن سمعنا الدعاء يتكرر في المحاريب عند وقوع الكارثة، وعند حلول المصيبة، ثم الآن كأنما الألسن قد عجمت عن الدعاء، وكأنه لا يكون الدعاء إلا إذا كان في الصلاة وإذا كان في القنوت وإذا كان وراء الإمام، فهل نحن ندعو الآن بما ينبغي أن ندعو به من نصر الإسلام والمسلمين، ومن تثبيت إخواننا المسلمين؟! وهل انتهت قضية المسلمين في العراق؟! وهل انتهت من قبل قضيتهم في أفغانستان؟! وهل انتهت من قبل أكثر من نصف قرن في فلسطين وفي كشمير؟ وهل توقفت المواجهات في الشيشان؟ وهل وهل؟! نحن كأنما نشتغل بهذه الأمور المواجهة والمباشرة؛ فإن جاءت تحركنا بقدرها، واستيقظنا بحسبها، ثم عدنا إلى نومنا وغفلتنا وإعراضنا عن تعليق قلوبنا بربنا، ورفع أكفنا إليه، ودوام استمدادنا منه، وعظمة تضرعنا وذلنا وخضوعنا بين يديه سبحانه وتعالى.
ولا شك أننا نعلم ونوقن أن السلاح البتار الفتاك عند أهل الإيمان والاعتقاد الجازم هو الدعاء الخالص لله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن نغفل عن قوة هذا السلاح وأثره، ولقد كان -يوم كان الناس أهل إيمان وأهل صدق وحسن صلة بالله- سلاحاً يظهر أثره مباشرة، وكلنا يعلم أن سعداً كان مجاب الدعوة، فقد جاء رجل وتكلم بين يديه في طلحة والزبير، فنهاه، فلم ينته، فدعا عليه، قال الراوي: فجاء جمل كأنما يشم الناس حتى عمد إلى هذا الرجل فبطش به وقتله! أي: استجاب الله دعوة سعد رضي الله عنه.
وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ادعت عليه امرأة زوراً وبهتاناً وافتراءً أنه أخذ شيئاً من أرضها، فلما ووجه بذلك، قال: كيف يكون هذا، وأنا أعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة)؟ ثم دعا فقال: (اللهم إن كانت كاذبة وهي تعلم أنها كاذبة، فأعم بصرها، واقتلها في دارها).
فوقع الأمر كما دعا رضي الله عنه وأرضاه.
وكانت في قصص المواجهات والقتال أيضاً أحوال وسير عظيمة، منها: دعاء البراء بن مالك الذي قال له الصحابة في يوم اليمامة بعد أن اشتد وطال الحصار الذي ضربوه على مسيلمة وأصحابه: أنت من قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فادع الله لنا، فدعا وقال: (اللهم امنحنا أكتافهم، وانصرنا عليهم الغداة)، فما انتهى اليوم إلا بنصر عظيم للإسلام وأهله!(17/8)
التقرب إلى الله بالصيام له أثر في نزول النصر
الصيام من أفضل الطاعات، فزد من الصيام والتقرب إلى الله عز وجل بذلك؛ فإنه ضرب من العبادة ولون من التربية والتزكية، وسبيل من أسباب القوة في الإرادة والعزيمة، فضلاً عن قوة الطاعة والاستجابة ومغالبة النفس وأهوائها، ونحن نعلم فضائل الصيام وآثاره، وما ينبني عليه من أثر في أجر الدنيا وفي ثواب الآخرة، والأمر في هذا واضح جلي.(17/9)
فضل الإنفاق في سبيل الله عز وجل
أيها المسلم! أكثر من الإنفاق في سبيل الله عز وجل؛ فإن ذلك من نصرة الدين، ومن تقوية المسلمين، ومن مواجهة المعتدين، وإذا لم تسخ نفوسنا بالإنفاق في سبيل الله لنصرة دين الله فكيف نزعم أنه يمكن أن نجود بأنفسنا؟! الجهاد الأعظم بالنفس لابد أن تكون النفوس مهيأة له بكثير من الأسباب والأحوال، فمن لم يستطع مجاهدة نفسه للقيام بالطاعات وأداء الفرائض، ومن لم يغالب نفسه في شهوتها في هذا المال وتعلقها به، فكيف يجود بنفسه؟! نحن نعرف الآيات الكثيرة التي تقرن جهاد النفس بالمال، بل وتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم)، والله سبحانه وتعالى يقول: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38].
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) وهي سمات نعرف أننا واقعون فيها، فإذا دعينا في الملمات، وعند حصول الكوارث، وعند نزول البلايا تحركنا وأنفقنا شيئاً من أثر العاطفة المتأججة المؤقتة العارضة، ثم بعد ذلك نعود إلى ما نحن فيه! خاطبوا أنفسكم، وحاسبوها اليوم: كم من المال تنفق باستمرار ودوام؟! مواجهتنا مع الأعداء ليست عارضة ولا عابرة، ومقارنة ما ننفقه في مقابل ما ينفقونه -للأسف الشديد- مقارنة محزنة ومؤسفة، فالتنصير -الذي يسمونه التبشير- نعلم من الإحصاءات الموثقة أن هناك نحواً من أربعة آلاف وستمائة قناة وإذاعة أعدت للقيام بنشر النصرانية، وتبث بلغات أكثر من أن تحصر وأن تحصى، ويُطبع من الإنجيل -رغم ما فيه من التحريف- لا أقول: الملايين ولا عشرات الملايين بل مئات وآلاف الملايين، وقد طبع بأكثر من ستمائة لهجة ولغة! وما ينفقونه في كل عام أكثر من أن يحصى، ونحن نوقن بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، لكن كيف نواجه أعداءنا ونحن لا ننفق مثلهم؟ هذه صورة من صور ضعفنا، وصورة من أسباب هزيمتنا، ومن أسباب بلائنا؛ لأننا لا نصنع كما صنع الصحب رضوان الله عليهم، فقد كانوا في كل ملمة بل وفي غير الملمات ينفقون إنفاقاً عظيماً جداً، كان الإنفاق أمراً فوق الزكاة وفوق الواجب، وكانت صدقاتهم لا تنقطع دائماً وأبداً، حتى كان من لم يجد يكتسب حتى يجد ما يتصدق به، كما ورد في الصحيح عن بعض الصحابة من الفقراء قال: (كان أحدنا لا يجد ما يتصدق به، فكان أحدنا يتحمل الحمالة لا يريد بها إلا أن يجد ما ينفقه في سبيل الله) أي: حتى لا يحرم نفسه من الأجر والثواب، فقد كانوا يتسابقون إلى الإنفاق؛ لأنهم يعلمون أن ذلك من أسباب قوة دين الله سبحانه وتعالى.(17/10)
الطاعة يستنزل بها النصر
لابد من كثرة الطاعات، ونحن نعلم أن استنزال النصر إنما يكون بحسن الصلة بالله، والتقرب إليه، وإعلان البراءة من معاصيه، ومخالفة أمره سبحانه وتعالى، وهذا أمر مهم نحتاج إليه، فننادي بنداء نوجهه إلى أنفسنا جميعاً: حافظوا على أداء الصلوات، وعلى وجه الخصوص فرائض الصلوات، كما قال عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) رواه مسلم، ونحن نعرف هذا، ولكنني أقول: هل كل الناس يؤدي هذا؟ ألسنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من آخر ما يُحل من عرى هذا الدين الصلاة؟ ألسنا نعرف أن من شبابنا ومن شيباتنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً، أو يؤخرها ويجمعها، أو لا يلتفت إليها؛ ويجعلها آخر موضع في اهتماماته؟! وأولئك منا وفينا ومن بيننا، ثم لا ننظر إلى أثر ذلك، ولا نلتفت إلى أن بسببه يقع كثير مما قدره الله عز وجل من البلاء والفتنة، نسأل الله عز وجل السلامة! عباد الله! احرصوا على شهود الجماعات؛ فإن المساجد تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال، بل وفي كثير من البلاد ما هو أعظم وأكثر مما في بيئتنا ومجتمعاتنا، والله عز وجل يقول: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:31]، ويقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، ويقول: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3]، ويقول: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35]، وكل ذلك خطاب بصيغة الجمع.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أثراً نحب أن نلفت أنظار الجميع إليه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا -يعني: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: الجماعة- إلا رجل معلوم النفاق) رواه مسلم.
فلو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة لصلحت أحوالنا، فكم منا في مجتمعاتنا من يصدق عليه وصف النفاق؟! كم هم المتخلفون عن الصلاة في الجماعات، السائرون في الغي واللهو الشهوات؟! هؤلاء لم يلتفت نظرهم إلى حديث أبي هريرة عند البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، فآمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم).
وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها، لا سيما صلاة الفجر، تلك الفريضة التي رحم الله من يؤديها اليوم جماعة، وأصبح من يصليها جماعة يشهد له بأنه أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم صلاحاً، وأجلهم فضلاً، وأعظمهم مرتبة، وهي من الفرائض التي لابد لكل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن صار الحفاظ عليها فرقاناً بين إسلام والتزام، وبين تفريط وتضييع، والله عز وجل يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة.
وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون عند صلاة الفجر والعصر)، وترفع الملائكة شهادتها لمن يشهدون الصلاة، فكم من مسلم لا يحظى بتلك الشهادة، ولا يكتب في تلك الصحائف، ولا يدرج اسمه في تلك التقارير المرفوعة إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى؟! ثم نقول بعد ذلك: ما الذي جرى؟ وما الذي حصل؟!(17/11)
إصلاح النفس
وننتقل في الجانب العملي إلى خطوات ثلاث مهمة: الخطوة الأولى: أصلحوا أنفسكم.
الخطوة الثانية: ربوا أبناءكم.
الخطوة الثالثة: ادعوا مجتمعاتكم.
وفي كل واحدة من هذه الخطوات الثلاث ثلاث نقاط نذكرها بإيجاز؛ حتى نوجه الأمر إلى أنفسنا، ونبدأ بالأخذ بهذه الخطوات العملية، فإنها مقدمة لما بعدها، ومن كان فيها عاجزاً فهو عن سواها أعجز.
الخطوة الأولى: ميدان النفس، لابد أن يعتنى بإصلاحها، وهذا أمر مهم وأساس متين وبداية أساسية.(17/12)
أهمية العمل في إصلاح النفس
لابد من التحول من الكسل إلى العمل، فكثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين، والعمل على الإصلاح والتغيير، والتنادي إلى البر، والتعاون على البر والتقوى، وهذا -وللأسف الشديد- نادراً ما نجده، بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وطلبنا للترقي المعنوي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، ومعظم جهدهم، وخالص فكرهم، ولا يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم، وجعل العمل هو المناص فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وعندما دعينا للعمل دعينا بصيغ عظيمة، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمتها، وتسلط عليها أعداؤها؟! إن الكسل حينئذٍ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.(17/13)
دور العلم في إصلاح النفس
لابد من إصلاح النفس من الجهل إلى العلم، فأمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، ولا يقرأ قرآنه، ولا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى، وينبغي لكل أحد -كما قال- أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.
فكيف يكون العلاج؟ قال: لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم.
قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم.
فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.(17/14)
أهمية الذكر في إصلاح النفس
لابد من الانتقال من الغفلة إلى الذكر، فالنفوس غلب عليها الران، والقلوب اشتدت فيها القسوة، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر؛ فإن أحوالنا اليوم تدعو إلى لفت النظر؛ فإن نفوسنا كأنما هي في نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، وكأن القلوب قد عميت، وكأن النفوس قد ركعت، كثير منا في عقول سادرة، وألسن لاغية، وآذان للباطل مصغية، فلا الآيات تُتلى، ولا الأحاديث تُروى، وربما تُتلى وتُروى ولكنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولا أنفساً متقبلة، ولذا لابد أن ننتبه، قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]: أي: لا توضع الموعظة في غير أهلها الذين لا يعتبرون ولا يتذكرون بها، والله سبحانه وتعالى قد وصف الغافلين وصفاً ينبغي أن نحذر منه، وصفاً يخلع قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف، وهو قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام، وأن يكون كأنه لا قلب ولا عين ولا أذن له؛ لأنه لم يعتبر؛ ولأنه لم يتذكر؛ ولأنه ما زال غافلاً؛ ولأنه ما زال في الغي سادراً؛ ولأنه ما زال بالشهوات منشغلاً؛ ولأنه ما زال في الملذات منغمساً؟! هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها.
كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.(17/15)
تربية الأبناء
الخطوة الثانية: ربوا أبناءكم، ونحن نعرف أن الخلل الواقع في شبابنا وشاباتنا إنما هو بتفريط الآباء والأمهات، فمن هم هؤلاء الشباب والشابات الضائعون؟ إنهم أبناء لهذا أو لتلك، إنهم إخوان لأولئك وهؤلاء، إنهم في آخر الأمر لمن فرط في حقهم، ولم يقم بأداء الواجب تجاههم، ذلك الواجب الذي نعرفه من قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ونعرف ذلك من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، فهل قمت بواجبك؟ وهل أدبت أبناءك وربيتهم؟ استمع لما ذكر بعض أهل التفسير في هذه الآية: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال مجاهد: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله.
وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه.
وقال الضحاك: حق على المسلم أن يعلم أهله وقرابته وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه.
وذلك هو ما ينبغي أن نكون عليه.(17/16)
وصايا في كيفية تربية الأبناء
نذكر بإيجاز شديد ثلاث وصايا في تربية الأبناء: الأولى: اقتربوا منهم، وكونوا قدوة لهم؛ فإن أعظم فساد الأبناء من فساد قدوات الآباء والأمهات، إذ كيف تريده أن يصلي الفجر وأنت لا تصليها إلا وقد أشرقت الشمس؟! وكيف تريده أن يكون من جيل القرآن وأنت لا تكاد تتلو القرآن، ولا تمس المصحف إلا من عام إلى عام؟! وكيف تريد الأم أن تكون ابنتها محجبة مصونة عفيفة وهي ليست كذلك؟! فكم في أحوالنا ما هو سبب في فساد أبنائنا! أفليس جدير بنا أن نصدق مع الله، وأن نتحمل الأمانة والمسئولية التي جعلها الله في أعناقنا؟ الثانية: علموهم، ورغبوهم في العمل الصالح، ولابد من التعليم، فإن لم تكن أنت فارغاً فهيئ له من يعلمه القرآن، وهيئ له من يذكره ويتلو عليه القرآن، ويسرد عليه السيرة، واجعل لأبنائك من الاهتمام بتعلم الدين أعظم من الاهتمام الذي نراه من الناس في تعليم الأبناء اللغة الإنجليزية والفيزياء والرياضيات؛ حيث يأتون لهم بالمدرس تلو المدرس، وينفقون المال تلو المال، وغير ذلك ليس مهماً عندهم، وليس له موضع اعتبار، وليس موضع مسئولية، وهذه قضية خطيرة! الثالثة: تابعوهم، وقوموهم في المسير، ولابد من هذا حتى تحصل التربية الكاملة.(17/17)
إصلاح المجتمعات
الخطوة الثالثة: إصلاح المجتمعات، ليس في إسلامنا: أنا والطوفان من بعدي، وليس في إسلامنا فهم خاطئ قد حذر منه الصحابة الكرام منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، أي: لا تفهموا الآية فهماً خاطئاً، فتظنوا أن قيامكم بأمر أنفسكم وأدائكم لفرائضكم يكفيكم، فلا تأمرون أحداً، ولا تنهون أحداً، بل أردف هذه الآية بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)، فينبغي أن ندرك خطورة ترك إصلاح المجتمع، إن المنكرات فاشية وظاهرة، وكأن الألسن قد خرست، والعيون قد عميت، والأيدي قد شلت، وهذه قضية خطيرة! فما بال القلوب لا تتأثر؟ وما بال الوجوه لا تتمعر؟ وما بال الألسن لا تحذر وتنذر؟ وما بالنا وقد أصبح في أحوالنا ما قد بلغ مرتبة خطيرة؟ فقد تحول المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، بل ربما نجد صاحب المعروف يستتر بمعروفه، ولا يكاد يرفع به رأسه، وصاحب المنكر معلن به ومجاهر، والناس يستحيون أن يقولوا له كلمة، أو أن يذكروه بموعظة، أو أن يبينوا خطأه وظلمه وفساده، وهذه قضية خطيرة! والله سبحانه وتعالى قد بين مغبتها، وحذر منها، ولابد أن ننتبه إلى العقوبات الناجمة عن ذلك، كما قال جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] وفي قراءة: (لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال ابن تيمية: قراءتان صحيحتان، ومعناهما ليس فيه تعارض؛ فالظالم هو المرتكب للمنكر، وغير المرتكب غير ظالم من وجه، ويمكن أن يكون ظالماً إذا ترك الواجب في الإنكار على المنكر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه سبب لمحق البركة، وسبب لوقوع البلايا والرزايا.(17/18)
كيفية إصلاح المجتمعات
لابد من التركيز على الجوانب المهمة التي نحتاج إليها في إصلاح مجتمعاتنا، ومنها: أولاً: تغيير الفرقة إلى ألفة، فأعظم بلايا أمتنا فرقة صفوفها، وتباعد آرائها، واختلافها في أمرها، ولم يحل بنا ما حل بنا من تمكن أراذل الناس وشراذمهم من اليهود -عليهم لعائن الله- إلا من هذه الفرقة والنزاع والشقاق التي تسلط بها علينا أعداؤنا، وهذا ميدان جهاد عظيم، قال السعدي رحمه الله: الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة مهم قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:62 - 63]، ثم قال: فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل، وهو تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، وفي جمع أفرادهم وشعوبهم، وفي ربط الصداقات والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة، ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا جميع طبقات المسلمين: من العلماء والأمراء والكبراء وجميع الأفراد، وهذا أمر مهم.
ثانياً: تحويل الفساد إلى إصلاح، فكل فساد ومنكر لابد أن ننهى عنه، وأن نذكر بضرره، والقضية ليست في الأمور المشتبهة، بل نحن نتحدث عن أمور أحكامها صريحة واضحة، يعلمها أكثر المسلمين من الدين بالضرورة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)، فنحن نريد أن نأمر بالحلال البين، وننهى عن الحرام البين.
أليس الربا حراماً بيناً؟! وهل يحتاج أحد فيه إلى فتوى لهيئة من كبار العلماء أو لمجمع فقهي؟! ألسنا نعرف الوعيد الشديد الذي لم يرد له مثيل في قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]؟! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا أنه سبعون باباً، وأدناه مثل أن يزني الرجل بأمه، والعياذ بالله! وهكذا ما نراه من التبرج والسفور والاختلاط، وحرمتها جلية واضحة دون أن يكون هناك هذا التوجه للتغيير والتذكير، قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، فإن بقيت قلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فالله يحفظ بها كثيراً من الخير، ويديم بها كثيراً من المعروف، وينقل بها الصلاح والخير جيلاً عبر جيل بإذنه سبحانه وتعالى.
قال السعدي في هذه الآية: وفي هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يحيون به الموتى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك.
ثالثاً: تحويل الإعراض إلى إقبال، فالإعراض عن الله وأوامره لابد أن يتحول إلى الإقبال على طاعة الله، والقيام بفرائضه، والأداء لواجباته، والسعي إلى الاستكثار من هذه الخيرات والتطوعات، ولابد من تذكير؛ فإن الحث والتذكير يحصل به من الاعتبار والتعلق بالأجور المذكورة في النصوص ما يعين على فعلها، ولكننا نغفل عن هذا؟(17/19)
خطوات مهمة قبل مواجهة الأعداء مباشرة
نختم هذه الخطوات وهذه المسائل بمسألة مهمة، وهي: مواجهة الأعداء مباشرة، ولسنا نعني بذلك القتال والجهاد؛ فإنه ماض إلى يوم القيامة، وحكمه معروف، وليس ذلك إعراضاً عن أهميته، أو عن أثره العظيم، ولكننا نعلم أننا مقصرون فيما هو قبله، فنذكر بالمقدمات فنقول: هاهنا جملة من الأمور والتوصيات المهمة التي لابد لنا منها:(17/20)
أهمية معرفة الأمور والحذر من العواقب قبل مواجهة الأعداء
ثانياً: معرفة وحذر، لا جهل وخدر، لا يزال بعض الناس اليوم يصدقون مقالات الأعداء، ويروجونها بيننا بألسنة تنطق بلغتنا، ونحن نعرف أن كثيراً من المسلمين ليس عندهم من الوعي والإدراك ما يبين حقيقة وخطورة الأعداء، وبعضهم يظن أن العداء إنما هو في هذه الصورة فحسب، أو أنه في هذا الميدان وحده، أو أنه في تلك البلاد وحدها، ولا يعرف الحقائق القرآنية، والكواشف النبوية التي تبين هذه الصورة الحقيقية للأعداء، قال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، وقال سبحانه: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] والآيات في هذا كثيرة؛ أخبر الله سبحانه وتعالى بها، وبينها جل وعلا في مواقف كثيرة مما جاء سرده ووصفه في كتابه سبحانه وتعالى، وبين الحق عز وجل كل الصور التي تختلف من قول اللسان وإضمار القلب، وكشف أهل النفاق الذين يرددون مقالات الأعداء، ويجوسون في صفوف الأمة، بما يريدونه منها، وما يسعون إلى النيل منها بواسطة هؤلاء، والله عز وجل قد بين كيف يكون لأولئك من أثر سلبي، فبين الحق سبحانه وتعالى في شأن ووصف المنافقين ما هو ظاهر في قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، وما بينه سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]، ثم قال الله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآيات: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4].
والحذر واجب، والانتباه والالتفات إلى هذه الحقيقة مهم، ولابد لنا منها حتى ندرك هذه المخاطر.
قال القرطبي رحمه الله: في هذا الحذر وجهان: أحدهما: احذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم.
والثاني: احذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.(17/21)
الدعوة عزة وهداية
أولاً: الدعوة عزة وهداية لا ذلة وغواية، ونعني بذلك: أن نحافظ في مواجهة أعدائنا على عزة نفوسنا، وإن كسرنا أو هزمنا في ميدان مادي أو في بلد بعينه أو في زمن بعينه أو نحو ذلك؛ فإن الإنسان المؤمن لا يُهزم في عزته وفي قوة إيمانه وفي عزيمته الماضية، كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم بعد غزوة أحد.
وربعي بن عامر مثل حي قوي في هذا المعنى؛ فإنه دخل إلى أبهة الملك عند الفرس فلم يشغله ذلك، ولم ينبهر به، ولم يوقع في نفسه شيئاً من الضعف أو الاستعظام لأعدائه، بل قال قولته الشهيرة عندما سئل: ما الذي جاء بكم؟ فقال: (لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
وبهذا الموقف هو يعلن عن بيان قدرته على المواجهة والثبات، ويغزو بذلك عقول القوم وقلوبهم، فإن أولئك الأعداء كانوا مثل الذين نعرفهم اليوم في ضلال وضياع وحيرة وشك، وكثيرٌ منهم على فساد وظلم وفجور وعهر وفسق، وكثير من الشعوب التي تحت هذه القيادات الظالمة الجائرة المجرمة يحتاجون منا أن ندعوهم إلى الله عز وجل، ويحتاجون أن نتمثل الإسلام، ونعتز به، والذي لا يعتز بدينه لا يعزونه، والذي لا يحترم مبدأه لا يحترمونه.
اليوم نرى بعض المسلمين قد ذلت نفوسهم وكأنما هم أقزام أمام أعدائهم، وقد انبهروا بهم، بل بعضهم قد يعظمهم تعظيماً يوحي لك أنه يرى أن الحق والخير والصواب والهدى إنما هو عندهم، وهذه قضية خطيرة لابد من الالتفات لها.
ونقف وقفات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة؛ لنعرف أهمية هذا الجانب: في أعقاب أحد، وبعد انجلاء غبار المعركة بقليل جاء أبو سفيان منتشياً مفتخراً، جاء وهو يسأل: هل فيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ فسكتوا عنه، ثم أجاب عمر، فأراد أبو سفيان أن يبين أن انتصاره العسكري أو المادي هو انتصار عقدي مبدئي أخلاقي حضاري، فقال: اعل هبل، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم، فجاء
الجواب
( الله مولانا ولا مولى لكم)، ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وجاء
الجواب
( لا سواء؛ قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة)، وفي ذلك الوقت كان المسلمون في كسرة وشبه هزيمة في تلك الجولة، وكان منهم من استشهد، وكانت الحيرة قد ضربت في صفوفهم، لكن ذلك لم ينل من عزتهم، ومن شموخهم بدينهم؛ حتى لا يستطيعوا أن يقفوا ويثبتوا، وأن يبينوا ويوضحوا ويغيروا أفكار الآخرين، ويبدلوا آراءهم، بل بقوا أعزة، والناس يتساءلون: كيف هذا ضعيف قد هزم، ولا يزال مستعلياً، ولا يزال مفتخراً؟! إن هذا يلفت الأنظار، ويجعل الآخرين يفكرون أن هناك سراً، وأن هؤلاء الناس عندهم مبدأ قوي أصيل.
نحن نعرف أن الكافرين يحتاجون إلى دعوة، وبعض المسلمين يقيمون في بلاد الكفر مثل أمريكا وغيرها، وتجد بعضهم -وخاصة مع هذه الأحداث- ربما أصبح يتوارى بدينه، ويريد ألا يظهر إسلامه، وليس هذا من باب المداراة المطلوبة في كثير من الأحوال، ولها صور شرعية، بل بعضهم قد بلغ به الأمر مبلغاً أخطر من ذلك.
ونذكر بما وقع للصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى الحبشة، وكانوا غرباء بعداء، وجاء عمرو بن العاص ومن معه يريدون أن يؤلبوا النجاشي عليهم، فجاء بهم النجاشي ليسمع منهم، فأي شيء قالوا؟ هل قالوا: نحن قلة قليلة دعونا نعطيهم من القول ما يريدون، وغيروا وكونوا دوبلماسيين، وأعطوا صورة تنم عن الحضارة، واعترفوا -كما يقولون- بالرأي الآخر؟ ماذا قال جعفر رضي الله عنه؟ لقد قال كلمات فيها العزة، وفيها الدعوة والهداية، فكان من قوله رحمه الله: (كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لنعبد الله وحده سبحانه وتعالى، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، ونهانا عن الفواحش) إلى آخر ما قال.
ثم قال عمرو بن العاص الداهية المحنك في اليوم التالي: لآتينهم بما يبيد خضراءهم، فجاء إلى النجاشي وقال: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً! وعيسى عند النصارى بعد أن دخل التحريف إلى ديانتهم هو الله أو ابن الله، وعند المسلمين هو نبي، فجيء بهم ليسألهم! ماذا عندهم في هذا؟ وهي قضية فاصلة؛ لأنهم إن قالوا ما يخالفه فقد يكونون عند ذلك هالكين، فأي شيء قالوا؟ عندما سئل جعفر عن ذلك قال: نقول فيه ما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (هو كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه)، فقال النجاشي: (ما عدا ما قلت عودي هذا)، فنخرت البطارقة لموافقة النجاشي للمسلمين، فقال: (وإن نخرتم).
فانظروا إلى هذا الموقف كيف كانت فيه العزة، وكيف كان فيه نشر أنوار الهداية والدعوة، ولو أن المسلمين المعاصرين اعتزوا بإسلامهم لكان ذلك أعظم مواجهة لأعدائهم.(17/22)
أهمية الإعداد لمواجهة الأعداء
ثالثاً: إعداد ومواجهة، لا إخلال ومداهنة، ولابد من المواجهة بإذنه عز وجل، الله عز وجل يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، والإعداد شامل لكل أنواع الإعداد: إعداد النفوس والأجسام، وإعداد العدة والعتاد، وإعداد الأمة توحيداً لصفوفها، وجمعاً لكلمتها، وإصلاحاً لأحوالها، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا ما ينبغي أن نكون عليه، حتى لا نكون مداهنين لأعدائنا خوفاً منهم أو رغبة فيما عندهم، والناظر اليوم يرى أحوالاً عجيبة، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو الدول؛ فإن بعضاً من الدول تعلن أنها لا تعد، وأنها لا تواجه، بل إنها تسعى إلى مداهنة ومجاملة، وإلى شيء مما تظن أنها ترضي به أولئك الأعداء، ولم تفقه -رغم كل ما جرى ويجري- أنه لا يرضي أولئك إلا انسلاخ تام من الدين، وانقطاع كامل عن الأمة، وانبتات تام عن تاريخها؛ إنهم يريدون أن يهيمنوا ويسيطروا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وكل ما تشمله الهيمنة؛ في اقتصاد أو سياسة أو غير ذلك، ونحن نقول: لابد للأمة أن تأخذ بأسباب هذا الإعداد.
وربما يقول الناس: إنها كلمة مطلقة، ونحن نقول: نعم، هي واسعة المدى، فما الذي فعلته فيما تملكه بيدك لتتوقى الأضرار والمفاسد والمخاطر التي يقدمونها لنا؟ لماذا ينتجون الأفلام المفسدة الفاسدة ونحن نشتريها بأموالنا، ونشاهدها، ونعرضها في قنواتنا على أبنائنا؟ أليس بإمكاننا أن نقطع هذا ونمنعه؟ لماذا يصنعون ونشتري دون أن نجتهد في أن نصنع ونكتفي بذواتنا؟! إن هذه القضايا الأولية مبدئية من جهة، وهي بداية لمثل هذا الإعداد؛ فإن كان أحدنا لا يريد أن يتخلى عن نوع بعينه من شراب أو طعام دون أن يستشعر أن ماله يعود لأولئك الصهاينة أو لأولئك الصليبيين أو لأمثالهم؛ فكيف يقول بعد ذلك: إنه يريد أن يكون مواجهاً لأعداء الله؟! لابد للأمة أن تأخذ بكل أسباب الاكتفاء الاقتصادي والاستقلال السياسي، ومما يعين على هذا التكامل فيما بين الأمة عموماً، ونحن نستطيع أن نحقق تكاملاً جزئياً فيما بيننا.
ولا شك أن من هذه الصور في الإعداد ترك الترف والسرف واللهو والعبث؛ لأن هذا ليس من الإعداد.
إن الأمة اليوم ينبغي أن تكون أمة جد واجتهاد، وأمة حزم وعزم، وأمة قوة وشدة؛ إذ لا مجال للرخاء والارتخاء، ولا مجال لكثرة الملهيات والمغريات، فما زلنا إلى اليوم نرى أنه قد عادت كل وسائل الإعلام إلى ما كانت عليه وربما أشد، وما زلنا نرى الرقص والغناء والطرب والكرة المستديرة هي الشاغل الأكبر والمقصود الأعظم، وكأنما ليس للأمة من اهتمام أو فائدة أو شيء تنشغل به إلا مثل هذه الأمور، فكيف يمكن أن تكون أمة الإسلام في مواجهة عدو أو في مرحلة مواجهة، وهي تنشغل بهذه المساحات العريضة الواسعة الذي نراه في شتى الميادين، وكأنما قد اختصر المجد والتقدم في رنة نغم، وركلة قدم، وجرة قلم، دون أن تكون هناك صور البناء والجد الحقيقية؟! لماذا تغيرت بعض هذه الأحوال قليلاً ثم عادت وكأن شيئاً لم يكن؟! إن الأمة لم تستيقظ رغم كل هذه الكوارث والنكبات التي ما زالت قائمة، بل هي متوالية، بل ربما هي كل يوم مشتدة أكثر فأكثر، والناظر في الأحوال يعلم ذلك، وما يجري في فلسطين، وما يجري في غير فلسطين كالعراق واضح بين، والناظر يرى كيف تفرض الأمور! وكيف تغير! وكيف تدار الرحى على الإسلام والمسلمين، وعلى الثابتين على الدين القائمين على مواجهة أعدائهم، ومع كل هذا ما زلنا نقول: إننا في مراحل، وكأنما قد انتهت مخاطرها، أو خفت حدتها، أو أصبحت نوعاً من الأمور المعتادة التي لا نحتاج فيها إلى تذكر وانتباه.
حين نذكر بمجمل هذه القضايا لأننا نجد أنفسنا ملزمين بها، ونجدها أمانة في أعناقنا، وواجباً على كواهلنا، فإن نحن قصرنا فيها كنا من أسباب ضعف الأمة، وكنا من أسباب حلول البلاء، وكنا من أسباب ارتفاع الرحمة، وكنا من أسباب ابتعاد النصر، فإن كل ذلك مربوط بسنة الله عز وجل، وسنته لا تحابي أحداً، ولذلك ينبغي أن نجتهد في كل هذه المعاني التي ذكرناها، ويذكر كل الناس وكل أفراد الأمة -من العلماء، والأمراء، وأصحاب الأمر والنهي- بواجباتهم، فإن لم يقوموا بذلك فليس ذلك عذراً لك، فإن الحجة قائمة عليك، وإن المسئولية بين يدي الله فردية، وإن الله سائلك عن كل ما استرعاك من رعية، وكل ما أعطاك من إمكانية، وكل ما رزقك من العمر، وكل ما أعطاك من الطاقات والإمكانات، ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه: ما عمل به، وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه)، فلن يسألك الله عز وجل عن حاكم وإن قصر إلا في دائرة ما تستطيع به من الإصلاح، ولا عن عالم وإن غفل إلا فيما تستطيع به أن تقوم بواجبك، لكن السؤال الأعظم لك ولي هو فيما هو تحت يدك، في الفريضة التي تركتها، وفي الواجبات التي قصرت فيها، وفي الملهيات التي انشغلت بها، وفي المنكرات التي ارتكبتها، وفي الأمانات التي ضيعتها، وفي المسئوليات التي لم تقم بها، وهذا هو المبدأ، وهذه هي البداية، وهذا هو ألف وباء حتى نصل إلى الياء، فلا تقفزوا في المراحل؛ فإن كثيراً منها بعضه مترتب على بعض، ومن وراء ذلك وقبله وبعده ومعه لن يغير أحد شرعاً من شرع الله، ولا حكماً من أحكام الله، ولن يبطل أحد كائناً من كان شريعة الجهاد الماضية بحديث النبي عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، ولكننا نقول: سيروا على الطريق من أوله إلى آخره، وخذوا بالأسباب من جميع جوانبها، واحرصوا على التعرض الصحيح لنصر الله سبحانه وتعالى؛ حتى يأذن الله جل وعلا بصلاح قلوبنا، وتغير أحوالنا، ووحدة صفوفنا، وقدرتنا على مواجهة أعدائنا، وهزيمتهم بإذنه سبحانه وتعالى عاجلاً غير آجل، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/23)
الأسئلة(17/24)
نصر الإسلام مسئولية على الجميع
السؤال
هل يأثم الفرد على هزيمة الإسلام والمسلمين؟ وما دور الفرد في النصر؟
الجواب
هذا هو موضوع حديثنا الذي تحدثنا به، وكان كله منصباً في هذا الباب، وأؤكد مرة أخرى أننا نريد أن نواجه أنفسنا بكل وضوح وصراحة.(17/25)
سبب ضرب الأمثلة بشباب الصحابة رضي الله عنهم
السؤال
ضربت الأمثلة بشباب الصحابة، فلماذا لم تضرب لنا أمثلة في زماننا هذا؟
الجواب
نقول: الأمثلة كثيرة، والخير في أمة محمد باق، لكن تلك الأمثلة تتميز بعدة مزايا: أولاً: أنها أمثلة قد جمعت من أسباب وصور الكمال أكثرها.
ثانياً: أنها أمثلة قد احتف بها ووضح فيها ارتباطها بأصالة المنهج في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الأمثلة هي الأمثلة، وليس بالضرورة أن يكون المثال هنا أو هناك، ولماذا نقول: إنه إذا ضربنا الأمثلة بالصحابة فنحن نتكلم عن تاريخ مضى لا يمكن تكراره، ولا تمكن إعادته؟ هذا ليس بصحيح؛ فكل مثال قديماً كان أو حديثاً له أثره، ونحن إذا أردنا أن نسرد الأمثلة فالتاريخ كله -عبر مراحله المختلفة- لم يخل من رجال كانوا رجال صدق وإيمان، وإسلام وقوة وعزة في كلما مر بهم من الخطوب والأحوال، وهذا أمره واضح بين.(17/26)
مواجهة الأعداء مسئولية الجميع
السؤال
المواجهة مع العدو ستجر حتماً إلى المواجهة مع الأنظمة والحكومات، ألا تعتقد بأن أقل ضرر أن يترك الأمر على أولياء الأمر وعليهم الوزر والخطيئة؟
الجواب
نحن معاشر المسلمين والشعوب في كثير من الأحوال مع كثرة هذه المشكلات أصبحنا ننفس عن أنفسنا بالنقد الدائم على الحكومات والدول والمسئولين، ولا يعني ذلك أن هؤلاء براء، وأنهم ليسوا مفرطين ومقصرين، لكننا لا نقول ذلك حتى نبرئ أنفسنا من المسئولية، بل كلٌ في رقبته وعنقه مسئولية وأمانة لا تبرأ بمثل هذا.
وعندما نقول ذلك على سبيل الإصلاح والدعوة ينبغي أن يكون بوسيلته الصحيحة، وليس هكذا كلاماً وجعجعة في الهواء وصراخاً في وسائل الإعلام لا على هدي ولا على منهجية ولا بطريقة ولا بآلية يصل بها الأمر إلى ما قد يرجى به الخير والإصلاح.
ونقول كذلك: هل يمكن أن يصلح الحكام والأمراء وتبقى الرعية فاسدة فيكتمل الأمر؟ لا، بل هي حلقات لابد من اكتمالها، فإن لم تكمل ما بيدك وما هو تحت أمرك، وما هو في طاقتك وقدرتك؛ فكيف تكمل غيره؟! ولكننا نقول أيها الإخوة: ينبغي ألا نكون عاطفيين ومندفعين، وينبغي أيضاً ألا نكون بعيدين عن الوعي والإدارات، وعن معرفة الحقائق والمخاطر، وعن معرفة الأسباب والمسببات، ولكن كل ذلك يحتاج إلى بصيرة ووعي وحكمة، والأمور العظيمة الكبيرة لا ينبغي أن ينفرد بها آحاد الناس ليقرروا فيها، ولينفذوا فيها ما رأوه من القرار دون أن يعرفوا كثيراً من الجوانب المحتفة بها، والأمور اللازمة لها، ودون أن يتشاوروا مع غيرهم؛ لأن هذا الأمر لا يخصك وحدك، بل يخص الأمة؛ فإذا صنعت صنيعاً كنت فيه مخطئاً ربما جررت على غيرك وعلى أهل الإسلام ما يكون أعظم وأكثر ضرراً مما أردته من الإصلاح، فهذه مسألة مهمة.
ثم أيها الإخوة! نحن أيضاً علينا واجب، وندرك أن كل الحكام والأمراء والمسئولين هم من بني البشر، وهم في أصلهم على إسلام وإيمان، فلم لا يكون لنا أمل في أن تكون هذه الأحداث كما أيقظتنا نحن من غفلة أن توقظهم، وأن يكون هناك أسبابٌ تؤخذ حتى يتكامل الإصلاح من جوانبه كلها؟ نحن نعرف أن أعداءنا يريدون أن يلعبوا على الحبلين، وأن يشقوا الصفوف؛ لأن الفرقة -حتى ولو كانت لها بعض الأسباب الصحيحة- لو شاعت وكثرت في المجتمعات بالمهاترات والمخاصمات والمعارضات والاعتراضات؛ شغلت بها الأمة، وكان بأسها بينها، وصارت أحوالها متعارضة داخل صفوفها، ولا مصلحة في هذا، ولا خير في هذا إلا لأعدائنا، فينبغي أن نكون أصحاب فطنة وتفويت للفرص على أعدائنا، ونتقي ونترك شيئاً من الشر لأننا لا نريد أن يكون ما هو أعظم منه، وهذه مسألة مهمة.
فهل ترون هذه الأزمات التي تمر بالأمة بداية للخلافة الإسلامية التي بشر بها النبي عليه الصلاة والسلام؟ أقول: إن نحن أخذنا بما تذاكرنا به الآن، وبدأنا بالتغيير الصحيح فإن الله عز وجل وعد وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، لكننا إن بقينا على ما نحن عليه فذلك هو الخطأ.
وأقول متفائلاً ومستبشراً: لابد أن نشيع في أنفسنا الأمل بإذن الله عز وجل، فالخير في أمة الإسلام، واليوم تيقظت كثير من العقول، وحيت كثير من النفوس، وارتفعت كثير من العزائم، وسمت كثير من الهمم، وتنادى الناس إلى الخير، وتواصوا به، ونحن نريد أن نجعل هذا دائماً ومستمراً وزائداً ونامياً حتى يكون فيه -بإذن الله عز وجل- بشارات، ونحن اليوم في خير كثير لم يكن ليحصل لولا ما قدر الله من هذا الأمر وهذه الأحداث، فهل أحد يشك اليوم في عداء الأعداء؟ وهل أصبحت هناك غشاوات ما زالت تعمي العيون أم أنها قد أصبحت عارية مكشوفة واضحة؟ أنى لنا ذلك؟ وكيف حصل ذلك؟ وكيف يمكن أن يصل إلى هذا؟ قبل ذلك كنت تقول: هؤلاء الكفار يفعلون أو هؤلاء خطيرون، ويقول لك القائل: يا أخي! أنت مبالغ، وأنت لا تعرف، وأنت تتكلم كثيراً، واليوم بحمد الله قد تغير كثير من ذلك، وفي هذا خير، وما يجري به قدر الله لابد أن نوقن أن فيه الخير، فنلتفت إلى هذا القدر ليكون لنا فيه نفع، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).(17/27)
الدعاء مطلوب في كل وقت
السؤال
لماذا الدعاء في القنوت كان جائزاً عند الحرب والآن ليس جائزاً؟
الجواب
نقول: ليست هذه هي المسائل، ولا تعرض بهذه الطريقة، ونحن نعلم أن أمتنا في جملتها في بلاء، ليس اليوم بل من قبل خمسين عاماً وستين عاماً وهي في بلايا، وفيها نوازل، فهل يكون الدعاء دائماً؟ لكن إذا تجددت نازلة جاء الدعاء، وإذا خفت نازلة لا يعني أنه إذا لم ندع في القنوت في كل يوم فإننا لا ندعو ولا نقنت، بل ربما نقنت في الفريضة، وإذا لم يقنت الإمام فهل يعني ذلك أن الدعاء توقف؟! هذه قضية مهمة، وقد ذكرتها، وأقول: نحن لا ندعو دعاءً دائماً متواصلاً بما ندعو به في أحوال الكرب والشدة من لجوئنا إلى الله، ومن استنصارنا على أعدائنا به سبحانه وتعالى.
فلابد أن نديم الدعاء، سواء في صلواتنا أو في خلواتنا أو في جلواتنا أو في مجالسنا، ولابد أن نجعله دائماً وأبداً؛ حتى يكون ارتباطنا بالله عز وجل وطيداً وقوياً ودائماً، وليس مؤقتاً وعارضاً بحسب ما يحصل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في توجيهه لـ ابن عباس: (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن لا ندعو إلا إذا اشتدت الأمور وعظمت الخطوب، وإذا جاءت أوقات فيها شيء من الهدوء والسكينة نسينا الدعاء، ونسينا التعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا من الخطأ.(17/28)
قضية المسلمين واحدة في كل مكان
السؤال
هل ضاع العراق من أيدينا؟ وهل سلبت بغداد منا؟
الجواب
لم الآن نركز على هذا السؤال؟ ألا ينطبق هذا السؤال على فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى؟ ألا ينطبق هذا على أفغانستان؟ ألا يسري هذا على كل المواقع حتى البوسنة والهرسك؟ عندما هدأت الأحداث في البوسنة نسيناها، فهل انتهت قضيتها؟ وهل تحسنت أحوال المسلمين فيها؟ وهل انتهت مشكلاتهم؟ كلا! ولكننا نحن في فترات ماضية كنا دائماً نُضرب -كما يقولون- على أقفيتنا، ثم بعد ذهاب حرارة تلك الضربة ننتبه، ونرفع رءوسنا، ونمشي وكأن شيئاً لم يكن، فأقول: الأحداث اليوم قد جاءت عظيمة ضخمة سافرة كاشفة عن أنيابها، واضحة في مقاصدها، ولعلها تكون داهية أصبحت اليقضة بعدها أوسع وأقوى، ولئن قال هذا السائل مثل هذا السؤال، فنقول: إذا دامت الغفلة، ولم يحصل الإصلاح والتغيير والجد والنشاط والعزم والحزم ربما يأتي سؤال بعد فترة من الزمان تطول أو تقصر ويكون السؤال عن بلد غير البلد، وعن مدينة غير المدينة، وإذا لم نغير أحوالنا قد يصل الحال إلى مثل هذا الذي يقوله السائل وأكثر منه.
نسأل الله عز وجل أن يبرم لأمتنا أمر رشد؛ يعز فيها أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
ونسأله عز وجل لأمتنا وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وقوة من بعد ضعف.
ونسأله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا معتصمين بكتابه، متبعين لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتفين لآثار أسلافنا رضوان الله عليهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(17/29)
قصص عن الإسلام في إفريقيا
جميلة هي تلك القصص التي تحكي انتشار الإسلام في أصقاع الأرض، وبها نستشعر عظمة نعمة الله عز وجل علينا، وفي الاتجاه الآخر يتضح مدى تفريط أهل الإسلام في الدعوة إليه بأبسط أمور الدعوة وأيسرها، فضلاً عن أعلاها وأفضلها مما هو في الإمكان.(18/1)
جهود التنصير في إفريقيا
الحمد لله، الحمد لله الكبير المتعال؛ ذي العزة والجلال؛ المتفرد بصفات الكمال؛ المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدى، وإليه المرجع والمآل؛ نحمده سبحانه وتعالى شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله؛ اصطفاه الله عز وجل من خلقه، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الأولين والآخرين، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً عمياً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته؛ فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هذه قصص عن الإسلام في أفريقيا نستشعر بها عظمة نعمة الله عز وجل علينا، ويتضح من خلالها مدى تفريطنا وتقصيرنا في القيام بواجبنا تجاه ديننا؛ هذه القارة السوداء -كما تسمى- رصدت المسيحية النصرانية ليس عشرات ولا مئات بل آلافاً من الملايين لتنصيرها، وجعلت لذلك إمكانات هائلة ضخمة، ويكفي أن نعلم أن الإنجيل مترجم إلى نحو ستمائة لغة ولهجة من لغات دارجة لا يعرفها إلا أصحابها من أهل القبائل والقرى البعيدة النائية، وقد رأيت بعيني نسخاً من الإنجيل مطبوعة بالحروف اللاتينية على اللغات واللهجات المحلية، وإذا أضفنا إلى ذلك الجهود الإعلامية الضخمة في عموم التنصير، لوجدنا أن هناك أكثر من أربعة آلاف وستمائة قناة تلفزيونية وإذاعية خاصة لنشر المسيحية والتنصير، وإذا أضفنا إلى ذلك فإنا نجد آلافاً من الدعاة إلى النصرانية يشرقون ويغربون، وتكاتفت وتعاظمت جهودهم في هذه القارة الإفريقية السوداء، وإذا مضينا سنرى مصداق قول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، وسنرى تصديق قوله جل وعلا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، وسنرى نور الإسلام يبدد الظلمات مع تقصير المسلمين وتفريطهم، ومع ندرة وقلة دعاتهم، ومع تبدد وضعف جهودهم!(18/2)
قصص مبشرة بانتشار الإسلام
أشرع في ذكر بعض قصص عرفتها أو لامستها من خلال زيارات ميدانية، جوزيف رجل نصراني نشأ في ظلال الكنيسة التي تعطي طعاماً لبطون جائعة فارغة، وكساء لأجساد ناحلة عارية، ودواء لأجساد سقيمة بالية، وخدمات تجعلهم لا يملكون إلا أن تخفق قلوبهم بالشكر والحمد لمن يقدم لهم ذلك، ثم بالموافقة والمتابعة له؛ وقد تقدم هذا الرجل في النصرانية، وبلغ شأواً عظيماً حتى بعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل -وقد حصل- على درجة الماجستير في علوم اللاهوت والكنيسة، وفي أثناء دراسته تلك وبحكم التخصص كان يمر على موضوعات فيها مقارنة بين الأديان، ويقرأ من الكتب ما لا يجد فيه سطراً أو كلمة تذكر الإسلام بخير مطلقاً؛ وغريزة البحث ومعرفة بعض أسباب التناقض في تلك الديانات المحرفة قادته إلى أن يبحث أكثر عن الإسلام بنفسه، وبتوفيق من الله جل وعلا لم يكن ثمة من تقدم له بدعوة، ولا من أهداه كتاباً، ولا من ناظره في مسألة، وإذا بنور الحق يبدد ظلمات الظلم، وإذا به يدخل الإسلام ويعلن إسلامه ويشهره؛ لتسلب منه سيارته، ويقطع راتبه، وتلغى امتيازاته، ويصبح اليوم لا يملك مالاً يدرس به أبناءه، وله الآن ولدان في بيته لا يخرجان للدراسة والتعلم، أي شيء صنع هذا الرجل؟! ورغم كل هذه الظروف قد نذر نفسه أن يدعو في داخل الصفوف المسيحية الكنسية من أبناء جلدته وبلدته، وإذا به يدخل في الإسلام المدير العام للمناهج في الكنيسة، المسئول الأول عن التعليم المنهجي للكنائس المختلفة يدخل في الإسلام بدعوة قسيس سابق حائز على درجات علمية عالية في تخصص اللاهوت الكنسي، ويمضي وراء ذلك وإذا به يكتسب من هؤلاء واحداً إثر واحد، وهو إلى اليوم هذا لا يملك ما يدرس به أبناءه بعد أن كانت عنده من الامتيازات والحظوة ما عنده!! وأحسب أنني في غنىً عن التعليق، وسأزيدكم من ذلك الكثير والكثير.
وهذا جونماريبوبو قسيس نصراني أفريقي، وصل إلى مرتبة رئيس الأساقفة في بلد أفريقي، يقول: من خلال المقارنة في بعض الأبحاث العلمية، ورؤيته للمظاهر التي يؤديها المسلمون في صلاتهم وبعض عباداتهم ومناسباتهم قال: وجدت أن عقلي يدعوني، وقلبي يوافقني، ونفسي تطاوعني أن هذا الإسلام هو الحق؛ فأسلم وأشهر إسلامه، ومنذ إسلامه إلى يوم الناس هذا أسلم على يديه نحو خمسة آلاف إنسان من أولئك الذين اجتالتهم عن الحنيفية السمحة وأصل الفطرة تلك الجهود التنصيرية التبشيرية العظيمة، ما الذي جرى له بعد أن كان رئيساً للأساقفة؟! حيكت حوله المؤامرات، ونفذت الكنيسة في أثناء سفره خارج بلاده حرق منزله، ومات في هذا الحريق توءمان من أبنائه، ثم بعد فترة أعيد إحراق منزله، وتعرض للقتل ثلاث مرات، وهو يقول في آخر كل هذه المعاناة: أنا أشعر براحة واطمئنان لأنني أستشعر الآن أن الله معي.
ألا يدلنا ذلك على الحقيقة العظيمة في قوة هذا الدين، وأنه الحق والفطرة والعقل والرشد والهداية؟ ألا يكشف لنا ذلك كم من أمثال هؤلاء من لم تتيسر له الأسباب، وقصرت جهود المسلمين وعجزت عن أن تقول لهم كلمات، أو أن تقدم لهم صفحات، أو أن تسمعهم بعض الآيات؛ ليكون هذا القدر اليسير كافياً في بيان الحق لهم، وإنارة الطريق أمامهم! ونزيد قصة أخرى من بلد أفريقي ثالث، يقول هذا الرجل: خدمت المسيحية بكل ما أستطيع، وتدرجت في السلم الكنسي حتى وصلت إلى المراتب العليا في الكنيسة، وكنت محباً للقراءة والاطلاع، ولا يقع في يدي كتاب متعلق بالإنجيل إلا قرأته، ثم قرأت في كتاب إنجيلي محاربة للإسلام، ووجدت فيه: هل الإسلام دين سماوي أم لا؟ إنهم يشككون في أن الإسلام دين من عند الله أو لا، فينكرون كتابه، وينكرون رسوله، وينكرون وحيه، قال: فقادني ذلك إلى البحث، وبدأت أنقب: هل الإسلام دين سماوي أو لا؟ حتى أسلمت وكتبت دراستي عن إسلامي وأسبابها، وكشفت التناقضات التي وقفت عليها من خلال البحث العلمي في التوراة والإنجيل، وما يدور في تلك الكنائس، وأخرجت دراستي هذه ونشرتها، وبينت حقيقة المعلومات الخاطئة المحرفة في الكتب الإنجيلية عن الإسلام، وحينئذ وقعت له ما وقعت من الأمور، وقد دعا إلى الإسلام، وأدخل في دين الله الحق نحواً من مائتي نفس.
وهكذا سنجد العجائب ونرى الآثار، ولو مضينا لوجدنا أكثر من هذا، لكننا نقول: إذا كان الحق بذاته يقنع، وإذا كان النور بطبيعته يضيء، فما بالنا لا نقدم الحق، ولا نأخذ النور لنوصله إلى الناس؟! خذوا هذه القصة العجيبة، وقد رأيت أصحابها الذين لامسوها وعايشوها.
مدرسة إسلامية أقامها بعض الغيورين من الدعاة في بعض المناطق التي بيوتها من الطين، وأهلها في غاية الفقر، ولهم أصول مسلمة، لكنهم مضيعون لإسلامهم، هذه المدرسة تضم مائتين وخمسين طفلاً في المرحلة الابتدائية، عندما بدأت المدرسة كانوا يسألون الطلاب في أول الدوام في الساعة الثامنة: هل صليتم الفجر؟ فلم يكن أحدهم يعرف الفجر، ولا يعرف أن أهله أو أسرته تصلي، فكانوا يعلمونهم الوضوء، ويصلون بهم جماعة في هذا الوقت المتأخر كل يوم، فكانت المدرسة برنامجها يبدأ كل يوم صباحي بالوضوء وأداء صلاة الفجر؛ لغرض التعليم والتنبيه، وبعد ذلك وبأيام وأسابيع يسألون: من أدى الفجر؟ فإذا بخمسة أو عشرة قد بدءوا يصلون ويعرفون من التعليم، ليست هذه هي القصة، كان بجوار هذه المدرسة سكن رجل رأى هذه المدرسة، وبعد فترة من الزمن وهو مجاور لها يراقبها ذهب بابنه وقال: أريد أن يكون ابني طالباً في مدرستكم، لماذا؟ قال: لأني رأيتكم تحرصون على النظافة والناحية الصحية، وتقومون بأمور رياضية تليق وتصح أبدان الأطفال، ثم رأيت انتظام المدرسة وجوها التربوي العام؛ وهو لا يعرف شيئاً عن هذا، وعندما أرادوا تسجيل ابنه وسألوه عن اسمه واسم ابنه، وجدوا أنه قسيس نصراني، وعندما قالوا له: هذه مدرسة إسلامية! قال: أريد ابني أن يتعلم فيها؛ لأني أرى فيها من الخير ومن النظام والانتظام ما أشعر أن فيه الخير، وسجل ابنه -وهو مسيحي نصراني- في مدرسة إسلامية؛ لأن النصرانية لا تعني لهم شيئاً في حقيقة الأمر، ولا تعني اعتقاداً راسخاً ولا يقيناً جازماً، وإنما هي بعض الضلال وبعض الأعمال التي أساسها الخدمات والإعانات، ونحو ذلك.(18/3)
قصص مثيرة حول اضمحلال الإسلام في قلوب أهله
أنتقل بكم إلى جانب آخر لعله يصيبنا بالحزن والأسى، ولكنه يواجهنا بالحقيقة المرة، أقوام ربما كانت في كثير من الأحوال أصولهم إسلامية، وهم في هذه البلاد ناطقون بالعربية، يفعلون أموراً أعلم أن بعضكم قد لا يصدقها ولكنها حقيقة واقعة: في بعض تلك المناطق النائية والقرى البعيدة أقام أحدهم حفلاً ومأدبة بقدر جهودهم وطاقاتهم وأحوالهم؛ فلما سأل الدعاة عن المناسبة؟ قيل: هذا يوم سابع لمولود، فهي بما نفهمه نحن كأنما هي وليمة العقيقة، وعندما سألوا وجدوا أن أم هذا الوليد لا زوج لها، وهذا معروف عند أبيها، وعند كل قبيلتها، ولا يجدون في ذلك غضاضة ولا إثماً ولا حرجاً ولا شيئاً يعتبرونه عيباً على أقل تقدير، ثم بعد السؤال وجدوا أن هذا المولود هو الخامس من هذه المرأة، ويعملون له الوليمة في اليوم السابع على سنن من آثار قديمة للعقيقة، ولا يرون في ذلك شيئاً! ولقيت رجلاً مرت به حادثة مشابهة، دعي إلى وليمة فلم يجب، ثم لقي والد الفتاة في اليوم التالي فسألهم عن الوليمة، فأجابه بالحقيقة، قال له: ألا تعرف أن هذا يعد زنا؟! قال: بلى! قال: فكيف تصنع هذا؟! قال: كلنا كذلك؛ ولا أحد منا يعيب ذلك، ونحن سائرون على ذلك! بل وهذه قصة رأيت من شهدها، وسمعت منه مباشرة: أحدهم مقر عمله في مدينة، وأهله في مدينة أخرى، يكتسب رزقه وعيشه، وله أكثر من عامين لم يرجع إلى بلده وإلى أهله، وفي يوم جاء يوزع بعض الحلوى على زملائه في العمل، وعندما سألوه عن السبب أو المناسبة؟ قال: رزقت بمولود! وهو غائب منذ عامين عن أهله، ويعرف أن هذا المولود ليس منه، ويفرح به ويوزع ويعلن، وهو في عاصمة بلاد إسلامية عربية أفريقية!! إن هذه الأحوال تقودنا إلى أن نفكر: هل نحن غير معنيين بذلك؟ هل لا تلحقنا المسئولية عن هذه الأحوال وعن بلد أو منطقة مثل جنوب السودان فيها نحو خمسة وستين في المائة من الوثنيين الذين لا يعرفون ديناً سماوياً، وبعضهم يعبد الشمس، وبعضهم يعبد القمر؟ يقول رجل من أوغندا أسلم ويحكي قصته: إننا في أوغندا لا دين لنا -أي: في مناطقهم وثنيون-، هناك من يعبد الشمس، وهناك من يعبد القمر، ولقد كنت أفكر في أن هذه الأمور غير صحيحة، وأعتقد أن هناك إلهاً أكبر من الشمس والقمر، زار عاصمة لبلد عربي إسلامي، وسأل عن الإسلام وأسلم، وهو يقول بكلمات جميلة مشرقة: كأنني ولدت من جديد، رأيت النور لأول مرة في حياتي، كنت أعيش في ظلم وضلال وكفر، وأصبحت أعيش في نور وهداية وطمأنينة وسلام بعد أن نطقت بالشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
كم من مثل هذا لم يتسن له ذلك، وما زال يعيش الصفة التي وصف بها حياته في ظلم وكفر وجهل وبعد عن الدين، والحق أننا مسئولون عن تبليغ دين الله.(18/4)
واجبنا تجاه القارة الأفريقية
علينا أن نعظم المسئولية تجاه أنفسنا؛ لأنني أعلم أن كثيرين سيقولون: وماذا عسى أن نفعل؟ وربما يقول البعض: لسنا علماء أو لسنا دعاة، فأقول: ألا تعرف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ ألا تعرف أن تتكلم عن الإسلام الذي تمارسه؟ ألا تعرف أن قراءة الفاتحة ونحوها لا يعفيك من هذا الباب؟ وأذكر هنا بعضاً من الأرقام حتى نقارن ونرى أن بإمكاننا فعل شيء: كفالة داعية مسلم يذهب إلى بعض تلك المناطق، وقطعاً بعون الله وتوفيقه يكون له من الأثر في إسلام الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ما لا يمكن تصوره في كثير من الأحوال، كم يحتاج هذا الداعية في البلاد النائية والظروف الصعبة: سبعمائة وخمسون ريالاً في الشهر.
تكاليف مدرسة كالتي ذكرت لكم خبرها بما فيها من إطعام الطلاب؛ لأنهم لا يجدون طعاماً، ولا يملكون مالاً، وتوفير أوراق ودفاتر وأقلام ومراسم ونحو ذلك في العام الكامل لمائتين وخمسين طالباً: ثلاثة وعشرون ألفاً وشيئاً، أليس هذا المبلغ يدفع في هذه الأيام وضعفه في ليلة واحدة في عرس من الأعراس، ويتلف من الطعام ما قد يكون به هداية أقوام وفئام من الناس وتعليم أجيال من هؤلاء الأطفال المحرومين من هداية القرآن ونور الإسلام؟! لقد دخل النصارى إلى هذه الفئات بالتعليم، وأخذوا أبناءهم وعلموهم وهم جهال، وجعلوهم يدرسون إلى المراحل الثانوية بل الجامعية بل والعالية في البلاد وفي خارجها.
تكلفة كفالة تعليم طالب في المرحلة الثانوية لعام كامل: ثمانمائة وخمسة وستون ريالاً، أظنكم تعلمون أن أية مدرسة ابتدائية خاصة في أدنى مستوىً في بلادنا لا يستطيع الطالب أن يدرس فيها إلا بألفين أو ثلاثة آلاف على أقل تقدير، وهذه رسوم مع الإعاشة والكفالة الشاملة.
والطالب الجامعي كفالته ألفان ومائتان وخمسون ريالاً.
لا أقول هذا لنذكر الأرقام ولكن لندرك أن مثل هذا المال نحن قادرون على بذله من جيوبنا أو ممن حولنا، وأننا نستطيع أن نقدم شيئاً منه، ويكون له من الأثر العظيم ما لعله على أقل تقدير يخفف عنا المسئولية والأمانة التي هي منوطة بأعناقنا وواقعة على كواهلنا.
نسأل الله عز وجل أن يبرم لهذا الدين أنصاراً يرفعون رايته، ودعاة يحملون أنواره، وأن يسخرنا لنصرة دينه وإعلاء رايته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(18/5)
بشائر من بلاد الغرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه؛ وإن من تقوى الله أن نسعى ونبذل في الدعوة إلى الله، وأن نشارك فيها ونسهم ولو بألسنتنا وأقوالنا، ولو بأموالنا وجهودنا، ولو بأوقاتنا وأفكارنا؛ فإن الله عز وجل سائلنا عن ذلك، وإن نعم الله عز وجل علينا التي يجب علينا شكرها عظيمة، فقد منَّ الله علينا بإيمان وإسلام وعلم ومعرفة ومساجد كثيرة يذكر فيها اسم الله، وأحوال مادية أقل ما يقال فيها: إن فيها الكفاف، وفوق ذلك بين أيدينا من الوسائل والكتب والأشرطة والإذاعات ما نستطيع أن نستفيد به وننتفع منه كثيراً، ثم نحن لا نفكر مجرد تفكير في دورنا في خدمة ديننا وفي واجبنا في شكر نعم الله سبحانه وتعالى علينا، وليست هذه القصص والأنوار التي تشرق في القلوب في أفريقيا بل في أعماق أوروبا المتحضرة، وفي أعماق أمريكا وغيرها وهي شهادات ناطقة حية على قوة هذا الدين، وعلى صلاحيته وفطريته وقوة حجته، وعلى انطباعه وانطباقه على ظروف الحياة المختلفة والمستجدة، فلئن كان البعض قد يقول: إن الأفارقة في أحوال تعليمية ومادية ومعيشية يمكن أن تكون جالبة لهم إلى الإسلام فما نقول في الأوروبيين والأمريكيين وعندهم تعليم كامل ومادة كثيرة ورزق ورغد عيش وافر فما بالهم أيضاً يدخلون في الإسلام؟ قصة واحدة أذكرها من فنلندا رأيت صاحبها ولقيته وتحدثت إليه: شاب دون العشرين من عمره مسلم اسمه: ميكائيل، مقبل على الخير، وحضر معنا دورة علمية فيها محاضرات إسلامية, وكان يترجم له؛ فسألته عن قصة إسلامه؛ فأخبرني أنها قصة امتدت سبع سنوات، كان له زميل في المدرسة صومالي مهاجر إلى تلك البلاد، وانظروا كيف يسوق الله الخير؟ وكيف تجري أقداره؟ قال: وكان زميلاً لي في فصل المدرسة، وكان بحكم أنه جديد ضعيف في الدراسة يحتاج إلى مساعدة، فكنت معه على مدى سبع سنوات أساعده في الرياضيات والفيزياء والكيمياء واللغة وغير ذلك، وتوطدت بيننا أواصر الصلة والصداقة والصحبة، وكانت نقاشات تدور بيننا عن الدين وعن الإسلام، وإذا به يذكر أنه يصلي ويتوضأ وأنه يتطهر ونتناقش في ذلك، وزدت بعد ذلك قراءة في ترجمات معاني القرآن حتى أسلمت على مدى سبع سنوات.
شاب في عمر العشرين والشباب هناك غارقون حتى آذانهم في الشهوات والملذات؛ فسألته عن ذلك وقلت له: كيف كان تأثير تحول الإسلام في حياتك، وربما كانت لك حياة سابقة فيها وفيها؟ فعجبت حينما ذكر لي أن له أسرة فيها شيء من المحافظة الأخلاقية، وقال: كنت لا أشرب الخمر، ولا أحضر الحفلات المختلطة مطلقاً، وبقيت بفضل الله له فطرة سوية، وهكذا ستجد في كل مكان ما يدل على عظمة هذا الدين، ولكنه كذلك من جهة أخرى يكشف عن تفريط وتقصير المسلمين، وأنهم يستطيعون لو خدموا دينهم أن يفعلوا الكثير بدلاً من أن يتراشقوا بالتهم ويختصموا فيما بينهم، أو يبددوا أموالهم في السرف والسفه فيما ليس وراءه طائل، بل مما قد يكون عليهم فيه مغبة ومذمة.
وأذكر معلومة مهمة إحصائية من الأمم المتحدة قبل نحو ست سنوات على وجه التحديد تقول فيها: إن أعلى الديانات التي تكتسب أشخاصاً جدداً هي ديانة الإسلام، وليس هذا في كل عام تقريباً لكن تلك الإحصائية تقول: إن الدين الذي يليه هو المسيحية، والفارق بينهما ستة أضعاف، أي: أنه إذا دخل في المسيحية ألف فالداخلون في الإسلام ستة آلاف مع تقصير وتفريط في المسلمين، ومع اجتهاد وجهد وبذل كبير في النصارى كما ذكره بعض من أسلم ممن بلغ مراتب عالية في الكنيسة.
وأختم مقالنا بقول الأسقف السابق جوهن سبرت من جنوب أفريقيا وقد أسلم يقول: من المؤسف حقاً أن الجهود التنصيرية لا تشكو أي نقص تنظيمي أو حركي أو مالي أو معنوي، وهذا ما نفتقده عند دعاة الإسلام فضلاً عن المصاعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذا لا بد أن نتحمل مسئوليتنا، وأن نخدم ديننا، وأن نبذل لدعوتنا.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لذلك، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وألا يجعلنا من المقصرين.
ونسألك اللهم أن تجعلنا دعاة لدينك، وجنداً في سبيلك، ونسألك اللهم أن تحسن ختامنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، وأن تكتبنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين! اللهم وفقنا للصالحات، واصرف اللهم عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم رد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك ورعايتك وعونك لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى والجوعى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم.
اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اختم لنا بخير، واجعل عاقبتنا إلى خير، وابعثنا على خير يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذو القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(18/6)
أخطار تهدد البيوت بالانهيار
من سنن الله عز وجل أنه جعل بيت الإنسان سكنه وراحته ومستقره، ولهذا يجب بناء هذا البيت بناءً وثيقاً مترابطاً، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مبنياً على طاعة الله عز وجل، والبعد عما حرم الله، فيجب على كل مسلم أن يحرص على أهل بيته، وأن يجنبهم الأخطار التي تفسدهم، ومن تلك الأخطار أخطار الخادمات والسائقين، فيجب الاستغناء عنهم قدر الاستطاعة، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يتقي الخلوة المحرمة مع هؤلاء في خاصة نفسه وفي عموم أهل بيته.(19/1)
سلبية انتشار ظاهرة الخادمات
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا الدرس بعنوان: (أخطار تهدد البيوت بالانهيار)، وهذا الموضوع يتناول عدة قضايا كل منها لها أهمية كبرى، وهي قضية حية وظاهرة بينة في الأسر والبيوت، وسينتظم الحديث في أربع قضايا أو أربع مشكلات وأخطار: اثنتان منها بشرية، واثنتان غير بشرية.
فالأول يتعلق بالعنصر النسائي والمتمثل في المربية والخادمة، والثاني يتعلق بالعنصر الرجالي والمتمثل في السائق أو الخادم، والثالث يتعلق بالهاتف، والرابع يتعلق بالفيديو، وهذا التخصيص أو التنصيص لا يدل على أن هذه هي فقط المشكلات أو الأخطار، ولكن هذه أبرزها, وفي نفس الوقت تندرج تحتها أخطار أخرى، وسر أو غاية الحديث في مثل هذه الأمور أن هناك أخطاراً يقع فيها الناس من حيث لا يشعرون.
وثانياً: أنهم قد يعرفون أن هذه الأمور أخطاء، ولكنهم لا يدركون حجم خطورة آثارها وما يترتب عليها من مشكلات؛ إذ يرون الأمر الكبير سهلاً يسيراً، ولا يلتفتون إلى النتيجة إلا في وقت متأخر، ويفاجئون بأن المقدمات التي استسهلوها وظنوها يسيرة إذا بها تنتهي إلى نتائج كبيرة ووخيمة.
وثالثاً: أن هذه المشكلات –للأسف- لا تخص أصحابها الذين يجهلون بها أو الذين يعرفونها ولا يدركون أخطارها, بل هي بصورة مباشرة أو غير مباشرة تمس الآخرين الذين عندهم نوع من الحرص والإدراك لخطورة هذه المشكلات؛ فإن المجتمع اليوم لم يعد منفصلاً، ولم يعد بالإمكان أن يكون الإنسان بنفسه أو بأسرته قادراً على تأمين جميع جوانب الاحتكاك والاختلاط بالآخرين؛ فإن وسائل الاتصال وإن القضايا الاجتماعية تفرض نفسها أحياناً، وتمس البعيد عنها شاء أم أبى، ومن هنا فإن لهذه القضايا أهميتها الكبرى من هذه الوجوه الثلاثة التي أشرت إليها بإيجاز.
ونبدأ في القضية الأولى، وهي قضية العنصر النسائي في البيوت، والمتعلق بالمربية والخادمة، ولوجود التقارب والتداخل بين المربية والخادمة نتحدث عن الموضوع بغير انفصال، بمعنى: نتحدث عن وجود العنصر النسائي الغريب أو المستخدم في البيوت، وأول ما أشير إليه أن هذه الظاهرة لم تعد قضية محدودة، بل هي في الحقيقة تكاد تكون متجسدة وحاصلة في أغلب الأسر والبيوت، فإن الإحصاءات والدراسات تدل على هذا، فقد نشرت جريدة (المسلمون) في العدد الثالث بعد الثلاثمائة في دراسة إحصائية أن عدد المربيات في دول الخليج يبلغ مليوناً ونصف المليون مربية، ويقصدون بالمربية مسمى المربية التي هي مخصصة لتربية الأطفال، وهي أعم من الخادمة.
وفي دراسة إحصائية أخرى نشرت في مجلة (المجتمع) تقول: إن عدد الخادمات في الكويت يبلغ مائة وثمانين ألف خادمة، ليشكل هذا العدد عشرة في المائة من مجموع السكان، ويعطي معدلاً أن لكل ثلاثة أفراد من مجتمع الكويت خادمة واحدة، ويشكل معدل ثلاث خادمات للأسرة الواحدة! وعند تعميم هذه الإحصائيات -كما سيأتي في بعض الدراسات أثناء الحديث- سنجد أن القضية بحجمها الكبير في الحقيقة تثير الرعب حتى في مجالات أخرى؛ إذ إن بعض دول الخليج أيضاً في دراستها الإحصائية ذكرت أن المستخدمين مع المستخدمات مع العاملين يزيدون بنسبة لا بأس بها، أي: تزيد نسبتهم عن عدد السكان الأصليين بنسبة مئوية لا بأس بها، فيصبح أهل البلد أو أهل المجتمع الذين من المتوقع أنهم في غالبهم تجمعهم ديانة الإسلام في هذه الجزيرة ولغة العرب والحرص على الأحكام الشرعية يصبحون أقلية في مجموع هذه الأخلاط التي سيأتي ذكر جنسياتها ولغاتها ودياناتها المختلفة! فإذاً القضية ذات حجم كبير، وذات أثر خطير لما يترتب عليها من هذه الجوانب.(19/2)
أسباب استخدام الخادمات
في قضية الخادمات نتعرض أولاً إلى أسباب استخدام الخادمات، ولماذا الخادمات في البيوت؟ ثانياً: المخاطر المترتبة على ذلك في الناحية العقدية، ثم في الناحية الأخلاقية, ثم في الناحية الثقافية والتربية الأسرية, والنقطة التي تلي هذه المخاطر المتعلقة بالمجتمع.
إن الأسباب مبنية أو مستخلصة من الدارسات الميدانية الاجتماعية التي نفذت بصورة رسائل علمية أو التي كانت - أيضاً- بتكليفات رسمية؛ فإن مكتب التربية لدول الخليج العربي وكثير من الصحف والمجلات والجامعات تستشعر أو استشعرت أهمية هذه القضية، فكلفت بدراسات, ومن ذلك أن مكتب التربية كلف كل دولة من الدول بإجراء دراسة ميدانية إحصائية, ثم جمعت هذه الدراسات من جميع الدول، وجعل لها نوع من الجمع والتصنيف، بحيث تعطي صورة متكاملة للظاهرة في دول الخليج العربي.(19/3)
الانشغال بالمظاهر الفارغة
السبب الخامس: الانشغال الفارغ بالمظاهر والعادات الاجتماعية، فإن المرأة تقول: إنها مشغولة.
وليس عندها عمل، لكنها مشغولة بالزيارات، وبالاتصالات الهاتفية التي تمتد إلى الساعات، وبالذهاب إلى مشغل الخياطة، وبالاعتناء ببرامج التخفيف، وبحضور الأعراس، وكلما تزوجت واحدة أو ماتت واحدة أو ولدت واحدة في شرق الأرض أو غربها لابد من أن تذهب لزيارتها، فإذاً هي مشغولة, وبالتالي لابد من أن يكون هناك من يقوم بالعمل بدلاً عنها، بينما حقيقة هذه المشاغل كلها مشاغل فارغة لا يمكن أن تزاحم المهمة الأولى للمرأة في بيتها في رعاية زوجها وتربية أبنائها وحفظ بيتها، وهذه الناحية الاجتماعية والمظاهر الاجتماعية تجعل المرأة مشغولة، وتجد بعض النساء تقول: إنها مشغولة لمدة أسبوع أو لمدة شهر متقدم لهذه المواعيد وهذه السخافات التي -للأسف- طغت في بعض صور ومظاهر الأسر والمجتمعات، وأصبحت أولويات لا يمكن التنازل عنها، بل هي التي تكون مقدمة، وغيرها إما أن يصرف، وإما أن يلتمس له تأجيل أو نحو ذلك، أما هذه فلا يمسها التأجيل، ولا يمكن أن يطالها الإلغاء، ولا يمكن أن يكون فيها أية صورة من صور التنازل.
وهذا السبب -أيضاً- يتعلق بالرجال؛ فإن الرجل أيضاً يقول: إنه مشغول.
فهو دائم السفر، ودائم الزيارة لأصحابه، ودائم الحضور في المجالس والمقاهي والسمر ولعب الورق وغير ذلك، وعنده المواعيد التي ليس فيها إلا القيل والقال، وبالتالي هو منشغل، وإذا أراد أن يسد الباب على زوجته بعدم تحقيقه للمطالب أحضر السائق وأحضر الخادمة، فإن لم يكفها أتى بثانٍ وثانية، حتى يسكت الجميع ويتفرغ هو لأشغاله المهمة مع أصحابه الفارغين، وهذه المظاهر –للأسف- موجودة في صفوف بعض الرجال.(19/4)
عمل المرأة خارج المنزل
السبب السادس: عمل المرأة خارج المنزل، حيث إن المرأة تكون موظفة مدرسة أو طبيبة أو نحو ذلك، وسيأتي الحديث عن هذا لاحقاً، وفي بعض الدراسات أثبتت أن ستين وسبعة من عشرة في المائة في بعض العينات سبب إحضار الخادمة فيها هو أن المرأة تعمل، بينما بعض الدراسات -مثل دراسة أجريت في البحرين- تقول: إن عمل المرأة ليس سبباً أساسياً في وجود الخادمة، بل هو سبب عارض.
أي: ليس هو الأساس.
وهناك دراسات أخرى في مناطق أخرى تدور على أنه ربما يكون أول وأهم الأسباب.(19/5)
وجود الظروف الطارئة
السبب السابع: الظروف الطارئة وغير المعتادة، ووجود الحاجة الحقيقية.
