الجهاد في سبيل الله تعالى
إن الجهاد في سبيل الله هو سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، وإن أعداء الإسلام اليوم من داخل الصفوف وخارجها يتخطفون الأمة من كل جانب، فلا سبيل إلى النجاة ولا مخرج إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
فهذا خالد نازل الكفار في أكثر من معركة فما هزم في واحدة منها لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
أما نحن فقد قست قلوبنا بالشهوات، وأصابتنا العطالة والبطالة والتهور والكسل عن أفرض فرائض الإسلام وأكبر أركان الإسلام، وكذا عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.(1/1)
الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صُماً، وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! في زمن الفتن والمحن، إن أردنا أن ندفع عنا غائلة أعدائنا فالشرط قائم شرط وحيد واضعه رب العالمين: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] خطاب للأمة في مجموعها، لا بد أن يكون نصر الله في ثنايا حياتنا في سياستنا، واقتصادنا، وتعليمنا، وإعلامنا في معاهدنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، ومساجدنا، ومنتدياتنا، وأسواقنا؛ ننصر الله بالاستجابة لأوامر الله ننصر الله بالاستجابة لداعي الجهاد على كافة الأصعدة جهاد النفس عن نوازع الهوى، وجهاد أعداء الله، وأصحاب الهوى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
الخفض والرفع بيد الله العز والذل بيد الله، والنصر والهزيمة بيد الله، وقد جعل الله لذلك طريقاً جعل الله للنصر طريقاً، وجعل الله للخلاص طريقاً، فما هو؟
إنه الجهاد في سبيل الله الجهاد طريق إلى الخلاص والحياة بعز.
لا إله إلا الله! كيف صوَّرَه المولى على هيئة مبايعة حقيقتها أن الله اشترى أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، والثمن هو الجنة، والطريق هو الجهاد، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، وسنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها، لا بد للحق أن يكافح، ولا بد لكلمة الله أن تعلو، ولا بد للمقدسات أن تُحفظ وتُصان، مادام في الأرض أعداء للحق وأنصار للشيطان، الجهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن: {من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق}.
أمتي! في زمن الفتنة يجب أن يكون حديث الشباب، والشيوخ، والنساء، والأطفال، عن الجهاد، وعن العدة والاستعداد.
يا أمتي وجب الجهاد فدعي التشدق والصياحْ
ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراحْ
ما عاد يجدينا البكاء على الأقارب والنواحْ
لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماحْ
إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيدٍ فصاحْ(1/2)
واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة
يا عباد الله! يا مسلمون! كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به، ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، لا يفكرون فيما وراء ذلك من عزة نفس، أو علو همة، فكأنهم لا يعقلون.
أولئك الصنف من الناس عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، إذا ما دعا الداعي للجهاد -ومواقف الجهاد تقتضي أن يتنازل الإنسان على رفاهيته، وأن يتخلى عن كثير من ضرورات حياته- إذا ما دعا الداعي هؤلاء نكص كل منهم على عقبيه، ورضي بأن يكون مع الخوالف، وحق عليه قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
ولا إله إلا الله! ما أكثر هذا الصنف بين المسلمين! وهو سبب الذل، والمهانة، والهزيمة، والعار، والهوان.
لكنَّ هناك صنفاً آخر -وإن عزَّ وقلَّ- لا يرضى إلا بالحياة العزيزة الكريمة يرفض العيش في ظل الاستعباد يرفض انتقاص الكرامة.
هذا الصنف إذا ما أذن مؤذن الجهاد: يا خيل الله اركبي! جعل الدنيا بما فيها من زينة وبهجة خلف ظهره، وحمل السلاح، وضحى في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، إنه يُضحي بأسرته؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ويُضحي بأمواله؛ والمال عند الكثير شقيق الروح، ويُضحي بالمسكن؛ والمسكن على القلوب عزيز، كل ذلك في سبيل من فراغ؟
في سبيل الله جل وعلا.
يحمل الإيمان في قلبه كالجبال، قبل أن يحمل السلاح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.(1/3)
خالد بن الوليد مواقف وبطولات
أيها المسلمون: حيرتنا الأحداث المتلاحقة، ولا ندري عم نتكلم وبم نتكلم، وقد تكلمنا ثم تكلمنا، لكن حسبنا أن نقف قليلاً مع سيرة فارس الإسلام مع سيرة ليث المشاهد وسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ليكون لنا نموذجاً في المحن والحوادث، وقدوة في زمن الحيرة، وأسوة في زمن رخص دماء المسلمين، في زمن لم يعد فيه لدم المسلم ثمن، بل قيمته شهوة حاكم، أو جرة قلم قيمته حلم طاغية بالامبراطوريات قيمته رغبة في التسلط وتلذذ بمناظر دماء المسلمين وهي تراق، مأساةٌ أن تذهب الشعوب الإسلامية ضحية أطماع المغامرين.
ما أحرانا أن نرجع إلى سيرة خالد، فنعم القدوة خالد، فهو من اقتدى بقائدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
يأيها الشاب من هذه الأمة في هذا الزمن! بمثل خالد فتأسَّ، وبصحبه فاقتدِ، وعلى سيرته فاعكف؛ فإنها النور والسرور في حوالك الظلام وزمن الحيرة وانطفاء النور.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ
عبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
إنه خالد بن الوليد، مَن أبوه؟
أبوه كافر، صنم من الأصنام، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها.
أخرج الله من صلب الوليد المجرم الكافر خالداً الذي طبع على كل جسده بطابع الشهداء، ومات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء!
إنه أبو سليمان، الذي نازل في أكثر من مائة معركة، فما هزم في واحدة منها، لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
إنه شارب السم إنه المتوكل على الله، يُعرض عليه سم في قارورة كما ذكر ذلك الذهبي في سيره، يقول له مشرك وثني: إن كنتم أيها المسلمون تزعمون أنكم تتوكلون على الله فيكرمكم، فاشرب هذا السم يا خالد ولا تمت أو كما قال، فقال خالد بلسان الواثق من ربه: باسم الله توكلت على الله، ثم شرب القارورة كلها، فلم يصبه إلا العافية، وما زاده ذلك إلا عزة وكرامة.
من هو خالد؟
إنه من احتبس كل شيء في حياته لله دروعه وعتاده وماله في سبيل الله.
فيا من جعل الدنيا أكبر همه، قد جعلها خالد تحت قدميه، فرفع الله ذكره في العالمين.(1/4)
ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله} فكيف يزكي مالاً احتبسه كله في سبيل الله؟!
كيف يزكي دروعاً وسلاحاً وسيوفاً قد جعلها وقفاً في سبيل الله؟!
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله جلَّ وعلا}.
ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون، وهتلر، ولينين، واستالين، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين.
سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت حيياً خجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني.
