الرقية الشرعية
إلى كل مصاب بمس أو سحر أو عين اعلم أن العلاج والشفاء بيد الله، والله سبحانه وتعالى ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، واعلم أن هناك آيات تنفعك إذا تدبرت معانيها، وأنفع العلاج لصد المس الشيطاني والسحر هو الالتجاء إلى الله والاعتصام به وقوة الإيمان ورسوخه في القلب.
وهناك سور عظيمة في كتاب الله تصد السحرة وتبطل السحر.(80/1)
رسالة إلى المصابين بالمس أو السحر أو العين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
أيها الأخ الكريم: أوجه هذا الكلام إلى كل أخ -أو أخت في الله- قد ابتلاه الله عز وجل بداء المس أو السحر أو العين، والله عز وجل يبتلي عباده الصالحين، بل يبتلي المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه شدة زيد له في البلاء، والمؤمن يواجه البلاء بالصبر، بل أعظم من الصبر الرضا بقدر الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
بل قال الله عن الذين يصبرون على البلاء ولا يتسخطون ولا يجزعون: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
أخي الكريم: أوجه هذا الكلام إليك إن كنت قد أصبت بمس أو سحر أو عين، وهذه الأمراض الثلاثة طالما قد انتشرت في أوساط كثير من الناس، بل خاصة ضعاف الإيمان.
واعلم أن العلاج والشفاء بيد الله جل وعلا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
وإذا كان الإنسان يعتقد في غير الله أن بيده الضر والنفع، فإنه لا ينفعه كل ما سوف نقرؤه عليه من كلام الله جل وعلا.
فاعتقد واجزم وتيقن أن الشفاء بيد الله وحده، والله عز وجل إذا أراد أن ينزل الدواء على الداء أصاب.
ولا يبقى الإنسان مريضاً طوال حياته إلا إذا لم يشأ الله عز وجل أن يشفيه.
فاسمع -أخي الكريم- إلى هذه الآيات وتدبر، واعلم أن القرآن لا ينفع من لا يتدبره، والله عز وجل ذم الناس الذين يسمعون أو يقرءون القرآن ولا يتدبرون، قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
والذي يقرأ القرآن أو يستمع إلى القرآن ولا يتدبر؛ لا ينتفع به، بل هذا نوع من أنواع الهجر للقرآن، وهو أنك تسمع ولا تعرف ما الذي تسمعه، أو يقرأ عليك القرآن ولا تدري ما الذي يقرأ عليك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه فيبكي، وقد كان بعض أصحابه إذا تليت عليهم آيتان بكوا حتى الصباح يرددون هذه الآية أو يستمعون إليها، بل منهم من مات وهو يسمع بعض آيات القرآن.(80/2)
الفاتحة هي العلاج
فاسمع -أخي الكريم- إلى هذه الآيات العظيمات، وهذه الآيات -أيها الأخ الكريم- جُرِبت وجربها كثير من الناس أنها إذا قرئت على مسحور أو ممسوس أو مصاب بالعين أنه يبرأ بإذن الله جل وعلا، والأمر كله يرجع إلى تقدير الله.
متى يكون الشفاء؟
قد يؤخر الله عز وجل الشفاء لحكمة حتى يحط الله عنه الخطايا والذنوب ويكفر عنه السيئات.
وأول ما نبدأ به هو أعظم سورة في القرآن، بل ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وهي السبع المثاني، بل إنها القرآن العظيم، بل هذه السورة -أخي الكريم- هي الشافية وهي الرقية، وهي التي ثبت أن أحد الصحابة قرأها على ملدوغ بعقرب فبرئ بإذن الله جل وعلا.
فاسمع إليها وتدبرها، ثم انظر إلى أوصاف الله فيها، واعلم أن الله عز وجل ما جعلها أعظم سورة إلا لما فيها من آيات ومعانٍ عظيمة.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
أعوذ بالله، أي: ألجأ إلى الله، وأستجير بالله جل وعلا لدفع كل ضر وكل شر، وهو الله العظيم السميع العليم.
ممن؟ من الشيطان الرجيم، فهو مرجوم، ملعون مطرود من رحمة الله، من همزه ونفخه ونفثه.
واسمع -يا عبد الله- إلى البسملة وهي التي فيها بركة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] هذه الكلمات فيها بركة عظيمة يشعر بها إي إنسان، فلو أكلت وقلت: باسم الله حرم الشيطان الطعام، ولو دخلت البيت وقلت: باسم الله حرم المبيت وجلس خارج البيت، ولو جامعت أهلك وقلت: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه يصرف عنكم، وإن قضي ولد فإنه يبرأ من الشيطان بإذن الله.
وإن دخلت الخلاء وقلت: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث؛ حفظت بإذن الله، وإن نزعت الثياب وقلت: باسم الله، كان بينك وبين أعين الجن والشياطين ستر وحجاب.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1 - 7].(80/3)
عظم سورة البقرة وما فيها من الآيات
ثم اسمع -يا عبد الله- إلى سورة لو قُرِئت في بيت فر الشيطان منه، بل إذا سمع هذه السورة تتلى لا يقترب من البيت ويخاف ويفر، أتعرف ما هي هذه السورة؟ إنها سورة البقرة، سورة وأي سورة! يقول عليه الصلاة والسلام عن هذه السورة: (اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أكبر السحرة وأكبر الشياطين لا يقدرون عليها، بل أن بعض من قرئ عليه البقرة كان يحترق الشياطين والجن الذين فيهم، ويراهم الممسوس يحترقون، لأن البقرة قرئت عليهم.
سورة وأي سورة! سوف أتلو عليك من أعظم آياتها، فاسمع وتدبر حفظك الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] من هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] يؤمن بالجنة، ويؤمن بالنار، ويؤمن بأن هناك يوماً للحشر، يحشر الله فيه الأولين والآخرين، والإنس والجن، يؤمن بعذاب القبر، ويؤمن بأهوال يوم القيامة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3].
اسمع وانتبه، الذي لا يقيم الصلاة لا تنفعه هذه الآيات، والذي لا يقيم الصلاة لن يبرأ إلا بعد أن يقيمها، إلا إذا شاء الله جل وعلا.
فتش في صلاتك وابحث، هل أنت من الخاشعين فيها، المحافظين على أوقاتها، المتدبرين للآيات التي تقرأ فيها، الذي يحفظ أركانها وواجباتها، أم أنت من الناس الذين ينقرونها نقراً، ولا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ولا العصر إلا بعد أن تغرب الشمس: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5].(80/4)
حقيقة وقوع السحر وعلاجه
السحر هل له حقيقة؟ نعم.
يا عبد الله! لكن إياك إياك أن تصاب بالوسواس، وتظن أنك مسحور إلا بعد أن تتأكد وتتيقن، واعلم أن أكبر السحر، وأعظم السحر وشر السحر؛ لا يستطيع أن يقوى أمام كلام الله جل وعلا، وأن هذا القرآن يحطم ما تحته، وأن كلام الله جل وعلا يحرق كلام السحرة، وينسفه ويدمره ولو كانوا أكبر السحرة.(80/5)
هدف الشياطين من السحر
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام عن هدف الشياطين من السحر، فإياك أن تستجيب لهم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فيأتيه جنوده فيقول لأحدهم: ما فعلت؟ قال: ما زلت به حتى فعل كذا وكذا، فيتركه ويقول للآخر: ما فعلت؟ حتى يأتيه شيطان يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله) إياك إياك أن تستجيب له، كم وكم من ضعاف الدين والإيمان يغره الشيطان، أو يصاب بسحر فإذا به يطلق زوجته.
سبحان الله! لمَ تستجيب يا عبد الله؟ قال: (ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيقول الشيطان له: نعم أنت، فيقربه ويدنيه ويلتزمه).
واسمع إلى هذه الآية العظيمة، التي دمرت السحرة والشياطين وأحرقتهم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:10] لأنهم اتهموا سليمان أنه كان يتعامل بالسحر، وكذبوا والله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:10].
لأن الساحر يتعامل مع الشياطين، فإذا به يلبسه أو يصيبه بالضيق أو بالاختناق، أو يكرهه بزوجته، أو بأهل بيته، فهو شيطان كافر بالله العظيم: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:10] ألم ترَ بعض المسحورين كره زوجته وأبغضها ولا يطيق النوم معها، ولا يشتهي رؤيتها، ولا يجامعها منذ سنوات؟: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:10].
اعتصم بالله، والتجئ إلى الله؛ لأن الله يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:10] بل لو اجتمع شياطين الإنس والجن الذين على وجه الأرض كلهم على أن يضروك لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:10].
فهذا ما يفعله الساحر والشيطان -الذي لعله يسمعني في هذه اللحظات- واسمع إلى قول الله جل وعلا فيه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:10] لأنه مدحور وخائف، لأنه في النهاية هو الخسران.(80/6)
قوة الإيمان وأثرها على السحر
عبد الله: إن القضية كلها ترجع إلى قوة الإيمان، وقوة اليقين في القلب بالله جل وعلا، وإخلاصك لله جل وعلا، فعلى قدر إيمانك تفر الشياطين منك، ألم تسمع إلى عمر كلما رآه الشيطان في فج سلك فجاً غيره، بل في بعض الروايات أنه إذا رآه الشيطان خر على وجهه، وهذا من شدة إيمانه ومن قوة يقينه بالله جل وعلا ومن توحيده للرب جل وعلا، فهو لا يتوجه إلى غيره ولا يستعين بسواه، ولا يتوكل على غيره، فحسبه الله جل وعلا.
عبد الله: القضية قضية إيمان وإخلاص وتوجه القلب إلى الله، وتبرُّؤ من الذنوب والمعاصي، أتعرف من هو الله الذي تعبده؟ أتعرف من الذي تتوكل عليه؟ أتعرف من الذي تستعين به؟ اسمع يا عبد الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:16] إله واحد -يا عبد الله- وليس هو إله ثم شيطان، ثم كاهن ثم ساحر.
فتوجه إلى الله وحده، أتعرف ما صفاته؟ {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:16].
اسمع إلى أفعاله في السماء والأرض، اسمع إلى آياته الكونية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
كن منتبهاً واستمع فإن ما سوف يتلى الآن هو أعظم آية في كتاب الله، آية لا تعدلها آية، ولا توزن بآية، ولا تساويها آية في كتاب الله، كلها صفات لله، وأوصاف للرب القدير.
عبد الله! وأنت تسمعها تدبرها وادخل في معانيها وتفكر فيها، واعلم -عبد الله- أنك مهما تخيلت، فالله أعظم، ولا يجوز لك أن تتخيل صفات الله جل وعلا.
عبد الله: إنها أعظم آية، إذا قرأتها في الليل -من عظمها- لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، آية لا تتحملها الشياطين، آية فيها أوصاف الله جل وعلا وخلقه، ومن خلقه كرسيه، أتعرف ما كرسيه؟ إنه موضع قدميه، أتعرف ما عظم هذا الكرسي؟ فالسماوات السبع وبين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والأرضين والكواكب والنجوم كلها لو كانت حلقة لكانت بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، فالصحراء هي الكرسي والحلقة هي السماوات السبع والأرضين والكون كله، أتعرف ما هو العرش؟ أتعرف ما نسبة الكرسي بالنسبة للعرش؟ الكرسي كالحلقة والعرش كالصحراء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لا تأخذه سنة: نعاس ولا نوم.
عبد الله: يعلم ما توسوس به نفسك، هل تقوى عليه أو تقدر عليه، اسمع إلى هذه الآية كيف تزلزل الشياطين: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:25] وهذه كلمة التوحيد ومعناها لا معبود بحق إلا هو: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] أي: لا يعجز الله حفظ السماوات والأرض: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:25].
إذا كان لا يعجزه حفظ السماوات والأرض، هل يعجزه حفظ عباده الصالحين المتقين؟ هل يعجزه حفظ أوليائه المتقين؟
عبد الله: اسمع إلى خاتمة البقرة.
أما خاتمة البقرة فلها شأن عظيم، ولها تأثير كبير، وما أدراك ما تأثيرها؟ إذا قرأتها في ليلة، تكفيك تلك الليلة، بل جاء في الحديث أن الله عز وجل كتب كتاباً، قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام.
تعرف ما شأن هذا الكتاب؟ أنزل منه آيتين فقط ختم بها سورة البقرة، أتعرف من أين خرجت؟ من كنز تحت عرش الرحمن، اسمع إليهما وتدبرهما واعرف -يا عبد الله- بأن الله رحم عباده بتلك الآيتين.
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:285 - 286].(80/7)
حقيقة الإسلام
عبد الله: أتعرف ما هو الإسلام؟ أتظن أن الإسلام كلام نقوله، أم هو كلام مكتوب في جنسية أو جواز أو ورقة؟ أنت تقول أنا مسلم، ولكن الإسلام برهان، وهو أنك تستسلم لله جل وعلا.
أي دين يقبل الله منك؟ أتعرف ما هو الإسلام؟ أنك تستسلم لله جل وعلا أن تستسلم المرأة لله، بحجابها وبصلواتها وبطاعتها لله جل وعلا، أن يستسلم الرجل لله جل وعلا، فلا يرابي ولا يغش ولا ينم ولا يغتاب ولا ينظر للنساء، هذا هو الإسلام يا عبد الله! الإسلام ليس هو كلاماً، وليس هو دعوى كل إنسان يدعيها.