وهذه الظروف الطارئة هي مثل مرض المرأة، كأن تمرض الزوجة بحيث لا تستطيع أن تقوم بمهمات المنزل أو تعجز بمرض مقعد أو نحو ذلك، أو لو جود حاجة حقيقية من كثرة الأعمال والأعباء, كأن يكون البيت كبيراً والأولاد كثيرين، والوضع الاجتماعي فيه كثير من الدعوات والمناسبات، ويتردد عندهم أقارب كثيرون ونحو ذلك، أي: وجود حاجة حقيقية يظهر من خلالها أن المرأة لا تستطيع أن تقوم بهذا العبء وحدها، وتحتاج إلى إعانة، وليس نوعاً من الاستبدال الكلي أو الكامل.(19/6)
ضعف الاهتمام بمراعاة الأحكام الشرعية
السبب الأخير: ضعف الاهتمام بمراعاة الأحكام الشرعية، أو الجهل بها، وقد يأتي أي سبب من الأسباب السابقة، لكن لو كان حريصاً على مراعاة الشرع لفكر في الأضرار الشرعية، ولنظر قائلاً: هل هناك مخالفات شرعية؟ وهل هذا يجوز؟ لكن عدم وجود المراعاة للأحكام الشرعية، وعدم الاحتفاء بها، حتى عدم المعرفة بها -أيضاً- هو من الأسباب التي تجعل الناس يتساهلون ولا يدققون أو يتحرجون أو يمتنعون عن مثل هذا.
فهذه جملة من الأسباب التي تستدعي وجود الخادمة, وبغض النظر عن أي سبب من الأسباب فإننا نناقش هذه الخادمة وقد وجدت في المنزل, ولأي سبب أتت لا يهمنا، لكنها الآن موجودة في المنزل وفي الأسرة، فما هي المخاطر المترتبة على وجود الخادمة أو المربية؟(19/7)
محاكاة الآخرين
السبب الرابع -وهو من أخطر الأسباب-: المحاكاة الزائفة للآخرين، والمظاهر الاجتماعية الكاذبة، فكما أنه لابد من أن يكون ديكور المنزل جميلاً، وأن يكون في الصالون النجف كذلك لابد من أن يكون في البيت الخادمة، حيث أصبحت عبارة عن مظهر تماماً مثل بقية أجزاء الديكور ولو لم تكن هناك حاجة، فلماذا يكون عند فلانة خادمة وفلانة ليس عندها خادمة؟! أو الأسرة تقول: لماذا آل فلان عندهم خادمتان ونحن ليس عندنا أي خادمة؟! فلابد من إكمال هذه الصورة.
وهناك دراسات تدل على أن هذا السبب يحظى بنسبة عالية في مسألة الاستعانة بالخادمات، فهناك دراسة من هذه الدراسات في دول الخليج تدل على أن استقدام الخادمات مرادف للوجاهة الاجتماعية، ولا يرتبط باضطرار المرأة إلى العمل خارج المنزل، أي: ليس السبب هو أن المرأة تعمل، بل لمجرد الوجاهة الاجتماعية، بل إن بعض الاستفتاءات دلت على أن أربعين في المائة من أولياء أمور الأسر جعلوا الخادمة سبباً من أسباب ظهور الأسرة بمظهر لائق، فهذا رب الأسرة هو الذي يأتي بالخادمة، وليس هو الذي يحتاج إليها؛ لأنه ليس هو المناطة به أعمال المنزل حتى نقول: هو يحتاج إليها.
بل هو المستغني، ولو قيل: إن هذه النسبة في النساء أو في ربات البيوت لكانت معقولة، لكن النسبة في الرجال الذين يقولون: إن وجود الخادمة سبب من أسباب الظهور بمظهر لائق للأسرة.
وهذه مسألة -للأسف- أصيلة في كثير من البيئات والمجتمعات، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.(19/8)
الترف
أول الأسباب -وهذه الأولية ليست أولية نسبة، وإنما أول سبب نذكره- هو الترف، وزيادة الرفاهية, وارتفاع مستوى المعيشة؛ فإنه معلوم أن المجتمع الخليجي بحكم البترول والطفرة التي يُعلم ما كان من شأنها واشتدادها خاصة في بداية التسعينات الهجرية أدت إلى حصول نوع من الارتفاع في مستوى المعيشة، والحرص على إبداء كل مظهر من مظاهر الترف والتنعم والترهل والاستمتاع بكل أسباب الراحة المتوهمة عند أصحابها, والذي يلاحظ هذه الظاهرة أو يريد أن يتأكد منها فإنه يجد أن القضية ليست فقط محصورة في طبقة الأغنياء، بل لما صار ارتفاع مستوى المعيشة يعم معظم القطاعات أو كثيراً من الأسر في هذه المجتمعات أصبحت هذه الظاهرة موجودة حتى في القرى والمدن الصغيرة، وأضرب لذلك أمثلة واقعية: ففي مدينة خليصة -على بعد ثمانين كيلو متر من جدة- وهي بلدة صغيرة ربما تسمى (بليدة) ولك أن تسميها تجوزاً مقارنة بالمدن الكبيرة قرية, لكن يفاجأ الإنسان حين يعرف أن هذا المجتمع الصغير الذي ربما ليس فيه مظاهر المدنية الكبرى التي تتضح في المدن يفاجأ بأن أكثر من ثمانين أو تسعين في المائة من البيوت فيها خادمات, بل إن كثيراً من الأسر عندها خادمتان.
هذه الصورة أيضاً تجدها في كثير من القرى والهجر، حتى إن القضية أصبحت مسألة داخلة ضمن الاحتياجات والمصاريف المعتادة.(19/9)
الانفتاح والاتصال بالمجتمعات الأخرى
السبب الثاني: الانفتاح والاتصال بالمجتمعات الأخرى، ونشوء مفاهيم مغلوطة ربما ساعد عليها المستوى التعليمي الثانوي والجامعي وما فوق ذلك, وأصبحت هناك أفكار من خلال الانفتاح على المجتمعات الغربية على وجه الخصوص التي عندها دور الحضانة, واستئجار المربيات, والحرص على الخادمات، وكذلك المجتمعات المتمسلمة في كثير من الديار الإسلامية التي لا تطبق شرع الله سبحانه وتعالى، والتي فيها كثير من الانحرافات.
وأيضاً قررت هذه المسألة كقضية اجتماعية عادية، بل ربما تصور على أنها أمر لازم وحتم لا مفر منه, واتصال المجتمعات ببعضها جعل هذه القضية أيضاً أسهل وأقرب وأدعى لتصور الحاجة إليها والافتقار إليها من الأمر الحقيقي الذي هي عليه, بمعنى أن هناك تضخيماً لمسألة الحاجة إلى الخادمة أكثر من الحقيقة، وذلك من خلال الانفتاح والاتصال, وكذلك أحياناً مستوى الجامعيات والأمهات اللاتي يتلقين تعليماً عالياً ترى إحداهن أنه ليس من المعقول أن تكون حاملة لشهادة الماجستير ثم تقوم بأعمال الطبخ أو الكنس، بل لابد أن تكون حياتها متناسقة ومتناسبة مع هذا المستوى, فلابد إذاً من أن تترفع عن هذه الأعمال, وإذا ترفعت عن عنها فلابد من أن يقوم بها أحد غيرها أو أن تتولى ذلك الخادمة.(19/10)
الاتكالية والكسل
السبب الثالث: التربية الاتكالية التكاثرية التكاسلية في المجتمع، والناشئة عن الأمرين السابقين، والتي تولد احتقار العمل اليدوي وممارسة المهن المنزلية, فإن التربية التي تولد من خلال هذه البيئة تنتج مثل هذا الاحتقار، فتجد أن المرأة تأتي من بيئة عندها خدم وحشم, فهي أصلاً متربية تربية فيها اتكالية واعتماد على الغير، وفيها تكاسل وعدم رغبة في العمل أو القيام بالواجب مطلقاً، فهذه النفسية هي التي تستدعي الحصول على الخادمة، وليست الحاجة الحقيقية، حتى إن الإنسان يجد بعض الأسر تشترط على الزوج قبل زواجه أن يوفر الخادمة؛ لأن ابنتهم لا تستطيع أن تتعب أو أن ترهق أو أن تقطع يدها في أثناء عمل المطبخ.
وهذه الصورة نشأت في المجتمع حتى –للأسف- في الشباب، وليس فقط في الفتيات، فتجد أنه بحكم التربية الضعيفة الهزيلة لا يعتمد على نفسه، ولا ينطلق في العمل، ولا يأخذ الحياة بجد، بل هو دائماً في كسل وخور، ويحتاج دائماً إلى من يقوم عنه بالمهمات، ومن يؤدي عنه الواجبات.(19/11)
المخاطر المترتبة على وجود الخادمة في المنزل
هناك مخاطر عديدة وواقعية جداً، كما سنذكر في بعض الحوادث, وأول هذه المخاطر وأهمها المخاطر العقدية المتعلقة بالعقيدة، والانحرافات عن العقيدة الإيمانية الصحيحة، فعندما نأخذ بعض هذه الدراسات نفاجأ بقضية خطيرة تتمثل في هذه الأرقام في الدراسات الخليجية التي أعطت أن اثنتين وأربعين في المائة من ديانة الخادمات هي الديانة المسيحية، وأن أربعاً وثلاثين في المائة هي الديانة البوذية، وأن تسع عشرة في المائة هي الديانة الوثنية، أي: لا دينية، وأن خمساً في المائة هن المسلمات من هؤلاء الخادمات! هذا في مجموع الدراسة الإحصائية لدول الخليج.
وهناك فرق في بعض الدراسات، وسنذكر بعض الدراسات المتعلقة بالمملكة على وجه الخصوص, فالدراسة الخليجية هذه تذكر أن عدد سبعة وتسعين وخمسة من عشرة في المائة من هؤلاء الخادمات غير المسلمات يؤدين طقوسهن الدينية، ويحافظن عليها، ولاشك أن الواحدة منهن ستؤديها في البيت أمام الأطفال وأمام أهل البيت.
وأيضاً في دراسة ميدانية أخرى خليجية دلت على أن ستين في المائة إلى خمس وسبعين في المائة من ديانات الخادمات ديانات غير سماوية، اي: ليست مسيحية ولا نصرانية مطلقاً.
ثم الذي يعطي الخطر الأكبر من كل الأرقام أن خمسين في المائة من الأسر تعطي الإشراف الكامل على تربية الطفل لهؤلاء الخادمات، ونسبة واحد وأربعين في المائة من الأسر تعطي الإشراف الكامل لألعاب الأطفال وتسليتهم لهؤلاء الخادمات كاملاً، ونسبة خمس وعشرين في المائة من الخادمات في دراسة في الكويت ثبت أنهن يتحدثن مع الأطفال في قضايا الدين والاعتقاد، ويُلِّقنَّ الأطفال بعض هذه المعتقدات التي هي من ديانتهن، ولذلك قال أحد الباحثين: إن الطفل يتعلق بهذه الخادمة والمربية التي لا يرى غيرها، بل يراها ويجلس معها ويتحدث إليها أكثر من أمه وأبيه وأخته وأخيه، فلذلك هي عنده محل قدوة.
يقول الباحث: فكل ما عنده من مشاعر وقيم ومهارات وخبرات–يعني: يتعلق بها- فهي معلمته وملهمته، وسكنه الجسدي والنفسي، وكل شيء في حياته.
ولو لم نتعرض في هذه القضية إلا لهذه الأرقام لكفى أن نتصور ما هي النتائج المترتبة على مثل هذا الأمر.
وأما بعض الإحصائيات المتعلقة بالمملكة فإن عدد ثمانية وستين وثمانية من عشرة في المائة من جنسيات الخادمات من الأندنوسيات، وإن لم تكن كل هذه النسبة من المسلمات، ولكن -أيضاً- كون الخادمة مسلمة إنما هو بالهوية، فهي لا تعرف الإسلام ولا تلتزم به، وعلى هذا تبقى المخاطر كما هي وإن كانت أقل أو أخف مما يثبت.(19/12)
خطر الخادمات على الجوانب الأسرية
الخطر الرابع: ما يتعلق بالناحية الأسرية, فإنها أيضاً تشكل مخاطر على الأسرة بشكل عام بعيداً عن هذه الجوانب التي أشرنا إليها, ومنها: انعدام الشخصية في الطفل، فيصبح الطفل معتمداً اعتماداً كلياً على الخادمة، ولا ينشأ شخصية يمكن أن تعتمد على نفسها.
ومنها: ضعف العلاقات الأسرية بين الأفراد، فكل فرد من أفراد الأسرة له علاقة واعتماد على الخادمة أكثر من الآخرين, فالزوج يتعامل مع الخادمة أكثر من معاملته مع زوجته, والزوجة تتعامل مع الخادمة أكثر من تعاملها مع زوجها, والابن يتعامل مع الخادمة أكثر من تعامله مع أبيه ومع أمه, فإنه يسألها عن الذين ذهبوا والذين حضروا، ومن هو موجود، ومتى خرج، ومتى دخل، ويسألها إذا أراد طعاماً أو شراباً, ويسألها إذا أراد أي أمر من الأمور، وبالتالي تتقطع الأواصر بين الأسرة، وتصبح هذه الخادمة هي الوسيط، حتى إن الخادمات أصبحن يقمن بحل المشكلات بين الزوج والزوجة، أو بين الأبناء والآباء، وإذا غضبت البنت فإن الزوجة أو الأم توسط الخادمة حتى تهدئ البنت وترضيها ونحو ذلك، وأصبحت الخادمة هي المحور الأساس في الأسرة, وبالتالي تستطيع أن تمارس الدور بقوة, بل بالفرض أحياناً وبالتهديد الإجباري بالرضوخ لأوامرها والاستجابة لها, لا سيما إذا كان عندها من المواقف والأحداث ما تمسكه وتهدد به المرأة أنها قد تكشفها أمام زوجها, أو الزوج أن تكشفه أمام زوجته، أو الابن أو البنت ونحو ذلك من الأمور.
وكذلك إثارة المشاكل قد تتولد بسبب الخادمة بين الزوج والزوجة, فهو يقول لزوجته: لماذا الخادمة أحسن منك؟ وهي تقول له: أنت دائمًا تنظر إلى الخادمة.
فصارت الخادمة هي مسار الخلاف والنزاع باستمرار, وربما لو أخرجت لكانت بمثابة نزع فتيل الاشتعال.
والنقطة الأخيرة في مسائل الخادمات: ما يتعلق بالتأثير على المجتمع، فالقضية ليست قضية الأسرة كما أشرت, وإنما القضية أنه داء قد يعم الآخرين, من ذلك انتشار الجريمة وفواحش الزنا على وجه الخصوص، فإن الخادمات يمارسن الفواحش، سواء مع السائقين أو مع العاملين أو مع الراغبين، ويبعن أعراضهن بثمن بخس، كما يحصل في كثير من الوقائع، فإن وجودهن بلا أزواج وبلا ضوابط إيمانية أو ضوابط أخلاقية يجعلهن بمثابة سوسة تنخر في كيان المجتمع كله.
ومن الجرائم أيضاً السرقة، فكم نسمع أن خادمة سرقت, وأن خادمة نهبت، ويحصل بذلك كثير من المشكلات.
وتتدرج الجرائم فتصل إلى حد القتل, وكم قرأنا عن خادمة جاءت على أهل البيت عن بكرة أبيهم وذبحتهم واحداً واحداً! لأنها تعرف وقت نومهم, وتعرف مفاتيح أبوابهم, وتعرف مواطن ضعفهم، لأنها قد يكون لها غرض في سرقة أو غرض في انتقام أو نحو ذلك.
وفي مسألة المجتمع إفساد الذوق العام, وتحطيم العرف الشرعي, فيمكن أن تجد في الأسرة أن البنت تتحجب ولا تختلط, لكن الخادمة نوع آخر, ونجد أيضاً نساءً في الشوارع أو في الأسواق قد يتحجبن، لكن نجد المرأة بجوارها خادمتها ليست متحجبة, وهذا نوع من التحطيم للعرف الشرعي وللآداب الشرعية, ونوع من إفساد الذوق العام في الظواهر الاجتماعية في الأسواق وفي المجتمعات وفي المناسبات وغير ذلك من الأمور.
وقد أطلنا في هذا الجانب لأنه أكثر الجوانب حيوية, وأكثرها خطورة في نفس الوقت.(19/13)
خطر الخادمات على الثقافة والتصورات واللغة العربية
الخطر الثالث متعلق بالثقافة والتصورات، خاصة في اللغة، ففي الإحصائيات التي أجريت على دول الخليج ذكرت أن ثمان في المائة فقط من الخادمات لديهن إلمام باللغة العربية, والبقية ليس عندهن هذا الإلمام, فتجد العجمة سرت إلينا من لكنة الخدم, وأصبح كثير من الأسر يستخدم الكلمات من اللغة الهندية أو اللغة الأندنوسية، وأصبحنا نذكّر المؤنث ونؤنث المذكر, ونخلط خلطاً عجيباً لأجل أن نتفاهم مع هؤلاء.
وهذا لا شك أنه يغير الذوق عند الإنسان, ويغير ملكته وقدرته على القراءة والاستيعاب؛ لأن هذه الانحرافات لها أثر في القضية التعليمية، خاصة عند الصغار، فالصغير ينحرف تماماً في هذا الجانب، ويصبح فهمه للغة وتفاعله معها وقراءته واستفادته من قراءته في اللغة ضعيفاً في هذا الجانب.
وكذلك من الناحية المتعلقة بالجانب الفكري والثقافي، فما تقرؤه الخادمة، وما تتابعه من الاهتمامات في القدوات والفن والقصص الماجنة ونحو ذلك ينعكس بصورة أو بأخرى على الأطفال والأسرة.(19/14)
المخاطر العقدية المترتبة على تعلق الطفل بالخادمة
وعندما نريد أن نضع بعض النقاط لهذه المخاطر المتعلقة بالعقيدة خاصة في سن الطفولة فإن أول هذه المخاطر تتركز في عقيدة الولاء والبراء, فإن الطفل والصغير ينشأ على حب الكفار, وربما تعظيمهم والثناء عليهم, والنظر إليهم على أنهم هم المقدمون وهم الأفضلون؛ لأنه يرى ذلك من خلال تعلقه بهذه الخادمة أو المربية.
الأمر الثاني: تلقين مبادئ هذه الديانات المختلفة والمنحرفة للأطفال, وذلك في صور شتى كثيرة، وبعض النسب من الجنسيات تذكر أن (1.
5) من الخادمات في منطقة الخليج من الجنسية الإنجليزية يعملن مربيات وخادمات، ومن المتوقع أن الإنجليزية ليست ذات حاجة، بمعني أنها لم تأت لتخدم لأنها تريد أن تأكل لقمة العيش مثل التي تأتي من جنوب شرق آسيا أو من أدغال أفريقيا أو نحو ذلك, بل إن الدراسة تقول: إن هؤلاء الخادمات أكثرهن حاملات للشهادات الجامعية، وعندهن مؤهلات تربوية, لكن هؤلاء النساء والخادمات بشكل مباشر يقمن بمهمة التنصير التي سأذكر أنها هدف مهم جداً من خلال إيجاد فكرة الحاضنات ودور الرعاية والحضانة والتربية للأطفال، خاصة مع وجود التكامل في إخراج المرأة للعمل, ثم تضييعها, ثم انتزاع الأطفال وتربيتهم، فيفسد المجتمع والأسرة, وتدمر من كل العناصر؛ لأنها كذلك تجد أن عنصر الشباب والشابات لهم أيضاً ما يصرفهم، كما سيأتي في مسألة الهاتف والفيديو.
وفي دراسة أجريت في المملكة العربية السعودية ذكرت هذه النتائج من الناحية العقدية: الأمر الأول: كثر عند الأطفال الاحتفال بأعياد الميلاد والمناسبات التي تتعلق بديانات الكفار، فإننا نجد كثيراً من البيئات –للأسف- تجد فيها أن الابن يتعلق بعيد الميلاد وبعيد المسيح ورأس السنة ونحو ذلك، لما يتلقاه من هذه المربية أو الخادمة، وإذا كانت الأسرة مساعدة على ذلك فهذا شر وشر، وإذا كانت لاهية فإن الخادمة تستطيع ممارسة هذه الأمور مع ربيبها في غرفتها, وتأتي له بالشمعة، وتمارس كل شيء؛ لأن الأهل غائبون أصلاً لا وجود لهم، وللأسف نجد أن هذه ظاهرة مشاهدة في المجتمع, فإنك تجد بعض المطاعم الآن لها قسم مخصص للأطفال, وتجد أنه مخصص لأعياد الميلاد، ولبعض الحفلات التي يدعو فيها الطفل زميلته أو زملاءه ليقيم لهم حفلة, ويكون الحضور لهؤلاء الأطفال ومن معهم من الخادمات, وقد رأيت هذا بعيني في بعض هذه الأماكن.
فإذاً التعود على شعائر الكفر وأعياد الكفر لا شك أنه نوع من انتزاع الولاء والبراء, ونوع من التلبس بانحرافات عقدية ظاهرة.
الأمر الثاني في هذه الدراسة: وجود عدم الحرص والجدية على أداء الصلوات في أوقاتها, والتسيب والتفريط فيها، وعدم الاهتمام بها إلى درجة ضعيفة جداً.
الأمر الثالث: الحرص على مشاركة الخادمات في الاستماع للبرامج الأجنبية، والقراءات في الكتب الدينية.
الأمر الرابع: إثارة أسئلة وجدل حول القضايا الدينية، ولا شك أن هذه القضية خطيرة جداً، فإنه قد ذكرت جريدة (الهدف) رغم انحرافها في عام ألف وأربعمائة وعشرة من الهجرة مقالاً قالت فيه: أطفال يعبدون النار أمام البوتجازات أو الغاز؛ لأنهم يتأثرون بالخادمات الوثنيات اللاتي يقدسن النار، فيأتي الأهل فيجدون الطفل وهو أمام الموقد وهو يؤدي طقوس العبادة لهذه النار! وهذا أمر نتج عن تحقيقات صحفية واقعية.
وهكذا إثارة قضايا الجدل في الدين: لماذا هذه الصلاة؟! ولماذا هذا الحجاب؟! ولماذا هذا الدين؟! ولأي شيء تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟! خاصة بالنسبة للطفل الصغير، فإنه على أقل تقدير يشكك في هذه العقائد، بينما لو كانت الأسرة مسلمة محافظة فإنها تسعى إلى أن تلقن هذا الطفل العقيدة السليمة، بدءاً من الأذان في أذنه عند ولادته ليسمع كلمة التوحيد، وتحنيكه إلى آخره، فينبغي أن تغرس فيه هذه المعاني، وليست مهمتها أن تتركه، بل ينبغي أن تغرسها فيه، لكن أن تتركه لتغرس فيه معانٍ وعقائد كفرية مخالفة لهذا الدين فإن الأمر يتحقق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فهؤلاء تركوه للخادمة لتهوده أو لتنصره أو لتمجسه أو لتخرجه من دينه وتشككه في حقائق هذا الإيمان.
الأمر الخامس في الانحرافات العقدية: تحليل الحرام وتحريم الحلال، فإن التلقين الذي يحصل يجعل الطفل أو الصغار يحللون الاختلاط، ولماذا يكون حراماً؟! ويحللون الخمر، ولماذا تكون حراماً؟! وأتكلم عن بيئات الخليج بشكل عام؛ لأن الدراسة أيضاً تشمل بعضها, وهذه كلها صور من الانحرافات العقدية.
وأذكر نصين: أحدهما متعلق باليهودية, والآخر متعلق بالنصرانية: ففي (برتوكولات حكماء صهيون) نص على أن من أساليب اليهود وإفسادهم للمسلمين وصرفهم عن دينهم -كما يقولون- إشاعة الانحراف والخلل العقائدي عن طريق ما يقول عنه النص: هذه الأعمال التي أغراهم بها وكلاؤنا ومعلمونا وقهرماناتنا في البيوت الغنية.
والقهرمانات هن المربيات, ولك أن تتصور أو أن تعرف أنه كلما كانت الأسرة راقية في المستوى المادي كلما كان عندها من الخدم أصحاب التطور الحضاري وأصحاب الشهادات العالية من يكونون أقدر على تثبيت هذه الانحرافات العقدية وغرسها في الأطفال وفي الأسرة, وكذلك يكون في غالب البيئات المترفة التي هي أبعد عن التعلق بأبنائها, ونرى أن الطبقات العالية في المجتمع من أصحاب الأموال والثراء, ومن أصحاب الوجاهة, وربما من أصحاب السلطة يسلمون أبناءهم الذين هم أمل المستقبل في إدارة دفة الأمور وفي تولي كثير من المناصب يسلمونهم لهؤلاء الخادمات ليقمن بهذه العملية التدميرية المسخية للعقائد.
وهذا نص بالنسبة للنصرانية أو للمبشرين: يقول أحدهم: يجب أن نؤكد في جميع ميادين التبشير جانب العمل بين الصغار وللصغار, وترانا مقتنعين لأسباب مختلفة بأن نجعله -أي: هذا العمل- عمدة عملنا في البلاد الإسلامية؛ لأن الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكراً جداً.
يقولون: إن الإسلام يفسد به الأطفال، أي أن المسلمين يفسدون أطفالهم بهذا الإسلام منذ صغرهم, فإذا كان الصغير الذي لا يعقل يقول: (لا إله إلا الله) ويقول: (الله أكبر) وإذا قلت له: من أين جاءك هذا؟ قال: من الله.
من أعطاك هذا؟ قال: الله.
فإن هذا الفساد -في نظرهم- يبدأ مبكراً، من أجل ذلك يجب أن يحمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغهم الرشد, وقبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية.
إذاً المسألة واضحة في هذا الجانب, والخطر عظيم جداً, ليس الخطر متعلقاً بالصغار في الحقيقة, بل إن الخطر -أيضاً- متعلق حتى بالكبار من الشباب والشابات, خاصة في ظل وجود الفراغ العلمي، بحيث تجد كثيراً من هؤلاء لا يعرفون دينهم, ولا يعرفون الحقائق الإيمانية عن يقين وعن وضوح، بحيث إنه يمكن أن تكون الشبه التي تطرح والتساؤلات التي تلقى تثير عندهم الريبة, وتزعزع عندهم المسلمات العقدية, بل إنه تنشأ هناك ظاهرة موجودة في الأسر حتى عند أرباب الأسر من الرجال والأزواج, وهي موضوع حرية التدين وإخاء الأديان, فيقول أحدهم: أنا عندي خادمة مسيحية, وعندي سائق بوذي, والحقيقة أن لهم أخلاقاً جميلة, وتعاملهم جميل, وهذه كلها ديانات, ولكل إنسان أن يأخذ الدين الذي يراه, وليس هناك مانع في مثل هذا, والأديان كلها واحدة, والأديان قضية شخصية.
وهذا لا شك -أيضاً- أنه انحراف عقدي؛ لأن فيه أن لا يوقن الإنسان بأن الإسلام كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وأن لا يوقن بأن هذا الدين فحسب هو الدين الخالد الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لعباده وللناس أجمعين, وأن بقية الديانات السماوية علاها التحريف حتى غدت في كثير من نصوصها كفرية, فهذا الاعتقاد عدم وجوده في المسلم هو نوع من التميع في الاعتقاد, بل نوع من الانسلاخ من حقائق أساسية في هذه العقيدة الإيمانية, إضافة إلى الحب والولاء لهؤلاء الكفرة من الخدم أو الخادمات.(19/15)
خطر السائقين والخدم على الأسرة والمجتمع
أنتقل إلى النقطة الثانية، وهي قضية السائق أو الخادم, والأسباب هي نفس الأسباب السابقة في الغالب، أعني موضوع الترف والمحاكاة وما يلحق بذلك, وانشغال الأب ونحو هذه الأسباب, والمخاطر أيضاً فيها نوع من التقارب, لكن هنا اختلاف، فهناك العنصر النسائي مع الرجال, وهنا العنصر الرجالي مع النساء.
فمن هذه المخاطر خلوة السائق بالنساء من زوجة أو بنت أو غيرها, وكثرة الخلطة؛ فإن بعض صور التفريط تجعل السائق أكثر اختلاطاً بنساء البيت من الأب مع بناته, ومن الزوج مع زوجته, فالسائق يعرف ذوقها في الألوان، ويعرف مزاجها في الاستيقاظ والنوم، ويعرف تحب من الأطعمة ونحو ذلك، فيستطيع أن يلبي هذه الاحتياجات ويستحوذ على قلب المرأة، والمرأة مخلوقُ ضعيف، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فهي تسترقها الكلمة العذبة, ويستمليها التصرف الجميل, وأحياناً تظهر التصرفات على أنها نوع من المجاملات العادية, فقد يهدي للبنت أو للزوجة, أو يثني على مظهرها, فهو الذي يذهب بها إلى مكان التجميل, فإذا خرجت يقول لها باللهجة العامية أو بلهجته المتكسرة: أنت اليوم جميل.
أو نحو ذلك، فيلفت نظرها, فتسمع منه ما لا تسمعه من زوجها، وكثرة الخلطة تؤدي إلى أن يكون هناك سبب وتهيئة لحصول الفاحشة والجريمة, وهذا يقع أحياناً.
النقطة الثانية في خطورة السائق أنه يعلم ويجمع الأخبار, ويتستر ثم يضغط, وقد يستفيد من هذه الأحوال، فهناك انحرافات, وهناك تجاوزات, حيث قد تخرج المرأة بغير أذن زوجها، والذي يوصلها هو الخادم، فيعرف المكان الذي ذهبت إليه، وقد تقوم البنت أحياناً عندما يوصلها إلى مكان بعمل معين، وهو يشاهدها, بل هو الذي يرافقها، وللأسف فهناك بعض النساء يرافقهن السائقون إلى داخل المحلات التجارية, فالمرأة تشتري وهو الذي يحمل, فيعرف ما أشترت من ملابسها، ويعرف أخص ما تحتاج إليه من كل الأمور، فيطلع على هذا, ويطلع على بعض العلاقات وبعض المخالفات, وبعض الأمور يتستر عليها, وقد يكون وسيط سوء، كما قد تكون الخادمة كذلك في تسهيل الأخطاء والفواحش.
وأيضاً قد يستخدم هذا لأسلوب الضغط ليحظى هو أيضاً بهذه الجريمة أو الفاحشة، عياذاً بالله سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً يقع؛ لأنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره.
النقطة الثالثة: وقوع الفواحش خارج إطار الأسرة, وذلك بين الخدم والخادمات, وشيوع هذا الأمر، حتى ترتب عليه عدم الاهتمام بهذا الجانب.
النقطة الرابعة: عدم الاهتمام بالأحكام الشرعية, فكأن هذا السائق رجل من فصيلة أخرى من غير فصيلة بني آدم، ومن غير جنس البشر, فالمرأة تتكشف أمامه, وتنبسط معه, وتتحدث إليه, وقد تضع يدها على ظهره, وقد تصافحه, وقد تمزح معه وتظنه شيئاً آخر, وما هو إلا رجل فيه فطرة الله التي أودعها في كل إنسان, ويقع مثل هذا الأمر.
وهكذا الجرائم التي أشرت إليها من السرقة والقتل والفاحشة التي تقع سواءً في مجتمع الأسرة أو في المجتمع العام هي أيضاً داخلة في هذا الإطار.(19/16)
الأسباب التي تجعل من الهاتف مشكلة
القضية الثالثة: قضية الهاتف, وما أدراك ما الهاتف -كما يقولون-! فهناك نقاط نحتاج إلى إيجازها بشكل محدد حتى لا نغفل النقاط، وإن كان نغفل التفصيل فيها, فما هي الأسباب التي تجعل من الهاتف مشكلة؟ أولاً: عدم التربية الأخلاقية الإيمانية، فهناك تسيب وعدم التزام من أفراد الأسرة مما يسهل هذا.
ثانياً: عدم التوعية، فإنه قد تكون الفتاة متربية أو الفتى متربياً، لكن لا يوعيان ببعض المخاطر وبعض المزالق وبعض ما ينشأ عن هذه الأجهزة من أمور لا يفطن لها.
ثالثاً: عدم المتابعة والمراقبة، لأنه حتى بعد التربية والتوعية قد يحصل الخطأ مرة, فلابد من أن يكون هناك تنبيه ولفت نظر وتذكير وموعظة, أما الغفلة فإنها تجر شيئاً وراء شيء آخر.
رابعاً: تأثير الإعلام والمجتمع، لأن هذا التأثير يصل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الأفراد، فيتعلقون بالهاتف من الوجه السلبي الذي سيأتي ذكره.
ثم هناك أسباب عملية في حصول المشكلات الناتجة من الهاتف.
الجانب الأول: من هذه الأسباب -ولعله من أولها وأخطرها-: التبريرات الوهمية في الاستخدام الخاطئ للهاتف, فمثلاً: يتصل الشاب بخطيبته، وينبسط معها بحجة أنها خطيبته أو أنه يريد أن يخطبها, أو يريد أن يتصل بواحدة ليتعرف عليها ومن ثم يختبرها ويفحصها وبعد ذلك يخطبها ويتزوجها, فهو له مقصد شريف, وأحياناً قد تكون مثل هذه الأمور بحسن نية، وإن كانت من جهة الشباب يغلب عليها سوء النية ومن جهة الفتيات -في بعض الأحيان إن لم يكن في أكثرها- يغلب عليهن الغفلة وحسن النية.
ومن هذه التبريرات الوهمية التجربة, فالشاب يسمع عن المعاكسات وكذا, فإذا جاء اتصال يقول: لماذا لا أجرب؟! وهذا نوع من حب الاستطلاع، ونوع من هذه التبريرات, وكذلك أيضاً تقول الفتاة: أنا في البيت وهو بعيد، فلماذا لا أعطيه كلمتين وآخذ وأعطي معه حتى أرى ماذا يمكن أن يكون؟ ثم لا يعلم الإنسان أن هذا بمثابة الشبكة التي تصيد السمك.
ومن التبريرات الوهمية أيضاً قصد النصح والوعظ, فقد تتصل واحدة فيقول: دعني أذكرها وأعظها وكذا.
وإذا به يقع، وقد وقع هذا في تجارب عملية.
فهذا الجانب الأول, وهو التبريرات الوهمية.
الجانب الثاني: التساهل في الاستخدام, فهناك استخدامات مطلوبة, فقد تضطر المرأة إلى الاتصال –مثلاً- بجهة معينة أو بأسرة معينة, فيرد رب الأسرة، فتطلب زوجته أو تطلب ابنته أو نحو ذلك, وهذا الأمر يحصل, لكن التساهل يحصل أنه إذا رد رب الأسرة تقول له: كيف الحال؟! وهل أنتم طيبيون؟! وكذا، أو تتصل هي لتقضي غرضاً معيناً, أو تتصل بالمستشفى لتسأل عن موعد العيادة, أو تتصل وتوسع دائرة الاتصال، وهذا التساهل يعود على كثرة الاتصال بين الرجال والنساء؛ مما قد يقع به بعض الخطأ والخلل.
الجانب الثالث من الأسباب العملية -أيضاً- وجود أرقام هاتفية خاصة لكل فرد أو لبعض أفراد الأسرة, فهناك رقم للفتاة, ورقم للشاب, ورقم للزوجة, أو على الأقل بعضهم يكون عنده رقم خاص, وهذا سبب مهيئ لحصول بعض المشكلات والمفاسد.
الجانب الرابع: عدم التدقيق في المكالمات وطبيعتها من ربات وأرباب الأسر، فالمكالمة الليلية التي تأتي بعد منتصف الليل لابد من أن تثير الريبة, فما هو الأمر الجلل الذي يستدعي هذا الاتصال؟! وما هي القضية المهمة التي تدفع إلى المهاتفة في مثل هذا الوقت؟! وهذا السبب أيضاً الغفلة عنه توقع في بعض هذه المشكلات.
وهكذا الوسائل التي يقع بها تبادل الأرقام لغرض حصول المعاكسات أو الفتنة, والتغرير بالمرأة على وجه الخصوص, فهناك وسائل كثيرة، من هذه الوسائل: أولها: العشوائية.
أي: أن ينتقي أي رقم عشوائي ليجرب من يرد عليه, وأحياناً يحفظ هذا الرقم بالكتابة, أو يكون عنده الهاتف الذي يعيد الرقم مسجلاً على الشاشة، بحيث يضبط هذا الرقم مع المكالمة أو مضمونها.
النقطة الثانية: استخدام أرقام للأقارب والمعارف، فإن كثيراً من المشكلات ثبت أن الذين يعاكسون فيها هم من العالمين والعارفين بهذه الأسر ومن فيها وما فيها, وبحكم هذه المعرفة تستخدم هذه المعلومات لنوع من الضغط أو التخويف, أو أحياناً تستخدم كنوع من إثارة حب الفضول والاستمرار في المكالمات.
النقطة الثالثة: الأسواق وما يرمى فيها من الأرقام على الأسلوب المعروف, فهذا الأسلوب -للأسف- أصبح معروفاً ومنتشراً، ولم يعد يقوم به الشباب تجاه الشابات، بل حتى الفتاة يكون معها في حقيبتها عدة نسخ من رقم الهاتف لتوزعه على الرائحين والغادين، وهذا -أيضاً- للأسف ظاهرة موجودة.
النقطة الرابعة -وهي من أخطر هذه النقاط على الإطلاق-: الزملاء والزميلات, فإن كثيراً من الشباب الذين يمارسون الانحراف من خلال هذا الهاتف يوصون ويعطون الأرقام لزملائهم، ويقول أحدهم لزميله: هذا رقم فلانة الفلانية.
أو: هذا رقم واحدة تدرس في الجامعة.
بحسب ما عنده من المعلومات, وكذلك الزميلات في المدارس يعطين زميلاتهن أرقاماً لفلان وفلان, مع التشجيع والتحريض والتعليم –للأسف- على أسباب المكالمات, وكيفية الإغراء، ونحو ذلك من الأمور!(19/17)
المخاطر والمفاسد الناتجة من الاستخدام السلبي للهاتف
والأمر المهم في هذه الناحية بإيجاز -أيضاً- بعد ذكر أسباب المشكلة نظريًا ثم عملياً ثم بعض الوسائل هو: ما الذي يحصل من المفاسد والأخطار من هذا الهاتف نتيجة الاستخدام السلبي؟ لأن الاستخدام الإيجابي معروف أنه يقضي الحوائج.
أول قضية: قضية ضياع الوقت فيما لا فائدة فيه ,بل فيما قد يكون أمراً محرماً, فطول المكالمات التي تقع -سواء بين النساء أو حتى ربات البيوت- ضياع للوقت, وغالباً ما يكون فيها الغيبة والنميمة, والقيل والقال, وأخبار فلانة وعلانة, وبني فلان وأهل فلان إلى آخر ذلك, وتستمر المكالمات ليس الساعة والساعتين, بل الثلاث والأربع، وكذلك المكالمات التي تقع بين الشباب والشابات والفتيان والفتيات أيضاً تستمر إلى ساعات طويلة, ويكون فيها من كلام الفتنة والإغواء والإغراء ما فيها, إضافة إلى أنهم يستخدمون جزءًا طويلاً من الأوقات في مساعدات, بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يكون طول المكالمة هو الحديث, بل ربما يستخدم المسجل أو الراديو ليسمع الطرف الآخر أغنية, ثم يعلقان على الأغنية، أو نحو ذلك من الأمور, أو يكون جزءٌ من المحادثات صمتاً وتفكيراً وآهات ونحو ذلك، وهذا كله من الأسباب التي تؤدي إلى الفتن وإلى زيغ القلوب، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.
ومن المفاسد أيضاً حصول التعلق بالمحرمات والمعاصي, والقرب منها, واللهفة عليها, وهذا يحصل من خلال الاستمرار في هذه المكالمات والمعاكسات والمغازلات ونحو ذلك، فإنك تجد مثل هذا الأمر يستمرئه الإنسان شيئاً فشيئاً, ويقع منه أخطاء كبيرة تدريجياً، فهذا الجانب أيضاً تقع به الخطورة, فتجد الفتاة دائماً في الأحلام الوردية، وفي فتى الأحلام, وتبقى هائمةً مع معسول الكلام الذي هو عبارة عن نوع من الطعم الذي تصاد به, والخاسر الأول والأخير فيه هو هذه البنت أو تلك الفتاة المغررة الغافلة الساذجة.
وكذلك أيضاً من القضايا الخطيرة ما يترتب على هذه المكالمات من أسباب عملية, على نسق قول القائل: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء وكذلك الإغواء، كما قال القائل: خدعوها بقولهم حسناء والصبايا يغرهن الثناء فهذا الإغواء والإغراء ينتج عنه أنه يطلب مقابلتها, وبعد المقابلة يطلب المصاحبة, وبعد المصاحبة يطلب المرافقة أو الخلوة الطويلة, ثم ينشأ عن ذلك ما هو معلوم في آخر الأمر من وقوع الفواحش نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.
وللأسف -أيضاً- أن الهاتف السيار الذي هو من النعم يستخدم استخدامًا سيئاً في هذا الجانب, فإن المكالمة تكون في السيارة, ثم يتم وصف المنزل, ويواصل: أنا في هذا الشارع عند هذه الإشارة، خذ يمينك، خذ يسارك.
حتى يصل إلى الموقع فيقال: انظر إلى الدور الثالث، انظر إلى النافذة المفتوحة.
وهذا يقع بالفعل, ويحصل منه كثير من المشكلات؛ لأنه يسحب ويجر من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون, والأسرة غافلة, والأب والأم في سهو ولهو, بل إن المشكلات تتضاعف حيث إنه تقع المشكلة في مقتل أكبر عندما تقع في هذا الأمر وفي هذه الفتنة ليست الفتاة وإنما الزوجة، فإذا بالزوجة تنحرف مع رجل آخر, وإذا بالزوج يتعلق بامرأة أخرى, وتقع فوضى من التحلل والانحراف وحصول الفاحشة والجرائم بما لا يمكن أن يتصوره الإنسان عندما لا يسد هذا الباب.
أيضاً من القضايا التي تقع في هذه المكالمات ما يقع -أيضاً- من الإغراء أو من حصول الأمر الذي يسهل الفواحش ويجعلها هينة سهلة, فتجد أن بعض هذه المكالمات تستخدم فيها كل الألفاظ البذيئة والعارية والمكشوفة, بل إنها ربما تبلغ مبلغاً يكون فيه من الأوصاف ما لا يكون إلا في المعاشرة بين الرجل وزوجته.
وأيضاً من الأسباب الخطيرة استخدام المكالمات في الحصول على المطالب، فإن بعض الناس وبعض هؤلاء الشباب -خاصة المنحرفين والمحترفين في نفس الوقت- يسجلون هذه المكالمات, ثم يهددون بها الفتيات الغافلات, مثل التي تقول: أجرب في أول الأمر.
فإذا بها تجد أن المكالمة مسجلة, ثم يتصل مرة أخرى ويسمعها صوتها، ومن غفلتها أو من خوفها أو من رهبتها من أهلها تبدأ الأمور تختلط على هذه الفتاة, وتقع في ما لا تحمد عقباه.
وأيضاً تستخدم هذه الأشرطة -وللأسف الشديد- كنوع من أشرطة الإغواء والأغراء بشكل عام, وكأنها شريط فيديو فاحش أو نحو ذلك؛ لأن فيها تسجيلات أحياناً بذيئة, وقد رأيت ذلك وسمعت بعضاً منه ممن أخبرني به وأتى به إلي, وللأسف أنه في بيئاتنا ومجتمعاتنا وفي مدينتنا ليس في غيرها.
ومن هذه المفاسد والأخطار إثارة المشكلات العائلية، حيث يسبب استخدام الهاتف -في مثل هذا خاصة- في إثارة المشكلة بين الرجل والمرأة أو الأبناء والبنات, وذلك من خلال بعض المعلومات التي يعرفها, سواء أكان قريباً أم من المعروفين, أم من خلال التدرج في الاتصالات الهاتفية، ثم يجد الصد أو يجد المنع, فحينئذ يتصل بالرجل ويقول له: إني أعرف زوجتك.
أو: اتصلت بها أو ذهبت معها.
أو نحو ذلك, أو يفتعل قضية غير صحيحة، لكن لها بعض الأسباب، كما يستخدم أيضاً في الغفلة أحياناً عندما يتصل متصل, فتظن المرأة أنه صوت أخ لها أو قريب لها, فتأخذ معه في الحديث ولا تنتبه, وتعطيه بعض المعلومات, ثم يبدأ يستخدم هذه المعلومات مرة أخرى في سبيل تدمير الأسرة, خاصة حينما يكون هناك عداء أو قصد لهذا الضرر, فإنك تجد أن الهاتف واستخدامه السيئ يصل بهذه القضايا إلى حد الطلاق, بل إلى حد وقوع الجرائم التي تصل إلى جريمة القتل.
فهذا الأمر يقع به كثير من المخاطر كما أشرنا وأوجزنا, فالقضية تترتب على أن هذا الاستخدام ينبغي أن يكون موجهاً ومنضبطاً ومراقباً من قبل رب الأسرة, وأن لا تكون تلك الأسباب التي أشرنا إليها مما فيها دفع إلى الخطأ والأخطار أو تهيئة لها متروكة العنان.
وربما كان في الحديث مزيد من التفصيلات والتفريعات, لكن الوقائع في هذا كثيرة جداً, ونجد أن الأمهات والآباء -لا سيما إذا كانوا كباراً في السن- تنطوي وتنطلي عليهم حيل الأبناء التي تعلموها –وللأسف- من الزملاء ومن المدارس ونحو ذلك, فالابن يتكلم مع البنت، ويذكر الضمائر, ويكون معروفاً بين الاثنين أنه يقول لها: كيف حالكَ؟ فتعرف أنه قد جاء أحد إلى مكان الولد, والبنت تؤنث حينما تتحدث مع الرجل, فتخاطبه مخاطبة الزميلة، ويكون الآباء والأمهات غافلين.
ولقد جاءني أحد المصلين مرة يشكو أنه ليس مقيماً مع أهله, بل هم في مكان آخر, فإذا به عندما زارهم في أحد المرات وجد أن بعض أخواته متعلقة بالهاتف بنوع من المعاكسات والاتصالات غير المحمودة, فأراد أن يتحقق، فاكتشف وسجل, فوجد أن المفاسد قد تغلغلت، فلما نصحها قالت: هذا صديقي! وماذا يكون في أن أكلمه في الهاتف؟! فلما شكا للأم قالت له: إذا أردت أن تزورنا بدون مشاكل فحياك الله, أما أن تسبب مشاكل فلا، فالبنات طيبات, وليس عندهن مشكلة، وأنا دائماً معهن, وما رأيت منهن سوءًا قط.
وأصبح هو المتهم وهو المخطئ، وهذا يقع –وللأسف- كثيراً.(19/18)
حكم اتخاذ الخدم والسائقين
هناك إيجاز في فتاوى العلماء بالنسبة للخدم والسائقين أحيل إليها, فقد أفتى كثير من العلماء والمشايخ بعدم جواز استخدام واستقدام الخادمة غير المسلمة, كما ذكروا أن الحجاب المفروض على الخادمة وكذلك أمام الخادم هو نفس الحجاب الشرعي, وليس هناك أي تساهل أو تفريط, وكذلك ذكروا عدم جواز اجتماع دينين في أرض الجزيرة على وجه الخصوص, وغير ذلك من الفتاوى الكثيرة المنشورة، وأكثرها مجموع في رسالة (الفتاوى الاجتماعية) المتعلقة بالأمور الاجتماعية, ففيها مجموعة من الفتاوى لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وفيها كثير من القضايا المتعلقة بهذه الجوانب, ونكتفي بهذا القدر، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمرضاته والابتعاد عن معصيته ومخالفته.
والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(19/19)
العشر الأواخر فضائل ومسائل
من حكمة الله عز وجل أن فاضل بين مخلوقاته، ففضل بعض البشر على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمنة على بعض، ومن تلك الأزمنة التي فضلها الله عز وجل: العشر الأواخر من رمضان، فإنها أفضل ليالي السنة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فينبغي لكل مسلم أن يستغل هذه العشر في طاعة ربه عز وجل ومحاسبة نفسه وتزكيتها وتهذيبها.(20/1)
السر في تحديد العشر الأواخر للاعتكاف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فحديثنا عنوانه: (العشر الأواخر تأملات وتوجيهات).
وهذا الحديث نحن في حاجة إليه، ولعل أول ما أبدأ به أن أسأل: لماذا نقول: العشر الأواخر؟ وماذا في هذه العشر؟ وأي خصيصة لها؟ وبالتأمل نجد هناك أمرين مهمين أساسين: أولهما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في الاعتكاف؛ إذ كان اختصاصها بهذه العشر ظاهراً، وزيادته صلى الله عليه وسلم من العبادات فيها على عبادته الكثيرة المضاعفة في شهر رمضان.
والأمر الثاني هو ليلة القدر التي جعلها الله عز وجل في هذه العشر.
وسوف نقف مع الأمر الأول، وهو سنة الاعتكاف وبعض حكمها وأسرارها.
فالاعتكاف مدته هي عشرة أيام من العام، أي: عشرة من ثلاثمائة وستين أو خمسة وستين يوماً، وليس هذا مقصوداً طبعاً بذاته، ونجد أنها نسبة تعادل تقريباً (2.
5%)، فكأنما هذه الأيام هي زكاة الأيام، كما أن في المال زكاة، فلنا ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً نخلط فيها دنيا بأخرى، وإن كان المنهج الإسلامي لا يفرق بين دنيا وأخرى، فكلها لله، ولكننا نخلط فيها أعمالاً من كسب العيش مع أعمال من التعبد، لكن هذه العشر تكون خالصة لله سبحانه وتعالى.
والانقطاع فيها عن الدنيا تام، والانشغال بالخالق عن المخلوقين كامل، ومن هنا جاء تميزها وجاء فرق ما بينها وبين سائر الأيام، فهذا وجه من الوجوه، وهو وجه زكاة الأيام، ولو تأملنا فسنجد أننا في هذا المعنى نحتاج إلى المزيد من الشعور بتقصيرنا تجاه عبادة الله سبحانه وتعالى، ونحن نرى اليوم أن هذه العشر التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف فيها وثبت أنه أعتكف مرة عشرين نرى أن الذين يحرصون على إقامة هذه السنة في جملة الأمة قلة تتزايد، لكنها ليست الكثرة الكاثرة، وكأن العشر -رغم أنها قليلة بالنسبة لبقية العام- ما زالت النفوس وما زالت مشاغل الدنيا وما زالت متطلبات الحياة تضيق فلا تتسع لها، وتشغل فلا تتاح الفرصة لاغتنامها في طاعة الله عز وجل وحدها دون مشاركة غيرها، هذا هو الوجه الأول.(20/2)
السر في الاعتكاف في العشر الأواخر
وأما الثاني فما السر في الاعتكاف الذي هو في حقيقته انقطاع عن الخلائق واتصال بالخالق سبحانه وتعالى؟ ذكر ابن القيم رحمه الله أن الذي يؤثر في القلب -أي: تأثيراً سلبياً- أربعة أمور: الأول: كثرة الشراب والطعام.
الثاني: كثرة الكلام.
الثالث: كثرة المنام.
الرابع: كثرة مخالطة الأنام.
وقال: وكلها علاجها في رمضان، ثم ذكر ذلك فقال: الصيام علاج كثرة الشراب والطعام، والقيام علاج كثرة المنام، وتلاوة القرآن والإمساك عن القول بالباطل علاج كثرة الكلام، وبقي علاج مخالطة الأنام، فيأتي علاجه في هذه العشر التي ينقطع فيها الإنسان عن سائر الخلق أجمعين ليتفرغ لطاعة رب العالمين، فلا يسمع اللغو ولا الغيبة ولا النميمة ولا الشجار ولا الخصام ولا الشتائم المقذعة، ولا يسمع أمور الدنيا وكلامها وأسبابها وأحداثها، فهي أيام لله عز وجل خالصة.(20/3)
مضاعفة الجهد قرب النهايات
الوجه الثالث أن الخواتيم قرب الانتهاء تؤذن بأن المؤسم سينقضي، وأن فضيلة الشهر وفضيلة الأجر ومضاعفة الأجر وفضيلة محو الوزر توشك أن تنتهي، ولذلك فلابد في آخر كل زمان له موسم من مضاعفة الجهد فيه أكثر لاستدراك ما فات، ولمزيد من الاغتنام لما بقي، وذلك معروف في حياة الناس؛ فالطلاب عند قرب الاختبارات يضاعفون الجهد في القراءة والمذاكرة، ويتركون بعض أمورهم وطعامهم وشرابهم وزيارتهم وبعض ما اعتادوه؛ لأنه لم يعد هناك وقت يمكن الجمع فيه بين الاثنين، ولذلك يؤخرون هذا، ومثل هذا مواسم التجارة المختلفة، فإن لكل بضاعة موسماً، وأهل الموسم إذا جاء الموسم وأوشك أن ينتهي فإنهم يواصلون ليلهم بنهارهم، ولا يكون هناك وقت للدوام، ولا يكون هناك وقت للراحة، ويتعاقبون أحياناً على متاجرهم؛ لأن الوقت -أيضاً- يوشك أن ينتهي، وإذا انتهي فلن تكون الفرصة سانحة لمزيد من تحصيل تلك الأرباح التي يطمحون إليها.(20/4)
فرصة المراجعة والمحاسبة في الاعتكاف
الوجه الرابع -أيضاً- في الاعتكاف أن الإنسان في دنياه منشغل، ووقته الذي يتدبر فيه ويتفكر ويراجع ويحاسب يكاد يكون قليلاً، وإن وجد وقتاً من ذلك فإن كر الأيام يعود عليه بالنقض والإبطال، فتبقي هذه الفرصة مضاعفة في تأثيرها على هذا الجانب، أي: جانب المراجعة والمحاسبة.
فقد أحاسب نفسي في يومي وليلتي، وقد أحاسبها في أوقات مختلفة، لكن ظروفاً عظيمة لا تتهيأ للمراجعة والمحاسبة بمثل ما تتهيأ في هذه العشر الأواخر، وفي المعتكف على وجه الخصوص، وكم نحن في حاجة إلى المراجعة والتأمل في كل أمورنا! أمورنا مع الله عز وجل من طاعة وعبادة وذكر ودعاء إلى آخره، وأمورنا مع أسرنا من زوجاتنا وأبنائنا؛ فإن لنا صلة بهم وتوجيهاً لهم وتربية لهم، وكل ذلك موضع نظر.
وهكذا صلتنا بأمتنا اهتماماً بأمرها وتفقداً لأحوالها وعملاً في نصرتها وبذلاً لأجل دفع العدوان عليها، وكل ذلك محتاج إلى التدبر والتأمل، ولذلك ففي هذه العشر فرصة، فهي فرصة عظيمة فيها خصائص كثيرة، ومن هذه الخصائص: أولاً: أن هذه المراجعة تتم في بيوت الله، وهي حينئذ تحتف بالبركة، ويكون فيها من التوفيق ومن التسديد ما لا يكون في غيرها.
ثانياً: أنها تكون والإنسان منشغل بعبادة وطاعة، فهو ما بين تلاوة وصلاة وذكر ودعاء، متقلب بين هذه الطاعات، فحينئذٍ يكون استحضاره لتقصيره عن هذه الطاعات وإفراطه في المعاصي أعظم وأظهر.
ثالثاً: أنه يكون أعظم رجاءً في رحمة الله؛ لأنه في بيت من بيوته ومتلبس بطاعته، فتكون غلبة حسن ظنه بالعفو والمغفرة أكبر وأرجى وأقوى من أي وقت يحاسب فيه نفسه، فإننا أحياناً نحاسب أنفسنا ونتذكر نقصنا وقصورنا، ثم يغلبنا شيطاننا ونبقى نتساءل: ما هو الحل؟ وهل يمكن أن يكون هناك استئناف؟ وهل يمكن أن نغير؟ وهل يمكن أن يغفر لنا؟ وكل هذه خواطر تأتي فتضعف المحاسبة، لكنها في هذه العشر وفي هذا الاعتكاف بالعكس، حيث يقول الإنسان: ما دمت قد غيرت الآن فسأغير، وما دمت الآن في حال على هذه الصفة فسأستغفر، وسيقبل مني بإذن الله عز وجل، فحينئذٍ تؤتي هذه المحاسبة ثمارها الكثيرة من التأمل.(20/5)
حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر
الواقع الذي نسترشد منه والهدي الذي نقتدي به هو هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذه العشر كانت لها مزية خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روت عائشة في الحديث المشهور قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله، وأحيا ليله، وشد المئزر) وهذه الثلاث لا أود أن أطيل في شرحها، لكن كل واحدة منها له جانب فيه دلالة من الدلائل.
فقولها: (أيقظ أهله) فيه إشارة إلى أن الواجب المنوط بكل واحد منا لا يتعلق به وحده، ولا يقتصر عليه وحده، بل يشمل الدائرة الأوسع، وأقربها وأولاها الأهل، فقد ورد عند أبي داود في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فأيقظ أهله، فإن لم تستيقظ نضحها بالماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحته بالماء) وذلك دليل على أن الذي يجمع بين الزوجين والذي يجمع بين الأهل إنما هو التواصي بطاعة الله عز وجل والحرص عليها، وهذه مسألة مهمة، وكثيراً ما نرى الرجال يملئون المساجد بالصلوات والاعتكاف، ونرى في الوقت نفسه أبناءهم يملئون الأسواق باللهو والعبث، فأين هم من أبنائهم؟! أو نرى زوجاتهم يملأن الأسواق في أمور لا تحمد، أو في أمور هي دون المطلوب، فأين أزواجهن عنهن؟! وذلك هو ما يشير إليه هذا الحديث التي عبرت فيه عائشة رضي الله عنها عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقولها: (وأحيا ليله) قال العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحيي ليله منذ بعثته، ومنذ أن نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] والنبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذ بهذه السنة فهي في حقه فريضة لن يتركها، وكان لا يترك عليه الصلاة والسلام قيام الليل في سفر أو حضر، إلا ما ثبتت به السنة، كليلة مزدلفة وغير ذلك، فما معنى قولها: (أحيا ليله)؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يحيي ليله فصلى بصلاته أناس، وهكذا في الليلة الثانية وفي الليلة الثالثة، ثم لم يخرج إليهم في الليلة الرابعة، وصلى وحده لئلا تفرض عليهم، قال أهل العلم في بيان ذلك -كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات-: إنه صلى الله عليه وسلم كان في رمضان وسائر الأيام يخلط ليله قياماً بنوم، فيصلي وينام، لكن في هذه العشر كان لا ينام الليل مطلقاً، وهذه هي المزية، أي أنه كان يحيي الليل كله، وسنته عليه الصلاة والسلام في غير هذه العشر أنه كان ينام ويستيقظ، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من رغب عن سنتي فليس مني) وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، ثم ينام سدسه في آخر الليل قبل الفجر لينشط عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر.
وقولها: (وشد المأزر) شد المأزر هنا كناية تشتمل على أمرين، وذكر العلماء أن أحد هذين الأمرين هو اعتزال النساء اعتزالاً كاملاً، مع أنه في ليل رمضان يجوز مباشرة النساء، كما قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] لكن النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتكف في المسجد وتفرغ للطاعة والعبادة اعتزل النساء، ومن مبطلات الاعتكاف ومفسداته معاشرة الأزواج، بل حتى ما دون المعاشرة.
ومن جهة أخرى يقال في كلام العرب: شمر عن ساعد الجد أو شمر عن المئزر.
إذا جد واجتهد وبلغ الغاية القصوى في البذل والعمل، وهذا مقصود أيضاً في هذا الباب من أبواب الخير التي ندبنا إليها بفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام.(20/6)
اعتكاف المرأة في المسجد في رمضان
وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف نساؤه أيضاً، وهذا فيه مشروعية اعتكاف المرأة المسلمة، والخلاف واقع بين أهل العلم، والصحيح أنه يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد إذا كان فيه مكان يناسب اعتكاف المرأة، ولا يكون فيه شيء مما يضرها أو يضايقها، وقال بعض أهل العلم: إن اعتكافها في بيتها أفضل باعتبار أن الاعتكاف سنة، والسنن عموماً -بل أداء الفريضة- للمرأة في بيتها مشروع ومندوب كما هو معلوم.(20/7)
المكوث في بيت من بيوت الله عز وجل بنية الاعتكاف والعبادة
وثمة مسائل نشير إلى بعضها أيضاً في شأن الاعتكاف، فمن ذلك نية المكث في بيت من بيوت الله عز وجل بغرض العبادة، وهذا له شروط أساسية: أولها: النية، والثاني: أن يكون الاعتكاف في المسجد، فلا يعتبر الماكث في بيته للطاعة والعبادة -وإن كان يفعل مثلما يفعل في المسجد- أنه معتكف؛ لأن الاعتكاف في المسجد هو مظنة القيام بالفرائض التي لا تكون في بيته أو في أي مكان، فكيف سيؤدي فرائض الصلوات؟ وكيف سيحافظ على مسألة اجتماع المسلمين وتوحدهم وتجمعهم على تعبدهم وطاعة ربهم سبحانه وتعالى، وكذلك فيه اللزوم؛ لأن العكوف في المكان هو اللزوم والإقامة، بمعنى أن النية والبقاء في المسجد وعدم الخروج منه هو تتمة شرط الاعتكاف؛ لأنه اعتكاف على وجه خاص ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا يخرج إلا لحاجة، والحاجة قضاء الحاجة أو طعام وشراب لابد له منه، ويقتصر على القليل منه؛ لأن بعض الناس يعتكف ويخرج للطعام والشراب فيغيب الساعات ويذهب إلى هذا المكان وإلى ذلك المكان، أو يذهب ويخرج لأي غرض فيأخذ منه أعلاه لا أدناه، فيكاد يكون قد قصر كثيراً في اعتكافه، بل قال العلماء -على خلاف بينهم-: إنه لا يخرج لشهود أو لتشييع الجنائز؛ لأن تشييع الجنازة سنة، وهو -أيضاً- في سنة، وهي مؤكدة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من غير المعتكفين سيشيعون.
فهذه مسألة مهمة.(20/8)
بعض الأمور التي يتم بها الاعتكاف
من الأمور المهمة التي يتم بها الاعتكاف والتي هي من دلائل لزوم المسجد ترك البيع والشراء، فلا يبيع ولا يشتري؛ لأن هذا محظور في المساجد، وهو -أيضاً- في الاعتكاف محظور بوجه آخر.
ومنه اعتزال النساء، ويدخل في هذا كل ما يتصل بتحقيق العكوف واللزوم على العبادة والاقتصار عليها، ولذلك قالوا: من المكروه أن يتحدث في أمور الدنيا وأن ينشغل بها، وذلك أمر معلوم فيه هذا المعنى، بل قد قال بعض أهل العلم: إنه في الاعتكاف يترك إقراء القرآن -يعني: تعليم القرآن- ودروس العلم، فلا ينشغل إلا بالطاعة الذاتية التي يقوم بها بنفسه من الدعاء وتلاوة القرآن والذكر والصلاة، ويستكثر من ذلك، وينشغل بنفسه مع ربه، ولا ينشغل مع الناس فيما قد يكون من الأمور التي هي معروفة ومعهودة، وهذا الأمر فيه دلالة على هذا المعنى.
وحكم الاعتكاف أنه سنة مؤكدة مستحبة، وليس واجباً قطعاً؛ لأنه فعله النبي عليه الصلاة والسلام وواظب عليه وتابعه عليه نساؤه وأهل بيته ولم يأمر به.(20/9)
الشروط المطلوبة في المعتكف
والمعتكف لابد له من شروط، منها: أن يكون مسلما ومميزاً، وأن يكون في أثناء أدائه للعبادات حريصاً على الطهارة، خاصة الطهارة من الحدث الأكبر؛ لأنه لا يجوز له اللبث والمكث في المسجد إلا إذا كان على طهارة، واشتراط المسجد هو الصحيح؛ لحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يدخل إليها رأسه وهو معتكف فترجله) ولو أن الخروج من المسجد لمثل هذه الحاجة جائز لفعله النبي صلى الله عليه وسلم.(20/10)
شروط المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف
والمسجد الذي يصح فيه الاعتكاف اشترط له أكثر العلماء أن يكون مسجداً تقام فيه الجماعات؛ لأنه لو كان مسجداً من المساجد التي على طريق السفر أو لا يصلى فيها الجماعة فإنه لا يعتبر فيه الاعتكاف ولا يعتد به؛ لأن المعتكف لم يؤد الجماعة، ولأنه نوع من الترهب أو صورة من صور اعتزال المسلمين، لذلك لابد من أن تصلى فيه الجماعة، وبعض هذا قد دلت عليه بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت به بعض كتب السنة.(20/11)
مدة الاعتكاف في العشر الأواخر وفي غيرها
المدة المخصصة للاعتكاف في العشر الأواخر تبدأ من مغرب يوم العشرين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في ذلك الوقت إلى معتكفه، فلا يخرج إلا إذا دخل شهر شوال، أي: إذا رؤي هلال شوال وثبت انتهاء رمضان.
فهذه هي العشر التامة الكاملة.
أما مدة الاعتكاف في أي وقت من الزمان فكثير من العلماء قالوا: لابد من أن يكون الاعتكاف يوماً وليلة.
أي أن أقله يوم وليلة.
وأجاز بعضهم أنه يعتكف أي وقت متى نوى ذلك، بمعنى: لو أنه دخل إلى صلاة الظهر ونوى أن يبقى في المسجد إلى صلاة العشاء فهو في هذا معتكف، وهذا على خلاف بين العلماء كما ذكرنا.
والعلماء الذين قالوا بأن أقله يوم وليلة إنما قصدوا اليوم والليلة لأن التفرغ ولزوم العبادة لابد من أن يكون له صورة واضحة، وذلك في أنه قطع أمره وحياته وتفرغ للعبادة، فيوم وليلة يكون قد عطل عمله وعطل صلته بأهله، فيوم وليلة يصدق فيه مثل ذلك.(20/12)
رحمة الله عز وجل أمة الإسلام بليلة القدر
وأما بالنسبة لليلة القدر فوقفتنا الأخيرة معها بعد أن ذكرنا الاعتكاف، ففي ليلة القدر عدة أمور: أولها: رحمة الله عز وجل ومنته على أمة محمد عليه الصلاة والسلام بأن جعل لها ليلة هي خير من ألف شهر، وقد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (أري أعمار الناس قبله -أي: الأمم السابقة- فكأنه تقاصر أعمار أمته، فرأى أنهم لم يبلغوا من العمل ما بلغته أمم سابقة، فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر خير من ألف شهر) روى هذا الحديث الإمام مالك في موطئه.(20/13)
ارتباط الخير بصلاح العباد
والأمر الثاني أن الله سبحانه وتعالى جعل تنزل الخير مرتبطاً بصلاح العباد، ورفعه مرتبطاً أيضاً بما يقع منهم من الخلل، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصحابة وكان اثنان قد تلاحيا -أي: تخاصما- وعلت أصواتهما في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت أريت ليلة القدر -يعني: تحديدها على وجه التخصيص- فتلاحا فلان وفلان من الناس فرفعت) أي: رفع تعيينها.
وهذا ينبهنا إلى أن ما نقع فيه من المعاصي والأخطاء يصرف عنا بقدره من رحمة الله عز وجل ونعمته، فلنحذر من ذلك.(20/14)
الحكمة في إخفاء تعيين ليلة القدر
الأمر الثالث: إخفاء ليلة القدر حكمته ظاهرة، وهي أن يبقى الناس يجدون في الطاعات، ويتحرون الليالي والأيام في العشر كلها بغية تحديد ليلة القدر، ولو كانت محددة لتفرغ الناس في ليلة القدر وعملوا كل ما عندهم من جهد وطاعة، وربما كسلوا وفتروا في بقية الأيام والليالي، فالله عز وجل من رحمته أن جعل خفاء ليلة القدر تنشيطاً لعباده في عبادته؛ حتى يعظم أجرهم ويزداد فضله سبحانه وتعالى عليهم، وهذا أيضاً واضح.(20/15)
تحديد ليلة القدر
هناك أحاديث دلت على أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وأنها في الوتر من العشر الأواخر قطعاً، وأما ما ورد بعد ذلك فهناك أحاديث كثيرة ورد فيها ما يشير إلى أنها في ليلة الثالث والعشرين، أو الخامس والعشرين، أو الحادي والعشرين، أو السابع والعشرين، وقد ورد الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام من رواية ابن عمر رضي الله عنها قال: (إن رجالاً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أُروا ليلة القدر في المنام -يعني: رأوا أن هذه هي ليلة القدر- فقال عليه الصلاة والسلام: إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) وهذا حديث صحيح رواه الخمسة إلا الترمذي.
وقال عليه الصلاة والسلام -أيضاً- في حديث آخر من رواية عائشة: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) وهذا عند البخاري ومسلم.
وفي رواية ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى)، وغير ذلك مما ذكره عليه الصلاة والسلام في هذا.
وقد ورد -أيضاً- في بعض آثار الصحابة أن بعضهم غلب أو رجح أنها في ليلة السابع والعشرين، كما جاء عن أبي بن كعب رضي الله عنه.(20/16)
فضل ليلة القدر
وهكذا نجد في نعمة الله عز وجل في ليلة القدر أنه جعل عز وجل أجرها وثوابها خيراً من ألف شهر من جهة، ومن جهة أن الله عز وجل يغفر فيها من الذنوب والخطايا ذنوب العام كله، وذلك بفضله عز وجل ما اجتنبت الكبائر، كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وهذا فضل من الله عز وجل عظيم.(20/17)
أهمية الجد والاجتهاد في العشر الأواخر
وهنا أنتهي إلى مسألة التوجيه والتوصية والتذكير: أولاً: اعقد العزم والنية على أن تكون هذه العشر الأواخر غير العشرين التي سبقت من رمضان، أي: غيرها في العمل والجد والاجتهاد وتفريغ الأوقات.
الأمر الثاني: اعقد النية على أن تكون هذه العشر الأواخر خيراً من العشر الأواخر بالنسبة لك في رمضان الذي مضى، فحاول أن تزيد وأن تفعل وأن تهيئ من الأسباب ما لم يكن في رمضان الذي مضى بالنسبة لك.
الأمر الثالث -وهذا أؤكد عليه كثيراً-: فرغ نفسك للعشر، وليس بالضرورة الآن التكلم عن الاعتكاف، ومعنى ذلك: أن ما تريد شراءه فاشتره قبل العشر، وما تريد قضاءه فاقضه قبلها، وبعض أشغالك أنجزها حتى لا تزاحم العشر؛ لأنها عشر في العام فقط، فهي عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، ومع ذلك نزاحمها بشراء حذاء أو بشراء ثوب، وكأن الأيام قد قلت، وكأنه لا يصلح الشراء إلا في هذه الأيام، وليس هذا لك وحدك، بل لك ولأهلك جميعاً.
وأظن أننا جميعاً نتفق على أن الإجماع منعقد بلا خلاف على أنه يجوز الشراء في غير العشر الأواخر، وهذا أقوله على سبيل المداعبة، لكنه صحيح؛ لأن بعض الناس حاله كأنه لا يجوز أن يشتري إلا في العشر الأواخر أو في ليلة العيد، كما نسمع من بعض الناس، ولذلك يكثر أهل الأسواق من مواصلة العمل إلى قبيل الفجر أو إلى الفجر، ويكثر زحام الناس في الأسواق في هذه العشر، وهذا -والعياذ بالله- من سوء العمل ومن سوء الحال، نسأل الله عز وجل السلامة.
ففي الوقت الذي تفتح فيه أبواب الرحمة والمغفرة ويدعونا رسولنا عليه الصلاة والسلام بسنته للطاعة وغير ذلك نحن نعرض عن هذا كله، أو بعضنا يعرض عن هذا كله، ويكون على غير هذه الحال!(20/18)
أهمية الحرص على الاعتكاف بقدر الاستطاعة
الأمر الرابع: لنحرص على الاعتكاف ولو لمدة لا تشمل العشر كلها؛ لأن بعض إخواننا لديهم أعمال ووظائف لا يستطيعون أن يتركوها، وهم موظفون ليسوا أصحاب أعمال وأرباب أعمال حتى يفرغوا أنفسهم، لكن أقول: افعل أحد أمرين: الأول: اعتكف ولو لم يبق إلا يومان من آخر الشهر؛ حيث إن بعض الشركات تعطي إجازة آخر يومين أو آخر ثلاثة أيام، فاحرص على أن تعتكف ولو يومين أو ثلاثة لتنال أجراً، وما لا يدرك جله لا يترك كله.
الأمر الثاني: من لم يستطع فليعتكف في كل يوم أكثر الوقت الذي ليس في عمله، فليخرج من عمله إلى المسجد، وليبق في المسجد إلى اليوم التالي، بمعنى: أن يبقى في المسجد -مثلاً- من بعد الظهر أو العصر عندما ينتهي عمله فيعتكف ويصلي التراويح، ويبقى في المسجد إلى الفجر، ويأكل ما تيسر له من السحور، ويصلي الفجر، ثم ينام قليلاً، ثم يذهب إلى عمله، فكأنه معتكف؛ لأنه في ضرورة في العمل الذي يجب عليه أداؤه لأصحاب العمل، وهذه صورة على أقل تقدير من الناحية الإيمانية والتعبدية يحصل فيها خير كثير؛ لأن بعض الناس يجد فرصة للاعتكاف ويبقى في بيته، وبالتالي يبقى كحاله في سائر أيامه في غير العشر، وهذا ما لا ينبغي أن يكون عليه الإنسان.(20/19)
أهمية محاسبة النفس في العشر الأواخر
الأمر الأخير الذي أحب أن أشير إليه أن عليك أن تهتم بجانبين اثنين في هذه العشر وعند الاعتكاف: جانب المراجعة والمحاسبة الإيجابية، أي: أن تقول: ما مضى فات وإن شاء الله تعالى سيغفر.
وتهيأ لمزيد من البذل والعمل بشكل أفضل بإذنه سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: أن يأخذ الإنسان لنفسه حظاً من هذه العشر فيما يتعلق بحال نفسه في قلبه ونفسه وفي روحه وفي حال أمته فيما يمكن أن يبذله وأن يعمله لنصرة هذا الدين ونصرة هذه الأمة بكل حال من الأحوال، فلعل بعض هذه الخواطر والتأملات تكون نافعة لنا ومذكرة.
نسأل الله عز وجل كما بلغنا أول الشهر أن يبلغنا العشر، وكما وفقنا فيه للقيام والصيام أن يوفقنا لمزيد من الطاعة والعمل والبذل، وأن ييسر لنا ما يتيسر وما نوفق له من الاعتكاف وكثرة الطاعة والعبادة، وأن يجعل هذه العشر عشر ختام يغفر بها الذنب، وتقال بها العثرة بإذنه عز وجل، وأن نكون فيها من العتقاء من النار.
ونسأله عز وجل أن يجعلنا ممن يوافي ويوافق ليلة القدر ويعظم له الأجر ويمحى عنه الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم وسلم- على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/20)
بين العزائم والهزائم
يا لله ماذا تفعل الهمم العالية بأصحابها! وإلى أي مقام توصلهم! فمازال أصحاب العزائم القوية يترقون من منزلة إلى منزلة حتى وصلوا إلى محبة الله ورضوانه، وهذه غاية ما يتطلع إليه ذوو النفوس الزكية، والعزائم الأبية، إلا أن هذه العزيمة لا يتحصل عليها المرء إلا إذا كانت لديه نية صادقة، وقطع عن نفسه كل العوائق التي تعوقها.(21/1)
النفس بين قوة العزيمة ومرارة الهزيمة
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد سبحانه وتعالى أن وفقنا بالإسلام إلى الطاعة، وهدانا بالإيمان إلى الاستقامة، وأمدنا من اليقين بالقوة، ووفقنا بالإسلام إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية.
له الحمد سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى صحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(21/2)
أين الخلل
أيها الإخوة المؤمنون! في مثل هذه الأيام من كل عام يدور بالخواطر والعقول، ويجيش في المشاعر والنفوس، ويتغير إلى حد ما في واقع الأحوال والأعمال شيء في واقعنا العام، وفي حال كل فرد منا، فنحن مع هذا الموسم العظيم، والفريضة الجليلة، والأيام المباركة، والعبادات الصالحة، نعزم عزائم وننوي نوايا ونجدد عهوداً، ونحدث في عقولنا ونفوسنا صوراً مشرقة وضيئة لصفحات قادمة جديدة، ولا أظن أحداً منا لن يمر به مثل ذلك، سواء من حج وعظم أمله في مغفرة ذنوبه، وبداية صفحة جديدة، أو من لمن يحج واغتنم ذلك الموسم العظيم، والعشر الفاضلة، بصيام وقيام وذكر وإنفاق وطاعة وأضحية وتقرب إلى الله عز وجل.
لكن السؤال هنا: كم من همة علت ثم سفلت؟ وكم من عزيمة أبرمت ثم نقضت؟ وكم من صحيفة جديدة فتحت ثم أغلقت؟ ما القصة إذاً؟! هل نحن نكذب؟! وعلى من نكذب؟! هل نكذب على أنفسنا؟! فمثل هذا غباء، أم نكذب على الخلق؟! فإن هذا هو عين الرياء، أم نكذب -عياذاً بالله- على الله؟! فإن هذا هو محض الافتراء.
ما القصة إذاً؟! لا أظن أحداً عندما عزم تلك العزائم ونوى تلك النوايا كان كاذباً، بل كان في أعظم لحظات صدقه، وأصفى لحظات تجرده، وأصدق لحظات إخلاصه، ما الأمر إذاً؟! هل نحن جاهلون لا نعرف وجوب الفرائض أو لا نعرف حرمة المنكرات؟! هل نحن لا نعرف فضيلة الأعمال في الصفوف الأولى أو في الصلوات أو في الإنفاق والزكوات! هل منا أحد يجهل هذه الأصول العامة التي تحرك إيمان القلوب، وتبعث همم النفوس، وتمضي الأعمال في واقع الحياة؟ أظن أن أكثرنا -إن لم يكن كلنا- لا يجهل مثل ذلك، فأين المكمن والخطر؟ وأين الداء والمرض؟ وما بالنا نمضي ثم نتوقف؟ ونتقدم ثم نقهقر؟ سؤال أعتقد أنه الآن وضح في أذهانكم، وتشوقنا جميعاً إلى أن نبحث عن إجابته، وإلى أن نعرف العلة، وهنا سنعرف الأمر، والفرق بين العزائم والهزائم.