عانقه صلى الله عليه وسلم معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفاً في يده صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك اللحظة أعطاه صلى الله عليه وسلم حقه في الإسلام احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حياً من ظهر ميت كافر عنيد.(1/5)
بطولات خالد يوم معركة مؤتة
وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريباً من معان في أرض الأردن، ويحضرها خالد مع جنود الله مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة؛ زيد، وجعفر، وابن رواحة، فنادى المسلمون بعضُهم بعضاً: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عدداً كثيراً من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله صلى الله عليه وسلم وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.(1/6)
موقف خالد يوم فتح مكة
ويأتي فتح مكة، يوم فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، يوم قال الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] دخل صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهراً، يقول: أقتل به محمداً -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئاً -تشحذه بالسم شهراً فما أغنى عنك- قال لها مرتجزاً:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ
إذ فر صفوان وفر عكرمة
والمسلمون خلفنا في غمغمةْ
يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ
ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.(1/7)
بطولات خالد في قتال المرتدين
ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبو بكر الصديق، فيعرف أن خالداً سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم.
كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بـ أبي سليمان خالد بن الوليد، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض.
وخرج في جيش من أهل بدر، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفاً جداً، كالجبال يمور موراً، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[لا إلى سلمى وإلى أجا، ولكن إلى الله الملتجا]].
لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ.
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لما رأى بنو حنيفة خالداً أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، وقتل الله مسيلمة الكذاب، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(1/8)
خالد يوم اليرموك
وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفاً يقاتلون مائتين وأربعين ألفاً، قال بعض المسلمين: [[يا خالد! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه]].
الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي.
لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة: يا خالد! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قال له جرجة: فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد: رحمك الله! عَمِلت قليلاً وأجرت كثيراً.
ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل: يا خالد لماذا جئتم؟
قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لـ عكرمة، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئاً بالماء البارد، وقال: [[يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك]].
وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعده عمر رضي الله عنه، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، ويأتي الأمر أبا عبيدة، فيُخفي كتاب عمر، ولا يخبر خالداً، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالداً، فقال خالد: [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لـ عمر، ولن أقاتل اليوم لـ عمر، ولكني أقاتل لله رب العالمين]] يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق.
ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات أقوياء في الدنيا شجعان للدرهم والريال أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله.
يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ
إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم.
يا أحفاد خالد! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم:
سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا
أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم.
فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة.
اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/9)
خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يجاهد خالد لإعلاء كلمة الله، حتى استقرت في غالب أصقاع المعمورة، ويأتي خالد رضي الله عنه بعد أن تنتهي المعارك، بعد أن يسمع (الله أكبر) تدوي في غالب أنحاء المعمورة، يأخذ رضي الله عنه فرسه، ويأتي إلى حمص في أرض الشام، ليعود إلى أهله بعد رحلة الجهاد الطويل، يقبل الناس بعدها على الغنائم وعلى رفع الدور والقصور، ويقبل خالد على آيات الله وكلام الله وذكره كان إذا صلى الفجر أخذ مصحفاً فينشره بين يديه ويقرأ حتى يقترب وقت الظهر.
يقول أهل العلم: كان إذا قرأ يبكي، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن يتحسر على حياته، ووالله ما ضاعت، إنها لحياة محفوظة عند الله، ما شغله عن القرآن إلا الجهاد؟!
فماذا نقول نحن ونحن في زمن الفتن؟! هل شغلنا الجهاد عن القرآن لنعتذر به عند الله يوم القيامة؟! لا والله، بل شغلتنا شهواتنا، ومعاصينا، ولهونا، ولعبنا شغلنا طلب الأماني والسهر على الأغاني، ما شغلنا الجهاد ولا شغلنا القرآن!
أوَّاهُ! في الليلة البهيمة في منتصفها، ما تسمع إلا أصوات الأغاني تفوح -والله- من بيوت المسلمين، لتفري كبد المسلم الغيور.
أوَّاهُ أوَّاهُ الأولى بنا في هذا الوقت أن نعكف على كلام الله نقرؤه ونتدبره.
يا أمة القرآن! اعمروا لياليكم بالقرآن اعمروا لياليكم بذكر الله اعمروا لياليكم بالقيام اتركوا أصوات الشياطين، فالذي لا يحتسب عمره من اليوم، والذي لا يفكر في ثوانيه ودقائقه من الآن فليبكِ على عمره، والله لَيُسْلَبَنَّ عمرُه من بين يديه وهو ينظر، والله لَيَهْلِكَنَّ مالُه وولدُه، فلا يغني ولا يدفع، والله ليُسْأَلَنَّ عن كل شيء يوم القيامة على مرأىً ومسمع.
هاهو خالد! يقف ليُنْهي حياته بالقرآن، أما ليله فقيام وبكاء، وأما نهاره فتدبر لآيات الله، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.(1/10)
خالد أثناء مرض الموت
طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: {من تمنى الشهادة صادقاً من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه}.
قال عند موته: [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] وتفيض روحه إلى الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون!
أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ
ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي(1/11)
حال عمر عند سماعه خبر موت خالد
ويأتي الخبر عمر رضي الله عنه وأرضاه بـ المدينة، وهو الذي يعرف قيمة خالد، فيظل واقفاً يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان، لقد عشتَ سعيداً، ومتَّ حميداً، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي رضي الله عنه ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي]].
فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بـ خالد.
ويأتي رجل إلى عمر، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالداً، قال: [[ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي]] لكن لا صراخ ولا قلقلة.
إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وتأتي وصية خالد لـ عمر: [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي]] فرضي الله عنهم أجمعين.
نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بـ خالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].(1/12)
الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى قيام الساعة
يمضي المسلمون في تاريخهم الطويل، يؤكدون سنة الله في الأرض، فكان لهم النصر عاشوا لعقيدتهم يستعذبون الصعاب في سبيلها، أما إذا تخلوا عن طريق الجهاد فسوف يحيون مستضعفين في الأرض يتخطفهم الناس في كل مكان.
نعم! حين كانوا يخرجون لله يثبت الله أقدامهم وينصرهم على أعدائهم كانوا يخرجون وفي أذهانهم قول محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده! ما من كَلِيْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِمَ، لونه لون دم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل}.
لا إله إلا الله! الجهاد سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، والأمة اليوم يتخطفها الأعداء من كل جانب أعداء من خارجها، وأعداء من داخل صفوفها، ولا مخرج ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
إن الأعداء لا يخشون إلا الأقوياء، فعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، فليكُن بأيدينا مثل السلاح الذي بأيديهم، والسلاح في يد المؤمن يزداد بإيمانه قوة.
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاحْ
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاحْ
شعب بغير عقيدة ورقٌ تذر به الرياحْ
أيها الأخيار! اجمعوا صفوفكم، ووحدوا كلمتكم، وثقوا بربكم، وارغبوا فيما عنده، واستعلوا على متعكم، وعيشوا واقعكم بمعرفة لا بغيبوبة، وتدربوا على فنون الرماية، واخدموا دينكم ما استطعتم، فالله سوف ينصر دينه على أيديكم أو على أيدي غيركم.