عبد الله: الاستسلام: أن نستسلم لله في بيوتنا، فلا نعلق الصور، ولا نسمع صوت الموسيقى والأغاني ولا نعزفها ولا ندخل في بيوتنا الحرام، من مجلات خليعة، ومن أفلام ماجنة ومن غيرها من منكرات، هذا هو الإسلام الذي يقبله الله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:18 - 19] فتستسلم لله، وتنطرح بين يدي الله، وتستجيب لله.
وليس هو أن تأخذ ما يعجبك والذي لا يعجبك ترده، ليس هذا هو الإٍسلام، أن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، بل يجب أن تقبله كله بحذافيره صغيره وكبيره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19].
عبد الله: يا من أصبت بالمرض، وتخبطتك الشياطين، وضاقت بك الدنيا بما رحبت إلى من تلجأ؟ إلى ربك، إلى الله العلي القدير، ادعه -يا عبد الله- في السجود، الجأ إليه في الأسحار، اسجد بين يديه، وادعه تضرعاً وخفية.
عبد الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
عبد الله! إن الله تعالى وعد {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] تعرف من تدعو؟ تدعو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، تعرف من تدعو يا عبد الله؟ الذي سخر الليل والنهار، الذي استوى على العرش ويعلم ما توسوس به كل نفس، ادعه والجأ إليه وتضرع واعرف -يا عبد الله- أن الله يقبل الدعاء ممن هو موقن بالإجابة وملح بالدعاء، فالله عز وجل يستجيب له: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54].
كذب المنجمون، كذب السحرة، كذب المشعوذون؛ فإن السموات والنجوم والقمر وكل شيء مسخر بأمر الله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:54 - 56].
وهنا يخاطب الله شياطين الجن والإنس، ويخاطب الكفرة، والذين ظلموا والذين آذوا عباد الله في أنفسهم وأهليهم: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] ثم يا عبد الله! يا من ابتليت! اسمع إلى قول الله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].(80/8)
معركة موسى مع السحرة
اسمع إلى هذه المعركة الكبيرة، وهي معركة عظمى يشهد لها التاريخ، في الصف الأول كليم الله موسى عليه السلام، إنه الذي كلمه الله جل وعلا من فوق سبع سماوات، يقف في صف، من هو الذي في الصف الآخر؟ إنهم السحرة -شياطين الإنس والجن- كلهم قد اجتمعوا، ليدفعوا موسى عليه السلام وليحاربوه، إنهم أعظم السحرة في عصر فرعون، كل ساحر عليم ومن تحت يديه شياطين الكفر، وشياطين ومردة من الجنة، كلهم تحت أيديهم، وليس ساحر واحد بل سحرة الكفر كلهم، وموسى لا يملك إلا عصا ولا يلبس إلا الثوب البالي، ولا يملك جيشاً ولا عتاداً ولا أسلحة، لا يملك إلا التوكل على الله والإيمان بالله جل وعلا، من مع موسى؟ إنه الله جل وعلا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
بدأت المعركة: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] قال موسى يخاطب شياطين الجن والإنس: بل ابدءوا بما عندكم، فألقوا الحبال وألقوا العصي، فإذا بها كأنها أفاعي تسعى، انظر السحر: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فسحروا أعين الناس واسترهبوهم، وإذا العصي كلها تتحول إلى ثعابين في أعين الناس، وهذا من فعل شياطين الجن والإنس، فإذا موسى عليه السلام يخاطبهم: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس:81].
الله أكبر! الله أكبر يا عبد الله! تيقن بالله جل وعلا، لو كان الذي فيك أعظم سحر على وجه الأرض، بل لو اجتمعت عليك شياطين الإنس والجن فاسمع: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82].
وإلى الآن موسى فقط تكلم وما بدأ في الرد على هؤلاء الشياطين، فإذا الله عز وجل يوحي إلى موسى، واسمع إلى أثر كلام الله لموسى على هؤلاء السحرة، ولهذا أقول لك: إن القرآن يحرقهم ويدمرهم يا عبد الله! فإذا بالله جل وعلا يوحي إلى موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:11] وكأن العصا عندنا هي إيماننا بالله جل وعلا.
إذا ألقيناه على السحرة ما الذي يحصل؟
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] الله أكبر! عصا موسى تلقف جميع عصي السحرة وثعابينهم: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:117 - 122].
لما رأى السحرة من الإنس أن الله أبطل سحر شياطين الجن، إذا بهم يسجدون لله، ويخرون سجداً لله جل وعلا، كل هذا -يا عبد الله- حتى تعلم وتتيقن أن الإيمان الصادق والإيمان بالله لا يقف أمامه شيء، وأن كلام الله جل وعلا يبطل كل السحر، وأن كلام الله جل وعلا يهدم سحر شياطين الجن والإنس، فتيقن وتوكل على الله جل وعلا، ولتكن عقيدتك: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
كلما دخلت بيتاً، وكلما ركبت سيارة، رددها في قلبك، وفي عقلك وفي ذهنك: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
عبد الله: تظن أن الله عز وجل لمَ خلقنا وأوجدنا؟ وهذا لا بد أن يعرفه الإنس والجن وهو أن الله ما خلقنا إلا لغاية واحدة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:115 - 117] من ساحر أو شيطان أو طاغوت أو مشعوذ أو كاهن، فهؤلاء كلهم طواغيت من دون الله جل وعلا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117] انتظر يوم الحساب وتمهل، فإن كنت تراه بعيداً فإنه قريب: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:117 - 118].(80/9)
سورة الصافات وأثرها على الشياطين
ثم اسمع إلى هذه السورة، وهي سورة عظيمة، وقد جُرِبَت، ولعل بعضكم قد شاهد أثرها على شياطين الجن، فهي تحرقهم وتدمرهم وتهلكهم بإذن الله جل وعلا: هذه السورة يبدؤها الله جل وعلا بوصف ملائكته، من هم الملائكة؟ إنهم جنود الرحمن: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقفون لله جل وعلا ويستجيبون له.
والملائكة تزجر الناس زجراً، بل ملك واحد صاح صيحة، فأهلك قرية كاملة.
ثم -في هذه السورة- يخبر الله عن الكواكب التي في السماء والنجوم، أتعرف ما وظيفتها وما غايتها يا عبد الله؟ هذه النجوم التي في السماء شهب ترمي شياطين الجن ممن يسترق السمع من السماء.
واسمع -يا عبد الله- إلى ربنا جل وعلا كيف يعذبهم ويهلكهم ثم قال الله: {دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:9] أي: ما هو اليوم ولا الغد فقط، بل هو مستمر، في الدنيا بكلامه جل وعلا، وإذا لم يتب شياطين الإنس والجن إلى الله جل وعلا فالعذاب الواصب المستمر المتصل عنده جل وعلا في نار جهنم.
اسمع إلى هذه السورة التي طالما أحرقت شياطين الجن والإنس وبدأها الله بالتسمية لأنها بداية السورة، وباسم الله كما ذكرنا بركة، بل: (مر رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابته فتعثرت الدابة فقال الرجل: تعس الشيطان.
قال: لا تقل تعس الشيطان، فإن الشيطان يتعاظم حتى يصير كالبيت، ولكن قل: باسم الله فإنه لا يزال يتصاغر في نفسه حتى يكون كالذباب)
قل باسم الله إن دخلت بيتك إن دخلت غرفتك إن أتيت إلى فراشك إن دخلت خلاءً إن أكلت أو شربت إن رميت حجراً إن سكبت ماءً، دائماً قل باسم الله فإنها بركة يا عبد الله، بسم الله الرحمن الرحيم اسمع وصف الملائكة: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1].
فهي تحضر مثل هذه المجالس؛ مجالس الذكر، والمجالس التي يقرأ فيها القرآن تحضرها الملائكة وهي جنود للرحمن، والشيطان عندما كان مع المشركين في غزوة بدر ليؤججهم ويثيرهم على المسلمين، فلما اقترب ورأى ملائكة الرحمن تنزل، ورأى الملائكة العظام قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48].
{وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:1 - 4] من هو؟ إنه الله {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:4] قل لمن يعبدون النار، وقل لمن يثلثون، ويعبدون المسيح، قل لمن يكفرون بالله جل وعلا وأخبر اليهود والنصارى، وعُباد الشمس وعُباد القمر وعُباد النار: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:4 - 5].
رب المشارق جل وعلا، مشارق النجوم ومشارق الكواكب ومشارق الشمس، ومشرقها في الصيف والشتاء: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:5 - 6] اسمع: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:7].
والله لو كان مارداً، ولو كان أعتى الشياطين، فإنهم لا يستطيعون للرحمن، فالكواكب ترجمه: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:7 - 10].
وليسأل شياطين الجن، وليسألوا أجدادهم وعلماءهم: ما الذي جرى بولادة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أتعرف ما الذي جرى؟ كان الشياطين يسترقون السمع، فلما ولد خير الخلق عليه الصلاة والسلام تعجب الجن ورأوا أمراً عجباً، فالسماء بدأت ترجمهم، والكواكب بدأت تحرس السماء وبدأت الشهب تحرقهم حرقاً ببركته عليه الصلاة والسلام، وبركة رسالته وبعثته عليه الصلاة والسلام.(80/10)
إسلام الجن وتوبتهم
اسمع -يا عبد الله- إلى بعض الجن الذين تابوا، وإلى بعض الجن الذين أسلموا وصدقوا مع ربهم جل وعلا، كانوا كفاراً ولكنهم لما سمعوا القرآن وأحسوا بلذته، وبحلاوته آمنوا بالله جل وعلا، ليس فقط آمنوا بل ذهبوا إلى قومهم يدعونهم إلى الله، وأخبروا قومهم أنه من آمن فله الثواب والمغفرة ومن كفر فله العذاب العظيم، فما جلسوا جلسات بل مرة واحدة، سمعوا كلام الله فإذا بهم مؤمنون ودعاة إلى الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29] وهذا الآيات دعوة مني صادقة إلى كل كافر من شياطين الجن -إي والله- أن يؤمن بالله جل وعلا ويسلم لله جل وعلا.
فوالله لو كان كفره قد ملأ السماء والأرض وتاب، لبدله الله عز وجل له حسنات، بل والله لو فتن الناس عن دينهم وصدهم عن سبيل الله، وكان هو الذي أضل خلقاً كثيراً عن الله جل وعلا وأوردهم جهنم، لو تاب؛ تاب الله عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] الله أكبر! ليس فقط آمنوا بل صاروا دعاة إلى الله، وكم وكم سمعنا أن من الجن من آمن، وليس فقط آمن بل ذهب إلى قومه يدعوهم إلى الله جل وعلا: (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
قالوا: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31].
والله لو كانت التوبة صادقة، ودمعت العين وانكسر القلب: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف:31 - 32].
لا تظن يا من تصر على الظلم والكفر والمعاصي أنك معجز الله، لا والله، بل الله عز وجل يملي للظالمين حتى إذا أخذهم لم يفلتهم جل وعلا: قال الله جل وعلا: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32].
بل اسمع إلى الرب جل وعلا كيف يتحدى معاشر الجن والإنس، بل طواغيتهم، بل أقوى خلق الله من الجن والإنس يتحداهم الرب جل وعلا، انظر إلى التحدي وإذا استطعت أن تقبله فافعل، فهذا ما يعرضه الله جل وعلا عليك من تحد: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن:33] هذا هو التحدي، يطلب الله منك أن تنفذ من أقطار السماوات، فانفذ وتعد السماء الدنيا إذا كنت تستطيع: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33 - 34].
الجن لما سمعوا هذه الآية آمنوا وقالوا: لا نكذب بآيات ربنا، آمنوا لأنهم كانوا صادقين مخلصين، عرفوا أن الدنيا أيام قلائل وسنوات قليلة، ثم حساب بين يدي العزيز الجبار.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:34 - 36] أتعرف ما الذي أقرؤه عليك الآن؟ إنه كلام الله حقاً، بصوت وحرف، كلام لا يشابهه كلام المخلوقين، وهو صفة من صفاته جل وعلا، أتعرف هذا الكلام لو أنزل على جبل لتصدع الجبل ولتكسر، بل إن من الحجارة لما تهبط من خشية الله!! أتظن أنك -يا مخلوق! يا ضعيف! - تقوى على هذا القرآن، أتعرف من الذي تكلم بهذا القرآن، إنه الله الملك العزيز الجبار، أتعرف من هو الجبار؟ مسكين يا من تعاند الله! مسكين يا من تواجه الجبار! والله لا تقوى على الجبار المهيمن.
عبد الله: أتعرف من هو؟ الذي لا إله غيره، عالم الغيب، عالم الشهادة، عبد الله! هو الخالق الذي خلقك، وبرأك، وصورك.
اسمع إلى وصف تأثير القرآن واسمع إلى أوصاف الله جل وعلا: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:21 - 24].(80/11)
سور عظيمة تبطل السحر
عبد الله: يسرني ويسعدني ويفرحني أن أختم هذه القراءات بسور عظيمات تفك أكبر سحر، وتبطل أكبر سحر يا عبد الله! إنها سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا وصف الله، وليس فيها إلا صفة الله العظيمة.