كيف تمضي العزائم إلى آفاقها السامية، وإلى ذراها العالية، ولا تعود هزائم تضعف بها الهمم، ويتضعضع بها اليقين، وتزوي بها شمعة الإيمان في القلوب.
هنا أمر مهم، وهنا مكمن خطر عظيم، أحسب أنه بالنسبة لنا هو الداء الدوي، ومكمن والخطر الخفي، إنه ضعف العزيمة والإرادة، إنه الكسل والخور والعجز، إنه الاستسلام للضعف والراحة والدعة، إنه الركون إلى الدنيا والاغترار والانشغال بها، إنه قطعاً ليس جهلاً؛ فنحن بحمد الله نعرف الأحكام الأساسية، من واجبات ومحرمات ومن فضائل الأعمال وما يقابلها من رذائل المنكرات، إذن فهنا وقفتنا المهمة بين العزائم والهزائم.(21/3)
كمال الإنسان بهمة ترقيه وعلم يهديه
يقول ابن القيم رحمه الله: كمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: 1 - همة ترقيه.
2 - وعلم يبصره ويهديه.
علم تقع به البصيرة، وتتضح به طريق الهداية، لكن ذلك لا يكفي، فإن الطريق واضحة، وإن المعالم ظاهرة، لكن العزائم ضعيفة خائرة، والهمم باردة فاترة، فلا تبعث حينئذٍ قوة للحركة ولا عزيمة للمضي، ومن هنا لابد من همة ترقي بعد علم يهدي.
وهنا كذلك يبين ابن القيم رحمه الله: أن الهمة مبدأ الإرادة، وأن أعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف على مراده الديني الأمري، فمن فعل ذلك فإنه يريد الله ويريد مراده، وحينئذٍ تحصل الفائدة الأولى وهي التوجه الصحيح إلى الغاية المنشودة.
ومبدأ كل طريق تسلكه أن تعرف الغاية التي تنتهي إليها، والطريق الموصل إلى هذه الغاية، ومن هنا فإنه لابد لنا أن ننتبه إلى ذلك، ونحن ندرك تماماً أن إيجاز القول في هذا جاء في كتاب الله في آيات كثيرة، من أظهرها قول الحق سبحانه وتعالى في بيان حقيقة هذه الحياة كلها: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
إذاً لابد أن نوجه الغاية، ونحدد المسار الواضح في قول الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، تلك هي الغاية: محبة الله وطلب رضوانه، وتلك هي الطريق التي رسمها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فنحن نترسم خطاه، ونتبع سنته، ونعرف طريقته، ونترسم منهجه، وندرك كيف عالج أدواء القلوب، وأمراض النفوس، وضلال وزيغ العقول، وانحراف المشاعر والعواطف، واختلال العلائق والروابط.
ثم أمضي مرة أخرى لنرى المكمن الذي نتحدث عنه، وهو ضعف الهمة والعزيمة، ذلك أنّا إذا بدأنا شيئاً لم نمش فيه خطوات حتى نتوقف أو نتراجع، إن هذه المسألة متعلقة أولاً بالبواعث النفسية القلبية، بالإيمان واليقين، بالمحركات والعواطف الإيمانية شوقاً إلى الله، وصدقاً في التعامل معه، وقوة في الثقة به والاعتماد عليه والتوكل عليه، تلك هي المشاعر الأولى.(21/4)
مدى أثر النية في استنهاض الهمة
يقول الغزالي رحمه الله: (النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحداً، وهي حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وكل عمل لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة، لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلابد وأن يعلم، ولا يعلم ما لم يرد، فلابد له من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال وإما في المآل).
ذلك فهم دقيق، إن خفايا النفوس والقلوب تكمن في هذا الأمر، فإن صدق الإيمان، ورسخ اليقين، وخلصت النية، وجدت الهمة والعزيمة المرتبطة بالغاية الصحيحة، وهي رضوان الله عز وجل، والمؤسسة على العلم الصحيح من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ اكتملت أسباب المسيرة الصحيحة بهمتها العالية، وعزيمتها الماضية، ومنهجيتها الواضحة، كما كان على ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
نحن نرى في سيرهم، وفي سير كل المؤمنين إلى عصرنا هذا فكيف نرى الشوق إلى طاعة الله، كيف نرى الصبر والثبات على دين الله، كيف نرى الهمة والعزيمة في طاعة الله، أين وقود ذلك؟ إنه هذه المشاعر الإيمانية التي مبعثها القلب، بدءاًً من همة تتوجه نحو الله عز وجل ورضوانه، وإرادة تريد الإقدام في إنفاذ الأمر واجتناب النهي، حتى يكون لنا ذلك السمت الذي يتقدم ولا يتأخر ولا ينقص، ونسأل الله أن يعيننا عليه، والإنسان قد يصاب بالعجز إذا ضعف يقينه، ولكنه إذا تعلقت نفسه وأيقنت بمقابلة ربها في الآخرة اختلف الأمر.
كيف تنفق المال وتتخلى عنه إذا عظم يقينك بأنك تلقاه يوم القيامة أضعافاً مضاعفة؟! كيف تترك راحتك وتقوم ليلك وتضني جسدك إذا علمت أن ذلك يكون لك خيراً في دنياك وأخراك؟! إذا عرفت الأجور والثواب، إذا عرفت البركة والتوفيق، إذا عرفت الهدى والتسديد، إذا عرفت كل هذه الثمرات تحركت همتك وانبعثت، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق القلوب بالآخرة حتى نصل إلى مرتبة الإيمان كما كان الصحابة، لقد جادوا بأنفسهم وأرواحهم طلباً لحياة خالدة لا تنقطع، تركوا نعيم الدنيا لنعيم لا ينفذ.
وكان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يبيت اليوم واليومين والثلاثة ولا يوقد في بيته نار، وكان لو شاء لدعا أن يحيل الله له الصفا والمروة ذهباً، ولكنه قال: آكل يوماً وأجوع يوماً؛ لأن ما عند الله أعظم، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل:96]، يوم نحرر هذه المعادلة تحريراً علمياً ونترجمها إلى شعور نفسي يستولي على القلب والنفس، فحينئذٍ يكون انطلاق عظيم بإذن الله سبحانه وتعالى.
ثم ننظر كذلك إلى أمر الدعاء والاستعانة بالله عز وجل، فإن الإنسان ليس له من أمر يحققه إلا بعون الله عز وجل: إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده(21/5)
عوائق في الطريق
ولنعرف العوائق في آخر كلمة في هذا المقام، إنها كما أوجزها ابن الجوزي رحمه الله بقوله: (رؤية الهوى العاجل، والتسويف بالتوبة، ورجاء الرحمة).
ورجاء الرحمة ليس فيه شيء، لكنه دون معرفة العقوبة، رؤية الهوى العاجل، أي: رؤية الشهوة واللذة بمشاعر الهوى والمحبة، فإنها تعمي البصر والبصيرة عن الأخطار والأضرار في تلك المعاصي.
إن الشهوة تدعو إلى ممارسة الفاحشة بالزنا عند من ينظر إليها بالهوى، فلا يراها إلا جمالاً مشرقاً، ولذة جميلة، وهوى ومحبة رائعة، لكنه ينسى حينئذٍ -وقد غشي على بصره- الأضرار النفسية والقلبية والشرعية والعقوبات، وكأنه لا يعرفها مع أنه يعرفها.
لذلك فإن رؤية الهوى العاجل خطر، فانظر في كل شهوة ولذة إلى ما وراءها، وإلى صورتها الحقيقية في دين الله عز وجل، بل وفي واقع حياة الإنسان وفطرته السوية.
ثم كذلك تسويف التوبة وتأخيرها، فإنه لو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت قبل التوبة.
وأخيراً بالنسبة لرجاء الرحمة فالمقصود به مع نسيان العقاب، والله جل وعلا قد بين أنه هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، فالله الله ونحن في هذه الأيام المباركة، وبعد هذه الفريضة العظيمة، وهذا الموسم الجليل، وقرب انتهاء عام وابتداء عام أن نجدد النية والعزيمة، ونصدق الله عز وجل في أن نغير أحوالنا إلى الأفضل والأحسن، وأن نقوي عزائمنا وهممنا، وأن نعزم على ألا نستسلم لضعفنا وكسلنا، وأن نحيط أنفسنا وإيماننا بسياج منيع مباعدةً للمعاصي والمنكرات، والترفع والتورع عن الشبهات، بل وكثير من المباحات.
أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يحفظ إيماننا ويزيده ويعظمه، وأن يرسخ يقيننا ويثبته، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يوفقنا للطاعات، وأن يصرف عنا الشرور والسيئات.
اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا اللهم من الظلمات إلى النور.
اللهم اجعل لنا من نور الإيمان ما يكشف الشبهات، واجعل لنا من محبة الطاعات ما يقوي العزائم والهمم، واجعل لنا اللهم من معرفة مغبة وأثر الذنوب ما يصرفنا ويبعدنا عنها يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وأمح أوزارنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين، اجعل لهم اللهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم استر بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد: الله صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام أصحاب الحضوة الرفيعة والمقام الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.(21/6)
بين يدي الحملة الوطنية
إن الحملات الدعائية والإعلامية والثقافية ضد الإسلام وأهله قد بلغت مبلغها، فحاربت الفضيلة، ونشرت الرذيلة، ولا مخرج من هذا كله إلا بالالتزام بشرع الله، والتأدب بآداب الشرع الإسلامي الحنيف، وعلاج الأمراض والمشاكل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتم ذلك إلا بالإخلاص والتعاون والالتزام بالشرع.(22/1)
وقفات في معالجة الأمراض وحل المشاكل
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وظهرت حكمته، واتسعت رحمته، له الحمد سبحانه وتعالى، لا رادّ لقضائه، ولا مانع لعطائه، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، نحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد جل وعلا ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! كلنا يسمع في هذه الأيام عن حملة عامة ومؤتمر كبير حول قضية الإرهاب، وأعلم أن كثيرين من الناس يقولون: قد سمعنا كثيراً، وكان مما سمعنا مبالغات وخلط في بعض الأمور، وإن ثمة حاجات أخرى كثيرة نحتاج فيها إلى العلم والبصيرة، وهذه وقفات بين يدي هذه الحملة.
ولا شك أن رسالة المسجد أوسع وأشمل، بحيث تعنى بكل ما تحتاجه الأمة، وما يجد في واقعها، وما يكون مسبباً لأي عارض أو مشكلة فيها، وكما أسلفت من قبل فإن لسان المنبر أصدق قولاً، وأخلص قصداً، وهو من جهة أخرى أنأى عن مغالطات إعلامية، أو مزايدات سياسية، أو ضغوطات اقتصادية، أو غير ذلك.
ولعلنا -ونحن ندلي بهذه الوقفات- نسأل الله عز وجل أن تكون خالصة لوجهه الكريم من جهة، ونافعة لنا جميعاً ولأمتنا من جهة أخرى، فإن ما سأذكره يصلح أن يكون نبراساً لنا ولكل فرد منا في حياته العامة، وفي معالجته لمشكلاته ونظرته إليها.(22/2)
المصارحة والمناصحة لا المزايدة والمبالغة
وأول ما أبدأ به: المصارحة والمناصحة لا المزايدة والمبالغة: فإننا في أوقات المحن، وفي ظروف الفتن نحتاج إلى مصارحة ليس فيها مغالطة، وإلى مناصحة ليست مغطاة بالمجاملة، إذ في مثل هذا يتجلى موقف الإخلاص، ويظهر موقف الثبات، وتتجلى أحياناً صور غير مرغوب فيها، وليست بنافعة في واقع الحال من المزايدة والمنافقة والمجاملة في غير موضعها؛ لأن المسلم في أول الأمر وآخره إنما ينطلق من إخلاصه لله، وابتغائه لرضوان الله، وموافقته لنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصده للمصلحة العامة للمسلمين، وذلك ما ينبغي أن يكون، وذلك ما نعلمه من ديننا، وما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه العظيم الذي يحفظه أكثر الناس: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
سمت دائم، وصفة غالبة، وخصيصة ظاهرة لمجتمع الأمة الإسلامية، قوم يتناصحون بالحق والصدق والعدل، وبالأسلوب الذي فيه الحكمة، ومراعاة الظروف والأحوال، لا يغشون كما قال الحسن: المؤمنون بعضهم لبعض نصحة، والمنافقون بعضهم لبعض غششة، يغشون ولو بنفاق، ويغشون ولو بمغالطات ومزايدات ومبالغات، وذلك ما لا يكون من المسلم.
ولعل لنا وقفة مع حديث جليل عظيم رواه غير واحد من أهل السنن من رواية ابن مسعود رضي الله عنه، ومن رواية أبي الدرداء، ومن رواية زيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة بألفاظ مختلفة متقاربة: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم) وفي رواية أخرى: (لا يغل عليهن صدر مسلم، مناصحة أولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم) وفي رواية الدارمي: (والنصيحة لكل مسلم).
وهذا حديث عظيم في علاج كل قضية تعرض لك حتى ولو كانت فردية في دائرتك أو أسرتك: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم) أي: إذا وجدت لديه لم يدخل إلى قلبه حقد ولا خيانة، فلا يكون حينئذٍ منتصراً لنفسه، ولا معتدياً على غيره، ولا خائناً لدينه أو أمته، ما هي هذه الثلاثة يا رسول الهدى؟ قال: (إخلاص العمل لله) وذلك هو سبب النجاة، فإن الإخلاص طريق الخلاص، وإن التجرد مطية التقرب، وإن أحداً يشرك في عمله غير الله يحرم من التوفيق شيئاً كثيراً، وقد ورد حديث قدسي عن رب العزة والجلال أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فمن أراد غير وجه الله عز وجل من ظهور إعلامي، أو لفت نظر لبروز شخصي، أو منافقة ومداهنة لمصلحة يقصدها، فذاك لا يوفق لعلاج وحل أشكال، كما أنه في غالب الأحوال يحرم من التوفيق والهدى والبصيرة؛ لأن الإخلاص هو المؤشر والقائد الذي يسدد الأعمال، ويصوب الأقوال، ويسدد الآراء بإذن الله عز وجل، وهو الذي يجرد الإنسان من هوى نفسه وحظها؛ ليكون حينئذ أقرب إلى إصابة الحق، وإدراك الصواب بإذنه جل وعلا.
والنصح لولاة أمر المسلمين، وذلك لأن هذا معقداً من معاقد الخير والصلاح في الأمة، وتلك المناصحة بأساليبها الشرعية، وبطرائقها التي سرى وجرى عليها أئمة المسلمين، ومن خلال من يحسن ذلك ويتقنه من أهل العلم، ومن أهل الحل والعقد، لكنها قضية مهمة، حتى من تسلم منبراً كهذا أو غيره من المنابر عبر الصحافة أو الشاشات أو الإذاعات يجب عليه أن يخلص في قوله، وأن يسدي النصح كاملاً بأسلوبه الصحيح، ومنهجيته الشرعية المنضبطة، فإن أحداً سيما في أوقات يكون فيها بعض الإشكال أو الفتن أو المحن لا يحتاج إلى مزيد من المغالطات أو المجاملات بقدر حاجته إلى وضع النقاط على الحروف، وإلى بيان الحق بالأسلوب المعتدل المتوسط، الذي كان يقول به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعرض في وقت يحسن فيه التعريض، ويصرح في وقت يصلح فيه التصريح، ويعالج الأمر بكل ما يؤدي إلى حصول المقصود ومنع المفاسد.
ونلحظ كذلك من بعد ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم: (ولزوم جماعتهم) وهنا لا نقول همسة، بل صرخة لكل من يرى اعوجاجاً ويريد تقويمه، أو خطأً ويريد تصويبه، فليدرك أنه لا ينبغي أن يخرجه نقده ولا نصحه ولا ظنه بأنه يأمر بمعروف أو ينكر منكراً، وأن ذلك ينبغي أن يكون منضبطاً بلزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج عنها، وعدم شق صفها، وعدم إثارة البلبلة والفتن فيها، فإن رأى أن منكراً ينكره، أو قولاً يقوله قد يحصل به مثل ذلك، وتعظم به الفتنة، وتكبر به الشقة، ويستعدى به أعداء الإسلام على أهل الإسلام، فإن إمساكه عن ذلك النهي عن المنكر هو الواجب الشرعي في حقه، لأنه إذا عظمت المفاسد وقلت المصالح يجب الإمساك عن ذلك الفعل.
وإن المؤمن لا يندفع مع دوافع طبعه، ولا مع ردود فعله، ولا مع عواطف نفسه، إن أخذته الحمية أو الغيرة الإيمانية والإسلامية فليعلم أنه منضبط بضابط الشريعة الإسلامية، وكم كان من مواقف الصحابة والسلف رضوان الله عليهم ما أمسكوا به عن أمور كانوا يرون أن إنفاذها موافق للشرع، لكنه في وقت وحال معين قد يكون مترتباً عليها أعظم مما يراد من المصالح فتركوه، بل إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قد سن ذلك وشرعه، وبينه كما في الصحيح عند البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديثو عهدهم بإسلام لنقضت الكعبة، وأعدت بناءها على بناء إبراهيم، وجعلت لها بابين) وقد بوب البخاري على هذا الحديث: باب ترك الأمر مخافة أن يؤدي إلى ما هو أعظم منه، واستنبط ذلك ابن حجر وغيره من العلماء، فإن الرسول ترك ذلك لأنه سيؤدي إلى أمر أعظم من تحقيق تلك المصلحة.
وغير ذلك قد قال به أهل العلم كالإمام أحمد في أحاديث الأئمة، وكالإمام مالك في أحاديث الصفات، وكالإمام محمد بن الحسن في الغرائب، أمسك بعضهم حتى عن رواية الأحاديث لعامة الناس إذا كان الوقت يسبق فيه إلى الأذهان أفهام خاطئة، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله: أن ذكر القول في غير موضعه مما يترتب عليه الفهوم والأعمال الخاطئة ضرب من ضروب البدع، واستشهد بقول علي رضي الله عنه في الصحيح: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وقول ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
وهذه كما قلت صرخة لا همسة لكل من تحمله الغيرة والحمية على الإسلام وأهله أن يعرف أن الأمر ليس باختياره، وأنه لا بد أن ينضبط بهذا الضابط، وهذا الضابط يجمع الأمة ولا يفرقها، ويوحدها ولا يضعفها، ويجعل الإصلاح من داخلها وليس من خارجها، ومن شق عصا الطاعة وفرق الجماعة فإن الخلل في فعله والضرر من إصلاحه أعظم، وتترتب عليه من المفاسد ما الله سبحانه وتعالى به عليم.(22/3)
الرفق والحكمة لا العنف والشدة
الثاني: الرفق والحكمة لا العنف والشدة: فإن معالجة الأمور تقتضي ذلك، وإنه ليس ينفعنا أن نعظم الصراخ، وأن نجدد الهجوم على من نرى خطأه، وإنما كيف نتأتى للأمور من طرقها السليمة والصحيحة، فإن الرفق مظنة الحكمة، وإن الحكمة مع الرفق يمكن أن تكشف نوراً تكون به البصيرة، وتعرف به الحقائق، وتلتمس وتكتشف به الأسباب، وأما الفورة والحماسة مع السرعة والشدة غالباً ما تفوت كثيراً من هذه المصالح، وكثيراً مما نحتاج إليه في مثل هذه المواقف، والله جل وعلا قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، وذلك بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أنه من ظلم فله الحق أن ينتصر لنفسه، لكن الآية ختمت بذلك، وقال السعدي في تفسيره معلقاً: صبر على ما ينال من أذى الخلق، وغفر لهم بأن سمح لهم عما يصدر عنهم.
{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] أي: من الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزم والهمم وذوي الألباب والبصائر، فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى، والصفح عنه ومغفرته، ومقابلته بالإحسان أشق وأشق، ولكنه أنفع في الوقت نفسه.
وهذا المعلم الأعظم الذي هو قدوتنا المثلى عليه الصلاة والسلام يدخل عليه بعض اليهود ويسلمون عليه سلاماً مغموساً فيه حقدهم، فيقولون: (السام عليك -بدلاً من السلام عليك، ويقصدون: الموت لك- فيرد المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: وعليكم، ثم إذا بـ عائشة بعد خروجهم تبدي غيظها وتتكلم، فيطالبها الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدوء والرفق، فتقول: يا رسول الله! ألم تسمع ما يقولون لك؟! فيقول: يا عائشة! أما سمعت ما قلت لهم؟ قلت لهم: وعليكم) وكان هذا من هدوئه وحكمته صلى الله عليه وسلم، ثم قال في هذا الحديث لـ عائشة: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
وفي رواية البخاري أيضاً من حديث عائشة: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، وعند مسلم من رواية عائشة أيضاً: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)، والحديث عند الترمذي أيضاً من رواية أبي الدرداء: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير)، وذلك يدلنا على أن الرفق والأناة مفضية إلى القدرة على التركيز والإدراك والتفكير الصائب المتزن الذي يقع به بإذن الله عز وجل الوصول إلى الحق والصواب.
وجاء من حديث عائشة عند مسلم أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، كأمر المدرس مع تلاميذه إن أخطئوا وأراد تقويمهم، فإن أخذ بالرفق والحكمة كان ذلك زيناً له، وسمة تزيده إجلالاً واحتراماً عندهم، فإذا طاش واندفع مع دواعي طبعه فإن ذلك يظهره في صورة غير محمودة لمعلم ومربٍ لتلاميذه، ومثل ذلك في الأب مع أبنائه، ومثل ذلك في المسئول مع مسئوليه، ومثل ذلك في الراعي مع الرعية، فإن الرفق عظيم يعالج الأمور ويحسمها.
ولا يعني الرفق ترك العقوبات لمن استحقها واستوجبها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا جمع بين هذا وهذا، فكان يرفق، ولكن إذا بلغت الحدود وأقيمت الشهادات أنفذ حكم الله سبحانه وتعالى، وقبل ذلك كان يقول: (ادرءوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني فقد وجب)، قبل أن تصل إلى الحاكم الشرعي في أمور من المعاصي ربما لا تعظم بها المفاسد، يمكن أن يكون الوعظ والتذكير والتوبة كافية في ذلك، أما إذا بلغ الأمر إلى الحاكم فإنه لابد أن يقيم الحكم، وأن ينفذه؛ لأن حكم الله لا بد من إنفاذه، وذلكم أمره ظاهر وبين.(22/4)
المرجعية والواقعية لا الفوضوية والمزاجية
ومسألة ثالثة مهمة: المرجعية والواقعية لا الفوضوية والمزاجية: إننا عندما نتناول أي شأن من الشئون ونحن أمة إسلام، ونحن في بلد فيه منبع الإسلام ومهبطه، ونحن في بلاد الحرمين على وجه الخصوص؛ لا ننطلق إلا من مرجعية ثابتة، وهي مرجعية إسلامنا وديننا، كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ودستورنا ينص على ذلك ويقدمه، فلسنا معنيين بأن نوافق من في شرق الأرض وغربها إذا كان قولهم يخالف صراحةً كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا أردنا أن نتحدث عن الإرهاب ونعرفه فلن نعرفه من مصادر شرقية أو غربية، بل ننظر إلى ما بين أيدينا من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وننظر إلى تاريخ أمتنا لنعرف كل شيء من خلال هذا المنطلق الصحيح، وأن ننظر إلى الواقع كما هو، دون أن نتأثر بالمبالغات والمغالطات، وحينئذ يتوفر لنا ما لا يمكن أن يتوفر لغيرنا، تتوفر لنا العصمة في أمرين اثنين: عصمة النصوص الشرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعصمة إجماع الأمة إذا اجتمعت على أمر تستنبطه من كتاب ربها وسنة نبيها، فإن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة، ولكننا إن أخذنا من هنا وهناك، ويأتينا كاتب ليقرر علينا شيئاً تقرره دوائر غربية أو شرقية فإن ذلك لا يكون مظنة إصابة الحق ومعرفته، بل كثيراً ما يختلط بما يختلط به من أمرين اثنين واضحين: أن القوم لهم منطلقات ومرجعيات ليست مثل التي لنا من جهة.
وأن لهم أهواء وأغراضاً ومقاصد تخالف وتعارض مصالحنا من جهة أخرى.
وذلك ما ينبغي أن نفطن إليه، وأن نحرص عليه، ولا يأتينا أحياناً من يبعد به الأمر فنجده وهو يعارض ويخالف أموراً قد ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرك أنه قد أتى أمراً عظيماً، وارتكب خطراً كبيراً؛ لأننا إذا وصلنا إلى ألا نلتفت إلى هذه المرجعية العاصمة، فإن أمراً خطيراً يقع في خلالنا، ويجوس في ديارنا.
وبعد العصمة الكمال، فإن الكمال في شرع الله عز وجل، كما قال الحق جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فنحن بحمد الله لدينا في كل أمر أسس وأصول وقواعد وضوابط تجعلنا من خلال نظرنا فيها، ومن خلال اجتهاد أهل العلم فيها على قدرة وبصيرة أن نصل إلى الحق في كل جانب من الجوانب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(22/5)
التعاون والتكامل لا التناقض والتآكل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.
وإن من الأمور التي نذكر بها أيضاً في هذا المقام: أمر التعاون والتكامل لا التناقض والتآكل؛ فإننا في هذه المسألة نحتاج إلى المدرس في مدرسته، وأستاذ الجامعة في جامعته، وخطيب المنبر في مسجده، وكاتب الصحافة في صحيفته، ومقدم البرنامج في إذاعته أو قناته.
فإذا حصل التكامل وشيء من تبادل الأدوار في ذلك حصل بذلك خير كثير، وإذا كان التراشق بالتهم متبادلاً، أو هذا يبني وذاك يهدم أو العكس، فإن أموراً من الخير كثيرة تفوتنا، وإنه ينبغي لنا في حقيقة الأمر أن نتبصر ونستبصر، وأن نتبادل الرأي والفكر، والمعلومة الصحيحة، بعيداً عن مناهج قد تؤدي إلى شيء من الاختلاف والخلاف فيما بيننا، وإننا دائماً وأبداً نحتاج في ذلك إلى ما ذكرناه في الحديث الأول: إخلاص النية لله، والصدق والمناصحة، والحرص على الألفة والوحدة والجماعة، فإن وجد ذلك وجدنا أننا يمد بعضنا يده إلى الآخر، ويمكن أن يتنازل عن شيء مما قد يكون في ذهنه أو رأيه إذا رأى أن غيره أرجح، أو ربما يكون أصوب، أو ربما يكون مثله أو أدنى منه لكن في تقديمه مصلحة، أو ربما يكون الرأي عندي صحيحاً لكن الناس لا يقبلونه مني وقد يقبلونه من ذاك، فليقل به غيري؛ فإن إصابة الحق وإرادته هي الأولى والأكمل.
ونحن نعلم أننا بحمد الله عز وجل في مجتمع إسلامي، والناس فيه يصغون بقلوبهم قبل آذانهم لمن يتحدث إليهم بلسان الدين، وبآيات الله، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مزج مع ذلك بما هو منشور وشائع من أقوال وحكم وآراء مختلفة فإن ذلك يزيد إلى الخير خيراًَ، ونحن نعلم أن لسان المتحدث باسم العلم والدعوة والخطابة لسان تصغي إليه القلوب والآذان، فمن هنا ينبغي لنا أن نخلص في ذلك، وأن نجتهد في إصابة الحق في البحث وتحريه، والنظر في الأدلة ومراميها ودلالاتها، ومعرفة الواقع وإشكالاته وحقيقته، وذلك ما نهدف إليه بإذن الله عز وجل.(22/6)
الدقة والتخصيص بعيداً عن الفوضى والتعميم
وثمة نقطة أخرى أيضاً تتعلق بأمر الدقة والتخصيص بعيداً عن الفوضى والتعميم، فإنه إن وجد خطأ من أستاذ واحد أو معلم، فهل من الحكمة أن نقول: إن المعلمين فاسدون أو مخطئون؟ وإن وجد سطر في كتاب واحد فيه ملاحظة فهل من الحكمة أن نقول: إن الكتاب كله خاطئ؟ إن بعض ما ينشر في وسائل الإعلام من التعميم يفسد ولا يصلح، ويضر ولا ينفع، وهو مخالف للطريقة الصحيحة، والمنهجية الصائبة، وإن الله سبحانه وتعالى في كتابه عندما ذكر الكفرة والفجرة كان يستثني, وذلك الاستثناء منهج يدل على أن الحكم لا يعمم في كل أحد، فإن الناس يختلف بعضهم عن بعض، فإذا وجد خطيب أخطأ في طريقة عرضه لموضوع ما وجدنا من يشن الهجوم على الخطباء، ويطالب بأن يكفوا عن الحديث في هذه الموضوعات، وألا يخوضوا فيها، سبحان الله! فأي خوض إذاً يكون؟ وبماذا يتحدثون؟ ومن يخطب في الناس؟ ألا يتحدث الخطيب عن أمورهم وشئونهم وهمومهم وحاجاتهم؟ ألا يتحدث عن واقعهم ومشكلاتهم وما يحصل في مجتمعهم؟! وذلك كذلك كما أخبرت به من قبل في غير ما حديث.
ثم إننا في هذا التعميم يحصل لنا استعداء وشيء من المواجهات، ومن ثم فإن كل خطيب رأى خللاً لا ينبغي أن يشن الحملة على كل أحد من منبره، إننا في وقت نحتاج فيه إلى التروي، وإلى الرفق الذي ذكرناه، وإلى التكامل والتعاون، وإلى أن نكون مخلصين لله أولاً، ومناصحين لأمتنا جميعاً من حكامها إلى محكوميها، وإلى كل فرد منا فيما بيننا، ومحتاجين أيضاًَ إلى اللحمة والوحدة والألفة؛ لأننا في وقت نعرف وندرك يقيناً أن أعداء الإسلام يتربصون الدوائر بالمسلمين عموماً، وبهذه البلاد خصوصاً، ويريدون أن يجوسوا خلال الديار بواسطة الإصلاح المزعوم، من خلال إصلاح اقتصادي يحول بين الناس وبين الالتزام بشرع الله عز وجل، أو إصلاح اجتماعي يراد به تحلل المرأة واختلاطها بالرجال على أي وجه من الوجوه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يلزمنا كتابه، وأن يثبتنا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم أحسن ختامنا، وتجاوز عن سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا الرحمات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، واغتصبوا بلاد المسلمين، وانتهكوا حرماتهم يا رب العالمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وخذهم اللهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم اشف فيهم صدور قوم مسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين والمضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج كربتهم، اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(22/7)
آلام وآمال وأعمال
إن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم تعتريه الآلام والآمال؛ تعتريه الآلام لما يحل بالأمة من قتل وتشريد وانتهاك وإذلال، وتعتريه الآمال لما يراه من عودة كثير من المسلمين إلى دينهم، وانتباههم من غفلتهم وسباتهم، لكن هذا لا يكفي، بل لابد من العمل لهذا الدين، والعودة إليه عودة صحيحة، فإنه هو الطريق الوحيد لعزة الأمة وكرامتها.(23/1)
الانتفاضة الفلسطينية آلام وآمال
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فهو جل وعلا أهل الحمد والثناء، وله الحمد في الآخرة والأولى، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، نحمده جل وعلا حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغواية.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا جميعاً اتباع سنته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! قد عزمت على أن أتحدث عن الانتفاضة الجهادية المباركة في أرض فلسطين المسلمة، من جوار المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذكرى هذه الانتفاضة المباركة قد قضت خمس سنوات من الجهاد والسير في مناوأة أعداء الله، وهي تستقبل في هذه الأيام عامها السادس ثابتة الخطا، سائرة على المنهج، واثقة بنصر الله سبحانه وتعالى.
وتذكرت تلك الصور والمآسي والمصاعب التي يعاني منها أبناء الأقصى من اليهود عليهم لعنة الله، وتلك الجرائم والفضائع التي تعبر عن الحقد الأسود، وعن الجريمة المستقرة في النفوس، وعن طبيعة تلك القلوب والأفكار والعقول التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنها بوصف موجز بليغ دقيق في معناه فقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وقدموا على المشركين؛ لأنهم أبلغ عداءً، وأكثر حقداً، وأسوأ ممارسة ضد الإسلام والمسلمين؛ ولذلك لا تمر هذه الذكرى حتى يستحضر المسلم صوراً من المعاناة الشديدة القاسية التي يلقاها إخواننا في تلك الأرض المقدسة الطاهرة صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء، أطفالاً وشيوخاً، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، إنها معاناة لا تتوقف لحظة من اللحظات، ولا ثانية من الثواني، تلك المعاناة التي تكسر فيها الأطراف والعظام بالأحجار، تلك المعاناة التي تشمل مئات الآلاف من السجناء والمعتقلين، ومئات الآلاف من الأطفال الذين يحصدهم رصاص الغدر والعدوان، والنساء اللائي أجهضن في حملهن، واللائي اعتدي على أعراضهن، وغيرها وغيرها من الصور التي نسمعها دائماً، بل التي نراها في أحيان كثيرة ماثلة أمام العيان، فنجد هذه الصور الفضيعة التي تشمل كل ألوان الحرب من تضييق في الرزق، ومن حرمان من العمل، ومن إبعاد عن الأرض، ومن تفريق للأسرة، ومن تهجير وتغريب، ومن سجن وتعذيب، وكل هذه الصور التي تمر بإخواننا هناك حصادها كبير جداً، وآثارها ضخمة جداً، إن هذا الحصاد كما تجمله بعض هذه الأرقام يشكل صورة ينبغي للمسلم ألا ينساها، لقد قتل أكثر من ألف وثمانمائة وخمسين نحسبهم شهداء عند الله سبحانه وتعالى، (15%) منهم من الأطفال دون سن الرابعة عشر، وأكثرهم ما بين الرابعة عشر والعشرين من الشباب الذين في ريعان الزهور، لقد باعوا أنفسهم وأرواحهم لله، ونذروا وقتهم وجهدهم للدفاع عن دين الله، وبذلوا كل جهدهم للدفاع عن مقدسات المسلمين وعن كراماتهم، ثم إن هناك مائة وثلاثين ألفاً من المعتقلين، ومائة وأربعين ألفاً من الجرحى والمعاقين، وألفين وتسعمائة وخمسين بيتاً هدمت وهجر أصحابها، وثلاثة وستين ومائة من المبعدين، وغير ذلك من ألوان التضييق النفسي والحربي بكل صورة من صورها، ونعلم أن الذي يمارسها هم اليهود الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.(23/2)
حقد الهندوس على المسلمين
وقد كان العزم أن يستفيض الحديث عن هذه المآسي، وعن هذه الآلام، ولكن بدأ في الأفق غبار تراب يتصاعد، ودخان لهب جديد في أرض من بلاد الله فيها مائة وعشرون مليون مسلم، إنها أرض الهند التي سمع الناس وتناقلت الأنباء خبر هدم مسجدها الأعظم والأقدم المسجد البابري الذي له أكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة، والذي أسس على التقوى وعلى الإسلام، وما تزال الدوائر الهندوسية تتربص به الدوائر منذ عام خمسة وثمانين وثمانمائة وألف، أي: منذ أكثر من مائة عام وهم يسعون لهدمه، ثم هدموه على مرأى ومسمع من كل الدنيا، وهي تشهد ذلك بأنظارها عبر الشاشات، وتسمعه بآذانها عبر الإذاعات، ولكن لا ملب ولا مجيب! إنها صورة أخرى من الآلام المحزنة، ومن المآسي المفزعة التي تصب على المسلمين، وقد يكون الخبر عند كثير من الناس أنه مسجد هدم وانتهى الأمر، ولكنها عداوة أصيلة دائمة يتشابه فيها الهنود مع اليهود؛ لأن الكفر ملة واحدة، قال عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ولذلك لم تكن هذه الجريمة إلا إحدى أكبر الجرائم التي يمارسها أولئك الكفرة ضد أبناء الإسلام والمسلمين في تلك الديار.
إنها حقائق وجرائم كثيرة، فقد تم قبل ذلك هدم نحو ثلاثين مسجداً في (عليغره) في الهند، ونحو عشرة مساجد أخرى في حيدر أباد، وقتل في هذه المشكلات وفي هذه الجرائم مئات من المسلمين، وهكذا في هذه المؤامرة الأخيرة التي وقعت، فقد تضافرت فيها قوات الشرطة الهندية التي كانت تتفرج على مائة ألف من الهندوس المتعصبين الكفرة المجرمين وهم يعملون معاولهم في هدم المسجد وقبابه حتى تركوه أثراً بعد عين، وما تركوا فيه لبنة على لبنة، والشرطة تنظر إليهم! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل القضية أوسع؛ فالاضطرابات والاعتداءات على المسلمين مع هذا الحدث مستمرة متوالية، وقد قتل ألف من المسلمين في (بومباي) وحدها، وحرق نحو مائة طفل مسلم في ولاية (بوجراد) في الهند أيضاً، واعتدي على مصانع المسلمين ومتاجرهم في منطقة (محمد علي روس بومباي)، وما تزال السلطات الهندية تفرض حظر التجول حتى لا يتحرك المسلمون ولا يخرجوا من بيوتهم، وحتى يتمكن أعداؤهم من كسر متاجرهم وتدميرها وحرقها، والصراخ يعلو، والصرخات تتوالى، والجرائم تتابع، والدماء تنزف، والرقاب تقطع، وتشكل هذه المأساة صورة يعاني منها مائة وعشرون مليون مسلم يشكلون أقلية في تلك البلاد الكفرية.
ومع ذلك عندما علت هذه الصورة تنامى إلى الأسماع أزيز الطائرات أفواجاً إثر أفواج، ثم مشاهدة الجنود أرتالاً إثر أرتال من القوى الأمريكية والغربية التي جاءت لإنقاذ البلد العربي المسلم الإفريقي الذي يشكل المسلمون فيه نسبة مائة في المائة، هذا البلد الإفريقي الذي يعد وحيداً في كونه لا يوجد فيه غير المسلمين، وتهبط هذه القوات وقد استبطن في الأرض ليس آلافاً ولا عشرات الآلاف بل مئات الآلاف ممن حصدتهم المجاعة، وحصدهم رصاص البغي والاختلاس والعدوان على مرأى من الدول العربية والإسلامية، وعلى مدى عام كامل وأكثر، فليست أيام قليلة، ولا أشهراً عديدة، بل أكثر من عام كامل والمأساة تتكرر، ويبلغ القتلى والموتى مئات الألوف، ويبلغ المرضى أكثر من ذلك، ويبلغ المهاجرون أكثر من ذلك، وتتجسد أمامنا صورة أخرى من صور المآسي التي تمر بالمسلمين في كثير من الديار، ولن تنسينا هذه المآسي معسكرات الاعتقال، وقنص الأطفال، واغتصاب النساء، وذبح الرقاب وحزها، وتهجير المسلمين في أراضي البوسنة والهرسك.(23/3)
الفرج مع الكرب
إنها آلام وآلام وآلام شديدة فضيعة، ولكن هل نذكر هذه المآسي لنذرف الدمع، وحق لنا أن نذرف بدل الدموع دماء؟ وهل نذكرها لنرفع الصرخة والبكاء أو لنلطم الخدود؟ إنما نذكرها لنحيي الإيمان في القلوب، ولنعيد أنفسنا إلى منهج الله عز وجل، ولنعرف حقيقة أعداء هذا الدين، ولنستيقن بقول الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فهل نوقن بهذه الآيات التي نتلوها كثيراً ولا نتدبر ولا نتأمل في معانيها إلا قليلاً؟ وهل نؤمن بأن نصر الله سبحانه وتعالى يوشك أن يأتي به سبحانه وتعالى إذا تحققت في الأمة شروط هذا النصر؟ إنه ينبغي لنا ألا يدب اليأس في قلوبنا؛ لأنه: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة، ولذلك كلما اشتدت قبضة الظلم، وكلما علت راية الكفر والطغيان، كلما كان ذلك مؤذناً بإذن الله عز وجل بفجر يوشك أن ينبثق بعد هذا الليل الطويل؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد، ووعده الحق، وقد ذكر سنته، وسنته لا تتخلف، فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] ولكنه لا ينصر إلا أولياءه، ولكنه لا ينصر إلا أتباعه، ولكنه لا ينصر إلا دعاته، ولكنه لا ينصر إلا من يجاهدون في سبيله، ولكنه لا ينصر إلا من يخلصون له، ومن يخضعون لعظمته وجبروته، ومن يتبرأون من كل حول وقوة إلا حول الله عز وجل وقوته.
إن هذه الآلام الفضيعة القاسية يكمن فيها نفسها كثير من الآمال المشرقة الوضيئة التي تلوح في الأفق، فهذه الآمال تبعث الحيوية في النفوس المؤمنة والعزيمة في القلوب المسلمة؛ إنها آمال حقيقة ليست مجرد أوهام، وليست مجرد أحلام نداعب بها العواطف والخيالات، ولكنها آمال صادقة، فانظروا إلى أرض فلسطين اليوم فسترون أن مساجدها تكتظ بشبابها وشبانها، وانظروا إلى أطفال الحجارة فستجدون أنهم يحملون حجارتهم بيد ومصاحفهم باليد الأخرى، لقد خرج إلى الساحة اليوم أصحاب الأيادي المتوضئة، والجباه الساجدة، والشفاه المسبحة.
واسمعوا إلى الصيحات: إنها: الله أكبر، الله أكبر، خيبر خيبر يا يهود! جيش محمد سوف يعود! لقد تغيرت لغة الكلام، لقد تغيرت صورة العمل، لقد تغيرت قبل ذلك أهواء النفوس وحقائق الإيمان في القلوب، إنها أوبة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى، إنها أمثلة مشرقة ترى فيها الطفل الصغير وهو يلقن الأمة كلها درساً في الثقة بنصر الله، وفي المضي على منهج الله، وفي الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ليلقن المتخاذلين والمتكاسلين والخائفين والواهمين درساً عملياً تتحدث فيه الأفعال دون الأقوال، إنها مدرسة تنبئ أن جيل القرآن وأبناء المساجد هم الذين سيكون على أيديهم بإذن الله عز وجل تنزل النصر ورجوع العزة وديمومة الوحدة لهذه الأمة الإسلامية بإذن الله عز وجل.
وهكذا في أرض الهند التي يعاني كثير من المسلمين فيها من الجهل، لكنهم جعلوا صدورهم فداءً لمساجد الله وبيوت الله عز وجل، خرجوا يحمون مقدسات المسلمين، لكنهم ظلوا رغم هذه الهجمات الشرسة التي ينادي فيها الهندوس بإعادة تسعمائة مسجد إلى معابد هندوسية، والتي هدموا فيها عديداً من المساجد، والتي مارسوا فيها كثيراً من الجرائم، والتي يسعون فيها بالقوة لتغيير المسلمين وصدهم عن دينهم، مع ذلك يثبتون ثبات الجبال الرواسي، وتنتشر فيهم -بحمد الله- حركة علمية طيبة، وتبدأ فيهم روح عزة إسلامية قوية؛ إنها المحنة التي تنتج في أفنائها وفي أعطافها المنحة الربانية؛ إنها المنحة التي يصل فيها المسلمون إلى حد الضعف الشديد الذي يستشعرون معه صدق حاجتهم لله سبحانه وتعالى، ويرون أنه لا سبيل لهم ولا نجاة إلا أن يعلنوا الصلح مع الله، وإلا أن يسألوا النصر من عند الله سبحانه وتعالى.
وهكذا صور أيضاً تتكرر في أرض البوسنة والهرسك التي كان أبناؤها خمسين عاماً تحت الشيوعية الحمراء في تغريب وتجهيل وحرب، ثم إذا بهم مع ذلك -من فضل الله عز وجل- يأوبون اليوم إلى دين الله، وتتحجب نساؤهم، ويصلي رجالهم، ويدعو مجاهدوهم، وإذا بهذا النبض الإسلامي يتكاثر ويتعاظم في كل موقع محنة، وفي كل مكان مظلمة تقع على المسلمين؛ لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى.(23/4)
الآمال المشرقة في الأحداث المؤلمة
في هذه الصورة المشرقة آمال عظيمة نراها في هذه الصحوة الإسلامية والأوبة الإيمانية التي جعلت الناس يقبلون على الخير، ويساهمون في بناء المساجد وإعمارها، ويبادرون إلى الإغاثة والإعانة، ويحيون مع المسلمين في كل مكان، ومع آلامهم وآمالهم تتجاوب أصداء صرخات الهند وصرخات البوسنة وصرخات فلسطين فإذا بها تملئ آذان المسلمين في كل مكان، وإذا بها تحيي قلوبهم، وتبين لهم حقيقة العداء في هذه المعركة التي تدور رحاها على المسلمين لا لشيء ولا لسبب ولا لجرم اقترفوه إلا لشيء واحد بينه الله عز وجل بقوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] إلا لأنهم مسلمون موحدون؛ فإذا كنت مسلماً فسترى العذاب وسوف تواجه العجب العجاب، ولأنك مسلم ستموت غماً وهماً واضطهاداً واضطراباً، وستسأل كل أهل الأرض عدلاً وتنتظر الجواب ولا جواب! يسوءك أن ترى الطاغوت يعلو ويحني المسلمون له الرقابا لأنك مسلم ستزور سجناً وتنهبك السياط به نهابا إذا قرعت يمناك باباً سمعت الفحش يسرع والسبابا وسوف تعض من ألم بناناً وسوف تشف من جوع ترابا فإما أن تكون كما أرادوا وإما أن ينزلوا بك العقابا إنها قضية واضحة؛ قضية الحرب على الهوية الإسلامية؛ فإنه يشرق الأمل عندما تتحقق هذه الهوية في القلوب، وينطلق بها الصغار قبل الكبار في مواطن وبلاد الإسلام شرقها وغربها، فالطفل أوقد جمرها في أرض فلسطين، كما قال الشاعر: الطفل أوقد جمرها يا معشر والنسوة انطلقت أسوداً تزأر قد أقسم الشعب اليمين مجاهداً الله فوق الظالمين وأكبر كل المساجد والمآذن أقسمت حتى الحجارة رددت والمنبر قسماً ونور الحق في جبهاتنا قسماً لباكية تأن وتزأر قسماً لنار الثأر في أحشائنا ولكل طفل في الظلام يهجر قسماً لأرض قد سرى لها أحمد قسماً لقدس يستغيث ويجأر والميت المذبوح يسلخ جلده والعين تفقأ والعظام تكسر والشيخ يُسحب في الشوارع باكياً ودم العذارى صارخاً يتفجر لأحطم الكف التي عاثوا بها وأزلزل القدم التي تتبختر فالشعب يا شامير مرٌّ لحمه والشعب يا رابين حقداً يقطر هات الهراوي والبنادق واضربوا رأسي وصدري والسواعد كسروا والله لو سملوا العيون بخنجر والله لو هدموا البيوت وأنذروا بعيون طفلي سوف أبصر موطني وبكف شبل سوف ينبت خنجر هيهات أن ننسى فلسطين التي باتت تعشعش في القلوب وتحضر يا أمتي هذي فلسطين التي جرحت وراحت في الدجى تعصر لا تتركوها للدخيل فإنها تستصرخ الثوار أن يتحرروا إنها الآمال التي ينبغي أن نتفاعل معها، وأن نتأثر بها، وأن نؤدي دورنا فيها؛ فإن الآلام وحدها لا ينبغي أن توقفنا، ولا أن تقف عثرة في طريقنا، وإن الآمال وحدها ينبغي ألا تكون أحلاماً وأوهاماً، بل ينبغي لهذه الآلام ولتلك الآمال أن تعقبها الأعمال، فإنه لا يكفي الأمل ولا يغني الألم، بل لابد من العمل؛ فالله نسأل أن يوفقنا لنصرة دينه، وأن يحققنا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(23/5)
العزة والمستقبل للإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الشعور بمآسي المسلمين والتألم بآلامهم، ومشاركتهم في آمالهم، ونصرتهم فيما يقومون به من جهاد وعمل في سبيل الله سبحانه وتعالى، وإن هذه الآمال التي تنطلق هي آمال صادقة حقيقة يؤكدها وعد الله سبحانه وتعالى، ويخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) ويخبرنا عليه الصلاة والسلام في قوله: (ما من بيت مدر، ولا شعر إلا ويدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزاً يعز الله به الإسلام والمسلمين، وذلاً يذل به الله الكفر والكافرين) إنها نصوص وإنها دلائل قطعية تأتينا من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتسرب اليأس إلى نفس المؤمن الصادق والمسلم الحق، ولا يفت في عضده عداء المعتدين، ولا كيد الكائدين، ولا مؤامرات المجرمين؛ لأنه مع الله سبحانه وتعالى، ونحن نرى اليوم -بحمد الله- هذه الأوبة والجيل الذي نذر نفسه لله سبحانه وتعالى، ونرى بادرة عظيمة، وأملاً مشرقاً في راية الجهاد التي ترفع في أنحاء مختلفة من ديار المسلمين، ترفع لينطوي تحتها كل من يحب الله ورسوله، وكل من يريد أن يدافع عن دين الله، وكل من يسعى لرفع راية الله، وكل من يريد أن يمنع العدوان على حرمات الله سبحانه وتعالى، إنها راية الجهاد قد حملها الصغار والكبار، وسار بها النساء والرجال، إنها راية الجهاد التي انطلقت في أفغانستان، وتنطلق اليوم في كشمير، وترفع في البوسنة، وما تزال وما يزال نبضها قوي في فلسطين، ويحدثنا عنها حال الإنسان المسلم الصادق وهو يرى في هذا الجهاد ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، عندما ذكر فضيلة الجهاد وأجره الذي لا يعادله أجر، وبين أنه يكون خاصاً بالمجاهد الجاهد، والمجاهد الجاهد هو الذي يلتذ بالجهاد، ويعشقه ويحبه، ويتوق إليه ويشتاق إليه، وحاله كما قال الشاعر: وحبي للجهاد يفوق حبي لأوطاني ونصر الدين همي ومرضاة الإله ببذل روحي ومرضاة الإله تزيل غمي ومرضاة الإله بحرب كفر وبغض الكفر في لحمي ودمي(23/6)
كيفية المخرج من الآلام والمآسي التي تمر بالأمة
الآمال المشرقة ينبغي أن تعقبها أعمال، وقد يقول قائل: تكثرون من الحديث عن المآسي، ولا يكون هناك حديث عن المخرج والعمل؟ فأقول: كل بيده عمل، وكل في عنقه واجب، وكل مناط به مسئولية، وأول ذلك وآكده ذلك النداء القرآني العجيب الفريد الذي لو تحقق في الأمة لما كانت على هذه الحال من الذلة والضعف والهوان، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، إنه تحرير الإيمان وتجريد الإخلاص، وتعظيم التقوى في القلوب لله سبحانه وتعالى، فهل نحن على صدق في إيماننا؟ وعلى يقين من إيماننا؟ وعلى التزام بإسلامنا؟ قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]، فهل القلوب متآلفة؟ وهل النفوس متآخية؟ وهل تحقق في الأمة قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؟ وهل تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف المسلمين ووحدتهم: (يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم)، وقوله: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) إنه لابد لنا أن نعلن الصلح مع الله عز وجل، وأن نبذل كل ما في وسعنا لنستنزل نصر الله سبحانه وتعالى، إنه إعلان صادق للإيمان الحق واليقين الراسخ بوعد الله سبحانه وتعالى، وتأكيد لحقائق هذا الإيمان بالولاء والبراء الشرعي، إنه ولاء لعباد الله المؤمنين وعداء للكفرة من أعداء الدين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] إنها المسألة المهمة التي تميز المسلم وتبعث فيه عزته، وتبين له أصالته حتى لا يكون تبعاً لشرق ولا لغرب، ولا ذنباً لقوي ولا صاحب سلطان، وإنما عزته بإسلامه، وإنما قوته بإيمانه، وإنما استنجاده واستغاثته بالله سبحانه وتعالى، ثم إعلان لاستقامة المسلم على تقوى الله عز وجل، تلك التقوى التي تقتضي منه أن يأتي بأوامر الله سبحانه وتعالى، وأن يجتنب نواهيه، فطهروا البيوت من المحرمات، وطهروا الألسنة من الأقوال الفاحشة، وطهروا الآذان من السماع المحرم، وامنعوا العيون من النظر الآثم، وطهروا الأموال من الكسب الخبيث، وأصلحوا أحوالكم يصلح الله سبحانه وتعالى حالكم؛ إنها معادلة لا يمكن أن تتخلف، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إنها النعمة التي منَّ الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم حينما ألف بين قلوب أصحابه مهاجرين وأنصاراً، وأوساً وخزرجاً، وعبيداً وأحراراً، وأغنياء وفقراء، فكلهم كانوا قلباً واحداً، ونفساً واحدة راضية، وأمةً واحدة متماسكة، فينبغي أن نملأ القلوب بالحب للمؤمنين، والمودة لهم، وإحسان الظن بهم، والتماس العذر لهم، والرغبة في الخير لهم، والسعي لكل ما من شأنه أن يؤلف بين القلوب، ويوحد بين الصفوف، وينبغي أن نعلن الحرب على المفاسد الاجتماعية الأخلاقية المحرمة، وينبغي أن ننكر المنكر، وأن نأمر بالمعروف بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأسلوب الذي يحقق حصول الخير وانتفاء الشر بإذن الله عز وجل.
ثم لابد كذلك أن نحيي هذه المعاني الإيمانية في كل مجلس وفي كل لقاء ومع كل أحد، وأن نجعل ألسنتنا لاهجة بذكر الله عز وجل، وبذكر حكمة الله عز وجل، وسنة الله عز وجل، وأن نذكر أخبار المسلمين ومآسيهم وأحوالهم لكل من حولنا، فنحن نجلس المجالس الطويلة وليس فيها إلا القيل والقال، والغيبة والنميمة، والتحدث عن الأموال والعقارات والسيارات، وكأنه لا شيء يشغلنا، وكأنه لا همَّ نحمله، وكأنه لا جرح ينزف في نفوسنا وفي أبداننا، وكأننا نغفو ونلهو ونلعب ولا ندري ما يحاك حولنا، ولا ما يدبر لنا، ولا ما يحل بإخواننا، فلماذا لا نتحرك هذه الحركة حتى نبقي معنى الإيمان حياً في القلوب، وحتى نبقي معنى النصرة للمسلمين حياً في النفوس، وحتى لا يركن الناس إلى الدنيا، وحتى لا يغفلوا فيحق قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]؟! فينبغي أن نسعى بالعمل؛ لأن حال الأمة اليوم هو من أعظم أسباب هزيمتها وضعفها وهوانها وغياب كلمتها: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود فهذه الحال ينبغي أن تغير، ولا تغير إلا بتغيير القلوب والنفوس، فعلينا أن نبدأ بالإخلاص والإيمان الصادق، وأن نبدأ بالعمل الخير الصالح، وأن نهجر المفاسد والمعاصي، وأن نكون ألسنة دعوة، وأن نكون نماذج حق تمتثل هذا الدين، وأن نساهم بعد ذلك ببذل أموالنا وببذل جهودنا لنصرة إخواننا المسلمين في كل مكان، بل حتى ببذل أرواحنا، وبالمشاركة الشعورية والمعنوية؛ فإن هذا مما يحيي معاني الإيمان والإسلام في الأمة، ومما يسر إخواننا الذين يلاقون العذاب والاضطهاد في كل مكان، ولابد مع ذلك كله أن نحيي معاني العلم الشرعي الذي يبصر الإنسان المسلم بحقيقة ما يحتاج إليه في هذه الدنيا، ويعرفه الأحكام التي ينبغي أن يتبعها، ويعرفه الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها، كما يعرفه الحقائق التي تدلس عليه، والأوهام التي تلقى في طريقه، فإنه إن كان عالماً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميز بهذا بين الحق والباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].(23/7)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح أوضاع الأمة
إن الأوهام لا تعيش في وجود الحقائق، وإن الظلمات لا تبقى عندما يكون هناك النور والضياء، فينبغي أن نسعى لمثل هذا الأمر والعمل، وأن نشيع الخير والذكر، وتلاوة القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودروس العلم، ومحاضرات الخير، والدعوة إلى الإصلاح؛ لأن هذا مما يقوي رجوع الأمة إلى دينها واستمساكها بنهج ربها، إنها أعمال كثيرة لا ينفك عنها واجب مسلم مطلقاً، فلا يقل أحد: ليس علي واجب، وماذا أصنع؟ إن إصلاحك لنفسك ولأسرتك، ومنعك للمنكرات في بيتك وفي بيئتك إنما هو تقديم سبب من أسباب النصر الذي يتنزل على المؤمنين، إن العيب فينا؛ إن كثيراً من أحوال المسلمين في كثير من بقاع الأرض هي السبب الأساسي والرئيسي الذي وقع به عليهم هذا البلاء في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين، أليست كثير من بلاد المسلمين لا تحكم شرع الله، وتعلن الحرب ببعض المفاسد الظاهرة على الله سبحانه وتعالى، وتتبع في ولائها وبرائها منهجاً لا يرتبط بدين الله سبحانه وتعالى؟! هذه هي الأسباب التي ينبغي أن نعالجها، ولا تقل: لا أستطيع، فإنك تستطيع، فإذا وجد أن أمراً معيناً في نفسك وأهلك عجزت عنه فأنت عما سواه أعجز، فإنها أوهام يحوكها الشيطان في عقولنا لنتقاعس، ولكن الواجب لا يمكن أن يكون بعيداً عن كل إنسان بذاته في نفسه ومن ولاه الله سبحانه وتعالى أمرهم، فإذا صلحت هذه الأحوال أوشك -بإذن الله عز وجل- أن تصلح حال المجتمعات والأمة الإسلامية كلها، ولذلك ليست القضية في القوة، وليست القضية في السلاح، ولا في كثرة عدد المسلمين، وإنما هي قوة الإيمان أولاً، ثم قوة التلاحم والتماسك والأخوة الإسلامية والرابطة العقدية الإيمانية ثانياً، ثم بعد ذلك وجود أسباب الإصلاح والعمل الجاد بدلاً مما كانت ولا تزال عليه صور بعض المجتمعات الإسلامية، قال الشاعر: تركنا كتاب الله بحراً ونستقي غديراً كما يسقي من البئر مائح رمينا وراء الظهر سنة أحمد تركنا هداها وهو كالبدر لائح وها نحن نستجدي من الغرب شمعة فلا الغرب معط ولا الشرق مانح مدابغ للتبشير في كل مركز من الوطن المكلوم وهي ذبائح مساجدنا تبكي الشباب من الجفا وغصت بهم دور الخنا والمسارح مدارسنا ماجت بكل ملوث يصاب بعدواه الحجا والجوارح فكثيرة هي مظاهر الانحراف في مجتمعات ودول الإسلام في شرق الأرض وغربها، ولذلك ينبغي أن نئوب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نعمل جاهدين على إقامة الإسلام في نفوسنا، وبيئاتنا، ومجتمعاتنا، وأن نكون عوناً على ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى، والفجر -بإذن الله- قادم، وإرهاصاته ظاهرة، ولكنها محن يبتلي الله بها المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، إنها فتن الابتلاء، قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] أي: حتى تظهر المعادن الأصيلة، والمعاني النبيلة، وتتميز الصفوف من العناصر الدخيلة، ومن المنافقين وأصحاب الأهواء والمنافع؛ إنها محن تحيي الإيمان بإذن الله، وتدفع إلى الوحدة بإذن الله، وتقود -بإذن الله عز وجل- إلى نصر قريب، أليس الصبح بقريب؟! فهذا هو الأمل الذي ننتظره، والأمل يحتاج إلى عمل، فلابد أن ننظر في الآلام إلى الآمال، ولابد أن تقودنا الآمال إلى كثير وكثير من الأعمال، والله أسأل أن يلطف بإخواننا المسلين في شرق الأرض وغربها.
اللهم إنك العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر، اللهم قل الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع الحاكم، بك نعتز عليهم، وإليك نهرب من بين يديهم، مال الناس إليهم، وتوكلنا عليك في إنصافنا منهم عليك، وتوكلنا في إنصافنا منهم عليك، ورفعنا ظلامتنا إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم سدت الأبواب إلا بابك، وانقطعت الأسباب إلا أسبابك، اللهم قل الناصر، وعز المعين، وكثر الظالم، وبغى الأعداء، اللهم فأنزل على المؤمنين نصرك المبين، اللهم ثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم رحمتك بإخواننا المضطهدين والمعذبين، اللهم رحمتك بالمسلمين المشردين والمبعدين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم، اللهم ثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم ثبتهم على الدين، وارزقهم الإيمان واليقين، اللهم اجعلهم ممن يرضون بقضائك، وممن يثقون بنصرك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تؤلف بين قلوب المسلمين، وأن تصلح ذات بينهم، وأن تزيل منهم أسباب الشحناء والفرقة والبغضاء.
اللهم ألف على الحق قلوبنا، اللهم ألف على الحق قلوبنا، اللهم ألف على الحق قلوبنا، واجمع على نهج الصراط المستقيم آمالنا وأعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق ولاة المسلمين لكل ما تحب وترضى، اللهم وأبعدهم عما لا تحب ولا ترضى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك حياة السعداء، وعيش الأتقياء، وموت الشهداء برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء نجاة وعافية، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا الرحمات، وأن تفيض علينا البركات، وأن تضاعف لنا الحسنات، وأن ترفع لنا الدرجات، وأن تقيل لنا العثرات، وأن تمحو عنا السيئات، وأن تغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ودمر الكفرة وسائر أعداء الدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً قريباً أسودَ، يا قوي! يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! نكس وجوههم، وأذل أعناقهم، ونكس راياتهم، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا منتقم! يا جبار! يا عزيز! اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! واجعل خير أعمالنا خواتمها يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.(23/8)
البدايات والنهايات
لكل بداية نهاية، والسعيد من كانت بدايته ونهايته على وتيرة جيدة من الخير والصلاح، فعلى المرء المسلم أن يجتهد في أن تكون بدايته حازمة جادة على طريق الخير والفلاح حتى النهاية، ومن ذلك اجتهاده في اغتنام شهر رمضان، وفي الاستكثار من الأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل، وله في ذلك قدوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.(24/1)
طبيعة البدايات والنهايات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى على ما وفق من الطاعات وما صرف من الشرور والسيئات.
نحمده سبحانه وتعالى ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: فهذا هو درس الجمعة الرمضاني الأول، يأتي في يوم الجمعة غرة شهر رمضان المبارك عام خمسة وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة، وعنوانه: البدايات والنهايات.
ونحن في بداية رمضان، وستمر الأيام والليالي ونصل إلى النهاية، كما هو شأن الحياة لكل حي بداية ونهاية.
ومقصودنا في هذا الحديث أن نجلي طبيعة البدايات والنهايات، وأن نعرف ما تستحقه البداية وما تتطلبه النهاية؛ لكي نستعد لذلك الاستعداد اللائق واللازم، ودائما تترافق البدايات مع همة وعزيمة، وهذا هو الأصل.
فمع بداية العام الدراسي يبدأ الطلاب بداية قوية بنشاط وحيوية وقوة، ثم عند النهايات تشتد العزائم وتتجدد الهمم مرة أخرى باعتبار أن النهايات فيها الخواتيم وفيها النتائج وفيها الثمرات، فلذلك نجد الطلاب يكسلون أحيانا فيما بعد البداية، فإذا قربت النهاية وجاء الاختبار شمروا مرة أخرى عن ساعد الجد، وابتدءوا تدارك ما فات، وضاعفوا من البذل؛ لكي يحققوا أحسن ثمرة وأفضل نتيجة، وعمر الإنسان كذلك قد يكون في مبدئه ومقتبله قوة ونشاط وحيوية، ثم تمر به الفترات، فإذا اقتربت نهاية العمر وقربت الخاتمة تجددت مرة أخرى عند أكثر الناس همتهم في الخير ومراجعتهم للنفس وتصحيحهم للخطأ، وتداركهم للنقص وتوبتهم عن الذنب واستغفارهم لما سلف.
وهذه طبائع الأمور حيث تبدأ بقوة، ثم تدرك المرء الغفلة، ويحيط به الكسل، فإذا شارف الوقت على الانتهاء عاد مرة أخرى إلى التدارك، وهنا وقفتنا التي نفصل فيها بعضا من طبائع البداية والنهاية.(24/2)
كيفية بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم
ولنأخذ في ذلك القدوة المثلى رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ بعض البدايات لنرى أن البدايات طبيعتها الشدة والصعوبة والقوة، وأن الأمر إذا أردت أن يكون جيداً وأن يكون السير فيه حثيثاً فلابد أن تكون بدايته وانطلاقته قوية؛ لأن كل أمر يبدأ بكسل وفتور، أو يبدأ بتقصير وتفريط؛ فإن مآله إلى انقطاع.
وكثيراً ما نرى -كما يقولون- الكتاب من عنوانه، والأمور من بداياتها، فلو جئنا في أول العام وأول يوم في الدراسة لوجدنا أن نصف الطلاب غائبين، فمعنى ذلك: أن هؤلاء الطلاب وهذه الدراسة سيكون أمرها -كما يقال- في خبر كان، لكننا لن نجد ذلك غالباً، بل نجد أن الطلاب منتظمون كلهم أو معظمهم في أول يوم، ثم يحصل بعد ذلك التفريط والتقصير.
ولذلك البداية لابد أن تكون جادة، ولابد أن تكون قوية، ومن قدر الله عز وجل أنه جعل البدايات تكتنفها الصعوبات حتى تتهيأ لها النفوس.
وأنقل هنا مثالاً جديراً بالتأمل والتدبر والاعتبار من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: وذلك في أول مرة نزل فيها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يظن البعض أو يتصور أن المرة الأولى لابد أن تكون هينة خفيفة، ثم تتدرج بعد ذلك في قوتها وثقلها وصعوبتها، ولكننا نجد الأمر على غير ذلك؛ لأن البدايات الضعيفة لا تؤهل إلى مسيرة قوية.
فكيف نزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما عند البخاري وغيره أنها قالت: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء؛ فكان يتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء حتى نزل عليه جبريل وهو في غار حراء، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغطني - أي: ضمني ضماً شديداً- حتى بلغ مني الجهد -أي: المعاناة والمشقة والصعوبة- قال: ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]) فالرسول عليه الصلاة والسلام كان وحده في الغار، وبمجرد قدوم كائن أو إنسان غريب في تلك الخلوة كان كافياً أن يكون مخيفاً، ثم إذا به يخاطبه، ثم إذا به يضمه ويشتد عليه، وليس مرة واحدة ولا اثنتين بل ثلاث مرات؛ لماذا؟ لأن الذي سيأتي ثقيل؛ ولأن الذي سيتلى عظيم؛ ولأن الرسالة جسيمة والأمانة ضخمة والمسئولية هائلة.
ولذلك كان لابد أن تكون البداية قوية وفيها شدة؛ لتكون متناسبة مع طبيعة البدء وقوة الانطلاق واستشعار عظمة المسئولية والأمانة؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فلا يمكن للقول الثقيل أن يأخذه الضعيف، ولا يمكن للمهمة العظيمة أن يحملها الرجل الضئيل، ولا يمكن للغايات السامية أن يسير فيها الكسالى واللاهون والعابثون.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم هو الذي اصطفاه الله جل وعلا وهيأه لهذه المهمة وصنعه على عينه، ثم جاءت البداية بهذه القوة والشدة.(24/3)
كيفية بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة
وهناك بداية أخرى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: وهي بداية استئناف الدعوة الإسلامية وإنشاء المجتمع المسلم في المدينة المنورة.
وكانت بدايتها الهجرة، وكانت الهجرة خطباً عظيماً وحدثاً جليلاً وصعوبة كبيرة ومخاطر عظيمة وطريقاً شائكة؛ فقد اجتمع وتآمر كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليمنعوه من الخروج إلى المدينة كما هو معلوم، والنبي عليه الصلاة والسلام اختار وقتاً في شدة الحر والظهيرة، وخرج واتجه إلى الجنوب بدل أن يتجه إلى الشمال، وبقي في غار ثور ثلاث ليال، وسار وأدركه سراقة بن مالك، ومشى وقتاً طويلاً، وكان الطلب يلحقونه، وكان ذلك بعد أن عانى أصحابه في هجرتهم، فكانت مشقة تلاها بعد ذلك فرج عظيم، وبدء إقامة دولة الإسلام، وإنشاء المجتمع المسلم.
وهكذا نرى بدايات كل أمر فيه قوة وشدة وأمانة عظيمة، وكذلكم كان فعله عليه الصلاة والسلام عندما وصل المدينة؛ فقد بنى المسجد أولاً، وآخى بين المهاجرين والأنصار ثانياً، وعقد المعاهدات مع اليهود ثالثاً، فأحكم الأمر من أوله، وصحح المسار من بدايته، وأخذ الأهبة على تمامها وكمالها، وهيأ الأمر بكل ما يحتاج إليه من البداية حتى لا ينفرط الأمر، ولا يصبح المراد بعد ذلك بعيد المنال.(24/4)
حال النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية
وأما إذا جئنا إلى صورة ختام حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد مرت به سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، واشتدت عليه، وكانت تعلوه الرحضاء، وكان يمسح ويقول: (إن للموت لسكرات).
وكان عليه الصلاة والسلام يلقى من ذلك شدة، وكان في تلك الشدة يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم! لا تجعلوا قبري عيداً)، ما زال متعلقاً بأمانته ومهمته ودعوته ورسالته؛ لم يذكر زوجة ولا ولداً ولا مالاً ولا تركة، وإنما ذكر الدين والعبادة والوصية لأمته عليه الصلاة والسلام وهو في أشد اللحظات وأشد الكربات.(24/5)
أهمية الحرص على فضائل الأعمال في شهر رمضان
ونحن اليوم في بداية هذا الشهر، وستمر بنا نهايته إن طالت الأعمار وكتب الله لنا الحياة، وتأتينا في هذه البدايات كل أحاديث وآيات الفضائل والترغيب في هذا الشهر، وبيان أن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وأن لله في كل ليلة عتقاء، وفيه مضاعة الأجر، وبيان صلة الصيام بالقرآن، وصلة الصيام بالشفاعة، وصلة الصيام بالجنة، وصلة الصيام بالرحمة، وصلة الصيام بصلة الرحم.
كل هذه الفضائل تجتمع وتحتشد وتصطف في أول الشهر لتحقق أمرين اثنين أساسيين: أولهما: شحذ الهمة والعزيمة وإثارة الشوق والعاطفة لنيل كل هذه الفضائل والبركات والخيرات التي جعلها الله عز وجل مختصة بهذا الشهر الكريم.
فنحن مع هذه البداية لن نعرج على كل الفضائل ومحاسن الأعمال وصالح الأقوال التي تختص بهذا الشهر الكريم؛ لأنها كثيرة جداً، وهي شاملة للإسلام كله ولأعماله وأركانه كلها؛ فنحن في هذا الشهر نؤدي فريضة الصيام، ونحن نصلي ونؤدي فريضة الصلاة، ونزداد من الصلاة مع الفريضة تطوعات، ونحن أيضاً نزكي ونقصد بزكاتنا شهر رمضان لإصابة الفضل والخير والأجر والثواب، ونحن نعتمر عمرة في رمضان كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نأتي بكل الأمور، ونحن أيضاً في هذا الشهر نصل الأرحام، ونطعم الطعام، ونصلي بالليل والناس نيام.
كل هذه الفضائل تحتشد أمامنا في البدايات لتقوي العزائم وتعلي الهمم، ولتجعل العزم أكيداً، والحزم جاداً من البداية، أما أن نقول: نبدأ بقليل ثم نكثر ونكثر فكلا، فإن البداية غالباً ولابد أن تكون الأعظم والأكبر، ثم قد يحصل الفتور، ويتداركه الإنسان في الآخر، كما سنذكر.
والأمر الثاني: البدء بالقوة والأكثر، والحرص على الأعظم والأكبر: ولست مع من يرى أن الناس فيهم ضعف، وأننا في البداية نأخذهم بالأقل، فمثلاً: الذي يريد أن يختم القرآن ويقول: سأتلو في كل يوم جزءاً، ويأخذ بهذا الحد، فإن قصر عنه بعد ذلك فصار في يوم لا يقرأ جزءاً فما معنى ذلك؟ معناه: أن الشهر سينقضي وهو لم يختم، لكنه لو قال: إنه سيقرأ في كل يوم جزئين، ثم قصر عن ذلك فمرة قرأ جزئين ومرة جزءاً ونصفاً ومرة جزئين إلا ربعاً ومرة جزءاً وربعاً ومرة قصر إلى الجزء فإنه بكل حال سيصل إلى مراده قطعاً.
ولو قال: سوف أصلي، وأقل القليل سأبدأ بركعتين من التراويح، ثم أزيد؛ فإنه إن طالت الركعتين سيلتمس الجواز، يعني: يصلي ركعة لو استطاع، لكنه لو قال: أصلي عشراً وقبل الفجر أصلي عشراً أخرى أو كذا فإنه إن قصر يكون تقصيره إلى أقل من ذلك.
وهكذا ينبغي أن نفعل؛ لأن طبائع النفوس لا تأخذ بالجد وقتاً طويلاً، فقد تفتر من بعد، فإذا أخذناها بالراحة والقلة في البداية فنحن إلى ما هو أدنى وأقل واصلون ولا شك، فما الذي سيجبر هذا الضعف؟ نحن نبدأ أقوياء ثم نضعف، لكن إن بدأنا ضعفاء فالله يستر على حالنا ومصيرنا.
وإذا بدأنا بقوة قد نضعف، فما الذي يدرك ضعفنا هذا؟ ستدركه النهايات، فعندما يقترب الشهر من آخره تأتينا أمور أخرى: أولها: أن هذا الموسم سينقضي، وإذا كنا في الأول نقول: الشهر ثلاثون يوماً، وإذا مضى يومان أو ثلاثة بقي ثمانية وعشرون أو سبعة وعشرون، فنحن إذا كنا في الخامس والعشرين -على سبيل المثال- فلن يبقى إلا خمسة أيام، فالعد التنازلي نهاية السباق، كما ترون المتسابقين يجرون يجرون في أول الانطلاق بقوة، فإذا كان السباق طويلاً نجدهم في وسطه وهم يخففون السرعة، فإذا قربت النهاية ولاحت لهم أطلق كل منهم كل طاقته ليصل قبل غيره، وليحقق المراد الذي لأجله سار تلك المسافة الطويلة، والمحروم منهم من يسقط ويقعد قبل النهاية، فإن كل الذي مضى له من العمل والجري لم يحصل له به أثر ونتيجة.
وعندما تأتي النهايات تأتينا أيضاً رحمة من الله عز وجل، فقد خصت العشر الأواخر كما نعلم جميعاً بخصوصية فوق الخصوصية الرمضانية، فرمضان كله أجر وفضل، ومع ذلك جاءت العشر بعبادات أخرى خاصة بها كالاعتكاف، وبأجر خاص بها في ليلة القدر، وبأمور فعلية فعلها النبي عليه الصلاة والسلام فيها؛ لنجعل مرة أخرى النشاط يعود من جديد والقوة تعود مرة أخرى والهمة ترتفع، حتى إذا جاءت تلك الليالي زاد العمل فيها ليلاً ونهاراً، وانقطع الإنسان عن دنياه وعن مشاغلها، وعن أهله وزوجه؛ ليتفرغ لطاعة ربه ولعبادته ومناجاته سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: لم يبق إلا هذه الأيام القليلة والليالي المعدودة من هذا الموسم الذي تضاعف أجره، والعشر زاد فضلها، فكأنه يقول: هذا هو ختام السباق، فيشتد فيه عزمه، وتقوى فيه همته، وينشط في عبادته، ويكثر في كل أنواع الخير تلاوة وذكراً ودعاءً وصلاة وإنفاقاً لكل ما يستطيع.
وبين البداية والنهاية يأتي الوسط، فإن كان ضعيفاً كان الأمر هيناً، ولكننا نرى في أحوالنا سوءاً ومخالفة، منها ما أشرت إليه بأن الناس يبدءون بضعف، وإذا بدءوا بضعف فهم إلى الضعف بعد ذلك أكثر، وبعضهم يقول: نبدأ بالتراويح بالأقل فالأقل، ثم نزيد قليلاً فقليلاً، وأنا أتبعه وإن كنت لا أقتنع بذلك؛ لأن الناس يستثقلون في الوسط ما لا يستثقلونه في البداية.
ولكن الأمر الأدهى والأمر هو ما يكون من حال الناس في آخر الشهر، فبدلاً من أن يجددوا سيرة القوة وأن يدركوا نهاية المدة وأن يضاعفوا الجهد والطاقة، نجدهم يكثرون اللهو والصفق في الأسواق، وتتواصل الأسواق ليلاً ونهاراً، ويفرغ الناس أحسن وأغلى وأثمن الأوقات وأفضل اللحظات والساعات ليقضوها في التسوق والبيع والشراء وفي أمور أقل ما يقال فيها: إنها تضيع الأعلى وتأخذ بالأدنى.(24/6)
وصايا لاغتنام رمضان(24/7)
أهمية المشاركة في أعمال الخير
وصية رابعة: استعن بالله عز وجل في أن تشارك إخوانك في مثل أعمال الخير: فربما تقرأ ختمة لنفسك، وربما تقرأ أيضاً ختمة مع أهلك أو مع بعض زملائك أو مع بعض أهل المسجد، فإن هذا التعاون أحياناً يقوي عزمك، ويجعلك إذا ارتبطت بغيرك حريصاً على الالتزام، ولا يجعل للشيطان أو للنفس وضعفها عليك فرصة في أن تتخاذل أو أن تكسل، وهذا من أسباب الإعانة كذلك.(24/8)
أهمية الدعاء
الأمر الرابع هو: كثرة الدعاء من أول الشهر بكل خير من الأعمال الصالحة التي تريدها لنفسك، وتريد أن تحصل عليها وتأخذ بها وتلتزمها وتؤديها على أكمل وجه بإذن الله عز وجل.