اغتنموا الفرصة وادخلوا في الركب، وكونوا من أنصار الله، وأعلوا كلمة الله، وسيروا في موكب الله، وأعِدوا أنفسكم للدفاع عن مقدساتكم، وللذوذ عن كراماتكم، يكتب لكم ربكم النصر والتوفيق.
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة أمثال: خالد، وسعد، وزيد، وجعفر.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم أرنا في الظَّلَمَة يوماً أسود كيوم فرعون، وهامان، وقارون.
اللهم أرنا في صدام ومَن شايعه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع له راية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية.
اللهم آمِنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق علماءنا.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجاءنا.
اللهم لا تسلط علينا البعثيين والملحدين والكافرين.
ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين، ولا مفتونين.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(1/13)
حروف تجر الحتوف
إن من أعظم ما يفكك بنيان الأمة، ويهد أركانها، ويهدد الفضيلة الطعن في الأعراض والاستطالة على الحرمات، خاصة في حق أبناء الأمة المخلصين من علماء وطلاب علم، وفي هذه المحاضرة يبين الشيخ هذا الخطر ببيان شاف، ومواعظ بليغة(2/1)
حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب(2/2)
مقدمة ترحيبية وابتهالات
الحمد لله
الحمد لله عظيم المنة وناصر الدين بأهل السنة
نحمده وفقنا إلى الهدى حمداً كثيراً ليس يحصى عددا
وبعد حمد الله إني أشهد أن لا إله مستحقاً يعبد
إلا الإله الواحد الفرد الصمد من جل عن زوجٍ وكفءٍ وولد
اللهم إني أحمدك على ما علمت من البيان، وألهمت من التبيان، وأسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، وشرة اللسن ومعرة اللكن، والسلاطة والهذر والعي والحصر، اللهم إنا نسألك أن تكفينا الافتتان بإطراء المادح وإرضاء المسامح، وأن تقينا إزراء القادح وهتك الفاضح، نستغفرك اللهم من نقل الخطوات إلى الخطيئات، وسوق الشهوات إلى الشبهات.
اللهم هب لنا توفيقاً إلى الرشد، وقلوباً تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقاً يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، وأنفساً تأنف الخنا، اللهم أسعدنا بالهداية، وأعضدنا بالإعانة على الإبانة، اللهم قنا غوائل الزخرفة، فلا نرد مأثمة ولا نقف مندمة، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا.
أشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ ختمت به النبيين، وأعليت درجته في عليين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين:
يا رب صل على النبي المصطفى ما لاح برق في الأباطح أو قبا
يا رب صل على النبي المصطفى ما قال ذو كرمٍ لضيفٍ مرحبا
اللهم اجعلنا لهديه متبعين، وانفعنا بمحبته واتباعه أجمعين.
أما بعد:
فيا معشر الإخوة والأخوات والبنين! أشرف التحايا ما مازج النفس وخالط الروح، وأثار المشاعر وحرك الضمائر، ولا والله الذي لا إله إلا هو لا أعلمها إلا تلك التحية الفطرية؛ التي جاء بها دين الفطرة رمزَ أمان وعنوانَ إيمان، فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
تحيةً ينبعث معها الروح إلى القلوب، وينبث معها الاطمئنان إلى الجنوب، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمغرم والمندم، وبؤتم بحسن المنقلب، اللهم أعذني وإخوتي من قول الزور، وغشيان الفجور، ومن الغُرور والغَرور، اللهم لا أكون وإخوتي مستكثري حجج، كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع أنفه بكفه، فنلحق بالأخسرين أعمالاً {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].
بك يا رب نعتضد، ونعتصم بك مما يكون، عليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك نستعين وأنت المعين:
أنت ربي في تصاريفك خير الأحكمين
أنت بي أعلم مني أنت خير الأكرمين
أنت أولى بي مني فأعني يا معين(2/3)
وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام
معاشر الإخوة! لا يخفاكم أن الجراح في أمتنا غائرة، وفي أنفسنا قائمة بالغة:
جراحنا بالغات تعيي الطبيب الفطينا
وجرح دون جرح
جرح الحسام له آسٍ يطببه وما لجرح قناة الدين من آسٍ
إن الفرد والأمة في يومها ينبغي أن تكون في حالة استنفار وجهاد مع النفس وحظوظها وسهام الأعداء وزحوفها وسمومها، ويا عار وهزيمة فردٍ أتيت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها!
أما إن التقصير في جهاد النفس وأداء الواجب وشد بنيان الأمة والشعور بالجسد الواحد اليوم يعد جريمة، لأن حالنا اليوم كحال اليتيم الضائع الجائع؛ إذا لم يسع لنفسه مات، فإذا قصرنا في العمل لديننا، ووجهنا سهامنا إلى صدورنا؛ فمن ذا يقوم على ثغر أمة الإسلام؟ أمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟ أمن يقولون: إنا معكم حتى إذا خلوا بأسيادهم قالوا: إنما نحن مستهزئون؟ أمن يمنعون الماعون، ويداوون الحمى بالطاعون، ويترصدون بالأمة الغوائل؛ يرقبون الخلس، ويدرعون بالغلس؟ إن كان ذلك فقد وهى السقا، وأهرق بالفلاة الماء، واتبع الدلو الرشا، وهلك الناس من الظما، ولم يبك ميتٌ ولم يفرح بمولود.
لقد كنا -معشر الإخوة- في عصرنا هذا أول من نام وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن نتلاحم، ثم لا نقطع الوقت فيما يكره الله من قيل وقال، وهلهلة البنيان، واغتيابٍ وعتاب، وملام وطعن، وحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، وذلك عين ما يريده أعداء الدين.
أما إن التبعة كبيرةٌ ثقيلةٌ جدُّ ثقيلة، إننا نحتاج في يومنا إلى أن نرفع الأنقاض، ونبني ونعمر، ونؤدي فريضة الوقت، ونقضي الفوائت، ونؤدي الكفارات مع العوائق والمثبطات، ومن كان هذا حاله شمر وانبرى، وجد وبذل وضحى، وضبط حياته بوحي الله؛ شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمته، وأجلها أن هدانا لهذا الدين وجعلنا من خير أمة، أعني أمة خاتم النبيين، عليه صلوات وسلام رب العالمين.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] فكم وكم لله من نعمة سابغة للعبد في هدايته أولاً، ثم في أعضائه وجوارحه ومنافعه وقواه غير ملتفت إليها ولا شاكرٍ عليها! ولو عرضت الدنيا بما فيها بزوال واحدة من هذه النعم، لأبى المعاوضة، وعلم أنها معاوضة غبن: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] ولو فقد شيئاً منها لتمنى أنها له بالدنيا وما عليها، فاللهم لك الحمد
الحمد لله العزيز الباري ما ذكر الرحمن في الأقطار
وزين السماء نجم ساري
عبد الله! ومن شكر نعمة الله عليك في جوارحك؛ ضبطها بوحي الله، العين لا ترى، والأذن لا تسمع، واللسان لا ينطق، والعقل لا يفكر ويخطط، والقلب لا ينعقد، واليد لا تكدح، والرجل لا تسعى ولا تخطو إلا فيما يرضي المولى؛ حالك:
أنا أدري غايتي أعرف منهاج حياتي
قد تجلى لي مصيري إذ تلوت النازعات
أو كحال عروة رحمه الله حين قطعت رجله لآكلة دبت فيها فغشي عليه، ثم أفاق وحمد الله، وأخذ ساقه المبتورة، وقال وهو يقلبها في يده: أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد؛ إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرامٍ قط فيما أعلم:
خلق ورثنيه أحمد فجرى ملء دمائي وشغافي
لم يزلزله على طول المدى بطش جبارٍ ولا كيد ضعافِ
أو كحال أحد السلف وقد كانت له زنجية مملوكة غمته بعملها، فرفع السوط عليها يوماً، ثم قال: أما والله لولا الله ثم القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكني أبيعك ممن يوفيني الثمن أحوج ما أكون إليه؛ اذهبي فأنت حرة لوجه الله!