عبد الله: سأل الله بها رجل فقال: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي.
فقال عليه الصلاة والسلام: قد استجيب له).
اسأل الله بها يا عبد الله! سورة من عظمها تعدل ثلث القرآن، والله ما يقوى عليها شياطين الإنس ولا شياطين الجن، أتعرف ما هي؟ بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
أتعرف ما معنى الصمد؟ الذي تلجأ إليه المخلوقات كلها في السماوات والأرض: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] النملة في جحرها تلتجئ إليه، والسمكة في البحر تلجأ إليه جل وعلا، والطير في السماء يلجأ إليه جل وعلا، بل حتى الكافر وقت الضيق والمصيبة يلجأ إليه جل وعلا.
الصمد الذي لا جوف له، السيد جل وعلا، الذي بلغ في سؤدده كمالاً لا يبلغه كمال، وفي شرفه شرفاً لا يبلغه شرف: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
ثم المعوذتان -يا عبد الله- اقرأهما دائماًَ في الصباح ثلاثاً -مع الإخلاص ثلاثاً- وفي المساء ثلاثاً، واختم بها كل صلاة، وعود عليها صبيانك وأولادك الصغار، فإنها آيات تحطم الجبال، وتحطم ما تحتها.
استعاذة بالله، تعرف ما معنى الاستعاذة؟ هو أن تلجأ إلى الله تعالى، مر عليه الصلاة والسلام ليلة من الليالي في الصحراء، وإذ بالشياطين قد تجمعوا له وبيد كل واحد منهم نار يريد أن يحرق بها وجهه عليه الصلاة والسلام، أتعرف ماذا قال؟ احفظ هذا الدعاء وقله دائماً: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير منك يا رحمان، فانطفأت نيرانهم فولوا على أدبارهم) الله أكبر! قل صباحاً ومساءً أعوذ بكلمات الله التامات ثلاثاً، وعود عليها صبيانك، وعود أطفالك قول: (أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامه) وقلها في كل مكان يا عبد الله.
ولتكثر من هذا الدعاء أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامه، إذا خفت خوفاً شديداً، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
إذا رأيت منظراً غريباً فقل: أعوذ بالله منك، أي: ألتجئ إلى الله، ومن التجأ إلى الله حماه، فأنت تفر إلى الله.
عبد الله: إن غضبت غضباً شديداً فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا دخلت مكاناً مظلماً، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه لم يزل عليك من الله حافظ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] رب الفجر إذا انفلق، رب الصباح: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] من شر الليل إذا حل، ومن شر القمر إذا ظهر في الليل: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:3 - 4].
ومن شر السواحر اللائي ينفثن في العقد التي يرقين عليها: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:4 - 5].
بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6].
عبد الله: قبل أن أختم، اعلم أن الله ما أنزل بلاء إلا بذنب، ولن يرفع بلاء إلا بتوبة، فتب إلى الله جل وعلا، واعرف أن البلاء قد يكون لذنب أصبته، فهناك معصية وذنباً أنت أذنبته وأنت تعلم به، وإيمانك قد ضعف، وفتور وغفلة.
قد يكون هذا هو السبب في هذا الذي أنت فيه يا عبد الله! سواءً كان عيناً أو سحراً أو مساً وإن كنت من الصالحين، فاعرف أن ما فيك بسبب ذنوبك، وتب إلى الله جل وعلا، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، واهجر المعاصي واهجر أماكن الغناء، وأماكن الفحش والبذاءة، واهجر الفسقة والفجرة، وابدأ مع الله صفحة جديدة.
واعلم أنك إذا أقبلت على الله وتقربت إليه شبراً، تقرب الله إليك ذراعاً.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(80/12)
ساعات الندم
ساعات الندم التي قد تمر على الإنسان كثيرة منها: ساعة الندم على فوات الطاعة، أو ساعة الاحتضار والانتباه في القبور، ومنها أيضاً: ساعة البعث من القبور، وساعة رؤية جهنم، وساعة جعل الحسنات هباء منثوراً، وساعة الوقوف للحساب، وأعظمها ساعة الحسرة في النار.
فيا أيها العبد! اجتهد ألا تأتيك هذه الساعات فإنها الحسرة كل الحسرة.(81/1)
الندم على التفريط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ساعات الندم!
في ساعات الندم لا يجلس الإنسان إلا ويتذكر معاصيه وذنوبه، ويتذكر فيها ما فرط في الدنيا وغفلته فينتبه فيصبح عنده انكسار لله عز وجل يندم فيه على ما فرط.
استمعوا إلى هذه القصة: شاب صغير السن هداه الله في بيتٍ قد امتلأ بالفجور والمعاصي والمنكرات والفواحش، أبوه لا يعرف القبلة، حاول أن يدعو أباه إلى الله فلم يستجب له، فأتى إلى إمام المسجد يبكي عنده ويقول له: إن أبي يعصي الله ولا يعرف ربه، حاولت أن أدعوه إلى الله فلم يستجب لي، فماذا أفعل؟ قال له: إذا قمت في الثلث الأخير من الليل فتوضأ وضوءك للصلاة -وكان حافظاً صغيراً- ثم صلِ لله ركعتين وادع الله عز وجل في تلك الركعتين أن يهدي أباك، قال: فكان الشاب في كل ليلة يفعل هذا الفعل، وفي ليلة من الليالي قام الشاب يصلي في الليل فدخل الأب البيت بعد سفرةٍ قد فعل فيها ما فعل، ولم يكن أحد يدري به، ففتح الباب ودخل والناس نيام في البيت، فسمع صوت بكاءٍ في غرفة من الغرف فاقترب ينظر فإذا ابنه الصغير يبكي، فاقترب منه ليسمع ماذا يقول، فسمع ابنه يرفع يديه إلى الله وهو يقول: اللهم اهد أبي، اللهم اشرح صدر أبي للإسلام، اللهم افتح صدر أبي للهداية، فسمع الأب هذا الكلام وإذا به قد انتفض وأخذته قشعريرة، قال: فخرج من الغرفة واغتسل ثم رجع إلى الغرفة والابن ما زال يبكي ويرفع يديه إلى الله، فصلى بجنب ابنه ورفع يديه بجنب ابنه والابن يقول: اللهم اهد أبي والأب يقول: آمين، اللهم افتح قلب أبي، والأب يقول: آمين، فبكى الأب وبكى الابن، فلما انتهى الابن من صلاته التفت فرأى أباه يبكي فاعتنق أباه وجعلا يبكيان إلى الصباح، فكانت بداية هداية هذا الأب.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة: (الندم توبة) فإذا جلس الإنسان يتذكر ذنوبه وأخذ يذكر تلك المعاصي، وتلك الليالي الظلماء، ويتذكر يوم أن جلس مع صديق السوء، ويتذكر يوم أن فتح المجلة الخليعة فنظر، ثم يتذكر عفو الله عليه، وإمهال الله له وحلم الله عليه يبكي والله.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] فاحشة يعني: كبيرة، ظلموا أنفسهم يعني: صغيرة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(81/2)
من ساعات الندم(81/3)
ندم الصالحين على فوات الطاعة
ومن ساعات الندم: ساعات المؤمنين الطائعين الصالحين إذا فاتتهم الطاعة {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].
روي أن حاتم الأصم وهو رجل صالح فاتته صلاة العصر في جماعة، فصلاها في البيت، فجلس يبكي؛ لأن صلاة الجماعة قد فاتته -نقول هذا لكثيرٍ من المؤمنين الذين تفوتهم الصلاة بكليتها حتى يخرج وقتها- فجاءه أصحابه يعزونه على فوات صلاة الجماعة، فنظر إليهم وكانوا قلة فبكى، قالوا: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: لو مات ابن من أبنائي لأتى أهل المدينة كلهم يعزونني، أما أن تفوتني صلاة فلا يأتيني إلا بعض أهل المدينة!! ووالله لموت أبنائي جميعاً أهون عندي من فوات صلاة الجماعة: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] ندم لأنه ترك الطاعة، وندم لأنه ارتكب المعصية، فهذه من ساعات الندم.(81/4)
ساعة الاحتضار
ومن ساعات الندم -أيها الإخوة! - ساعة كلنا مقبلون عليها، وكل منا سوف يأتيها، الصالح والفاجر والملك والفقير، العظيم والحقير، الكبير والصغير، كلٌ منا سوف يقدم عليها، ما هي هذه الساعة؟
إنها ساعة الاحتضار، روي عن أبان بن عياش رحمه الله، قال: خرجت من عند أنس بن مالك في البصرة فإذا جنازة تمر عليَّ يتبعها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله! جنازة لا يتبعها إلا أربعة! قال: فأخذت العهد على نفسي لأتبعن هذه الجنازة، فاتبعتها حتى إذا كنا في المقبرة، قال: فصلينا عليها ثم دفناها وبعد أن قضينا دفنها قلت لهم: أسألكم بالله جنازة من المسلمين لا يتبعها إلا أربعة نفر أين المسلمون؟! فقالوا: انظر إلى هذه المرأة، فإذا امرأة من بعيد، قالوا: فإنها استأجرتنا لنتبع هذه الجنازة، اذهب إليها فاسألها عن الخبر، قال: فتبعتها حتى دخلت بيتها، فطرقت الباب عليها فخرجت فسألتها فقلت: يرحمك الله ما بال هذه الجنازة؟ قالت: هذا ابني، لما حضرته ساعة الوفاة -انظروا إلى الندم وتذكر المعاصي وكان عاقاً لأمه فاجراً فاسقاً- قال لي: يا أماه! أتريدين السعادة لي؟ قلت: إي والله أريد لك السعادة.
مهما عق الابن أمه أو أباه فإنهم في تلك الساعة ينسيان كل شيء ولا يتذكران إلا سعادة الابن، قلت: إي والله أريد لك السعادة، فقال: إذا اقتربت ساعتي فضعي قدمك على خدي ثم قولي: هذا جزاء من يعصي الله، ثم ارفعي يديك إلى الله عز وجل وقولي: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه، فارض عنه، ولا تخبري أحداً بموتي فإنهم يعرفون أني أعصي الله ولا أطيعه، تقول: فلما اقتربت ساعته وضعت قدمي على خده ورفعت يديَّ إلى الله، وقلت: هذا جزاء من يعصي الله، اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، قال: وبعد قليل تبسمت، فقلت لها: ما الذي حدث؟ قالت: رأيته البارحة في المنام وهو يضحك فقلت له: مالك؟ قال: لقيت رباً كريماً رحيماً غير غضبان؛ بدعوتك لي يا أماه.
انظروا إلى تلك الساعة التي يقترب فيها الرجل من آخرته.
عثمان رضي الله عنه كان إذا حضر جنازةً بكى، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [القبر أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر، وإن كان شديداً فما بعده أشد].
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخليفة الراشد بعدما صلى بالمسلمين العيد خرج مع أصحابه فمر على مقبرة فقال لأصحابه: اجلسوا انتظروني، فنزل من بغلته -وكان أميراً للمؤمنين- ونظر إلى الملوك والأمراء والوزراء والعظماء والسادة أين هم تحت التراب، فأخذ ينشد ويقول:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وما توا جميعاً ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
ثم قال: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟! ثم جلس وأخذ يبكي وينتحب، ثم رجع إلى أصحابه وهم ينظرون إليه، فقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا ندري.
قال: يقول: بدأت بالحدقتين فأكلت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الفخذين.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27].
ساعة ندم، تتذكر فيها -يا عبد الله- يوم كنت تفتح المجلة وتنظر إليها ولا أحد ينظر إليك، تتذكر يوم كنت تجلس أمام التلفاز وتقول: سوف أستغفر الله سوف أصلي سوف أتوب، تتذكر يوم أن كنت تحادثها بالهاتف ولا أحد يسمعك إلا الله، تتذكر يوم أن كنت تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر وتستيقظ ثم تقول: أصلي بعد طلوع الشمس، تتذكر يوماً من الأيام كنت تسمع الصالحين ينادونك فلا تستجيب لهم، تتذكر يوماً من الأيام تسمع مجالس الذكر فتولي هاربا، يوماً من الأيام كنت تأكل الربا، كنت تستهزئ بأهل الدين، وفي تلك الساعة تحس أن نبضات قلبك أصبحت ثقيلة، ضربة تسمعها، ثم ضربة أخرى تعدها، ثم ضربة ثالثة، ما بال القلب بدأت تثقل ضرباته؟ ما بال الأنفاس كأنها تخرج من ثقب إبرة؟ تنظر حولك، فإذا الأم تبكي عليك، تنظر إلى زوجتك قد احتضنت ابنتك وهي تبكي عليك، ابنك الصغير قد رمى نفسه عليك وهو يبكي ويقول: أبي أبي! ولا تستطيع أن تجيبه، تنظر إلى أبيك وقد جاء بالطبيب، والطبيب يسمع دقات قلبك، وأنت تنظر وتعلم أن الفراق قد أتى، تنظر إلى إخوانك يبكون ويندبون وينوحون، تنظر إلى من حولك هم في واد وأنت في وادٍ آخر، ما بال القدمين قد بردتا؟ ما بال الساقين قد التصقتا؟ ما بال الكفين لا تستطيع أن تحركهما؟ ما بال العينين قد شخصتا {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
تريد الروح أن تخرج فتنطلق تلك الصرخة {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فتسمع
الجواب
{ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة ماذا كان يقول؟ قال: [أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.