ويقابل ذلك الدعاء لله عز وجل بأن يجنبك ويخلصك من كل ما تكرهه لنفسك، وما أنت مقر بأنه من صور القصور وألوان الضعف، فهذه فرصة من الفرص العظيمة؛ لأن هناك اختصاصاً في الصيام بالدعاء كما نعلم، فينبغي أن نحرص على ذلك.
فإذا بدأنا بهذه البداية القوية يوشك إذا جاءت النهايات أن يتضاعف فيها عملنا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أن كانت البدايات ضعيفة فيوشك أن تكون النهايات كذلك.
نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد والهدى والرشاد، ونسأله عز وجل أن يقوي عزائمنا في طاعته، وأن ينهضنا إلى كل خير وبر وإحسان، وأن يشغلنا في هذا الشهر الكريم بكل أبواب البر والإحسان، وأن يصرف عنا كل أسباب الغفلة والنسيان؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(24/9)
التعرف على فضائل الأعمال في رمضان
في هذه البدايات لابد أن نجتهد جميعاً في أن نلم ونقرأ ونستمع إلى جل الفضائل والمحاسن في هذا الشهر، حتى لا يغيب عنا منها شيء، وحتى تكون كل واحدة منها كأنها مسعر حرب في قلوبنا ونفوسنا.
فإن وجدنا القرآن وجدنا فضائله في رمضان، وإن وجدنا الإنفاق وجدنا فضائله في رمضان، وإن وجدنا الذكر والدعاء وجدنا فضائله في رمضان، وهكذا إن وجدنا صلة الرحم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في الخير في رمضان، فكان أجود من الريح المرسلة، وكان أكثر ما يصلي عليه الصلاة والسلام في رمضان، وكان أكثر ما ينفق في رمضان، وكان أكثر ما يتفقد الناس في رمضان، وكان أكثر شيء في كل جانب من الجوانب في رمضان.
فينبغي لنا أن نحرص على معرفة هذه الفضائل، وأن نقرأها، وأن نستمع إليها حتى تحمسنا وتشجعنا، وحتى نتذكر أخذ كل باب من أبواب الخير.
ونحن أحياناً في رمضان نقتصر على بعض الأبواب دون بعض، فالناس يؤدون فريضة الصيام، وهو فريضة الوقت؛ وأكثرهم يكثرون من التلاوة ومن الصدقات، وينسون أن هناك أبواباً من الخير كثيرة.
فهناك أبواب الذكر وكثرته، وأبواب الدعاء وخشيته، وأبواب تفقد الناس وصلة الرحم، وأبواب أخرى مختلفة متعددة متنوعة في كل جانب من جوانب الطاعات.
والأمر الثاني: أن الذي نأخذه في البدايات هو الأعلى فالأعلى؛ فإن قصرت عنه ذكرت نفسك أنك قصرت فطلبت مرة أخرى العودة إلى ذلك الأعلى، ولا تبدأ بالأدنى؛ فإنك إن دنوت لم تشعر بالدنو، وما تزال تدنو وتدنو حتى تعود إلى حال لا ترضاها لنفسك في مثل هذا الموسم العظيم وهذا الشهر الفضيل.(24/10)
أهمية الصرامة والشدة في محاسبة النفس
ثم أوصي كذلك بعد معرفة الفضائل وبعد الأخذ بالأعلى فالأعلى: أن يكون هناك نوع من الصرامة والشدة في محاسبة النفس، فلا تنزل من الأعلى الذي تحده لنفسك حتى لا ينقص الأمر شيئاً فشيئاً، فإن قررت أن تقرأ جزءاً فلا ترض بجزء إلا آية؛ لأنك إن قبلت بقصور آية قبلت من بعد بتقصير آيتين، وسهل عليك تقصير الثلاث، ولم يكن عندك مانع في تقصير الأربع، ويمر عليك تقصير الخمس وأنت غير مكترث، وهكذا.
فحاسب نفسك، وكل نقص عما أردته وعزمت عليه تداركه مباشرة في وقته وآنه حتى لا تسمح لنفسك بأن تهبط وتهبط وتهبط، ثم تضعف وتضعف وتضعف، وهذه أيضاً وصية ثالثة.(24/11)
الالتجاء إلى الله
الله عز وجل خالق الخلق أجمعين، وبيده مقاليد الأمور ومفاتيح الفرج، ولا يقع شيء إلا بعلمه وحكمته وإرادته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن ما يحل بالمسلم خاصة وبالمسلمين عامة هو بإرادة الله عز وجل، إما بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وإما تمحيصاً لهم وابتلاء، فمن نزل به هم أو غم أو ابتلاء فليلجأ إلى الله عز وجل، وليرجع إلى ربه ومولاه، وليعلم أنه لا يرفع الضر والبلاء إلا الله سبحانه وتعالى وحده.(25/1)
أهمية الالتجاء إلى الله عز وجل
الحمد لله لا مانع لعطائه ولا راد لقضائه، ولا كاشف لبلائه، هو في كل خير يرتجى، وإليه من كل شر المشتكى، وإليه الملتجأ، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، دعانا إلى الطاعة والإيمان، وكره لنا الكفر والفسوق والعصيان، ووعدنا عند الاستجابة بالجنان، وتوعد عند المخالفة بعذاب النيران.
وأشهد أن محمداً عبده رسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين, وختم به الأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا جميعاً اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الالتجاء إلى الله وسيلة عظمى من وسائل مواجهة المصاعب، وعدة كبرى في مقابلة المصائب، وإن المؤمن الموصول بخالقه ومولاه يعلم أنه إذا أراد إنجاح أمر أو دفع ضر فلابد له من الرجوع إلى خالقه ومولاه، وإن هذه الحياة مليئة بالمصاعب والمصائب، وإن سنة الابتلاء في هذه الحياة الدنيا لأهل الإيمان ولأهل الصلاح والخير من بني الإسلام هي سنة ينبغي أن تقترن عند المؤمنين بصدق الالتجاء، وإخلاص الدعاء، والثقة برب الأرض والسماء، فإن الإنسان المسلم في هذه الحياة يواجه كثيراً من البلايا والرزايا بوصفه فرداً، ربما كان ذلك في نفسه وفي همه وغمه، وربما كان ذلك في رزقه وأثاثه وماله، وربما كان ذلك في بدنه وصحته وعافيته، وكذلك تواجه الأمة الإسلامية ألواناً شديدة من البلاء، وصروفاً عديدة من العناء، وهي كذلك تبتلى ليمحص الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه في جهنم جميعاً، فهذه سنة من الله سبحانه وتعالى ماضية.
ونرى اليوم ألواناً من المواجهات التي يواجه بها المسلمون ما يقدر الله عليهم من البلاء، وينسون كثيراً صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، ويغفلون عن مفتاح الفرج وعن أسباب السعادة والهناء، وعن أسباب السلامة من الشقاء، ذلك أن الصلة بالله قد ضعفت، وأن الإيمان في القلوب قد تضعضع، وأن البعد عن الله قد مضى فيه كثير من الناس شوطاً بعيداً، فلم تعد عندهم حاسية المؤمن الذي لا تصيبه شوكة ولا يعترضه عارض من أمر يسير أو كبير إلا توجه إلى الله، وعلم أن في ذلك ابتلاءً من الله، وأن الفرج والنصر والعافية والصحة والرزق من الله، ونحن اليوم نرى في حياتنا الفردية وفي حياة أفراد المسلمين صوراً كثيرة من هذه الابتلاءات.(25/2)
كيفية مواجهة المسلم ما يحل به من الهم والغم والمصائب
إنك -أخي المسلم- قد يركبك الهم، ويتضاعف عليك الغم، وتضيق نفسك، ويتحشرج صدرك بسبب بعض المشكلات والمعضلات، فاعلم -أخي المؤمن- أنه ليس لها من دون الله كاشفة، وكثير من الناس يمرون بظروف مادية صعبة، فأبواب الرزق في وجوههم موصدة، وأحوالهم المادية صعبة، وربما كانوا في شظف من العيش مع كثرة الاحتياج وقلة ذات اليد، فاعلم -أيضاً- أخي المؤمن يقيناً وواقعاً وسلوكاً ومنهجاً أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق، وأنه سبحانه وتعالى بيده إجراء النعم، وبيده لحكمة وابتلاء إمساكها، قال عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، فينبغي أن ندرك هذه الحقيقة، وأن نتعامل معها التعامل الإيماني؛ لأننا نرى الأمر أعظم في أحوال الأمة، فعندما نرى أحوال إخوان لنا في البوسنة والهرسك، أو في كشمير، أو في فلسطين، أو في الصومال أو هنا أو هناك نرى صوراً عجيبة من البلاء، ونرى صوراً شديدة من العناء، فينبغي أن تكون درساً عظيماً يسوق الأمة إلى خالقها، ويدفعها إلى الالتجاء إلى ربها؛ لأنه سبحانه وتعالى قد علمنا هذه الحقائق في القرآن الكريم، وتجسدت لنا حية ناطقة شاهدة بصدق هذا المنهج في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ} [الأنعام:17]، وقال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فلو استقرت هذه الحقيقة في قلب كل مؤمن ورسخت رسوخاً قوياً لما وجدنا ذلك التذمر الذي نسمعه من كثير من الألسنة، وذلك التبرم بالقضاء والقدر، وذلك الالتماس لتفريج الكربات بارتكاب المعاصي والمحرمات، فإذا ضاقت أسباب الرزق لجأ الناس إلى الرشوة، وإلى السرقة، وإلى استخدام الحرام وسيلة لكسب الأرزاق، فإن عورضوا في ذلك قالوا: سدت أمامنا الأبواب، وانقطعت الأرزاق.
ونسوا أن الله سبحانه وتعالى هو الرازق وهو الوهاب، ونسوا أنهم بذلك يرتكبون ما يستوجبون به سخط الله سبحانه وتعالى، وكم تجد مضطراً قد وقعت به أو حلت به نازلة أو مصيبة يذهب شرقاً وغرباً، ويمر بهذا وذاك، ولا يلتفت قلبه، ولا يتأمل فكره في أن يرفع يديه إلى السماء، وأن يذرف دمعة تذلل وخضوع وتضرع لله سبحانه وتعالى القائل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
هكذا يعلمنا الله عز وجل أن هذا البلاء وأن هذه الأقدار تعظم صلتنا بالله، وتؤكد ثباتنا على طاعة الله وحرصنا على رضوان الله سبحانه وتعالى.(25/3)
أحوال كثير من المجتمعات الإسلامية في مواجهة المصاعب
خلل كبير في مجتمعات المسلمين اليوم؛ لأنهم يلتمسون تفريج كرباتهم ومواجهة المصاعب التي تحل بهم أو تواجههم بأساليب وطرق ووسائل بعيدة عن الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]، حتى الكافر والمشرك عندما يجد أن كل الأسباب انقطعت، وأن كل الأبواب انسدت تستيقظ فطرته، ويتحرك قلبه، ويعلم أنه ليس لها من دون الله كاشفة، فالكافر المشرك في اضطراره يرفع بصره إلى السماء، ويخفق قلبه بالتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه فطرة إنسانية بشرية تنجلي عند هذه المصائب والمصاعب، فما بال المسلم وما بال فئام من أمة الإسلام تمر بهم المصائب والنكبات فما تسوقهم إلى الله، بل تزيدهم بعداً عن الله، وتزيدهم إعراضاً عن الله، وتزيدهم محاربة لله، فإذا ضاقت أبواب الرزق أخذوا الربا، وإذا ضاقت أبواب الرزق ارتكبوا الزنا، وفعلوا كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى؟! أفيكون حال الكافرين المضطرين خيراً من حال المسلمين فيما يقدر الله عليهم من البلاء؟!(25/4)
كل وسيلة وسبب هي بقضاء الله عز وجل وقدره
يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن كل وسيلة وسبب بتقدير الله عز وجل، فإذا تعلق العبد بالأسباب على أنها مؤثرة بنفسها ونسي رب الأرباب ومسبب الأسباب لم يقع له قصده، ولم يحقق مراده؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد قال -كما في الحديث القدسي الشريف-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56]، فاذهبوا إلى شرق الأرض وغربها، والتمسوا النصرة من أعداء الله عز وجل كافرين مشَرِّقين أو مغَرِّبين فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، فلن يتغير حالكم ما لم تغيروا حالكم مع الله، ولن يتغير وضعكم ما لم تعودوا وتئوبوا إلى الله، قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56].
وقد قص الله عز وجل أنباء الأمم من قبلنا وبين لنا أحوالهم في مثل هذه الأمور التي تتكرر عبر الأيام والدهور، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]، ألم نر في أحوال الأمة ما يصدق هذا الحال؟ فقد نزل بهم البلاء ليلتجئوا إلى الله عز وجل فزادوا إعراضاً، وغرهم الشيطان فارتموا في أحضانه، وتفرقوا في سبله، وركبوا مناهجه، وساروا في طرائقه إعراضاً عن الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:94 - 95].
إن أحوال الأمة اليوم في أفرادها وفي بعض بيئاتها ومجتمعاتها تعتبر أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى منطوية في ثنايا تلك المحن وفي صور تلك النقم؛ لأن الأمة قد شردت بعيداً عن منهج الله، وغفلت كثيراً عن تذكر الله، فساق الله عز وجل لها هذه الأقدار، وقدر عليها هذه البلايا؛ حتى تئوب إلى رشدها، وترجع إلى ربها، وترتبط بخالقها، وذلك في أحوال الفرد وأحوال الأمة.(25/5)
وجوب التعلق بالله عز وجل ودعائه في جميع الأحوال
تذكر -أخي المسلم- حالك كم مرت بك من مشكلة، وكم واجهتك من معضلة، وانظر إلى ما فعلت فيها، هل اتقيت الله عز وجل في حلها؟ وهل تورعت عن أن يكون في سبيلك إلى دفع الضر عنك أذى لغيرك أو ارتكاب لحرام؟ وهل صدقت في التجائك إلى الله سبحانه وتعالى وأخلصت له وتذللت بين يديه، وعرفت ما سلف من تقصيرك، وما سبق من ارتكابك للمحرمات، فجعلت هذا البلاء تجديداً للولاء مع الله سبحانه وتعالى؟ إن الأحوال التي تمر بنا في هذه الأيام وفي هذه الأوقات تذكرنا دائماً بقضية المشكلات وقضية المعضلات التي تواجهنا، وكيف نتخلص منها أو نلتمس لها سبيل النجاة.
فانظر إلى هذه الأمثلة القرآنية التي تتنوع في شتى نواحي الحياة، فإن سدت عنك أبواب الرزق أو ضاقت عليك ذات اليد، أو انعدمت حيل التماس الأسباب فيما بين يديك فاستمع إلى قول الله جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] أي: تتضرعون وتلتجئون وتدعون وتبكون حتى تعود لكم نعمه، وحتى تنصرف عنكم نقمه.
فكيف تلتمس بنعم الله وباستخدام نعم الله طريقاً إلى معصيته، أو ارتكاباً لما حرم سبحانه وتعالى؟! فإذا نزل بك المرض فارجع إلى الله عز وجل، وكم يعاني الناس اليوم من أمراض ما سمعنا بها في الأولين، وأهل التقدم العلمي التكنولوجي الذين يفاخرون ويطاولون ما وصلوا إلى معرفة سببها وكنهها، فضلاً عن أن يعرفوا علاجها ودواءها، وهي بلاء من الله لهذه البشرية لما أعرضت وجحدت وتنكرت وكفرت وأسرفت، وبلغت غاية لم تبلغها الجاهلية الأولى، فإذا مرضت وأخذت بالأسباب فلتكن الأسباب أسباباً، ولا تكن غايات؛ فإن بعض الناس إذا مرض اليوم ذهب إلى الطبيب وهو غير شاكٍ مطلقاً أن الشفاء بيد هذا الطبيب، وربما إذا لم يجد حلاً في ذلك أشار عليه بعض الناس إشارة تتضمن خطراً في مضمونها، ويقولون له: اذهب إلى فلان الطبيب؛ فإنه مجرب، وما من مريض إلا ويشفى على يديه.
سبحان الله! فأين الله سبحانه وتعالى؟! وأين تعلقنا بالله؟! وأين صدق التجائنا إلى الله سبحانه وتعالى؟! أفما نرى في هذه الأمراض والأدواء عبراً؟! أفما نرى في فشل الطب في كثير من الأسباب صوراً من هذا العجز البشري الذي ينبغي أن يفتقر به الناس إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى؟! قال عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:83 - 84]، إنها معادلة سهلة واضحة، وقع به الضر، ونزل به المرض وأقعده سنوات، فكان العلاج هو ذلك الالتجاء الصادق والدعاء الضارع والإخلاص الذي أظهره لربه ومولاه، والأدب الذي تكلم به: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، فاستنزل الرحمة من السماء، ورُفِعَ -بإذن الله عز وجل- البلاء، فهذا هو طريق الشفاء.
وفي أمر النفس وما يعتريها من الضيق والكرب لمخالفة الناس أو لاستهزائهم، أو لبعض ما يواجهون به الإنسان من المشاكل والعراقيل يقص الله عز وجل علينا قصة يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]، هذا هو الطريق {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، إنه اعتراف وتذلل وخضوع، ودعاء وابتهال والتجاء، فكانت العاقبة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88].
وما أكثر الظلم في هذه الأعصر! وما أكثر المظلومين المقهورين الذين لا يجدون من ينتصف لهم، ولا من يرد عنهم الظلم، ولا من يأخذ لهم حقهم! فينبغي أن لا ينسوا الحكم العدل سبحانه وتعالى، وينبغي أن لا ينسوا قاصر القياصرة، وكاسر الكياسرة، ومغرق فرعون، ألا وهو الله سبحانه وتعالى جبار السماوات والأرض، فليستنصروا بالله على من ظلمهم، وليستنصروا بالله على من قهرهم، فقد قص الله علينا قصة نوح عليه السلام فقال عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14]، هكذا جاءت الاستجابة لما كان العبد على منهج الله، وصدق في التجائه إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ففي أيدينا سهام نافذة وأسلحة فتاكة نغفل عنها، ونلتمس الذلة والدنية في ديننا، فربما ظلمنا ظالم فتنازلنا لأجل مفاداة ظلمه عن ديننا، أو عن أخلاقنا، أو عن بعض شرفنا وكراماتنا، فأين استعلاؤنا بالإيمان؟! وأين شموخنا بالإسلام؟! وأين ثباتنا على الحق؟! وأين التجاؤنا إلى الله سبحانه وتعالى؟! وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم -أي: يمهله- حتى إذا أخذه لم يفلته.
ثم تلا قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]).
أفنحن في شك من آيات ربنا ومن أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم؟! ولذلك تنوعت هذه الأسباب، وإذا جاء القهر فهذا هو الطريق، وإذا أرادت الأمة النصر فهذا هو الطريق: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
كذلك يرسم الله عز وجل لنا الفرج والنجاة في كل الأحوال التي تمر بنا من ضيق في الصدر، أو قلة في الرزق، أو بلاء في البدن، أو قهر في المعاملة، أو ظلم في المواجهة، أو هزيمة في المعركة، كل ذلك يدفع -بإذن الله- بصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
فاللهم! إنا نسألك أن ترزقنا كمال الإخلاص لك، وصدق الالتجاء إليك، وعظمة التوكل عليك، وكبر الثقة بك يا رب العالمين.(25/6)
وجوب استمرار الصلة بالله عز وجل
أخي الكريم! أوصيك ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى ملازمتها والثبات عليها في حال السراء والضراء، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، فينبغي أن نبقى على الصلة بالله، وعلى الطاعة لله، وعلى ابتغاء رضوان الله، حتى إذا جاءتنا المحن ومرت بنا الفتن ينبغي أن تزداد صلتنا بالله، لا أن تخرجنا هذه الفتن أو تلك المحن عن منهج الله سبحانه وتعالى، فنلتمس النجاة بعيداً عن طاعة الله، فإن ذلك أمر لا يمكن أن يأتي بالنجاة، كما قال الشاعر: تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس فمن أخذ طريقاً غير طريق الله فإن مغبته ونهايته في الدنيا قبل الآخرة سيئة، وإن آخرته -والعياذ بالله- شر من دنياه؛ لأنه نسي خالقه وربه ومولاه الذي قدر عليه البلاء ليدفعه إلى صدق الالتجاء ويوجهه إلى إخلاص الدعاء حتى يفرج عنه كربه ويزيل غمه ويوسع رزقه ويرفع عنه مرضه، فإنه سبحانه وتعالى بيده الضر والنفع، وبيده العطاء والمنع، فينبغي أن نوقن بذلك حقيقة، وأن تتعلق به القلوب صدقاً، وأن يمارس في واقع الحياة سلوكاً.
نقول ذلك لأن كثيراً من الأسباب المادية قد قضت حكمة الله عز وجل أن تعطل أو تكون ضعيفة هزيلة حتى تعود الأمة عودة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى.
فلنتذكر في أحوالنا الفردية ماذا نصنع إذا مرت بنا ضائقة مالية، أو حلت بنا مشكلة مرضية، أو وقعت لنا مشكلة نفسية، فهل نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى أو لا؟ وهل نؤخذ بالأسباب؟ وهل نحن نوقن أننا نبتغي بهذه الأسباب فعل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ونرجو منه جل وعلا أن يجعل للأسباب تأثيرها؟ فهل نحن عن ذلك غافلون أم له متذكرون وبه عاملون؟ إن كثيراً من أحوالنا التي تمر بنا تشهد أننا غافلون، فكم يمر بنا كثير من ذلك، ونسمع كثيراً من الأقاويل، ونرى كثيراً من الأفعال، ويروج ذلك ربما في بعض الصور الإعلامية ونحن في غفلة، وإذا سئل أحدنا قال: إنه لم يكن إمامي طريق إلا هذا، ولم أجد سبيلاً إلا فعل هذا، فكيف يمكن أن أحل هذه المشكلة؟ وكيف يمكن أن أبعد هذه الضائقة؟! ونحن قد أشرنا من قبل إلى إن ارتكاب الحرام إن فرج هماً أو وسع ضائقة فذلك ظاهر، ولكن يبقى بعد ذلك في القلب سواد وظلمة، ويبقى في الصدر ضيق وحشرجة، ويبقى في النفس قلق واضطراب، ويبقى في الفكر تشويش وتضليل، ويبقى من بعد ذلك خاتمة سيئة، نسأل الله عز وجل السلامة.
فالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى هو قدر هذه الأمة يسوقها الله سبحانه وتعالى إليه، نقول هذا لإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الشيشان، وفي فلسطين، وفي كشمير، وفي غيرها من البقاع؛ فإنهم قد انقطعت بهم السبل، وتخلى عنهم العالم شرقه وغربه، وتنكرت لهم مواثيق العدل الزائفة، وتخلت عنهم أنظمة العالم الجائرة، ومع ذلك كان ذلك فيه خير لهم، فليلتجئوا إلى ربهم، وليعلموا أنه إن سدت أبواب الأرض فقد فتحت أبواب السماء، وإن تخلى أهل الأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد بالنصر لمن نصره، كما قال عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
إن إخواننا في فلسطين وهم يواجهون ظلم اليهود وإجرامهم وتعديهم على أراضيهم وانتهاكهم لأعراضهم، وما يعانيه إخواننا في البوسنة والهرسك من معتقلات واعتقالات وقتل وتشريد، وانتهاك أعراض وغير ذلك من الفظائع والمصاعب الكبرى إنما ذلك سوق للمسلمين ليلتجئوا إلى الله سبحانه وتعالى، ويتضرعوا إليه، ويخبتوا إليه، ويعودوا إلى حسن الصلة به، وإلى تمام الاستقامة على منهجه، ولعل ما يحصل في العالم اليوم على مستوى الأمة الإسلامية هو نوع من المخاض والابتلاء الشديد الذي تدرك فيه الحقائق واضحة، وتتجلى أمامها الموازين على حقيقتها من غير زيف ولا بهرج حتى توقن بالحق الذي علمها الله إياه، والآيات التي جعلها الله عز وجل قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، فغفلنا عنها، وضيعتها الأمة في واقع حياتها، لعل هذه الأحداث تكون سائقة لجميع الأمة الإسلامية أفراداً ومجتمعات ودولاً وأمماً إلى الله سبحانه وتعالى.
أدعوك يا رب مضطراً على ثقة بما وعدت كما المضطر يدعوك أدرك بعفوك عبداً لم يزل أبداً في كل حال من الأحوال يرجوك فإخواننا في تلك البلاد عجزنا نحن وعجز غيرنا عن نصرتهم، وتخاذل عنهم الأعداء الحقيقيون المدعون للعدالة المزيفون للحقائق، فهنا لجئوا إلى الله سبحانه وتعالى فأنزل عليهم فرجاً من عنده، وربما كان هذا الفرج غير ظاهر، لكنه في حقيقته حاصل، ولو تأملت في واقعهم وفي حالهم وفيما انتهت إليه أحوالهم لرأيت في ذلك خيراً كثيراً، فقد ملئوا المساجد، وتحجبت النساء، وكثر الدعاء، وصدقوا الإخلاص لله عز وجل، ولكن لكل أمر ثمن، ولكل قدر حكمة، فينبغي أن نؤمن بقضاء الله وقدره، وأن نثق بقوة الله ونصره، وأن نكون على يقين أن العاقبة للمتقين، ينبغي أن نوقن بذلك، وأن يكون ذلك ظاهراً في تصرفاتنا؛ لأننا نرى كثيراً من الناس كلما مرت بهم مشكلات عادية من مشكلات الحياة اليومية تصرفوا تصرفات لا يمكن أن تكون هي التصرفات الإسلامية المطلوبة، والمطلوب من المسلمين جميعاً -خاصة عند الأزمات- أن يجعلوا أملهم في الله تعالى، وأن يصدقوا ربهم لأن يلتجئوا إليه، وأن يتقربوا إليه بأنواع القربات، كقيام الليل، والصدقة، والدعاء، وصلة الرحم، والإكثار من نوافل الصوم خاصة الأيام الفاضلة كيوم عرفة الذي يكفر الله تعالى بصيامه سنة ماضية وسنة لاحقة، وكذلك صيام شهر الله المحرم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم:- (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)، فهذا الشهر فيه من الفضائل والأعمال الفاضلة الخير الكثير، ففيه الصيام، وفيه صيام تاسوعاء وعاشوراء أو ما بعده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك قالوا: يوم نجا فيه الله عز وجل موسى عليه السلام.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بموسى منهم، خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله ويوماً بعده) وفي رواية: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)، فالكمال صيام التاسع والعاشر والحادي عشر، والوسط صيام العاشر وقبله يوم أو بعده يوم، ولو أفرد العاشر لعذر أو لحاجة فإنه لا حرج في ذلك، لكنه يكون قد خالف السنة، فإن كان ذلك لاضطرار فلا حرج إن شاء الله تعالى.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للصالحات، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات والمسابقين إلى جنة عرضها الأرض والسموات.
اللهم! إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً.
اللهم! خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لما تحب وترضى.
اللهم! اهدنا، واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.
اللهم! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم! ثبت لنا على طريق الحق الأقدام، وأحسن بالصالحات الختام برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، ومن أرادنا وأراد المسلمين بخير فوفقه لكل خير يا رب العالمين.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! رد كيدهم في نحورهم، واجعل بأسهم بينهم، ودمر قوتهم وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم.
اللهم! لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين.
اللهم! إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والثكالى واليتامى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فأسكنهم.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم! عجل لهم فرجهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين.
اللهم! اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا ارحم الراحمين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانة صالحة تحضهم على الخير وتحثهم عليه، وتمنعهم عن المنكر وتردعهم عنه يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى يا رب العالمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(25/7)
الفتح معالم ومواقف
كان فتح مكة حدثاً هاماً في أسبابه ونتائجه ودروسه، ففيه بيان أحوال الكفار في عدم احترامهم للعهود ونقضهم لها، وفيه بيان بعض آثار الحلف بين المسلمين مع غيرهم من الكفار كما أن فيه درساً مهماً عظيماً وهو الإعداد المادي والمعنوي اللازم من قبل المسلمين مع ثقتهم بنصر الله عز وجل لهم.(26/1)
مواقف ودروس بين يدي الفتح
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تضاعف الحسنات، وبعفوه تمحى السيئات، له الحمد جل وعلا يسمع من حمده، ويعطي من سأله، ويزيد من شكره، ويطمئن من ذكره، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، ونسأله جل وعلا أن يشرح صدورنا لطاعته ومرضاته، وأن يقبل بنا على الطاعات والعبادات دائماً وأبداً في سائر الأيام والليالي؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
وحديثنا عن (الفتح مواقف ومعالم) لأننا في هذا التاريخ نستذكر الفتح الأعظم الذي من الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم أن فتح مكة في العام الثامن من الهجرة النبوية الشريفة في شهر رمضان المبارك، وفي اليوم الثامن كان مبدأ مثل هذا الحدث العظيم.
والحق أننا لا نريد أن نمر على تفاصيل هذا الحدث وما جرى فيه من السيرة النبوية العطرة، غير أننا نقف في بعض المواقف التي نستجلي منها معالم الفتح والنصر لأمتنا في عصرنا الحاضر؛ لأن هدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته هي المعلم الدائم الذي نستنير به في ظلمات حياتنا، والذي نرى فيه معالم الطريق إلى مرضاة ربنا، والذي نأخذ منه المنهج الصحيح لمواجهة الأخطار ومقارعة الأعداء في واقع حياتنا، فإن الله جل وعلا قد من علينا بأن جعل القرآن والإسلام ممثلاً تمثيلاً كاملاً عظيماً في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأرشدنا إلى ذلك ووجهنا إليه كما في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وأرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يبين أن كل شيء في حياته للاقتداء فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقال: (خذوا عني مناسككم) وروي عنه: (إنما أنسى لأسن) وغير ذلك كثير.
ونحن اليوم في هذا الواقع الذي تعيشه أمتنا محاطة بأعدائها مخذولة إلى حد كبير من قبل أبنائها، وفيها من التقصير والتفريط إضافة إلى الضعف والهوان ما فيها نحتاج دائماً وأبداً إلى أن نرجع إلى معين السيرة العذب لننهل منه فنروي ظمأ قلوبنا وفهومنا، ونوجه مسيرة حياتنا بإذن الله عز وجل.(26/2)
صلح الحديبية هو سبب فتح مكة
مواقف شتى في هذا الفتح الأعظم، ولعل أول موقف نشير إليه إشارة سريعة لأنه سابق لهذا الفتح بوقت غير قصير، لكنه مرتبط به وممهد له، ذلك هو أن سبب فتح مكة هو الإخلال من قريش بعهد صلح الحديبية، وصلح الحديبية وضعت فيه الحرب أوزارها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشرة أعوام، وكان سلماً وهدنة، وهنا لمحة مهمة في جوانب كثيرة، لكننا نختصرها في أن القتال والجهاد بحد ذاته ليس هو الغاية في الإسلام، وإنما هو وسيلة لتحصيل المقصد الأعظم والغاية الكبرى، وهي نشر الإسلام وتبليغ دعوته وإقامة الحجة على الخلق ببلاغه، فإن تم ذلك بغير جهاد فبها ونعمت، وإن صد الكفار وأعرض المعرضون واعتدى المعتدون فإن الجهاد وسيلة من وسائل كسر ذلك الطوق وإزالة تلك العوائق، ومنع الذين يصدون عن سبيل الله من الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى دين الله ومعرفة شرع الله سبحانه وتعالى ودينه.
ولعلنا نشير هنا إلى أن الذين دخلوا في الإسلام ما بين الحديبية وفتح مكة -أي: ما بين ذي القعدة من العام السادس إلى رمضان من العام الثامن- كانت عدتهم أكثر من الذين أسلموا قبل ذلك في الأعوام كلها كما هو معلوم في أحداث السيرة، حيث كان الذين جاءوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في الحديبية أربع عشرة مائة، أي ألفاً وأربعمائة، والذين قدموا معه إلى فتح مكة كانوا عشرة آلاف.
وإننا نعلم كذلك أن أجلاء من كبار الصحابة رضوان الله عليهم كان إسلامهم فيما بين الحديبية وفتح مكة، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم من أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم.(26/3)
نقض قريش للعهد سبب لفتح مكة
الموقف الثاني: هو أن سبب هذا الفتح هو نقض قريش للعهد وممالأتها لبكر على خزاعة الذين كانوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نقضوا العهد برئت ذمة النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء لهم بعد نقضهم، وجاءت العلة والتحلة لرسول الله عليه الصلاة والسلام بأن يتوجه إلى مكة فاتحاً وإلى قريش معاقباً لها على نقضها لعهدها.
والفائدة المهمة لدينا هنا في وقتنا المعاصر هي أن أهل الشرك والكفر لا يوفون بذمة ولا يثبتون على عهد، وذلك أمر مطرد، ودلت عليه الآيات، ونطقت به أحاديث السنة، ولإن كان قد يكون ذلك في بعض الأحوال فإن له أسباباً وأعذاراً أخرى لا تتصل بصدق الوفاء بالعهد، ونحن نعني بذلك العهود والمواثيق التي تكون بين غير المسلمين وبين المسلمين كأمة في أمور عظيمة وفي مسائل مهمة.
وهذا أمر مهم جداً أن يكون لدى المسلمين فيه بصيرة وبصر وعلم ووعي؛ لأن من الناس من ركنوا إلى غير المسلمين، وأسرفوا في حسن الظن بهم، بل وجعلوا من سماتهم وصفاتهم وأخلاقهم ما عظموهم به على أهل الإيمان والإسلام، وربما بالغوا في ذلك مبالغات عظيمة، والذي يشهد لنا به الواقع اليوم -خاصة من اليهود عليهم لعائن الله كما وصفهم الله عز وجل في القرآن- أنهم أشهر من نقض العهود، وأكثر من أخلف الوعود، وإننا نرى في واقعنا اليوم وفيما كتبوا من عهود ومواثيق ومعاهدات ومؤتمرات أن شيئاً منها لم يكن له حظ في الواقع، وليسوا هم وحدهم بل كل أعداء الإسلام على حقيقة هذا الأمر، سيما أصحاب الحكم وأصحاب القوة والبطش في هذه البلاد والحكومات غير المسلمة فإنها لا تفي لمسلم بذمة ولا تقيم له عهداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذلك: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] أي: حلفاً ولا يميناً ولا ذمة وعهداً.
وذلك أمر ينبغي أن يكون راسخاً في قلوب المؤمنين وفي أفهامهم، وذلك يدعوهم إلى أمرين: إلى وفائهم بعهودهم؛ لأن الوفاء بالعهد من سمات أهل الإيمان والإسلام، ولكن -أيضاً- إلى يدعوهم يقظتهم وتنبههم إلى عدوهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر مغازيه كان دائم التنبه إلى ما يمكر به أعداؤه، ويرصد تحركاتهم، ويجمع أخبارهم حتى لا يصاب على حين غرة، وحتى لا يعرض أهل الإسلام لفتك الأعداء، وذلك شأن الإمام الذي ينصح لرعيته والوالي الذي يقوم بواجبه ويؤدي حق الله عز وجل وحق دينه وحق رعيته فيما ولاه الله سبحانه وتعالى من أمر.(26/4)
حكم التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام
ومسألة أخرى تنظم في هذا أيضاً، وهي جواز التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام وفيما يحقق مصلحة الإسلام، وفيما لا يقع به مضرة على المسلمين ولا تنازل عن أحكام الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية -وهو الذي كان سبباً لفتح مكة- كانت قد دخلت خزاعة في عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حليفة له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل خزاعة عيبة نصحه، أي: يثق بهم لما علم من صدقهم في جوانب تعاملهم معه، فعاهدهم وحالفهم، وكانوا معه عليه الصلاة والسلام.
إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون عن ضعف أو ذل أو هوان للمسلمين، ولا ينبغي أن يكون فيه إعطاء دنية في الدين، ولا ينبغي أن يكون ذلك على حساب مصالحهم وتحقيق أمور دينهم، فضلاً عن أن يكون ذلك تغييراً في أساسيات وثوابت من شرع الله عز وجل، سواء ثبتت في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نرى اليوم من يحتجون بالآيات القرآنية، لكنهم لا ينزلونها تنزيلها الحقيقي الصحيح، ولا يطبقونها التطبيق العملي الذي كان أنموذجه الأمثل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] لكن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين في سيرته مثل ذلك، فهذه مواقف بين يدي الفتح، أي: قبل بلوغه.(26/5)
موقف قريش بعد نقضها لعهد الحديبية
الموقف الثالث هو موقف عظيم يكشف لنا عن مسألة مهمة نحتاج إليها، وهي أن قريشاً عندما وقع منها نقض العهد بإعانتها لبكر على خزاعة ومدها بالسلاح -وفي بعض الروايات أن بعضاً من قريش شاركوا في القتال- علمت أن هذا الأمر سوف يكون سبباً في أن النبي صلى الله عليه وسلم ينصر من حالفوه وهم خزاعة، فأرسلت قريش أبا سفيان إلى المدينة ليحول بين ذلك النقض الذي نقضته قريش وبين ما يترتب عليه من نصر النبي عليه الصلاة والسلام لخزاعة، فذهب أبو سفيان في مفاوضة يريد فيها من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعتذر عما وقع، وأن يمدد الصلح مرة أخرى لعشر سنوات قادمة، فلما قدم إلى المدينة أراد أن يستشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن هذا الأمر الذي أحدثته قريش أمر عظيم لا يجرؤ أبو سفيان أن يخاطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
فذهب أول ما ذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يريده أن يكون وسيطاً له حتى يدخل به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يحدثه في أمر الاعتذار عما وقع والتجديد لما مضى من العهد، فأبى علي رضي الله عنه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على أمر لا نعلمه، ووالله لا أكلمه في ذلك.
وكان قبل ذلك أو بعده -على اختلاف في روايات السيرة- قد مضى أبو سفيان إلى أم حبيبة بنته، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليها طوت الفراش عنه، فقال: أرغبت بي عنه، أم رغبت به عني؟ يعني: هل طويت الفراش لأنه لا يليق بي فستأتيني بأحسن منه، أم أنك طويت الفراش لأنه لا يصح أن أجلس عليه؟ فقالت له: إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ كافر، ولما رأى ذلك، قال: لقد أصابك بعدي شر يا بنية! وذهب إلى أبي بكر فرده كذلك، ثم ذهب إلى عمر، وكان خطأ فادحاً من أبي سفيان أن ذهب إلى عمر، وعمر هو من هو في شدته على المشركين والكافرين وعلى أعداء الإسلام أجمعين، فقال له: أتستشفع بي إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به.
فعلم أبو سفيان أنه لا أمل له في ذلك فرجع.
وهنا أمر مهم، هو أن المسلمين على قلب رجل واحد، وأن رأيهم وقولهم مرتبط بقيادتهم التي تمتثل لدينهم وترعى مصالحهم، ولذلك كلهم أعرض عن أبي سفيان، ولم يجد أبو سفيان مدخلاً ينفذ به في المسلمين، بل وجد الأبواب كلها موصدة محكمة، ولم يستطع أن يدخل من عاطفة قرابة مع ابنته، ولا من عاطفة صداقة مع بعض الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ووجد أن الأمر محسوم وأنه لا مجال لشيء من ذلك.(26/6)
خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيوشه إلى مكة
وأما الموقف الرابع فهو من المواقف المهمة أيضاً في واقعنا المعاصر: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مضى إلى فتح مكة دعا القبائل، وحث المسلمين على أن يخرجوا معهم، فخرجوا في جمع عظيم لم يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله مثله قط، بل ربما لم تشهد الجزيرة مثله قط، وقد مضى إليهم في نحو عشرة آلاف، وصف القبائل كل قبيلة مع بعضها، وكل قبيلة لها زعيمها ولها رايتها، وعندما جاء إلى فتح مكة وعسكر خارجها، وأضرم جيشه النيران بالليل، وجاء أبو سفيان في حماية العباس بن عبد المطلب، والعباس -أيضاً- ممن أعلن إسلامه فيما بين الحديبية وفتح مكة، والروايات تقول: إنه أسلم قبل ذلك، لكن لم يكن هناك عمل ظاهر من العباس يعلن به إسلامه إلا في هذه الفترة.
فجاء بـ أبي سفيان يردفه معه، وكان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن استعرض الجيش، وكان الجيش يمر كتيبة كتيبة، وقد حبس أبا سفيان في بطن الوادي حتى يرى هذا الاستعراض العسكري العجيب، فكانت القبائل تمر وأبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ فيقول العباس: هؤلاء مزينة.
من هؤلاء؟ هؤلاء أسلم إلخ، فقبائل العرب كلها قد كان الإسلام قد فشا فيها ودخل في أبنائها، وأبو سفيان ينظر بتعجب وبرهبة وبشيء من التعظيم والإجلال، وهو ما يزال يرى هذه الفرق والكتائب تتابع، حتى مرت الكتيبة الخضراء، وكان جنودها يلبسون الدروع ويلبسون الأقنعة، لا يرى منهم إلا العيون من أحداقها، وكان ذلك قصد من الرسول عليه السلام، فلما رأى أبو سفيان هؤلاء قال: من هؤلاء؟ قال له العباس: هؤلاء كتيبة المهاجرين والأنصار من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو سفيان كلمة عظيمة، قال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل! أي: هؤلاء لا يمكن أن يواجههم أحد، فهذا جيش لا يمكن أن يثبت ولا أن يصمد أمامه ولا أن يواجهه أحد، والهدف الأعظم هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل الرعب في قلوب كفار قريش حتى يهزموا هزيمة نفسية، وحتى لا يقاتلوا ولا يواجهوا، تعظيماً من النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة البيت، وحفاظاً على حرمة مكة المكرمة.
وهنا نستحضر قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فامتلاك المسلمين للقوة أمر مطلوب، لا لمجرد الدفاع عن أنفسهم، بل لإرهاب أعدائهم حتى يكون ذلك توطئة لأمور عدة، من أهمها أن لا يفكروا في العدوان على الإسلام وأهله، ولذلك ذكر الفقهاء أن من واجبات الإمام أن يغزو بالمسلمين ولو في كل عام مرة، ومن واجباته تأمين الثغور، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا لم يكن ذلك كذلك تجرأ الأعداء فاعتدوا على بلاد المسلمين، وانتهكوا بيضة الإسلام وأهله.
ومن هنا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين في هذا الموقف أن المسلمين لا تعوزهم القوة، ولكن هنا نقطة مهمة، وهي أن القوة عند أهل الإسلام مأمون شرها وضررها، فلا تستخدم إلا فيما يحقق الخير والمصلحة العامة للخلق، حتى وإن كان فيها قتل وقتال فإنها تقتل الأشرار، وتقتل البغاة، وتقتل المعتدين، وتقتل الذين يجترئون على دين الله عز وجل، وتقتل الذين يصدون الناس عن دين الله عز وجل، فلماذا نرى في عالم اليوم أن القوة محرمة على المسلمين وأنها مملوكة لغيرهم، مع أن غيرهم قد أثبت الواقع أنه استخدمها في كل ما هو محظور ومحرم، لا في ديننا وإنما في الشرائع والأنظمة التي يقولون: إنها دولية أو عالمية.
وهذا كله ثابت في واقع الناس، ولكن حقيقة الأمر أنّ المراد أن لا يكون عند المسلمين قوة يستطيعون بها الامتناع من عدوهم ومواجهة خصومهم، فضلاً عن أن يكون ذلك سبباً في إرهابهم لأعدائهم أو قدرتهم على الانتصار عليهم.
ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأسباب القوة والقتال في صور شتى، ومنها أنه بعد فتح مكة استعمل في الطائف لأول مرة ما عرف بعد ذلك بالمنجنيق، وهي الآلات التي تقذف الحصى، أو تقذف كتلاً من النيران إلى مسافة تبلغ الحصون التي كانت في ذلك الوقت، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأسلحة، لماذا؟ لأخذه بأسباب القوة وحصول المقصود والغاية، وهذا أمر مهم، فنحن قد قلنا من قبل: إن الواقع يثبت لنا أن العدوان وأن القتلى وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وهدم البيوت وكل المحرمات في الأعراف الدولية -كما يقولون- فضلاً عن الأحكام الشرعية عندنا إنما وقعت بكثرة كاثرة في قديم التاريخ وحديثه، وفي واقع اليوم من قبل غير المسلمين، وإن وقعت من المسلمين فإن نسبة ذلك لا تذكر بالنسبة لما وقع من غير المسلمين، سواء في ذلك العدوان الذي نعلمه لعقود متطاولة في فلسطين، أو العدوان قريب العهد على أفغانستان والعراق، أو العدوان السابق لذلك في البوسنة والهرسك، أو في غير تلك البقاع المختلفة، فإنا واجدون ذلك كذلك واضحاً وبيناً.(26/7)
الثقة بنصر الله عز وجل
الأمر الأخير الذي نختم به والذي نحتاج إلى أن نتدبر فيه ينقسم إلى قسمين، وكلاهما متعلق بعقيدة المؤمن ويقينه: الأول منهما: الثقة بنصر الله عز وجل، واليقين بتحقيق وعده، قال الله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال جل وعلا: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] كل هذه الوعود صادقة لا تتخلف، إنما الذي يتخلف فعل المسلمين، فلا تأتيهم حينئذ تلك الوعود؛ لأنهم لم يأتوا بالشروط.
ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في مكة عشرة أعوام، وظل بعد ذلك يجاهد ويكابد المشاق أعواماً أخرى، وخرج من مكة مهاجراً ومطارداً، وخرج لا يملك شيئاً من الدنيا، وكل المؤشرات المادية كانت في غير صالح المسلمين.
ولو قسنا ذلك بالزمن لرأينا أنه عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً طريداً وعاد إليها فاتحاً عزيزاً بعد ثمانية أعوام، فما هي في عمر الزمان؟ إنها مدة قصيرة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك مالاً ولا يملك سلاحاً، والمسلمون في ذلك الوقت قلة لا يؤبه لها، والأجواء المحيطة بهم والقبائل التي من حولهم كلها على الكفر والشرك.
ثم لم يكن النصر في هذا العنصر المادي بقوة المسلمين أو كثرة جيوشهم، بل ما فتحوا مكة إلا بعد أن فتحوا قلوباً كثيرة وعقولاً كثيرة، ودخل في الإسلام من القبائل ومن الناس أعدادٌ هائلة عظيمة، وبعد العام الثامن في العام العاشر عندما حج النبي عليه والسلام حجة الوداع كان معه ما يزيد على مائة ألف نفس من أصحابه الذين حجوا معه.
لقد فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم القلوب والعقول قبل أن يفتح البلاد والدور والحصون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
فنحن -إذاً- لابد من أن نعظم اليقين بنصر الله عز وجل، خاصة في هذه الظروف، فبعض الناس اليوم يقول: كيف سينتصر المسلمون؟! أمريكا الدولة العظمى في العالم والأمم المتحدة ضدهم، والأسلحة عابرة القارات! كأن بعض الناس نسوا أن هناك قرآناً يتلى، ونسوا أن هناك سنناً، ونسوا أن هناك قوة عظمى وهي قوة الله عز وجل القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وفي يوم الأحزاب اجتمع على المسلمين شدة الجوع وشدة الخوف وشدة البرد، وجيش المشركين يحيط بهم من كل جانب، وقريظة نقضت العهد، وأصبح المسلمون محاطين من كل جانب، وليست عندهم حيلة ولا قوة، فما الذي جرى؟ يقين بنصر الله، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام وبشر أصحابه بالنصر، ثم جاءت الريح فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وقلعت الخيام، وطردت أولئك الكفرة والمعتدين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، وبعدها قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اليوم نغزوهم ولا يغزونا)، فلم يكن النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج من مكة وهو مهاجر طريد عنده أدنى شك في أنه سينصر بإذن الله، وأن كلمته ستعلو، وأن دينه سينتشر، وأن رايته ستخفق، وأن دولته ستعم بقاع الأرض كلها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ديني سيبلغ ما زوي لي منها).
فنحن اليوم في حاجة إلى أن نزيل هذا الوهن الذي سرى إلى النفوس، واليأس الذي تسلل إلى القلوب، واستعظام قوة الخلق ونسيان قوة الخالق، ونقول للذين أصبحوا اليوم يفتون في العضد ويقولون لنا: كونوا واقعيين، فماذا تريدون أن تفعلوا؟ وماذا يفعل هؤلاء الفلسطينيون في فلسطين؟ إنهم يزهقون أرواحهم، ويسفكون دماءهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، ثم لم ينجزوا شيئاً.
نقول: سبحان الله! ننسى قوة الله عز وجل، وننسى قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وننسى كيف نصر الله رسوله في يوم بدر، وكيف نصر المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام! بل إلى قريب من عهدنا هذا في حرب رمضان التي انتصر فيها المسلمون على اليهود في أول هذه المعارك.
فلماذا نغفل عن ذلك كله؟! درس الفتح يعلمنا أن الدائرة تدور وأن الأيام تتوالى، وأن الأعوام تكر، وأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للمؤمنين ولو بعد حين.(26/8)
النصر ليس مدعاة للكبر
الأمر الثاني المصاحب لما سبق أن نصرنا لا يؤدي إلى كبر، وأن نصرنا لا يقود إلى خيلاء، وأن نصرنا لا يؤدي إلى فتنة النفوس بالإعجاب، ولا إلى الطغيان الذي يكون مع المنتصرين من غير أهل الإيمان والإسلام.
لما دخل النصارى بيت المقدس عام اثنين وتسعين وأربعمائة من الهجرة قتلوا في داخل المسجد وفي أنحائه نحواً من سبعين ألف نفس، حتى خاضت ركب الخيل في الدماء.
وفي يوم دخول التتار إلى بغداد قتلوا نحو ثمانمائة ألف نفس، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف نفس.
كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، واستحر القتل بأهل بغداد أربعين يوماً حتى سالت ميازيب البيوت من دماء المسلمين، وحتى بلغ نتن الجيف من أرض بغداد إلى بلاد الشام، وذلك هو طغيان النصر.
لكن انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دانت له مكة التي استعصى عليه أهلها، مكة التي كان أهلها أشد الناس إيذاءً له، مكة التي كانت مؤلبة ومحرضة عليه للقبائل، ولكل الأعداء الذين سعت قريش إلى أن تجعلهم في صفها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، دخل عليه الصلاة والسلام مطأطئاً رأسه تواضعاً لله عز وجل، وفي بعض الروايات: (حتى مست لحيته ظهر دابته) عليه الصلاة والسلام، دخل وهو المنتصر لا في نشوة المنتصر، بل في ذلة العابد الحامد لربه سبحانه وتعالى، ولذلك لم تطغ نفسه، فلم يأت بالناس ليقص رقابهم ويسيل دماءهم، بل عفا عنهم، وجاءه من هرب كـ حكيم بن حزام وغيره، وجلسوا بين يديه يلتمسون عفوه فوجدوا نفسه سمحة بذلك، إلا من كان عدواً لله ولرسوله، من اجترأ على دينه أو سب وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأولئك بضعة نفر في أعلى روايات السيرة أنهم تسعة أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأمر بقتلهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة.
لكن جمهور أهل مكة ما أصاب أحداً منهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام ضر، ومكة نفسها ما هُدِم فيها بيت، ولا قلعت فيها شجرة، ولا أضرمت فيها نار، تلك هي انتصارات الإسلام، ولعلنا نستحضر يوم السابع والعشرين من شهر رجب في العام السابع والثمانين بعد الخمسمائة من الهجرة يوم دخل صلاح الدين منتصراً إلى بيت المقدس في يوم جمعة، ولعلنا نتذكر الخطبة التي خطبها القاضي الفاضل، وكلها تذكير بفضل الله، وإقرار بنعمة الله، واعتراف بضرورة شكر الله، ولعلنا نعرف صنع صلاح الدين الذي قضى دهراً طويلاً من عمره مرابطاً في جهاده في سبيل الله.(26/9)
الحج إيمان وإسلام وإحسان
الحج شعيرة عظيمة من شعائر الله عز وجل، وفي الحج تتجلى مراتب الدين كلها في أبهى صورها وأحسنها، ففيه تتجلى مظاهر الإسلام والإيمان، وتظهر فيه حقيقة الإحسان التي هي أعلى مرتبة في الدين.(27/1)
عظمة الحج
الحمد لله الذي جعل الإيمان أماناً وأمناً، وجعل البيت مثابةً للناس وأمناً، وجعل حجه فريضة، وتعظيمه شعيره، والصلاة فيه فضيلة، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما ضاعف من الحسنات وما محا من السيئات، وعلى ما جعله لنا من أيام دهرنا من النفحات، وله الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسموات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الحج إيمان وإسلام وإحسان، ونحن إذ نقترب من تلك الأيام المباركة والفضيلة الجليلة نذكر أنفسنا بجماع هذه الأمور العظيمة، وجماعها الدين كله، كما ورد بذلك حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجابه ثم قال: (ذلك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
موسم الحج موسم عظيم لتقوية الإيمان وزيادته، وموسم عظيم لتحقيق الإسلام واستسلامه، ومدرسة كبرى لتعلم الإحسان في معاملة الله عز وجل واستشعار مراقبته، وأي أمر أعظم عند المسلم من أن يقوى ويزيد إيمانه، وأن يتحقق إسلامه واستسلامه، وأن يكون في رتبة الإحسان في تعامله مع ربه سبحانه وتعالى؟ وكل ذلك يجده المسلم في هذه الفريضة العظيمة والشعيرة الجليلة.
إن الحج إيمان؛ لأن هذا الإيمان بما اشتمل عليه من تصديق القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح يتجلي بوضوح في هذه الفريضة، بل وكل معاني الإيمان العظيمة من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه، والخضوع له، والاستكانة إليه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وغير ذلك من أعمال القلوب ومشاعر النفوس تتجلى في هذه الفريضة بدءاً من الانطلاق والتوجه إليها، بل بدءاً من معناها، فالحج في لغة العرب هو القصد، والحج في اصطلاح العلماء من أهل اللغة القصد إلى من يعظم.
وهو في مصطلح الشرع: قصد مكة والمناسك في زمن مخصوص لأداء مناسك مخصوصة.
فعندما ينوي الحاج حجه ويهيئ أمره تنبعث في نفسه وقلبه المشاعر، فقلبه معلق بالله، وغايته مرتبطة برضاه، ومشاعره متوجهة إلى بيته الحرام وإلى حماه سبحانه وتعالى، وذلك مبعث إيمان في قضية التوحيد والإخلاص لله عز وجل، قال عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، إنها كلمات موجزة من كلام الحق جل وعلا، فهذه شطر آية تشتمل على المعاني العظيمة إيماناً وإسلاماً وإحساناً، فقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] أي أنه ليس مجرد أداء، بل هو إتمام وإتقان وإتيان بأركان وواجبات وسنن، مع حضور القلب وتحرك المشاعر وبذل المال وجهد البدن وانتقال من حال إلى حال، كل ذلك ضرب أو لون أو صورة مجتمعة تؤدي معنىً من معاني الإتمام والإتقان المأمور به في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فإن اللام لام اختصاص، وهي تدل على أنه ليس من قصد، ولا من نية، ولا من توجه إلى الله سبحانه وتعالى إلا ابتغاء رضاه جل وعلا؛ إذ ليس هناك شيء في القلب ولا شعور في النفس يتوجه لغير الله، بل هو محض توحيد كامل، ونبع إخلاص صافً لا يشوبه شائبة رياء ولا توجه أو تعلق بغير الله سبحانه وتعالى.
وفي الآية الأمر بالإخلاص في النسك، وإتقانه لله بكل شيء، بالمال لله، والجهد لله، والانتقال والتعب لله، والنية والقصد لله، والشعور والعاطفة لله، والدعاء والخضوع لله، والحركة والسكون لله، والدمعة والعبرة لله، كل ذلك لله.
وفي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] معنىً إيماني عظيم ينبغي أن يستشعره الحاج وغير الحاج؛ لأن المسلمين جميعاً في هذا الموسم يشاركون -وإن لم يحجوا- في الفضائل التي في العشر الأوائل، وما فيها من ذكر وتذكير ببعض أعمال الحجاج، وما في الموسم كله من هذه المعاني، وتأمل فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (حج النبي صلى الله علي وسلم على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال عند إهلاله: اللهم! حجةً لا رياء فيها ولا سمعة)، رواه الطبراني وسنده صحيح.
ليست المظاهر ولا الأشكال، وليست الإمكانيات ولا الأموال هي الميزان، فقد حج سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة قد تساوي أربعة دارهم أو لا تساوي، ثم بين أن المقصد الأعظم هو تجريد القصد لله، وتحرير الإخلاص لله، فقال: (اللهم! حجةً لا رياء فيها ولا سمعة).(27/2)
تحقق التوحيد في أعمال الحج
يذكرنا بتحقيق هذا التوحيد كل عمل من أعمال الحج، فأنت في الحج تقصد بيت الله الواحد، وتطوف حول كعبته المعظمة التي تتوجه إليها، فأنت في الحج لا تدعو ولا تتضرع ولا تتوسل إلا لله الواحد، وأنت لا تنطق بلسانك إلا التوحيد، بل تصدع به وتجعله يتردد في أجواء الفضاء: لبيك اللهم لبيك، (لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فتأمل هذه التلبية وهي تؤكد نفي كل شريك.
وتؤكد التعلق التام بالله عز وجل توحيداً وإخلاصاً وقصداً وتجرداً، وذلك أمر تتواطأ فيه مشاعر القلب مع كلمات اللسان مع حركات الجوارح في جموع الطائفين والساعين بين الصفا والمروة، والواقفين على صعيد عرفات، والمفيضين إلى مزدلفة، والمقيمين بمنىً، والناحرين والذابحين لهديهم، إذ كل حركاتهم تدل على هذا التوحيد، وتشير إلى هذا الإخلاص، وتحيي في القلب المعاني الإيمانية العظيمة، أليس من أعظم معاني الإيمان محبة الله؟ ألست قصدت بيته وتركت بيتك؟ أليس التوجه إليه وتخليص الدنيا وراءك فيه إعلان أن أمره وقصده أحب إلى نفسك وأعظم في قلبك من كل شيء آخر؟ أليس هذا تحقيقاً للمحبة بمعنىً قلبي يعضده سلوك عملي وتحرك جماعي وظهور لهذا على مستوى الأمة كلها؟ أليس من أعظم المعاني الإيمانية الخضوع والخشوع والتذلل والاستكانة؟ فهل يرى أحد أن مثل هذا يمكن أن يتحقق بأكثر من تحققه في يوم عرفة، يوم يقف الناس بلا رسوم ولا أشكال، بلا مظاهر وبلا مفاخر، يقفون حاسري الرءوس، رافعي الأيدي، ساكبي العبرات، مطأطي الأعناق خضوعاً لله عز وجل وطلباً لرضاه.(27/3)
مظاهر الإيمان في الحج
إن أعظم مشاعر الإيمان في التذلل والاستعانة والاستغاثة بالله عز وجل تحيا وتقوى وتعظم وتظهر وتتجلى في القلب في مواقف الحج العظيمة كلها، والتوحيد والإخلاص يتكرر، فعندما ترقى الصفا أو ترقى المروة يأتيك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يكبر متوجهاً نحو البيت ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) يجلي هذا المعنى، ويرفع به صوته، ويكرره في ذكره.
وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها في يوم عرفات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير).
وورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه جده قال: (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة: لا إله إلا الله)، إنه التوحيد والإخلاص والإيمان قولاً وحالاً وعملاً، ومظهراً فردياًً، وصورة جماعية على مستوى الأمة، وذلك ما نراه ونشهده ونتذكره ونعتبر به من هذه الفريضة.
ومن دلائل الإيمان تعظيم الله عز وجل، وتعظيم قدره، وتعظيم ما له سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العلى.
ومن أعظم صور التعظيم الإيماني ما في هذه الفريضة العظيمة، ألست ترى التعظيم في هذا القصد والتوجه؟ فأنت تتوجه إلى مكان، ثم إذا بك محرماً لا تأتي محظورات الإحرام -وإن كانت مباحة قبل إحرامك- تعظيماً لهذه الفريضة، وتعظيماً لله جل وعلا، ثم أنت على صورة من مراعاة الأدب ومراعاة الحرمة في بيت الله عز وجل وفي الأماكن المقدسة، إنه تعظيم وأي تعظيم! حيث تعظم به الله عز وجل الذي أمرك بهذا التعظيم، كما في قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، ذلك التعظيم الذي نعظم فيه الله عز وجل في هذه الفريضة هو من أجلى وأعظم مواقف الإيمان، فأنت تعظمه وتستشعر عظمته حين ترى الخلائق والحجاج مجتمعين على صعيد عرفات كلهم بألسنة مختلفة، وبمطالب متعددة، يسألون الله عز وجل، فتستحضر الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه عن الرسول عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال، وفيه: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على صعيد واحد فسألني كل وحد مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في اليم)، فأعظم بكرم الله عز وجل وجوده! وأعظم بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى! إنها عظمة متناهية تحيا في القلب وأنت تعيش في تلك الأماكن المقدسة، وفي تلك البقاع المطهرة، وفي تلك المناسك المعظمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بتعظيمها، كما في قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
إن الذي ينقض الحرمة معرض لعذاب الله عز وجل؛ لأنه يفسد حقيقةً إيمانية من مقاصد هذه العبادة العظيمة، وهي تعظيم الله عز وجل بتعظيم ما أمر بتعظيمه.(27/4)
تعظيم الله عز وجل بتعظيم حرماته ومقدساته
إن من تعظيم الله عز وجل مراعاة ما حرم الله عز وجل في هذه البلاد المحرمة في بيت الله الحرام من تنفير الصيد، وقطع الشجر، فلا يجوز أن يفسد في الأرض، أو يفسد في حرم الله، أو يفسد في البلاد التي فيها حرم الله عز وجل، أو ينقض أمن الحجاج، أو يثير رعبهم، أو يعتدي على أرواحهم أو أموالهم، أو يجعل شيئاً من ذلك في هذه الفريضة بصورة أو بأخرى، فمن فعل هذا أو شيئاً منه فإنه متعرض لهذا التهديد والوعيد الرباني في قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
فالحفاظ على حرمة البيت والحرمين والحفاظ على بلاد الحرمين وحرمتها تعظيم لله عز وجل، وتعظيم لحرمات الله سبحانه وتعالى، وإشاعة للأمن الذي جعله الله عز وجل مزيةً للحرمين الشريفين، ومزيةً للبلاد المقدسة المحرمة، ومزية للشعائر والفرائض التي جعلها فيها، كما قال جل وعلا: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، حتى كان أهل الجاهلية يرى أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يعرض له بسوء تعظيماً لحرمة الزمان والمكان التي أكدها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما سأل عن الزمان والمكان والوقت، ثم قال: (ألا إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، إنها حرمة معظمة، يجب أن نعظمها لله عز وجل، وفاعل هذا محقق لمعنىً من معاني الإيمان.
قال ابن القيم رحمه الله: لم يقدُر الله جل وعلا حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق عنده أولى من طاعة الله، فلله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله، وسواه مقدم عنده؛ لأنه المهم عنده.
إن تعظيم الله عز وجل بتعظيم حرمة بيته، وتعظيم شعائره، وتعظيم المشاعر التي قدسها وأمر بتقديسها عز وجل وأمر أن نطهرها ونعظمها، ولذلك فمن كلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا أهل مكة! انظروا إلى بلدكم، ثم قال لهم: أتدرون من كان ساكناً في بلدكم هذه؟ ثم قال: كان فيها بنو فلان فأحلوا حرمتها فأُهلكوا، ثم كان فيها بنو فلان فأحلوا حرمتها فأُهلكوا.
ثم عدد بطوناً من الناس، ثم قال: لأن أعمل بعشر خطايا في غيره أحب إلي من أعمل واحدة في مكة).
وذلك من تعظيم حرمات الله، ومن استشعار وتحقيق معاني الإيمان، والأمر في ذلك ظاهر بين.(27/5)
وجوب البراءة من الشرك والكفر والجاهلية
ومن تحقيق الإيمان البراءة من الشرك قولاً وعملاً، وهذا القول والعمل جسده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث أبا بكر والناس إلى الحج في العام التاسع ليبطلوا قبل حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل مظاهر الكفر والشرك والجاهلية، وأمر أن ينادى في هذه الحجة: (لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)، وكان صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة قبل ذلك بعام قد حطم الأصنام، وأزال رسومها، وأبطل كل صورها، وأنهى كل معالم الشرك والكفر، ثم جاء عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقد زالت كل تلك المعالم، وأكد بعد ذلك أن مقتضى التوحيد البراءة من الشرك والكفر والجاهلية، كما بين ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدميْ، ألا وإن أول دم أضعه دمنا، دم ربيعة بن الحارث.
ثم قال: ألا وإن كل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، ألا وإن أمر الجاهلية موضوع)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من خطبة حجة الوداع، إنه إبطال لكل صورة من صور الشرك والتعلق بغير الله، أو التعظيم لغير الله، أو المحبة لغير الله سبحانه وتعالى.(27/6)
تجلي حقائق الإيمان في مشاعر الحج
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته إلى الناس يوم عرفة من يقول لهم: (كونوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرث من إرث إبراهيم)، وقد كان أهل قريش في الجاهلية يقفون بعرفة وحدهم في غير موقف الناس، ويفيضون في غير مفاض الناس، فأراد أن يبطل ذلك، وأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزلت به الآيات القرآنية، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم حقائق الإيمان ومسلمات التوحيد فضلاً عن ذلك الفعل بالقول وبالمشاعر التي أشرنا إليها، والتضرع والمناجاة والخشوع والسكينة والتذلل من أجل صفات الإيمان، وهي منظورة ظاهرة في هذه الفريضة، بدءاً من الإهلال بالحج والتلبية بها، ومروراً بالدعاء الضارع الخاشع طوافاً وسعياً، وفي موقف عرفات، وفي ما كان عند الإفاضة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دعا يوم عرفات حتى غربت الشمس، ودعا بعد فجر مزدلفة حتى أسفر النهار، ودعا بعد رمي الجمرة الأولى والثانية، وكان يدعو بقدر سورة البقرة، فكان يلازم الذكر والدعاء والتضرع ومعاني الخشية والخوف والرجاء والأمل في الله عز وجل، وهذه هي المعاني الإيمانية العظيمة التي تجدها متبسطةً متجليةً متزايدةً في هذه الفريضة، وفي هذه المواقف العظيمة.
فلله ما أعظم هذه الفريضة التي تحيي الإيمان وتقويه! وتأمل هذا المشهد الوصفي في جزء من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله عنه في وصف طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند وصوله إلى مكة: (فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه من البكاء) صلى الله عليه وسلم، إنها مشاعر الإيمان المتدفقة، إنه ليس عمل بدن وزحام وإرادة انتهاء من الفريضة أو من العمل والنسك، بل هو حضور القلوب، وإحياء معاني الإيمان، حتى إنه عليه الصلاة والسلام عند استلام الحجر فاضت عيناه، فكيف به وهو يطوف، وهو يدعو، وهو يقف في عرفات، وهو يمر عليه الصلاة والسلام بتلك الأماكن والعرصات؟!(27/7)
تجلي حقيقة الإسلام في مناسك الحج
إن في الحج موسماً عظيماً للتقوى، كما قال عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، فالحج هو نبع الإيمان، وهو كذلك صورة الإسلام الحقيقية فالإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، بأن تخرج من هواك، وأن تخرج من راحتك، وأن تخرج من أمنياتك وشهواتك ورغباتك إلى أمر الله عز وجل وطاعته، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
إن الإسلام استسلام لأمر الله، وإن كان فيه مشقة على البدن، أو فيه ثقل على النفس، أو فيه مغايرة ومخالفة لما في القلب من طبع، وكل ذلك يتجلى في حقيقة هذه الفريضة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام في الموقفين العظيمين الجليلين: يوم جاء بزوجه وابنه الرضيع إلى الصحراء القاحلة الجرداء التي لا ظل فيها ولا ماء، ولا إنس ولا بشر، وتركهم وقفل عائداً، فكيف طاوعته نفسه؟ وكيف لم يخالفه قلبه؟ وكيف لم تدركه رحمته؟ وكيف لم تنازعه شفقته؟ إنه كان بشراً، وكان كذلك يحمل صفات البشر، لكن أمراً كان أعظم من ذلك كله في نفسه هو أمر الله، إنه استسلام ومضي مع هذا الأمر وإن خالف كل شيء في الحياة، فمضى عليه السلام، فاستوقفته زوجه قائلةً -وهي المؤمنة المسلمة-: آلله أمرك بذلك؟ فيهز رأسه دون أن يلتفت أن: نعم.
فقالت: إذن لن يضيعنا.
فمضى تاركاً أهله، إلا من قليل ماء وتمر، وتبقى المرأة ومعها رضيع، ليس لها حول ولا طول، لكن الإيمان العظيم، والإسلام التام، والاستسلام المحض جعل تلك القلوب تفيء إلى أمر الله، وتطيع أمر الله، ولا تلتفت إلى شيء سواه، فسعت بين الصفا والمروة، تبحث وتؤدي الواجب، وتأخذ بالأسباب، ويأتي الجواب في مكان آخر، وتأتي النعمة والفضيلة والفرج في مكان آخر، كانت تطوف بين الصفا والمروة وتفجرت زمزم من جهة أخرى، ثم بعد ذلك صار الناس والأفواج يأتون، وبهذا تحقق نداء الله تعالى لإبراهيم حين قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، وتحقق دعاء الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، كل ذلك تحقق لما كان الاستسلام لأمر الله.
ولما بلغ إسماعيل السعي رأى الخليل أنه يذبحه، كما قال عز وجل حاكياً عنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، ولم يقل: أضربك.
ولا: أهجرك.
بل ((أذبحك)) فجاء الاستسلام والإسلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، ومضى المؤمنان المسلمان لأمر الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 107]، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، كل هذه المعاني ينبغي أن تتجلى في هذه الفريضة.
ونحن نقف في عرفات في اليوم التاسع لأن الله أمر، ونرجم الحصيات سبعاً وليست عشراً أو دون ذلك لأن الله أمر، ونبقى هذه الأيام على وجه الخصوص، ولا نخرج من عرفات إلا بعد الغروب لأن الله أمر، ولا نذهب إليها إلا في ذلك اليوم لأن الله أمر، وكل ذلك نقول: إننا فيه مستسلمون لأمر الله.
إنه تدريب عملي على حقيقة الاستسلام وبذل كل شيء لتحقيق هذه العبودية، فالمال يُبذل، والأهل والأولاد يسخرون إن جيء بهم، أو يقطعون ويهجرون إن تركوا خلفه، وكل شيء لا يحول ولا يمنع من أن يمضي المسلم لتحقيق إسلامه واستسلامه ومضيه لأمر الله، وأمر آخر في ذلك، وهو المتابعة والموافقة الدقيقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (خذوا عني مناسككم)، فالأقدام تلو الأقدام، والحركات خلف الحركات، والأوقات مراعية للأوقات، والصورة هي الصورة، حيث يحج الناس اليوم كما حج محمد صلى الله عليه وسلم من قبل أربعة عشر قرناً، دون اختلاف في شيء من الأمور مطلقاً، فأمة إسلام تسير وفق أمر الله، وتتابع هدي رسول الله، فما بالها في غير هذا الأمر من شئون الحياة، وفي غير هذه البقاع من بلد الله تخالف أمر الله، وتهجر أمر الله، وتتبع الأهواء، وتقدم الآراء، بل قد توافق الأعداء، وتسير على إثرهم مخلفةً وراءها حقيقة إسلامها في استسلامها لأمر الله واتباعها لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(27/8)
حقيقة الإحسان في الحج
في الحج يوجد الإحسان، وهو مراقبة الله، فلا يكاد المرء يجد صورة يتحقق فيها المسلم المؤمن باستشعار مراقبة الله والحياء منه كما يكون في هذه الفريضة.
فما أجلى وما أظهر هذه المعاني المهمة التي هي قوام الدين! إنه إيمان وإسلام وإحسان في هذه الفريضة لمن حجها ولمن أداها، ولمن تدبر فيها وفي معانيها.
نسأل الله عز وجل أن يعظم إيماننا، وأن يحقق إسلامنا، وأن يرفعنا إلى درجة الإحسان، وأن يجعلنا نعبده كأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا.
اللهم! ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم! خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم! ألهمنا ذكرك، وأعنا على شكرك، ووفقنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم! اجعل طاعتك أقوى عندنا وأعظم من أهوائنا، ومن شهواتنا، ومما نحتاج إليه في دنيانا.
نسألك -اللهم- أن تعظم أمرك ونهيك في قلوبنا، ونسألك -اللهم- أن تجعلنا لهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم! فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وزلزل -اللهم- الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! اللهم! لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! رد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم! اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين، وثبت -اللهم- أقدامهم، ووحد رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأخلص نيتهم، وانصرهم -اللهم- على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم! احفظ على بلاد الحرمين أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها يا رب العالمين.
اللهم! لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم! يسر للحجاج حجهم، اللهم! بلغهم مقاصدهم في يسر وأمن وأمان وسلام يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن تيسر لنا أمورنا، وأن تقضي حوائجنا، وأن تحسن ختامنا، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.
اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
والحمد لله رب العالمين.(27/9)
الهول الأكبر
كثيراً من الناس ما قدروا الله حق قدره، وما عرفوا أنه القوي الجبار الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومما يدل على قوته وعظمته سبحانه ما يحصل من زلازل وكوارث عظيمة، فيجب على المسلم أن يقف مع ذلك ويتأمل فيه، فإن لذلك دلالات وأسباباً، ومن ذلك أن الله عز وجل يبين لعباده عظيم قدرته وقوته، وأن المخلوق مهما عظم وقوي فإن الله أعظم وأقوى، ويجب أن نعلم أن هذه الزلازل والكوارث إنما هي بسبب الذنوب والمعاصي، فلنتب إلى الله عز وجل ولنرجع إليه.(28/1)
الزلازل المدمرة والأمواج المهلكة
الحمد لله له جنود السماوات والأرض، لا يعجز قدرته شيء في السماوات ولا في الأرض، له الحمد سبحانه وتعالى هو القوي المتين، أمره بين الكاف والنون، إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على ما أفاض من النعم، وما صرف من الشرور والنقم، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وأرسله إلى الناس كافّة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوب غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديث الناس عن الهول العظيم، والزلازل المدمرة، والأمواج المهلكة، صورة مرعبة وهول مفزع، وأمر ليس لأكثر الناس به عهد سابق، أمر من الأمور الكونية القدرية التي لها عندنا معاشر المؤمنين فقه خاص ينبغي أن نؤكد عليه، وأن نذكر به، ليس وقوفنا مع الأمواج العاتية التي تبلغ ارتفاعاتها من عشرين إلى أربعين متراً فيما وقع، وفيما هو من الناحية العلمية تصل إلى نحو مائة متر في الارتفاع، وهذا معناه أن ارتفاعها يبلغ ارتفاع مبانٍ تصل إلى عشرات الأدوار.
ثم فوق ذلك تدخل إلى اليابسة متجاوزة حدودها التي أمسكها الله عز وجل عنها طوال الأيام والأعوام التي لم يكن الناس يلتفتون إلى ذلك ولا يعتبرون به، تدخل إلى عمق اليابسة حتى وصلت في بعض المناطق إلى ثمانية كيلو مترات، وتضرب بقوة عاتية وتحمل صخوراً يصل وزنها إلى عشرين طناً، وتغمر الأرض بمائة طن من المياه لكل متر مكعب في الأماكن المواجهة لها، فهل يصدق الناس هذا لولا أنه كان رأي العين! ولولا أنه خلف وراءه أكثر من عشرين ومائة ألف قتيل في الإحصاءات القريبة، وعدداً مجهولاً من المفقودين، وأكثر من خمسة ملايين من المشردين، ومئات بل آلاف الملايين من الأموال والخسائر، هل حصل ذلك خلال عقد كامل؟ إنه حصل في سويعات من يوم أو يومين، ويمتد الهول إلى أماكن بعيدة في جنوب شرقي آسيا ليصل إلى جوانب من إفريقيا، ليقطع طولاً من المسافات شاسعاً، إذ إن هذه الأمواج تصل سرعتها إلى ثمانمائة كيلو متر في الساعة مقارنة بذلك سرعة الطائرات النفاثة، وهذه صورة مبسطة مما ينبغي أن تنقشع به الغشاوة عن الأعين، وأن يجلي كدر وصدأ القلوب من جديد، عندما تعم الغفلة وتضرب بسكونها وإلفها وعاداتها، فلا يلتفت عقل، ولا تنظر عين، ولا يتدبر قلب.