فيا لله من مواقف يعجز اللفظ أن يعبر عنها!
فالسكوت هو اللسان الفصيح.(2/4)
اللسان سلاح ذو حدين
معشر الإخوة! الجوارح جوارح، وأخطرها شأناً أداة البيان اللسان، ترجمان الجنان، كاشف مخبئات الصدور، زارع الضغينة والفتنة في الصدور، تسل السيوف وتدق الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتنٌ بكلمات، تضيع أوقات، وتشاع اتهامات، وتقذف محصنات غافلاتٌ مؤمنات بكلمات، تهدم حصونٌ للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات.
بكلماتٍ يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السبُّ والهمز واللمز واللعن والغيبة والطعن والنميمة والقذف والفحش والبذاءة كبائر بكلمات، إنها شجرات لا قرار لها؛ مجتثات مستأصلات خبيثةٌ سماؤها وأرضها وماؤها.
فإن شئت عنا يا سماء فأقلعي ويا ماءها فاصبب ويا أرض فابلعي
وفي المقابل تستيقظ الضمائر، وتحيا المشاعر، وتلين الجلود، وتحيا القلوب، وتذرف العيون، ويسعد المحزون، وتعلو الهمم بكلمات، إنما هي شجراتٌ طيبات، تؤتي أكلها كل حين بإذن الله رب الأرض والسموات.
بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها؟!
البيان ما البيان؟
إنه ذو حدين أحدهما -وهو المقصود- خطر جسيم، وشأنٌ عظيم، سلاحٌ فتاك؛ إن لم يضبط أهلك الحرث والنسل وزرع الشتات، يلدغ كالأفعى؛ ويحرق كاللظى، بحروفٍ تقطع الأواصر وتفصم العرى، وتكدر النفوس، وتضيق الصدور، ويهجر المسلم أخاه وأمه وأباه:
وهاجت سيوف وماجت حتوف وسال دم فوق مجرى دمي
وأصبح القول والأسماع تنبذه كأنه نسمٌ في جوف موءود(2/5)
أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات
روى البخاري من حديث عوف بن الطفيل وعروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى خالته عائشة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبر الناس بها، وكانت تكنى به، فيقال لها: أم عبد الله، والخالة بمنزلة الأم، وهي هنا أم لجميع المؤمنين بنص كتاب الله، وكانت رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به
لأن راحتها بحرٌ وليس لها ردٌ ومن ذا يرد البحر إن زخرا
بحرٌ ولكنه صافٍ مواهبه والبحر تلقى لديه الصفو والكدرا
فقال عبد الله حدباً على خالته في بيعٍ أو عطاءٍ عظيم أعطته، وقيل: في دارٍ باعتها وتصدقت بثمنها؛ قال: والله لتنتهين خالتي عائشة أو لأحجرن عليها، ينبغي أن يؤخذ على يديها.
قد فاته القول الرقيق فمال نحو غليظه
فقالت رضي الله عنها وأرضاها: أيؤخذ على يدي؟ أهو قال ذا؟ لله علي نذر ألا أكلم ابن الزبير أبداً.
يقول ابن حجر رحمه الله: عائشة أم المؤمنين وخالة عبد الله، ولم يكن أحدٌ في منزلته عندها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها، ورأت في كلامه هذا نوع عقوق، والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب، فكان جزاؤه عندها أن تركت كلامه كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعبٍ وصاحبيه لتخلفهما عن تبوك، ثم إن هجر الوالد ولده والزوج زوجه لا يتضيق بثلاث، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، ويحمل على ذلك ما صدر عن عائشة رضي الله عنها وكثيرٍ من السلف من الهجر لبعضهم مع علمهم بالنهي عن المهاجرة والله أعلم.
وطال الهجر على ابن الزبير، وضاقت به الأرض، وضاقت نفسه حتى صار:
كأنه فارس لا سيف في يده والحرب دائرة والناس تضطرب
أو أنه مبحرٌ تاهت سفينته والموج يلطم عينيه وينسحب
أو أنه سالك الصحراء أظمأه قيظ وأوقفه عن سيره التعب
فاستشفع إليها بالمهاجرين، فقالت: والله لا أشفع فيه أحداً، ولا أتحنث في نذري ولا آثم فيه لكأنك به وهو يهمهم ويقول:
وضاقت بي الأرض حتى كأني من الضيق أصبحت في محبسي
وعندها كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود، وهما من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أرق شيءٍ لهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: ناشدتكما الله لما أدخلتماني على خالتي عائشة! فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي إلى أبد، إن كانت عقوبة على ذنبي، فليكن لذلك إلى أمد فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم كلكم -لا تعلم أن معهما ابن الزبير - فقالا له: إذا دخلنا، فاقتحم عليها الحجاب، فلما دخلوا اقتحم عليها الحجاب، فاعتنق أمه عائشة وطفق يناشدها ويبكي، والمسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان لها: يا أم المؤمنين! قد نهى صلى الله عليه وسلم عما علمت من الهجر، وأكثرا عليها من التذكرة والتحريم، وطفقت تذكرهما وتقول: نذرت والنذر شديد، ولم يزالا بها يكلمانها حتى كلمته وعفت عنه.