ثم قال: مرحباً بالموت زائراً مغيباً، وحبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك].
أبو هريرة لما حضرته الوفاة، أتعرفون من هو أبو هريرة؟ إنه طالب العلم الزاهد العابد، ما كان يشبع ليلة يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع العلم يقول: [لقد رأيتني يوماً أصرع يحسب الناس أنني مجنون وما بي إلا الجوع] جاع بطنه لله لطلب العلم، ليحفظ لنا هذا الدين، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: [بعد السفر، وقلة الزاد، والخوف من الوقوع من الصراط في النار].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185] كل نفس سوف يأتيها هذا اليوم
يا غافلاً عن العمل قد غره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
في تلك اللحظة تتذكر يوماً من الأيام ذهبت إلى بلاد الكفر والفجور والزنا والخنا فواقعته، تتذكر يوماً من الأيام كنت تسمع النداء فتولي هارباً، تتذكر يوماً من الأيام كنت تُدعى للإنفاق فأمسكت وأحجمت وبخلت، تتذكر يوماً من الأيام مررت على المنكرات والذنوب والفواحش ولم تنكرها، لم تأمر بالمعروف، ولم تنه عن المنكر، لم تتكلم في سبيل الله، لم تفعل شيئاً في سبيل الله، تتذكر هذه الذنوب كلها وأنت طريح الفراش.(81/5)
ساعة الانتباه في القبور
من ساعات الندم: ساعة يطول فيها مكوث العبد في قبره في الظلمة، يقام في ذلك القبر الضيق المظلم فماذا ينظر؟ إنه يرى ملكين أسودين أزرقين يقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، هاه هاه لا أدري، ماذا يدري في الدنيا؟ ماذا يحفظ؟ يحفظ الأغاني والزمر والطرب، يحفظ المسلسلات والأفلام، أما أنه يحفظ كلام الله فلا والله، أما أنه يعرف السنن، فلا والله، كان يقلد فلاناً وفلانة ولا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يعرف في الدنيا كلام الله، بل كان يعرف كلام الشيطان.
إن لم تجب على ذلك السؤال ماذا يكون مصيرك؟!!
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
الآن يتذكر عقوق والديه، يوم عق والده، وعق أمه، يوم قطع رحمه، الآن يتذكر يوم أكل الربا، ويتذكر يوم استمع إلى الأغاني، يأتيه رجلٌ منتن الثياب قبيح المنظر وجهه يجيء بالشر فيقول: من أنت؛ فوجهك يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث أنا ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى تلك المنكرات، أنا ذلك اليوم الذي غبت فيه عن الصلوات، أنا ذلك اليوم الذي استمعت فيه إلى الأغاني والمسلسلات، أنا ذلك اليوم الذي تجولت فيه في الأسواق تنظر إلى النساء يمنة ويسرة لا ترعى لله حرمة، أنا ذلك اليوم الذي غفلت فيه عن الله وفرطت فيه في الطاعات، أنا ذلك اليوم أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد.(81/6)
ساعة البعث من القبور
من ساعات الندم: يوم يكون العبد في قبره معذباً يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، وفي لحظة من اللحظات ينشق عنه القبر، ماذا يسمع؟ يسمع صوت السماء وهي تنشق وتنفطر، ينظر إلى الكواكب وهي تتناثر، والشمس قد انطمست وذهب نورها، يخرج من قبره فينظر إلى البحار قد انفجرت وتحولت إلى طين، ماذا يخرج من تحته؟ إنهم أناس يخرجون من تحته، والوحوش تخرج، ما بال الناس ينفضون عن وجوههم التراب، ماذا يقول؟ يقول إن كان مفرطاً: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] يصرخ يا ويلنا ماذا فعلنا في الدنيا؟! كان لاهياً غافلاً متمتعاً، كان يأكل ويشرب، كان يلهو ويلعب، كان غافلاً عن الأجل فيصرخ ويقول: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيقول الصالحون له: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].
فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز كانت تبكي بعد وفاة عمر، فقيل لها: ما يبكيك؟! أأسفاً على عمر؟ فوالله إنه بعد الموت لهو خير منه قبله، فقالت: لا والله ما أبكي على موته ولا على وفاته، تقول: رأيته ليلة قائماً يصلي، فأخذ يقرأ حتى وصل إلى قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5] فصاح وقال: يا سوء صباحاه! يا سوء صباحاه! حتى سقط، ثم قام على ذراعيه وأخذ يبكي ويئن حتى ظننت أن روحه سوف تخرج، ثم هدأ، ثم بعد ذلك قرأ مرةً أخرى وقال: يا سوء صباحاه! يا سوء صباحاه! ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، تقول: ثم سقط كالميت ولم يستيقظ إلا على أذان الفجر تقول: فكلما تذكرته بكيت: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42] يا له من ندم! ويالها من حسرة! تخرج فتنظر إلى أمك وهي تناديك وتقول: يا بني! حسنة أتبلغ بها، يا بني: حسنة أفك بها رقبتي من النار، فتقول لها: إليكِ عني، إليكِ عني.
يناديك الأب، فيقول: يا ولدي! لقد أطعمتك من جوع وكسيتك من عري، يا بني! حسنة أتبلغ بها، فتقول له: نفسي نفسي، إليكَ عني يا أبي.
يأتيك الابن فيبكي ويقول: يا أبي! حسنة أدخل بها الجنة، فتقول له: إليك عني إليك عني.
فهذه من ساعات الندم.(81/7)
ساعة رؤية جهنم
ومن ساعات الندم: ذلك اليوم الذي سماه الله يوم الحسرة، لم سمي يوم الحسرة؟ لما يتحسر فيه الناس ويندمون على ما فرطوا في هذه الدنيا، فإذا رأوا جهنم تذكروا الدنيا، وتذكروا الملذات، والناس إذا رأوا جهنم جثوا على الركب، وأيقن المجرمون أنهم بالعطب، وأفصحت جهنم عن الغضب، وهناك يقول كل واحد من الناس: نفسي نفسي: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] يرى الناس جهنم وهي تجر، لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يقول النبيون نفسي نفسي، ماذا يقول المذنبون؟ ماذا يقول المسيئون؟ ماذا يقول المذنب؟ إذا كان الأنبياء يقولون: نفسي نفسي، ماذا نقول نحن يا عباد الله؟
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] ثم نتذكر في ذلك الموقف: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:21 - 23] تلك الليلة التي فرح فيها أهل البيت عندما كانوا بجوار التلفاز، كم يفرحون؟ كم يسعدون بتلك الليلة؟ يتذكرها.
وتلك الليلة التي سافر فيها مع زوجته وأبنائه إلى دول الفجور والزنا والخنا، كانوا سعداء في الدنيا فيتذكرها، يتذكر تلك الليلة عندما كانت في السوق فنظر إليها فكلمها وكلمته وتواعد معها وقابلها، يتذكر تلك الليلة التي مر فيها على المنكرات فغض البصر، ولم يتكلم ولم ينه عن تلك المنكرات ولم يغيرها: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] يتذكر يوم قالت له أمه: افعل، فقال: لا أريد أن أفعل، ويتذكر يوماً من الأيام كان يقول لأمه: لم فعلت؟ ولم لم تفعلي؟ وكان يرفع صوته عليها، يتذكرها: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53]
يا غافلاً عما جاء في القدر ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت للظالمين فلا تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجر
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].(81/8)
ساعة جعل الحسنات هباء منثوراً
نظرت إلى الصلوات، ونظرت إلى الصيام والحج فإذا بها قد جعلها الله هباءً منثوراً، نظرت إلى عبادتك إلى طاعتك ففرحت، جبال من الحسنات فإذا الله عز وجل يجعلها هباءً منثوراً! لم؟ في ليلة من الليالي كنت تجلس لوحدك فتعصي الله، فتجد بعض الناس في تلك الساعة يعضون أصابعهم من الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27].
شاب صالح كان يصلي مع الناس، وكان ملتزماً بدين الله، تعرف على بعض الشباب الفسقة الفجرة، تعرف عليهم ولم يكن يعلم خطر جليس السوء، فاستدرجوه ليذهب معهم إلى بؤر الزنا والخنا، فراودوه حتى أقنعوه بهذا، فذهب معهم إلى تلك الدولة، وفي تلك البلاد لم يكن يمضي معهم الليل، كان إذا جاء الليل ذهب لوحده في الغرفة فأغلق على نفسه الباب حتى لا يعمل معهم المنكرات، فهو شاب طيب صالح، كل ليلة على هذه الطريقة يجلس معهم في النهار، فإذا جاء الليل ذهب لوحده في الغرفة وأغلق على نفسه الباب، ولم يرض أهل السوء والفجور إلا أن يدخلوه معهم في جهنم، وفي تلك الليلة أتوه بامرأة عارية ففتحوا عليه الباب، وأدخلوا المرأة إلى الغرفة ثم أغلقوا الباب عليه، ومازالت تراوده وتراوده حتى وقع عليها، فلما وقع عليها قبض الله روحه.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
ماذا ترى في يوم الحسرة؟ ترى بعضهم يصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] تنظر يمنة ويسرة فترى الولدان قد شابت رءوسهم، ترى القلوب قد بلغت الحناجر في يوم الندم والحسرة، ترى بعض الناس يصرخ، ما هذا؟! لأنه كان يزني ويشرب الخمور والمخدرات، كان لا يصلي، كان لا يعرف لله عز وجل حقاً، تنظر إليه في تلك الساعة وهو يبكي ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] وبعضهم ماذا يقول؟ {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] وكذب والله! لو كان يريد الهداية لهداه الله، ولو بدأ بالخير لأعانه الله عليه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] حتى يوم القيامة يكذب على الله ويقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57].(81/9)
ساعة الوقوف للحساب
وفي تلك اللحظة وهو قد ندم وتحسر يناديه الله عز وجل، وتناديه الملائكة: أين فلان بن فلان؟ فيريد أن يهرب لكن الملائكة يأتونه ويجرجرونه بالسلاسل، فيقف أمام الله فيذكره الله عز وجل بذنوبه ومعاصيه، فيقال له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر تلك الليلة؟ أتذكر ذلك النهار؟ أتذكر يوم كنت تستهزئ بالصالحين؟ أتذكر يوم كنت تغتاب الناس؟ أتذكر ذلك المجلس الذي كنت تستهزئ به من فلان وفلان؟ أتذكر وتذكر ثم يقال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * >ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
انظر إلى حالهم أمام الله وقد قُرروا بالذنوب {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] بلغت القلوب الحناجر وشخصت الأبصار، انظروا إلى النار التي كنتم تستهزئون بها وتكذبون: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:15 - 16] انظروا إلى النار {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على وجل انظر إليه ترى أن كان ما كانا
لما قرأت كتاباً لا يغادرني حرفاً وما كان في سرٍ وإعلانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي روا بعبدي إلى النيران عطشانا
يا رب لا تخزنا يوم الحساب ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانا
قرأ عمر بن الخطاب يوماً في الصلاة سورة الطور: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] حتى بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] فسقط مريضاً في البيت شهراً كاملا، يعوده الناس وما به شيء إلا أنه تذكر تلك الآية.
النبي صلى الله عليه وسلم يمر في ليلة من الليالي على بعض البيوت، فسمع عجوزاً تقرأ القرآن، فاقترب من البيت يستمع إليها ماذا تقول؟ فكانت تردد قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] من المخاطب؟ إنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
ما هي الغاشية؟ إنها القيامة الطامة الكبرى الصاخة، هل أتاك يا محمد هذا الحديث؟ حديث عجيب وأمر غريب، وهولٌ عظيم، وكرب وزلزلة شديدة، هل أتاك يا محمد؟ يقول: فاقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب وأخذ يستمع إليها وهي تقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فكان يقول وهو يبكي: نعم أتاني نعم أتاني.
عمر بن عبد العزيز قام ليلة من الليالي فأخذ يبكي فأبكى أهله وأبكى الجيران، فلما أصبح سألوه: ما بالك يرحمك الله في الليلة الماضية تبكي؟ قال: [قرأت قول الله عز وجل: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فلا أدري إلى أيهما أصير، فبكى وبكى حتى سقط من البكاء رحمه الله].(81/10)
ساعة الندم في النار
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم) الدمع ينقطع في النار فيبكون الدماء، هل تصورت هذا المنظر؟ وهل تعدل النظرة إلى التلفاز تلك اللحظة؟ هل تعدلها تلك السهرة أو ذلك اللقاء معها؟ هل تعدلها تلك الصحبة الفاسدة؟ لا والله.
يقول: (ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود من كثرة البكاء -تشق الوجوه كالأخاديد- ولو أنزلت فيه السفن لجرت) لو أنزلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت السفن.
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] فماذا يتذكرون؟ {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:66 - 67].
يا سائراً في غمرة الجهل والهوى صريع الأغاني عن قريب ستندم
أتت الذي ليس تعجب سوى جنة أو حر نارٍ ستضرم
وبادر مادام في العمر فسحة وحجك مبرور وفرضك طيب
وزد وسارع واغتنم زمن الصبا ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسرعاً فالموت خلفك مسرعا وهيهات ما منه مفر ومهزم
في تلك الساعة الأخيرة؛ ساعة الندم الأخيرة ينادون ربهم ويقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107].