إن هذه الحقائق قد سمعها الناس جميعاً، وربما عند بعضكم من تفصيلاتها أكثر مما قلت ومما قد أقول، لكن ما وراء ذلك؟ ما الذي ينبغي أن نلتفت إليه ونستفيد منه، ونحن قد سلمنا الله جل وعلا من كل هذا الهول العظيم، والخطب الجسيم، والدمار الكبير؟ فلننتبه! وإليكم هذه الوقفات:(28/2)
عظيم قدرة الله تعالى
أولها: الانتباه إلى قدرة الله: فقدرة الله لا يعجزها شيء، قدرة لا يستطيع الخلق أن يتصوروها، ولا أن يعرفوا مدى حجمها، ولا أن يحيطوا بآثارها وما قد ينجم عنها، وذلك في حس المؤمن له آثار كبيرة، إن علمت أنه جل وعلا رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وأنه كما قال جل وعلا: {وللَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، وأنه كما قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] وأنه كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فما بالك تستمد القوة من غير قوة الله؟! وما بالك تخضع وتخاف وتذل لقوة الخلق والبشر؟! وأين هذه القوة؟! لو كانت على هذه السواحل الطائرات الحربية، والدبابات المدمرة، فهل ستقف أمام هذه القوة العاتية من زلزال في ثوان معدودات أو دقائق قليلة؟! ومن أمواج ماء البحر الذي نركبه ويركبه الناس كل يوم؟! ثم انظر وتأمل ما الذي يجري في واقع المسلمين وواقع الأمة اليوم، وقد خضعت الرقاب، وذلت الأعناق، وسلمت الديار؛ خوفاً من قوة تسمى: قوة عظمى، ولله جل وعلا القوة العظمى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] هو الذي بين لنا حقائق ذلك في كتابه: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74].
إن الذين ركنوا إلى قوى الأرض ما قدروا الله حق قدره، وما أيقنوا أن الله هو القوي العزيز: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44].
ونموذج قرآني واحد أقدمه ليكشف عن بعض هذه القوة عند قوم كانوا جبابرة في الأرض، وكانوا قد سخروا وذللوا كثيراً من أسباب الأرض حتى نحتوا الجبال، وجعلوا بيوتهم وقصورهم في أعماقها وبطونها، قوم كانوا يرون أنه ليس هناك من هو أقوى منهم، ولا من هو أقدر على مواجهتهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15 - 16].
مستكبرون، مغترون بقوتهم، يقولون بلسان الكفر والفجور: من أشد منا قوة؟! كل قوى الأرض تخضع لنا، ونحن قادرون على البطش بها، وعلى الانتصار عليها، وينسون الذي خلق، والذي مكن من الأسباب، وأنه جل وعلا قادر على قهرهم، فأرسل عليهم واحداً من جنده في أيام وأحوال عارضة، فانتهى أمرهم، ودخلوا في سجل التاريخ مع الهالكين، لم يحتاجوا من قوة الله عز وجل إلا إلى نزر يسير لا يستطاع تقديره من قلته.
وهكذا نجد القرآن يخبرنا بذلك ويبينه لنا لكننا نحن لا نلتفت ولا ننتبه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، تذكروا كل جبابرة الأرض، تذكروا كل قوى الطغيان في قديمها من عهد فرعون ومن كان معه وبعده، وفي حديثها من الدول العظمى التي سقطت من قريب، بعد أن كان ذكر اسمها يخلع قلوب الضعفاء والجبناء.
وانتبه إلى هذه القوة العظيمة لتوقن أنها في أي لحظة من اللحظات قد يصيبك أثر منها، وقد يحل بك بلاء منها، فأين أنت من النجاة إلا بعصمة الله ورحمة الله، ويوم كان ابن نوح عند الطوفان غره عقله، وظن أن الأسباب المادية تنجيه، فقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ} [هود:43] وجاء
الجواب
{ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43]، وانتهى به الأمر إلى أن غمر الماء الجبال العالية، وغمر كل شيء، فلم يبق ولم يذر، ولم ينج إلا النفر الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، وكانوا قلة قليلة.
ذكر بعض أهل التفسير أن الذين آمنوا مع نوح واتبعوه في أقل رواية اثنا عشر رجلاً وفي أكثرها أربعون رجلاً، فانظروا إلى رحمة الله كيف استثنت قلة قليلة وأهلكت كثرة كاثرة كافرة فاجرة عاتية باغية ظالمة، وما ذلك على الله بعزيز.(28/3)
هول الزلازل الدنيوية يذكر بأهوال يوم القيامة
الأمر الثاني: أن هذا الهول الذي نذكره، وهذا الخطب العظيم الذي لا نكاد أن نتصوره، لا يعد شيئاً أمام الهول الأكبر الذي ساق الله لنا بعض أخباره، وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه في أحاديثه مما يشيب لهوله الولدان، فكيف نغفل عن ذلك وإذا جاء مثل هذا وجدنا خوفاً كبيراً، وذهولاً مثيراًً، وعجزاً تاماً، وحيرة كاملة.
كلنا رأى كيف انخلعت القلوب، كيف طاشت العقول، كيف اضطربت الدول، كيف ماج العالم كله أمام هول واحد من أهوال الدنيا، فكيف بهول نهاية العالم وانتهاء هذه الحياة كلها وطي صفحتها؟! كيف بهول القيامة؟! كيف بهول الحشر؟! كيف بهول النشر؟! كيف بهول البعث؟! كيف بهول الوقوف بين يدي الله؟! كيف بهول المرور على الصراط؟! كيف بهول تكاثرت فيه الآيات وتعددت فيه الروايات؟! سبحان الله كم يسوق الله جل وعلا لنا العبر، وكم تذكر الآيات ذلك الهول ووصفه بصور تنخلع لها القلوب المؤمنة، وتجفل منها وتتذكر وتتعظ بها: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} [الطور:9 - 10] قال السعدي في تفسيره: وذلك لعظم أهوال القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف؟ {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:8 - 10] قال ابن كثير: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] أي: ذهب ضوءها، {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:9] أي: انفطرت وتشققت، ووهت أطرافها، {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] أي: ذهب بها فلا يبقى لها أثر ولا عين.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:106 - 107].
وإذا مضيت وجدت الآيات في كل هذه الصور كثيرة وعظيمة، وهولها هائل، ومن أبلغ ما جاء فيها ومما ينبغي استحضار تذكره وتدبره: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] هول تنصرف فيه الأم الحنونة عن ابنها الرضيع، هول يجعل الأرحام تقذف ما فيها، هول لا يسأل فيه أحد عن أحد: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -كما صح عند البخاري وغيره- تستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (يبعث الله عز وجل الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فقالت أم المؤمنين: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ -فطرة الحياء والإيمان أنطقتها- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) إنه أمر لا يبقى فيه للعقل انصراف إلى شهوة، ولا تفكير في لذة، إنه هول صوره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
وهاهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله تعالى).
ألسنا نقرأ هذه الآيات؟! ألسنا نعرف المعاني والدلالات؟! فأين التذكر والاتعاظ والاعتبار؟! أين الإيمان الذي ضعف في القلوب؟ أين اليقين الذي تزعزع وتضعضع في النفوس؟ أين استحضار ذلك كما كان حاله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وأحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور) الأمر أعجل من أن تبنى الدور وأن تؤثث القصور، وأن يتزاحم على الدنيا أهل الدثور.
وقديماً قال بعض الحكماء: لو تأمل الإنسان في حاله لبنى داره على شفير قبره.
تلك صورة من الهول الدنيوي الأرضي العابر تذكر المؤمنين بالهول الأخروي الذي ينبغي أن يهيئوا أنفسهم له، وأن يستحضروا دائماً هوله ليزجرهم عن المعاصي والسيئات، وليدفعهم إلى الطاعات والقربات، وليجعلهم دائماً في خوف من سخط جبار الأرض والسماوات، فإذا كان حدث واحد زلزل العالم كله، وقضى على الآلاف المؤلفة من الأرواح، وشرد الملايين من البشر، فأي هول يمكن أن يقارن بعد ذلك بالهول الذي جاءت به الآيات، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنه لحري بنا أن نجعل هذه الحقائق في قلوبنا، وأن نتلو الآيات، وهي بالمناسبة من السور التي يكثر تلاوتها في الصلوات: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] فإننا قد نسمعها في كل يوم، أو على أقل تقدير في الأسبوع مرة أو أكثر، فأين القلوب المتعظة؟ وأين العقول المتدبرة؟ وأين الأحوال المتغيرة؟ وأين الاستقامة والإنابة التي ينبغي أن نلتفت إليها وننتبه إلى حقائقها؟!(28/4)
وجوب تذكر نعمة الله عز وجل علينا
وثالثاً: تذكر نعمة الله.
تعلمون أن أولئك القوم ناموا يوم سبتهم لا يلتفتون إلى شيء، وكانوا متنعمين وطاعمين وشاربين، فأصبحوا وهم في هول الكارثة، وأنت أيها الأخ المسلم في هذه الديار لم تصب بشيء، فهل نبقى متفرجين ومتناقلين للأخبار وربما ضاحكين وعابثين؟! أليست القنوات ما تزال تبث الرقص والغناء، وتأتيك نشرة الأخبار بالموت وبعده بالأرداف المهتزة، والصدور المترجرجة وغير ذلك؟! أليس هذا تناقضاً؟ كان الواجب علينا الاعتراف بنعمة الله، والشكر والحمد على نعمة الله، ولعلي هنا أستحضر الحديث العظيم الذي رواه سهل بن سعد عند الترمذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)، هذه هي الثروة العظمى، لو أن واحداً من أولئك الذين أصيبوا قلت له: ماذا تريد لقال: لو كنت نائماً وليس عندي من الدنيا شيء إلا الأمن والأمان وإلا صحة الأبدان، وإلا كسرات من خبز يقوم بها صلبي؛ لكان ذلك خيراً.
ونحن بحمد الله بتنا آمنين في أسرابنا وبيوتنا وعند أهلينا، وبحمد الله لنا صحة في أبداننا، وليس عندنا قوت يومنا فحسب بل أيامنا وشهورنا، بل ربما أعوامنا، فأين نحن من شكر نعمة الله، خاصة عندما نراها قد سلبت من قوم مؤمنين مسلمين أو كفرة غير مؤمنين؟ أليس أولئك قد حرموا ذلك؟ أليس أمنهم قد أصبح مهدداً بأرض ترجف من تحتهم، وماء يغمر بيوتهم وديارهم؟! أليست الآن أعظم خطورة يتحدث عنها هي خطورة الأمراض والأوبئة التي يخشى أن تفتك بأكثر مما فتكت به تلك الأمواج والفيضانات؟ أليست الأقوات والأرزاق والأثاث والرياش كلها قد انتهت إلى لا شيء في لحظات؟ ولو رأينا وسمعنا بعض ما كان في هذه الأحداث لرأينا عجباً وسمعنا هولاً، أين نحن من شكر نعمة الله عز وجل ونعمه علينا متوالية؟! أين نحن من شكر هذه النعم بالعمل {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] أين نحن من قصد السبيل الصحيح إلى حفظ النعم وزيادتها؟ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
أين نحن من تذكر هذه النعمة؟ إننا لو تصورنا اليوم أن واحداً من قرابتنا المباشرين في تلك الأماكن، أليس شعورنا سيكون مختلفاً؟ ألسنا سنشعر بالخوف بقدر أكبر؟ ألسنا سنحس بالمأساة بصورة أعمق؟ ألسنا سندرك الهول بحجم أكبر؟ فما بالنا ونحن في بيوتنا وديارنا لا نتذكر هذه القدرة، ولا نتذكر هول يوم القيامة، ولا نستحضر النعمة العظيمة؟(28/5)
عظيم نعمة الأمن والأمان
وهنا وقفة لا بد منها: نعمة الأمن والأمان، ونعمة رغد العيش وصحة الأبدان، فهي من أعظم نعم الله على عباده.
ولعلنا لابد أن نشير إلى ما تحدثنا عنه مراراً: إن القتل والتفجير والتدمير الذي يجري إنما هو نقض لهذه النعمة، وكأنما يفعل هؤلاء ما يناقض حمد الله جل وعلا وشكره على نعمته، ولئن كان هذا الفعل ينبثق من تكفير فقد علمنا حكمه، ولئن كان ينبعث من مواجهة أو رد فعل فلا يجوز بحال أن يكون سبباً في قتل الأرواح فضلاً عن ترويع الآمنين، وفضلاً عن اختلال أوضاع البلاد والعباد، فهذا كله من الأمور المحرمة التي هي خرق لأعظم نعمة من نعم الله عز وجل وهي نعمة الأمن والاستقرار.
ونحن في شهور الحج العظيمة، وفي قرب من الفريضة الجليلة، وفي أمان البيت الذي جعله الله عز وجل أماناً للناس حتى يؤدوا عبادتهم وهم في أمن على أرواحهم وأموالهم وأنفسهم، وكذلك ساق الله عز وجل النعم؛ ليكون الناس منصرفين إلى عبادتهم، وقد يسر الله لهم أرزاقهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يذكرنا بنعمه، وأن يوفقنا لشكرها، وأن يجعلنا ممن يستحضرون نعمه ويخافون من عذابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(28/6)
الذنوب والمعاصي سبب الكوارث والمصائب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:(28/7)
وجوب أخذ العظة والعبرة من هذه الكوارث
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن أعظم درس من هول هذه الحادثة لهو الاعتبار بأثر الذنوب والمعاصي، وهو أمر يطول الحديث فيه، ويأتينا بعض المسلمين وبعض من المتحدثين بلسان عربي مبين ليقولوا لنا: إنكم معاشر الدعاة المتدينين تربطون كل شيء بالمعاصي والذنوب، وهناك حقائق علمية وهناك قوانين أرضية تقول لنا: إن هذا حصل بسبب كذا وكذا، وإنه وقع هنا لأجل كذا وكذا، وأنتم تربطون كل شيء بالذنوب والمعاصي، فهل هذه هي أراضي الذنوب والمعاصي فحسب؟ وأين هذه الكوارث من ذنوب ومعاص أخرى؟ فنقول لهم: إننا لا نلتفت إلى هذه الأقوال، ونلتفت إلى قول رب الأرض والسماوات، وإلى كلام أهل العلم، وإلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ونعرف باختصار شديد أن مثل هذه الأحوال هي عقوبات للمذنبين، وابتلاء للمؤمنين، وعبرة للناجين، ففيها من كل وجه فائدة قد تكون مختلفة عن الأخرى، وهذا قول أوجز به -لئلا أطيل عليكم- من كلام الشيخ ابن باز رحمه الله قال: إن للمعاصي والذنوب من الآثار القبيحة المضرة بالقلب والبدن والمجتمع، والمسببة لغضب الله تعالى وعقابه في الدنيا والآخرة ما لا يعلم تفصيله إلا الله سبحانه وتعالى، فهي تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الماء والهواء والثمار والمساكن: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130].
وإن فيما يقع من هذه الكوارث عظة وعبرة، والسعيد من وعظ بغيره، وبالجملة فإن جميع الشرور والعقوبات التي يتعرض لها العباد في الدنيا والآخرة أسبابها الذنوب والمعاصي.
وإن من علامات قسوة القلوب وطمسها والعياذ بالله، أن يسمع الناس قوارع الأحداث، وزواجر العبر والعظات التي تخشع لها الجبال لو عقلت، ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم مغترين بإمهال الله لهم، عاكفين على اتباع شهواتهم، غير عابئين بوعيد، ولا منصاعين لتهديد، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:7 - 8]، كما أن الاستمرار على معاصي الله عز وجل مع حدوث بعض العقوبات دليل على ضعف الإيمان أو عدمه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97].
إن من الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا العظة والعبرة مما حصل، وأن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويحذروا من أسباب غضبه ونقمته، والله جل وعلا يقول: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65]، وقد بينت الآيات هولاً عظيماً فيما يجري به قضاء الله وقدره من العذاب والهول بحسب ما يكون من الذنب والمعصية، وحسبنا نموذج واحد يذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما كان رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وروى البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض).
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99]، وذلك تذكير وعظة وعبرة نحتاج أن نتذكرها، وأن نوقن أنه ما وقع عقاب إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، فأقلعوا عن الذنوب وارجعوا إلى التوبة، عل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمته.
ومن المهم أن نذكر أن كثيراً من هذه المناطق التي أصابتها هذه الكارثة هي من الشواطئ الساحلية السياحية التي بعضها معروف بأنه من أشهر أماكن الفسق والفجور والدعارة المعلنة على مستوى العالم، والله جل وعلا قد بين كل أنواع العذاب رابطاً إياها بالذنوب: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
والابتلاء أمره مهم، وخطبه عظيم، والتذكير بذلك من الأمور المهمة، ودعك ممن لا يرون ذلك، ويفسرون بالماديات، ويظلون غارقين بالمعاصي والسيئات.(28/8)
فضل الشهادة في سبيل الله على الموت في اللهو والعبث
وأخيراً: مسألة أحب أن أنوه بها، وهو الموت وفجأته.
يقولون كما قال أهل الكفر: لم تغامرون؟ لم تعرضون أنفسكم للخطر؟ لم تجاهدون في سبيل الله وقد تموتون وتقتلون؟ لم تفعلون هذا وذاك؟ فجأة الموت كما بينها الحق سبحانه وتعالى في نداء لأهل الإيمان لئلا يكونوا كغيرهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:156 - 158].
كم هم الذين يقولون لنا مرة إثر مرة: لم يعرض أولئك الناس أنفسهم للموت والقتل؟ ونسوا قول الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أولئك قوم لم يذهبوا لقتال ولا جهاد ولا يعرفونه ولا يخطر ببالهم، ذهبوا إلى الشواطئ لكي يسبحوا ويلهوا ويلعبوا ويعبثوا، فجاءهم الموت إلى ديارهم، وبعضهم قادم من مسافات هائلة تاركاً وراءه أرضه ودياره.
فهذا خالد بن الوليد الذي لقي الموت مئات من المرات في ساحات الجهاد، ومات على فراشه وهو يقول: ما في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة سيف أو ضربة رمح، وهاأنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
تحية للأبطال الشهداء، وللمقاومين المجاهدين للأعداء في كل مكان، ولئن قتلتم أو متم فإن ذلك فيه مغفرة ورحمة خير من الدنيا وما فيها، وليخسأ الذين ما زالوا يعيشون في ذنوبهم خوفاً ورعباً، ويعظمون قوة غير الله عز وجل، حتى كان منهم ما كان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك أن تنطق ألسنتنا بذكرك، وأن تملأ قلوبنا بحبك، وأن تسخر جوارحنا في طاعتك، وأن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تجعلنا ممن ينصر الإسلام والمسلمين.
اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم خالف بين كلماتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم سلط عليهم جند السماوات والأرض يا رب العالمين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية يا قوي يا عزيز يا متين! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم وفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر لنا ما مضى وما هو آت.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(28/9)
القدس قضية الأمة
لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على أعدائها، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، ويشهد لذلك ما قيضه الله من الانتفاضة في فلسطين، فهي تحمي مقدسات المسلمين، وتكبد العدو الخسائر في مختلف المجالات، رغم ضعف إمكانياتها المادية.
والناظر بعين البصيرة، والمهتدي بالحق يوقن أن الجولة لصالح المؤمنين، وأن الله محيط بأعدائهم، ومنتقم منهم ولو بعد حين.(29/1)
المقاومة في أرض الإسراء قلب الأمة النابض
الحمد لله الكبير المتعال ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بالدفع عن عباده المؤمنون، وبشر بالنصر جنده المجاهدين، وكتب بالقطع أن العاقبة للمتقين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وكما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، والذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأرسله كافة للناس أجمعين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً وأسمع به آذاناً صماً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعنه، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا هذا نجدد به حديثاً سلف؛ لأنه لابد أن يكون حاضراً في الأذهان حياً في القلوب لما له من ارتباط وطيد بحقائق الإيمان والإسلام من جهة، وبوحدة المسلمين ورابطة المؤمنين من جهة أخرى؛ ولأنه كذلك يمثل قضية الوجود الإسلامي الإيماني في مواجهة العدوان الإجرامي الظلمي؛ ولأنه من جهة رابعة يمثل محور الصراع بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، وبين المعاني والقيم الفاضلة، وبين الأضاليل والجرائم الفظيعة.
حديثنا هو عن أرض الإسراء، وعن قلب أمتنا الإسلامية النابض بالمقاومة والجهاد، في مرور الذكرى الرابعة للانتفاضة الجهادية المباركة.
ولا شك أن حدثاً مثل هذا لا يكون قد مر على الآذان والأذهان مرور الكرام، ولم يُربط بحقائق الإيمان، ولم يُستدل عليه بآيات القرآن، ولم يكن له صلة واضحة بما كانت عليه سيرة وسنة المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم.(29/2)
أهمية النظر إلى الجانب المشرق
كثيرة هي الأمور التي تمر بنا وننظر إلى جانبها المظلم دون المشرق وإلى حقائقها الدنيوية المادية دون حقائقها الإيمانية المعنوية.
فكم نحن في حاجة إلى أن تكون قلوبنا حية بالإيمان فلا تفقه إلا فقهه، ولا تزن إلا بميزانه، ولا تنظر إلا بعينه، بدلاً من أن نكون مستسلمين لذلك الكم الهائل من الزحم الإعلامي الزائف الذي ليس -في مجمله- مرتبطاً بالإيمان والقرآن والإسلام إن لم يكن محايداً وبعيداً عن ذلك، وهو يرجف بالقول الذي يعارضه ويلقي بالتهم التي تنقضه.
ومن هنا فإن حديثنا هذا وإن كنا قد انقطعنا عنه فترة من الزمن؛ فإنه جدير دائماً وأبداً أن لا يرتبط بخطبة أو محاضرة أو حادثة؛ فإنه فعل اليوم المتكرر في كل ساعة ودقيقة وثانية.(29/3)
خطأ النظر المتشائم نحو المقاومة الفلسطينية
إننا نسمع أنه قد جرت هذه المقاومة الويلات والنكبات على أبناء فلسطين، وأوصلتهم -كما يقول بعض المحللين من أبناء العرب، بل من أبناء فلسطين- إلى ارتفاع نسبة الفقر من خمسة عشر وعشرين بالمائة قبل هذه المقاومة الجهادية إلى أربعين وخمسين بالمائة، وأوصلتهم إلى أرواح أزهقت، وبيوت هدمت، وأسر شتت، وغير ذلك، ثم إنها أوجدت الذارئع والأسباب والمبررات للعدو؛ لكي يجد مسوغاً عالمياً ومنطقاً دولياً فيما يقوم به من الإجرام والعدوان! ولست أدري ما سبب تكرر مثل هذا القول عبر السنوات المتتالية، ولم يعد أحد يفقه مثل هذا القول ويقبله إن كان حي القلب يقظ الضمير، راشد العقل عالي الهمة، حراً في نفسه لا يقبل الذل والضيم.(29/4)
المقاومة والجهاد مصدر التفاؤل والعزة(29/5)
لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
لننظر في هذا المقام إلى الجانب الآخر، ولأبدأ ببعض الومضات من الحقائق القرآنية التي تكشف لنا صوراً أخرى غير ذلك الوهم المسيطر على قلوب الدنيويين، والمتاجرين من السياسيين، وعلى الغافلين الراكنيين إلى حياتهم.
قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، إنها شطر آية، ولكن حقيقتها ثابتة، فأين ما نراه اليوم لننتقل إلى أرض العزة والقوة والمقاومة والجهاد، في زمن فيه غلب على كثير من المسلمين الذلة والخنوع والخوف والاستسلام.
ولننظر لماذا حقق أهلنا إخواننا في فلسطين معادلة غريبة شاذة لا تفهم إلا بمقياس الإيمان، ومن أين جاءوا بهذه الشجاعة والقوة والبطولة؟ وكيف تسنى لهم هذا الثبات رغم قوة البطش وشدة العدوان وتوالي الجرائم، ومع ذلك يقفون برءوس مرفوعة وصدور مشرعة وأقدام ثابتة، وكلمات تعبر عن معاني القوة والعزة؟ إنها الآية القرآنية والسنة الربانية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
لقد وقع هناك تغير حقيقي يظهر في صور شتىً، بدءاً من الارتباط بالقرآن حفظاً لآياته وتلاوة لها وتدبراً لمعانيها، ومروراً بتربية المساجد التي تعلقت بها قلوب الشباب قبل الشيب والصغار قبل الكبار، وانتهاءً إلى التربية العظيمة للأمهات الفاضلات المربيات المجاهدات.
وقد سمعت خلال الأيام الماضية ورأيت مقابلات مع ما فيها من حزن وألم، لكن فيها عظمة واستعلاء: فهذه أم فلسطينة كان لها سبعة أبناء لم يعد عندها واحد منهم مطلقاً؛ فواحد منهم قتل شهيداً، وستة في الأسر، وهي تقول: بقيت مفردة، لكني لا أضعف ولا ألين، بل أفتخر وأعتز بهم.
ثم تلتفت إلينا وإلى الجميع لتقول: أين المسلمون؟ وأين العرب منا؟ بل تلتفت إلى من هو أدنى إليها وأقرب منها فتقول: أين المسئولون عنا في بحثهم عن معاناتنا ووقوفهم إلى جانبنا؟(29/6)
بطولات إيمانية للانتفاضة الفلسطينية
ثم لننظر إلى القدوات التي صارت تعلو هناك وترتفع، إنها ليست قدوات المغنين والمغنيات أو الراقصين والراقصات، أو اللاعبين واللاعبات، إنها قدوات الاستشهاديين والاستشهاديات، إنها قدوات يتحدث بها اليوم الصغير في سن السادسة والسابعة من عمره.
لقد أصبحت البطولة شغفاً عظيماً وأملاً كبيراً وروحاً تسري في الدماء والعروق، لقد صار القوم على غير ما نحن عليه في ترفنا وغفلتنا وانشغالنا بدنيانا واستسلامنا الضعيف الخانع لواقعنا، ورضوخنا وذلتنا لهينمة وهيمنة أعدائنا.
لقد كسروا الطوق البشري، وتعلقوا بالطوق الرباني؛ لقد نظروا إلى الحقائق في ضوء الإيمان فعرفوا أن الظواهر لا تغني شيئاً، وأن الحقائق وراء هذه الظواهر تكشف أن العاقبة للمتقين، وأن جندنا لهم الغالبون، وأن ذلك يُرى رأي العين لمن كان في قلبه يقين راسخ وإيمان صادق.
إنها كذلك تمر عبر إسلامية النظرة في كل أمر من الأمور، فليس هناك من الأسباب المادية ولا من الحقائق الدنيوية ما يمكن أن يفسر به شيء من ذلك، ولذلك هم يفسرونه بالمعاني الإيمانية والسنن الربانية، وذلك ما نراه في واقع ذلك التغيير.
ننظر إلى كثرة الناس في المساجد ودروس العلم ومسيرات البيارق في المسجد الأقصى، وعناية الناس بالعمل الخيري وتكاتفهم وتعاطفهم مع كل شهيد يستشهد كيف يخلف في أهله، فرغم شدة الظروف وقسوتها وعظمة الفقر وسعته، لقد تغيرت الصورة إلى صورة لن نقول إنها نموذجية؛ لكنها تحقق حداً من المعاني الإيمانية والإسلامية في صدق الإيمان وفي قوة اليقين، وفي التعلق بالله عز وجل والارتباط بمنهجه، وفي الاقتداء بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تجددت عندنا معانٍ غائبة في واقع حياتنا من إيثار الآخرة على الدنيا ومن التضحية والفداء في ميادين المعارك والجهاد، وذلك أمر ينبغي الالتفات له.(29/7)
آثار العمليات الاستشهادية على اليهود(29/8)
يخربون بيوتهم بأيديهم ويهاجرون منها
وفي مقابل ذلك أيضاً جاء التغير عند القوم الذين يعادونهم من شذاذ الأرض وأفاكيها، وهم اليهود عليهم لعائن الله، لقد كانت أجيالهم الأولى أشد ارتباطاً بعقيدتها منهم وأكثر تضحية، وجاءت الأجيال المتتالية والمهاجرون الذين وعدوا بالنعيم والترف والثراء فتغيروا ولم يعد حالهم كحالهم الأول، وجاء ذلك أيضاً بسنة الله عز وجل كما قال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، يخاطبنا الله فيقول: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: يا أصحاب العقول! انتبهوا والتفتوا إلى الحقائق.
إنه أمر عجيب، فهذا جيش هو الخامس في العالم، وأمامهم من حيث الناحية المادية والعددية فئة قليلة، فهي لا تملك من أسباب القوة المادية شيئاً يذكر بالمقارنة مع عدوها، ولكن ما هي النتيجة؟ انظروا إلى هذه الآيات تصف لنا حال فئة من اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نقضوا العهود، وطعنوا المسلمين في ظهرهم، وأرادوا ارتكاب الجريمة العظمى بمؤامرتهم على قتل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد بنوا الحصون، وعندهم الأموال الطائلة، فهذه الآيات تصف ما كانوا عليه من أوهام الدنيا التي يعيشون فيها، بل إن القرآن يخاطب أهل الإيمان: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر:2]، أي: ما كان أحد يتصور ذلك؛ لما كان لهم من مقام طويل ومال وفير وعدد غفير ومجتمع مترابط منعزل عن غيره، قال سبحانه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2]، أي: أنهم أخذوا أسباب القوة المادية بأعظم وأعلى صورها، ولكن: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2].
إن قدر الله غالب، وإن سنته ماضية، وإن نصره لعباده متحقق، وإن العاقبة للمتقين، ذلك ما تكشف عنه هذه الحقائق.(29/9)
النتائج الإيجابية للعمليات الجهادية
ونحن ننظر إلى المواجهة غير المتكافئة فماذا نرى؟ يأتينا كثير من الناس ليرينا الجانب المظلم، ويقول: كم قتل من أبناء فلسطين! وكم هدمت من بيوتهم! وكأنه يمكن للناس أن يأخذوا حقوقهم من غاصبيها، وأن يستعيدوا كرامتهم من مهينيها دون أن يدفعوا ضريبة، ولكن يكفيهم أن يجلسوا على الطاولات، وأن يعقدوا المؤتمرات، وأن يأكلوا أشهى الوجبات، ثم يصدروا البيانات، وفي آخر الأمر يحققون الانتصارات.
فمن من المغفلين يصدق أن هذا يمكن أن يقع في واقع الحياة؟ وكيف استطاع أولئك الشذاذ المجرمون المغتصبون لهذه الأرض أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه؟ لقد بذلوا أموالهم، وسفكوا في أول الأمر دماءهم، وتعاظمت معهم المعونة من قبل أوليائهم وحلفائهم، ولابد أن نوقن بأنه لا يمكن أن يكون تغيير ذلك بغير ذلك.
لكننا ننظر إلى الجانب الآخر، إلى جانب العدو الذي تكبد خسائر لم يتكبد مثلها في الحروب التي خاضها كلها مع جيوش ودول كاملة ومنظمة، يكفينا أن نشير إلى بعض الإحصاءات المذكورة خلال هذه الفترة القصيرة، لقد وقعت ثلاث عشرة ألف وخمسمائة عملية جهادية منوعة، أوقعت في اليهود ألفاً وسبعة عشر قتيلاً وأكثر من خمسة آلاف جريح، وأوقعت فيهم بعد ذلك ما هو أفظع وأنكى وأشد.
إنه ما أشارت إليه الآية: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، إنهم يعيشون خوفاً دائماً وهلعاً فضيعاً أقض مضاجعهم، وأذهب نومهم، وملأ العيادات النفسية بالمراجعين منهم.(29/10)
مقياس النصر على اليهود واعترافهم به
إن قضايا النصر لا تبدو في صورها المادية النهائية، بل هي في الحقيقة متدرجة، تبدأ بالقلق والخوف، ثم تمر بالحيرة والاضطراب، ثم تنتهي إلى الخور والاستسلام، وتلك المراحل هي التي تمر بها كل معركة ومواجهة.
ولننظر إلى حالهم وواقعهم، ولننظر إلى الحقائق والأرقام، وقد سئل بعض اليهود فأجاب بما لا يجيب به بعض أبنائنا من العرب والمسلمين؛ حيث قيل له: ولكنكم تقتلون منهم أكثر مما يقتلون منكم، فقال: إن الأعداد في مثل هذه المواجهة غير موضوعية، لقد قتل من الأمريكان خمسون ألفاً وقتلوا من الفيتناميين ثلاثة ملايين، وخرجوا خاسرين، وقتل من الفرنسيين بضعة آلاف وكان شهداء الجزائر نحو مليون، ولكنهم كانوا منتصرين.
وهكذا فإن القضية ليست قضية الأعداد والأرقام، ولكنها قضية القوة المعنوية والثبات، وما يوجد من طمأنينة تراها رغم كل هذا الهول في نفوس إخواننا الذين تركوا تعلقهم بالناس وربطوا حبالهم برب الناس، إنهم لم يعودوا ينتظرون اليوم منا حتى دعماً مادياً، وقد انقطع ذلك إلا ما رحم الله.
ولم يعودوا ينتظرون منا اليوم دعماً سياسياً، ولم تعد هناك إلا البيانات والبيانات، فلم يعودوا ينتظرون أن يقف أحد إلى جوارهم في خندقهم.
ولذلك ننظر إلى هذه المعاني، وننظر إلى قادة كبار عند الأعداء وهم يقرون بأن المعضلة كبيرة.(29/11)
الأثر الاقتصادي للعمليات
أما الاقتصاد اليهودي فهو في تدهور مستمر، وأما البطالة فهي في زيادة مطردة، وأما السياحة فقد صارت أثراً بعد عين، وأما الأمن فإنه لم يعد متوفراً في أي شبر من تلك الأرض وأي بقعة منها، ولذلك نرى هذه الصورة واضحة تؤيدها اللفتة القرآنية الثالثة في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، لقد جرح هنا وجرح هنا، وقتل هنا وقتل هنا، لكن هنا إيمان واحتساب وأجر وتكفير سيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها عنه من خطاياه)، وذلك ما يؤمن ويوقن به إخوننا، وإذا كان هنا قتيل وهناك قتيل، لكن هذا شهيد وذاك إلى جهنم وبئس المصير.
فاليقين لابد أن يكون راسخاً في نفوسنا وقلوبنا بموجب آيات ربنا وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم، وتلك قضية واضحة ظاهرة في قضايا الألم الذي يشعر به الطرف الآخر والعناء الذي يقاسيه والخوف الذي يسيطر عليه، حتى إنه قد ارتفعت نسب المراجعين للعيادات النفسية بنسبة خمسين في المائة في كل عام عن الذي قبله، وزادت نسبة البطالة بنسبة (4.
18%) في كل عام عن البطالة في العام الذي قبله، وزادت نسب أخرى كثيرة أوجعت العدو، ولولا ما يلقاه من دعم ويصب له من مال، ويقع له من خيانات وتقدم له من معلومات؛ لكان الأثر أكبر وأعظم، ولكنها إرادة الله سبحانه وتعالى.
وهاهم يعترفون بذلك، والأرقام تشهد به، والحقائق تدل عليه، لقد أصبحوا -كما يقول بعضهم- في دائرة دموية مفرغة لا يمكن الخروج منها، وصار الناس لا يخرجون من بيوتهم خوفاً من العمليات الاستشهادية، والجمهور متعب ومرهق ومتشائم، وإسرائيل وقوتها لا تستطيع أن تفعل شيئاً.(29/12)
الصدمات النفسية عند اليهود من جراء العمليات
إن طريقة مواجهة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للانتفاضة لم تخفق فقط، بل إنها أدت إلى انتقال العمليات الاستشهادية إلى فصائل لم تتبنها من قبل، وحصلت إسرائيل على عكس النتائج التي راهنت على تحقيقها.
تلك أقوالهم في صحفهم ومن قبل خبرائهم.
والروح المعنوية مختلفة تماماً، فخمسون في المائة زيادة في استهلاك المهدئات والأدوية النفسية، وفي كل حادثة من تلك الحوادث والعمليات الجهادية يصاب أربعة أضعاف المصابين بما يعرف بالصدمة والخوف والهلع، ويراجعون المستشفيات، ويحملون في الإسعافات كما يحمل الذين أصيبوا بالجراحات.
إن معدل الخوف في اليهود رصد من خلال دراسات علميه في أشهر ثلاثة متتالية قبل هذا العام وكانت النسب هكذا (57 %) ثم (68 %) ثم (78 %).
والمال معبود اليهود، كما قال الله جل وعلا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96].
فهذا المال وهذا الاقتصاد الذي يضعف ويشتد ضعفه يؤذن بأمور كثيرة لصالح إخواننا في أرض فلسطين، وكأننا نرى في ذلك ما قاله الله سبحانه وتعالى: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97]، فإله اليهود كان عجلاً من ذهب، ويوشك هذا أن يتفجر فلا يبقى حينئذ أمر يبقيهم في ديارهم أو أرضهم، كما سنذكر، وكما هو واقعهم في هذه الوقائع.
ونرى من جهة أخرى كيف هي النظرة التي تتغير عالمياً وكيف أصبح الرأي العام العالمي، وكيف تنظر الشعوب اليوم وتتكشف لها الحقائق، ويتكلم من كان صامتاً بأمور تكشف هذه الحقائق عن اليهود وظلمهم وبغيهم رغم ما يعارض به كل معترض ومنتقد في كل بقعة من الأرض.
وهذه حادثة وقعت قبل مدة من إطلاق الصواريخ على اليهود، حيث تقول إحدى الساكنات في مستوطنة مغتصبة من هذه المغتصبات: نحن ندرس بجدية فكرة هجر هذه البلدة، وكنا في السابق نقول: هذا بيتنا ولن نتركه، أما الآن فنحن نفكر بالأولاد والتعليم والعمل، لقد تغير كل مجرى حياتنا؛ نحن نعيش في رعب دائم، فلا ندري متى سيسقط الصاروخ الثاني، وأين؟(29/13)
تطور الانتفاضة الفلسطينية
وعجيب هذا الأمر! لتنظروا كيف هي رعاية الله؟ وكيف يستطيع أولئك في ظل الظروف الأمنية والإرهابية والعدوانية أن يصنعوا صاروخاً حتى ولو كان صغيراً، وقد أطلقت نحو خمسمائة صاروخ خلال هذه الفترة من الانتفاضة فأقضت المضاجع.
فانظروا إلى التطور العجيب الذي هو بالمقياس الواضح توفيق وإعانة من الله عز وجل! إنها انتفاضة من الحجر إلى مسدس، أو إطلاق نار إلى الصواريخ والقدرة على تدمير الدبابات الاسرائلية المحصنة، وذلك يدلنا على تحقيق موعود الله عز وجل في قوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
إن من كان مع الله فالله معه، وإن من اعتمد على الله عز وجل فإن الله جاعل له مخرجاً وفرجاً، ومثبت قلبه ومطمئن نفسه، وجاعل له في كل مواجهة ما يعينه بها ويثبته فيها، وهذا أمره واضح وكثير.(29/14)
حاجة الأمة إلى التعاون مع الفلسطينيين
إننا لو مضينا مع هذه الحقائق لوجدنا أننا نحن الضعفاء الذين نحتاج إلى قوة، ونحن الذين نحتاج إلى أن نراجع معاني العزة في نفوسنا، ونحن الذين نحتاج إلى أن ننظر إلى الآيات القرآنية وأن نقرأ السيرة النبوية، وأن نعيد مرة أخرى ارتباطنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيجب أن نفقه الدنيا وحقائقها في وضوء القرآن وثوابته؛ إن الإرجاف الإعلامي اليوم جعلنا على صور لا نريدها لأنفسنا، فصرنا مكانه لم يعد يعنينا شيء ولم نعد نلتف إلى القضية بقضها وقضيضها كما شغلنا عن ذلك بأمور أخرى كثيرة.
وأحياناً ننظر إلى الجانب الذي تكرسه بعض وسائل الإعلام العربية والإسلامية من أن أولئك قوم قد هدمت بيوتهم وأزهقت أرواحهم وأسر آباؤهم فما بالهم يصنعون ذلك؟ ولماذا يختارون الطريق الشاق؟ ولماذا يسيرون في هذه الأشواك وليس هناك قدرة على النصر؟ ولماذا لا يتوقفون؟ ولماذا لا يؤثرون حياتهم الدنيا على هذا الجحيم الذي لا يطاق؟ فنحن نقول ذلك واليهود المعادون يقولون غيره، ويقولون: إن المقياس لصالح أخذ الأرض ضد المغتصبين والمحتلين.
وأحياناً نكتفي بالحوقلة، وننسى أن نكون معهم بقلوبنا ودعائنا ومالنا وكل جانب من الجوانب، فعلينا أن نبقي هذه المعاني حية، فإنها محور الصراع.
نسأل الله عز وجل أن يثبت إخوننا في أرض الإسراء، وأن يفيض على قلوبهم اليقين، وأن يثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، وأن يوفقنا وإياهم لنصر الإسلام والمسلمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(29/15)
دعوة إلى ترك التثبيط واليأس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإنه لابد لنا أن نحقق إخوتنا الإيمانية لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وأن نحقق رابطتنا الإسلامية لقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم).
ولابد لنا في الحقيقة أن نحقق ذاتيتنا وعقيدتنا بالنظر والتأمل والتدبر وفق حقائق القرآن وثوابت الإيمان، دون أن نتأثر بهذه الوقائع وما يتلوها من الأوهام والتحليلات.
ولعلي أشير أيضاً إلى جانب آخر: وهو أن الذين يكثرون القول علينا من المآسي والنكبات التي حلت بإخواننا، ويبدون حزنهم على ذلك أو تأثرهم به، ثم يدعون إلى ترك المقاومة، وكأن تركها سيجعل العدو يقدم الورود بدلاً من الرصاص، نقول لهم: بدلاً من ذلك اجعلوا هذه المأساة محركة للآخرين، فأين نحن من بيوت هدمت؟ أين نحن من أسر لم يعد لها عائل لأن عائلها أسير أو شهيد؟ وأين نحن من نصرة إخواننا؟ بل أين الدول العربية؟ وأين الجيوش، وأين السياسات؛ وأين القيادات؟ فلمَ لا يقال ذلك؟ ولماذا يكون الحل هو عند أولئك الضعفاء الذين لا يملكون شيئاً من أسباب الحياة الدنيوية والمادية سياسية أو مالية أو عسكرية؟ ولمَ لا يكون لنا تواصل وصلة نحقق بها الأخوة الصادقة، ونحقق بها الرابطة الإيمانية الوثيقة، ونوقن بأن النصر مع الصبر، وأن سنة الله الماضية، وأن الله جاعل للمتقين فرجاً ونصراً، وأن الله يدافع عن الذي آمنوا؟! واعلموا كذلك أن بعضاً منا ممن نفسه قصير قد يقول: لقد طال الأمر، وتوالت السنون، وتجاوزت نصف قرن! ونقول مرة أخرى: لقد بينت لنا آيات القرآن شدة الأمر وصعوبته وطوله، وأنه مرهون بسنة الله عز وجل، كما قال سبحانه: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فنحن نوقن بهذا القرب، ولا نعرف أمده ولا مدته، لكن الناظر رأي العين فضلاً عن فقه القلب ويقينه، يرى أن الأمور سائرة في طريقها المحتوم، وأن العاقبة للمتقين.(29/16)
عاقبة الظلم وخيمة
كلنا يوقن بأن عاقبة الظلم والعدوان في سنة الله عز وجل وخيمة، كما أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وكما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ولكنه برهان لابد أن يقدم من أهل الإيمان، وثمن لابد أن يدفعه أهل الإيمان، وأهلنا هناك يدفعونه ويلقون أجره من الله عز وجل دنيا وأخرى.
ولعلنا نجتهد أن ندفعه بكل وسيلة، وذلك بتحقيق انتمائنا لإسلامنا، والتزامنا بديننا، وترابطنا مع إخواننا، وتصحيح مفاهيمنا، وتسجيل وجهات نظرنا بما يتفق مع قرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم أنطق ألسنتا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا في طاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا مسخرين في نصر الإسلام والمسلمين برحمتك وعونك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس اللهم رايات الكفرة والمعتدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم اللهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، وزلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين؛ اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم انصر وأعن وثبت إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي العراق وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم يا أرحم الراحمين! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ لبلاد الحرمين أمنها وأمانها وسلمها وإسلامها يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليها يا سميع الدعاء.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] , وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
والحمد لله رب العالمين.(29/17)
الروح المعنوية عند الملمات
النبي صلى الله عليه وسلم قدوة يجب أن نقتدي به في كل شيء، ومن ذلك ما كان يلاقيه في الخطوب والكروب، فهاهو في غزوة أحد حين اشتدت به الملمات لم يتزعزع عن دينه، ولم يرضى بالدون وإن كان هو المغلوب، بل علم الصحابة كيف تكون الروح المعنوية عالية سامية مهما كان الخطب، فصلوات الله وسلامه عليه، وإذا كان الإنسان ينظر إلى المستقبل بإيمان ويقين، فإنه يعلم أنه وإن غلب أو اضطهد فإن العاقبة للمتقين، وأن الغلبة والتمكين لا تدوم إلا لعباد الله الصالحين.(30/1)
دروس في قوة الروح المعنوية من غزوة أحد
الحمد لله الناصر المعين، القوي المتين، وعد بالنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم على إيمانهم الاستخلاف والتمكين، وجعل العاقبة للمتقين، وكتب الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
له الحمد سبحانه وتعالى ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بعثه الله رحمة للعالمين وأرسله إلى الناس أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].(30/2)
الاستعلاء بالإيمان
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! بعد تعاظم الظلمة ينبثق الفجر، وبعد اشتداد العسر يأتي اليسر، وفي كل ملمة من الملمات ينزل فيض من الرحمات! ذلك ما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين، وأن يكون في قلوب المسلمين، وقد اشتد الخطب، وعظم الكرب، وتضاعف العدوان، وتعاظم الخذلان.
وننتقل لنأخذ الدرس الأعظم، والمدد الأكبر، من القدوة المثلى، في السيرة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ننتقل زماناً إلى يوم السبت والأحد الخامس عشر والسادس عشر من شهر شوال عام ثلاثة من الهجرة النبوية الشريفة، وننتقل في المكان إلى جوار مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى ظلال جبل أحد، وساحة المعركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم.
وننتقل تحديداً إلى جانب الملمة وإلى الشق الثاني من المعركة يوم كانت الدائرة على المسلمين، واستدار خالد بن الوليد بقوة من الجيش، وأطبق المشركون على المسلمين من جانبيه، فاضطربت الصفوف، وطاشت بعض العقول، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على وجهه الشريف، وهو يقول: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم).
وصرع أسد الله وأسد رسوله، ومضى إلى الله شهيداً بحربة وحشي، وقطعت يدا مصعب بن عمير، واندق الرمح في صدره، وخر لوجهه صريعاً شهيداً، ومضى إلى الله سعد بن الربيع وعبد الله بن عمرو بن حرام وثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الخطب عظيماً، والحدث جسيماً، والحزن ممضاً، والكرب في النفوس قد بلغ مبلغه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستعلي بإيمانه، ويظهر شجاعته، ويلتف حوله قلة قليلة من أهل الإيمان يفدونه بأرواحهم، يجعلون صدروهم وظهورهم دروعاً له، ويعظم الكرب، ويشتد الخطب، ثم ينجلي شيئاً ما غبار المعركة.(30/3)
إظهار العزة بالإيمان وقت اشتداد الكربة
ونقف هنا وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف يبعث الروح المعنوية العالية في وسط الملمات وكيف ينير ضوء الأمل في وقت الشدة والكرب كيف يقوي ويعمق جذر الإيمان في النفوس؛ لتثبت الأقدام وترتفع الجباه، ويعظم الثبات بإذن الله عز وجل، وأمة الإسلام اليوم أحوج ما تكون إلى هذه الروح المعنوية، وإلى تعظيم الثقة بخالقها، وإلى ترسيخ اليقين في نفوسها في كل أحوالها، وفي سائر أقطارها، وفي أرض العراق وفلسطين على وجه الخصوص، وغيرها من ساحات الجهاد والفداء التي تعاظمت فيها قوى الشر والطغيان، وتألبت فيها الأحزاب، وعظمت البلية، وازدادت الرزية، وأثخن المسلمون بالجراح، ومضى منهم إلى الله شهداء! فأين إيماننا؟ وأين بالله عز وجل يقيننا؟ وأين صدق توكلنا على الله؟ ذلكم ما ننظره في هذه المحنة الشديدة، واللحظات العصيبة التي ألمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى رأي العين تلك الصور المحزنة المؤلمة التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وجاءت صولة وجولة للكفر، وانتشى أهله، وتعاظم افتخارهم، وظنوا أنهم قد بلغوا من الإيمان وأهله مبلغاً.
روى البراء في تصوير ذلك الحدث أن أبا سفيان قائد المشركين الذي انتشى لتلك الجولة، وافتخر بتلك الصولة، أشرف على المسلمين بعد القضاء المعركة وهو يصيح بأعلى صوته: (أفي القوم محمد؟ ورسول الله يقول: لا تجيبوه، فيقول أبو سفيان: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فيقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فيسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعظم غيظ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لافتخار الكفر وأهله، فيقوم وقد ملأ الغيظ قلبه، والعزة نفسه، بعد أن قال أبو سفيان عند الصمت: إن هؤلاء القوم قتلى فلو كانوا أحياء لأجابوا! فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله عليك ما يخزيك.
فقام أبو سفيان وقال: اعل هبل، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: بم نجيبه يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فيقول أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فيقول المصطفى: أجيبوه، بم نجيبه؟ فيقول: الله مولانا ولا مولى لكم، فيقول أبو سفيان: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فينطق عمر فيقول: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة).
تحدث العلماء في هذه الحكمة النبوية يوم قال: (لا تجيبوه) قالوا: لأن غيظ المشركين ما زال متقداً، وحماسهم للقتال ما زال مشتعلاً، فأراد أن يطفئ جذوة حماسهم، فلما استتم قوله، وظن أنه قد بلغ مراده لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابته، وابتدر له عمر بحميته وعزته، فجاء الجواب جملة بعد أن كان السؤال مفرقاً؛ ليكون رداً حاسماً، وإخراساً تاماً، وإذلالاً عظيماً، كما قال ابن القيم: كان الصمت إذلالاً له وتحقيراً لشأنه، وكان الجواب كبتاً له وإظهاراً لعزة الإيمان والإسلام.
وأما حينما تحدث أبو سفيان عن المبادئ والقيم، عن الدين والعقائد، عن المحاسن والمآثر، لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلو للكفر كلمة، ولا أن يظهر له مبدأ، ولا أن ترفع له راية يظن بها أن فيه خيراً، فلما قال: اعل هبل، جاء
الجواب
الله أعلى وأجل.
لنا العزى ولا عزى لكم! الله مولانا ولا مولى لكم! ذلك ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهره من عزة مبادئ الإيمان.
ولئن استشهد من الصحابة سبعون، وجرح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولئن نزفت الدماء؛ فإن الإيمان والعزة في النفوس لم تزل متربعة لم تزل في الدماء جارية لم تزل تنبض بها العروق وتخفق بها القلوب ولذلك أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو الذي ليس فيه وهن في النفس، ولا يأس في القلب، ولا تشكك في النهج، ولا ضعف في الإيمان، ولا زعزعة في اليقين بحال من الأحوال.(30/4)
الدعاء واللجوء إلى الله وقت المحنة
الموقف الثاني: وهو عظيم، ولعل كثيرين منا لا يعرفوه، ولم يمر بهم، فلنقف معه: روى الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث عبيد الله بن رفاعة الزرقي قال: (لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر جالساً من شدة ما أصابه في المعركة، وصلى الصحابة خلفه جلوساً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة -أي: يوم الفقر والفاقة- والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة والذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)، رواه الإمام أحمد والبزار في مسنده، ورجال أحمد رجال الصحيح.
درس عظيم في أن كل ملمة إنما تفريجها بالالتجاء إلى الله، وكل كرب إنما تنفيسه بالدعاء الخاشع الخاضع لله، وكل كسرة أو نكبة أو هزيمة إنما استمداد النصر من الله، وكل ضيق في النفس أو هم في القلب إنما تفريجه بحسن الثناء على الله، وعظمة الالتجاء إلى الله، في ساحة المعركة وغبارها لم ينقشع بعد، وقف على مشارف قبور الصحابة رضوان الله عليهم من الشهداء، وقال: (استووا! خلوا بيني وبين ربي أثني عليه).
وانظروا إلى هذا الدعاء الخاشع، والثناء العظيم، ابتدأه الرسول الكريم بحمد الله، فالحمد له أولاً وآخراً، فلا يحمد على مكروه سواه سبحانه وتعالى، والحمد لله على كل كرب، وعلى كل غم وهم، فإن فيه خيراً، وإن من ورائه فرجاً، وإن من بعده يسراً، وإن في إثره نصراً.
إذا ثبت الإيمان في القلوب، وعظم اليقين في النفوس.
(اللهم لك الحمد كله)، ثم يثني الثناء الذي يبين أن لا أحد له من الأمر شيء؛ فلا قابض لما بسط، ولما مانع لما أعطى، ولا مبعد لما قرب سبحانه وتعالى، هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي جعل الأيام دولاً بين الناس، وهو الذي اقتضت حكمته أن يدال المؤمنون وأن يدال عليهم، هو الذي جعل ذلك في شأن خير خلقه صلى الله عليه وسلم، فكانت وقعة أحد وكسرتها، وكان الذي جرى حتى دمي الوجه الشريف صلى الله عليه وسلم! ثم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه إلى القضايا المهمة العظيمة: أن يحفظ الله الإيمان والإسلام، وأن يقي من الفتنة والانحراف، فإن أعظم نصر هو أن يبقى الإيمان قوياً في القلوب، والإسلام ظاهراً في واقع الحياة، وإن هدمت البيوت فوق رءوس أصحابها، وإن أزهقت الأرواح في بيوت الله، وإن قتل الصغار والنساء والشيوخ، فإن الإيمان والإسلام هو الأولى أن تعظم العناية به، وأن يعظم الخوف عليه، وأن يكثر الحزن، وذلك إذا ضعف في قلوب الناس إيمانهم، وإذا ذهب من واقع حياتهم إسلامهم، وإذا تشككوا في وعد ربهم، وإذا انسلخوا من نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم.
أما إن ثبتوا فقد ثبتهم رسول الهدى بمثل هذا الدعاء العظيم الذي أوجز في آخره الدعاء على الكافرين والمشركين والمعتدين، إنهم أقل وأدحر وأصغر من أن يطيل الدعاء عليهم، فإن رجز الله وسخطه وغضبه إن أصابهم منه أقل القليل لم تبق منهم باقية، ولم تقم لهم قائمة، والله سبحانه وتعالى قد قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، وتلك الوقفة الثانية التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم فيها أصحابه وأمته من بعده كيف تواجه الخطوب، وخاصة خطوب القتال، وبعض ما قد يكون من جولات فيها كسرة أو هزيمة.(30/5)
إذكاء الروح المعنوية في الملمات
ثم لننظر إلى المثل الأعظم الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم عندما لقن المسلمين درساً عظيماً هو لهم أولى الدروس في وقتهم هذا، وفي محنتهم العصيبة التي يمرون بها الآن، إنه درس إبقاء الروح المعنوية في الملمات.
هذا حديث ابن عباس يرويه الطبراني بسند صحيح يقول فيه: (لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد، وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، يا شر ما صنعتم، وأرادوا أن يرجعوا).
كانوا يفكرون أنهم لم ينتصروا انتصاراً حقيقياً، فلم يقتلوا القيادة، ولم يأسروا نساءً ولا رجالاً! (فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس أن يخرجوا، وانتدبوا للخروج إلى لقاء عدوهم حتى بلغوا حمراء الأسد، فبلغ ذلك كفار قريش فرجعوا ومضوا إلى مكة وهم خائفين).
وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في كلامها لـ عروة بن الزبير رضي الله عنه قالت: (يا ابن أختي! كان أبواك الزبير وأبو بكر ممن انتدب لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون وخاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً كان منهم أبو بكر والزبير، وفيهم نزل قوله جل وعلا: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) [آل عمران:172 - 174]، في أولئك النفر الذي كانوا طليعة القوم).
أما كتب السيرة فتجمع أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأهل أحد، أن لا يبقى منهم أحد حتى يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلحقوا بعدوهم، وقال (لا يتبعنا أحد لم يشهد أحداً).
فجاء جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام واستأذن أن يكون مع رسول الله وقال: (يا رسول الله! خلفني عبد الله -يعني: أباه- على بنيات له، وإني أريد أن أشهد معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وخرج المسلمون عددهم ثلاثون وستمائة رجل ما تخلف منهم رجل واحد، خرجوا والجراح تنزف دماءً، خرجوا والأرجل مصابة، والأيدي مقطعة، والجراح ما زالت عميقة غائرة، خرجوا يحملون في صدروهم إيماناً عظيماً، وفي قلوبهم عزة قعساء، خرجوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمرون بأمره، ويسيرون وراءه لا يتخلفون عنه، يلتزمون أمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن إسحاق في السيرة صورة من صور ما جسرى للصحابة الذين كانت جراحهم عظيمة وغائرة، قال ابن إسحاق يروي عن رجل من الأنصار من بني عبد الأشهل: (شهدنا أحداً أنا وأخ لي، فرجعنا حين رجع الناس، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وطلب العدو، قلت لأخي: أتفوتنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون).
قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثلاثة أيام بلياليها ينتظر عدوه أن يرجع، فلم يرجع، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالنيران فتضرم، قالوا: فكان يضرم خمسمائة نار حتى عظمت هيبة المسلمين في نفوس المنافقين واليهود داخل المدينة، وفي نفوس قريش التي جرت أذيال خيبتها إلى مكة، وفي نفوس العرب من حول المدينة جميعاً.
إنها الروح المعنوية والهيبة الإيمانية التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لها في نفوس المؤمنين أثر سلبي، لئلا تضعف العزائم، ولئلا يدب اليأس، ولئلا يسري الوهن: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].(30/6)
ترك الجهاد إلقاء باليد إلى التهلكة
إن حمقى اليوم من المغفلين ينظرون إلى مثل هذا الحدث الذي قد يكون له مشابه اليوم فيقولون: إنه ضرب من النزق، وصورة من التهور، ولون من إلقاء النفس إلى التهلكة.
عجباً كيف يكون الاعتزاز بالإيمان والثبات على الإسلام وإظهار العزة والقوة لأعداء الله صورة سلبية مذمومة؟! وعجباً لنا عندما لا نتأمل في واقع الأمر وفي معاني الآيات على فقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حديث عظيم رواه الترمذي بسند حسن تعليقاً على قول الله جل وعلا: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، يرويه صحابي جليل من أعظم الصحابة المجاهدين الذين امتدت قبورهم حتى وصلت إلى آخر بقاع الأرض لتعلن عزة الإيمان وقوة الجهاد، يقول: (كنا في الصف في قتال الروم، وخرج من المسلمين رجل فحمل على الروم حملة، فقال بعض الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة -فنطق الصحابي الجليل الذي تربى في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر خبر اليقين، وبين البيان الشافي الذي ليس بعده بيان- فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدنا معه، حتى إذا نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم رجعنا إلى أهلنا وديارنا وزرعنا؛ فنزل قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فكانت التهلكة رجوعنا إلى ديارنا، وإقامتنا في زرعنا، وتركنا الجهاد).
ذلك هو الفقه الإيماني الثابت عند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ننظر إلى غزوة أحد في شقها الأخير، وفي جانبها الذي قد يكون هو المظلم، لننظر إلى عظمة القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو يعلي من القوة المعنوية، ويعلي من العزة الإيمانية في الرد على أبي سفيان، وفي التضرع إلى الله، وفي الخروج العملي الذي يظهر القوة والهيبة الإيمانية.
كم نحن في حاجة -معاشر المؤمنين جميعاً في كل بقاع الأرض- إلى أن ننزع من نفوسنا حب الدنيا وكراهية الموت، وأن ننزع من نفوسنا الضعف والاستعظام لقوة الأعداء، فإنهم أرذل وأحقر من أن يقارنوا بشيء أمام قوة ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى الذي قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، والذي قال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، والذي قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
تلك هي آيات الله، وتلك هي سنن الله، وتلك هي وعود الله، ونحن لسنا في شك من ديننا، ولا من وعد ربنا، فاللهم اجعل لنا من بعد العسر يسراً، واجعل لنا من بعد الهزيمة نصراً، واجعل لنا من بعد الكرب تفريجاً يا رب العالمين! أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(30/7)
النصر والتمكين لأولياء الله المتقين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم الإيمان والتقوى الثقة بنصر الله، والثقة بوعد الله، وصدق التوكل على الله، وتعظيم اليقين بنصر الله، وإن الإنسان المؤمن لا بد أن يعيد على نفسه مثل هذه المعاني، وأن يمر على ذاكرته هذه المواقف من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أن الحياة واحدة، وأن الموت كأس لا يشرب إلا مرة واحدة: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا ذلك هو الذي ذكره لنا عملياً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شتى المواقف والمغازي التي جادوا فيها بأرواحهم ونفوسهم في سبيل الله، والتي مروا فيها بأحلك الظروف وأشدها وأصعبها، يوم تألب عليهم الأحزاب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11].
ماذا قالوا؟ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
ماذا فعلوا؟ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ماذا فعل الله بعدوهم؟ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25].
تلك هي الحقائق الإيمانية القرآنية التي ينبغي أن نعظم اليقين بها، ولسنا في شك من أمرنا، أما أعداء الله عز وجل وإن عظمت قوتهم، وإن كثرت أحزابهم، وإن توالت وتعاقبت مؤتمراتهم، فإنهم أدحر وأحقر من أن يقفوا أمام المؤمنين الصادقين، ويكفي أن نعرف أن منهم أعداداً من المنتحرين، وأعداداً من الفارين والهاربين، فضلاً عن الجرحى والمقتولين، وكلكم يرى ذلك بأم عينه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
لسنا في شك من كلام ربنا، ومن هذه المقاطع الصادقة قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، أي: وليأتينكم من الأمور والأخبار يقيناً ما ليس في أذهان أصحاب الوهن والضعف، الذين يبثون روح الخذلان ولا يبثون روح الإيمان.
ينبغي لنا أن نعظم اليقين بنصر الله عز وجل، وأن نعلم أن موعوده بالنصر يحتاج أن نحقق شرطه الذي أراده منا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولقد وعد الله رسوله وأعطاه وعده: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21]، فبعد ذلك الصبر العجيب، واليقين العظيم، والتوكل الصادق في يوم الأحزاب، أعطاه الله فتحاً في يوم الحديبية، ونصراً مؤزراً في يوم الفتح، وظهوراً وإخراجاً لأعدائه في يوم خيبر، ثم انتصاراً شمل الجزيرة في يوم حنين والطائف، ثم خروجاً عن دائرة بلاد العرب لمقاتلة الروم في مؤتة، ثم استسلمت الأرض كلها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يمت أبو بكر إلا والجيوش تقرع أبواب فارس والروم، ثم مضى الفاروق وكسب الإسلام انتصاراً في القادسية واليرموك وفي غيرها من المعارك العظيمة: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].
فاللهم ثبت إخواننا المؤمنين المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم املأ قلوبنا وقلوبهم بالإيمان واليقين، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة، وأغننا اللهم بفضلك عمن أغنيته عنا يا رب العالمين! أغننا اللهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم قل المعين الناصر، وكثر العدو القاهر، وليس لها من دونك كاشفة، فاكشف اللهم البلاء عن الأمة، وارفع اللهم الكرب والغمة، اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا ولإخواننا المسلمين في كل مكان من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم زد إيماننا، وعظيم يقيننا، وثبت أقدامنا، وارفع رءوسنا، وعظم في قلوبنا عزتنا، اللهم إنا نسألك صدق التوكل عليك، وعظمة الإنابة إليك، وشدة الخوف منك، وعظمة الرجاء فيك، اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الإنابة إلا إليك، ومن الخوف إلا منك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لأمتنا أن تبدلها من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب، وألف بين قلوبهم، ووحد بين صفوفهم، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم.
اللهم يا رب العالمين نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم يا حي يا قيوم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وبهدي نبيك صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتفين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تحثه على الخير وتدله عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه يا رب العالمين! اللهم احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وأمانها، وسعة رزقها ورغد عيشها، اللهم اصرف عنا كيد الفجار، واصرف عنا شر الأشرار، واصرف عنا اللهم شر طوارق الليل والنهار، يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم الطف بإخواننا فيما جرت به المقادير، امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فلم شعثهم يا رب العالمين! اللهم أعزهم بعزك، وانصرهم بتأييدك وحولك وقوتك عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الإسلام والمسلمين، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم نكس رايتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(30/8)
الصفحات الأخيرة من حياة الصديق
إنه أفضل مشير، وللحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم خير وزير، لقد كانت حياته حافلة بالعطاء والسخاء، والبذل والتضحية، والحزم والشدة في ذات الله، والحب والوفاء في حق المؤمنين إنه أبو بكر الصديق الذي ذاعت سيرته في الآفاق، وانتشر فضله بين الأحباب والأصحاب، ولم ينكر أحد منهم من ذلك شيئاً، وكان على رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي شهد له شهادة قطعت عنق كل منافق، وكانت غصة في حلق كل مبغض وفاسق.(31/1)
شهادة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق
الحمد لله عالم السر والنجوى، كاشف الضر والبلوى، مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق،، وكاتب الآجال، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله رحمةً للعالمين، وبعثه إلى الناس أجمعين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! كنت أقلب بعض صفحات التاريخ أبحث فيها عما يفيد اتعاظاً واعتباراً، فوافيت حدثاً يوافق يومنا وتاريخه، صفحة قبله طويت في تاريخ أمة الإسلام، وفتحت فيه صفحة أخرى في سجلات العظمة الإيمانية، وصفحات القيادة الإنسانية، ذلكم الحدث كان وفاة رجل عظيم من هذه الأمة، وبعده في صباح اليوم الذي يليه كان استقبال الأمة لقائد عظيم آخر.
ولا شك أن سير عظمائنا جليلة، غير أن عبر الوفاة كثيراً ما تكون أبلغ إذ مع آخر لحظات العمر، وفي آخر أنفاس الإنسان تتجلى خواطر نفسه، وتظهر حقيقته على وضوح وبينة من غير زخرفة أو بهرجة.
ولعلي أبدأ حَدَثنا الذي كان في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة بهذه الكلمات التي قالها أيضاً عظيم من عظماء أمتنا، يشهد فيها لفقيدنا العظيم بجلائل الخصال، وعظائم الفضائل فقال: (كنتَ أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءاً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً)، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، وجزاك الله عن رسول الله خيراً).
ثم قال في شأنه وصفته: (كنتَ أقرب الناس إلى رسول الله، وأحبهم إليه، وصدقته حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً، وعلى الكافرين عذاباً، لم تقلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تزعزعه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله.
ثم قال في شأنه: (وكنت في نفسك متواضعاً وعظيماً عند الله، جليلاً في الأرض وكبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، والضعيف قوي عندك حتى تأخذ الحق له، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله، ولقد سبقت سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباًً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك).
أحسب أنكم قد عرفتم أن فقيدنا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه، غير أني أحسب أن كثيرين منكم لا يعلمون أن هذه الكلمات الصادقة الناصعة هي كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذلكم العظيم الذي يوجد في وفاته دروس عظيمة وجليلة؛ لأنه كان أعظم رجال مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأجل خريجيها، وأكثر الواردين إليها، والناهلين منها، والمنتفعين بها، والممثلين لها، والذين حملوا رايتها، وثبتوا على مبدئها حتى آخر نفس من الأنفاس.(31/2)
قصة استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب وما فيها من الدروس
صفحات التاريخ تحكي لنا اللحظات الأخيرة التي انتهت فيها صفحة أبي بكر، وأشرقت من بعدها صفحة الفاروق عمر رضي الله عنه.(31/3)
استشارة أبي بكر في استخلاف عمر
لما ثقل على أبي بكر المرض واستبان له حال نفسه -أي: أنه موشك على الموت- جمع الناس إليه ثم قال لهم: (إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميت، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي، فقاموا عنه، ثم لم يلبثوا من بعد حتى رجعوا إليه فقالوا: إنا نرى رأيك) أي: فوضنا الأمر إليك، وجعلنا الاختيار والترجيح لك، لما نعلمه عنك من صفاء نيتك، وعظمة إخلاصك وصدقك.
فأي شيء فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ لقد بدأ بالمشاورة رغم أنه قد مال ميله، ورأى رأيه، فطلب إليهم أن يمهلوه وقال: (أمهلوني حتى أنظر لله، ولدينه، ولعباده).
لم يكن ينظر لنفسه ولا لحظها، ولا لأهله أو ورثته، لم يكن ينظر إلا لدين الله، ومصلحة عباد الله، ثم بدأ بالمشاورات فاستدعى إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم قال له: ما تقول في عمر؟ فقال عثمان رضي الله عنه: والله لا تسألني عن شيء من أمر عمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال: وإن كان كذلك! فأوجزها ذو النورين في كلمات؛ لتدلنا على عظمة أولئك الرجال، وصدقهم وإخلاصهم، وتجردهم من حظوظ أنفسهم، وترفعهم عن ميلهم إلى هواهم أو نظرهم إلى دنياهم، أوجزها كلمات خالدة فقال: (هو أفضل من رأيك فيه) وما أبلغ هذه الكلمات! ثم استدعى أبو بكر رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف وسأله ذلك السؤال، فقال: إنك أعلم به، فطلب منه الإفادة، فقال: (علمي أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا خيرٌ منه).
تلك الكلمات الصادقة أعقبها أبو بكر باستشارة سيدٍ من سادات الأنصار أسيد بن الحضير رضي الله عنه فقال: (الله أعلم بالخيرة بعدك، فإنه يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خيراً من الذي يعلن، ولن يلي هذه الأمة أحدٌ أقوى منه).
فكانت هذه الشهادات الصادقة المخلصة المترفعة قد عقدت عزم أبي بكر على المضي لما رآه من الاختيار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرغم ثقل مرضه وشدته، لم يكن له هم إلا في حال الأمة وحسن الاختيار لها.(31/4)
خطبة أبي بكر وعهده بالأمر إلى عمر
ثم احتمل على نفسه رضي الله عنه، وطلب في شيء من خفة المرض عليه أن يحمل على المنبر؛ ليخطب الناس ويكلمهم، ويعهد إليهم ويوصيهم، فقام متثاقلاً مريضاً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه في آخر خطبة له سمعت منه، فقال فيما قال رضي الله عنه وأرضاه: أما بعد: أيها الناس! احذروا الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها غدارة، وآثروا الآخرة على الدنيا وأحبوها، فحب كل واحدةٍ منهما تبغض الأخرى، وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يصلح له إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة، قوي على الأمور، لا يخور لشيء منها ضده بعدوان ولا تقصير، يرصد لما هو آتٍ عتاده من الحذر والعلم.
أوجز الصديق تلك الخصال التي لابد منها في الرجال ليتسلموا مقاليد الأمور، ويحملوا هم الأمة، ويقوموا بأعباء الدين، ويحرصوا على سياسة الدنيا، إنهم الرجال الذين وصفهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه بهذه الأوصاف، ثم أوجزها بأن قال: (إنها ممثلة في الفاروق عمر رضي الله عنه).
ثم كتب كتابه ووصيته لئلا يختلف المسلمون من بعد قوله، سجله كتابة بخط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، يملي عليه وهو في مرض موته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت، ولا أعلم الغيب، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]).(31/5)
دروس من قصة استخلاف أبي بكر لعمر
هذه صفحتنا الأولى في عهد الصديق للفاروق رضي الله عنهما، ووقفاتنا فيها كثيرة.
أولها: أن القادة العظام أول ما يشغل بالهم، وأعظم ما يقلق راحتهم هو مصلحة أمتهم، ورعاية شئون رعيتهم، لم يكن أبو بكر في مرض موته يفكر في أبنائه، ولا في أسرته، ولا في أمواله، ولا في ثروته، كان همه هذه الأمة.
الأمر الثاني: الصدق التام، والإخلاص الكامل، والتجرد المطلق الذي يكون القصد الأعظم فيه رضوان الله، والهدف الأسمى فيه رعاية مصلحة عباد الله، ذلك أن أبا بكر جمع فكره، وأمضى استشاراته، لا يريد بذلك إلا وجه الله وخير أمة الإسلام.
الأمر الثالث: الخبرة بالرجال، ومعرفة أقدارهم، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم، لا بأموالهم ولا بثرواتهم، لا بحظوظهم الدنيوية، ولا بسمعتهم بين الناس إلا بما فيه تقوى الله، والقوة في الأخذ بدين الله، والتحمل للمسئولية، والأداء للأمانة، عجم الصديق الصحابة، نظر فيهم وهم أخيار أبرار، وأقمار مضيئة، ونجوم مشعة، فانتقى وانتخب وتخير وتدبر، فجاء بهذا الاختيار العظيم الذي بينه في خطبته لرجل شديد في وقت الشدة، لين في وقت اللين، عادل منصف حريص على أن يضع الأمور في مواضعها، وذلك أمر مهم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن من علامات آخر الزمان تضييع الأمانة، وعندما سئل عن معناها قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
ولقد كان الفاروق من بعد أبي بكر الرجل المميز في معرفة الرجال، وانتقائهم على أساس إيمانهم وإخلاصهم، وتقواهم وخوفهم من ربهم، وعلى أساس قوتهم وأهليتهم، وكفاءتهم في القيام بمهامهم.
ومن بعد ذلك أيضاً درس رابع في المشورة مع وضوح القضية، فكيف إذا كان الأمر ملتبساًَ.
فهذا الصديق كان قد مال إلى اختيار عمر، ومع ذلك يستشير هذا وهذا وذاك، ويستطيب نفوس الناس، ويستخرج ما في عقولهم، ثم يعلن، ثم يكتب حتى يحكم الأمر من جميع جوانبه؛ رعايةً لمصلحة الأمة، وسداً لباب الفتنة، ومنعاً لأسباب الاختلاف، وقد كان فعله رضي الله عنه وأرضاه هو الفعل الذي عصم الله به الأمة، وزاد من قوتها وانطلاقتها، بعد أن أخمد حرب الردة، وبعد أن أمضى الجيوش إلى بلاد فارس والروم، استطاع عمر في لحظات من بعد وفاة الصديق رضي الله عنه أن يمضي الأمور دون نزاع، ولا خلاف ولا توقف.
ومن بعد ذلك أمر خامس: وهو الصدق في أداء الأمانة والمشورة، كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكما قالوها في هذه الكلمات المشرقة المنيرة، ولا يستشار إلا المؤتمن، ولا يؤخذ الرأي إلا من الصادق المخلص، وتلك ومضات كثيرة من صفحةٍ واحدة.(31/6)
أبو بكر يرد ما أخذه من بيت مال المسلمين مدة خلافته
أنتقل إلى صفحةٍ أخرى، في وفاة الصديق رضي الله عنه، فقد تقدم أنه عُني بشأن الأمة، فأي شيء كان شأنه رضي الله عنه في حال نفسه وأهله؟! دخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبيها في شدة مرضه، وهي ترى ثقل المرض عليه وشدته به، فتمثلت بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر تقول: إنه إذا نزل الأمر فلا صارف له، فماذا قال الصديق في مرضه؟ كيف علق المؤمن العظيم على هذه الكلمات؟ وتأملوا ما يقول الصديق لابنته: (ليس كذلك يا أم المؤمنين، وإنما هو كما قال الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]) ذلك المعنى أبلغ وأقوى، وأصدق وأجرى على لسان الصديق رضي الله عنه.
ثم قال لها: (يا عائشة! والله ليس أحد من أهلي أحب إلي منك، وكنت قد منحتك حائطاً وإن في نفسي شيئاً منه، فرديه على الميراث، قالت: نعم، فردته).
ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: (أما إنا لمنذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا أنا مت فاقصدي بها إلى عمر بن الخطاب وأبرأ منهن).
هذه الأموال التي بقيت لـ أبي بكر مما كان يصرف له من بيت مال المسلمين أجراً له على تفرغه لأحوال الأمة، فبقي من هذا المال عنده بصفته أميراً للمؤمنين عبد، وبعير، وجرد قطيفة لمسمى الوظيفة، فردها لـ عمر رضي الله عنه.
فلما جاءت بها عائشة بكى عمر رضي الله عنه، وقال: لقد أتعبت من بعدك يا أبا بكر، ثم أخذها لبيت المال، فقال له عبد الرحمن بن عوف: (أتسلب عبداً حبشياً، وبعيراً ناضحاً، وجرد قطيفة لا تساوي خمسة آلاف درهم آل أبي بكر؟ قال: فما القول عندك؟ قال تردها عليهم، قال: والله لا يكون ذلك في ولايتي، ولا يبرأ منها أبو بكر قبل موته، وأردها عليه بعد موته)! وفي رواية أخرى أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (إن عمر رضي الله عنه لم يزل بي حتى أخذت من مال المسلمين) يعني بذلك أول ولايته، وذلك عندما أراد أبو بكر أن يمضي لعمله ليأكل قوت يومه، فقال له عمر: إلى أين؟ قال: إلى عملي، قال: وأمر المسلمين، ارجع ونكفيك من مال المسلمين بأن تأخذ قوت يومك وطعام أهلك، فيقول: (فإن عمر لم يزل بي حتى أخذت من مال المسلمين، وإنها ستة آلاف درهم -أي: في مدة خلافته- وإن بستاني وحائطي في مكان كذا يفي بها -يعني: يسدد قيمتها- فردوها على المسلمين، فلما جاءت لـ عمر رضي الله عنه، بكى مرة أخرى وقال: أما هذه فأنا ولي أمر المسلمين، وأردها على عيال أبي بكر، فهي حق لهم)!(31/7)
أبو بكر يودع الدنيا
صحفة أخرى تبين لنا كيف يودع المرء دنياه، وكيف يستقبل أخراه، وكيف يجتهد على أن يخرج كفافاً من الدنيا، لا يحمل ما قد يكون فيه حساب أو عليه عقاب، بل يبرأ مما هو أقل من ذلك، ليكون أصدق في تبرئه من كل شبهة، أو من كل مال وعرض من الدنيا قد يكون بغير حق.