فلا تسل لكأنه عبدٌ مملوكٌ أعتقته، أرسل إليها بعد ذلك عبد الله بعشر رقاب فأعتقتهم جميعاً لوجه الله، ثم لم تزل تعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، كل ذلك مبالغة منها في براءة ذمتها رضي الله عنها، وكان يكفيها عتق رقبة، ولكن:
طابت منابتها فطاب صنيعها إن الفعال إلى المنابت تنسب
يا بنة الصديق طيبي وانعمي ذاك حكم الله خير الحاكمين
وكانت تذكر نذرها ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها، فرضي الله عنها وأرضاها:
بعض المعادن قد غلت أثمانها ما خالص الإبريز كالفخار
بين الخلائق في الخلال تفاوت والشهد لا ينقاس بالجمار
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!(2/6)
خطر اللسان وعاقبته على الأعمال
إنها الحروف لو قُدِّر كون بعضها سائلاً ثم مزج بماء البحر لأفسده وغيَّره، بحروفٍ ملفوظةٍ أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويرضى عنه أو يسخط عليه، قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه كما في الصحيحين: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ في الجنة -وفي رواية: يكتب الله له رضوانه بها إلى أن يلقاه- وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً؛ يهوي بها في جهنم} وفي رواية: {يكتب الله له بها سخطه إلى أن يلقاه}.
ضوابط دقيقة وزواجر عظيمة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]!
وكم من الحروف تجر الحتوف!
وإن الإنسان -معشر الإخوة- يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والربا والسرقة وشرب الخمور والنظر المحرم وغير ذلك، ومع ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى إنك لترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قال ابن القيم رحمه الله.
فكم رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول، وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه الإمامان مسلم وأحمد: {أن رجلاً مجتهداً وجد أخاه على ذنب فقال له: أقصر، فاستمر على ذلك، فلم يزل يكرر عليه أقصر أقصر، فغضب منه ذلك، وقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال هذا الغيور: والله لا يغفر الله لك يا فلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، أكان بي عالماً وعلى ما في يدي قادراً؟ قد غفرت له وأحبطت عملك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه}
فكان أضيع من لحمٍ على وضم وصار يقرع منه السن في ندم
وفي صحيح الترغيب للألباني بسندٍ حسنٍ لغيره: {أن غلاماً استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من شدة الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه، ثم قالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه} يالله!
يستحسن البعض ألفاظاً إذا امتحنت يوماً فأحسن منها العجم والخرس(2/7)
المقصودون بمحاضرة (حروف تجر الحتوف)
أيها المسلم! فاعمل عملاً ترجو حصاده، دون تحريف وتبديلٍ ولغوٍ أو زيادة، لهذا كله -معشر الإخوة- كانت هذه الحروف المُعْنَوْنَ لها بـ (حروف تجر الحتوف)
وكم من حروفٍ تجر الحتوف ومن ناطقٍ ود أن لو أن سكت(2/8)
أولاً: الرافضة
أوجهها حجةً إلى من غلبت عليهم شقوتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بينة، فوقعوا في خيار أهل الملة ممن كان لهم شرف الصحبة لمن قال: {لا تسبوا أصحابي}.
فلا رحم الرحمن من لا يحبهم وأخزى معاديهم بدنيا وآخرة
فوالله الذي لا إله إلا هو لا أرى مثلاً لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون على القمم الشماء؛ إلا كذبابةٍ حقيرةٍ سقطت على نخلة عملاقة، فلما همت بالانصراف قالت باستعلاء: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة؛ فهل شعرت بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟
ألم تر أن الليث ليس يضيره إذا نبحت يوماً عليه كلاب
لا يضير السماء العواء ولا أن تمتد لها يد شلاء:
وإطفاء ضوء الشمس أدنى لراغبٍ وأيسر من إطفاء نور الشريعة
وكم من حروف تجر الحتوف!(2/9)
ثانياً: من يترقون المناصب عند أعدائهم على أعراض العلماء
أرسلها لمن نشأ وتربى في حجر الأفاعي -أعني عدوه- فهو آلةٌ صماء في يد عدوه يديره كيفما يشاء، ويريده على ما شاء فيجده أطوع من بنانه، يحركه للفتنة فيتحرك، عقربٌ لا تلدغ إلا من يتحرك ولا غرابة:
من كان في جحر الأفاعي ناشئاً غلبت عليه طبيعة الثعبان
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
أهديها بلا ود؛ لمن يبنون الفروع على غير أصولها، فيبوءون بضياع الأصل والفرع معاً.
بل إلى من جعلوا الفرع سلماً للأصول، بل للوصول؛ على طريقة أبي دلامة حين حكمه الخليفة في جائزته، فاقترح كلب صيد، ثم طلب خادماً له، ثم جارية تطبخ الصيد، ثم داراً تؤوي الجميع، أكلاً للعنقود حبة فحبة مع لحافٍ وجبة:
فإنهم كقطيعٍ لا عقول لهم يكفي لإسكاتهم ماء وأعلاف
وكم من حروف تجر الحتوف!
اعرضها على من يريد بقلمه ولسانه أن يداوي علة الأمة بعلل، ويقتل جرثومةً فيها بزرع جراثيم، كطبيبٍ يجرب معلوماته في المرضى ليزيدهم مرضاً، ثم يعيش على أمراضهم التي مكَّن لها فيهم، فهو حاميها وحراميها، سرطانه دواء سلها
هو طالحٌ لا صالحٌ لكنهم غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
أشير بها إلى حملة الأقلام المسمومة، والأفكار الكاسدة، مورثة الضغائن، موقظة الفتن، لقطاء الكتابة، لابسي جلود الضأن على قلوب الذئاب.
والذئب أخبث ما يكون إذا بدا متلبساً بين النعاج إهابا
الأدعياء الذين اقتحموا عريناً ظنوا أن قد نامت آساده لكأن القائل عناهم يوم قال:
لقيط في الكتابة يدعيها كدعوى الجعل في بغض السماد
فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد
وكم من حروف تجر الحتوف!
لا أعني بها أولئك الرعاع الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً، وعلوم الشريعة هراءً ولغباً، ليس لهم في العلم إنعام، إن هم إلا كالأنعام!
لست أعني هؤلاء مباشرة وإن أشرت وأهديت ووجهت، ففيهم من انفصمت عنه الرابطة، فنحن منه برآء، ومنهم من لا يرعوون ولا يفهمون، فخطابهم لغوٌ وهراءٌ وبلاء:
ومن البلية نصح من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم
الله حسيبهم على ما اقترفوا ويقترفون؛ في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.(2/10)
ثالثاً: الشباب الصالح الذي قد يقع في هذا الوباء
إن المعني بهذه الحروف أولاً وآخراً هم شيوخ الأمة العقلاء، وشبابها المستقيمون الفضلاء، الدم الجديد في حياتها أنا وأنت وأنتِ وهو وهي، وكل مسلمٍ على قدرٍ من دينٍ وخلقٍ وحياء، دفعني إليها الرغبة في صون هذا الدم عن أخلاط الفساد، ليتمثل فيه الطهر والعفة والرشاد، فينشأ على قول الحق رافع الهام والحسام، لا على البذاء وعورات الكلام، متفاهمين على الغاية المنشودة، متجهين إلى البناء لا الهدم، إلى الإنصاف لا الحيف، يقيم بعضهم بعضاً إذا كبا، ويستره إذا عري حساً أو معنى، مدركين أنه إذا تصالح ندامى الحان، وتشاكس إخوان المسجد، انكسرت المئذنة، واستولى السكارى على المحراب
وحضني عليها رغبتي في إبراء الذمة بنصح النفس والأمة، فمن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، وما تصدق رجلٌ بصدقةٍ أفضل من موعظةٍ يعظ بها قوماً فيتفرقون وقد نفعهم الله بها، فاللهم انفع وارفع.(2/11)
حرمة وشناعة الاستطالة على الحرمات
خذها أيها الدم الجديد
خذها وصايا بألفاظٍ مطولةٍ فيها لمن يبتغي التبيان تبيانُ
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!(2/12)
حالقة الدين
معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إن مواضع الزلل لا تكاد تنحصر ولا تختصر، ومن أخطر وأسوأ هذه المواضع: الاستطالة على الحرمات، وتتبع العورات، إنها الحالقة، بل الآفة الخطيرة والمزلق العظيم الذي اشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على من اتصف به فيما ثبت عنه، قال: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه ولو في قعر داره إنه موقفٌ حاسمٌ، ووعيدٌ زاجر يملأ النفس الحية خوفاً وهيبة وحذراً، ويقرر مبدأ صيانة العرض، وأن الجزاء من جنس العمل، وجرح اللسان كجرح السنان، والجروح قصاص: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} [النساء: 123].