يقول الحسن لصاحبه بعد أن دفنوا جنازة: لو قام من قبره ماذا تظنه يفعل؟ قال: يصلي ركعتين، قال: فإن لم يكن هو فكن أنت.
يرد الله عليهم في النار بعد أن قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فهناك يعترفون ويقولون: كنا قوماً ضالين كنا غافلين كنا لا هين كنا جاهلين، فيرد الله عز وجل عليهم بعد سنواتٍ طوال {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
فبعد هذا لا يتكلمون وتطبق عليهم النار وتغلق الأبواب، نعوذ بالله من جهنم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.(81/11)
كل نفس ذائقة الموت
الموت حقيقة لابد منها؛ فكل الناس سيموتون، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، مسلمهم وكافرهم؛ إذاً لابد من الاستعداد للموت قبل نزوله، وذلك بالأعمال الصالحات التي تنجي العبد يوم القيامة من العذاب الأليم هذا هو ما تكلم عنه الشيخ، ذاكراً بعض صور المحتضرين، مستشهداً بقصيدة شعرية تصف الموت وما بعده.(82/1)
الموت حقيقة لابد منها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون ما من بشرٍ ولا من مسلمٍ ولا كافرٍ إلا سوف يمر في لحظات حرجة، لن يغادر هذه الدنيا إلا بها، ولن يغادر هذه الأرض إلا وهو يذوق تلك السكرات؛ إنها اللحظات الحرجة التي لا بد وأن نلقاها، ولا بد وأن نمر بها بكى أبو هريرة رضي الله عنه حين حضرته الوفاة، فقيل له: يا أبا هريرة! ما يبكيك؟
وهو صحابي جليل طلب العلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بعد السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار].
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] كل نفس مؤمنة وكافرة، كل نفس صالحة وفاجرة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].(82/2)
أبو العتاهية يعظ الرشيد
بنى الرشيد قصراً عظيماً، فدخل الشعراء عليه يزورونه ويتكلمون عن هذا القصر ويتمدحون به، فدخل عليه أبو العتاهية فأخذ يمدح هذا القصر، فقال للخليفة:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الرواح مع البكور
ففرح الخليفة بهذا المدح، ثم قال له أبو العتاهية:
فإذا النفوس تغررت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد حتى سقط على الأرض من البكاء، ثم أمر بالقصر فأقفل، ثم رجع إلى كوخه وبيته القديم.(82/3)
الاستعداد للموت
عباد الله: هلا استعد كل منا لتلك اللحظات؟! هلا تأهب لذلك اليوم؟! هلا عمل لتلك الساعة؟! أم أن الواحد منا غافلٌ عنها، يظن أنه سوف يعيش في الأرض أبد الدهر، وسوف يطول به العمر، وسوف يبلغ كذا وكذا، فإذا بملك الموت ينتظره، وإذا الأجل أقصر من الأمل، وإذا به يفارق الدنيا وهو لم يستعد لهذا اليوم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
حاسب نفسك -يا عبد الله- قبل أن تأتيك تلك اللحظات، ماذا قدمت للغد؟ كيف ستلقى الله جل وعلا؟ على ماذا يختم لك ملك الموت؟ هل أرجعت الأمانات إلى أهلها؟ هل تبت من جميع الذنوب والمعاصي؟ هل أديت الواجبات؟ هل أديت الحقوق إلى أهلها؟ أم أنك غافلٌ عن تلك اللحظات، غافلٌ عن تلك الساعة!
عبد الله! ما يدريك لعل ملك الموت يزورك وأنت بين أولادك، وأنت عند زوجتك، أو عند أبيك وأمك، إما في المستشفى، أو في البيت، أو في حادث سيارة، وتخيل -أخي الكريم- ملك الموت قد دخل عليك وأنت عند أهلك وأحبابك وأولادك الصغار، تأتيك بنتك الصغيرة فتقول لك: يا أبي لم لا تجيبني؟ وأنت تعلم أنك سوف تفارق الدنيا، يأتيك ولدك الصغير فيقول لك: يا أبي لمن تتركنا؟ يا أبي لمن تدعنا في هذه الدنيا؟ وتنوح عليك الزوجة، وتبكي الأم، ويأتي الأب بالطبيب {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] بلغت الروح الترقوة ولا زالت العين تبصر، ولا زالت الروح لم تخرج، هو ينظر إلى قدمه قد يبست وبردت، وينظر إلى من حوله يبكون، ويأتي الأب بالطبيب، والأخ بالرفيق {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) [القيامة:26 - 27] وكأن هذه السكتة التي في القرآن لعبرة قد خنقت صاحبها {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27].
من يرقيه؟ من يداويه؟ من يطببه؟ من يعالجه؟ من يرد الروح إلى صاحبها؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] هو متأكد ومتيقن أنه مفارق، أتعلم -يا عبد الله- فراق ماذا؟ إنه فراق الأثاث فراق السيارات فراق المنزل فراق القصور فراق الأرصدة فراق الزوجة فراق الأولاد فراق الدراسة فراق الأهل والأحباب فراق الدنيا بأسرها {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:28 - 29] وبنته على صدره تبكي، وولده يجر يده، وزوجته تنادي: إلى من تتركنا؟ إلى من تدعنا؟ وهو له شأنٌ آخر، وهو له همٌ آخر، إنه لم يتب من جميع الذنوب والمعاصي، إلى الآن ما صلى الفجر في جماعة، إلى الآن هذه العاصية ما تحجبت وما اهتدت وما استقامت، إلى الآن لا زال يسمع الطرب، والأفلام الخليعات، إلى الآن أمواله في الربا وفي البنوك الربوية، إلى الآن ما حافظ على الصلاة.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:28 - 29] أي: في الكفن يا عبد الله! فغسل ثم كفن والتفت الساق بالساق، ثم حمل على الأكتاف، فإن كان فاجراً، وإن كانت فاجرة، فإنهم يصيحون بأعلى صوتهم: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32].
عبد الله: هل فكرت في تلك اللحظات؟ هل أنت مستعدٌ لها؟ هل أنت منتبهٌ منها؟ كم وكم من الناس أتانا خبره قد مات وهو شاب، بل مات وهو صغير، بنى البيت ولما يسكنه ففارق الدنيا، اشترى السيارة ولما يجلس فيها بل جلس فإذا بحادثٍ قد فارق به الدنيا، عقد على فلانة ولما يدخل بها وفارق الدنيا، درس ودرس ولما يحصل على الشهادة وفارق الدنيا، جمع الأرصدة والملايين ثم لم يتمتع بها وفارق الدنيا.
انظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن(82/4)
صور للمحتضرين
عبد الله: انظر إلى الناس، وانظر إلى أحوالهم، كم وكم من الناس من يموت وهو على الذنوب والمعاصي، من يموت ولا زالت أمواله في البنوك الربوية، من يموت ولم يدع أهله إلى الصلاة، ولم يأمر بناته بالحجاب، ولم يذكرهم بالله جل وعلا! كم وكم من الناس من غادر الدنيا وهذا حاله! اسمع إلى أولئك النفر ممن غادروا الدنيا على هذه الحال:
هذا رجلٌ يقال عنه أنه كان من أهل الفساد، سافر إلى بلدٍ تشرب فيها الخمور، وتفعل فيها الفواحش، وكان كبيراً في السن، لكنه لم يعتبر ولم ينتبه لحاله، سافر إلى بلاد الإباحية، فدخل في غرفة في فندق، فطلب زجاجاتٍ من الخمر ألا يتقي الله؟! ألم يعلم هذا الرجل أن الله قد حرم الخمر ومن شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة؟! ألم يعلم هذا الرجل أنه من شرب الخمر في الدنيا فإنه سيسقى من طينة الخبال وردغة الخبال في قعر جهنم؟! ألم يعلم هذا الرجل أن الله قد حرمها وجعلها رجساً من عمل الشيطان؟!
يطلب زجاجات الخمر، فإذا به يشرب زجاجة تلو أخرى، ويشرب ويشرب {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ولا يدري ذلك المسكين أن الساعة بانتظاره والأجل مكتوب، فإذا به يحس بالغثيان وبالإعياء؛ لأنه شرب كثيراً، فدخل في دورة المياه، دخل ليخرج ما شربه -أجلكم الله- ثم أطال عليهم ولم يخرج من الغرفة ليومين أو ثلاثة، فكسروا عليه الباب ودخلوا، فإذا به قد فارق الدنيا منذ ثلاثة أيام أتعرف أين كان رأسه؟ لقد كان في مصرف المجاري.
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] انظر إليه في تلك اللحظة ماذا يقول؟ {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} يا رب يوماً واحداً، ساعة واحدة، لحظة واحدة أرجع، أتعرف لم يا عبد الله؟ أتظنه ليأكل، أو ليشرب، أو ليجامع، أو ليسكن القصر، أو ليتمتع بالأموال؟ كلا وربي!
{رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] رب أرجعني أصلي حتى الموت، أسجد حتى تقبض روحي، والله لن أتعامل بالربا بعد اليوم، تقول المرأة: رب ارجعوني أتحجب من جميع الرجال، ولا أستمع الأغاني بعد اليوم! رب ارجعون ولن تضيع علي صلاة الفجر مرة واحدة! رب ارجعون ولن أفعل كذا وكذا! {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}.
يرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] الفرصة واحدة، والعمر واحد، والنذير يأتيك مرة واحدة، لكن هلا اعتبرنا يا عباد الله؟! هلا انتبهنا لأنفسنا؟!
عبد الله: هل تعجبك ميتة ذلك الرجل الذي كبر به السن، ودق عليه العظم، وشاب شعره، وكان حريصاً على الصلوات الخمس في بيت الله، فلما كبر سنه وجاءته ساعة الوفاة سمع الأذان يؤذن، فقال لأولاده: احملوني إلى المسجد.
قالوا: يا أبتاه! إن الله قد عذرك.
قال: أسمع الأذان ولا أجيب، لا إله إلا الله! احملوني إلى المسجد.
قالوا: يا أبتاه! قد أعذرك الله.
قال: احملوني إلى المسجد، فإذا به يصلي صلاة المغرب، ثم لما كان في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، وسوف يبعث عند الله ساجداً، وذاك الرجل يبعث عند الله سكيراً عربيداً، رأسه في مصرف المجاري، هل يستوي هذا وهذا؟!
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].(82/5)
أفنجعل المسلمين كالمجرمين
أتظن -يا عبد الله- أن الله يساوي بين من يستمع للقرآن، ويحفظ القرآن، ويتلذذ بالقرآن، وبين من يستمع إلى الموسيقى والغناء، ويحفظ الغناء، ويتلذذ بالغناء: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35].
أتظن -يا عبد الله- أن الله يساوي بين من يقوم في الصباح الباكر إلى بيت الله ليصلي ركعتين لله جل وعلا، وبين من يقوم على الغناء وعلى الطرب، ويقوم لعمله بغير صلاة، يقوم لتجارته بغير صلاة، لا يصلي الفجر في جماعة، ولا يصلي الظهر في جماعة، ولا يعرف ذكر الله، أتظن أن الله يساوي بين هذا وهذا؟!
أتظن أن الله يساوي بين من ينفق أمواله في الربا، وبين من ينفق أمواله في الصدقات؟! لا يا عبد الله! لا يساوي الله عز وجل بين هذا وهذا {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
أبداً لا يستوون في حكم الله الذي يفتح محلاته التجارية، ومعارضه، وتجارته في الحرام؛ ليفسد في بلاد الله، وليهلك الحرث والنسل، أيجعله الله كمن يهدي الناس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله جل وعلا، ويقتصر في أمواله على الحلال أتظن أن الله يساوي بين هذا وهذا؟!
كان هناك أربعة نفر سافروا إلى بلادٍ لعمل الفواحش، فإذا بهم في منتصف الليل يدخلون مرقصاً من المراقص، يرقصون مع النساء ويشربون الخمور، ثم في أثناء شربهم ولهوهم ورقصهم في منتصف الليل، والرب قد نزل إلى السماء الدنيا، إذا بأحد الأربعة يسقط على الأرض مغشياً عليه، فجاء الثلاثة إليه ينادونه: يا فلان! يا فلان! فإذا به يحتضر، فقال أحد الثلاثة لهذا الرجل: يا فلان! قل: لا إله إلا الله.
أتعلم -يا عبد الله- بم أجاب؟ لقد قال: زدني كأس الخمرة وتعالي يا فلانة، قل: لا إله إلا الله، قال: زدني كأس الخمرة وتعالي يا فلانة.
ثم فارق الدنيا على هذه الحال، ثم يبعث عند الله وهو على هذه الحال، وهو يقول: زدني كأس الخمرة وتعالي يا فلانة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
عبد الله: هناك الفوز الحقيقي، وهناك النجاة الحقيقية، لا تنظر إلى الناس في الدنيا غنيٌ وفقير، كبيرٌ وصغير، عظيمٌ وحقير، فهم في حكم الله سواء، وبادر بالأعمال الصالحات، وإنما العبرة بالخواتيم، فهلا استعد كلٌ منا لتلك اللحظات، وانتبه لها، وتاب إلى الله جل وعلا؟!