ثم نرى كذلك ما سأل عنه أبو بكر رضي الله عنه في ذلك اليوم الذي قضى فيه نحبه: (أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: هو اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كيف كفنتموه؟ ثم أوصى بكفنه في أثوابه، قالوا: إن عندك جديداً من الثياب! فقال: الحي أولى بالجديد).
وقضى نحبه في يوم الإثنين، الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة، عام ثلاث عشرة للهجرة وهو يعطي الدرس والعبرة في رجل عظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يجعله في عليين، وأن يلحقنا به مع المخلصين الصادقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(31/8)
أهمية النظر في سير السلف الصالح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.
وإن من منابع التقوى النظر في سير أولئك الأصحاب المؤمنين الصادقين المخلصين، فإنها تزيد الإيمان، وتعرف بحقيقة الدنيا، وتربط بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتبين كيف يكون نظر المؤمن إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، فإن بعضاً من الصحابة عندما أراد الصديق أن يمضي الأمر لـ عمر خافوا من شدته، أن يكون حازماً بما لا يتفق مع سياسة الأمة ضعيفها وقويها، وما قد يتغير من أحوالها، فقال بعضهم لـ أبي بكر رضي الله عنهم: (ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر فينا مع غلظته؟!) وهو لون من الحديث واللغة من منطلق الإيمان، لم يقولوا له شيئاً يعترضون به على ترجيح عقله أو على نظره أو غير ذلك، قالوا: (ما أنت قائل لربك) أي: هل ترى في ذلك إبراءً لذمتك؟ هل ترى فيه أنك غير مقصر تقصيراً ينالك به شيء من حساب ربك أو عقابه؟ فكان أبو بكر إذ ذاك مضطجعاً في مرضه فقال: (أجلسوني! فأجلسوه فقال: أبالله تخوفونني؟! ثم قال: خاب من تزود من أمركم بظلم، خاب من تزود من أمركم بظلم، لم أكن لأجعل آخر عهدي في أمركم ظلماً، ثم قال: أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، ثم قال للحاضر: أبلغ من وراءك بما قلت) أي: أنه يعمل العمل وهو يوقن أنه إذا سئل عنه سيجيب بنفس الحال الذي هو عليه، يفكر في ذلك ويعد الجواب للسؤال.
وهذه ومضات قليلة، من صفحات يسيرة، في آخر يوم من أيام الصديق أبي بكر رضي الله عنه، كيف إذا انتقلنا إلى الصديق وهو ينافح عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ويدفع عنه كفار قريش ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فيضربونه، ويحرفون النعال في وجهه حتى يسقط مغشياً عليه، لا يعرف أنفه من وجهه من شدة الورم! كيف بنا إذا كنا مع الصديق والرسول يستأنيه ويستأخره في الهجرة حتى قال له: (الصحبة يا رسول الله؟ قال: نعم يا أبا بكر)؟! كيف بنا والصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والمصطفى يقول: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)! كيف بنا والصديق تتنزل الآيات في شأنه وشأن أهله وابنته! كيف بنا والصديق يقول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأحاديث العظيمة الجليلة في مناقبه، ومن أعظمها: (ما لأحد علينا خلة، إلا ما كان من أبي بكر فإن له يداً لا تنسى) أو كما قال صلى الله عليه وسلم! لم لا نفتح هذه الصفحات؟ لم لا نقرأ هذه السير؟ لم لا نعيش مع أولئك القوم؟، لا لنرجع إلى التاريخ لا نتغنى به، ولكن لننتفع منه ونغير به واقعنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا هداة مهديين، واهدنا واهد بنا، واجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا اللهم من ورثة جنتك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، أحسن اللهم ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تبصرنا بعيوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ول علينا خيارنا، ولا تول علينا شرارنا، اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ اللهم أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناًً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحةً تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(31/9)
الأمة بين عامين
حري بنا وأمتنا اليوم تمر بأحلك الظروف وأشدها، وأقسى المواقف وأصعبها: من فرقة صفوفها، وتكالب أعدائها، وهوانها على خصومها، واستهدافها في أصل دينها؛ حري بهذه الأمة أن تكون لها مع المواقف العظيمة في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مراجعات ومحاسبات، وعبر وعظات، تصحح بها المسيرة، وتقوم بها المعوج، وتكمل بها النقص.(32/1)
الهجرة هي الحدث الأعظم الذي كانت فيه الأمة بين مفترق طريقين
الحمد لله، الحمد لله وسعت كل شيء رحمته، ونفذت في كل شيء قدرته، وأحاطت بكل شيء مشيئته، وتجلت في كل قدر حكمته، وعظمت على كل أحد نعمته، له الحمد كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءًً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى ومنار الهدى، أرسله الله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين وجعله سيد الأولين والآخرين، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأمة بين عامين، عام اليوم سيمضي، وآخر غداً سيأتي، وتمر الأيام وتتوالى الأعوام والعاقل من يدكر ويعتبر، ومن ينتفع ويستفيد، وما يمر مثل هذه الأيام إلا ويمر ذكر الحدث الأعظم الذي كانت فيه أمتنا بين مفترق طريقين، ليسا متناقضين ولا متعارضين بل هما متكاملان، طريق في الدعوة والإيمان، وطريق في الدولة والسلطان، مفرق الهجرة العظيمة التي غيرت مجرى تاريخ أمة الإسلام وتغير بها مجرى تاريخ البشرية كلها.
حري بنا وأمتنا اليوم تمر بأحلك الظروف وأشدها وأصعبها، من فرقة صفوفها، وتكالب أعدائها وهوانها على خصومها، واستهدافها في أصل دينها وصميم معتقدها وأصالة مناهجها، وصبغة هويتها؛ حري بهذه الأمة أن تكون لها في مثل هذه المواقف مراجعات ومحاسبات وعبر وعظات تصحح بها المسيرة وتقوم بها المعوج، وتكمل بها النقص، وما من شك أن حديثنا عن الأمة لا يعفينا كأفراد أن نستمرئ ذلك ونحبه؛ لأنه لا يواجهنا بقصورنا ولا يحدثنا عن أخطائنا ولا يجابهنا بتفريطنا وتقصيرنا كلا وإنما حديثنا عن الأمة حتى تكون المسئولية شاملة لكل أحد، لا نلقي بها على الحكام والأمراء وهم في قمة المسئولية والمحاسبة، ولا نخصها بالدعاة والعلماء وهم في المراتب العالية من ذلك، بل تعم كل أحد صغيراً وكبيراً ذكراً وأنثى كل بحسبه، فكل امرئ مسئول وفي عنقه أمانة، على عاتقة مهمة ورسالة، حملها يوم حملها محمد صلى الله عليه وسلم، وحملها معه الصحب الكرام صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً في أحلك الظروف وأشدها، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، بذلوا لأجل حملها الأرواح والدماء وأنفقوا الأموال والثروات، وأجهدوا الأبدان والطاقات؛ لتعلو كلمة الله عز وجل.(32/2)
الهجرة مهدت طريق الدعوة والإيمان والدولة والسلطان
وقفات مهمة، أولها: الدعوة والإيمان والدولة والسلطان: معاشر المسلمين! هل إسلامكم ودينكم له غاية في هذه الحياة ليكون صاحب الحكم والسلطان لمجرد القهر والعدوان، أو لمجرد التحكم والتسلط؟ إن ديننا وأمتنا أمة دعوة وإيمان أولاً وآخراً، إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوجزت آيات القرآن مهمته، وذكرت لنا وصفه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45].
رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ليستنقذهم من الشرك إلى التوحيد، لينأى بهم عن الرذائل إلى الفضائل، ليغير مسارهم إلى وجهات شتى في هذه الحياة الدنيا لتكون لهم وجهة واحدة، هي ابتغاء رضوان الله وقصد الآخرة، ولذلك تأملوا في هذا المعنى:(32/3)
الإيمان والدعوة هي الغاية من بعثته صلى الله عليه وسلم
دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه وقبيلته وأهل مكة سراً وعلانية، جمعاً وأفراداً، سعى بكل الوسائل، فلما ضاقت السبل، وسدت الأبواب، وعتا الطغاة، وتجبر الجاهليون؛ هل ركن ليكون في دائرة نفسه، أم كانت دعوته وإيمانه أعظم شيء في حياته، وهي غاية وجوده ومهمته التي انتدبه الله عز وجل إليها وابتعثه في هذه الخليقة لأجلها، والتمس عليه الصلاة والسلام له ولأصحابه طرقاً يشقون بها المسار لتحقيق دعوة الله وإقامتها في هذه الحياة كما أراد الله سبحانه وتعالى! هيأ لأصحابه سبيل هجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الثانية، ثم مضى بنفسه عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يبتغي قوماً يؤمنون بهذه الدعوة ويحملونها في قلوبهم وعلى أكتافهم ويصبغون بها حياتهم، ويجعلونها الهدف الأسمى والغاية العظمى التي يوظفون لأجلها الطاقات والجهود والأموال، بل ويبذلون من أجلها الأرواح والدماء، فوجد صداً وإعراضاً، فرجع عليه الصلاة والسلام لم تلن له قناة، ولم يفتر له عزم، ولم يدب إلى قلبه يأس، ولم يحصل في نفسه قنوط عليه الصلاة والسلام.
كان يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة، وهما ً كبيراً هو هم هذه الدعوة والإيمان كيف يغرسه في القلوب، كيف يوصله إلى العقول، كيف يخاطب به كل أذن، كيف يجلي حقيقته لكل عين وبصر وبصيرة؛ ولذلك مضى عليه الصلاة والسلام يلتمس المواسم، يمضي إلى القبائل، يعرض نفسه على هؤلاء وهؤلاء، يريد من يجعل الدعوة والإيمان راية حياته، حتى تهيأت الأسباب، وجاء نفر الأنصار الأوائل، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، ما الذي كان فيها؟ (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان) حديث عبادة بن الصامت في بيعة العقبة.
وعندما جاء الصحابة يبايعونه ومقدمهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه، قال أبو التيهان من الصحابة: تمهلوا أيها القوم، واعلموا أنكم تبايعون رجلاً على حرب الأسود والأحمر وعلى دمائكم وأرواحكم، فانظروا ما أنتم عليه مقبلون، فقالوا: أمط عنا، فوالله لا نقيل ولا نستقيل، (أن تحموني مما تحمون منه نسائكم وأنفسكم وأموالكم) فأعطوا على ذلك بيعتهم، قالوا: فما لنا يا رسول الله إن فعلنا ذلك؟ فلم يعدهم بعرض من الدنيا ولا بحكم ولا سلطان، ولا بملك ولا صولجان، وإنما قال: (لكم الجنة) راية عظمى، إخلاص متجرد، مقصد أسمى من الدنيا وما فيها ومن فيها، لم تتعلق القلوب حينئذ ببعض الدنيا، لم تتعلق بمتعها.(32/4)
الدولة والقوة وسيلة لنشر الدعوة
وعندما وصلت الأمة لتكون الآمرة الناهية والحاكمة في بلاد شتى، لم تنس أنها أمة دعوة وإيمان، فسخرت دولتها وحكمها وقوتها وسلطتها لتكون في سبيل نشر الدعوة وإقامة الإيمان والذود والذب عن حياض الإسلام.
فالدولة والقوة ليست غاية في حقيقتها؛ ولذلك ماذا فعل أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أنزلوه في قلوبهم قبل أن ينزل في ديارهم، وأحلوه موضع الروح بين جنوبهم، قبل أن يحل في ديار أو بقاع، وجعلوا الإسلام والإيمان أعظم همهم وأوكد شغلهم، قبل أن ينظروا إلى عرض الدنيا أو إلى أرض يبسطون عليها سلطاناً، أو إلى غنائم يغتنمونها في تلك المعركة أو تلك الغزوة.
ذلك معلم مهم في حياة أمتنا، ما الذي أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي استنفر أصحابه ليخرجوا من مسقط رأسهم وأرضهم ودورهم وبيوتهم وأموالهم وقراباتهم؟ إنه دين الله، إنها دعوة الله، إنها المقصد الأسمى الذي تدور عليه وحوله الحياة، ذلكم هو درس هذه الهجرة العظيمة.(32/5)
تضحية الصحابة بكل ما يملكون في سبيل نشر الدعوة
الدعوة لا بد أن تكون قوية صلبة لا يفتر أصحابها ولا يضعفون، ولا ييأسون ولا يكلون ولا يملون ولا يتوقفون ولا يسكنون، خذوا شرقاً فإن صدت الأبواب فغرباً، وامضوا شمالاً فإن وجدت العوائق فجنوباً، لا بد أن تحملوا دعوتكم وإيمانكم في أعماق قلوبكم، وفي أغوار نفوسكم، وأن تجري مع دمائكم في عروقكم، وأن تكون هي خواطر عقولكم، وكلمات ألسنتكم، يوم ذلك ستكونون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا في ذلك الوقت هم الأمة النموذجية المثالية بوجود القدوة العظمى عليه الصلاة والسلام، ووجود الصحب الكرام الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحمل دينه وتبليغ دعوته.
وذلكم درس عظيم لا بد منه، إنهم في سبيل إمضاء هجرتهم لإقامة مجتمعهم وتشييد دولتهم، وقبل ذلك لإنفاذ دعوتهم وإظهار إيمانهم؛ جادوا بكل شيء، ولسنا بصدد ذكر قصص الهجرة فأنتم تعرفونها، فقد فرق بين أبي سلمة وزوجه أم سلمة وابنه عمر بن أبي سلمة، فما صد ذلك أحداً منهم عن أن يمضي لمراد الله عز وجل، ولطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإحقاق وإعزاز دينه، وصهيب الرومي خلف ثروة حياته كلها وجهد أيامه ولياليه من المال والثروة ليمضي إلى دعوته وإيمانه، وليلحق بنبيه ورسوله وليعلي أمته ودعوته.
وكذلكم كان من بعد آل جحش عبد الله وأهله وأخوه الضرير أبو أحمد، وأولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عندما بلغوا المدينة وأصابتهم حماها واشتد بهم المرض، ورأوا ما هو عظيم في الناحية البدنية، وجسيم في الناحية النفسية، من أرض تركوها وبلاد نشئوا فيها، وأموال خلفوها، إلى أرض ليس لهم فيها موطن ولا عمل ولا مال، فشق ذلك على النفوس، ودخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبي بكر وقد اشتدت به الحمى وهو يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وبلال اشتدت به الحمى فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل يتذكرون ديارهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك لهم في المدينة وأن يجعل فيها ضعفي ما في مكة من البركة، وأن ينقل حماها إلى الجحفة، فبرئت الأجساد، وتواصلت المسيرة.(32/6)
حال الأمة إذا لم تكن دعوتها هي غايتها
تلك أمة كانت دعوتها هي غايتها، وذلك هو الذي ينبغي أن تتذكره أمتنا اليوم، وقد فتنت بالعروش واشتغلت بالسلطان وتنافست على الملك، وجعلت ذلك أوكد همها وغاية قصدها، فضلت عن مسارها، وضيعت دعوتها وافتقدت رسالتها، وغيبتها تلك الأحداث كلها لتكون من سقط المتاع، ولتكون في ذيل قائمة الأمم تأثيراً وقيادة وريادة؛ لأنها لم تدرك أنها إنما وجدت في هذه الحياة لتقول: إنها أمة الإسلام ولترفع راية الإيمان، ولتعلم أن كل جدها وجهدها وقوتها وسلطانها وملكها ومالها إنما هو لإعلاء كلمة الله ولإعزاز دين الله، ويوم تفقد غايتها وتتخلى عن رسالتها فلن تكون لها عزتها ولن تعود لها قوتها، ولن تتبوأ في هذه الحياة الدنيا وفي هذه البشرية قيادتها وريادتها كما كان عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وأمة الإسلام على مدى تاريخها الطويل.
وتأملوا ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة، والقلوب متشوقة للقائه، والنفوس متلهفة لتسخر كل جهدها وطاقتها وفق أمره وإرشاده، هل بنى قصر الحكم؟ هل شيد دار الإمارة؟ بدأ ببناء المسجد؛ ليعلق القلوب به وليربط الخلق بالخالق، وليقول لأمة الإسلام: كل أرض تدخلونها، وكل فتح تفتحونه، فابدءوا فيه بأن تؤكدوا صلتكم بالله عز وجل، فذلكم هو أساس وجودكم وهو سر قوتكم وهو ضمان وأمان استمراركم بإذنه سبحانه وتعالى.
ثم ألف بين القلوب وآخى بين المهاجرين والأنصار، فآوى بلالاً، وآخى صهيباً، ونادى بـ سلمان في العالمين، وأخرج النموذج المثالي الفريد الذي ليس في البشرية كلها نموذج مثله، يوم نبذ كل الاختلافات في الأعراق والأنساب والقدرات والطاقات والملكات وجعلها كلها تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يكن فرق بين أبي بكر التيمي ولا عمر العدوي ولا بلال الحبشي ولا صهيب الرومي، إنما كلهم أهل إيمان فضلهم بتقوى الله، عزهم بالبذل والتضحية لإعزاز دين الله، شرفهم ومناقبهم بحسب ما كان من دعوة الله عز وجل، المهاجرون إنما فضلهم بهجرتهم لذلك، الأنصار إنما فضلهم بنصرتهم لذلك، البدريون إنما هم أصحاب فضل وتقدم على الأصحاب لذلك.
وهكذا معاشر الإخوة المؤمنين يوم يكون تفاضلنا ببذلنا لدعوتنا وبقيامنا بحق ديننا، يوم تكون المراتب بحسب ما يبذل المرء لدينه ولأمته ولرسالته؛ يومئذ لا يكون فينا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتصدر في الناس الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله! قال: (الرجل التافه يتكلم في شأن العامة)، إنما يتصدر الرجل ويتقدم بحسب ما يكون من بذله لدينه وأمته، الدين هو الهدف والغاية، والدين هو المنهج والطريق ذلكم ما تقرع به الهجرة آذاننا وعقولنا، كلما تجددت ذكراها وكلما انقضى عام وأتى عام.(32/7)
من دروس الهجرة: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء
أمر ثان: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء: المسلمون في مكة المكرمة كانوا على إيمان في مجتمع كفر، وكانوا على خلق وفضيلة في مجتمع فسق وعهر، كانوا على توحيد في بيئة كفر وشرك، فهل سايروا القوم؟ وهل قالوا: لا قدرة لنا على أن نكون وحدنا شاذين؟ هل قالوا: لا بد أن نراعي الواقع ومقصودهم في هذه المراعاة المجاراة وليست المداراة؟ هل رأينا أو سمعنا في تلك الفترة رغم شدتها وهولها وقسوتها من ارتد عن دينه؟ أم سمعنا ما هو معلوم من قصة بلال الحبشي وهو يصدع في أجواء مكة: أحدٌ أحد، وقصة مصعب بن عمير، وقد منعت عنه الأموال فقاطعته الأم الرءوف وضغطت عليه فما لانت له قناة، ولا تغير له موقف؟ بقي أهل الإيمان متميزين بإيمانهم، مستمسكين بإسلامهم، لم ينجرفوا مع التيار، لم يسيروا ويوافقوا الناس، لم يقولوا: لا نستطيع؛ لأن قضية الإيمان والاعتقاد وثوابت الدين تهون لأجلها الأرواح والدماء، فكيف يكون ذلك التغير أو التبدل؟! ثم ما الذي أخرجهم في هجرتهم؟ إنما أخرجهم أنهم يريدون أن يكونوا مسلمين في كل شيء، أن يطبقوا إسلامهم في القضاء وفي الحكم وفي العلاقات والمعاملات الاجتماعية، لما كانوا في بلاد الكفر ما كانوا يستطيعون إلا أن يقيموا إيمانهم وإسلامهم في ذوات أنفسهم، فأرادوا أن يميزوا أمتهم ومجتمعهم بكل شرائع الإسلام، بكل محاسنه وخصائصه، فكانت هجرتهم ليقيموا الإسلام كاملاً في مجتمع بكل فئاته وطبقاته، وبكل ميادين حياته ومعاملاته، وذلكم هو الذي كان وراء هجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة.
لم يكونوا هاربين أو خائفين، لم يكونوا منسحبين أو متخاذلين، حاشا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا كذلك، وإنما كانوا لدعوتهم ولطريقها ملتمسين؛ ولإقامة شريعتهم في كل جوانب حياتهم مبتغين، وذلك الذي ينبغي أن تدركه الأمة اليوم، صبغتهم صبغة أمة إيمان وإسلام، أرادوا أن تظهر في كل شيء بدءاً من أعماق قلوبهم وعقيدتهم المستكنة في نفوسهم، ومروراً بعبادتهم وفرائضهم وشرائعهم، ينشرونها في المساجد التي ينادى فيها للصلاة، ويقيمونها في كل الأحكام التي أقاموها حتى أقام النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الحج على هدى الإسلام، وأبطل معالم الجاهلية كلها؛ حينئذ أكمل عليه الصلاة والسلام كل جوانب الحياة في نموذج متكامل.
وما هي صبغة الأمة اليوم؟ إنها مستهدفة استهدافاً عظيماً بدءاً من العقيدة والإيمان، حيث يشكك اليوم في شرائع ثابتة قاطعة وأحكام منصوص عليها بآيات واضحة الدلالة وسنة واضحة المقصد، ثم بعد ذلك تمسخ الهوية حتى نتكلم بلسان غير لساننا ونفكر بعقل غير عقولنا، فما ترون اليوم ما تصنعه وسائل الإعلام: برنامج ينقل لنا حياة من فرنسا، وآخر ينقل لنا صبغة من بريطانيا، وثالث يترجم لنا واقعاً من أمريكا! وكلها كأنما تقول: كونوا على غير ما أنتم عليه، لا يكون لكم لون مميز ولا طعم معروف ولا رائحة مخصصة، كونوا همجاً رعاعاً تتبعون كل ناعق.
إنهم يمسخون الهوية في كل جزء من جزئياتها حتى تتعلق القلوب بغير أهل الإيمان والإسلام، فيكونون هم القدوة وهم الأسوة وهم الذين ينظر إليهم بالإعجاب، وهم الذين تسري خلائقهم وسلائقهم في مجتمعنا حتى لا يعود لنا شيء نتميز به.
أفلسنا نرى ونسمع ويدور الحديث ويعظم على هذه الأمور المخزية الفاضحة التي لا تنم إلا عن مقاصد سيئة، وإلا عن إرادة للإفساد وانحلال للأخلاق وانحراف في الأفكار، وتميع الأمة وذهاب شخصيتها في كل جوانب حياتها؟ وذلكم أمر تحتاج الأمة فيه إلى مفاصلة؛ لأنها اليوم يراد منها أو يكثر الحديث في بيئاتها ومجتمعاتها: أن تطور -أو في حقيقة الأمر- تغير مناهج تعليمها وتحدث وسائل إعلامها وتطور نظم حياتها الاجتماعية، يقولون لنا: لماذا أنتم منغلقون؟! لماذا لا يختلط نساؤكم برجالكم؟! لماذا والبشرية كلها قد أخذت بهذا؟! فهل يكون الحق ما عليه الكثرة وإن كانت مبطلة مفسدة، والكثرة في كتاب الله مذكورة في الجملة في سياق الذم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49]، إلى غير ذلك مما تعلمون.
فينبغي لنا أن ندرك محوراً ومفصلاً عظيماً في حياتنا هو: تميزنا بصبغتنا وانفتاحنا على واقعنا من دون أن نذوب ومن دون أن نتغير فتنسلخ جلودنا، لن نكون يوماً أصحاب عيون زرقاء وبشرة بيضاء لنكون مثل ذلك الغربي أو ذلك الشرقي، فضلاً عن أن تكون قلوبنا وعقائدنا وإيماننا وهوانا وأمنياتنا وطموحاتنا على ما يعملون له ويروجون.(32/8)
من دروس الهجرة: التخطيط والإعداد لا التفريط والإفساد
وثالثة نقف عندها وقفة وجيزة: التخطيط والإعداد لا التفريط والإفساد: أمتنا اليوم يكثر فيها الحديث عن واقعها المؤلم؛ نحن أمة متخلفة تقنياً، تسمعون ذلك ويكرر عليكم صباح مساء، نحن أمة نلبس ما يصنعه غيرنا، ونركب ونأكل ونسير ونبني حتى كأننا عالة على كل أمم الأرض وليس عندنا ما نستقل به حتى في حياتنا المادية، ونحن، ونحن أين البحوث العلمية؟ أين التطور التعليمي الجامعي؟! أين كذا وكذا لكننا نسأل: هل هذا التلاوم أو هذا البحث يعقبه تخطيط طويل المدى، متشعب الجوانب، ووراءه إعداد وعدة وعمل وجد، حتى نغير هذا الواقع وفق سنة الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
لا بد من عمل، وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تأت فلتة عابرة، بل سبقها ما سبقها من محاولات وتجارب، ثم تهيئة كانت فيها دعوة مصعب بن عمير وكانت فيها بيعة العقبة الأولى، وكان فيما بينهما هذه الدعوة، وكان فيها تهيئة الأسباب وخروج الأصحاب وإعداد لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى إذا استحكمت الأمور وأتمت عدتها هيأ الله لها أسبابها ويسر لها تحقيق مرادها، فكان الأمر الذي تم هو نتيجة ذلك التخطيط والإعداد والعمل والجد المتواصل.
وأمتنا اليوم تتلاوم ونجد أنها ما زالت في مجمل أحوالها لا تأخذ السبيل الحقيقي للتغيير الواقعي والعمل الجاد، أين نحن اليوم وما زال الإعلام لا يقدم لنا في هذه الفضائيات شيئاً يربي الشباب، ولا يعلم الجاهلين، ولا يذكر الغافلين، ولا يبين مواطن الضعف؟! إنما هو صراخ وجؤار أو دعاية وتسويق أو فساد وإفساد، ونرى ونسمع ونعلم من ذلك ما تعلمون، فهذه وقفة مهمة أيضاً فيما بين هذين العامين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا وأن يهيئ الرشد والهدى والتقى لأنفسنا.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(32/9)
من دروس الهجرة: التعاون والتكامل لا التناقض والتخاذل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من اقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.
وأمور كثيرة هي التي نحتاج أن نتذكرها فيما بين عام وعام، ونتذكرها في كل وقت وآن، غير أن المناسبات أدعى للتذكير بهذه المهمات.
ووقفة سريعة أيضاً مع التعاون والتكامل لا التناقض والتخاذل: إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نموذج متكامل لتوزيع الأدوار، وتقسيم المهمات والأعمال، كيف هيأ النبي لأصحابه أن يتقدموه ويسبقوه؟! كيف استبقى أبا بكر رضي الله عنه ليكون رفيقه وصاحبه في هجرته؟! كيف هيأ أبو بكر ناقته ودابته؟! ثم كيف كانت الأدوار: الشباب كان يمثلهم عبد الله بن أبي بكر، ودوره في الهجرة أنه كان مراسلاً وناقلاً للأخبار، ومؤمِّناً للرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر، والمرأة المسلمة أسماء كانت تأتي بالطعام والزاد، وذلك الذي كان راعياً يمر بالغنم ليعفي آثارها، وذلك الذي كان دليلاً يأخذ بالطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم يختم الأمر، والصحابة هيئوه هناك، كل ذلك يدل عن أن لكل أحد دوراً، وعلى كل أحد مهمة، لا تقل: لن يصلح ذلك إلا أن يفعله هؤلاء أو هؤلاء، وماذا تفعل أنت؟! لو أن كل أحد فعل واجباً وأدى مهمة، وبادر إلى عظيمة من العظائم، أو مهمة من المهمات التي تنفع دينه وأمته؛ لرأينا حالاً غير هذا الحال.
ما بال الناس اليوم وكل ينظر إلى الآخر، وكل يجيد إلقاء التبعة والقصور على غيره فيقول: هؤلاء مفرطون، وهؤلاء عصاة مقصرون، وهؤلاء ضالون ومفسدون، وهكذا، ماذا قلنا عن أنفسنا! أين نحن من واجبنا؟! أين نحن مما افترضه الله سبحانه وتعالى علينا؟! ولذلك لابد من العمل، وأن يكون هذا العمل متكاملاً، واليوم أمة الإسلام أقوى ما تكون إذا أخذت بهذا المبدأ، وهي بغيره أضعف: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا كم هي بحاجة اليوم أن تستخدم ما منحها الله عز وجل إياه من ثروة في مكان وقدرة بشرية في آخر، وتقدم علمي في بلد آخر، ولو كان لهذه الأمة اجتماع على أسبابها الدينية والإيمانية، ومعها أسبابها وقوتها المادية والدنيوية، فلن يقف في وجهها أمم الأرض كلها، ولا أمة عظمى أو دولة عظمى كما يقال، فنحن أمة الإسلام، عندنا الثروة العظمى والقوة العظمى بالإيمان والإسلام والمبادئ والشرائع والآداب والأخلاق، بالثروة والأعداد والقدرات والطاقات، لو أنها اجتمعت وتكاملت وكان بينها تناسق وتنوع لانتصرت.
يؤسفنا أن نقول: إن أمماً لا تجمعها عقيدة واحدة ولا لغة واحدة، كالدول الأوروبية يتسع اتحادها لتشمل خمسة وعشرين بلداً، كل منها أو كثير منها له لغة وله ديانة وله نظم سابقة كثيرة، لكنها تجتمع وتأتلف لأنها ترى أن مصدر قوتها في مثل هذا التعاون والتآلف والتكاتف، فيأخذون حينئذ ثقلاً.
ونحن أمة الإسلام أمة يتجاوز تعداد أبنائها ألفاً ونصفاً من المليار، وتتوزع في كل أقطار الأرض شرقاً وغرباً، وتملك ثروات الدنيا في معظمها، ثم بعد ذلك إذا هي شذر مذر! نقول هذا على مستوى الأمة، ولكني أذكر أن كل حديث عن الأمة هو حديث عني وعنك، فأين تكاملك وتعاونك مع أخيك؟! مع الذين يمكن أن تؤثر أنت وهم بإقامة عمل خير أو إقامة مشروع نافع، أين نحن؟! كل يغني وحده، كل يعمل وحده، بل كثيراً ما تتناقض أعمالنا، وبعضنا قد ترك العمل وبقي في دائرة طعامه وشرابه وزوجته وأبنائه، ويأتيك بنصوص يستشهد بها في غير موضعها: (عليك بخاصة نفسك)، (اعتزل الفرق كلها)، هذه نصوص إذا عظمت الفتن وكان قرب القيامة، ثم لا يستدل بها على أن تترك العمل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه: (إذا قامت القيامة، وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) أي: نبتة النخلة الصغيرة.
وأخيراً: لابد من اليقين أن الهداية والولاية هي التي نحظى بها إن نحن قمنا بذلك، كما يسر الله لرسوله في الهجرة أخذ الأسباب، لكن حماية الله وولايته له هي التي سيرته وهيأت له الأسباب، وكلما خرم شيء مما أعده كانت رعاية الله وحمايته، فأمته إذا كانت لا تسير على منهج الله لا تنال هدايته وحمايته وولايته، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وإلا يكن ذلك كذلك؛ لا تكن هداية وولاية، بل يكون تسلط وغواية وضلالة، كما تسلطت الأمم علينا، وكما ضلت مسيرتنا: فمرة ننتمي لتجمع هناك، ومرة ننظم لتكتل هناك، ومرة نسير وراء الشرق، ومرة وراء الغرب، لأننا لم نحظ بهذه الهداية والرعاية والحماية الإلهية، لأننا ابتعدنا عن دين الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهديين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءًً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بكل خير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، زلزل الأرض تحت أقدامهم واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم وخذهم أخذ عزيز مقتدر يارب العالمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اكفناهم بما شئت يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يارب العالمين، اللهم فرج همهم ونفس كربهم، وعجل فرجهم وقرب نصرهم، وادحر عدوهم وزد إيمانهم وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يارب العالمين، اللهم ثبت أقدامهم، وأفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، ومن عليهم بحولك ونصرك وعزك وتأييدك يارب العالمين.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً منهم ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(32/10)
الأمة المسلمة بين التميز والتميع
يجب على الأمة المسلمة اليوم أن تعرف عدوها معرفة حقيقية، من خلال فهم ما يدبره من مؤامرات ومخططات بشتى الوسائل والأساليب، فلابد أن تصحو من نومها، وتفيق من غفلتها، وتترسم خطى الأجداد في تميزهم وتفردهم، وما كانوا عليه من الفخر بدينهم والاعتزاز به، ومحاربتهم لدعوات التقارب والتميع، لما فيها من الذلة في الدنيا والآخرة.(33/1)
الأمر بصيام يوم عاشوراء
الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، ومن سأله مخلصاً أعطاه، ومن طلب الهداية منه هداه، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، له الحمد كثيراً طيباً كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الذي أرشد الله به من الغواية، وهدى به من الضلالة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأمة المسلمة بين التميز والتميع، قضية مهمة في واقعنا المعاصر، هل أمة الإسلام متميزة أو متميعة؟ متفردة أو متشبهة؟ مستقلة أو تابعة؟ مكتفية أو متسولة؟ اليوم والأحوال مضطربة، والرؤى غائمة، والأفكار حائرة، والقضايا متبلبلة؛ يجد المرء المسلم لزاماً عليه أن يؤكد حقيقة تفرد وتميز واستقلال واكتفاء أمة الإسلام؟ أليست هي أمة الكتاب المحفوظ إلى قيام الساعة؟ أليست هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين إلى قيام الناس لرب العالمين؟ أليست هي أمة الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان؟ إن هذه القضية مهمة ندخل إليها فيما نحن بصدده في هذا الوقت العظيم والأيام المباركة.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوموا يوم عاشوراء خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وقد ذكر ابن حجر المراد من ذلك فقال رحمه الله: لما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام، أحب عليه الصلاة والسلام مخالفة أهل الكتاب.
وقال بعض الشراح: وأقل أحواله الدلالة على الاستحباب.
وروى مسلم في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومن التاسع) فمات عليه الصلاة والسلام قبل ذلك.
قال الشراح: ظاهره أنه كان يصوم العاشر، وهم بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح.
وقال النووي رحمه الله: قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر وهم بصوم التاسع.
وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر -شهر رمضان).
وعند مسلم في صحيحه بيان الأجر العظيم لصوم هذا اليوم العظيم، قال في حديث طويل عليه الصلاة والسلام: (وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
وعن حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: (أربع لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن: صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة) رواه النسائي في سننه.
ومما ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فإذا بيهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك، قالوا: يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بموسى منهم) وردت الروايات كما أشرنا بصيام يوم قبله أو بعده، معللاً ذلك ورابطاً إياه بمخالفة اليهود، وهنا مقصد من مقاصد الشرع كما ذكر ابن حجر وغيره من الشراح، فما حكمته وما علته، والأمر عبادة وطاعة، وصيام وقربة، وحمد وشكر لله تعالى؟ إن المقصد هنا تميز أمة الإسلام وتفردها بالكمال، وأنه ما من خير إلا وهي أحق به من غيرها.
ومن هنا لما فعلوا هذا الفعل، وذكروه على سبيل الشكر لله عز وجل، بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين فعلوا ما فعلوا مع موسى عليه السلام من المخالفات والمعارضات التي قد قص الله علينا جزءاً كبيراً منها، وفعلوا مع غيره من الأنبياء ما فعلوا لا يغني عنهم هذا التمسح الظاهر، وهذا السمت المخادع من موافقة في جانب ومخالفة في جوانب أخرى، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنا معاشر المسلمين أحق بموسى منهم، فنحن نؤمن به ونجله، ونقدره ونعظمه، كغيره من الرسل والأنبياء: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة:136]، نحن أولى بكل خير وحق وعدل، نحن أمة الإسلام التي أكمل الله لها الدين، وأتم عليها النعمة، ورضي لها الإسلام ديناً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(33/2)
الأسباب التي من أجلها خالف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في صيام عاشوراء
قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة.
منها: ألا يكون لأولئك القوم المتكسبون بدين الله، المتحايلون على شرائع الله مدخلاً لإثارة الشبهات، فإنهم يقولون: إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديانتنا وكتبنا، فيبلبلون العقول والأفكار، ويروجون الشبهات، وذلك ديدنهم، بل بعد هذه الآيات قد أورد الحق سبحانه وتعالى قوله جل وعلا: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، لأنه لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم زماناً إلى بيت المقدس، وجعلها قبلته، ثم تحول قالوا مقالتهم: إما أن يكون على حق في الأولى فهو على باطل فيما قصد إليه من التوجه للكعبة، وإما أن يكون على باطل فأي دين هذا الذي يكون فيه الخلل والخطأ؟! فرد الله عز وجل عليهم أن ذلك أمر الله وهذا حكمه، وجعل ذلك تميزاً وتفرداً لأمة الإسلام.
وإذا نظرنا فإنا واجدون حكماً أخرى: منها كذلك: بيان زيادة الفضل والمثوبة والأجر لأمة الإسلام بزيادة العمل الصالح.
ومنها كذلك: منع تسرب الأثر السيئ للموافقة؛ لأن طبيعة النفوس إذا وافقت في أمر وآخر وثالث فإنها تميل بعد ذلك إلى موافقة عامة، وإلى تأثر كبير، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر ذلك.
وليس هذا في هذا الوجه فحسب، فقد روى أبو داود في سننه من حديث شداد بن أوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في نعالكم خالفوا اليهود).
وقصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: (خالفوا المشركين) في رواية البخاري، وفي رواية مسلم (خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد، وأن الذي وقعت به المخالفة هو الكمال الأتم والأفضل؛ لأنه لا يكون في هديه صلى الله عليه وسلم وسنته إلا ما هو الأعظم في تعظيم الله عز وجل، والأفضل في عبادته سبحانه وتعالى.
فإذا كان هذا المقصد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في هذا المقام وفي هذه الأيام نذكر بهذه السنة الجليلة العظيمة بصيام عاشوراء، ويوماً قبله أو يوماً بعده، وقد قال أهل العلم: إن صيام الثلاثة أرجح، وصيام التاسع والعاشر بعده، وإفراد العاشر وحده لمن لم يستطع درجة ثالثة، ولم يرد صيام العاشر والحادي عشر وحده، وإن كان فيه المخالفة؛ لأنه وإن كانت فيه المخالفة فإن القصد الأعظم إنما هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) عليه الصلاة والسلام.(33/3)
وقفات مع آيات تظهر التميز والتفرد
نحن قصدنا بيان أمر المخالفة التي تظهر التميز والتفرد، فوقفات مع قليل من الآيات، ولها نظائر كثيرة لمن تأمل وتمعن.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104]، آيات واضحات، (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) نهي عن لفظة بكلمة واحدة، ما جلالتها وخطورتها؟ ما أهميتها وعظمتها حتى تتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم قيام الساعة؟! (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)، لم نبدل كلمة مكان كلمة؟ وهل هذا أمر جليل حتى يكون فيه مثل هذا التوجيه المصدر بالنداء الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟! استمع معي إلى ابن كثير في تفسيره وهو يجلي لنا ذلك، يقول رحمه الله: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا -وهذا لفظه بنصه- يعانون من الكلام ما فيه تورية؛ لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله! فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، يورون بالرعونة، يقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، ينتقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل عن ذلك.
قال ابن كثير: وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: هو الموت، قال: والغرض أن الله نهى عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً.
فهذه الكلمة لما كان فيها مدخل موافقة، ومزلة اختلال في المعنى، وإرادة إشاعة من اليهود -عليهم لعائن الله- نهانا الله عنها، وأمرنا أن يكون لنا غيرها حتى نتميز ونتفرد، وحتى نبتعد عن كل شبهة ورذيلة كان عليها أولئك القوم، بدلاً من (راعنا) قولوا: (انظرنا) وهي كلمة لا التباس فيها ولا اشتباه، كلمة مكان كلمة، ومع ذلك أمر الله عز وجل بها، وتنزلت بها آياته، فما بالكم بما هو أعظم من ذلك وأجل؟! قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: نهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سداً للذريعة؛ لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، فمطلوب منا أن نقطع الطريق على كل من يريد الإساءة إلى ديننا وإلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقصد إلى ذلك بالطرق الملتوية، والأساليب المخادعة.
ورد: (أن الفاروق عمر بن الخطاب وقعت في يده بعض صحف من التوراة، فحملها ليقرأ منها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحمر وجهه، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ويحك والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي).
ما أغضبك يا رسول الله من صحف يقرؤها الفاروق الذي أخبرت أنه: (ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره)؟ أويخشى على الفاروق أن يتأثر بتلك الكلمات في تلك الكتب؟! كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في زمان التشريع، وبيان التأصيل للاعتقاد والمبادئ الإسلامية يقول: إن الكمال المطلق فيما آتاني الله عز وجل، وإن الرسل والأنبياء كما أخبر الله عز وجل قد أخذوا العهود والمواثيق على أتباعهم إن أدركوا يوم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به ويتبعوه.
وأنتقل بكم إلى آية أخرى أكتفي بها عن آيات كثيرة، يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية العظيمة الجليلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:44 - 46] هذا هو وصفهم، وأنتقل بكم إلى بيان معاني هذه الآيات من كلام ابن كثير في تفسيره، يقول رحمه الله: يخبر تبارك وتعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الآخرين عليهم السلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا.
(وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يودون أن تكفروا بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) وهذا إخبار على سبيل التحذير.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) لا يريدون بكم خيراً، ولا يقصدون بكم حسناً، وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى ويحذركم منهم.
ثم بين وصفهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله؛ قصداً منهم وافتراءً، فالذين أولوا وغيروا مراد كلام الله عز وجل ما بالهم لا يغيرون المواثيق والقوانين وصيغ الاتفاقات والقرارات الدولية التي في كل يوم يصدر لها تفسير جديد وتأويل آخر؟ وذلك لا يستغرب على قوم حرفوا كلام الله عز وجل.
ثم يقول الله جل وعلا: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) سمعنا قولك -يا محمد- ولا نطيعك فيه، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم.
(وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع كلامنا ولست بسامع، وذلك على سبيل التنقص والاستهزاء، اسمع ما نقول لا سمعت على سبيل الدعاء، وهذا استهزاء منهم واستهتار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! بين ما أشارت إليه الآية السابقة: (وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) تحويراً وعطفاً للألسنة لتغيير الكلمات.
(وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ولذلك حذرنا الله عز وجل من هذا.
ثم قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: وقال القاضي أبو محمد: هذه الآية تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود في سؤالهم عن الدين أو في موالاة أو فيما أشبه ذلك.
هذه وقفات وومضات مختصرات من آيات يوجد غيرها كثير، تبين أهمية قضية التميز والتفرد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه والتحذير منه: (من تشبه بقوم فهو منهم) وكثرت النصوص والآيات والأحاديث المحذرة من تلك الموافقات هنا أو هناك، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يكون من طائفة من أمته في آخر الزمان: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: فمن غيرهم؟(33/4)
واقع المسلمين مع كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم
هذه آيات الله عز وجل وكلامه، وهذه أحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذه المقاصد الواضحة الجلية، والعلل النصية الشرعية؛ أفيترك ذلك كله لألاعيب السياسة، أو لأضاليل الإعلام، أو لمتطلبات الاقتصاد أو لغير ذلك؟! لو تأملنا اليوم واقعنا فأي شيء نرى في تميز الأمة على المستوى العام في جانب السياسة؟! قضية السلام تقول لنا: كونوا كغيركم لا فرق بينكم وبينهم، بل غيروا كلمات ألسنتكم، وعدلوا مناهج دراستكم، وأصلحوا وسائل إعلامكم؛ حتى لا يكون هناك كلمة واحدة، بل ولا مصطلح واحد يؤذي القوم في مشاعرهم، أو يثير -كما يدعون- العنصرية والحزبية ونحو ذلك، وأي شيء يفعله اليهود الغاصبون المعتدون؟ تقوم الدنيا وتقعد، وتفتح المحاكم وتغلق، والعمل سائر كأن لا شيء في هذه الدنيا؛ لأن القوم يعملون ولا يتكلمون، ولأنهم يحسنون الظلم والعدوان ولا يعرفون معاني حقوق الإنسان، وإذا تأملت فإنك تجد مفارقة عظيمة بين ما يقوله أرباب السياسة من العرب والمسلمين في كلام يتبرءون منه من كل مقاومة، ويبرءون إلى الله عز وجل من كل مخالفة، ويتزلفون ويتقربون بكل موافقة، ويعطونهم كل تنازل ومداهنة، وأما أعداؤهم فلا تسمع منهم إلا مفاصلة، ولا ترى منهم إلا مقاطعة، وهم يعلنون صباح مساء كل ما هو من أصل دينهم، ومن طبيعة حقائق نفوسهم، ومن مصالحهم العليا التي يحرصون عليها ولا يفرطون فيها.
أين تميز الأمة المسلمة اليوم في هذا الميدان المهم؟! ولو أردنا أن نفيض لرأينا من السنة في مواقف النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مواقف الصحابة في كل المراحل وعبر تاريخنا، ما يدل على أن الأمة المسلمة لم تكن يوماً تعطي الدنية في دينها، ولا تبيع دينها لتشتري به ثمناً قليلاً، فتوافق من حذرها الله سبحانه وتعالى من سلوك طريقهم، وهم اليهود عليهم لعائن الله، الذين اشتروا بدين الله ثمناً قليلاً؛ وباعوا آياته لتحقيق مآربهم وشهواتهم وتسلطهم على الخلق والعباد أجمعين.
وإذا جئت إلى ميدان الإعلام وما أدراك ما الإعلام! وهذه الفضائيات المتكاثرة تكاثر الجراثيم والبكتريا، أي شيء تبث علينا؟ هل تريدنا أن نكون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! هل تذكرنا بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟! هل تبرز لنا القدوات في مصعب وخالد والمثنى والمقداد؟ ماذا تصنع بنا؟ تأتينا بمسخ من فرنسا، وتأتينا بقبح من بريطانيا، وتأتينا بعهر من أمريكا، ثم تبثه علينا، تريد أن تقول لنا: كونوا كهؤلاء، وصيروا مثلهم، أليس هذا درب واضح من دروب التشبه والموافقة والتشهير والإعلان والإذاعة والإشاعة لتلك الأخلاقيات والعادات والرذائل الاجتماعية عند القوم؟ كيف يجتمع شباب وشابات تحت سقف واحد أياماً وليالي، آكلين شاربين، مع الضحكات والعناقات والقبلات وغير ذلك؟ ثم يزعم أولئك أنهم عرب وأنهم مسلمون، وينفقون أموالاً من أموال المسلمين ومن كسبهم وهم من أهل العروبة والإسلام، نسأل الله عز وجل أن يهديهم وأن يكفينا شرهم.
أي عقل هذا؟ أي فعل هذا؟ {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر:2] كأننا عدنا إلى حال اليهود نحن اليوم، بهذا الفعل نخرب أخلاقاً، وندمر عادات وأعرافاً، ونخترق حقائق الإيمان وثوابت الاعتقاد، ونذيب معالم الفضيلة والحشمة والحياء، بماذا؟ باختيارنا؟! نعم، بأموالنا؟! نعم، وللأسف بتشبهنا واقتدائنا بغيرنا، حتى في الفسق والفجور لم يكن عندهم قدرة أن يكونوا فاسقين إلا على سنن أسيادهم وقدواتهم من أولئك القوم شرقاً وغرباً.
ولو جئت في ميادين أخرى لوجدت الأمر كذلك، انظر إلى أحوال الاقتصاد في بلاد الإسلام، والربا ضارب أطنابه في جل بقاعها، والمعاملات المحرمة من القمار الذي يذاع على تلك الشاشات الفضية، والمسابقات المتضمنة للرهان والقمار والمحرمات، أصبحنا كأن لا فرق بيننا وبين شرق ولا غرب، ولا يهود ولا نصارى، ولا مشركين ولا مجوس، أي شيء يريد هذا الإعلام وهذا الاقتصاد أن يجرنا إليه؟! أين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين أمة القرآن الكريم؟ أين أمة السنة المطهرة؟ أين أمة السلف الصالحين؟ أين أمة الأخلاق والفضائل؟ أين أمة المبادئ والعقائد؟ حري بنا أيها المسلمون أن ندرك الخطر وأن نجتنبه، وأن نحذر منه وأن نحذر غيرنا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا الشرور والآثار والمفاسد العظام، وأن يمن علينا بالتشبث بنعمة وشريعة الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(33/5)
الوقوف أمام الباطل من ضروريات الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن.
وإن ما ذكرناه -معاشر الإخوة المؤمنين- من قصد المخالفة والتميز والتفرد، وما أشرت إليه من هذه الأحوال المخالفة في واقع أمتنا، لا نذكره تأييساً للنفوس، ولا تقنيطاً لها، لا من رحمة الله ولا من تغيير هذا الواقع، فإن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وإننا اليوم مع تعاظم هذه الصور المنكرة، والتيارات الجارفة نرى بحمد الله يقظة في القلوب والعقول تؤدي إلى الاعتصام بدين الله كتاباً وسنة، وإلى التحرز من هذه الموجات التغريبية التي تجر الناس بعيداً عن حياض دين الله عز وجل، ولذلك إنما نقول هذا لنبعث الهمة على المخالفة، والقوة في الثبات في مواجهة التيارات التي تذيب وتغير كل خصائص أمتنا؛ لتنزعها وتجعلها مع القوم دون أن يكون لها أي أصالة، ولا أي قوة، ولا أي ثبات، ولا أي قدرة على التأثير الإيجابي في غيرها.
ومن جهة أخرى نذكر بها لنحذر من خطر هذه الهجمة، وعدم التهاون فيها، وعدم النظر إليها على أنها ضروب من الأفكار، أو على أنها مشاريع للاستثمار أو نحو ذلك، فإننا لا نحسب أن العاقل المتأمل ينظر إليها إلا ويرى فيها قصداً لإماتة الغيرة، وإضعاف التميز في هذه الأمة بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، ثم كذلك لننظر إلى أمر مهم وهو عدم السماح باختلال الموازين، واختلاف المقاييس، فلا نوافق ما يشيع في الإعلام، ولا ما يتردد في أروقة السياسة، عن أولئك النفر الذين ما زالوا هم المعادلة الراجحة في واقع أمتنا اليوم في أرض فلسطين، من الثابتين يوم تراجع غيرهم، ومن القائمين بالحق يوم داهن الناس فيه وتخلوا عنه، ومن المتصدين لإعلاء كلمة الله عز وجل يوم ترك ذلك كثير من المسلمين، ومع كل مواقفهم العظيمة في وجه اليهود المعتدين الغاصبين الظالمين، في كل مواقف القوة والإيمان والجرأة؛ نرى من يتهمهم بأنهم انتحاريون، وبأنهم يضيعون مصالح الأمة، وبأنهم لا يقدرون ظروف السياسة، وبأنهم لا يعرفون أوضاع الاقتصاد، وبأنهم كذا وكذا، ويتداولون كلمات الإرهاب وغيرها من المصطلحات، فإذا بها تروج بيننا، وتتردد عندنا، ولا نكاد ندرك أهمية مواقفهم وأهمية وضرورة ووجوب إسنادهم وإعانتهم، فإنما هم صف متقدم في وجوه العدو الأكبر الذي يتربص بنا اليوم الدوائر من كل جهة، وعبر كل وسيلة وطريقة من سياسة واقتصاد وإعلام واجتماع وغيره، فينبغي لنا أن ننتبه لذلك، وأن نعرف لأولئك القوم فضلهم وأثرهم، وأن يكون لنا على أقل تقدير بأعماق قلوبنا وصادق دعائنا فضلاً عن نصرتنا بكل حال من الأحوال ما يثبتهم، وما يجعلنا أيضاً نعتز بذلك ونفتخر، ونرى نموذجاً إن كان الآخرون في أقصى الأرض وشرقها قالوا: إن الضغوط قد أجبرتنا على أن نغير أو أن نبدل هنا أو هناك، فما بال الذين هم في جوف المحنة وفي شدة القسوة ثابتون! ثبتوا فثبتهم الله عز وجل، ونصروا دين الله فنصرهم، وأصبحوا حجر عثرة تدور الأحداث كلها على مدار وعلى محور هو: كيف يتم التخلص من هؤلاء؟! وكل هذه الأراجيف والأحابيل والألاعيب السياسية والاقتصادية إنما تدور على هذا المعنى.
فالله الله في دينكم! والله الله في أمتكم! والله الله في كتاب ربكم! والله الله في سنة نبيكم! والله الله في إخوانكم المجاهدين الثابتين على مواقع الثغور في أرض فلسطين وفي غيرها! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يارب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(33/6)
أنسام الإيمان ونفحات الرحمن
لقد فرض الله سبحانه وتعالى الحج على عباده، وجعله ركناً من أركان الإسلام، فيه يغفر الذنوب والآثام، وبه نتذكر يوم الحشر والزحام، فلزاماً على من أراد الحج أن يتعرف على آدابه وسننه، وأحكامه وأركانه، حتى يقوم بهذه العبادة على أكمل الوجوه، وحتى ينال ثمارها الموعودة، ومقاصدها المرصودة.(34/1)
وصايا قبل الحج
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الحج ركناً من أركان الإسلام، وعملاً تغفر به الذنوب والآثام، وطريقاً موصلاً إلى الجنة دار السلام، ومذكراً بحقيقة الدنيا وما فيها من الزينة والحطام، ومعلقاً القلوب بالآخرة، ومذكراً بيوم الحشر والزحام.
أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، نحمده جل وعلا حمداً على كل حال وفي كل آن، فله الحمد في الأولى والآخرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه رحمة للعالمين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هذه أنسام الإيمان ونفحات الرحمن تأتيكم في هذه الأيام المباركة ونحن نستقبل فريضة الحج العظيمة الركن الخامس من أركان الإسلام، ووقفتنا مع إيجاز القول في: حكم وأحكام الحج؛ عل ذلك أن يكون مبصراً ومذكراً ومعلماً لنا ومعيناً على أداء فرضنا.(34/2)
إخلاص النية
وأول ما يذكر قبل الحج وقبل الشروع في أعماله وأنساكه: أولاً: النية الخالصة: فجرد نيتك لله عز وجل، وخلص قصدك لمرضاته سبحانه وتعالى، ونق قلبك من شوائب الإرادات الأخرى والنوايا التي لا تكون خالصة لله عز وجل؛ فإنه سبحانه وتعالى يحب من الأعمال ما كان خالصاً، وكما ورد في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، فجرد نيتك وخلصها لله سبحانه وتعالى.(34/3)
الوصية النافعة لأهله وذويه
ثانياً: الوصية النافعة: عليك أن توصي أهلك وذوي قرابتك ومن تخلفهم وراءك في بيتك ومع أهلك بالطاعة وتقوى الله سبحانه وتعالى، والإقلاع عن المعاصي.
وأن توصي أيضاً بما يلزمك من إثبات الديون والتعريف بالحقوق ونحو ذلك مما يحسن بالمرء المسلم أن يكون موصياً به في كل وقت، ولاسيما عند السفر أو عند الذهاب إلى مكان بعيد، أو نحو ذلك مما يعرض للناس، فإن الوصية قد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها وأوصى بسرعة كتابتها.
وهذه الوصية التي توصي بها أهلك مهمة جداً، فإنه من غير المنسجم مع التكامل المطلوب أن تكون ملبياً في عرفات، ورامياً للجمار لحرب الشيطان في منى، وأن تكون مضحياً لله سبحانه وتعالى في المشاعر المقدسة، وأنت تخلف في بيتك منكرات ومحرمات، ربما يلحقك بعض إثمها وشيء من وزرها؛ لأنها تقع في أهلك، وأنت الولي عليهم، والمكلف بهم والمسئول عنهم، فإن المسلم ينبغي أن يكون عمله منسجماً متكاملاً، فطاعة هنا ينبغي أن تقابلها طاعة هناك، وينبغي أن يحرص على كل الأمور المعينة على قبول الحج وتمامه، ومن ذلك أن يغير ويمنع كل المنكرات التي باستطاعته أن يمنعها، ومن آكد ذلك ما هو في بيته وفي أهله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته).(34/4)
النفقة الطيبة
ثالثاً: النفقة الطيبة: (فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وإن الكسب الحلال هو الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم لاسيما في هذه الأعصار التي اختلط فيها الحابل بالنابل، ودخلت شوائب الحرام وكثير من الشبهات في مكاسب الناس، فأولى به أن يحرص على ذلك.
وأولى الأولويات في هذا أن يحرص على أن تكون النفقة في أعمال الفرائض وفي أعمال البر والإحسان من الكسب الحلال الخالص الطيب، حتى يكون ذلك مؤذناً بالقبول وألا يرد، كما ورد في الحديث الذي رواه الطبراني -وإن كان فيه ضعف- بأن الذي يحرم ويلبي وقد أخذ نفقته من كسب حرام يرد عليه: (لا لبيك ولا سعديك، نفقتك حرام، ومركبك حرام)، أو كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.(34/5)
الرفقة الصالحة
رابعاً: الرفقة الصالحة: فإنها معينة على معرفة الأحكام، ومعينة على استحضار المعاني الإيمانية التربوية في هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، فإن المرء ينبغي أن يحرص على كل ما ينفعه في هذه الحياة الدنيا، وأن يحرص بشكل أكبر على ما ينفعه في أمور دينه في أثناء حياته الدنيا، وأن يحرص أكثر وأكثر على ما يصح به أداء فرضه والقيام بالواجب الذي لا محيد عنه.
فينبغي أن يستعين بعد الله عز وجل بالرفقة الصالحة التي تعينه وتذكره إذا نسي، وتكون معه إذا ذكر، فتحيي معاني الإيمان في قلبه، وتشحذ عزمه وتقوي همته، وتذكره بالآخرة، وتعرفه حقيقة الدنيا، وينبغي ألا يصحب أهل اللهو والغفلة، فيكون في مواضع الذكرى وإذا بهم يسرحون به في أودية الدنيا، يكون في مواضع التذكر للآخرة وإذا به يغوص في أوحال الشهوات وفي الذكريات مع المحرمات، وغير ذلك من لغو الكلام وباطله مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم في كل حال وآن، وفي مثل هذه الأحوال والأوقات بشكل آكد، فهذه أمور ينبغي تذكرها.(34/6)
الإحرام
وأما أعمال الحاج فهي أولاً: الإحرام: وهو الركن الأول من أركان الحج.(34/7)
سنن الإحرام
والإحرام له سنن ينبغي أن يتذكرها المحرم.
منها: الاغتسال لهذا الإحرام، وكذا يسن الاغتسال للمرأة وإن كانت حائضاً أو نفساء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عائشة رضي الله عنها، وكما أمر أسماء بنت عميس وقد ولدت أو نفست، فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
السنة الثانية: التنظف بإزالة الشعر: بنتف شعر الإبط، وحلق شعر العانة، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك من سنن الفطرة الواردة في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سنة عنه عليه الصلاة والسلام.
السنة الثالثة: التطيب قبل الإحرام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل إحرامه، ولحله قبل طوافه عليه الصلاة والسلام)، فإن التطيب قبل عقد النية سنة من السنن، وإن بقي أثر الطيب بعد ذلك فلا شيء فيه، فإن التطيب متى وقع قبل الإحرام فهو سنة لا حرج منه.
والأمر الرابع وهو من الواجبات: التجرد من المخيط بالنسبة للرجال، والسنة أن يلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين، فإن هذا سنة، وإن لم يجد الرداء الأبيض فيلبس ما شاء على ألا يكون مخيطاً يفصل على العضو من أعضاء الإنسان، والمرأة لا تدخل في هذا الحكم، بل تلبس المخيط ولا شيء عليها في لبس المخيط، ثم ينبغي لها أن تتنبه لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، أي في حال إحرامها لحجها أو عمرتها، والقفازات هي التي تفصل لتلبس في الأيادي، والنقاب هو ما يكون مفصلاً ليكون غطاءً للوجه، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الرجال أسدلنا الخمار على وجوهنا) أي: أنها لا تنتقب ولكن إن اختلطت بالرجال غطت وجهها، ولا شيء عليها وإن مس هذا الخمار وجهها.
ثم في أمور الإحرام: النية والإعلان بها سنة في هذا المقام، أن يعلن نيته ويحدد نسكه إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو كان مفرداً، وإن كان ذا مرض أو ذا حاجة أو نحو ذلك اشترط في نيته وقال: (فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)، ثم بعد ذلك يشرع في التلبية من وقت إحرامه.
وهذه جملة من السنن وفي بعضها واجبات.
وفيما يتعلق بالإحرام الذي ينبغي أن يكون بالنسبة للقادم بنية النسك حجاً أو عمرة، فينبغي أن يكون عند المواقيت المعروفة، ولا يجوز تجاوز هذه المواقيت من غير إحرام؛ فإن تجاوزها رجع إليها، أو إن أحرم بعدها لزمه في ذلك دم ليجبر ترك إحرامه في ميقاته.(34/8)
معانٍ عظيمة في الإحرام
والإحرام فيه معان عظيمة ودروس جليلة، فإنه ينبغي أن يذكر المؤمن بالتجرد لله عز وجل، وينبغي أن يذكر المؤمن بما ينبغي أن تكون عليه حقيقة علاقته بأمور الدنيا وعلائقها، فإنه كما يسهل عليه أن ينزع ثوبه وأن يتجرد لله عز وجل، فكذلك ينبغي أن يكون في قلبه وفي نفسه القدرة والعزيمة على أن يتخلى عن الدنيا وقتما يشاء امتثالاً لأمر الله عز وجل، وأن الدنيا يمكن أن يتخلى عنها ما دام الأمر في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
ثم يذكره بحقيقة الدنيا وبحقيقة ما ينتهي إليه عندما يموت وينتقل إلى الحياة البرزخية، فإنه لا يخرج من هذه الدنيا إلا بكفن يقارب ويشابه ذلك الإزار أو الرداء الذي يلبسه، فليتذكر المؤمن هذه المعاني العظيمة التي تعرفه بحقيقة الدنيا، وتربطه بالآخرة، وتبين له كيف ينبغي أن يكون فيما يطلبه الله عز وجل منه من أمور يتجرد عنها، ومن تضحيات يقدمها، ومن سبل يبذلها لنيل رضوان الله سبحانه وتعالى، وتحقق أدلة عبوديته.(34/9)
محظورات الإحرام
وهنا أيضاً تذكير آخر يتعلق بمحظورات الإحرام التي ربما يكثر سؤال الناس عنها ويغفل بعضهم عنها، ومن هذه المحظورات: أولاً: قص أو حلق الشعر أو إزالته بأي صورة من الصور: إذا أحرم المحرم وأعلن نيته؛ فإن هذا من محظورات الإحرام.
والثاني: هو تقليم الأظافر أيضاً.
والثالث: لبس المخيط بالنسبة للرجال، والنقاب والقفازين بالنسبة للنساء.
وكذلك تغطية الرأس بملاصق يلاصق الرأس، والتطيب بعد الإحرام، وقتل الصيد، وعقد النكاح، فإن عقد النكاح للمحرم باطل، والمباشرة فيما دون الفرج، والأخير هو النكاح والجماع الذي يفسد ويبطل به الحج، فهذه محظورات الإحرام.
فإن قص الشعر أو قلم الأظافر أو تطيب أو قص الرأس أو ما يلحق بهذه، فإن عليه فدية صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه لما آذاه هوام رأسه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لعله آذاك هوام راسك؟ قال: نعم، قال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك -أي اذبح- شاة لله عز وجل).
وأما ما يتعلق بعقد النكاح أو الخطبة فإنها من محظورات الإحرام لكن لا فدية فيها، وإنما يلحق المحرم فيها الإثم، وأما المباشرة فيما دون الفرج فإنه إن أنزل وجب عليه ذبح بدنة، وإن كان دون ذلك كان عليه ذبح شاة أو بدنة أيهما وقع منه؟ وأما الجماع فإنه يبطل الحج، ويوجب عليه بدنة ويوجب عليه أن يحج مرة أخرى بدلاً من هذا الحج الذي فسد.
ثم ينبغي أن يتذكر المسلم أن هذه الأمور من المحظورات تذكره بدقة الاستجابة لله عز وجل، فإن الناس في هذه الأوقات يكثر منهم السؤال عن تغطية الرأس، أو عن الطيب الذي قد يكون موجوداً في بعض المساحيق أو نحو ذلك، ويحرصون على التوقي والتجنب لكل ما قد يجرح إحرامهم أو يقدح في حجهم، وهم على ذلك حريصون، وعنه سائلون وبه مهتمون معتنون.
لماذا؟ لو سألت أحدهم: وما في تغطية الرأس وأي شيء يضر فيها؟ لكنه يقول: إني ألتزم أمر الله، إني أحب وأحرص على ألا أخالف شيئاً من هذه الأمور، وهذا الأمر فيه تعويد وتربية على أن المؤمن ينبغي أن يستجيب لله عز وجل في دقيق الأمور وجليلها، وصغيرها وكبيرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وهكذا يتعلم المسلم هذا المعنى في كل منسك من المناسك، وفي كل خطوة من الخطوات.(34/10)
أعمال يوم التروية
ثم نمضي إلى الشروع في الحج؛ لأن المحرم الذي أحرم أول أمره إن أراد التمتع فإنه يعتمر بطواف وسعي ثم يحل ثم يحرم مرة أخرى لوقت الحج، وأما المفرد فإنه يحرم لحجه فحسب.
فهذا الإحرام يقع في الغالب لمن أراد اتباع السنة في يوم الثامن من شهر ذي الحجة وهو يوم التروية، فيمضي فيه الحجاج إلى منى ليس لهم في ذلك اليوم من عمل إلا المقام بمنى وهو مقام سنة لا واجب ولا فرض، ويصلون فيها الفروض الخمسة قصراً من غير جمع، ويكثرون من الذكر والدعاء والاستغفار والتوبة، وشغل الأوقات بالنافع من الأعمال الصالحات، والتفقه في الأحكام المتعلقة ببقية المناسك في الأيام التي بعده.(34/11)
الوقوف بعرفة
فإذا كان يوم التاسع -وهو يوم عرفات- شرع الحجاج في التوجه إلى عرفات، والسنة أن ينزل بنمرة قبل الزوال، وألا يدخل عرفة إلا بعد الزوال متى تيسر ذلك؛ فإن لم يتيسر فإنه لا بأس أن يدخل عرفات ولو قبل الزوال، لكنه يصلي بعد الزوال صلاة الظهر والعصر قصراً مع التقديم لهما، ويستمع لخطبة الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين في هذا الموقف خطبته العظيمة، وهي خطبة حجة الوداع التي ركز معالم الإسلام العظيمة فيها.
وبعد هذا الوقت ينشغل العبد المؤمن في هذا اليوم العظيم الذي تجتمع فيه الحشود وتختلط فيه الأصوات وتتخالف فيه اللغات، ويكون كل المسلمين فيه على زي واحد في صعيد واحد، يبتغون مبتغىً واحداً وهو رضوان الله عز وجل ومغفرة الذنوب، فينبغي أن يشتغل بالذكر والدعاء، وأن يلح في الدعاء والتضرع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
يوم عرفة الذي يغفر الله عز وجل فيه ذنوب العباد.
يوم عرفة الذي يباهي الله عز وجل فيه بهؤلاء العباد ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يدحر فيه الشيطان ويخزى لما يرى من تذلل العباد وتضرعهم لخالقهم ومولاهم سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يذكر بيوم المحشر ويوم القيامة وانتظار الناس للفصل في يوم القضاء الأعظم بين يدي الجبار سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يتذكر فيه الناس أنه لا مبتغى ولا غاية ولا شيء يشد القلوب، ولا يصرف الألباب، ولا يعلق الأبصار ولا ينطق الألسن إلا هو سبحانه وتعالى.
يوم عرفة يوم يغتسل فيه العبد من ذنوبه وآثامه بإذن الله، ويغسل بدمعه كل ما سلف، بندم صادق لله، ويغسل عن قلبه كل الآثام والشهوات والشبهات بإخلاص العبودية لله، يوم تغتسل فيه الأمة من كل أسباب الفرقة التي فرقتها من وطنيات وقوميات ولغات وحدود فتجتمع على صعيد واحد لتقول: نحن أمة الإسلام، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن أمة التوحيد، نحن أمة الآخرة التي تجعل الدنيا معبراً إليها وحرثاً وزرعاً لها، نحن أمة التضرع والعبودية والذلة لله، نحن أمة القوة المستمدة من الصلة بالله سبحانه وتعالى.
يوم عرفة يوم عظيم من أيام الله عز وجل ينبغي أن تشتاق له القلوب، وأن تذرف له الدموع، وأن ترفع فيه الأكف، وأن تسجد فيه الجباه، وأن تتعلق القلوب والنفوس بالله سبحانه وتعالى.
يوم عرفة ليس يوماً للأكل والشرب، ليس يوماً للحديث والكلام، بل هو يوم من أيام الله عز وجل ينبغي أن يخرج فيه الإنسان عن كل شيء يصرفه عن تعلقه بالله وتذكره وطلبه وابتغاء مرضاته، وخوفه وخشيته من عقاب الله، وتذكره يوم المحشر العظيم بين يدي الله.
يوم عرفة يوم عظيم نسأل الله عز وجل أن يبلغنا إياه، وأن يغفر لنا فيه الذنوب والآثام، ومن لم يشهد يوم عرفة فإن الله جعل له من ذلك بعض عوض وشيء من عزاء، فإن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب عامين: عاماً قبله وعاماً بعده، فأي فضل عظيم مثل فضل هذا اليوم؟ نسأل الله عز وجل أن يسهل أمر الحجاج، وأن يتقبل منا ومنهم، وأن يتقبل من كل مسلم يبتغي رضوان الله عز وجل.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(34/12)
الدفع إلى مزدلفة والمبيت بها
الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والمصلحين والدعاة.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن موسم الحج هو الموسم الأعظم لزاد التقوى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
ما زلنا في هذا الموقف العظيم في يوم عرفة، فإذا غربت شمس ذلك اليوم دفع الناس إلى مزدلفة، ويجب أن يبيتوا فيها إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر سن للحاج أن يكون إلى جوار المشعر الحرام، وأن يتوجه إلى القبلة بالذكر والدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى.
وأما النساء والضعفة وذوي الحاجات فقد رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا من منى بعد منتصف الليل إذا احتاجوا إلى ذلك، وأما السنة فهي أن يصلي الفجر بمزدلفة، وأن يدعو ويذكر الله حتى يسفر الصبح جداً، أي: حتى يظهر بياض وضوء الصبح جداً.(34/13)
الدفع إلى منى يوم النحر
ثم يدفع إلى منى فيرمي جمرة العقبة من حصيات يأخذها من مزدلفة أو من منى، فإنه لا اختصاص للمكان بجمع الحصيات ولا يشترط أن يجمع حصيات كل الأيام كما يصنع بعض الناس، وإنما يأخذ سبع حصيات، فإن هذه الشعائر تعبدية وينبغي أن نلتزم فيها بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضاً معان تربوية ينبغي ألا نغفل عنها.
فيرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم بعد ذلك يعود فينحر هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، أو كان مفرداً وأراد التطوع، ويسن له أن يأكل من هديه ولو قليلاً، لقول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28].
ولا يجوز الأكل مما يذبح فدية لجبر واجب أو لجبر محظور من محظورات الإحرام، فإن الفدية ينبغي أن تكون كلها لفقراء الحرم.
ثم يحلق رأسه أو يقصره.(34/14)
التحلل وطواف الإفاضة
ثم يمضي بعد حلقه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج، ويسعى بعده سعي الحج وهو الركن الرابع من أركان الحج، فإن كان قد سعى قبل يوم عرفة فإنه لا سعي عليه؛ لأنه يجوز تقديمه، وأما إن لم يكن سعى فإنه يسعى بعد طواف الإفاضة، والسعي لا يكون إلا بعد طواف صحيح، سواءً كان هذا الطواف سنة كطواف القدوم ويجعل بعده سعي الحج، أو كان واجباً، أو كان تطوعاً، أو كان ركناً؛ فإن السعي لا يقع إلا بعد طواف صحيح.
فإذا فعل ذلك، أي: إذا رمى جمرة العقبة، وحلق أو قصر، وذبح هديه، وطاف طواف الإفاضة فإنه يكون قد تحلل تحللاً كاملاً، أما إذا فعل ثلاثة من هذه الأمور أو اثنين لمن لم يكن عليه هدي أو ذبح فإنه يكون تحلل التحلل الأول الذي يبيح له كل شيء من لبس المخيط والتطيب ونحو ذلك، ويبقى محظوراً عليه معاشرة النساء.
وهذا ينبغي أن يتنبه له الناس؛ لأنهم قد يؤخرون بعض الأركان عن يوم النحر، وهذا لا شيء فيه، فإن الأيام الثلاثة كلها موضع للطواف وللسعي ولا شيء في ذلك بإذن الله عز وجل.
وهذه الأعمال ترتيبها: أن يرمي جمرة العقبة، ثم يذبح هديه، ثم يحلق أو يقصر ثم يطوف، وإن قدم شيئاً وأخر شيئاً فلا شيء عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن شيء قدم أو أخر في يوم العيد أو يوم النحر إلا قال: (افعل ولا حرج).(34/15)
أعمال أيام التشريق
ثم بعد ذلك يبقى له أيام التشريق الثلاثة؛ وليس فيها من عمل من أعمال وأنساك الحج إلا رمي الجمار في كل يوم ثلاث رميات، يبدأ بالصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، ويسن له بعد رمي الأولى أن يتنحى قليلاً وأن يتوجه إلى الكعبة وأن يدعو الله عز وجل، وكذلك يفعل بعد الجمرة الوسطى، وأما الكبرى فإنه لم يثبت بعدها عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وكذلك يفعل في اليوم الثاني، وهو يوم الثاني عشر.
وقد رخص بعض أهل العلم عند الزحام الشديد أن يرمي قبل الزوال إذا احتاج إلى ذلك، والسنة الثابتة أن يرمي بعد الزوال؛ فإن أراد التأخر إلى اليوم الثالث فهو أفضل لتعظيم الأجر وزيادة الثواب إن شاء الله عز وجل؛ لأن الله قال: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فإنه يجوز له أن يعجل ويجوز له أن يتأخر، فإذا تأخر ينبغي أن يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثالث كذلك، وبذلك يتم حجه بإذن الله عز وجل، ويكون أدى الأركان الأربعة وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وسعي الحج، ويكون قد أدى أيضاً الواجبات من المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ورمي الجمار، وهذه كلها ينبغي ألا يترخص فيها وألا يفعلها على جهل، فإن بعض الناس يرمي مرة واحدة للأيام الثلاثة في مكان واحد، أو يرمي بطريقة مختلفة حيث يبدأ بالكبرى قبل الصغرى وهكذا، فإن هذا كله قد يفسد عليه أداء واجب من واجبات الحج.
وينبغي أيضاً أن يتنبه الحاج إلى المعاني الإيمانية والتربوية في هذه المناسك الكثيرة، فإن الذبح والأضحية قد مضى معنا في الجمعة الماضية وفي قصة إبراهيم خلال أسابيع سلفت ما فيها من المعاني التي يتذكرها المؤمن، من أنه ينبغي أن يتذكر استسلامه لله عز وجل، وأن أمره كله موكول إلى أمر الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وأن يتذكر أنه ينبغي أن يعود نفسه أن يضحي وأن يبذل كل شيء ما دام في سبيل الله عز وجل.
ورجم الشيطان أو رجم الجمار تذكير واستعانة بالله على حرب الشيطان، متحقق من عداوته إياه، وعارف بترصده له في طريقه إلى طاعة مولاه، فينبغي أن نحقق هذه المعاني كلها، وأن نتذكر وحدة المسلمين.(34/16)
وصايا أثناء أداء فريضة الحج
فينبغي أن نوصي أنفسنا أيضاً، وأن يتواصى الحجاج بأمور كثيرة في أثناء الحج، منها: أولاً: الحرص الشديد على استغلال الأوقات في الطاعات بالذكر والاستغفار أو الصدقة، أو إعانة الحجاج أو خدمتهم أو نحو ذلك، وينبغي ألا تكون الأيام أيام كلام ولغو باطل، أو أيام نوم وكسل؛ فإنها أيام مباركة وأيام موسم طاعة ومغفرة، فينبغي أن يغتنمها العبد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ثانياً: ترك المنكرات، فإن المنكرات في مثل هذه الأماكن وفي مثل هذه الأزمنة وفي مثل هذه الشعائر تكون أقبح ما يكون من العبد المؤمن، فكم ترى قبح الشتم واللعن الذي تراه من بعض الحجاج أو من بعض الموجودين في المناسك، وكم يكون قبح الآثام التي يرتكبها بعض الناس ولو عدوها من المكروهات، كالدخان أو الشيشة أو بعض ما يفعلونه ويرونه ويسمعونه ويمارسونه من أمور فيها نوع من المخالفة لأمر الله عز وجل.
ثالثاً: ينبغي أن يتذكر الجميع الحرص على أداء الفريضة على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً، ويأخذ الأهم فالأهم، فإن العزائم مطلوبة بإذن الله عز وجل والرخصة إنما هي للعذر؛ لأن بعض الناس يحب أن يأخذ الرخص، أو أن يجمع الرخص من كل المذاهب، ومن ترخص -أي: جمع رخص كل مذهب- فقد تزندق، كما قال بعض أهل العلم.