بذلك تواترت النصوص الشرعية في غاية العظمة والإحكام؛ لتدل على عظيم منزلة المؤمن وبشاعة الاستطالة على حرمته، نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى الكعبة يوماً ثم قال: [[ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! وللمؤمن والله أعظم حرمة منك]] إنها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في البلد الحرام:
لو قد عقلنا ذاك ما كنا نرى بعضاً يجرح مسلماً ويجرم
هب أن فينا مخطئاً فيما ادعى فهل السباب هو العلاج الأقوم؟
كيف الوقوف أمام خلاق الملا والعلم ظنٌّ والحديث مرجم؟
ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنهما: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: {أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميها بغير اسمها، ثم قال: أليس بيوم النحر؟ أليس بذي الحجة؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد} {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}.
لقد خاب من يسعى لإيذاء مسلمٍ كما خاب من يرجو سراباً بقيعة
وكم من حروف تجر الحتوف!
إن من أخص سمات المسلم سلامة المسلم منه يداً ولساناً، والعاقل يطمح إلى هذا الوضع ليكون ممن جعلوا سلاطة ألسنتهم على أعداء الله وحلو كلامهم لأولياء الله، محققين قول الله في وصف أصحاب رسول الله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} ويقول ابن القيم عليه رحمة الله: أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم بالنفع في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أن تضره في الآخرة، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها، ويأتي بسيئاتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به.
فللسان احفظ ولا تكلم إلا بخيرٍ أو فصمتاً الزم
وخشية الله فلازم وانتهِ عما نهاك وامتثل لأمره
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {كف عليك هذا، ويشير إلى لسانه، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا نبي الله؟! -وفي رواية: أوكلما نتكلم به يكتب علينا يا نبي الله؟! - فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} إنك ما تزال سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك، فاللهم سلم سلم!
يكب الفتى في النار حصد لسانه فحافظ على ضبط اللسان وقيدِ
وكم من حروف تجر الحتوف!(2/13)
الفرق بين الغيبة والبهتان
يا عبد الله! ذكرك أخاك بما يكره في حضوره سب وشتم، وبما يكره في غيبته لو بلغه؛ في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، ذكره بواحدةٍ من هذه بلفظٍ، أو إشارة، أو رمزٍ، أو كتابةٍ، أو حكاية غيبة، أو همزٌ ولمزٌ وقدح إن كان فيه، فإن لم يكن فيه ما قلت فغيبةٌ وبهتانٌ وظلمٌ وكذب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، مع تعدٍ لحدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
فاحذر حدود الله وارج ثوابه حتى تكون كمن له قلبان
وكم من حروف تجر الحتوف!(2/14)
أربى الربا
معشر الإخوة! الربا ما الربا؟ الربا: إيذان بحرب من الله على من يتعامل به، ومحارب الله محروب، ودرهم ربا أشد من ستٍ وثلاثين زنية كما ثبت، وأدنى الربا مثل إتيان الرجل أمه، ونعوذ بالله من ذلك، فما أرباه؟ وما أشده تحريماً؟ وما أعظمه وبالاً؟
ثبت من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق}.
يا لله! إن العرض أعز على النفس من المال وغيره حقيقةٌ لا تدحر، وحجةٌ لا تنقض، أفلا نعقل؟ فأين المفر؟ {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام}.
شنعاء صلعاء عوراء أن يقال في المؤمن ما ليس فيه أو ما يكرهه، فاحذروا ثم احذروا، وكونوا عباد الله إخواناً.
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار} وفي رواية للإمام أحمد: {ومن رمى مسلماً بشيءٍ يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال} يحبس حتى يرضى خصمه أو يشفع فيه، أو يعذب بقدر ذنبه أجارنا الله، وقد ثبت أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: [[أيما رجل أشاع على امرئ مسلمٍ كلمة هو بريء منها ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال]].
ذاك وربي موقفٌ عسير ورسل الإله تستجير
يا رب سلم إنه لمأزق من شدة الهول يشيب المفرق
وكم من حروف تجر الحتوف!(2/15)
السخرية بالدين
معشر الإخوة! ومما يحسب أنه هينٌ وهو عند الله عظيم: السخرية بالدين وما اتصل به من تقليد خلق أهله، ومحاكاة أفعالهم وحركاتهم لإضحاك الناس وتسليتهم، وجعل ذلك مهنةً أو زينة مجلس، وربما قالوا بقول سلفهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
إليهم ما قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في مسند أحمد: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا} وفي رواية: {ألا عسى رجلٌ يتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه، فيسخط الله عليه بها لا يرضى عنه حتى يدخله النار} فإلى الهازئين الضاحكين المضحكين، مختلقي الأكاذيب لذلك، من يصدق على أحدهم:
ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنب صفراً من البأس مملوءاً من النزق
أقول لهم: دونكم دونكم! كم ضاحكٍ بملء فيه والله ساخطٌ عليه.
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
وكم من حروف تجر الحتوف!(2/16)
الوشاية
ومن المصائب -والمصائب جمة- أن يبتلى المرء بصديقٍ له يأمنه، يعرف منه ما لا يعرفه غيره، فيغدره بالسعي إلى عدوٍ له ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ليذكره عنده بغير الجميل، ويتعرض له بالوقيعة والأذية، ليجاز بجائزة إنما هي لعاعة من الدنيا، طعامٌ أو كساء أو دينار أو إطراء لا بارك الله له فيها، إنما هي بمثلها في جهنم.
روى أبو داود وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلة، فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسي برجلٍ مسلمٍ ثوباً، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجلٍ مسلمٍ مقام سمعةٍ ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة}.