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(82/6)
قصيدة شعرية تصف الموت وما بعده
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: إذا أردت -يا عبد الله- أن تعلم ما الذي سوف يحصل لنا بعد الموت، وما الذي سوف يجري لنا بعد الموت؛ فاسمع إلى هذه الحكمة من هذا الشاعر الذي يصف حال المؤمن والفاجر في حال الموت وما بعده، اسمع وانتبه، واعلم أنك المقصود بهذه الكلمات، لا تقل: أنا أفضل من غيري، ولا تقل: الحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحات، فإن بعض الناس ليس بمسلم، وبعض الناس فاجر وكافر لا تقل هذه كلمات، واتهم نفسك بالتقصير، واتهم نفسك بالنفاق، واتهم نفسك بكل ما تتهم غيرك يقول هذا الشاعر:
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ وتجمع في لوحٍ حفيظٍ وتكتبُ
وقلبك في سهوٍ ولهوٍ وغفلةٍ وأنت على الدنيا حريصٌ معذبُ
تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ
أما تذكر الموت المفاجيك في غدٍ أما أنت من بعد السلامة تعطبُ
أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ
أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسطٍ للوفاء سينصبُ
تروح وتغدو في مراحك لاهياً وسوف بأشراك المنية تنكبُ
تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحم ينجي ولا ثم مهربُ
وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصبُ
قاموا سراعاً في جهازك أحضروا حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا
وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ
ولربما يكون ابنك، ولربما يكون أخوك، ولربما يكون خليلك.
وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ
وكل حبيب لبه متحرقٌ يحرك كفيه عليك ويندبُ
وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وقد بخروا منشورهن وطيبوا
وألقوك فيما بينهن وأدرجوا عليك مثاني طيهن وعصّبوا
وفي حفرة ألقوك حيران مفرداً تضمك بيداء من الأرض سبسبُ
إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكلٌ ومشربُ
وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلماتٌ غيهبٌ ثم غيهبُ
وهولٌ وديدانٌ وروع ووحشةٌ وكل جديدٍ سوف يبلى ويذهبُ
فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهادم لذات الفتى سوف يقربُ
ولا تحرقن جسمي بنارك سيدي فجسمي ضعيفٌ والرجا منك أقربُ
فما لي إلا أنت يا خالق الورى عليك اتكالي أنت للخلق مهربُ
وصلِّ إلهي كلما بر شارق على أحمد المختار ما لاح كوكبُ
اللهم أعز الإسلام المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم من أراد بنا وبالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره.
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول هذا القول، وأقم الصلاة.(82/7)
أسباب هلاك الأمم
إن الله عز وجل قد أخبر في كتابه الكريم أنه أهلك أمماً وقرى كثيرة، فلم يبق لهم أثراً، بل صاروا أثراً بعد عين، وعبرة لمن اعتبر فما هي الأسباب التي أهلكهم الله تعالى لأجلها؟
هذا هو ما تحدث عنه الشيخ؛ فقد ذكر أسباباً كثيرة لهلاك الأمم، منها: الظلم، والترف، وكفر النعم، وكثرة المنافقين، وموالاة الكافرين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفشو الربا، وخراب المساجد، وترك الجهاد، وظهور الفواحش ثم ذكر حديثاً جامعاً لأسباب هلاك الأمم.(83/1)
هلاك الأمم بالذنوب والمعاصي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة نذير لنفسي ولإخواني المسلمين، وهي بعضٌ مِن الأسباب التي بها يدمر الله عز وجل القرى ويهلك الأمم.
وكم وكم من القرون ومن الأمم ومن القرى أهلكها الله جل وعلا! فمنها قائم إلى الآن، ومنها حصيد حصده الله جل وعلا، فلا تجد منهم باقياً ولا أثر ولا نفساً منفوسة، أين هم؟ ذهبوا إلى الله جل وعلا، وأهلكهم الله تبارك وتعالى، ودمرهم ولَمْ يُبْقِ منهم أحداً، وهل هذا ظلم من الله جل وعلا؟! قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود:101] ما ظلم الله جل وعلا أحداً بل هم الذين ظلموا أنفسهم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
وكم أهلك الله عز وجل من القرى ومن الأمم بذنوبهم وبمعاصيهم وبهذه الأسباب التي سوف نذكرها في هذه الخطبة، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} إنهم كثر {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:17] الله جل وعلا لا تخفى عليه خافية، ولا يحابي أحداً على أحد، وهو العدل الذي إن أهلك أمة بسبب فإنه يهلك الأمم جميعاً بهذا السبب، وهذه هي مقتضى حكمته جل وعلا.(83/2)
بيان أسباب هلاك الأمم
فاسمع -يا عبد الله- إلى هذه الأسباب التي سوف نسردها في هذه الخطبة سرداً، ولولا ضيق الوقت لفصَّلنا فيها.
وهذه الأسباب إن وجد منها سبب؛ فاعلم أن هذه القرية وهذا البلد وذلك المجتمع وهذه الأمة تنتظر الهلاك من الله جل وعلا، إنْ عاجلاً أو آجلاً.(83/3)
الظلم
السبب الأول: الظلم:
إن الظلم من أعظم الأسباب التي يهلك الله عز وجل بها القرى، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
وكم يحصل في بعض الأمم وفي بعض القرى من الظلم ظلم الناس لربهم جل وعلا، وظلم الناس بعضِهم بعضاً، تجد كثيراً من العمال والموظفين ومن الأجانب ومن المغتربين من يمكث عدة أشهر ولا يحصل من مسئوله ومديره وكفيله على دينارٍ واحد، وكم جاءنا ممن يبكي بين أيدينا ويشتكي من كفيله الذي حرمه لقمة العيش لأولاده!
يقول بعضهم: مكثت ستة أشهر ولم يعطنِي ديناراً واحداً، ولو اشتكيت عليه لهدَّدني بالسفر وبالرجوع والطرد إلى بلادي
وكم هو الظلم الذي يحصل في بعض البلاد لصغار الناس والموظفين والعمال والمواطنين الذين لا يستطيعون أن يحصلوا على بعض حقوقهم فضلاً عنها كلها، إنه الظلم يا عباد الله!
ومن أعظم الظلم ما يكون على المؤمنين الموحدين، وعلى الدعاة إلى الله جل وعلا، وعلى أولياء الرحمن، وإن وقع الظلم على هؤلاء فاعلم أن هذه القرية تحارب الله جل وعلا، وهذه القرية تنتظر بعث الله تبارك وتعالى يأتيها صباحاً أو مساءً، بياتاً أو هم قائلون، واسمع إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: "إن الدول تزول مع الظلم ولو كانت مسلمة"، ولو كان أهلها مسلمون، ولو كانوا مصلين، ولو كانوا راكعين، ولو كانوا ساجدين، فإنهم يزولون؛ لأن فيهم الظلم.
عباد الله: إياكم إياكم والظلم! فإن الله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً.(83/4)
الترف وكثرة النعم
السبب الثاني: الترف وكثرة النعم:
تجد بعض الناس يلبس من الملابس، ويسكن من القصور، ويركب من المراكب، ويسكن في الأثاث الوثير الذي لا يعقله عاقل ولا يستحسنه إنسان عنده مَسْكَة مِن عقل اسمع كيف يؤدي الترف بكثير من الناس إلى الفجور والعصيان والفسوق، حتى إنه لَمَّا يسكن في قصره البهيِّ، ويركب مركبه الفاخر؛ ينسى دين الله جل وعلا، وينسى أوامر الله ولا يرضى ولا يقبل أن يُؤمَر بمعروف أو يُنهَى عن منكر.
قال الله جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] أي: إذا أردت أن تعرف أن هذه القرية أراد الله أن يهلكها فاسمع إلى هذه العلامة: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] أمر الله المترفين بأداء الزكاة، بإقام الصلاة، بالستر والعفاف، أمر الله المترفين بالحكم بكتابه، وبطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] أي: عارضوا أمر الله، وعاندوا شرع الله جل وعلا لا تنظر إلى الفقراء، لا تنظر إلى المساكين، لا تنظر إلى الضعفاء؛ فهم أتباع الرسل، وهم يتَّبعون أمر الله، وإذا أردت أن تعرف أمر هذه القرية هل هو إلى زوال أو إلى بقاء فانظر إلى المترفَين، وانظر إلى الملأ الأعلى، وانظر إلى الأغنياء هل هم على شرع الله؟ هل يقيمون حدود الله؟ {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] أتعرف ما هو القول؟
إنه قول العذاب وكلمة العذاب والعياذ بالله!(83/5)
كفر النعم
السبب الثالث من أسباب هلاك الأمم ودمار القرى وفسادها: كفر النعم:
تجد بعض الناس يُنعم الله عليه فلا يَشكر الله تعالى، ينعم الله عليه فينسى حق الله عز وجل عليه في هذه النعمة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112] وهما مقترنان، فكثير من الناس وكثير من الأمم لَمَّا أذاقها الله لباس الجوع ولم ترجع أذاقها الله لباس الخوف، وكثير من القرى لَمَّا أذاقها الله لباس الخوف فذهب الأمن وذهبت الطمأنينة ولم ترجع أذاقها الله لباس الجوع {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] إنه بسبب كفر النعمة يا عباد الله!
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] يحصل الواحد منهم على الملايين، بل على المليارات ولا يؤدي زكاة أمواله، ولا يُعطِي النفقة من ماله، ولا يُطعِم المسكين، ولا يُنعِم على اليتيم، ولا يُؤدِّي حق الله عز وجل في أمواله.(83/6)
كثرة المنافقين
السبب الرابع من أسباب هلاك الأمم ودمار القرى وهلاك المجتمعات: كثرة المنافقين الذين يتولَّون زمام الأمور، ويُنَصَّبُون ويتولَّون أمور المؤمنين:
المنافقون الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ومحاربة أولياء الرحمن، ويحاربون الدعاة إلى الله والعلماء وطلبة العلم والمتدينين ويتظاهرون بالإسلام، ثم مع هذا يتولَّون أمور المؤمنين، ويتولَّون زمام شئونهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله -أي: أُعطِي الزمام من لا يستحقه- فانتظر الساعة) قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] يتظاهرون بالإصلاح، بل يقوم بعضهم ويقول للناس: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] يا قوم! أخاف من الفساد، أخاف أن يهلكوا هذه الأمة، أخاف أن يمزقوا المجتمع، أخاف أن يظهروا فيها الفساد، أخاف أن يغيروا دينكم؛ ولهذا قتلتُهم، ولهذا سجنتُهم، ولهذا طردتُهم، ويتظاهر المنافق بأنه يحمي هذا الدين ويحمي حوزته، ويخطب في الناس ويزعم أنه يحافظ على دينهم وعلى كرامتهم وهذه من علامات فساد هذه الأمة وزوالها ودمارها يا عباد الله!(83/7)
موالاة الكافرين
السبب الخامس: أنك تجد أهل هذه القرية وأهل هذا المجتمع يوالون الكفار ولا يوالون المؤمنين:
تجدهم يوالون أعداء الله جل وعلا، ويفتخرون بنصرتهم وبإعانتهم، ويحاربون أولياء الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] أي: إن الكفار هم الذين يتولون بعضُهم بعضاً {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:73] أي: إلاَّ يوالي بعضُكم بعضاً، ويوالي عباد الله المؤمنين، ويوالي الدعاة والمصلحين، ويوالي أهل العلم وأهل التقوى وأهل الصلاح: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فساد يعم الأرض والمجتمع، فساد يعم القرى، فتنة تدمر الشعوب وتمزق صفوفها؛ لسبب واحد وهو أنهم والَوا أعداء الله وتركوا عباد الله، النفقات والصدقات والمعونات والإعانات كلها لمن؟ للكفار من الشعوب، لأعداء الرحمن، أما المسلمون فإنهم يموتون من الجوع، ويَهْلَكون من العُري، يطلبون ديناراً واحداً فلا يصلهم، وتُقْطَع الطرق وتُمْنَع عنهم، ولاءً لأعداء الله وبراءً من أولياء الله.(83/8)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السبب السادس: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن من أسباب هلاك الأمم ودمارها وفسادها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله جل وعلا يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
وكلٌّ منكم -يا عباد الله- يعلم حديث سفينة المجتمع، التي أخبر عليه الصلاة والسلام بأن جميع مَن فيها من الصالحين والفُجَّار يَهْلَكون إذا ترك الدعاةُ إلى الله الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر فقال: (إن أخذوا على أيديهم) أي: منعوهم، ولم يتركوهم يفعلون المنكرات، بل دخلوا عليهم في قعر دارهم، وأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، وتجرءوا فقالوا للظالم: أنت ظالم، وقالوا لصاحب الخطيئة: أنت مخطئ، وقالوا لصاحب المنكر: يا صاحب المنكر كف عن منكرك، إن تجرءوا على هذا، قال: (نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم) قال هذا: ليس لي دخل، وقال ذلك: أخاف على أموالي وأهل بيتي، وقال الثالث: أخجل أن أتكلم، وقال الرابع: هذا بيد ولاة الأمور، وقال الخامس والسادس والسابع كذلك، ثم جلسوا في بيوتهم: (هلكوا وهلكوا جميعاً).(83/9)
فشو الربا
السبب السابع: فُشُوُّ الربا:
إذا ظهر الربا في قرية في أمة في مجتمع؛ فاعلم -يا عبد الله- أنه في انتظار الحرب من الله جل وعلا، حربٌ بالكوارث، حرب بالسنين، حرب بالقحط، حرب بالديون، حرب بتسليط الأعداء على هذا المجتمع وعلى تلك القرية، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] ولو كان ديناراً، ولو كان درهماً، ولو كان فلساً واحداً، فكيف بالملايين من الربا؟!