ينبغي أن يكون في أمر عبادته جاداً آخذاًَ بالعزائم، فهذه عبادة وطاعة لله، فهذا أمر يطلع عليك فيه الله، وهذا أمر تقدمه لله، فهل إذا أردت أن تقدم لرئيسك في العمل أو لوالدك، أو لنحو ذلك، هل تقدم له مختصراً لما تقدم أو مجتزئاً له أو مسرعاً فيه؟! إنك تحرص على الإتقان والإكمال، فأولى بنا أن نكمل أعمالنا التي نتقدم بها؛ لنيل رضوان الله عز وجل، ولإثبات عبوديتنا لله سبحانه وتعالى.
والأمر الأخير: ينبغي أن يتواصى المسلمون بالتراحم فيما بينهم وترك التزاحم، فينبغي أن يكون المؤمن رءوفاً بإخوانه المسلمين، حريصاً على مصلحتهم، مقدماً لهم الخير، فإن الحج صورة تبرز الأمة الإسلامية بكل محاسنها ومساوئ أهلها عندما لا يكونون متبعين لأمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا رأينا اختلافاً وتنازعاً وشحناء وبغضاء وتفرقاً، فإن هذه هي أدواء الأمة التي تظهر في صفوة من أبنائها عندما يجتمعون في مكان واحد، فينبغي لنا أن نحرص على إبداء روح الأخوة والتآلف، وأن نحرص بالذات على أهل الإسلام من الديار النائية البعيدة، أن نشعرهم بأننا وإياهم أمة واحدة، وأن نرى المسلم القادم من الصين أو من أدغال أفريقيا أو من أقاصي الشرق أو الغرب، فنسلم عليه ونعتنقه ونذكر له ما يعرف من كلمات الإسلام ليذكر وليشعر بهذه الوحدة، فإن موقف الحج موقف عظيم.
نسأل الله عز وجل أن يسهل أمور الحجاج والمعتمرين، وأن يؤمنهم، وأن يجعل حجهم سهلاً ميسوراً، وأن يجعله متقبلاً مبروراً.
ونسأل الله عز وجل أن يعين القائمين على خدمة ضيوف الرحمن، وأن يجزيهم خير الجزاء، وأن يوفق كل عامل لخدمة الإسلام والمسلمين أوفى وأجزل الجزاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يصرف كل أسباب العناء والشقاء أو أسباب الفتنة والخلاف عن أمة الإسلام وعن حجاج بيت الله الحرام.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً خالصاً، ولساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا واشرح صدورنا، ونور قلوبنا، وثبت على الحق أقدامنا، واختم بالصالحات أعمالنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنزل رحمتك ولطفك بعبادك المضطهدين والمعذبين في سائر البقاع يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك واجعل عملهم في رضاك، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(34/17)
الأرباح والخسائر
رأس مال الإنسان هو عمره، فإذا حرص عليه وتاجر به في الأعمال الصالحة فقد أفلح وأنجح، وإن أنفقه في غير ذلك فقد أفلس وخسر خسارة لا خسارة بعدها؛ فيجب على كل إنسان أن يستغل عمره في طاعة الله عز وجل، وألا يضيع شيئاً من وقته في غير فائدة.(35/1)
الوقت رأس مال الإنسان
الحمد لله خالق الأرض والسماوات، رازق الخلق والبريات، جعل شهر رمضان محلاً لتنزل الرحمات، وإفاضة البركات، ومضاعفة الحسنات، ومحو السيئات، ورفع الدرجات، وله الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأرباح والخسائر موضوع حديثنا، ورغم أننا في شهر رمضان، وفي فريضة الصيام، إلا أنني لن أذكر شيئاً يتعلق بذلك، بل سأذكر أموراً، وأجوراً وفضائل أخرى؛ ليلتفت النظر إلى عظمة الأرباح، وكذلك إلى فداحة الخسائر من جهة أخرى.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله: الدنيا حانوت المؤمنين، والليل والنهار رءوس أموالهم، وصالح الأعمال بضائعهم، وجنة الخلد أرباحهم، ونار الأبد خسرانهم.
ذلك إيجاز من مؤمن عابد عالم يبين أن الدنيا حانوت المؤمنين، فالدنيا كلها ليست شهراً من أعوامها، ولا وقتاً من أوقاتها، ولا حالاً من أحوالها، ولا بلداً من بلادها، إنما الدنيا حانوت المؤمنين، ورأس المال هو الليل والنهار، والأيام والأعوام، وكل لحظة من اللحظات، وكل ساعة من الساعات؛ كلها رأس مال يمكن أن تنفقه وتأخذ كسباً، أو تبدده وتعود بخسران.
فما هي هذه البضائع التي نعمل فيها؟ إنها الأعمال الصالحة التي لا تقتصر على زمان، ولا تختص بمكان.
ثم النتيجة في الآخرة هي إما الربح: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وإما الخسارة فهي أفدح خسارة وأعظمها: {النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] نسأل الله عز وجل السلامة.
وهذه الكلمات نتبعها بأخرى فيها وصية نجعلها مفتتحاً لحديثنا هذا، هذه الوصية تقول: خذ العمر في أوله، واعمل منه في أفضله، وائت باجتهادك بأتمه وأكمله، واسع سعي من يخاف أن يقطع عن المنزل ويحبس عنه فلا يصل، قبل أن ينقل جلدك -أي: يبلى ويفنى- ويضعف جدك، ويكل زندك، ويحبسك الكبر، ويفنيك الهرم، وتندم، وأنى ينفعك الندم؟ ومن سعى في الشباب وجدَّ في ذلك وجده في الكبر أمامه، وكانت كل نجاة إمامه.
وهذه وصية اغتنام للحصول على الأرباح، ولتجنب الخسائر، فإن التسويف والتأخير والتأجيل مظنة فوات الربح، ومظنة انقطاع العمل، ومظنة عروض الشواغل، ومظنة حصول الخسران، نسأل الله عز وجل السلامة.(35/2)
العبادة مأمور بها في كل العام
وهذه رسالة أخرى بعث بها الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، رسالة من إمام عالم إلى حاكم عادل، فانظروا ماذا كانت الأقوال فيها، وفي أي شيء كانت الوصايا، كتب له فكان مما كتب، أما بعد: فإنه من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر.
وقبل أن أمضي في الحديث أقول: تذكروا هذا القول كله بعيداً عن هذا الشهر العظيم، وخارجاً عن إطار هذه الفريضة الجليلة، فإن الحياة أوسع من رمضان، وإن العام أطول منه، وهو في أحد عشر ضعفاً من أضعافه.
يقول الحسن البصري: أما بعد: فإن من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع فهو أفضل، ومن حلم غنم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإن زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فسل، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفس.
ودخل رجل على الجنيد وهو يصلي وقد أطال صلاته وأطالها والرجل ينتظره، فلما قضى صلاته قال للجنيد: قد كبر سنك، ووهن عظمك، ورق جلدك، وضعفت قوتك، فلو اختصرت! فقال: اسكت! طريق عرفنا به ربنا لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه.
فطريق معرفة الله ليس في رمضان، وموسم طاعته ليس مقتصراً على ثلاثين يوماً في العام، فطريق عرفنا فيه مرضاة الله عز وجل، وطريق عرفنا به ربنا لا ينبغي أن نقتصر منه على بعضه.
قال الجنيد: ومن ترك طريق القرب يوشك أن يسلك به طريق البعد.
وقوله: ومن ترك طريق القرب، أي: من الطاعات، بأن يترك المواظبة عليها في سائر الأيام والساعات.
وبعد هذه الخواطر الإيمانية، والمواقف الروحية، والتذكرات العلمية، ترى هل نحن الآن نفكر في حياتنا تفكيراً صحيحاً في الأرباح والخسائر؟! تعالوا أنتقل بكم إلى هذا الموسم العظيم الذي نحن فيه، لتروا أموراً ليست مقتصرة عليه، ولا خاصة به، ولذا اخترت ألا أتحدث عن شيء من فضائل الشهر ولا فريضة الصوم، فقد سمعنا وقلنا قبل ذلك وبعده كثيراً فيه، لكنني هنا أحب أن أشير إلى أمور نعرف كثيراً منها، ولكننا في واقع الأمر لا نحرص عليها، ولا نتشبث بها، ولا نستشعر أهميتها، ولا نتذوق لذتها، ولا نتواصى ولا نتعاهد عليها، ولا ينالنا منها حظ أوفر، ولا نصيب أكبر، وهي في هذا الشهر العظيم.
فأول ذلك وأعظمه وأوكده الصلاة، ونحن جميعاً نرى أن هذه المساجد تمتلئ بالمصلين، وخاصة في الوقت الذي لا يحتمل فيه العذر، وأن الناس كلهم فيه في بيوتهم، فإما أنهم شهدوا الفجر والصلاة فملئوا المساجد، وإما أنهم ناموا وتخلفوا، فانظر الفجر اليوم، وانظر المساجد وهي تشكو إلى الله قلة روادها، والساعين إليها، والمصلين فيها، والمشائين في الظلم إليها، في غير هذا الشهر الكريم! جاء من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمس وعشرين درجة؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في صلاته: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه) متفق عليه.
وهذا الحديث ليس مختصاً برمضان، وهذه الأرباح التي نجنيها اليوم بحمد الله عز وجل وفضله، ونفرح بها ونسعد، ألا نفكر كم خسرنا منها في غير رمضان! عندما لا تتحرك الأقدام إلى المساجد، عندما لا تصطف الأجساد في هذه الصفوف!(35/3)
أجور الأعمال مبذولة في رمضان وفي غيره
واستمع كذلك إلى كثير وكثير وكثير من هذه الأرباح العظيمة والفضائل الجليلة، التي هي مبذولة من رحمة الله مبسوطة من فضل الله، ليس في وقت ولا في زمان بعينه: جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً) رواه أحمد في مسنده والطبراني وابن حبان في صحيحه.
فقوله: (ذاهباً وآيباً) ليس مختصاً برمضان، فما بالك قاعد في بيتك؟! وما بالك لاهٍ في سوقك؟! وما بالك نائم في سريرك وتارك لفريضة ربك، وغافل عن حقيقة ربحك، ومستوجب لعظمة خسرانك؟! نسأل الله عز وجل السلامة.
وهذا عثمان بن عفان يروي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وروى مسلم نحوه.
وجاء من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
إن ربك يفرح بك إذا أتيت إلى بيته، وإذا أقبلت على صلاتك، فهل أنت مستغنٍ عن ذلك، ومقتصر عنه بشهر من اثني عشر شهراً وبأيام معدودات من ضمن مئات من الأيام؟! وانظر كذلك إلى حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: (الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً، -أي: لكثرة الخطى إلى المساجد- من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، وليس من هذه كلها شيء مختص برمضان.
ونحن -بحمد الله- رابحون في هذا الشهر، فإذا حسبنا أرباحنا وانشرحت بها صدورنا فلتبك أعيننا دماً لا دمعاً على أيام متواليات، وشهور متعاقبات، وأعوام منصرمات، حيث لم يكن لنا فيها شيء من هذا الربح، بل ربما كان الخسران هو الأكثر والأظهر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ستة عشر صحابياً، فأين الذين يمشون إلى المساجد في الظلم في صلاة الفجر في غير رمضان؟! وهل هم مستغنون عن هذا النور؟ وهل يعتقدون أنهم إذا ربحوا شهراً وخسروا دهراً أن الصفقة في كل الأحوال رابحة؟! وهل يقول بذلك عاقل؟! وهل يرضى بذلك محب لنفسه؟! فمن يقول: إن تاجراً لا يفتح حانوته إلا في الموسم، ثم يغلق بقية الموسم وينام؟! وهل رأيتم أحداً يصنع ذلك؟! وهل في الدنيا طالب لا يدرس إلا شهراً من العام؟! وهل في العالم كله تاجر لا يعمل إلا شهراً في العام؟! وهل يمكن أن يُقتصر في أي عمل على شهر من العام؟! فكيف سيكون حال الناس إذا كان لا يتم علاجهم في المستشفيات إلا شهراً في العام؟! وكيف سيكون حالهم إذا لم تفتح المدارس إلا شهراً في العام؟! وكيف سيكون حال الناس إذا لم تفتح الأسواق إلا شهراً في العام؟ وكيف سيكون حال المؤمنين إذا لم يقبلوا على الله إلا شهراً في العام، وإذا لم يحرصوا على الحسنات إلا شهراً في العام، وإذا لم يتذكروا الفضائل إلا شهراً في العام، وإذا لم يدخلوا إلى المساجد إلا شهراً في العام، وإذا لم يقرءوا القرآن ويلتزموه ويتلوه ويتدبروه إلا شهراً في العام، وإذا لم تخرج أموالهم إنفاقاً في سبيل الله وتقرباً إليه إلا شهراً في العام؟!! وقيسوا على ذلك ما شئتم، وسلوا من الأسئلة ما شئتم، فإن خسائرنا عظيمة فيما نفرط فيه من طاعة الله، ومن الخير الذي ساقه الله سبحانه إلينا، ومن الأجر الذي أتاحه لنا طوال العام، وفي هذا الشهر يزيد بالأضعاف المضاعفة، والله سبحانه وتعالى لا تنفد خزائنه.
والله جل وعلا عظمته دائمة، وهو سبحانه وتعالى مستحق للعبادة والمحبة، وصدق الإنابة، ودوام الذكر، واستمرار الدعاء دائماً، وليس ذلك مختصاً بحال دون حال، قال عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة، كما روى أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعدون إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، فتكتب الشهادات، وتسجل الأسماء في صحف الملائكة، وترفع إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى، فأين سيكون اسمك فيما يأتي من الأيام والليالي في غير شهر رمضان؟ فهل نفكر كم هي خسارتنا ونحن كأنما نركل هذه النعم بأقدامنا، وكأنما نعرض عنها ونعطيها ظهورنا، وكأننا قد صمت أذاننا فلا نسمع تلك الآيات، ولا نعرف تلك الأحاديث، وكأن قلوبنا ليس فيها شيء يبعثها إلى التحبب وإلى العمل بهذه الطاعات؛ رغبة في تلك الأجور، وتأملاً في تلك الأرباح العظيمة.
ولو مضينا لوجدنا وراء ذلك شيئاً عظيماً، وهو في أمور كثيرة، ولعلي أخص بعضاً منها؛ لأن التقصير والتفريط فيه في غير رمضان أشهر، وخاصة أداء الصلوات في الجماعات، وخاصة صلاة الفجر، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، فأنت في أمان الله، وأنت في جوار الله، وأنت في حفظ الله عز وجل ما أديت صلاة الفجر في جماعة، فكيف بك وأنت تخرج من غير أمان ولا جوار ولا حماية من الله، تنتهبك الشياطين، وتفترسك الوساوس، ويحيط بك أبالسة الإنس والجن؛ لأنك لم تأخذ حصناً من طاعة الله، ولم تأخذ وقاية من هذه الصلاة.
ومن ذلك الإقبال عند انبثاق الفجر، وعند بداية اليوم، وعند رجوع النفس إلى روحك، فعليك أن تحمد الله عز وجل على الطاعة، فكيف بك والكدر على وجهك، والثقل في نفسك، والغم على قلبك، في كل صباح؟! لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد؛ يضرب على كل واحدة منها فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت الثانية، فإذا صلى الصبح انحلت عقده كلها، وأصبح نشيط النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، كيف نهمل مثل هذه العبادات وهذه الأعمال الصالحات، ونقول: إنها تطوعات، وإنها من التطوعات الزائدة عن الفرائض، فرأس المال الأساسي هو في هذه الفرائض العظيمة.(35/4)
فضل قيام الليل في رمضان وغيره
وهنا أمر أحب أن أخصه بهذا الحديث تذكيراً وترغيباً، وهو قيام الليل، وأداء الوتر، وكم ننال في هذا الشهر في هذا الموسم العظيم من الفضل والأجر، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيه بفضائل كثيرة، لعل من أشهرها وأجلها حديث أبي هريرة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟) وجل الناس في هذه الأيام في وقت السحر مستيقظون لسحورهم، أو استعداداً لأداء صلاتهم، أو قياماً بصلاة وترهم، فينالون هذا الوقت الغالي الثمين، ويحوزون الخير العميم من هذه الفرصة الثمينة المتكررة في كل يوم قال عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هذا لا يستوي مع غيره من الغافلين النائمين أو من المستيقظين اللاهين العابثين، نسأل الله عز وجل السلامة.
وروى مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه).
وفي حديث أبي أمامة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.(35/5)
فضل الذكر والدعاء والتلاوة في جميع الأوقات
ثم انظروا إلى باب آخر وهو باب الذكر، والدعاء، والتلاوة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة).
والدعاء يجاب أو يدفع عنه به من البلاء، أو يدخر إلى يوم القيامة، وكل ذلك نحن نجني منه أرباحاً عظيمة، نسأل الله عز وجل أن يقبلها منا في هذا الشهر العظيم، فأين نحن من هذه الأرباح المبسوطة المبذولة المشرعة في كل وقت وآنٍ؟(35/6)
فضل الإنفاق في سبيل الله في رمضان وغيره
ثم أمضي كذلك لذكر فضل وأجر الإنفاق في سبيل الله، قال عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، وذلك ليس مختصاً برمضان، لكن رمضان فيه مزيد من فضل الله عز وجل، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً)، فهل نحن نتعرض لهذا الدعاء الملائكي بأن ننفق في كل يوم ولو قليلاً؟ وهل نحرص على أن نقوم بهذه الأعمال الخيرة ونفزع إليها، ونرتبط بها، ونحرص على أن يبقى لنا منها الحظ الأدنى في غير هذا الشهر، فعلينا أن نتفكر في حقيقة دنيانا وفي حقيقة الأرباح والخسائر، وفيما ينبغي أن نحرص عليه في يومنا وليلتنا، وفي كل أيامنا وفي سائر أعمالنا، وذلك ما ينبغي أن نتواصى به.
إننا حين نوصي الناس في رمضان بالإقبال على الخير وبالاستكثار من الصالحات، فإن الأمر في هذا هين؛ فالشياطين مصفدة، والناس على الخير مقبلة، وموسم الرحمة عام، لكننا نقول ونحن في هذا الشهر الكريم والموسم العظيم، واللحظات التي تسعد فيها القلوب، وتأنس فيها النفوس، وتشف فيها الأرواح، وتسمو فيها الهمم، وتعلو فتقوى فيها العزائم؛ نقول: انتبهوا لما بعد رمضان؛ لأننا ننتبه إلى أمر ونترك أموراً، ونحن في حقيقة أمرنا إذا فرطنا وقصرنا لم نفقه عظمة ربنا، ولم نفقه معنى العبادة، ولم نتذوق روح هذه الطاعات والعبادات في نفوسنا وقلوبنا وأرواحنا.
أسأل الله عز وجل أن يردنا إليه مرداً جميلاً، وأن يجعلنا من عباده الطائعين المخلصين المقبلين عليه في كل أوقات العام، ونسأله عز وجل أن يوفقنا في هذا الشهر لحسن الصيام والقيام والإنفاق وصالح الأعمال، وأن يزيدنا فيه من الخير والبر والإحسان؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(35/7)
الإخلاص في الطاعة ولذة العبادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ونحن في موسم التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فلنأخذ زادنا عظيماً وفيراً إلى ما بعد هذا الشهر كذلك.
ولعل لي وقفة أخيرة في شأن الأرباح التي نجنيها، ولماذا لا نتعلق بها ونستمر عليها، وهي قضية مهمة لعلنا أن نحرص عليها، وأن نجاهد أنفسنا فيها، وأن نجتهد في تحصيل الأسباب لها.
ذلكم أيها الإخوة المؤمنون! هو أمر الإخلاص لله عز وجل، وصدق التعلق به، وحقيقة الإقبال عليه حتى نصل إلى المبتغى والمراد والغاية من هذا الإقبال عليه، ومن تلك الطاعة له، ومن صور العبادة التي نجتهد فيها، وهي أن تخلص إلى قلوبنا، فنشعر بالسعادة، وتخلص إلى نفوسنا فنتذوق اللذة، وحينئذ تصبح قلوبنا مشدودة إلى الطاعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يرجع إليها).
فانظروا إلى هذا التشوق الذي يذكره لنا المؤمنون الصادقون المخلصون الذين يبينون لنا حقيقة مهمة، وهي أنه إذا خلصت لنا روح العبادة فإنه سيكون لنا بها تعلق وارتباط في كل لحظة وسكنة، وفي كل ظرف وحال، ولذلك سئل أحد الصالحين: ما أفضل عملك؟ فأجاب إجابة حري بنا أن نصغي إليها بقلوبنا فقال: ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعد لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حين كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً! إنه يستعد لها، ويشتاق إليها، وهذا دليل على حب، وتعلق، وهيام، ولذة نفس، وطمأنينة قلب، وراحة بال، وأنس في الإقبال على الله عز وجل، يفسره لنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال!) ويفسره لنا فعله صلى الله عليه وسلم حيث كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وتفسره لنا نداءات القرآن كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وتفسره لنا الصورة المثلى لرسولنا صلى الله عليه وسلم عندما قال: (جعلت قرة عيني في الصلاة).
ونفهم منها حاله حينما كان يصلي فيقوم حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يشعر بلذة المناجاة، ولأنه لا يشعر بثقل الوقوف، ولا بشدة المعاناة؛ لأن حلاوة المناجاة تغلب شدة المعاناة، فلا يكاد يشعر بشيء، ونحن حالنا -إلا من رحم الله- على غير ذلك، فإن أطال الإمام في آية أو آيتين شكى الناس شكوى عظيمة، وإن صلوا مرة وزادوا رأيتهم وهم يفرقعون أصابعهم، ويتفقدون ركبهم، وينظرون إلى حالهم! فلماذا نحتاج أن نتأمل ونتدبر، ونحن نحتاج أن نعيش في روح هذه العبادات؟ فإننا إن فعلنا كان لذلك أثره الأعظم في استمرارنا فيما يأتي من أيامنا في غير هذا الشهر الكريم، ولعلنا كذلك نتذوق لذة تلاوة القرآن، ونستعذب حلاوة التضرع والانكسار بين يدي الله، ونرى روحاً عظيمة مؤثرة في كل دعوة إلى الله عز وجل ندعوه بها، ونستشعر أنساً وراحة في كل إنفاق ننفقه، وفي كل سرور على مسلم ندخله.
ودعونا نعيش في روح هذه العبادات وهذه الطاعات؛ ليكون أجرنا من الله عز وجل عظيماً، ومن جهة أخرى لتكون لنا السعادة، وهي جزء من الأجر مقدم للمؤمن، وذلك فيما يشعر به من سعادة نفسه وروحه وأنس قلبه وطربه، كما قال أهل العلم من العلماء العاملين والعابدين: (والله إننا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك، ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليها بالسيوف لفعلوا)! تلك اللذة العظيمة هي لذة الإيمان، ولذة الطاعة، ولذة العبادة، وقد أخبر عنها أيضاً بعضهم فقال: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: لذة العبادة والطاعة والمناجاة.(35/8)
خسارة من لا يعبد الله عز وجل
ونحن نشعر بهذه اللذة في أيام رمضان، فلنحرص على أن نعيش روح العبادة حضور قلب، وخشوع جوارح، وتفكر عقل، ونزول دمع، وحياة نمارسها في واقع أعمالنا كلها، ونتذكر كذلك كل أمر من الأمور التي نجنيها في هذا الشهر، من إمساك اللسان، ومن إنفاق المال، ومن غيرها مما تعظم به الأرباح.
وأريد أن أؤكد مرة أخرى على لونين من الخسائر: الخسارة الأولى: هي أن كل هذا الربح المتاح في غير رمضان إذا لم نأخذ منه حظاً فنحن خاسرون، فإذا كانت الأموال مبذولة، والأرباح سهلة، ثم لم نعمل لها، فنحن قطعاً خاسرون، ونحن بصورة أو بأخرى حمقاء أو مغفلون.
وأما الخسارة العظيمة الأخرى: فهي خسارة أصحاب الموسم الذين يخسرون ولا يكسبون، وهم الذين في شهر رمضان وفي فريضة الصيام ثم لا يربحون.
ورغم أن كل كلامنا كان عن فعل نحمد الله عليه، ونربح به أجره ومثوبته، إلا أن هناك من هو شقي أو محروم، نسأل الله عز وجل السلامة، وإلا أننا أيضاً نرى في أنفسنا قصوراً وضعفاً، وتخلفاً وتأخراً؛ فانظروا إلى الصلوات فإنه ما زال التبكير إليها والحرص على إدراك التكبير فيها قليلاً، وانظروا كيف يتأخر الناس ليطعموا من الطعام زيادة لقمة أو لقمتين، ولا يدركون تكبيرة الإحرام في صلاة المغرب؛ فتجد أن أكثر من ثلثي كل مسجد يقومون يقضون الركعات؛ لأجل لقيمات، فهل تلك اللقيمات أفضل أو أعظم من تلك الصلوات والركعات؟! فينبغي أن نوازن.
وانظروا إلى يوم الجمعة كيف يبدأ الخطيب والمسجد ليس فيه إلا أقل من نصفه أو أكثر بقليل؟! فأين بقية الناس؟ لعلهم نائمون، أو يبطئون في الخطى كأنما يسحبون أرجلهم سحباً، وقد يقول بعضهم: إن هذه الخطبة قد تطول، أو ذلك الوقت قد يعظم، وكأن وراءنا عملاً أعظم، أو وراءنا مهمات أكبر، ولا أقول ذلك حتى يكون هذا شاهداً على من يسمعه فحسب، بل هو بلاغ لنا جميعاً؛ لنبلغه لأنفسنا ولأهلنا، ولكل أحد من حولنا.
والحرمان كثير؛ فإن كثيرين يسهرون ليلهم لا في صلاة، ولا في وتر، ولا في دعاء سحر، وإنما في الأسواق، وأمام الشاشات، وبعضهم لا يدرك هذه الصلوات التي ذكرنا فضلها وأجرها، بل هم نائمون أو مقصرون، وهناك من يلعبون ويلهون، وهناك من يفطرون، وهناك من يشغلون أوقاتهم بالغيبة والنميمة، وهناك وهناك.
فإذا برئنا من هذا، وتعرضنا لطاعة الله، وأخذنا هذه الأرباح، فلنتذكر أننا خاسرون من جهة أخرى في غير رمضان إذ لم نقبل على هذه الأعمال الصالحة، ولم نرتبط بتلك الفرائض المفروضة! نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم وفقنا في هذا الشهر الكريم لحسن الصيام، والقيام، والإنفاق، والتلاوة، والذكر، وصالح الأعمال.
اللهم عظم بذلك أجورنا، واجعله يا ربنا طمأنينة لقلوبنا، وانشراحاً لصدورنا، وسعادة لنفوسنا.
اللهم أذقنا لذة مناجاتك، وأذقنا حلاوة عبادتك وطاعتك.
اللهم اجعل طاعتك أحب إلى قلوبنا من الماء على الظمأ يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار يا رب العالمين، واغفر اللهم ذنوبنا وارحمنا رحمة واسعة من عندك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم ثل قوتهم، واستأصل شأفتهم، وخالف كلمتهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم انصر وأعن وثبت إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تخفف عن إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم يا رب العالمين! اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم أدم عليها نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ورغد العيش وسعته يا رب العالمين! عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(35/9)
أصداء الحوار مع شباب الصحوة
من القضايا المستجدة على الساحة: ظهور الجماعات والأحزاب والجمعيات، فعلى الشباب معرفة الضوابط الشرعية التي ذكرها العلماء في التعامل مع هذه المستجدات، وعليهم أيضاً أن يفقهوا واقعهم وفق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يقعوا فيما لا تحمد عقباه.(36/1)
قضايا جديدة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بعون الله تعالى هو الدرس السابع والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهو بعنوان: أصداء الحوار مع شباب الصحوة.
وهذا العنوان ينبؤ بارتباط موضوع اليوم بالدرس الذي سلف بعنوان: حوار هادئ مع شباب الصحوة، فدرس اليوم رجع الصدى لذلك القول، وللمسائل التي ذكرناها فيما مضى، وقد جاءتني مشاركات عدة حاولت تلخيصها، وضم المتشابه منها بعضه مع بعض؛ حتى تنتظم في جملة قضايا ومسائل، يمكن عند معالجتها وذكرها أن نلم بما أشار إليه الإخوة، وما سألوا عنه، وما طلبوا من القول والتفصيل في المسائل التي عرضوا لها.
وقبل أن أذكر تفصيل القضايا، أحب أن أؤكد على أمور مهمة: أولها: أن ما مضى من الموضوع الذي سبق، وهذا وغيره أيضاً إنما الباعث عليه بعون الله تعالى أن نصحو، والخلاصة والغرض هو تقويم المسيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة)، ونحن نحتاج بالفعل إلى أن يقوم بعضنا بعضاً، وأن ينصح بعضنا بعضاً، بل هو من واجب المسلم تجاه المسلم، ومن أخلاق المسلم أن يتقبل النصح من إخوانه، بل يسعى إلى طلب النصيحة، وقد كان سلف الأمة وأعلام الأئمة يقبلون النصح، بل يطلبونه من غيرهم.
الأمر الثاني: أن المسائل التي ذكرت إنما هي أمثلة للتوضيح، لم يكن المراد منها الحصر، ولا أنها تشمل كل القضايا المهمة التي يحتاج إليها الشباب أو تدور في أوساطهم.
الأمر الثالث: أن القضايا التي تم اختيارها أو ذكرها كان الاجتهاد فيها أنها من باب الأهم قبل المهم، وأنها من الأولويات والموضوعات الأكثر ذكراً ووروداً وأخذاً ورداً بين كثير من الشباب؛ ولذلك يعتبر هذا الموضوع تتمة، وقد قسمت ما جاء فيه إلى عناوين رئيسة، وتحتها بعض هذه المسائل: أولها: قضايا جديدة: أي: أن هناك مشاركات وكتابات من بعض الإخوة تعرضت إلى قضايا جديدة لم نذكرها فيما مضى، ومنها: العمل الدعوي الجماعي، ووسائل ثبات الصحوة، وبين علم الشرع وعلم الواقع، وبين الوسائل والغايات.
والبند الثاني: تحت عنوان مخاطر ومخاوف، وفيه قضايا مهمة منها: التكفير والتبديع.
التنازع والاختلاف.
الإسقاط والمصادرة.
الحيرة والاضطراب.
التعصب والحسد.
التزكية والعصمة.
البند الثالث: مطالبات وتوجيهات، ينتظم أيضاً جملة مسائل: التعامل والدعوة مع العامة.
الدعوة والاهتمام بالأهل.
التفاعل والبذل في سبيل الدعوة.
وأخيراً: تساؤلات ومقترحات: أي وردت بعض التساؤلات عن قضايا محددة فيما مضى من الدرس الثالث، وبعض المقترحات نذكرها ونختم بها إن شاء الله.
وفي الحقيقة هذه المسائل لها أهميتها، وفيها كثير من القول، وسأذكر بعض المشاركات بنصها عند الحاجة إلى ذلك أو خلاصة ما كان من مشاركة الإخوة جزاهم الله خيراً.
أول بند: قضايا جديدة:(36/2)
العمل الدعوي الجماعي
أولها: العمل الدعوي الجماعي: فقد كانت كثير من المشاركات تتحدث عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في إطار الجمعيات الإسلامية، وفي ظل التعاون على البر والتقوى، ومحاولة الاستفادة من الجهود، وضم بعضها إلى بعض، والحرص على الانتفاع بتجربة الآخرين، وإعانة الأخ لأخيه، وتقويته له من هذا السبيل، وكانت كثير من المشاركات تذكر إما مدحاً وثناءً على هذا الجانب، أو قدحاً وذماً له، وكأن غاية الأمر إرادة معرفة قول أهل العلم في مثل هذا، ولذا اجتهدت في جمع بعض فتاوى علمائنا ومشايخنا وأهل العلم؛ لنسلط الضوء على مثل هذا الأمر، لعل في ذلك ما يكشف جلية الأمر، ويزيل بعض الحيرة والاضطراب، وكذلك أتممه بنوع من الفوائد اللاحقة بذلك، فهنا جملة فتاوى أذكر بعضها قراءة ونصاً، وأشير إلى بعضها في مراجعها، وهذه بعض الفتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد، وبعضها متفرقة في أزمنة مختلفة نذكرها بأرقامها وتواريخها أيضاً.
فهذه الفتوى برقم (7831) في (3/ 12/1404هـ)، هذا نصها:
السؤال
هل الأحزاب السياسية مباح تأسيسها، وعضويتها، أم مندوب إليها، أم مستحب تأييدها أم حرام تأسيسها ومناصرتها؟ أشارت الفتوى إلى فتوى سابقة نصها: الإسلام يدعو إلى الوحدة، وأن يكون المسلمون على قلب رجل واحد يعتصمون بحبل الله، ويهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فإن ذلك أقوى لهم، وأنكى لعدوهم، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
لكن الاختلاف ظاهرة كونية، ذلك بأن عقول الناس وأفكارهم قد تباينت، وأن عواطفهم وميولهم قد اختلفت، وأن الأهواء المرذولة والعصبيات الممقوتة قد تسلطت عليهم وتمكنت من نفوسهم، فمزقتهم شر ممزق، فكان اختلافهم سنة كونية لا مناص منها، إلا بحول من الله، فمن كان اختلافهم عن اجتهاد سائغ، وتأويل مقبول، ولم يمنعهم من التفاهم والتآخي بينهم، فأولئك هم أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً، ومن كان اختلافهم عن هوى مضل أو عصبية جاهلية فأولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً.
ويجب على المسلم أن يتعاون مع كل الجماعات الإسلامية فيما لديها من حق وصواب، وأن يجتنبها فيما وقعت فيه من خطأ وانحراف، وأن يجتهد في إرشادها، وبيان الحق لها بالحكمة والموعظة الحسنة، عسى الله أن يهديها على يديه سواء السبيل.
ومن أراد أن يلتزم جماعة معينة منها، فليلتزم أسعدها بالحق وأتبعها لكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين، مع مخالفتهم فيما علم أنه مخالف للحق، والنصح لهم في ذلك، وبالله التوفيق.
هذا القول سنجد أن مضمونه متكرر في هذه الفتاوى التي سأذكر مزيداً منها، إذ القول يرجع الحكم في مثل هذا إلى ما هو مجتمع عليه، فإن كان الاجتماع على الحق والخير والتعاون على البر والتقوى، فإن ذلك محمود لا لذاته، بل لكونه محموداً في أصل الشرع لأمر الله سبحانه وتعالى ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرء إنما يتعبده الله سبحانه وتعالى بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا بقول أحد كائناً من كان، ولا بفرقة كائنة من كانت، وإنما ما كان مبنياً على اجتهاد سائغ مقبول في أمر من أمور الخير، وبذل في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يسعى ويحرص إلى متابعة الأوسط للحق، والأقرب إلى الصواب، والأسعد باتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تمنعنه الموافقة والمتابعة في هذا الخير الكثير من أن يخالفهم إذا وجد منهم مخالفة لأصل شرعي، وأن يكون همه وحرصه أن ينصح وأن يبذل النصح لمن وافقهم في أصل الخير، حتى يكون في هذا التناصح إكليل للخير وحيازة له.
وهذا سؤال واستفتاء لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وهذا نصه: يقول: في بلد غير هذه في الجامعة هناك جماعتان هما: اتحاد طلبة المسلمين، وجماعة التبليغ، فأيتهما الجماعة التي يريدها الإسلام، هذا مع العلم بأني أرى أن بعضهم أنشط في الدعوة وأسبق فيها؟ فقال فضيلته جزاه الله خيراً: العصمة من الخطأ ومن الانحراف عن الصواب، إنما هي لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، ولإجماع الأمة، أما كل فرد من أفراد الأمة، وكل جماعة على حدتها من جماعات الأمة كجماعة التبليغ، أو جماعة اتحاد طلبة المسلمين، أو جماعة الإخوان المسلمين، أو جماعة أنصار السنة المحمدية، أو الجمعية الشرعية لإحياء الكتاب والسنة المحمدية، إلى آخر ذلك؛ فكل منها ليست معصومة، بل تخطئ وتصيب، ولها محاسن ومساوئ في الأحكام التي تدعو إليها أو تنشرها، وفي طريقة دعوتها إلى ما تعتقده وتعمل به، وتتبنى إرشاد الناس إليه، وحملهم عليه، وعلى كل جماعة من الجماعات الإسلامية أن تتعاون مع الأخرى فيما اتفقوا عليه من الحق، وأن تتفاهم معها فيما اختلفوا على ضوء الكتاب والسنة، عملاً بقوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، عسى الله أن يهدي الجميع إلى سواء السبيل، وعلى كل طائفة من هذه الجماعات أن تنصح للأخرى، وتثني عليها بما فيها من خير، وترشدها إلى ما فيها من خطأ في الأحكام أو انحراف في العقيدة والأخلاق، أو تقصير في العلم والبلاغ بالتي هي أحسن، قصداً للإصلاح، وطلباً لاستدراك ما فات، لا ذماً لها وتعييراً، عسى أن تستجيب لما دعيت إليه، فتستكمل نقصها، وتصلح شأنها، وتجتمع القلوب على الحق، وتنهض بنصرته.
اهـ.
والمتأمل في هذا القول يرى عليه نورانية الوحي، ويرى فيه فقه الدعوة، ويرى فيه أيضاً العلم بمقاصد الشرع من ضرورة الائتلاف، والحرص على وحدة الأمة، مع النصح لله ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم، ومع الحرص على أنه لا اتباع ولا انقياد بلا تردد وبلا سؤال، وبلا أية مراجعة، إلا لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الأمة المنعقد والثابت.
إذاً: باتباع مثل هذه الفتوى وغيرها من فتاوى أهل العلم، يظهر أن الأمر مداره على اتباع الشرع وعلى تحصيل الخير، وعلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وعلى أن الكمال المطلق لا يوجد ولا يتصور وجوده أصلاً إلا في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً فيه تعليم وتربية على أهم مقاصد هذا الدين، وهو ألفة القلوب، ووجوب تضافر الجهود، والمودة والمحبة، وأخوة الإيمان في قوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، والله سبحانه وتعالى قد سمى الفئة الباغية إخواناً لبقية المسلمين وإن كانوا قد بغوا عليهم، وذلك كما في قوله جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فسمى تلك الطائفتين: مؤمنتين، وإنما إحداهما خالفت وبغت، أو اجتهدت وأخطأت، أو تنكبت سواء الصراط؛ ولذا من رأى أن وجود الخطأ كاف للمقاطعة بل والمنازعة بل والمحاربة، فإنه ما فقه أصل هذا الدين في عصمة دم المسلم وعرضه وماله، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب الاعتصام والتآلف والأخوة، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب التناصح والتكامل، وأن المسلم للمسلم كاليدين في حاجة إحداهما للأخرى، وأن المسلم للمسلم كالمرآة ينظر إلى أخيه فيرى فيه عيب نفسه، ويبصر خطأه من تقويم أخيه، وهذا كثير فيما سيأتي أيضاً من الفتاوى والأسئلة.
وهذا سؤال وجه أيضاً لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أذكره لوجازته ووضوحه في هذا الباب، وهذا نصه:
السؤال
هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية باحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟ قال سماحته: وجود هذه الجماعات خير، لكن عليها أن تجتهد في إفصاح الحق مع دليله، وألا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينهما، ولا مانع أن تكون هناك جماعات؛ لأنها كلها إن شاء الله تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال السائل: وبم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟ قال سماحته: أن يترسموا طريق الحق، ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، بل بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون الصالحون قدوتهم، والحق دليلهم.
وهذا كما أشرت فيه ما فيه من الفطنة والفقه بهذا الدين.
وهنا أيضاً سؤال لفضيلة الشيخ صالح الفوزان، ونص السؤال يقول: ما رأي الشرع في بعض مسميات مثل: السلفيين، وجماعة التكفير والهجرة، وأنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية والجهاد؟ فقال فضيلته: قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
ثم قال: هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت في معناها، كلها تحث على اجتماع الكلمة، وأن يكون المسلمون أمة واحدة، وجماعة واحدة، وفي مسمىً واحد وهو أهل السنة والجماعة، أو م(36/3)
وسائل ثبات الصحوة
بعض الإخوة أشار إلى أننا ذكرنا في المرة الماضية بعض وجوه النقد وبعض الأخطاء، ثم يقول: ما هي الوسائل التي يمكن أن تثبت شباب الصحوة على المنهج الصحيح حتى لا يحصل ما يقع الآن، فإن بعض الناس يمضي في الطريق قليلاً ثم ينتكس، أو يمضي في الطريق ثم يشذ إلى انحراف غير مشروع؟ فأذكر في ذلك نقاطاً في موجز لا يتسع المجال لتفصيله أقول: من هذه الوسائل وأهمها: أولاً: صفاء المعتقد ووضوح التصور.
ثانياً: الارتباط بالقدوة من العلماء والدعاة، والرجوع إليهم.
ثالثاً: التحصن بالعلم ومعرفة الشبهات.
رابعاً: وجود المحضن التربوي الذي يزكي النفوس، ويطهر القلوب، ويعوّد على التزام الشرع، والخوف من الله سبحانه وتعالى، والتقوى له.
خامساً: العناية بفقه الأولويات والاهتمامات؛ فإن كثيراً مما ورد من الأخطاء إنما يقع من أن الإنسان يقدم ما حقه التأخير، أو يؤخر ما حقه التقديم.
سادساً: دراسة التاريخ، واستنباط العظات والعبر، والاستفادة من تجارب السابقين، وسير الأئمة والصالحين.
سابعاً: حسن التعامل مع الآخرين، بما هو في شرع الله سبحانه وتعالى.
ثامناً: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى لا يقع الخطأ والخلل في مثل هذا.(36/4)
بين علم الشرع وعلم الواقع
ذكر بعض الإخوة أن هناك من يقول: إن القول في السياسة أو الاعتناء بمعرفة الأخبار أو نحو ذلك ليس من الدين، وأنه ينبغي لطالب العلم فقط أن يقرأ كتب العلم في العقيدة والفقه والحديث، ولا شأن له بما وراء ذلك، ويذكر هذا الأخ في سؤاله ويقول: أليس هذا هو عين قول العلمانيين الذين يريدون أن يكون المسلم منشغلاً أو مرتبطاً فقط بالأحكام الفقهية، ولا يرتبط بواقع الحياة؟ نقول: نعم، هذه هي تلك، لا فرق بين هذه وهذه، إلا أن هذا القول من مسلم، أو من طالب علم أو من موجه أخطر؛ لأن العلماني أو المستغرب لا يقبل منه الناس، لكنهم يقبلون من الخطيب أو الإمام أو الواعظ أو الداعية، فإن جاء مثل هذا القول من هؤلاء كان أشد خطورة في هذا الأمر.
وأحب أن أوجز القول في هذا: فإن علم الشرع مطلوب، ومعلوم أن هناك واجبات عينية على الإنسان المسلم أن يتعلمها من فرائض الله سبحانه وتعالى، بدءاً من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأركان الإيمان.
ثم بعد ذلك معرفة الفروض العينية مثل: الصلوات وأحكام الطهارة، ثم ما يلزمه في وقته كالحج لمن أراده، أو الزكاة لمن وجبت عليه، وكل ما عدا ذلك فرض كفاية من الزيادة في العلم لمن أراد أن يتصدر للتعليم أو الفتوى أو غير ذلك، لكن علم الواقع أمر مهم جداً، وفيه رعاية اختلاف ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان السائل يسأله نفس السؤال، وتتعدد إجاباته صلى الله عليه وسلم، وما اختلفت إلا باعتبار اختلاف حال السائل، فذاك يسأله فيقول: (أوصني، فيقول: لا تغضب)، ويسأله الآخر ويقول: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وفي مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر: (أن سائلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن القبلة في الصيام فأفتاه بمنعها، وجاء سائل آخر فسأله عن القبلة للصائم فأفتاه بجوازها، فلما سئل النبي عليه الصلاة والسلام قال: ذاك شاب لا يملك أربه، وذاك شيخ كبير ليس له في النساء مأرب)، فاختلف الجواب باختلاف حال السائل، وكذلك اختلاف حال الأمة وظروفها، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: (لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا، قال: لا، فإنا لم نؤمر بذلك)، حقاً إنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو مشرع، لكن على من جاء بعده أن يقتبس منه ويستنبط.
وكذلك عليه الصلاة والسلام كان يعرف أحوال القبائل وعاداتها وتقاليدها؛ ولذا كان يحرص على إسلام زعماء القبائل؛ لأنه كان يعلم أن الناس تبعاً لقادتهم، وكان يعرف ما عليه أهل كل قوم، وأهل كل قبيلة من بعض العادات ومن بعض الرسوم والأمور التي يحرصون عليها، فكان يعرف كل هذا ويراعيه.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر مقتبساً من غير المسلمين، فقد ورد عند الإمام مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن الغيلة، وإني رأيت فارس والروم يغيلون ولا يضرهم)، والغيلة: المقصود بها: الجماع في وقت الرضاع، فإنه قد يضر بالرضيع، لكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى واقع الناس، ورأى ظروف الحال، ورأى أن مثل هذا لا حرج فيه، فلم ينههم عنه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك قال في شأن تأبير النخل: (أنتم أعلم بشئون دنياكم).
فتتبع أحوال المسلمين، والتعرف على أخبارهم، ومعرفة مكائد الأعداء، لا شك أنه من أكثر ما يدفع به الضرر عن المسلمين، وتجلب به المصالح لهم، والإعراض عن مثل هذا لا شك أنه شطط في القول، وأنه مغايرة ومنافرة في طبيعة الواقع، فإن الإنسان في طبيعة حياته المعتادة في تجارته في وظيفته في عمله يرتبط بالواقع، ويسأل عن الأحوال، ويسأل عن الأسعار، ويسأل عن الوظائف، ويسأل عن الترقيات، ويسأل عن النظم واللوائح؛ ليعرف ما يتجنبه، وليعرف ما يأخذ به لينتفع به، فكيف في حال الدين وفي حال حيازة مصلحة الإسلام والمسلمين؟ هل يبقى لا يفطن إلى هذا ولا ينظر إليه؟ لا شك أن هذا خطأ.(36/5)
بين الوسائل والغايات
الناس يغيب عنهم أمر مهم وهو أن الوسيلة لا تراد لذاتها وإنما تراد لغيرها، أي للمطلب الذي تؤدي إليه، وأضرب مثالاً أبين فيه المقصود في هذا: لو أن شخصين رأيا منكراً، واتفقا على أن هذا منكر، وهما متفقان أنه يجب تغييره، لكن اختلفا في الوسيلة، فهذا يرى التعجل في إنكار المنكر، وذاك يرى التأني، أو هذا يرى أنه يمكن أن يكون التغيير باليد، أما الآخر فيرى أنه يكفي الوعظ لما يعلم من حال هذا، فإذا اتفقا في الغاية وفي أصل الحكم الشرعي ينبغي ألا يكون اختلاف الوسيلة مثار النزاع، بل أحياناً مثار اتهام! فيقول: إن هذا يقر المنكر ويرضى به، وإن هذا يساعد على المنكر؛ لأنه لم ينكره بالطريقة التي يتصورها هو، أو التي يريدها هو، إن لم تفعل مثلما كان يتصور ومثلما يرى أنه الأصلح والأكمل فأنت إذاً لست بمنكر للمنكر، ولست بمريد للخير! فهذا لا شك أنه خطأ، فإن بعض الناس يرى أموراً من الحكمة، ودقائق من مسائل العلم، ومعرفة بحال المنكر، أو بحال الواقع في المنكر، ويرى أنه يريد أن يأخذ أسلوباً آخر، فلماذا يكون هذا الشطط والإباء، مع أن الاتفاق في الغاية حاصل؟! كثير من المشكلات تقع بسبب هذا لا بسبب غيره.
فهذه جملة من القضايا التي لم نتعرض لها فيما مضى، وذُكرت في بعض هذه المشاركات.(36/6)
مخاطر ومخاوف
ما ذكره الإخوة في كتاباتهم ينبئ عن شعور طيب، وعن حرص أكيد على الخير لهذه الأمة وشبابها، وعلى خير هذه الصحوة وخير ما فيها، فإن كثيراً من الكتابات كانت تشير إلى بعض الظواهر الخطرة خوفاً على هذه الصحوة وعلى هذا الخير، وأذكر منها كما أشرت في العناوين السابقة:(36/7)
التكفير والتبديع
لا شك أن التكفير والتبديع أكثرها شراً وضرراً وخطراً؛ لأن فيه استباحة دماء؛ ولأن فيه إخراجاً عن الملة؛ ولأن فيه اجتراءً خطيراً ينبغي ألا يقدم عليه الإنسان من غير تثبت وتبين وحرص ودقة وتروٍ؛ ولذلك وقفتي فقط أن أبين أن هذه القضية في غاية الخطورة، وسنجعل لهذه القضية إن شاء الله مواضيع أخرى مستقلة بذاتها.
جاء في الحديث عند الشيخين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فليست القضية سهلة، إما أن يكون الذي اتهم بالكفر مستحقاً لهذه التهمة، وإما -والعياذ بالله- أن تكون هذه الكلمة والوصمة تعود على قائلها.
وفي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أنها إذا لم تقع على صاحبها رجعت على قائلها) والعياذ بالله! ولذلك قال ابن حجر: والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وقيل: الراجع هو التكفير لا الكفر.
أي: أن التكفير يعود عليه ليس أصل الكفر.
ويقول: ابن حجر الهيتمي أيضاً: من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه، أي: رجع هذا الوصف عليه.
ولذلك ينبغي أن نستيقن كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان).
وينبغي أن نعرف أن هناك أموراً ثلاثة يدفع بها كثير من الأمور ومن أهمها التكفير، وينبغي النظر فيها قبل الحكم بالتكفير وهي: الأمر الأول: التأويل, كأن يقول قولاً كفرياً، لكنه متأول يحتاج إلى بيان وإلى إيضاح.
الأمر الثاني: الجهل، كأن يقول قولا ً أو يفعل فعلاً كفرياً وهو جاهل به غير عالم به.
الأمر الثالث: الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلا بد من وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليست القضية سهلة؛ ولذلك الأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك بدليل شرعي، ولا يجوز التساهل بالتكفير أو التبديع أو التفسيق؛ لأن في ذلك محاذير كثيرة أعظمها: الأول: أنه افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم على المحكوم عليه بما ليس صحيحاً.
الثاني: أنه يقع عليه ما يتهم به غيره إن لم يكن كذلك؛ ولذلك لا بد من النظر في دلالة الكتاب والسنة، وانطباق القول على هذا القائل المعين، فإن القول قد يكون كفراً، ولكن لا يكفر قائله؛ لأنه عنده بعض الأعذار التي تصرف عنه مثل هذا الأمر، والمسألة في مثل هذا طويلة.
ذكر الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه في تفسيره كلاماً نفيساً في مسألة النهي عن تكفير المعين، والتنفير منها، فيقول: اعلم أنك إن مت ولم تقل في فرعون شيئاً لم يؤاخذك الله تعالى بذلك يوم القيامة، أي: ليس مطلوباً منك أصلاً أن تحكم على عباد الله، وأن تعطيهم درجات ومنازل في جهنم، هذا في الدرك الأسفل تتهمه بالنفاق، وهذا مخلد تتهمه بالكفر، وذاك مبتدع يستحق من الله عز وجل كذا وكذا، الأصل أنك لست مطالباً بهذا، لكنه يكون مهماً في أحيان كثيرة؛ لئلا تتميع الأمور، ولئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس، فإن من أشهر كفره، وقال مقالة الكفر؛ ينبغي أن يبين أن هذا القول كفر، وأن المعتقد له مع وجود الشروط وانتفاء الموانع كافر، لكن تكفير المعين أمر آخر، حذر منه أهل العلم، وغالب أهل السنة لا يقولون بتكفير المعين، قال صاحب الطحاوية: ولا ننزل أحداً منهم- أي: من المسلمين- جنة ولا ناراً، وقال الشارح: أي: لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة أو من أهل النار.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: ثم حكم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبته -أي: الشخص المعين قد يقول قولاً فيه كفر، لكن حكم الوعيد يلغى في حقه بتوبته- أو حسنة ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه قد يكون الرجل حديث عهد بإسلامه، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
يقول: وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم ذروني في البر والبحر، فوالله! لئن قدر الله علي ليعذبني)، هذا الحديث ذكره ابن تيمية في ثلاثة مواضع من فتاواه بتفصيل وتطويل واسع، يذكر فيه أنه لا بد ألا يكون هناك تعجل في التكفير إذ قد يكون استحق التكفير، لكن صرفه عنه صارف، ثم قال: وإني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً تارة وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ بالمسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.(36/8)
التنازع والاختلاف
النقطة الأخرى التي معنا مسألة التنازع والاختلاف، وهي قريبة من هذا، لكن هذه أخص، وهي عدم الفقه في مثل هذه الأمور، وهو أن هناك أموراً لا يمكن اجتماع الأمة فيها على قول واحد، بل إن الله جل وعلا قضى -وقضاؤه فيه عدل وحكمة ورحمة- أن أموراً كثيرةً يظل فيها اختلاف، ومن تلك الأمور الاختلاف في المسائل الفقهية الفرعية، وبعض ما ليس معلوماً من الدين بالضرورة، وبعض المسائل الدقيقة التي قال عنها ابن تيمية: ليست أدلتها جلية واضحة، ويقع فيها الاختلاف، ووقع في سلف الأمة، ويقع في حاضر الأمة، وسيقع أيضاً في مستقبل الأمة، فلماذا يكون التنازع والاختلاف فيما هو سائغ فيه الاجتهاد؟ ينبغي ألا يكون هناك تنازع واختلاف إلا فيما يخرج عن المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف صريح القرآن والسنة النبوية المطهرة، أو الذي يأتي ببدعة مكفرة واضحة بينة، وبين له ثم لم يرتدع، وهذا أمره ظاهر بين لا أظن أنه يلتبس، ولكن كثيراً من النزاع والخلاف الواقع هو فيما دون ذلك، وللأسف أنه يقع في مثل هذا التنازع والاختلاف التشهير والتعيير، مع أن الأمر لا ينبغي أن يكون كذلك، وإنك تجد من أثر هذا أن يشهر أو يعير بأهل الخير لمجرد اختلاف في الاجتهاد، وهذا لا شك أنه انتكاس وانعكاس في الموازين كما قال أبو العلاء: إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعيّر قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت خفيةٌ وقال الدجى يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهةً وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل وإن كثيراً من الأمور أحياناً يقع فيها مثل هذا الأمر.(36/9)
الإسقاط والمصادرة
الإسقاط والمصادرة هي أعلى درجات الاختلاف والتنازع دون التكفير، وهو أنه مجرد أن يكون بينه وبين آخر اختلاف يحرص أن يسقطه، وأن يصادر قوله بالكلية، بما فيه من حق وصواب، وبما فيه من حسن وإساءة، وهذا لا شك أنه من البغي والعدوان، وقد سبق في درس الحوار أن ذكرت نصاً لشيخ الإسلام ابن تيمية فيما يتعلق بمثل هذا الأمر، فإنه قد يكون في عمل الإنسان الصائب بعض الخطأ، فيدفع الآخر الذي ينكر هذا الخطأ إلى خطأ أكبر حينما يرد العمل كله بصوابه وخطئه، وهناك بعض الناس أحياناً يجترئ ويعتد بالخصومة، فإذا كان خصماً أو مفارقاً أو مخالفاً لشخص آخر فإنه ينظر أي السبل أسرع في إسقاطه، وأي الطرق أنجح في مصادرة قوله، أو إبطال التفاف الناس حوله، أو إبطال سماع الناس له.
ويختلف هذا باختلاف الناس، قد يأتيك شخص ويقول لك: هذا لا يحب العلم، هل أنت ممن يتحرز منه؟ أو يقول: ترى أن بعض الأمور ليست مطابقة للأولى، ومخالفة لما ينبغي أن يكون، فيأتيك من هذا المدخل، فهو ينظر المدخل الذي يناسبك ليصرفك عن فلان أو عن فلان أو عن الكتاب الفلاني، أو عن كذا، ينظر إلى أيسر الطرق دون أن يراقب الله سبحانه وتعالى في ذكر الخير والحسنات، وذكر الصواب والإشارة إلى ما يحصل به للمنصوح من الفائدة، فإن الذي استنصحك قد استأمنك وألقى في عنقك أمانة من الله عز وجل أن تؤدي له القول خالصاً لله، فلا تغشنه في نصيحتك وتأتي له بهذا النوع من الأساليب التي لا يستخدمها إلا من لا خلاق له ولا إيمان عنده، ولا تقوى ولا ورع من أهل الدنيا ومن أهل المناصب ومن أهل السياسة المحضة، الذين همهم أن يغنموا وأن يكسبوا ولو كان ذلك على حساب غيرهم، ولو كان ذلك بغياً وعدوناً، ولو كان ذلك كذباً وافتراءً، ولو كان ذلك تدليساً وتوهيماً للناس، فإن مثل هذا لا شك أنه من أكبر الخطأ والخطر، وكثيراً من مثل هذه الأمور تلتبس على الشباب، فإنه يرى خيراً ويسمع خيراً، ثم يأتيه من يأخذ من بين هذا الخير أمراً معيناً يجعله أساساً وركيزة ليوهم سامعه أو مستنصحه ألا يغرنك هذا الخير، ولا تغرنك هذه الكثرة، ولا تغرنك هذه الإيجابيات، فإنها كلها غير مؤسسة على أمر صحيح، ولا بد أن تبتعد عنها، وأن تنأى بنفسك عنها! فهذا لا شك أنه خطر عظيم ينبغي أن يتوقاه الإنسان.(36/10)
الحيرة والاضطراب
نشأ عن الطعن في الدعاة حيرة واضطراب عند كثير من الشباب، فهو يقول: هذا مخالف، وهذا يقول كذا، حتى إن بعض الدعاة، أو بعض أهل العلم يذكر بعضهم في بعض قولاً.
ونقول: من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل لها إجماع الأمة، وجعل لها من الأئمة الذين في قولهم كثير الصواب، ويقل عندهم الخطأ.
وأيضاً جعل للإنسان الدعاة الذين يستعين بهم على معرفة الحق من الباطل، وعلى أن يثبته الله سبحانه وتعالى على الصواب.
وكذلك ينبغي للإنسان ألا يكون متسرعاً، بمعنى: ألا يأخذ الحكم سريعاً، بل ينبغي له ألا يكون ضيق النفس يريد أن يصل إلى حل مشكلة خطيرة في دقائق وثوان معدودة.
وكذلك ينبغي له أن يتجرد من ضعف الشخصية التي تجعله تبعاً لغيره، يقول له: يمين، يقول: نعم، اليمين صحيح، فإذا قال: شمال، قال: الحكمة في الشمال، إذا قال: إلى أعلى، قال: ليس هناك أفضل من مثل هذا! لا يكن أحدكم إمعة، لا تقلد الناس في دينك، بل ينبغي أن تكون -مع توقيرك ومحبتك لمن تثق به- صاحب بصر وصاحب نظر، والإنسان عنده في نفسه وإيمانه ما يكون كاشفاً له من القول الناشئ عن الحسد، أو عن الاختلاف، فيعرف مثل هذا ويكتشفه، قال معاذ رضي الله عنه: (إن على الحق نوراً يدل عليه).
فليس كل قول ينبغي أن يأخذه الإنسان ويتبعه، والحيرة والاضطراب تزول بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى العلماء الذين يستنبطون الأحكام من الشرع، ويبينون مثل هذه الفتاوى التي تصدرنا بها هذا القول، فإن كثيراً من الحيرة والاضطراب تنشأ عندما يجعل الإنسان دينه هبة لكل أحد، فهو يستفتي أي أحد، أو يستفتي من هو أسبق منه بيوم في الاتباع، أو زميله في المدرسة، بل ينبغي أن يرجع إلى الراسخين في العلم الذين عندهم أمران مهمان: غزارة علم، وعمق تقوى لله عز وجل.
فالأمر الأول: يعصم من الخطأ والضلال.
الأمر الثاني: يعصم من الانجراف وراء الأهواء والعصبيات، ولا بد أن يجتمع الأمران.
والله سبحانه وتعالى نسأل أن يزيل عنا أسباب الحيرة بما في نور القرآن ونور هدي النبي صلى الله عليه وسلم.(36/11)
التعصب والحسد
التعصب والحسد من الآفات التي تقع من الناس أفراداً وجماعات، وغالباً ما يكون أساس الخلط والوقوع فيها أمران: الأول: عدم الفقه والفهم.
الثاني: الانسياق وراء الهوى، ومقتضيات الانتصار للنفس، فإن الإنسان إذا أحب شيئاً تعصب له، وكرس جهده لنصرته، وللدفاع عنه ضد كل ما يناوئه، والله عز وجل جعل لنا من مثل هذا الأمر عصمة؛ لأنه لا محبة ولا ولاء دائم إلا لما هو مرتبط بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمن يُحب لما فيه من الخير، وقد يكره أيضاً مع محبتك له لبعض ما فيه من المعصية، فلا تكون المعصية التي فيه داعيةً إلى بغضه بالكلية، بل إن الفاسق والعاصي يجتمع فيه الحب والبغض، بحسب قربه من موافقة الحق، أو بعده ومعارضته له، والذي يتعصب يفوته فقه كثير من مقاصد هذا الدين، ومن أهمها: أن الأمة لا بد أن تكون أمة واحدة، وأن الأخوة الإسلامية أصل أصيل في هذا الدين، وأن أمر التعاون ينبغي أن يكون بين المسلمين ضد أعدائهم، وبين من هو أقل ضرراً وانحرافاً ضد من هو أكثر ضرراً وانحرافاً، وهذا كان دأب علماء الأمة وفقهائها الذين أحسنوا معرفة مقاصد الشريعة، فلا يقودن مثل هذا التعصب إلى مثل هذه الأمور.(36/12)
التزكية والعصمة
بعض الناس يقول: نسمع أحدهم يقول: فلان لا نزكيه على الله، ثم يطنب في مدحه، وفي حقيقة الأمر أنه لا يرد له قولاً، ويوافقه على كل شيء، ولا يسمع إلا منه، ولا يقبل إلا منه.
لا شك أن التزكية في الأمر الظاهر مشروعة ومطلوبة، وكذلك مطلوب معرفة العالم والداعية وصاحب الخير، لكن النبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم، وغيره كل يأخذ من قوله ويرد، وينبغي ألا يكون هذا الأمر مجحفاً، ولا فيه نوع من المبالغة في مثل هذا الأمر؛ لأن هذا فيه نوع من تقليد المرء دينه الرجال، وأن كل ما قال هذا فهو صحيح.
وقد أشرت في الدرس الماضي إلى أن من الأخطاء: المبالغات التي تجعل الناس في حيرة واضطراب، أو التي تجعلهم عند المقارنة والتمحيص لا يجدون هذا التطابق بين القول المبالغ فيه وبين الحقيقة الواقعة، فلا بد أن ننتبه لمثل هذا، وأن نتجنب مسألة التعصب أو التزكية المطلقة.
وقفة سريعة ومهمة في نفس الوقت مع بعض الأساليب التي يقع فيها الناس، أو يلبس عليهم أن فيها مسوغات شرعية، فإذا أراد القدح قال: فلان هداه الله، ثم حط عليه حطاً منكراً، أو فلان جزاه الله خيراً وبارك فيه، ثم بعد ذلك كأنه يرى أن مثل هذا القول مسوغاً للذي بعده من القدح، وهذا لا شك أنه من الخطأ الكبير.
وأيضاً يلتبس على الناس أحياناً مسألة إحقاق الحق، وأن الحق أحق أن يتبع، فيستبيح لمثل هذا أعراض الآخرين، ويتعصب ضدهم، وينبزهم بما ليس فيهم، أو بما هو فيهم، لكنه ما استخدم الطريق المشروع في إزالته أو إبلاغهم إياه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: فمن الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، وقد ذكر بعض الإخوة عين هذه المسألة، فقال: إن بعض الشباب يجتمعون في مجالسهم ليس لهم هم إلا أن ينتقدوا الآخرين، سواءً من أقرانهم أو من الدعاة أو من العلماء، بل حتى تناولوا بعض علماء الأمة الذين قد أفضوا إلى ما قدموا، وأبلوا في نصح الأمة بلاءً حسناً، وذكر السائل أمثال النووي وابن حجر رحمة الله عليهما.
فتجد بعض الناس مجالسهم تفكه بأعراض الناس والعياذ بالله، ودوام النقص الذي لا يلتفت إلى الخير، ولا يبني ولا يوجه إلى العمل، بل هو نوع من الأسباب المفضية إلى قسوة القلب، وإلى انطماس نور البصيرة، وإلى قلة الفقه في الدين، وإلى ذهاب الورع والخشية والتقوى لله عز وجل؛ ولذا أشرت فيما مضى إلى ما ذكره ابن القيم في فوائده حيث يقول: إن أعلى الهمم، همة طلب علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أخس الهمم في طلب العلم تتبع شواذ المسائل، والمسائل المختلف فيها، قال: وقل أن يفلح من أخذ بهذا السبيل.
وهذا في العيان وفي الواقع ظاهر، والدليل عليه واضح في كثير من الحالات.
ويقول: شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون فيه، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس، واستثقله أهل المجلس، ونفروا عنه، فيرى أن موافقتهم من حسن المعاشرة، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم، فيخوض معهم.
ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضم جنابه.
ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقاً.
وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، ومنهم من يرفع غيره رياءً، فيرفع نفسه فيقول: دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه من كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقد فيه، أو يقول: فلان بليد الذهن، قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه، فتسأله ما رأيك في فلان؟ فيقول: ليس عنده كذا وكذا؛ ليبين أن عنده غير الذي عند غيره.
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص عنده أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب السخرية واللعب؛ ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزئ به.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، وهذا كثير، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت! لكن صيغة هذا الكلام يدل على القدح، هذا كلام شيخ الإسلام في مثل هذه الصور التي ابتلينا بكثير منها، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية!(36/13)
التعميم في الأحكام
من الأخطاء المهمة في هذه القضايا سواء التعصب أو التنازع أو التكفير أو التنفير غير الأمور المهمة التي أشرت إلى بعض منها عند تعليقي على بيان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز التعميم، وهو أكبر خطأ، التعميم في الحكم، فلا يقول: فلان كذا، لا، بل يقول: أهل البلد الفلاني كذا، والجماعة الفلانية كذا، وأهل مسجد كذا فيهم كذا، من قال: إن الناس كلهم على قول ورأي واحد؟! لا يصح التعميم في الحكم، لو قيل: إن أهل هذا المسجد كلهم فيهم خصلة ابتداع، فهذا تعميم خاطئ، ولا يمكن أن يكون كل الناس لهم رأي واحد.
إذاً: لا يصح التعميم في مثل هذه الأحكام، سواء كان في الأفراد ككل، أو كان في الفرد الواحد فتقول: فلان فيه جلافة، لمجرد موقف واحد كان في وقته غليظاً أو فظاً أو غاضباً أو كذا، فعممت موقفاً واحداً على سائر حياته! لا يصح هذا.
أو فلان لا يعرف، ولا يعلم، جاهل؛ لأنه سئل عن مسألة فقال: لا أعلم.
وهذا التعميم من الأخطاء الشائعة وللأسف.
وكذلك النظر إلى مرحلة من مراحل الحياة، قد يكون الإنسان في فترة من فترات حياته مسرفاً على نفسه بالمعاصي ثم تاب، فنقول: فلان فاسق، باعتبار أول حاله ولو تاب، ولو أتى بألف دليل ودليل لا يقبل منه! وهذا لاشك أنه مخالف لشرع الله سبحانه وتعالى، ولمقتضى العقول.
ومن هذه الأمور: عدم الإنصاف، والتركيز على السلبيات دون الإيجابيات، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعدل حتى مع الأعداء، وأمرنا بالمعاملة الحسنى حتى مع أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فكيف لا يكون ذلك لإخواننا في الإسلام؟!(36/14)
عدم التثبت
عدم التثبت هي الآفة الكبرى، يجعل أذنه لاقطة لكل خبر، ويجعله مسلم التصديق، ويحق في بعض الناس قول الله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15]، وهذا تعبير قرآني فريد، التلقي بالأذن، لكنهم لما أسرعوا في نقله من آذانهم إلى ألسنتهم قال: (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)، ليس هناك وقت ولا فاصل بين التلقي والإرسال، مباشرة يرسل من غير تروٍ ولا تثبت، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
وأيضاً هناك أسباب كثيرة ينبغي أن يتنزه عنها الإنسان، منها: اتباع الهوى.
الجهل.
سوء الظن بالآخرين.
الموافقة للأصدقاء وأصحاب الأهواء.(36/15)
مطالبات وتوجيهات
الوقفة قبل الأخيرة: مطالبات وتوجيهات، أذكرها بعناوينها لما ورد في مشاركات الإخوة.(36/16)
أحسن التعامل والدعوة للعامة
إن على الشباب أن يحسنوا التعامل والدعوة للعامة، فبعضهم يذكر أن كثيراً من الشباب إذا رأوا منكراً، أو رأوا تاركاً أو متخلفاً عن الصلاة، أو رأوا عاصياً، لا ينبعثون له، ولا يقومون بأدنى الواجب فيه؛ لأنهم منغلقون على أنفسهم، حريصون على دروس العلم، وعلى حفظ القرآن، ولا يوجهون أحداً إلا بعضهم بعضاً، وربما يستنكف الواحد منهم أن يخاطب العامي، ويراه دون ذلك، أو أحياناً يرى أن غيره أولى.
نقول: نعم، قد يكون غيره أولى بالتعليم، لكن تقديم هذا لا يعني إغفال هذا بالكلية.
الدعوة لعامة الناس، والحرص على إصلاح المنكرات العامة، والمظاهر العامة، لا شك أنه من أعظم أسباب بقاء الصلاح، وإصلاح الناس من بعد، فإنك إن تركت هذه الأمور والمنكرات والناس على جهلهم؛ لتعلم طلبتك فحسب، أو لتربي تلاميذك فحسب، فبعد ذلك ماذا سيكون؟ سيكون انحراف في المجتمع، وهذا الانحراف قد يؤثر على طلبتك، ويفسد ما تربوا عليه من الخير والصلاح، ولن تجد بعدهم من يكون مؤهلاً لأن ينتفع بالعلم ويستفيد من التربية.(36/17)
الدعوة والاهتمام بالأهل
مسألة كثيرة الشكوى، وهي: تعامل الشباب مع أهلهم وأسرهم وذويهم، فإن خير كثير من الشباب مبسوط وموهوب خارج بيوتهم، وخارج أهليهم، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وكما يقولون: الأقربون أولى بالمعروف، وكثير من هؤلاء الشباب لا يقيم في بيته درساً، تراه حافظاً للقرآن، مجوداً له، على حظ من العلم، على فصاحة في اللسان، على طلاقة في البيان، أما في بيته فلا يقدم لأهله أدنى الواجب، وهذا لا شك أنه من أكبر الخلل، وأكبر الاضطراب في التصور، وهو أمر تكثر الشكوى منه، ولعل من المناسب أن هذه الشكوى جاءت من نفس الشباب الذين ذكروا مثل هذه العلة، وهذا النقص.
وهذا يقع به نوع من الخلل من وجه آخر، وهو أن الآباء والأسر تكون نظرتهم لهذا الملتزم الصالح نظرة غير محمودة، ويكونون معترضين على مثل هذا، بحكم أنهم لا يكون عندهم موازين شرعية في التقويم، فيعتبرون كل عمله ليس فيه خير، ويقولون: كنت قبل ذلك نرى منك بعض الخير، أما حين دخلت في هذا المسلك ما رأينا منك خيراً قط، وهذا لا شك أنه يعتبر من آثار عمل العبد، فأنت كنت سبباً في إيجاد هذا الفهم وهذا القول الخاطئ لأهلك؛ لأنك كنت سبباً في هذا التصور وهذا القول.
لذلك ينبغي أن يفقه الإنسان وخاصة الشاب أن أول الناس ببره وبخيره وبعلمه وبصلاحه هم أهله؛ لأن الناس إنما يخالطهم في فترات قصيرة، أما الأهل فإن الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن أهله، عن أبيه، عن أمه، عن زوجته، عن أبنائه، قد يكون مع زملائه في العمل، مع زملائه في الدراسة، ثم تتفرق بهم السبل، أما هؤلاء فإذا ما أصلح ما بينه وبينهم فإنه يبقى دائماً في نزاع وشقاق، ولاشك أيضاً أن هذا من أعظم البر، ومن أعظم إسداء المعروف للأهل.(36/18)
التفاعل والبذل في سبيل الدعوة
أذكر للإيجاز المشاركة التي جاءت في هذه المسألة؛ لأنها غنية عن التعليق، يقول الأخ: إن شباب الصحوة يعايشون صحوتهم، يبذلون جهدهم في نشرها، غير منتظرين أجراً من أحد، ولكن المثوبة من الله عز وجل، وعلامة صدق الباطن الانفعال الفردي للصحوة والدعوة، فمن أخلص لشيء أعطاه كل ما يملكه، فماله ووقته وجهده وفكرته وكل إمكاناته في خدمة الصحوة والدعوة، وتحت تصرفها، فهو يقدم صحوته على طعامه وشرابه، ويؤثرها على زوجته وأولاده، ويتصورها في يقظته ومنامه، ويبذل لها ماله؛ ليكسب لها الانتشار والبقاء، ويتألف بها الأعوان، ويتعب جسمه ليبلغ بها أبعد الأسباب في النجاح، ويعيش ليحمل هذا الأمر، لا ليكون هو محمولاً عندها، وعندها يصدق ظاهراً وباطناً.
فكثير من الشباب يتحدثون في مثل هذه الأمور، لكنهم لا يتحركون في أعماق قلوبهم، ولا يتحركون كثيراً في واقع حياتهم، وهذا للأسف ربما من أثر الواقع العام في مجتمعاتنا العربية، كما يقولون: نحن قوم نجيد الكلام ولا نحسن العمل، وهذه تنعكس آثارها علينا.(36/19)
تساؤلات ومقترحات
وردت بعض التساؤلات عن بعض القضايا التي ذكرت فيما مضى، من ذلك استشهاد عائشة رضي الله عنها بقول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب يقول السائل: أليس هذا قولاً محذوراً فيه نوع من النقد والتذمر من الزمان؟ نقول: ليس هذا داخلاً في مثل هذا، بل هو نوع من ذكر فضيلة الزمن السابق، وما وقع من الخلل والخطأ في الزمن اللاحق، وليس فيه تمن للموت، ولا سب للدهر، وإنما هو وصف للحال، وفي الصحيح عند البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه) فوصف الزمان بالشر أو بوقوع الفساد ليس محذوراً، بل هو من التنبيه على ما وقع فيه من خطأ وفساد.
وأيضاً سائل سأل عن مسألة بعينها في النص الذي نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية من (اقتضاء الصراط المستقيم) فيما يتعلق بمسألة المولد النبوي، وقال: هل يفهم من الكلام أنه إقرار وإباحة؟ قلت فيما مضى في نص كلام الشيخ: إنه ليس له أصل مشروع، وهو مبتدع، لكن كان الاستدلال من كلام الشيخ أنه قد يكون فيه خير وهو بدعة، وكان الكلام أنه لا بد من إزالة البدعة وإحلال السنة، فإن لم يستطع فإزالة البدعة، وإخلاؤها من غيرها، يعني: أن يبقى الأصل من السنة والخير عامراً، أما إن اقتضى زوال الابتداع اليسير مع فوات الخير الكثير فهذا غير صحيح في مراعاة المصالح والمفاسد.
فالمولد في ذاته غير مشروع، وليس له أصل من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولا صحابته رضوان الله عليهم، ولا سلف الأمة، ولا أعلام الأئمة المعروفين، والمعتبرة أقوالهم.
وأخيراً: هناك جملة من المقترحات فيما يتعلق ببعض الموضوعات في الدرس وغيرها، وأشير أيضاً أن بعض مشاركات الإخوة التي وردت ستكون إن شاء الله موضوعات مستقلة؛ فإن كثيراً من المشاركات جاءت حول موضوع القراءة وطلب العلم، وما هو الأولى فيها، وكيف الطريقة في طلب العلم، ومثل هذا إن شاء الله يكون موضوعاً مستقلاً.
وكذلك بعض المطالبات والمشاركات سنفرز لها موضوعات إن شاء الله فيما يأتي.
ونسأل الله جل وعلا أن يكون هذا الحوار وغيره خيراً ونفعاً وفائدةً، وأن يعيننا الله به على أنفسنا، وأن نتجرد فيه من ذواتنا، ومن أهوائنا، ومن حظوظ أنفسنا؛ لنكون أتبع لكتاب الله ولسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لبقية الأسئلة سنفرد لبعضها مع ما مضى درساً ننتقي فيه بعض هذه الأسئلة المهمة؛ لأنه وردت أسئلة مهمة، لكن يضيق الوقت عنها، وسنجمعها ونصنفها مع بعض الأسئلة الماضية لتكون إن شاء الله في إجابات واحدة.
نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/20)
العاطفة والدعوة
العاطفة جبلة بشرية جبل الله عز وجل عليها البشر؛ فينبغي للمسلم أن يجعل عاطفته على وفق ما شرع الله عز وجل، فلا يتساهل فيها حتى تصير ضعفاً وجبناً، ولا يزيد فيها حتى تخرج عن حدها، وليكن متوسطاً فيها، فخير الأمور أوسطها.(37/1)
أهمية العاطفة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
والصلاة والسلام على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: أيها الأخوة الكرام! (العاطفة والدعوة) هو عنوان الدرس الثالث والسبعين من هذه السلسلة من الدروس العامة، وينعقد في يوم الجمعة التاسع عشر من شهر الله المحرم عام أربعة عشر وأربعمائة وألف للهجرة النبوية، وهذا الموضوع من الموضوعات التي رأيت أن كثيراً من شباب الصحوة وأجيال الدعوة يتحدثون عن بعض ظواهره، ويسألون عن بعض مشكلاته وعوارضه، فأحببت أن أطرقه طرقاً يحيط بأصوله من الناحية النظرية والفكرية، ويلم كذلك بمشكلاته من الناحية التطبيقية العملية.(37/2)
العاطفة فريضة إسلامية
الأمر الثاني: أن العاطفة فريضة إسلامية؛ وذلك أن الإيمان مهيمن لا يقبل أنصاف الحلول، ولا يقبل منك أن تنطق باللسان، وليس هذا في حد ذاته كافياً في وصف الإيمان، فقد بين ذلك الله جل وعلا في شأن أهل النفاق فقال عنهم: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] ولا يكتفي منك أيضاً بمجرد الامتثال بالحركات والأعمال، فإن ذلك قد كان دأب المنافقين أيضاً؛ كما قال عز وجل: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]؛ فإن الإيمان شرطه أن يستولي على القلب، وأن يضرب أوتاده في أعماق النفس، ولا يرضى إلا أن يكون حاكماً على كل إحساس وعلى كل شعور وعلى كل خفقة قلب، وعلى كل خلجة نفس، فلابد أن تحكم بهذا الإيمان؛ لأن الإيمان يغير الإنسان من داخله، فيغير مشاعره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) فليس لك أن تحب كما شئت، أو أن تبغض كما شئت، أو أن توافق هوى نفسك، أو أسلوب تربيتك، بل إذا تغلغل الإيمان في قلبك وجدت هذه العواطف؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فهذا الحب المرتبط بالله عز وجل والمحبة المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة الأخوة الإيمانية بين أهل الإسلام كلها أمور إسلامية إيمانية من أخص خصائص هذا الدين ومن أعظم أركان هذا الإيمان، ولا يمكن أن نتصور إيماناً أو إسلاماً بدون تحققها الكامل، ولذلك ينبغي أن يعلم العبد المؤمن أن هذه الحقيقة ينبغي ألا تغيب عن باله مطلقاً.
ونصوص الكتاب والسنة في أمر المحبة لله عز وجل والمحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا الباب ليس هذا مقام الاستطراد في ذكرها وسردها.(37/3)
العاطفة فطرة بشرية
أهمية العاطفة تتضح من خلال أمرين اثنين: الأول منهما: أن العاطفة فطرة بشرية، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو العليم به، كما قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وكما قال سبحانه وتعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]؛ فإنه جل وعلا قد خلق الإنسان قبضة من طين، ونفخةً من روح، وجعل له عقلاً يفكر وعاطفةً تؤثر، وبين عقله وعاطفته أنزل له شرعاًَ يوجه العقل لئلا يشذ، ويحكم العاطفة لئلا تند، وبالتالي فإن طبيعة الإنسان وخصيصته البشرية أن العاطفة جزء أساسي فيه، بل جزء مميز له، فإن الإنسان في حقيقة الأمر مجموعة من العواطف، وكتلة من المشاعر؛ عنده حب متدفق، وقد يعتريه أحياناً بغض لا حد لمنتهاه في الانتصار للنفس، أو في تدبير الكيد لذلك المبغض، وكذلك عنده راحة وطمأنينة، ويعتيره قلق وهمّ، وأحياناً يكون في صورة من الأنس والانشراح، وأحياناً في وقت من التبرم والضيق، وكل هذا نوع من آثار أو صور العاطفة في نفس الإنسان.
والحق بأن الإنسان بلا عاطفة كجثة هامدة؛ لأن العضلات والجوارح والمفاصل في الجسم البشري ليست هي التي تعبر عن كنه الإنسان بقدر ما يعبر عنه عقله وعاطفته، لذلك نعرف اليوم بما يسمى بالرجل الآلي أو ما يطلقون عليه الكمبيوتر أو العقل الإلكتروني، فهذا إن تجاوزنا أنه عقل مفكر بهذه التسمية على إقرارنا لها إلا أننا لا نصف هذه الأشياء بأن لها عاطفة، بل هي عقل صرف إن تجاوزنا عن حقيقة العقل الذي يفكر ويغير وليس هو مقيداً تقييداً كاملاً، فالإنسان بلا عاطفة -كما يقولون- كأنه حجر أو كأن قلبه من صخر لا يتأثر، يرى الفواجع فلا يهتز له جسم ولا يخفق له قلب، ويرى المباهج والمناظر الجميلة فلا تفتر شفتاه عن ابتسامة، ولا تجد في عينيه بريق سعادة، إن هذا في حقيقة الأمر كتلة من صخر أو إسمنت ليس فيه أية مشاعر؛ ولذلك قال بعض الأدباء -مع التجاوز عن بعض ما في هذه الكلمة-: (من لم يطربه خرير المياه في الأنهار وحفيف الأشجار فليبك على نفسه؛ فإنه -كما يقولون- حمار.
يعني: منعدم المشاعر والأحاسيس.
والعاطفة أصلاً هي جزء رئيسي من تكوين الإنسان، وفطرة وجبلةٌ مما جبله الله عز وجل عليها.(37/4)
بعض الآثار الإيجابية للعواطف
وإذا عرفنا أن العاطفة في أصلها فطرة بشريه وفريضة إسلامية، فلنذكر الآثار الإيجابية للعواطف، أي: ليس على سبيل التفصيل على واقع الأعيان، وإنما في الجملة:(37/5)
الارتباط والتعلق بالمحبوب
الخامس: الارتباط والتعلق: وهذا من أظهر آثار العواطف؛ فإنك إن أحببت الله ارتبطت به، وتعلقت في شأن النبي عليه الصلاة والسلام وإخوانك المؤمنين، وشعائر هذا الدين، والارتباط والتعلق أمره بين لا يخفى على أحد، كما قال المحبون من قبل: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار ولذلك وقفوا على الأطلال، ووصفوا الخيام والجمال، وكل ذلك من أثر ذلك التعلق والارتباط، وكما قال قائلهم أيضاً: فلو قيل للمجنون ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبارٌ من تراب نعالها أحب لنفسي وأشفى لبلواها أي: كل شيء يذكر بذلك المحبوب ويصل به يكون به أُنس النفس وقرة العين.
وتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإن الأول هو الفطرة البشرية التي جاء بها هذا الدين، فليس هناك ترهبن ولا تبتل ولا انقطاع عن ملذات الحياة العادية البشرية، والثاني هو أن هناك محبة أسمى وهي التي يتحقق فيها الارتباط بالله سبحانه وتعالى، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بها يا بلال).
العاطفة المتدفقة تربط كل شيء يذكرها بالمحبوب وكل أمر يربطها به وكل سبب يعلقها به ويجعلها لا تنساه مطلقاً، ولذلك كان للذكر أثر في طمأنينة القلب، وحلاوته في النفس، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ولم ينسه مطلقاً، حتى إذا رأى الرؤيا في منامه فإذا به يراها متعلقة بهذا الأمر، فإذا أصابه مرض وصار يهذي بما لا يعرف إذا بهذيانه لا يذكر إلا المحب أو الحبيب الذي لا ينساه مطلقاً، ولذلك تجد هذه الآثار واضحة قوية، ولها أمثلة في جانب الخير وأمثلة في جانب الشهوة العادية، أو المتجاوزة للحد، وإن كان كثير من العلماء من أمثال ابن القيم وغيره جعلوا بعض أبيات المحبة التي ذكرها العشاق في المعاني الإيمانية في الصلة بين العبد وربه، واستشهدوا بهذه الأبيات في معاني المحبة الإيمانية بفروعها المختلفة، ولذلك كل هذه الآثار لها شواهدها في حياة الصحابة رضوان الله عليهم وفي حياة صدر الأمة عندما كان عندهم بذل وتضحية في سبيل هذا الدين، كما قال الشاعر: كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولها أزهارا لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي صنع الوجود وقدر الأقدارا ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا لقد كان هذا الحب الإيماني نصرةً وتضحية وبذلاً لهذا الدين، وكان هناك التعلق أيضاً كما جاء في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه مرةً وقد تغير لونه، فقال له: (ما بك يا ثوبان؟! فقال يا رسول الله! ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف ألا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أرآك أبداً، فنزل قوله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69])، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) وهذا كله دليل وشاهد على صدق تلك المحبة الإيمانية، كما وقع من خبيب بن عدي رضي الله عنهم لما جيء به ليقتل أو ليصلب فقيل له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ قال: (والله! ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ وأني جالس في أهلي) فقال أبو سفيان -وكان في ذلك الوقت على الكفر-: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
هذه هي العاطفة الصادقة إذا سارت في المشارب الإيمانية والمناهج الإسلامية.(37/6)
الرضا والقبول بشرع الله عز وجل
الأمر الثالث: الرضا والقبول بما يأتي من المحبوب: فإنك إن أحببت الله سبحانه وتعالى رضيت بقضائه وقدرة، وإن أحببت الله عز وجل رضيت بأن تمتثل أمره، وأن تجتنب نهيه، وإن أحببت النبي صلى الله عليه وسلم قبلت منه كل هدي وإرشاد، وإن أحببت إخوانك المسلمين أفسحت لهم في قلبك، وأعطيتهم من خلاصة مهجتك ومشاعرك ولطفك ولينك وسماحتك ورزقك، وإذا تحقق ذلك قبلت منهم ورضيت منهم بما قد يقع من تقصير، وغضضت الطرف عن بعض هفواتهم، وتجازوت عن بعض ما نبا من كلماتهم وغير ذلك من الأمور.
واستمع إلى قصة يوسف عليه السلام عندما قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] ولما كان السجن هو الذي يقيد الحرية ولا تقبل به النفس البشرية كان محبوباً عنده؛ لأن فيه العصمة عما حرم الله عز وجل؛ ولأن فيه المهرب من المعاصي إلى الطاعات ومن الخلطة الفاسدة إلى الخلوة الصالحة مع الله سبحانه وتعالى، فلما كان الأمر كذلك: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].
ونحن نسمع أيضاً في مجال الحب المعروف المشهور أن كل شيء في حبك يهون، وغير ذلك من العبارات التي نحفظها ونعرفها ويقولون له: قد أساء إليك، ويقول: كل إساءة منه مقبولة، قد أعرض عنك، فيقول: ذاك صد الإغراء لا صد الإعراض، وكلما قيل له أمر رضي به وأحسن له التبرير والتماس العذر، فأحرى بك أن تكون مشاعرك إيمانية إسلامية وترضى وتقبل على هذا الأساس المحبة والعاطفة وفق الضوابط الشرعية.(37/7)
الصبر والثبات
الرابع: الصبر والثبات: فكم تجد من تغلغل الحب في قلبه عنده من الصبر والثبات على أمره وعلى ما أحب من دينه وإيمانه ما لا يمكن أن يتنازل عنه أو أن ينكص على عقبيه أو يرتد على أدباره بعد إذ ذاق حلاوة الإيمان وارتبط بأخوة الإسلام، ولذلك كان بلال وخباب وغيرهما يلقون ما يلقون لا يصدهم ذلك عن دين الله، ولو لم يكن لهم ذلك التعلق القلبي لما ثبتوا ولما كانت لهم هذه الصور من الصبر الجميل الذي ثبتهم الله عز وجل به؛ لأن القناعة الفكرية لا تكفي، فقد تكون مقتنعاً بأمر ما فكرياً لكنك إذا اضطهدت في سبيله من الممكن أن تغير فكرتك أو أن تتنازل عنها أو أن تساوم فيها، لكن إذا خلصت الفكرة من العقل إلى القلب وامتزجت بالمشاعر، فإنه من الصعب أن يكون هناك تنازل عنها بل صبر وثبات عليها.(37/8)
البذل والتضحية
الأمر الثاني: البذل والتضحية: فإن من أعظم آثار العاطفة البذل والتضحية لمن خفق قلبك له بالحب، فإن أحببت الله عز وجل وأحببت رسوله صلى الله عليه وسلم وأحببت هذا الدين فإنك تبذل وتضحي في سبيل هذا الذي أحببته.
ونحن نعلم أن العاطفة أمر مشترك؛ فإذا وجهتها وجهةً صحيحة نلت الأجر والخير، وتدفقت عاطفتك في المجال الصحيح، وإلا فإن هذه العواطف أيضاً لها مشارب شيطانية أو شهوانية تسلك بها في غير ما أراد الله عز وجل لها، فاستمع على سبيل المثال إلى خالد بن الوليد رضي الله وهو يقول: (ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أحب إلي من ليلة شديد بردها ألقى فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله عز وجل).
إذاً: هذه المحبة دفعته إلى أن يجد لذته في ذلك البذل وتلك التضحية وتحقيق قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
وهذا البذل هو الذي ظهر في صورة حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فذاك أنس بن النضر رضي الله عنه يقول: (واها لريح الجنة؛ إني لأجد ريحها دون أحد).
والصور في ذلك كثيرة، والصور غير الإيمانية أيضاً كثيرة نراها في حياتنا وفي تاريخ البشرية عموماً؛ ألم نسمع عن المحبين الذين بذلوا أموالهم وتركوا وظائفهم واستهانوا بجاههم كله بذلاً وتضحيةً لمن يحبون؟(37/9)
قوة التأثير
أولاً: قوة التأثير: إن الكلمة وحدها مهما كان لها من شواهد وأدلة، ومهما كان لها من رصف وتنسيق لا تؤدي قوتها ما لم يكن ورائها قلب متحرق ونفس متحمسة يشعر الإنسان بنبض هذه المشاعر في كل حرف من هذه الحروف، فإذا كانت الكلمة حماسية كأنها لهب يتفجر، وإذا كانت الكلمة وعظية كأنها غيث يصيب أرضاً جدباء فيحييها من جديد، ويورق منها ما كان قد غارت عنه مياه الحياة.
وإذا تأملت في بعض الأمثلة والمواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجد هذه الصورة بينة واضحة، فقد وصُف عليه الصلاة والسلام بأنه إذا خطب كأنه منذر جيش؛ حيث كان يحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، ويظهر أثر انفعاله في هذه الكلمات، وكما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) إذاً: لم تكن تلك الكلمات تأثيرها بمجرد العلم؛ فإن كثيراً من العلم إذا فقد العاطفة لا يؤدي أي تأثير وإلا لكان اتصال الإنسان بالكتب كافياً في أن يقوم سلوكه، وفي أن يوقظ حماسه وهمته نحو الخير والصلاح.
وكذلك انظر إلى الموقف الذي كان في يوم حنين، فلما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم، ولم يقسم للأنصار رضوان الله عليهم، وجدوا في نفوسهم موجدةً، وقالوا: قد لقي محمد صلى الله عليه وسلم أهله وعشيرته.
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليهم وقال: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ ثم قال لهم: حدثوني بما عندكم قال في آخر الحديث: فبكوا حتى أخضلت لحاهم من الدموع) إذاً: للكلمة سر في العاطفة التي وراءها، وفي القلب الذي يخفق بمعانيه قبل أن ينطق اللسان بكلماتها وحروفها.(37/10)
أهمية ارتباط العاطفة بالعقل والشرع
وعندما نعرف هذه الآثار ينبغي أن ندرك أن العاطفة ينبغي أن يكون لها توجه أو تأثر بأمرين اثنين: العقل، ومن قبله الشرع، فلا بد أن نعرف أمر العاطفة بين الشرع والعقل.
إذاً: العاطفة لابد أن تكون مضبوطة بضابط الشرع، فلا حب لمجرد الشكل والمظهر واللون، أو لمجرد الألفة والميل، بل بموجب الأخوة الإيمانية وما سلف أن ذكرناه، والعقل كذلك قد يحتاج أن يحكم العاطفة؛ إذ العقل هو الذي يتلقى الشرع، ويقبل به، ويسلم له، ويكون أقدر على ترجيح المصلحة من العاطفة؛ ولذلك لابد أن تُحكم نزوات العواطف بنظرات العقول.
والعقل وحده لا يكون كافياً أيضاً في تفسير الأمور، وإذا أردنا أن نمثل فإننا نقول: للعقل القيادة، وللعاطفة الحيوية، فإنك لو تصورت قافلة فلابد أن يكون العقل هو قائدها، ولكن لابد له من حادٍ يحدو بها في الطريق؛ ليزيل عنها أثر عناء السفر، وليهيج عاطفتها نحو المسير، كما قال الشاعر: إذا نحن أدلجنا وكنت أمامنا كفى لمطايانا بذكراك حاديا فمثل هذا يهيج، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل أنجشه يحدو بالإبل، فإذا بها تتأثر بذلك الصوت الشجي، وتسرع وتتحرك، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام عندها خوفاً من تأثير ذلك الصوت: (رفقاً بالقوارير يا أنجشه!)، هذا كله يفيدنا أن الأمر متوزع؛ فعقل مستقل متجرد عن العاطفة نتيجته قسوة وغلظة وعاطفة منفلتةٌ عن ضابط العقل وخفة وطيش، وكأنما هي طفل صغير تعطيه الأعطية فيضحك، وتمنعه منها فيغضب، وقد تكون الأعطية فيها حتفه، وقد يكون في منعها مصلحته ونفعه، ولكنه لا يميز بعقله، ولذلك يغلب على الطفل أنه مندفع مع عاطفته ببراءة كاملة، وتغلب المرأة عاطفتها أيضاً في مواطن كثيرة، فلا يكون عقلها أحكم لتلك العاطفة ولا أضبط لها.
ولذلك في مسألة هذه العاطفة والعقل يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
يعني: إذا كان الجسم دولة، وهناك حكومة للدولة، وهناك انقلاب يقع بين العقل والعاطفة، فيقول: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
أي: عاد هو مستقلاً عن تأثر الهوى والعاطفة، أما إذا خضع العقل لسلطان الهوى والعاطفة فإنه يعود أسيراً لها، وتكون هي موجهة ومتحكمة في مساره، ولذلك تجد من يسمونه ويقولون عنه: إنسان عاطفي، أي: إنه ليس عنده إلا هذا القلب الذي يخفق محبة وميلاً وليناً إلى آخره، وليس عنده تلك القوة العقلية التي يبرز أثرها حتى تضبط مثل هذه الأمور.(37/11)
بعض خصائص العواطف
وأنتقل أيضاً إلى نقطة مهمة متعلقة بخصائص العواطف، وهي: قضية نمهد فيها لما يأتي من أمر الصلة المباشرة في صورة عملية بين العاطفة وممارسات دعوية: أول هذه الخصائص: أن العاطفة موجهة، بمعنى أنك لا تستطيع أن تقول إني أُحب فلاناً أو أحب شيئاً؛ ولكنني لن أتأثر أو لن تؤثر فيَّ هذه العاطفة، كلا! فطبيعة العاطفة أنها توجه، وأنها تدفع، وأنها تمنع، فليست هي قاصرة لمجرد الصورة الانطباعية، بل هي ذات تأثير موجه ومحرك.
الأمر الثاني وهو أخطر هذه الخصائص: أن العاطفة تتأثر بالظروف، أي بالزمان وبالمكان وبالأحوال حال الشخص وحال الآخرين من حوله، فقد ترى إنساناً متعلقاً بآخر متصلاً به محباً له، ثم لا يلبث بعد حادثةٍ أو ظرف أن ينقلب رأساً على عقب، وينقلب الاتصال إلى انقطاع، والمحبة إلى بغضاء، وترى صورة تذكرك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ولذلك من الصعب ضبط هذه العواطف وتربيتها، فليست هي قضية سهلة؛ لأنها متقلبة متأثرة.
والأمر الثالث الناتج عن التأثر والتقلب: أنك لا تستطيع أن تثق بعاطفة بمجرد كونها عاطفة ما لم تضبط بالشرع والعقل، فلا يمكن أن تثق بعاطفة؛ لأن العواطف تكون بحكم هذه المؤثرات، فلا يكون للعاطفة استقرار ودوام إلا إذا بُنيت على أساس عقلي، واستندت إلى أحكام ونصوص وأدلة شرعية، فالعاطفة التي لا تسند إلى شرع ولا تكون منضبطة انضباط عقلٍ مستندٍ إلى شرع لا يمكن أن تكون ثابتة، بل طبيعتها التقلب الذي لا يمكن معه أن تطمئن أو أن يكون هناك تلك العلاقات التي يبنى عليها كثير من الأعمال.(37/12)
حقيقة العاطفة ومقدارها
وأخيراً: العاطفة مجهولة لا يعرف كنهها ولا يمكن تقديرها، فلا يمكن أن تقول: إني أحب فلاناً بمقدار نصف كيلو والآخر بمقدار كيلو، ولا يمكن أن تضبط المشاعر بموازين محسوسة، فهي أمر -كما قد يعبر عنه- هلامي، وهذه الجهالة هي سر من أسرار خفائها وصعوبة التعامل معها، فإن لم يكن لنا رجوع إلى الأحكام الشرعية فإن أمر العاطفة يبقى ليس له ضابط، وكما يقولون: ليس لها خطام ولا زمام، ومن هنا جاء أمر خطير، وهو استغلال العواطف.
ومن أثر معرفة تقلبها: لماذا يغزونا أعداؤنا أو يؤثرون على وجه الخصوص في شبابنا بهذه العواطف، يلهبونها فتتحمس، ويغرونها فتتقدم؟ ولذلك تجد التأثير السلبي والاستغلال الرخيص لهذه العواطف عبر الصورة المتحركة في التمثيلية أو الفلم، وعبر الكلمة المهيجة في المواقف العاطفية كما يسمونها أو في الأغاني العاطفية وغير ذلك، وترى ذلك في القصص الذي يسمونه أيضاً قصصاً عاطفياً، كل ذلك تجد له استلاباً للعواطف الشبابية عموماً، وعواطف الفتيات على وجه الخصوص، فتجد بعض أولئك لا يتحرك إلا من خلال ذلك التأثير بهذه العواطف.(37/13)
بعض العوامل المؤثرة على العاطفة
ثم تنتقل أيضاً إلى صور أخرى أكثر في التأثير على العواطف من خلال ما يسمى بتحرير المرأة وتبرجها، ومن خلال الأمر الآخر الأخطر وهو الاختلاط، وكل ذلك ما هو إلا استغلال لهذه العواطف، ولذلك تجد كثيراً من هذه البيئات والشباب والشابات تسلط عليهم هذه العواطف وليس عندهم تربية إيمانية ولا توجيه إسلامي، فتجد أن هذه العاطفة ليست فقط تبعدهم عن الدين، بل تدمر حتى حياتهم ومستقبلهم، فتضيع -على سبيل المثال- مستقبلهم الدراسي، وتهدد مستقبلهم الوظيفي، وتقوض بنيانهم الاجتماعي، وكل ذلك كان سببه الانجراف وراء تلك العواطف عندما أُشعل سُعار الإغراء بها.
وكثير من المجتمعات تصبح وتمسي وهي تخاطب بنداء الغريزة وتهييج العواطف المتعلقة بالجنس والحب والغرام والهيام، وهذا أيضاً مكمن خطر ينبغي أن نعرف أن له صلة بالدعوة، ومعنى هذا: أن هذه العواطف لابد أن نعرف كيف عالجها وضبطها وأحكم توجيهها الإسلام؛ لأننا لا يمكن أن نعاتب الناس هكذا، ولا يمكن أن نقول: هناك شباب ليس لهم همُُّ إلا الحب والغرام، فنعتب عليهم، ونشجب منهم ذلك دون أن نعرف حقائق الأمور وطبيعة النفس البشرية، فالحب والعاطفة أمر فطري.
وثق تماماً أن أهل العلم والإيمان قد تكلموا في ذلك بما يبين أن أصل هذا الأمر قد لا يكون للمرء فيه خيار، وقضية ما يسمى بالحب من أول نظرة أو عبر الكلمة هو أمر أيضاً فطري قد يقع في كثير من الصور والأحوال، وقد ذكر ذلك ابن القيم في بعض كتبه وفي كتاب أخرجه لمثل هذه الأحوال.
وأقول: هذه كلها لابد أن نعرف أن لها آثاراً، لابد أن نعرف أن للصورة الحسنة آثارها، وللكلمة اللينة أثرها، وأن نعرف أن لكل عمل وأسلوب في التعامل تأثيره، فكيف يمكن أن تعتب دون أن تعالج؟ لو نظرت -على سبيل المثال في إيجاز سريع- إلى أحكام هذا الأمر في شأن هذه العاطفة على وجه الخصوص لرأيت أن هذا الدين العظيم قد منع الوسائل المفضية إلى إثارة الشهوة والغريزة وإلى تحريك هذه العاطفة دون أن يكون لها مسارها الصحيح، فالنظر قال فيه عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، والسمع قال فيه سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
والخلوة قال فيها صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، والشم قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة خرجت متعطرة ليجد ريحها فهي زانية)، وفي بعض الروايات: (تلعنها الملائكة حتى ترجع)، كل ذلك معرفة بطبيعة النفس البشرية، وأن هذا يؤثر فيها، كما قال بشار: يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقةٌ والأذن تعشق قبل العين أحياناً وكثيرة هي الصور التي تؤثر في هذا الجانب، ونحن ربما نعتب دون أن نعرف حقيقة هذه العواطف، فكيف يمكن لنا أن نتعامل مع شباب في ثورة الشباب؟ وكيف نريد أن ندعوهم وأن نوجههم دون أن نعرف الفطرة البشرية والمؤثرات التي فيها، وأن نحكم التعامل معها؟ فإن مجرد الإنكار لها والغض منها أو الهجوم عليها ليس كافياً في علاجها، بل ربما كان مؤدياً إلى مزيد استحكامها وقوة تأثيرها.
لنعلم أيضاً في هذا الصدد أن العواطف هي حركة الحياة، ومن ذلك أن العاطفة أو العواطف باعث على الحركة والعمل، فالإنسان يحب الامتلاك، ويحب أن يكون مؤثراً، وأن يكون له وجود في التغيير الفاعل في حركة الحياة من حوله، ولولا مثل هذه العاطفة لكان الناس ميتين خامدين لا يتحركون إلى عمل ولا إلى منقبة، بل يمكن أن يكونوا أمواتاً في صورة أحياء، والعاطفة هي التي توجد هذا الأمر.(37/14)
العاطفة باعثة على العلاقة والصلة بين الداعية والمدعو
ثم هناك أمر مهم آخر وهو: أن العاطفة باعث على العلاقة والصلة، ولو لم تكن هناك عاطفة لما كان هناك توجه الرجل للمرأة في تكوين أسرة، ولما وجدت تلك الشفقة والرحمة من الآباء والأمهات تجاه الأبناء، ولما وجدت عاطفة التقدير والاحترام من الأبناء تجاه الآباء والأمهات، ولما وجدت عواطف الصلات والمودة بين الناس التي تحكم لحمة الروابط بين المجتمع عموماً بغض النظر عن الناحية الإسلامية التي تزيدها قوة ورسوخاً وإحكاماً وتمكناً، وتعصمها من الخطأ والزلل التي تقع فيه العواصف بمجردها أو بمفردها.(37/15)
أسباب الخلل والنقص والتجاوز في العاطفة عند الداعية
ولكن الصورة التي فيها بعض الخلل أو النقص أو التجاوز هي التي يذكرها بعض الشباب، وهي أنها لها صور معينه أذكر بعضاً منها، وأشير إلى أسباب هذه الصورة: أولاً: التعلق الزائد عن الحد؛ فإن المحبة الفطرية أمر طبعي لا اعتراض عليه، ولكن عدم التيقظ قد يجعلها تزيد إلى أن تكون محبةً عاطفية بحتة، مثل محبة المحبين والعشاق.
ثانياً: الخلطة الزائدة؛ فبعض الناس أو بعض الشباب بحكم الدعوة لا يكاد يصبح ولا يمسي إلا وهو مع هذا المدعو؛ بحجة أن يقوم سلوكه أو يدعوه، وقد ذكرت في الأسس المنهجية أن منها: الاستقلالية لا التبعية، الحديث أن من الخطأ أن نكون مثل اللصقة التي لا تنفصم عن الجسم ليلاً ونهاراً، صبحاً ومساءً، فإذا غبنا عنه اتصلنا به، وإذا سافرنا اتصلنا به اتصالاً كأنا لا يمكن أن ننفصل عنه، فهذه الخلطة الزائدة أيضاً سبب من أسباب وجود تلك العلاقة التي قد يكون فيها مآخذ.
ثالثاً: عدم وضوح الهدف وقوة التربية عند الداعية؛ فإن هدفك من صلتك بكل إنسان هو هدف إنساني ترجو فيه الأجر لنفسك والخير لغيرك، فإن غاب عنك هذا الهدف تكون كحال الصياد الذي ذهب أن يصيد في البحر وهو يعلم أن هذا مصدر رزقه لكنه عندما ذهب أعجبته زرقة مياه البحر وانكسار الأمواج وانعكاس الشمس في غروبها وظلال الأشجار فجعل ينظر إلى هذه المناظر الجميلة، ويأنس بها، وربما يكتب الأشعار، ويدبج المقالات، ونسي الهدف الذي ذهب لأجله.
وهكذا قد ينصرف الداعية -سيما إذا كان في مقتبل العمر وأول الشباب- إلى لطافة وظرف وحسن هيئة وتأنق عند المدعو، فإذا به يعجب بهذا، وينسى ذلك الهدف الذي كان أساس تلك الصلة، ويلحق بذلك عدم قوة التربية في الداعية، بمعنى: أنه ليس عنده التربية التي تجعله يضبط عواطفه، ويعرف كيف يقوم ويسوس الأمور.
النقطة الرابعة: النواحي المادية الصرفة، وهذا أمر لابد أن نعرفه بوضوح وجلاء؛ فإن بعض التعلق قد يكون لما عند ذلك المدعو من مال، أو جاه، أو كذلك لما عنده من هيئة حسنة، ولا نعجب من ذلك؛ فإن سلف الأمة قد تكلموا في مسائل قد نعجب منها، أو قد يراها البعض بعيدة عن التصور، أو قد يظنها البعض منطوية على بعض التشدد، وليس من ذلك شيء، إنما هو معرفتهم الصحيحة بطبيعة النفس البشرية عندما كان العلماء يتحدثون -على سبيل المثال- عن الاختلاط أو النظر للأمرد أو كيف يكون جلوسه في مجلس العلم، أو غير ذلك مما ورد من الآثار في شأن وتصرفات سلف الأمة وبعض العلماء، مما يدل على أن الناحية المادية في الشكل والمعنى والمضمون لها أثرها؛ فينبغي للمرء ألا يغفل هذا.(37/16)
بعض الأمارات التي تدل على فساد العاطفة عند الداعية تجاه المدعو
وقد يسأل الشاب ويقول: كيف أميز علاقتي بالمدعو حتى أعرف إن كانت في المسار أو خرجت عن الإطار؟ فأقول: هناك بعض الملامح لعلك إن سألت نفسك عنها وصارحت نفسك بها وجدت الحل الذي يجعلك تنبته إن كنت قد وقعت في بعض الخطأ: أولاً: مدى لزوم استمرار الصلة، فما مدى ما في نفسك من لزوم استمرار الصلة؟ وهل أنت ترى أنه لابد ألا يمر يوم إلا وتراه، وألا تمر ساعة إلا وتتصل به، وألا يكون لك غرض في أن تذهب إلى مكان إلا وتصطحبه وترافقه؟ إذا كان هذا متأصلاً بقوة فاعلم أن هذا مظهر من المظاهر التي قد تعطي مؤشراً للتنبيه من الخطر.
ثانياً: عدم النصح في الأخطاء، وهذا معلم بارز، فعندما يخطئ هذا المدعو فالأصل أنك تنصحه، ولا أقول لك: أغلظ له في القول، ولا أقول لك: كن عنيفاً معه، لكن إذا لم تنصح لا تصريحاً ولا تلميحاً ولا بالحكمة ولا بالأسلوب الحسن، بل كان همك أو ديدنك غض الطرف فاعلم أنك قد وافقته في هواه، وأنك قد تغلغل بعض الحب في قلبك، فلم تعد تريد أن تغضبه، أو أن تكسر خاطره، أو أن تجرح مشاعره، أو أن تخالفه في رأي أو قول، فإذا أردت أن تذهب للنزهة في مكان وقال هو مكان آخر قد يكون فيه ما فيه فإنك لا تعارضه في ذلك.
ثالثاً: التبرير لكل خطأ أو لكل نقدٍ قد تسمعه من غيرك، إذ لا تكتفي بمجرد إقرارك بأخطائه، بل يقولون لك: إن فلاناً فيه اعتزاز بنفسه أو غرور، فتقول: لا؛ إن الله جميل يحب الجمال، ويقولون لك: إنه يفعل كذا وكذا، فتقول: إن طبيعة بيئته أو ظرفه كذا وكذا، فأنت هنا أيضاً تبرر أموراً كثيرة، ولا بأس أن تلتمس لأخيك الأعذار، لكن كثرة التبرير ودوامه مؤشر من هذه المؤشرات.
رابعاً: التأثر بالغيرة من الآخرين، فإنك إن رأيته صحب فلاناً انقبضت نفسك، وإن رأيته كان متأثراً أو معجباً أو مشيداً أو مادحاً بفلان لعلمه أو لحسن بلاغته أو لقوة تأثيره رأيت أن ذلك يشعرك ببعض الضيق أو التضرر، فاعلم أن هذه المؤشرات والصور كلها دلالات على أن المسار قد خرج عن الإطار المطلوب، فاضبط عاطفتك بضابط الشرع، ونظمها وقومها بالعقل الذي تخطط فيه لهذه الدعوة مع هذا المدعو، فتحكم في الأمر، وقل: سأفعل معه كذا، وسأعطيه كذا، وسأسأله عن كذا، وسأعالج فيه أمر كذا من خلال كذا وكذا، ولا تترك الأمر هكذا عبثاً ومجالس فيها ضحك وكلام ينتج عنها مثل هذه المواقف.(37/17)
عاطفة المحبة بين الداعية والمدعو
ثم أنتقل إلى لب هذا الموضوع وهو الذي يتعلق بصور من العواطف وصلتها بالممارسات الدعوية، وربما تنقلب العواطف إلى عواصف أو إلى قواصف في بعض الأحوال.
وسوف أتحدث عن عاطفة المحبة على وجه الخصوص في الصلة بين الداعية والمدعو، فنحن نعلم أن المحبة ابتداءً أمر إسلامي إيماني بحيث لابد أن يحب المرء أخاه، ولا شك أنه إذا اتصل بآخر ليوجهه وينصحه ويدعوه إلى الخير فإنه سيكون بينهما ارتباط واتصال أكثر، وهذا يعني أن تكون محبته له أعظم وأكبر، وهذا أيضاً أمر مسلم به.
ونحن نعلم أيضاً أن لهذه المحبة عندما تفيض في السلوك والتعامل مع المدعو أعظم الأثر في استمالة قلبه وإقناع عقله وتأثره بالداعية كقدوة يقتدي به في كثير من أحواله وسلوكياته.
ونعلم أيضاً أن لهذه العاطفة ولهذه المحبة ما يعين على أن تتقوم نفس المدعو تقويماً عاطفياً، فتتهذب نفسه، ويُكِن الخير للآخرين، ويضمر المحبة، ويلتمس العذر، ويُحسن الظن، فهذه كلها من الآثار الإيجابية للتعامل الأخوي الذي تسوده المحبة الإيمانية والأخوة في الله عز وجل، ولكن هناك ما قد نسميه تجاوزاً للحد أو زيادةً عن القدر المطلوب، وهذا لمسته في بعض الأسئلة التي يذكرها الشباب، فيأتي أحدهم ويقول: إن لي صلةً بفلان من الناس أو بأخٍ لي أو بجار، وأدعوه إلى الخير، ولكنني أشعر أن هذه الصلة ليست هي الصلة المطلوبة في الأخوة في الله، وأشعر أن هناك أمراً آخر ليس مندرجاً في هذا الإطار أو تحت هذا العنوان، وقد يجد الإنسان لهذا صوراً أذكر بعضها، لكنني أحب أن أشير أولاً إلى أن وجود المحبة العاطفية البحتة مع الأخوة الإيمانية ليس أمراً معيباً ولا معترضاً عليه؛ فإننا عندما نقول -على سبيل المثال-: إن أصدق وأعظم وأكبر محبة هي الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، فلا يعني ذلك: أن نتبعه متجردين من عاطفة الحب، فالمحبة الصادقة أننا لسنا نتبعه عليه الصلاة والسلام لمجرد الأمر والنهي، بل هذا أصدق أنواع الإتباع، ونؤيده ونجعل له استمراريته وحيويته وقوته أن قلوبنا تخفق بالمحبة الخالصة العاطفية له عليه الصلاة والسلام؛ لما له من عظيم الخلال وكريم السجايا والمنزلة العالية عند الله عز وجل والنعمة والفضل الذي أسداه لهذه الأمة ولكل فرد منها، وذلك عندما تريد من خلال هذه الأخوة أن توجه وأن تنصح فإنك لا يمكن أن تنفصل عن المحبة العادية الفطرية، بل هي قرينة لهذا.(37/18)
عاطفة الحماسة وأثرها على الدعوة
العاطفة الثانية وهي ذات خطب عظيم وكبير وهي: عاطفة الحماسة: وقد سلف لنا في حديث الهجرة وواقع الدعوة كلام يمس هذا الجانب في إطاره العام، فإن الحماسة عاطفة طيبة، وهي عاطفة الغيرة الإيمانية التي امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله! إني لأغير منه) وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يغضب لشيء إلا أن تنتهك محارم الله عز وجل فلا يقوم لغضبه صلى الله عليه وسلم قائم.
هذه العاطفة من النصرة للمسلمين والغيرة على هذا الدين والحمية ضد أعداء الإسلام والمسلمين عاطفة عظيمة جداً، وهي أساس من أساسيات قوة إيمان المسلم، ولكن هذه الحماسة قد تندفع فتطغى ويأتي من ورائها كثير من الأضرار والمخاطر.
وقد يقول قائل أيضاً في جانب آخر: لابد أن نضبط العاطفة الحماسية، ولابد أن نقيدها، ولابد أن نروضها، ويبالغ في هذا حتى يئدها ويقتلها، فنقول له: لا، نحن لا نريد للجمرة أن تنطفئ، لكننا نريد أن يبقى فيها بقية الجمر حتى إذا تدحرجت في الوقت المناسب أشعلت تلك الأوراق أو الأخشاب أو الهشيم أو الحصير الذي تلامسه، فتشعله، فيؤدي ذلك الاشتعال إلى المطلوب، لكن تلك الحكمة التي يزعمها بعض الناس ويريدون أن يطفئوا جذوة الحماسة، وأن يجعلوا أجيال الإسلام وشباب الدعوة راكنين إلى الدنيا مطمئنين إلى ملذاتها، يشربون بارد الشراب، ويأكلون طيب الطعام، ولا تتحرك نفوسهم غيرةً ولا غضباً ولا حمية لدين الله، لا في كلمة حماسيه ولا في غيرة إيمانية ولا في إنكار منكر، هذا ليس مطلوباً.
وفي الجانب الآخر ليس مطلوباً ذلك الاندفاع الذي يؤدي بالدعوة إلى المخاطر والمهاوي فيما يتعلق بمواجهة الأعداء أو بظروف الضغط والاضطهاد والتعذيب والمطاردة والملاحقة للدعوة والدعاة، فإن للمسلم أموراً كثيرة: أولها: أنه منضبط بضابط الشرع؛ فليس هو متصرفاً بردود الأفعال، وليعلم ما قاله الصحابة في بيعة العقبة للنبي عليه الصلاة والسلام: لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلةً واحدةً لفعلنا، فقال: (كلا! فإنا لم نؤمر بذلك)، وليعلم كيف روض النبي صلى الله عليه وسلم تلك العاطفة المتدفقة في عمر رضي الله عنه يوم الحديبية لما قال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟)، إنها عاطفة صادقة لم ينكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعبها على عمر، ولكنه قال: (إني رسول، وإنه لن يضيعني) فذهب إلى أبي بكر ليرى رجاحة العقل واستقرار النفس، وقال له مقالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر: (الزم غرزه؛ فإنه رسول الله)، ذلك هو الفرق بين رجاحة العقل وسكون النفس عند أبي بكر؛ فلم تجمح به العاطفة ولو في إطارها المقبول.
وتلك العاطفة المتدفقة من عمر رضي الله عنه لم تنطلق من إيثارها، بل رجعت على أعقابها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد وقع في نفوس الصحابة أمر عظيم يوم الحديبية، ولست في صدد ذكر الأحداث، ولكن لما جاء أبو جندل يرسف في قيوده، والمسلمون على بعد خطوات منه، وهو يستنجد بهم ويصرخ، ويريد أن يلتحق بهم، وأن يخرج من هذا الاضطهاد، وهم الذين خاضوا المعارك، وضحوا بالشهداء، ويرون هذا المظهر أمام عيونهم، لكنهم ينضبطون، ويلتزمون حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقع في نفوسهم أيضاً أنهم عندما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا من عمرتهم فلم يستجيبوا في أول الأمر لما كان قد خالط القلوب والنفوس من همّ وغمٍ وكرب وضيق، فلما عمل النبي عليه الصلاة والسلام بمشورة أم سلمة فحلق ابتدروا يحلقون، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، أو حتى سالت دماء بعضهم رضوان الله عليهم أجمعين.
فإذاً: لابد لهذه العاطفة المتأججة في الشباب ألا تستفز، وأن نعلم أن أعداء الدعوة يريدون لها أن تستفز، وأن تخرج عن إطارها، ليشوهوا صورة الدعاة، ويروا الناس أنهم متهورون، وأن تصرفاتهم هوجاء، وليست الحماسة المندفعة في التصرفات، بل في الكلمات؛ فأنت تسمع من الكلمات ما قد يكون أفتك وأخطر وأكثر هولاً من الأفعال؛ لأن الكلمات فيها أحكام، ولنا مع الكلمة جولة -إن شاء الله- كما سأذكر في آخر الحديث.(37/19)
أسباب الحماسة التي تخرج عن الإطار الصحيح
ما أسباب تلك الحماسة التي قد تندفع وتخرج عن الإطار؟ أسبابها: السبب الأول: الدافع النفسي؛ إذ في النفوس حمية لقطف الثمرة وتحقيق الفكرة، فإذا اقتنعت بفكرة فإنني أحب أن تتحقق الفكرة قبل أي وقت آخر، وهذا طبع بشري.
السبب الثاني: الحرارة الإيمانية، فالإيمان هو الذي يذكي حماسة القلب والنفس، ويريد لها أن تندفع، ولكن إذا تمعن فليعلم وليتذكر قول الله عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، فليس المسلم بالذي يستجيب للعاطفة دون هذا الضبط.
السبب الثالث: واقع أعداء الدعوة الذين يحكمون قبضتهم على كثير من مقدرات المسلمين، وليس في بلاد الكفر فحسب، بل وفي بلاد الإسلام والمسلمين، فأنت ترى القبضة محكمة في إطار الحكم والسياسة، وفي إطار التربية والتعليم، وفي إطار الدعاية والإعلام، فقلَّ أن تجد في كثير من بلاد الإسلام نصرة للدين والدعوة، بل على العكس تجد في كثير من ممارساتها حرباً على الدين والدعوة، وهذا يستفز المشاعر أيما استفزاز؛ إذ كيف نكون في بلد إسلامي وإذا بصحف في تلك البلاد، أو مشاهد في إعلامها تعلن الكفر الصريح دون أن يسمح لمعترض أن يعترض أو لمنكر أن ينكر؟! إن ذلك قد يكون أحياناً أكبر مما تحتمله بعض النفوس التي لم تروض ولم تربَ التربية الكافية.
السبب الرابع: الجهل بأساليب الكيد التي يخطط لها الأعداء ويمارسونها؛ فإن لهم أساليب ملتوية وخبيثة يريدون من خلالها أن يوقعوا الدعاة والشباب منهم على وجه الخصوص فيما لا تحمد عقباه.
السبب الخامس: كثرة المنكرات التي تواجه الشباب في كثير من الوقائع العملية سماعاً ونظراً وقراءةً وفي كل الصور.
السبب السادس: ضعف النفوس عن طول الطريق؛ فإن الطاقات تختلف، فلو تصورت أن الدعوة عبارة عن حمل ثقيل فهناك أصحاب أجسام قوية وعضلات فتية يمكن للواحد منهم أن يحمل ويسير ما شاء الله له أن يسير ولا يتعب، ومنهم من يمشي بعض خطوات أو قليلاً من الطريق ثم يقول: لابد أن أتخفف، وأن أنطلق لأبلغ المراد من غير هذا الطريق.
السبب السابع: عدم وجود القدر الكافي من التخطيط الدعوي الذي يستوعب طاقات الشباب، فلا يئد حماسهم، ولا يجعلهم يبردون ويسكنون وتموت نفوسهم وهممهم، كما أنه يجعلهم ينفقون هذه الطاقة في ميادين عملية تحقق إيجابيات للدعوة ولهذا الدين، ويدركون من خلالها أن جولتهم مع الباقين يمكن أن تكون طويلة المدى، وأن تحقق بعض النجاح في جانب ثم في آخر ثم في ثالث، وإذا بالجولة بعد ذلك تتكامل انتصاراتها، وتؤدي ثمرة من الثمار المرجوة.
السبب الثامن: عدم الخبرة الكافية والتجربة والنظر في التجارب الواقعية في الحياة الإسلامية، وهناك من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام دروس كثيرة كلها عبر، لكن في الواقع الدعوي المعاصر دروسٌ كثيرة لما جره الحماس غير المتزن بضابط الشرع ولا بنظر المصلحة على الدعوة والدعاة.
السبب التاسع: الغفلة عن سنن الله عز وجل في طبيعة التدرج وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، وكما يقولون: قد ينتصر الباطل في جولة وجولة، ولكن الجولة الأخيرة ينبغي أن يكون يقيننا أنها للحق، وأن العاقبة للمتقين: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق فلابد أن ندرك أن الأمر في ختامه لهذا الدين، وأن النصر لأهله، والبشارات في ذلك معروفة مأثورة مذكورة؛ فينبغي ألا نخرج عن إطارها.
السبب العاشر: وهو الذي أختم به: عدم الفقه في الدين علماً بالشرع وتنزيلاً له على الواقع، فإن بعض الشباب يأخذ النص وينزله إنزالاً بعيداً عما فهمه أهل العلم، بل عما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من العلماء الذين عرفوا أن للأحكام تغيراً بتغير الظروف والأحوال والأشخاص، وأن هناك مراتب للأحكام: فهناك واجبات، وهناك سنن ومندوبات، وهناك محرمات، ودونها مكروهات، فلا ينبغي التسوية هكذا بين الأمور على عجلة دون روية، وهذه أيضاً مشكلة من المشكلات.(37/20)
الغيرة وأثرها على الدعوة
والثالثة التي نختم بها حديثنا بعد المحبة والحماسة: مسألة الغيرة: وهذه للأسف أيضاً مشكلاتها كثيرة، وأعني بها غيرة التنافس في ميادين الدعوة، فإن بعض الدعاة قد يغار أو يغضب من إخوة له يحبون الخير، ويسعون له، ويسيرون في طريقه، ويرغبون الناس فيه، لكن اجتهادهم يخالف اجتهاده، فإذا رأى الناس أقبلوا عليهم دونه أو اقتنعوا بفكرتهم وأسلوبهم دونه إذا به تشتعل في نفسه غيرة هي عاصفة في الأصل قد تكون محمودة إذا أخذناها على غرار التنافس في طور قول الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وهكذا إذا أخذناها على أنها تكامل لا تصادم، وتعاون لا تراشق، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكن في التحريش بينكم)، وإذا بهذه الغيرة تتحول إلى نوع من البغضاء أو الشحناء، وتؤدي إلى صور كثيرة نراها في بعض الواقع الدعوي، في صور من الواقع الدعوي لا تخطئها العين.
من هذه الصور: التنافر والبعد، ونحن نعلم أن المسلم أخو المسلم، وينبغي أن تربط بين المسلمين أخوة الإيمان، فإذا كان أولئك المسلمون دعاة، فأمر أخوتهم ومحبتهم ينبغي أن يكون آكد وأقوى، فما بالنا نرى عوام الناس من كبار السن من آبائنا وإخواننا الكبار أو أجدادنا وأمهاتها من العجائز في قلوبهم من الصفاء والألفة والمحبة ما نفتقده بين شباب نذروا أنفسهم للدعوة، أو نصبوا أنفسهم للدعوة، أو رفعوا راية الدعوة؟! إنه أمر لا يمكن أن يكون مقبولاً في ميزان الشرع ولا في منطق العقل.
والصورة الثانية: مرحلة أخرى وهي: التحذير والتشويه، حيث لا يكتفي بأن ينفر منهم، بل يحذر الآخرين منهم، ويشوه صورتهم، وهذا لا شك أنه فساد في الطوية واختلال في النية، وسأذكر بعض الأسباب التي تبين هذا، لكن هو يشكل صورة لنفسية مريضة لم تتغذ بغذاء الإيمان، ولم تتطهر بطهارة الإسلام.
الصورة الثالثة: تجاوز الحدود الشرعية في أمر ذلك التحذير أو النفرة أو التعامل عموماً، فإذا به يستخدم التورية كما يزعم ليصرف الناس عمن يزعم أنه على باطل، ثم إذا بالتورية تغدو كذباً صريحاً، بل يتجاوز الأمر إلى إحكام الكيد وتدبير المؤامرات وتلمس العيب وتتبع الأخطاء، وتجاوزات شرعية ليس لها آخر كما يقولون.(37/21)
بعض أسباب الغيرة السلبية
وأذكر في هذا الصدد الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة: فأول هذه الأسباب التي تحمل على هذه الغيرة: عدم قوة ورسوخ التربية الإيمانية: إذ المؤمن الذي يتربي على خلال الإسلام وآداب هذا الدين يعلم أن أمر المحبة في الله عز وجل يقضي بألا يكون هناك هذا التنافر وتلك البغضاء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) وبدأ في هذا الحديث بقوله (إن الظن أكذب الحديث)، أي: مجرد الظن السيئ الذي تسيء به إلى أخيك؛ فإن هذا الظن يورث في النفس نوعاً من النفرة، ويزرع بذرة من بذور البغض ليس هذا محلها ولا مكانها.
الأمر الثاني: عدم استحضار طبيعة الواقع الدعوي: انظر إلى المجتمعات الإسلامية كم ترى فيها من الملتزمين شرع الله! وكم ترى فيها من الدعاة! وكم ترى فيها من العلماء! ترى قلة، وأنت تريد أن تجعل هذه القلة بصنيعك أقل من القليل؛ حيث إنك تفرق صفها، وتشيع الفرقة بينها، وتشوه صورتها، لينفر الناس عنها ومنها، وإذا بك في حقيقة الأمر تسيء إلى الدعوة، ولا تستحضر أمر المواجهة والكيد الذي يحاك ويوجه للدعوة والدعاة على اختلاف اجتهاداتهم وتصوراتهم.
إن واقع العصر اليوم يدلنا على أن المسلم يُعادى ويكاد له ويضطهد لمجرد كونه مسلماً ولو كان مسلماً بالاسم، فكيف إذا كان مسلماً يعرف إسلامه، ويلتزم شرع الله عز وجل، ويدعو إليه، ويريد أن يحيي موات هذه الأمة، وأن يرفع راية الجهاد فيها؟ فإذا كان الدعاة على هذا القدم فإنهم ألد الأعداء وأعظم الخصوم بالنسبة لمن يحاربون هذا الدين، فإذا كنت أنت بهذه الغيرة المنحرفة تساهم في ضربهم أو تشويههم فإنك كأنما أخذت معول الأعداء لتريحهم من بعض العناء، وعندما سمع بعض السلف أحدهم يجرح أخاً له قال: هل قاتلت الترك؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الروم؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الهند؟ قال: لا، قال: أفيسلم منك أهل الروم، والترك، والهند، ولا يسلم منك أخوك المسلم؟! عجباً لأولئك؛ لم يسلم المسلمون من ألسنتهم، ولم يسلموا أيضاً من التخطيط الذي يبدعون فيه ويبذلون فيه جهدهم لحرب إخوانهم، وهم ليس لهم في مواجهة الأعداء أي جهد يذكر، وبالتالي فهم في هذا يساهمون في هذه الخطورة العظمى.
ثالثاً: الأمراض النفسية من الكبر أو حب الذات والأنا أو الغرور: فإن بعضاً من أولئك فيهم علل مستعصية وأمراض سرطانية تحتاج إلى استئصال، وما لم تستأصل فإن نفس الواحد منهم تدفعه وتدعوه إلى مثل ذلك السلوك.
ومن ذلك أيضاً وهو سبب مشترك: عدم الفقه والعلم: فتراه يقول: الحق أحق أن يتبع، ويقول: لابد أن أهجره في الله، ويقول: لابد أن يكون هناك مفاصلة.
فعجباً كيف توقع الأمور في غير موقعها، وتنزل النصوص في غير ما هي منطبقة عليه؟! فإنك تجد أنه بمجرد اختلافه مع أخيه في رأي واحد أو في مسألة واحده بدعّه أو فسقه، ورأى أن من الواجب الشرعي أن يهجره، بل من الواجب الشرعي أن يحاربه! وهذا فقه سقيم وجهل مركب كما يقال.
فهذه بعض تلك الأسباب لانحراف الغيرة عن واقعها الصحيح، وبالجملة فإن هذا الانحراف العاطفي واقع في صفوف الدعوة وشبابها، وإحكامه يكون بالتربية الإسلامية والعلم الشرعي والإدراك الواقعي والقيادة الراشدة؛ ولنعلم أن من تسمع له الكلمة من العلماء والدعاة والخطباء مسئوليتهم مضاعفة، فينبغي ألا يكونوا سبباً في توسيع شقة الخلاف، أو إذكاء نار التباغض أو التحاسد أو غير ذلك، وينبغي أن يعلم كل مسموع الكلمة أن كلمته يطيرها عنه المطيرون، وينقلها عنه الناقلون، ويفهمها عنه الفاهمون وغير الفاهمين، وهو في آخر الأمر يدرك مثل هذا، لكنه للأسف لا يلقي له بالاً.
فإذا كان هناك شباب صغار فإن لهم كباراً، ولو توقعنا أنهم أخطئوا فلنا أن نغض الطرف عنهم، أو أن نعتذر لهم بجهلهم، لكنهم إن رجعوا إلى من يستشيرونه أو يقتدون به فوافقهم على خطئهم أو شجعهم عليه عرفنا أن تركيبة عقولهم وأن صيغة تربيتهم مبنية على أساس خاطئ، ويكون الأمر حينئذ أكبر وأخطر، فالصغير أو الجاهل يغتفر منه ما لا يغتفر من غيره.
فهذه بعض المعالم والملامح المتعلقة بأمر العاطفة والدعوة، وأسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.(37/22)
الأسئلة(37/23)
كيفية الإقلاع عن الذنب لمن يتوب ثم يعود
السؤال
هناك شخص يواقع -نسأل الله عز وجل السلامة- الزنا، ونذر ألا يفعل، ثم عاد، فماذا يفعل؟
الجواب
مطلوب منه أن يقلع عن المنكر بنذر أو بغير نذر؛ فليست المسألة في أنه نذر أو لم ينذر، ولكن مثل هذا الأخ مشكلته أنه لم يكن حاسماً في إقلاعه عن الذنب، ولا مغيراً للبيئة التي تدعوه إليه، ولا كاشفاً لستره عند من يثق به من إخوانه حتى إذا نازعته نفسه عرف أن هناك من يعرف أمره من إخوانه، فيستطيع أن يجابهه، وأن يصارحه، بل ربما أن يصده ويردعه، وقبل ذلك وبعده عليه أن يدعو الله عز وجل بأن يعصمه، وأن يصرفه عن هذه المعاصي، وأن يقذف في قلبه حب الخيرات وبغض المنكرات.(37/24)
أهمية استغلال الأوقات في الأمور النافعة
السؤال
بعض الشباب الملتزمين يطيلون المزاح ومشاهدة التمثيليات المباحة، ولا يكثرون الأذكار ولا يتناصحون، فما توجيهكم.
؟
الجواب
هذه من المشكلات الواقعة، وهي كثرة الترخص وقضاء الأوقات فيما لا نفع فيه، وقد ذكر ابن القيم أن مجالس الإخوان على ثلاثة أنواع، ثم مدح منها نوعاً وذم اثنين، ومن الأنواع المذمومة: أن يكون الغرض من تلك المجالس مجانسة الطبع وموافقة الميل وضياع الوقت وتكرار الأحاديث دون أن يكون هناك فائدة، وهؤلاء الإخوة لو استشعروا قيمة الوقت وعظمة المسئولية وخطورة الواقع الذي تمر به الأمة لما كان لهم مثل هذا، ولما ترخصوا، ولو ذكروا سير السلف الصالح لعرفوا كيف تكون الأمور.
وأختم هذا بموقف للإمام أحمد: عندما كان في زمن الفتنة والمحنة وجاءه أبو سعيد الواسطي يسهل له، ويقرب له الترخص، وقال له: إن لك أبناءً، وإن لك زوجة، وإن لك كذا، فماذا قال له الإمام أحمد رحمة الله عليه؟ قال له: إذا كان هذا عقلك فقد استرحت.
فإذا كان شباب الدعوة أو جيل الصحوة يهمهم ويرضيهم أن يقضوا الأوقات في الكلام والضحك، دون أن يكونوا على قدم جدٍ وعمل ويرضون بهذا فقد استراحوا.
وأصحاب العقول المستريحة ليسوا ممدوحين، لأن المجانين هم أعظم أصحاب العقول المستريحة؛ لأنهم لا يفكرون في شيء، ولا يحملون هماً، ولا يلتمسون سبيلاً ولا طريقاً لأي عمل نافع أو صالح.
فلذلك أوجه الإخوة من الشباب على وجه الخصوص: أن يربئوا بأنفسهم عن الوقوع في مثل هذه الأمور التي لا تليق بوصف المسلم فضلاً عن الملتزمين، فضلاً عن الداعية، فضلاً عن المجاهد.
والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يجعلنا جنداً في سبيله مجاهدين، ودعاةً لدينه مخلصين، وعبادً له مخبتين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(37/25)
الضوابط في التعامل بين الداعية والمدعو
السؤال
حبذا أن تذكر لنا بعض الضوابط في التعامل بين الداعية والمدعو إذا كان الداعية حسن الهيئة، أو أمرد، أو غير ذلك مما قد يوجد بعض المشكلات لدى بعض الشباب، وقد يتسبب في وجود مخالفات محظورة؟
الجواب
قد ذكرت هذا الأمر على وجه الخصوص، وبينت أو نصصت عليه؛ لأنه واقع، فأول علاج: أن نعرف المشكلة، وأن نسلم بوجودها، فالمشكلة التي يقع فيها بعض الشباب أنهم يغالطون أنفسهم، ويلبسون الخطأ ثوباً من الصواب، فيجعلون بعض تلك الممارسات تحت شعار الأخوة في الله، وتحت إطار التلطف الذي يستميلون به قلب المدعو ليؤثروا فيه إيجابياً؛ ليمتثل ويستجيب لأمر الخير والإصلاح، وهذا هو مكمن الخطر، فينبغي معرفة الآتي: أولاً: لابد من معرفة الخطأ والمصارحة فيه.
ثانياً: لابد من معرفة الأسباب والامتناع منها، وقد ذكرت منها: كثرة الاختلاط، والتجاوز عن النصح، والتماس الأعذار، والتبرير الدائم، والغيرة من الآخرين، فتفقد نفسك لئلا تقع في هذا المحظور؛ إذ الوقوع يكون له مقدمات وبدايات ثم يستحكم، فإذا أدركته من البدايات سهل أمر العلاج له.
ثالثاً: لابد أن يستفيد الإخوة من بعضهم البعض، وأن يكون بينهم مصارحة، وهنا يقع أيضاً لون من ألوان التقصير الذي ينبغي ألا يكون، فداعية يرى أخاه ربما يمارس أو يقع في خطأ في هذا الجانب، فيمنعه الحياء أو الحرج أن يلفت نظره إلى بعض الممارسات التي قد تكون لها بعض المحاذير أو الأخطار، فإن أمر الحياء ينبغي ألا يمنع من إحقاق الحق وإبداء النصح، فلو كان الإخوة فيما بينهم متناصحون لمنع ذلك من وقوع هذا الأمر.
والأمر الذي بعده أمر القيادة الراشدة الواعية؛ فإن الأخ من الشباب لابد أن يكون له من يستنير برأيه، ويرجع إليه أو يطلب مشورته، فهذا ينبغي أن يكون دقيقاً بصيراً، وأن يعرف طبائع النفوس، وطبيعة سن الشباب، فلا نغفل مثل هذه الجوانب، ولا يقل أحد: إن الشاب مادام ملتزماً أو مصلياً فمعنى ذلك أنه يعصم من الخطأ أو يعصم من تأثير العواطف والغرائز، فهذا أمر غير مقبول ولا واقع في الجملة، فهذا ربما يشير إلى مثل هذا الأمر.(37/26)
محبة أهل المعاصي
السؤال
أحد زملائي في العمل يقول لي: إنه يحبني في الله، وهو تارك للصلاة، وأريد أن أرد عليه، فكيف تكون المحبة لله؟
الجواب
معروف أن المحبة لله تكون بضابط الشرع، لكن لا يعني أنه إذا كان عاصياً أنه يبغض بالكلية، بل كما قال أهل العلم يحب في الله عز وجل لأصل الإيمان ولما هو عليه من الخير، ويبغض بقدر ما هو واقع فيه من المعصية.(37/27)
الرد على من يستدل بحديث: (ساعة وساعة) في فعل المعاصي
السؤال
الشباب تميل عواطفهم نحو مشاهدة الأفلام، وسماع الأغاني، وضياع الأوقات، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة)، فما تعليقكم؟
الجواب
ساعة وساعة المقصود بها: ساعة مشروعة وساعة مشروعة، وليس ساعة مشروعة وساعة ممنوعة، وليتها حتى في الواقع العملي ساعة وساعة، ولكنها ربع ساعة وألف ساعة، وكثير من هذه الأمور يعلم قائلها أنه غير محق فيها، وإنما لأنفسهم يمهدون، أو يريد أن يسلي عن نفسه، أو أن يخفف وخز الضمير وتأنيب النفس له على هذه المعاصي، فيريد أن يخفف ذلك ببعض هذه الأعذار، وهذا قد يكون -إن شاء الله- بشارة أو دلالة على أن فيه خيراً ما دام يقول: إن هذه ساعة قد تكون منشطة أو مرفهة، لكن ينبغي أن نعلم أن الضابط الشرعي: أنه لا يمكن قبول شيء ما دام داخلاً في دائرة المنهي عنه أو المحرم.(37/28)
كيفية دعوة أصحاب المعاصي
السؤال
لي أخ يصلي بعض الفروض، ويسمع الغناء، وينغمس في بعض المعاصي، فهل ابدأ أدعوه أم أبدأ بشباب الحارة، أم كيف الطريقة التي أدعوه بها.
مع العلم أنه أخي الأكبر؟
الجواب
المعصية لا تمنع من الدعوة، بل تجعلها آكد وأوجب، فإن المستقيم من الناس والملتزم منهم والمسابق إلى الخيرات حاجته إلى النصح والوعظ أقل، والعاصي هو الذي يحتاج إلى جهد أكبر وأعظم وإلى استعداد وتهيئة، فلابد أن نعلم أنه لابد أولاً أن يشعر الإنسان بخطورة ورداءة وضرر الأمر الذي يمارسه، ثم أيضاً أن نحل محل المنكرات الأشياء المعروفة والخيرة والصلاح؛ حتى لا يبقى هناك الفراغ الذي قد يجعل العاصي يعود مرة أخرى إلى تلك المنكرات.
وقد جاء مرة سائل ممن يسمعون الغناء يسأل عن حكم الغناء؟ فأجابه المسئول إجابة فيها بعض الحكمة؛ حيث قال له: هل أنت تقوم في أداء الفرائض والصلوات في الجماعات؟ وهل تؤدي دورك في تجاه أسرتك وأبيك وأمك، وهل تفعل كذا؟ وهل تفعل كذا؟ وهل تفعل كذا؟ ثم قال له: إذا انتهيت من هذا كله وبقي عندك وقت لسماع الغناء فسل عن حكمه، أي: أنك لابد أن توجه إلى وجهة نظر تلفت نظر السامع، وتجعله يشعر برداءة موقفه وممارسته، وأن المأمول منه والمرجو فيه غير ذلك، وأن هناك من الواجبات والأعمال ما ينتظر منه غير الذي هو فيه، حتى إذا قارن هذه المقارنة ربما يصيبه بعض الحياء والخجل من هذا الموقف.(37/29)
العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر
لله تعالى نفحات، ومواسم يتعرض فيها لعباده؛ كي يتزودوا منها بالطاعات، ويغسلوا عنهم الآثام والخطيئات، ومن تلك المواسم والنفحات الأيام العشر الأخيرات من شهر رمضان المبارك، وقد كان السلف الصالح أول المسارعين والمسابقين في اغتنام هذه الفرص، والتزود منها بكل وسيلة تمكنهم، حتى ضربوا أروع الأمثلة، وكانوا خير من يقتدى بهم، حتى إن القارئ لسيرهم ليخيل إليه أنه يقرأ قصصاً من نسج الخيال، وما كان ذلك ليخطر له على بال، جعلنا الله من أتباعهم، وحشرنا في زمرتهم.(38/1)
حال السلف في العشر الأواخر من رمضان
الحمد لله جلت عن الوصف عظمته، ووسعت كل شيء رحمته، جعل في شهر رمضان فتحْ أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وخص العشر بليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، أفاض النعم، وضاعف بفضله الحسنات، ومحا بعفوه السيئات، وأفاض بجوده البركات، له الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسموات كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، علم التقى، ومنار الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فموضوعنا (العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر) نتأمل فيما كانت عليه أحوال أسلافنا، ما الذي كان يشغل عقولهم، وما الذي كان يداعب آمالهم، وما الذي كان يشحذ عزائمهم، وما الذي كان يسهر ليلهم، ويضني نهارهم، ويفطر أقدامهم، ويجعل كأمثال ركب المعزى على جباههم، وما الذي كانوا يملئون به الليالي العشر، وما هي الأحوال في أيامنا هذه.
علنا ندرك أننا في حاجة إلى أن نسترد عقولنا المغيبة، وأن نرجع نفوسنا اللاهية، وأن نحيي قلوبنا الغافلة؛ لأن في أحوالنا من العجائب ما يستدعي النظر في أفعال أصحابها، وهل لهم عقول أو قلوب في صدورهم.
فنريد أن نتأمل هذه الأحوال، وأن نرى بعض تلك المفارقات العجيبة، فنقول: إذا ذهب من رمضان عشرون يوماً يكون قد مضى الثلثان وبقي الثلث، والثلث كثير، وفيه خير وفير، وحسبنا من عشره الأخير أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي تنزل فيها الملائكة بكل أمر، والتي فيها السلام والخير حتى مطلع الفجر.
أليس هذا جديراً وحرياً بأن يكون لنا معه شأن آخر كما كان شأن أسلافنا، وكما هو شأن كل مؤمن حي القلب يقظ الفكر حريص على الخير مقبل على الطاعة عالم بما ينبغي لكل حال وزمان بما يناسبه ويلائمه؟! إنه من الجهل والحمق أن تلبس الثياب الخفيفة في وقت الشتاء والزمهرير، وأن تلبس الثياب الثقيلة في وقت الحر الشديد، فكيف بنا نجعل اللهو والصفق في الأسواق والغناء والعبث والشراء وغير ذلك في الأوقات والليالي التي جعلت للعبادات والطاعات وغير ذلك مما نعلم.
إنها معارضات لابد من ذكرها ولابد من إعادة القول فيها، ولابد من جعلها دائماً تصب في كل سمع، وتخاطب كل عقل، وتنبه كل قلب ونفس، وإذا تأملنا لوجدنا ما كان عليه أسلافنا، تغلق الأسواق، وتفتح المساجد، ويهجر النوم فلا يكون هناك نيام، وإنما يحيا الليل بالذكر والقيام.
كانوا -كما ذكر ابن جرير - يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر، كان يفعل ذلك أيوب السختياني رحمه الله، وكان يفعله الإمام مالك فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان، وكان غيرهم يفعل مثل ذلك.(38/2)
حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان
تأمل ما كان عليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر، فإنا نجد أن العبارات والأحاديث التي رويت في هذا ليس فيها كثير كلام، وليست من الأحاديث الطويلة مطلقاً، ولكنها أوصاف أَجملت وأَوجزت صفة القلب، وحياة الروح، وشغل العقل، وفعل البدن، أوجز ذلك في كلمات عجيبة ذكرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وقد استأثرت بأكثر ما روي عن العشر وقيامها والاعتكاف فيها- تقول: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) فهل في هذا الكلام شيء يحتاج إلى شرح وتفسير؟ وهل فيه شيء غامض، أم أنه صورة حية واضحة جلية؟ (إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) هل تسمع في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر ذكراً للأسواق، أو ذكراً لسحب الجوائز التي يجتمع لها الناس؟ وهل تذكر شيئاً يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني فيها بأطايب الطعام، أو كان يتفقد فيها بيته ليزينه ويجمله، وينشغل ببعض أحواله وأوضاعه؟ إنها جمل ثلاث (شد مئزره) أي: شمر عن ساعد الجد، وتفرغ للأمر الجلل، وتهيأ لمناسبة الزمان وفضيلته، وللإقبال على الله سبحانه وتعالى الذي قد جعل لهذه الليالي من الخصائص ما يضيق المقام عن حصره، بل قد شُغل العلماء بذكر خصائص ليلة القدر، فذكروا لها من الخصائص ما قد يكون كثيراً في العد والحصر.
وقولها: (شد مئزره) ذكر أهل العلم أن هذه الجملة كناية لاعتزاله نسائه، وإن كان الصحيح عدم حرمة ذلك للمعتكف إذا قطع اعتكافه، ولكن اعتزال النساء في العشر من الآداب والسنن التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
شغل أعظم من الشغل الآخر، وهم أكبر من الهموم الأخرى، وتعلق نفسي وقلبي لأعظم من شهوة النساء والنظر في الطعام والشراب، فضلاً عن البحث عن الأكسية والأحذية وغيرها.
وقولها: (وأحيا ليله) كان عليه الصلاة والسلام يحييه دائماً وأبداً في سائر أيامه، وفي حله وترحاله، وحضره وسفره، فما هي الإضافة ههنا؟ وما الزيادة في هذه العشر؟ قال أهل العلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط في الليالي الأولى من رمضان قياماً بنوم، فإذا جاءت العشر الأواخر أحيا ليله كله عليه الصلاة والسلام، (أحيا ليله) أي: كله من غروب شمسه إلى انبثاق الفجر، ليس هناك مكان ليشغل به هذا الزمان وتلك الليالي المعدودات على أصابع اليد التي ما بين لحظة وأخرى نقول: قد مضت وانقضت وتولت، ولا ندري هل ترجع إلينا أم لا؟ وقولها: (وأيقظ أهله) ليجعل البيوت عامرة بالطاعة والذكر والصلاة، لئلا يجتهد في الطاعات وتخلفه في بيته الشاشات والمسلسلات والتمثيليات، لئلا يكون عليه وزر فيما حمّله الله عز وجل من مسئولية عظيمة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فما الذي توصي به أهلك؟ وكيف كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله؟ والأحاديث في ذلك كثيرة حتى في غير رمضان وفي غير ليالي العشر، ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ امرأته، فإن لم تتستيقظ نضح عليها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحت عليه الماء).(38/3)
قصص جميلة مع النبي صلى الله عليه وسلم في لياليه
كان للنبي صلى الله عليه وسلم في لياليه المعتادة قصص جميلة مع أزواجه، تقص علينا عائشة رضي الله عنها كثيراً من هذه القصص، فتخبرنا أنها كانت ذات ليلة نائمة، وأنها تقلبت فجاءت يدها على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم منصوبتين وهو ساجد لله عز وجل.
واستيقظت ليلة فإذا بها ترى النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً، فتتبعه وتظن أنه قد ذهب إلى بعض نسائه غيرها، فإذا به يخرج إلى البقيع ويدعو ويتذكر ويعتبر عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك في آخر حياته كالمودع للأموات.
وغير ذلك مما هو معلوم في شأن لياليه المعتادة، فكيف بهذه الليالي الفاضلة.(38/4)
الاعتكاف حكمه وفضله
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)، فالاعتكاف سنة مؤكدة.
قال الإمام أحمد: لا أعلم خلافاً بين العلماء في سنية الاعتكاف.
وقال ابن العربي: هي سنة مؤكدة.
وقال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكد الاعتكاف.
بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه اعتكف، وضرب له خباء في المسجد، فاستأذنه بعض أزواجه فضربت لها خباء -أي: لتعتكف-، ثم جاءت الأخرى، ثم الثالثة، فلما رأى كثرة ذلك قال: آلبر تردن؟!) ثم نقض معتكفه، وترك اعتكافه حتى لا يكون ذلك واجباً، ولا يكون هذا الاجتماع من النساء، ثم قضى اعتكافه في عشر أخرى من شهر شوال، وذلك القضاء يدل على تأكد هذه السنة الماضية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في ذلك الشهر، ثم اعتكف في عشر من شهر شوال) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يوماً) وذلك يدلنا على فضيلة عظيمة حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم -وقد دنا أجله- أن يستكثر من هذه الفضيلة، وأن يعظم من ذلك الأجر، وأن يكثر من الإخبات والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وذلك مؤذن بأهمية هذه العشر، وأهمية سنة الاعتكاف فيها، وما أعجب وأوجز ما قالته عائشة رضي الله عنها في هذا الوصف الجميل الدقيق العجيب: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وكأنها تقول لنا: قارنوا بشيء معروف.
وقد ثبت عنها وعن غيرها من الصحابة صفة لياليه صلى الله عليه وسلم، وأنه (كان يقوم حتى تتفطر قدماه) وأنه صلى الله عليه وسلم (لم يترك قيام الليل في سفر ولا حضر) وأنه منذ أن أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] لم يترك ذلك مطلقاً، وإذا ترك القيام لمرضه كان يقضيه في نهاره، فتأمل هذا الوصف الموجز لـ عائشة: (كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها)، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فكيف لنا أن نتصور زيادة على مثل هذا الذي ثبت وأثر عنه، وهو بعد ذلك يزيد عليه لأنها ليال فاضلة فيها من الزيادة في الأجر والاختصاص في محو الوزر ما ليس في غيرها مطلقاً، ولذلك كان يخصها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليالي بمثل هذه العبادة، وهي الاعتكاف، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا بصوم، وإن كان الصحيح جوازه بدون صيام، لكنه في الصوم وفي رمضان آكد وأعظم في الأجر؛ لاجتماع صور العبادة كلها في ذلك الاعتكاف.(38/5)
الحكمة من مشروعية الاعتكاف
لماذا شُرع الاعتكاف؟ إنّ الوقت في اليوم أربع وعشرون ساعة، والليالي عشر، فالمسألة محدودة، فإنْ كان هناك خلط بين أمور دنيانا وأخرانا، وبين مشاغل أحوالنا وأوضاعنا وما نريده لطاعتنا ولعباداتنا، فإن ذلك سيفوت من الخير أكثره.
أليست أيامنا في عامنا كلها مشتركة بين أحوال دنيانا وأخرانا؟ أليست كلها مقسومة بحصة أكبر لأمورنا وخاصتنا وأحوال حياتنا وشئون أولادنا؟ أليس القليل منها في نهارنا، وربما اليسير اليسير من ليلنا؟! أفنضن بعد ذلك بليال عشر لا تزيد ولا تنقص عن هذا العدد؟ لذلك كان عليه الصلاة والسلام يجعلها خاصة للأمر الذي لا يجمع معه غيره، وهو الاعتكاف، أي: اللزوم والبقاء في مكان خاص -وهو المسجد- بنية العبادة لله عز وجل، فيتفرغ من شأن الخلق والخلائق إلى عبادة الخالق سبحانه وتعالى، وذلك من كمال العقل، ومن عظمة الإيمان، ومن حياة النفس والروح، ومن التعلق الصحيح الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بربه، وإقباله على طاعته، ورغبته في مثوبته، وحبه لنيل رضاه، ورغبته في أن يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له وأعبدكم له) صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عمر في الحديث الصحيح عند البخاري: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في المنام، فقال عليه الصلاة والسلام -وقد أخبروه برؤاهم-: إني أرى رؤياكم تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرياً لليلة القدر فليتحرها فيها) وغير ذلك مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في شأن ليلة القدر.
فضائل هذه الأيام والليالي الفاضلة أكثر من أن تحصى، وإيجاز القول الذي ثبت فيها يدل على أن السلف لم يكونوا يحسنون كثرة الكلام مثلنا، ولا يزينون العبارات بالبلاغات كحالنا، وإنما يحسنون أعمال القلوب، وتحليق الأرواح، وسجود الجباه، وتسبيح الشفاه، والإقبال على الله عز وجل، فما كان عندهم بهرج كثير، ولا كلام مكرر، وإنما كانت عندهم قلوب خاشعة، ونفوس على الله سبحانه وتعالى مقبلة، وعبادة دائمة، ولذلك لم نجد في هذه الأحاديث ولا في تلك الأوصاف كلاماً كثيراً، ولا وصفاً متعدداً، وإنما هو الإيجاز الذي إذا تأملناه بهرتنا معانيه (كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها) كيف يكون هذا الاجتهاد من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يكون اجتهاداً زائداً وكل أيامه ولياليه كانت اجتهاداً في طاعة الله سبحانه وتعالى؟!(38/6)