فيا للرزية! وكل هذا في سبيل إشباع البطون! ألا أبعد الله خبزةً أهتك بها ديني، وأخاطر من أجلها بآخرتي، وأعق بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على تاريخي وأمتي، أين من يعقل؟ أين من يعي؟ إن لم تتب:
فلا زلت دوماً في احتياجٍ وفاقةٍ
إلى أن بلغت السن والغاية التي تحس بأن الجعل منك اشمأزت
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما عرج بي مررت على قوم لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
إذا كان هذا فعل عبدٍ بنفسه فمن ذا له من بعد ذلك يُكرم؟
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وأخرج الإمام أحمد وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً فطهرني يا رسول الله! فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائن، انتفخ بطنه فارتفعت رجله، فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالوا: نحن ذا يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار! قالا: يا رسول الله! غفر الله لك ومن يأكل هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها}
الله أكبر!
الله أكبر لفتةٌ من آيبٍ لاح الطريق له فشمر وانبرى
عبد الله! إن آكل جيفة الحمار مع خبثها وحرمتها لم يؤذ مسلماً، ولم ينتهك عرضاً، ولم تنشغل ذمته بحقوق العباد التي سيسأل عنها يوم القيامة، فهو خيرٌ ممن يأكل لحوم البشر، وفي كلٍ شر:
فاهجر من الكلام ما قد أفعما بالزور والتضليل والبهتانِ
أهل الوقيعة هم خصومك دائما لا يلتقي بمحبةٍ خصمانِ
وكم من حروف تجر الحتوف!
عبد الله! ما الحيوان الذي يأكل لحم أخيه بعد موته؟ الأسد؟ النمر؟ الثعلب؟ لا لا تألفها بل تأنفها، لا يفعلها إلا ذلك الحيوان الذي إذا ولغ في الإناء؛ احتيج إلى غسله لا مرة بل إلى سبع والتراب؛ إنه الكلب، لا يفعلها إلا كلب، وشبه الشيء منجذبٌ إليه:
ألم تقرأ القرآن عمرك مرةً فما لك تعمى عنه في كل مرة
قال الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
فاسمع إذا حدثت وافـ ـهم كيف عاقبة الأمور
والحروف تجر الحتوف!
واعجباً لمسلم -يا معشر الإخوة- قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، من أين له الفلاح؟! كيف يفلح من ديدنه الطعن في أقوامٍ لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟! ذلكم والله المسكين، قد ذبح بغير سكين:
كم صك آذاناً بجندل لفظه وأطال محنتنا بطول لسانه
ما زال يعلن بيننا عن نفسه حتى استغاث الصم من إعلانه
ألسنةٌ كالسياط، أدبها ودأبها التربص، فالتوثب على الأعراض في اعتراض، أشرفت علينا بقرون الفتنة لتضرب الثقة في قوام الأمة، طبع أصحابها -كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله- طبع خنزير، يمر على الطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ولغ فيه، وقمح، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء ولو في فهمه، وجد بغيته وجعلها فاكهته، ألا بئس المنتجع وبئست الهواية، ويا ويلهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة!(2/17)
من أخبار الصالحين في تحاشي الغيبة
عبد الله! أمة الله! إن الوقيعة في الأعراض بضاعة الجبناء، وكفُّ اللسان عن المسلمين سمة العلماء، وكل إلى جنسه يحن؛ العلماء الربانيون حفظوا الله فحفظهم وطهر ألسنتهم، اجتنبوا الغيبة والطعن والهمز واللمز كما تجتنب النجاسات، لا يسمحون بأن تدار في مجالسهم كما لا يسمحون لكئوس الخمر -أجارهم الله- أن تدار فيها.
يقول أحدهم: صحبت فلاناً عشرين سنة والله ما سمعت منه كلمة تعاب.
ويقول آخر: والله ما اغتبت مسلماً مذ علمت أن الله حرم الغيبة، حالهم:
فإن مررت بنادٍ لا تجيف به أهل السفاهة فانزل ذاك نادينا(2/18)
الشنقيطي يرى قتل الولد ونهب المال أهون من أخذ الحسنات
هاهو العلامة/ محمد الأمين صاحب الأضواء عليه رحمة رب العالمين، قد عُرف بهذا الخلق العزيز، وهو شدة التجافي عن الوقوع في أعراض الناس، كان محارباً مرابطاً على ثغر، لا يسمح لأحدٍ بنسف عرض أخيه في مجلسه، فيحمي نفسه ويحمي مجلسه، ويؤدب على ضبط النفس من يلوذ به، فيعينه على ما ينفعه ويرفعه، ويربأ به عما يضره، إنه محمد، واقتدى بمحمد صلى الله وسلم على نبينا محمد:
ومن ينحرف عن خط سير محمد يصر في يد الشيطان مثل البهيمة
ولا تحسبن السير خلف محمد كرحلة صيد أو كمشوار نزهةِ
يقول: لقتل الأولاد ونهب الأموال أهون عندي من أخذ الحسنات من رجلٍ كبيرٍ مثلي.