كيف بالبيوت التي تُغْنَى في كل يوم من الربا؟!
كيف بالمعاملات التي تؤسَّس على الربا؟!
كيف بإجبار الناس على الربا؟!
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] اعلموا وائذنوا وانتظروا حرباً من الله، ومَن مِنَّا يقوى على الحرب من الله؟!
عباد الله: إن الأمة والشعب والمجتمع يخافون من حرب الدول، وحرب ولاةٍ مِن أمثالهم، وحرب بعض القرى القوية، فكيف إذا كانت الحرب من الله جل وعلا تنزل من فوق سبع سماوات؟!
وكيف تظنون كيفية حرب الله؟!
إن الله عز وجل أهلك أمماً بصيحة من مَلَك.
واللهُ جل وعلا أرسل الريح فدمرت قرى.
واللهُ تبارك وتعالى لَمَّا أذن للماء أن يطغى طغى، فإذا به يغطي أمماً وشعوباً كانت بالأمس موجودة، أما اليوم فقد زالت من الوجود.
واللهُ جل وعلا جنودُه ما يعلمها إلا هو.
واللهُ تبارك وتعالى قوته لا تعدلها قوة.
واللهُ جل وعلا إذا حارب قوماً فلا لا طاقة لهم بمحاربة الله.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: بترك كل دينار من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] كيف والمجاهرة في هذا الأمر موجودة! تفتح الصحف والجرائد فإذا بمؤسسات وشركات وأفراد ومنفذين يدْعُون شعوبَ الإسلام وعبادَ الرحمن إلى التعامل بالربا، ويسهِّلون لهم الأمر ويغرُونهم لمحاربة الله عز وجل ورسوله، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين) أي: بالقحط، وبالدَّين، يصبح الإنسان وراتبه ألف دينار، لكن يأتي آخر الشهر وقد استدان من الناس إلا أُخِذوا بالسنين يا عباد الله!(83/10)
تخريب المساجد وهدمها
السبب الثامن: تخريب المساجد وهدمها:
ومن أسباب زوال الأمم ودمار الشعوب وهلاك القرى: تخريب المساجد وهدمها؛ فإنك ترى هذه القرية وذلك المجتمع يدمرون المساجد ويخربونها ويهدمونها على رءوس أصحابها.
قال الشوكاني: والتخريب نوعان:
تخريب حسي؛ أن تُهَدَّم المساجد وتُخَرَّب.
وتخريب معنوي: أتعرفون ما هو التخريب المعنوي؟
أن تُعَطَّل عن أهدافها، فتُمْنَع المحاضرات، وتُمْنَع الدروس، وتُقْفَل أبوابها، ويُمْنَع الناس من الجلوس فيها، وذلك لغير مصلحة شرعية، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114].
بل سمعنا عن بعض البلاد التي تزعم الإسلام وتتظاهر بشريعة الرحمن أنهم يقفلون المساجد حتى عن بعض الصلوات، فيقفل المسجد عن صلاة الفجر، فليس هناك صلاة الفجر، ومَن أراد أن يصلي الفجر فليصلِّ في بيته، ولا تذكر الله عز وجل في بيت الله، ويكفيك جريمةً وإثماً وعقوبةً أنك تتحلق مع اثنين أو ثلاثة لتقرءوا القرآن في بيت الله جل وعلا! هذه جريمة أعظم حتى من الزنا! وأعظم حتى من الفواحش التي لا يؤخذ على أيدي الناس فيها!(83/11)
ترك الجهاد في سبيل الله
السبب التاسع: ترك الجهاد في سبيل الله:
فإذا تُرِكَ الجهاد في سبيل الله فاعلم أن القرى والأمم في طريقها إلى الذل والهلاك والدمار، قال الله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
قال أبو أيوب في تفسيرها، هذا الصحابي الجليل يقول: [نزلت فينا معشر الأنصار، لَمَّا جاهدنا في سبيل الله، ونصر الله هذه الأمة وهذا الدين، قلنا: لو لجأنا والتفتنا إلى ضِياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها، فأنزل الله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]].
بل قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعِينة، واتبعتم أذناب البقر -أي: انشغل الناس بالربا وبالزروع- وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
ذل وهلاك ودمار وفساد وبوار للمجتمعات إذا تركوا الجهاد في سبيل الله، إذا تركوا دينه ولم ينصروه، ورضوا بالزروع وبالتجارات وبالمحلات وبالشركات وبالأثاث وبالبيوت، رضوا بالدنيا وركنوا إليها، وتركوا جهاد المال واللسان والنفس؛ فإن الله عز وجل يسلط عليهم ذلاً لا ينزعه عنهم حتى يرجعوا إلى دينه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.(83/12)
ظهور الفواحش
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون:
السبب العاشر من أسباب هلاك الأمم ودمارها: ظهور الفواحش فيها.
قال عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قدر هكذا -وحلق بالسبابة والإبهام- فقالت له إحدى زوجاته: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! -فينا مصلون، فينا رُكَّع سُجَّد، فينا من يقرأ القرآن، فينا من يحضر حلق العلم والذكر- قال: نعم.
إذا كثر الخَبَث).
أتعرفون ما هو الخبث؟ قال ابن حجر عليه رحمة الله: الخبث هو الزنا، وأولاد الزنا، والفواحش، والفجور، أن ينتشر الزنا، حتى إنك تجد كثيراً من اللقطاء في الشوارع طفل عند باب المسجد، طفل في أحد الشوارع، طفل في المستشفى لا يُعْرَف مَن أمه ولا مَن أبوه، بل تشتهر بعض البيوت بالفواحش والدعارة، وأسبابها من المغنين والمغنيات والمطربين والمطربات، والمطربون يُجْلَبون إلى هذه البلاد وغيرها من البلاد لنشر الفاحشة والدعارة، والغناء كما قال بعضهم: بريد الزنا.
قال عليه الصلاة والسلام: (سيظهر في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، قالوا: متى يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القِيان -أي: إذا كثرت المغنيات- والمعازف، وشُرِبَت الخمور).
عباد الله: إن بلاد الغرب والشرق الآن يعانون من انتشار الزنا والفواحش، بل إن هذه البلاد تشتكي من مرض ابتلاهم الله عز وجل به، يسمى: مرض الإيدز؛ بسبب نشرهم للإباحية وللفجور وللدعارة، يقال: إن هذا المرض يقتل قتلاً بطيئاً يصبح الرجل معه كالمجنون على الفراش، ثم يتلوث ولا يستطيع أن ينجي نفسه، ثم يصبح يهذي ولا يعرف ما يتكلم به، ثم يُشَل الجسد، ويصبح معتوهاً مجنوناً، ثم يموت موتاً بطيئاً وهو على فراش الموت، لا يستطيع قريب ولا صاحب أن يقترب منه، وهذا المرض -يا عباد الله- يقولون في الإحصائيات: إنه سوف يأتي عام 2000م ويُقَدَّر مَن يصاب بهذا المرض بأربعين مليوناً، أربعون مليوناً يصابون بهذا المرض.(83/13)
حديث جامع لأسباب هلاك الأمم
واسمع -يا عبد الله- إلى هذا الحديث الجامع المانع لأسباب هلاك الأمم ودمار القرى وفساد المجتمعات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -اسمع لهذه الخمس الجامعة المانعة التي تشمل هذه الأسباب السابقة كلها- قال: لََمْ تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها) حتى يصبح الأمر في الجرائد، حتى يصبح الأمر مِن الدعوة لأسباب الزنا، والحفلات الغنائية، وعروض الأزياء، والأغاني، والأفلام الماجنة، يصبح الإعلان فيها في كل ملأ، بل على الصفحات، وعلى البيوت، وعلى الجدران، إذا أعلنوا بها؛ قال: (إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) وهل سمعنا بالإيدز من قبل؟! وهل سمعنا بهذه الأمراض من قبل؟! {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
ثم قال: (ولم ينقصوا المكيال والميزان -أي: يتعاملون بالربا، ويتعاملون بالغش، ويأخذون حقوق الناس ويظلمونهم- إلا أخذوا بالسنين، وقلة المئونة، وجور السلطان عليهم) ثلاث عقوبات: الأخذ بالسنين، أي: القحط.
وقلة المئونة، يصبح الرجل عنده مال لكن لا يستطيع أن يحصل على شيء، وجور السلطان، أي: ظلم السلطان عليهم.
والثالثة: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم) عنده ملايين ولا يخرج بعض الدنانير، ولا يخرج زكاة أمواله، بخيل، مقتر، ويمنع حق المسلمين وحق الفقراء، قال: (إلا منعوا القطر من السماء) ليس هناك مطر، ولا أريد أن أدلل لك على هذا الأمر، ولا أريد أن أخبرك أن الشمس قد طلعت، وأن أدلل لك بأن الجو الآن هو في النهار، لا أريد أن أخبرك بهذه الأدلة، فهذا أمر بَدَهِي، قال: (ولولا البهائم لم يمطروا) قد يمطرون؛ لكن لأجل البهائم وليس لأجلهم.
والرابعة: (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم) يسلط الله عزَّ وجلَّ عليهم الأمم الظالمة والطاغية والكافرة؛ فتسلب ما في أيديهم، وتسلب أموالهم، وتنتهك أعراضهم، وتدمر بيوتهم، وتخرجهم من أراضيهم، ما هو السبب؟ إن السبب هو أنهم نقضوا عهد الله وعهد رسوله عليه الصلاة والسلام.
وهل من عهد -يا عباد الله- أن نبني هذه البنوك الربوية؟!
وهل من عهد الله وعهد رسوله أن نأتي بفِرَق ماجنة داعرة عاهرة لتطرب الناس وتزمر وتفعل الفواحش؟!
وهل من عهد الله -يا عباد الله- أن ندعو الناس لأن يجلسوا وينظروا إلى النساء وهن عاريات إلى قريب من السوأتين وما حولها ويسمونها عروض أزياء؟!
هل من عهد الله -يا عباد الله- أن نترك شريعة الله خمس أو ست سنين ولم نطبق منها شيئاً؟!
هل هذا من عهد الله يا عباد الله؟!
قال صلى الله عليه وسلم آخر الحديث: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) فتنة المجتمع، يضرب بعضُهم بعضاً، تصير فتنة أحزاب، وجماعات، ومذاهب، وقتال داخل المجتمع، ما السبب يا رسول الله؟
قال: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) مَن الذي يريد الآن أن يمزق المجتمع؟
مَن الذي يريد الآن أن يشق الصفوف؟
مَن الذي يريد أن يظهر الفتن؟
قال: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) الذي لا يريد أن يحكم بكتاب الله، الذي يضع العراقيل والمعوقات لأجل ألا يُحْكَم بكتاب الله، خذوا على يديه فإنه هو الذي يريد أن يمزق المجتمع، وهو الذي يريد أن يشق الصفوف، فهل يرضى الغيورون؟
وهل يرضى الرجال؟
وهل يرضى أولو الدين والعفة والمروءة أن يسمحوا لأولئك أن يأتوا بمغنين ومغنيات؟!
أو أن ينشروا الفساد في المجتمع؟!
لا بد أن يقوموا فيأخذوا على أيديهم، ولا بد أن يقوم أولئك الظلمة الفجرة فيردُّوا عليهم ثم تكون الفتنة، {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
عباد الله: هذه هي أسباب هلاك الأمم ودمار القرى، واعلموا أن الله جل وعلا إذا أهلك فإن هلاكه شديد، وإن أخذه أليم، وإن عقوبته كبيرة ليست كعقوبة البشر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر.
أقول هذا القول.
وأقم الصلاة.(83/14)
قوم صالح
في قصص الأنبياء مع أقوامهم عظة وعبرة، ومن أهم تلك الأمم قوم صالح، فإنهم كذبوه، وعتوا عن أمر ربهم، فأخذهم الله، وهكذا من عصى الله، وفي هذه الخطبة يذكر الشيخ ذلك(84/1)
قصة قوم عليه السلام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام!
لقد أعطى الله عز وجل قوم صالح من الخيرات العظيمة والأمن والنعيم والرفاهية ما لم يؤت أحداً من العالمين في ذلك العصر؛ لكنهم كفروا بالله، وجحدوا أمره، وعبدوا غيره، ولم يشكروه جل وعلا، فأرسل إليهم صالحاً نذيراً.(84/2)
تذكير صالح لقومه بالله وتكذيبهم له
إنه صالح عليه السلام، نبي عربي أرسله الله جل وعلا لينذر قوماً هو منهم وفيهم، ينذرهم عذاب الله جل وعلا، فجاءهم صالح فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وهي دعوة الرسل والأنبياء، بل هي بداية الدعوات، هي نبذ الشرك، وتوحيد الله جل وعلا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] جاءوا لصالح عليه السلام {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود:62] كنا نظن أن فيك عقلاً قبل هذه الكلمات، كنا نحسن فيك الظن بأنك حكيم قبل هذه الدعوة، أما الآن فأنت مجنون، {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62] أتنهانا عن عبادة ما عبد الآباء والأجداد والقبيلة {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]؟!
وجاءوا مرة أخرى وقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] أي: سحرك الجن، أو سحرك بعض الناس فجئت بهذه الدعوة.
انظروا السب! انظروا الشتم! انظروا الاتهام! ما رد عليهم إلا بكلمات فيها الشفقة والرحمة، قال: يا قوم! -انظروا إلى الخطاب! - {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] يا قوم! أتظنون أن الأمن يستمر؟! يا قوم! أتظنون أن نعمة الأمن والطمأنينة تستمر عليكم أبد الدهر؟! {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:146 - 148] أتظنون كل هذه النعمة دائمة وباقية وأنتم تكفرون بالله؟! لا تحكمون فيما بينكم بشرع الله؟! ولا تتحاكمون إلى الله؟! وهذه الكلمات إن دلت فإنما تدل على الشفقة.
ثم ذكَّرهم بالبيوت: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُون} [الشعراء:149 - 150] أي: خافوا الله واخشوه.
انظروا إلى الكلمات كيف خرجت من هذا القلب الرحيم! ولكنها سرعان ما تقابَل بالاتهام وبالشتم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153].(84/3)
قوم صالح يطلبون معجزة ثم يكفرونها
جاءهم في يوم من الأيام وكانوا جلوساً في نادٍ من نواديهم، فأمرهم بعبادة الله، فخرج أحدهم فقال: يا صالح! تريد منا الإيمان؟ قال: نعم.
آمنوا بالله وحده: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90] لا أريد المال ولا المنصب، ولا الزوجة ولا البيت، ولا أريد شيئاً منكم، أريد منكم أن تنقذوا أنفسكم من النار.
قالوا: يا صالح! نؤمن لك بشرط واحد.
قال: وما هو؟
قالوا له: أخرِج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء، أي: ناقة في بطنها جنين.
ثم ماذا؟ وفيها لبن يكفي القرية كلها، وكان في القرية ما يقارب خمسة آلاف بيت، وفي كل بيت مجموعة من الأفراد.
قالوا: وتؤمنوا؟
قالوا: نعم نؤمن.
قال: وعد بينكم وبين الله؟
قالوا: نعم وعد بيننا وبين الله.
فقام صالح عليه السلام يصلي، ويرفع يديه إلى الله، ويدعو ربه جل وعلا، فإذا بالناقة تخرج أمام أعينهم مبصرة، فخرجت هذه الناقة من الصخرة، وفي بطنها جنين، {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59] أي: أمام الأعين والناس ينظرون، فانبهروا، وآمن كثير من الناس، ولكن الأكثر منهم كفر، وغالبهم ظلموا أنفسهم: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59].
قال: يا قوم! آمنوا، هذا وعد بينكم وبين الله.
ولكن طبيعة الناس أنهم يعِدُون الله، فلما يأتيهم بالآيات والبينات يكفرون ويظلمون، ويفجرون ويجحدون {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
فأخذ يدعوهم ويلح عليهم، يقول: هذه ناقة الله، ناقة شريفة، أضيفت إلى الله جل وعلا، لم تخرج كما خرجت النوق، إنما خرجت من صخرة، فهي ناقة مشرفة: {لَهَا شِرْبٌ} [الشعراء:155] أي: يوم لا تشربون شيئاً من البئر، ولا تشرب ماشيتكم {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] أي: وأنتم تشربون في اليوم الآخر.
مرت الأيام فجاءت بغيٌّ من بغايا قومه -وانظروا إلى النساء وكيدهن! - أهلك الله هذه القرية بسببها، فجاءت إلى رجل فقالت: أمكنك من نفسي بشرط واحد.
قال: وما هو الشرط؟
قالت له: أن تقتل هذه الناقة، وكان قد قال لهم صالح: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [هود:64] أي: لا تعترضوا لها بسوء {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64] وقال: {أَلِيمٌ} [الأعراف:73] وقال: {عَظِيمٍ} [الشعراء:156] كل هذه الأوصاف أوصاف لذلك اليوم، فجاءت البغي واشترطت على عشيقها أن يقتل هذه الناقة، وجاءت امرأة عجوز كافرة لها أربع بنات قالت: مَن يقتل هذه الناقة فإني أخيره من هذه البنات الأربع.(84/4)
قتلهم الناقة ونزول العذاب عليهم
فقام كدار المسالك ومعه أشقى القوم، وجمعا سبعة من أصدقائهما في تلك القرية كما قال الله جل وعلا: {تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] اثنان ومعهم سبعة، فاجتمعوا على هذه الناقة، فرموها بالنبال، فسالت الدماء، ثم حزوا رأسها وقطعوها، فرغت رغاء سمعه كل من كان بحولها، فسمع ابنُها هذا الرغاءَ فولَّى وهرب، قال بعض المفسرين: دخل في الصخرة التي خرج منها، وقال بعضهم: بل تبعوه وقتلوه كما قتلوا أمه، فرغى ثلاث مرات.
فنظر صالح عليه السلام إلى ناقة الله، نظر إليها ميتة مقتولة، فبكى صالح عليه السلام بكاءً شديداً مراً، وأشفق على قومه فقال لقومه: أدركوا ولدها لعل الله أن يتوب عليكم، أدركوا ولدها، فلحقوا ولدها فإذا هو مقتول كما قتلت أمه، فنظر صالح وبكى، وقال لقومه: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65] ثلاثة أيام لا تعيشون بعدها، ويأتيكم عذاب الله جل وعلا.
فنظروا إلى صالح وكانوا يعلمون أنه صادق.
فلما جاءوا اليوم الأول يوم الخميس وأصبحوا فإذا الوجوه كلها مصفرَّة، وجوه القوم كلها قد اصفرَّت وقد جفت العروق، فنظروا إلى بعضهم بعضاً فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد ذهب يوم من الأجل، ألا قد ذهب يوم من الأجل!
فلما أصبحوا في يوم الجمعة إذا وجوههم كلها قد احمرَّت، وعلموا بقرب الموعد، فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ألا قد مضى يومان من الأجل!
فلما جاء اليوم الثالث أصبحوا وقد اسودَّت الوجوه، فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد مضى الأجل، ألا قد مضى الأجل!
فحفر كل واحد في غرفته قبره، وجلس فيه، وتحنط، وتكفن، وانتظر وعد الله جل وعلا، وقبل الفجر أوحى الله لصالح: اخرج أنت ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل من قومه، قال بعضهم: مائة وعشرون فقط، كل هذه السنين لم يؤمن مع صالح إلا مائة وعشرون نفساً، وبقي خمسة آلاف بيت، كلهم كفروا بالله، قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65].
فلما جاء اليوم الرابع وقد انتهت المدة ومضى الأجل، أصبحوا وقد وبزغ الفجر، وإذا بهم يسمعون صيحة من السماء، والأرض ترجف تحتهم، فإذا بأنفسهم كلها قد زهقت وخرجت إلى الله، وقد تقطعت القلوب: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} [هود:67 - 68] عارضوا أمر الله، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفروا بربهم جل وعلا، ولم يحكموا بينهم بما أنزل الله، بل عبدوا غيره ولم يشكروه جل وعلا.
فإذا بالجنات، وبالعيون، وبالأنهار، وبالبيوت الفارهة، وإذا بالقصور كلها {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:68] تمر على ديارهم -وهي موجودة إلى هذه اللحظة- فترى أثر اللعنة، وأثر الغضب على بيوتهم، بل مر عليه الصلاة والسلام على بيوتهم في غزوة تبوك، فسمع أن بعض الصحابة قد ذهب مسرعاً ليرى قصورهم وبيوتهم قد نحتت في الجبال، فنهاهم عليه الصلاة والسلام وقال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ أن يصيبكم ما أصابهم) أي: لعله يصيبكم العذاب الذي أصابهم، فإن اللعنة قد نزلت في ديارهم، وإن غضب الله قد حل بهم.
يقال: إن رجلاً من قبيلتهم قد نجا، تعلمون لِمَ؟
لأنه كان وقتها في حرم الله جل وعلا، كان يعبد الأصنام في بيت الله الحرام، وكرامة لهذا البيت لم تأخذه الصيحة، فلما مرت الأيام -ويقال له: أبو رغال - خرج من حرم الله، فلما خرج أصابته الصاعقة، فإذا به يخر على الأرض صريعاً، حتى مر عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين بثقيف، وثقيف هؤلاء جدهم أبو رغال، فلما مر بهم قال لهم: (قبر مَن هذا؟ قالوا: قبر جد من جدودنا، قال: هذا قبر أبي رغال، هذا الذي نجا من قوم صالح، وعلامته: أن تجدوا في قبرة غصناً من ذهب) فتناهشه القوم، فأخرجوا ذلك الغصن، صدقاً لنبوته عليه الصلاة والسلام.
عباد الله! هذه القصة فيها من العبر الكثيرة ما سوف نرجئه إلى الخطبة الثانية.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(84/5)
العبرة المأخوذة من قصة صالح عليه السلام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، ما الذي جرى لقوم صالح؟!
لقد أنعم الله عليهم بالنعيم الكثير، والأمن، والطمأنينة، والرفاهية، والأموال، والذهب، والفضة؛ ولكنهم وللأسف نسوا أمر الله، حتى أوحى الله عز وجل إلى صالح أن يذكِّرهم ألا تنسوا عذاب مَن كان حولكم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف:74] أي: جعلكم الله أحياءً وقد أهلك القرى مِن حولِكم، ألا ترون مَن حولَكم كيف يُعذَّبون! وكيف يُهلَكون! وكيف يموتون جوعاً! وكيف يُهلَكون بالعذاب! وأنتم في أمن ونعيم وطمأنينة؟! {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} [الأعراف:74] أي: فتذكَّروا نعيم الله؛ ولكنهم عصوا أمر الله، وردوا دينه، وعصوا رسله، واتبعوا الشهوات والملذات.
فهاهم قوم ثمود يكفرون بالله!
وهاهم قوم لوط يأتون الفاحشة؛ يأتون الرجال من دون النساء!
وهاهم قوم شعيب يطففون المكيال والميزان!
وهاهم بعض هذه الأمة يَجْمَعون معاصي الأمم كلها:
فهم ينشرون الربا، ويبارزن الله عز وجل به!
وهاهم ينشرون الفواحش في كل طريق!
وهاهم يتركون أمر الله، ولا يحكمون شرع الله!
وإن مرض مريضهم لجئوا إلى غيره جل وعلا!
وإذا أصابتهم مصيبة دعوا غيره سبحانه وتعالى، واستعانوا بسواه جل وعلا!
وهاهم قد جمعوا ذنوب الأمم السابقة كلها!
وقد توعَّدهم عليه الصلاة والسلام بالخسف، والقذف، والمسخ، كما حصل للأمم السابقة.
عباد الله! بعد أن أهلك الله قوم صالح جاءهم صالح عليه السلام، ونظر إلى القرية، وإلى أبناء عمومته، وإلى أهليه وأقربائه، وكلهم صرعى جاثمون، وكلهم هلكى في بيوتهم، فأخذ يكلمهم: سبحان الله! صالح يكلمهم وهم يسمعونه وهم أموات يسمعون صالحاً، أتعرفون ماذا قال لهم؟!
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] أي: فلا تلوموني، فقد نصحتكم، وذكَّرتكم، وأمرتكم، ونهيتكم، وقرأت لكم آيات الله، وحذَّرتكم من الشرك والفواحش، وحذرتكم من ترك أمر الله، واجتناب نهيه {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]!
يا قومِ إياكم أن تلوموني، نعم.
أنا ابن عمكم، وأنا من قريتكم وقبيلتكم {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]!
عباد الله! إن المجرمين في قوم صالح تسعة؛ ولكن الله أهلك بسببهم خمسة آلاف بيت، قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51] لِمَ يا رب، القوم أجمعين؟! لِمَ يا رب، أهلكت الناس كلهم؟!
لأنهم سكتوا عنهم، لأنهم رضوا بفعلهم، وما أخذوا على أيديهم، فأغرقت السفينة بمن فيها.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] وانظر إلى القرية، وإلى القبيلة، وإلى القوم! {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] حتى إنك إذا مررت بها في هذا الزمن، فوالله الذي لا إله غيره! لكأنك تظن القوم قد هلكوا في الأمس القريب، وإذا مررتَ بهم فلكأنك ترى أثر اللعنة تنزل، وإذا مررت بديارهم فكأنك تسمع صياحهم، عبرةً لمن بقي من الناس، وعظة لمن يأتي مِن بعدِهم.
عباد الله! هذه القصة لا تمر بنا تسلية، ولا قضاءً للأوقات، إنما هي عبرة للأمم، وإنما هي موعظة للأجيال؛ حتى يتذكروا.
إذا عصوا الناس أمر ربهم، وجاهروا بالمعصية، وظهر فيهم الربا، والزنا، وعطَّلوا شرعه جل وعلا، ودعوا غيره، فليعلموا وليبشروا بعذاب الله جل وعلا يصيبهم كما أصاب مَن قبلَهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(84/6)