ثم لا يغتاب ولا يسمح بالغيبة، ويقول: إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته يوم القيامة، فلا يأتين فيها إلا بالطيب
فرائدٌ خردٌ ترسو جواهرها فوق الكواكب لا بطن التجاليد
وفي رحلة الحج سجَّل هذا الموقف العظيم، يقول: ثم جئنا آخر النهار قرية نائية، فالتمسنا رجلاً عربياً نبيت عنده، فدعانا رجلٌ عربي فأنزلنا منزلاً يعوي منه الكلب، وأغلق علينا الباب من الخارج، فبتنا ليلة لا أعاد الله علينا مثلها، ذكرتني ليلة النابغة التي يقول فيها:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وليلة المهلهل التي يقول فيها:
إذا أنتِ انقضيت فلا تحوري
وأنقذني بياض الصبح منها وقد أنقذت من شيء كبير
يقول: فكان صبح تلك الليلة أحب غائبٍ إلينا، يقول -واسمع إلى ما قال، وهذا هو موطن الشاهد- يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت عن اسمه ولا عن اسم أبيه خوفاً من أن أقع فيه:
فسما بأروقة الجوى فأحلها فرع الثريا وهي في أصل الثرى
حتى ظننا الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة وابن حنبل حُضَّرا(2/19)
البخاري وابن دقيق العيد يحذران الغيبة
ومن قبل هاهو صاحب الصحيح الإمام أبو عبد الله البخاري عليه رحمة الله يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً، والإمام ابن دقيق رحمه الله يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله:
سلفٌ إذا مر الزمان بذكرهم وقف الزمان لهم مُجِلاً مكبرا
كانت الدنيا عروساً بهمُ فهي اليوم تكون الأرمله(2/20)
ما يصنعه من ابتلي بمجلس غيبة(2/21)
إزالة المنكر قدر الاستطاعة أو الانعزال
معشر الإخوة والبنين! ولقائل إن يقول: فإن بلي المرء بالجلوس في مجلس طعنٍ أو غيبة وما في حكمها، فماذا يصنع؟
نقول: إن عليه أن يردها، ويزجر قائلها بالكلم أولاً، وحاله ومقاله كحال ذلك الشيخ/ محمد الأمين، حين جاءه رجل كبير، وكم من كبير يحق عليه، عقله عقل طائرٍ وهو في هيئة الجمل، فبدأ يغتاب عنده في مجلسه، فنهاه الشيخ في هدوء:
وهدوء أمواج البحار تأهبٌ للمد يكتسح الشواطئ صرهرا
فقال المغتاب: أنا المتكلم لا أنت، يعني: عليَّ تبعة كلامي، فقال الشيخ: أنا شيخ بين جنبي سورة البقرة، إما أن تسكت بأدب أو تخرج، حاله:
فإن أر حقاً كنت للحق تابعاً وإن أر غير الحق أطلق قذيفتي
وإني على هذا يراعي ومقولي وذلك أسلوبي وتلك طريقتي
فإن لم ينزجر، فباليد إن كانت لك ولاية، فإن لم تستطع باليد ولا باللسان، ففارق ذلك المجلس، لا خيار لك، إن بقيت فإنك إذاً مثلهم، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
فإن أعيتك الحيل ولم تستطع المفارقة حرم عليك الاستماع والإصغاء، ولزمك أن تسل قلبك من بينهم كسل الشعرة من العجينة، تذكر الله في عزلة شعورية، تكون معهم فيها حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، يقظان نائماً، تنظر إليهم ولا تبصرهم، تسمع كلامهم ولا تعيه، قد انشغل قلبك بتصور عظمة من تناجيه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فأنت في وادٍ وهم في وادٍ؛ حالك:
يا ربى الوادي ويا كثبانه رددي همسي وغني بهديلي
سامعاً غير مستمع، مأجوراً بإذن الله غير مأزور، وليس شيءٌ أصعب ولا أشق على هذا من النفس، ولكن من صدق الله كان الله له وكان معه:
تبارك من إن ندن منه تَقَرُّباً بشبرٍ دنا منا ذراعاً برحمة(2/22)
الذب عن عرض المسلم
معشر الإخوة والبنين! وحق المسلم على أخيه أن ينصره إذا ظلم، ويذب عن عرضه إذا خيض فيه من منافق أو ظالم أو فاسقٍ لا يخشى يوم الحساب، فإن في ذلك أجراً عظيماً، وفي خذلانه إثماً مبيناً، والمؤمن مرآة المؤمن يحوطه من ورائه.
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من نصر أخاه بالغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن حمى مؤمناً من منافق بعث الله له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضعٍ ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب نصرته} وهذا ما التزمه القدوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق إخوانهم
إمامهمُ دون الأنام محمدٌ وليس لهم من دونه من أئمة
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم في تبوك قال: {ما فعل كعب بن مالك؟ -وقد تخلف عن تلك الغزاة كما تعلمون- فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً} فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقراً لإنكار معاذ على ذلك المغتاب لأخيه، ومشرعاً لمثله بالرد والذب.
وليس أخي من ودني وهو حاضر ولكن أخي من ودني وهو غائب
يدعى أحد السلف لطعامٍ، فلما جلس، قالوا: إن فلاناً لم يأت، فقال رجل منهم: إنه رجلٌ ثقيل، فقال: أوه، إنما فعل هذا في بطني حين شهدت طعاماً اغتبت فيه مسلماً، ثم خرج فلما يأكل ثلاثة أيام وحاله:
إليكم فإني لست ممن إذا اتقى عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
ويذكر رجل بسوءٍ أمام صاحبه فقال للمغتاب: أغزوت الترك؟ قال: لا، قال: أغزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك!
أنسيت حق الله أم أهملته شرٌّ من الناسي هو المتناسي
معشر الإخوة! إن المغتاب أو الطعان لو لم يجد آذاناً صاغيةً لما وقع واسترسل، ولكسدت بضاعته وما نفقت، فالحزم الحزم معشر الإخوة! لا يجوز مجاراة الطاعنين بحال، ويعظم ذلك حين يكون الوقوع في عالمٍ أو داعيةٍ أو مصلحٍ، ذاكم هو الداء الدوي، والموت الخفي؛ في زمن ما أحراه بقول من قال:
زمان رأينا فيه كل العجائب وأصبحت الأذناب فوق الذوائب(2/23)
وجوب الذب عن أعراض العلماء وبيان عظم حرماتهم
من هتك ستر عالمٍ وتكلم فيه بغير حق، ابتلي بسوء ذنبه، وقد يختم له بخاتمة السوء حين مصرعه، كما قال ابن عساكر: وعادة الله في هتك أستار منتقصي العلماء معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] تلك والله -معشر الإخوة والأخوات- سيما ضعاف النفوس، يشعرون دائماً بضآلة أنفسهم، فيسعون إلى هدم القمم الشماء لتتساوى الرءوس في الحفر، لا يرون الصعود إلا على أشلاء العمالقة الجهابذة العلماء العاملين، فواحدهم يصدق عليه قول القائل:
فكالهر يخشى شرب ماءٍ بجدول ويشرب من أوساخ ماءٍ بحفرة
ومن ثم ينصبون مشانق الطعن والتجريح لإلغاء الثقة في العلماء العاملين، لو رأيتهم يتواثبون ويقفزون -والله أعلم بما يوعون- لأدركت فيهم الخفة والطيش في أحلام الطير:
صم ولو سمعوا بكم ولو نطقوا عميٌ ولو نظروا بهتٌ ولو شهدوا
كأنهم إذ ترى خشبٌ مسندةٌ وتحسب الركب أيقاظاً وما رقدوا
يتداولون غيبة العلماء ويتعاطونها فيما بينهم، ويدار عليهم بها كما يدار بكأس الماء على العطشى، فمقلٌّ ومستكثر،
فعابوا أموراً يعلم الله أنهم أحق بها وصفاً وأولى بعيبةِ
فواحدهم يلقي الكلام مجازفاً على حسب ما يأتي بغير روية ِ
لحوم العلماء مسمومة؛ من شمها مرض، ومن أكلها مات، لحوم أهل العلم مسمومة، ومن يعاديهم سريع الهلاك
فكن لأهل العلم عوناً وإن عاديتهم يوماً فخذ ما أتاك
البلاء موكلٌ بالمنطق، والجزاء من جنس العمل، وكم طاعنٍ ابتلي بما طعن.
يقول أحد السلف: إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني من قوله إلا مخافة أن ابتلى.
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن
يحكى أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم وتتبع زلاتهم، وذات يوم قام يتكلم بكلامٍ لم يرق لأحد طلابه، فقام إليه ذلك الطالب، فصفعه على رءوس الأشهاد، ليقول بلسان الحال: حصادك يوماً ما زرعت: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182].
إن السعيد لمن له من غيره عظة وفي التجاريب تحكيمٌ ومعتبر
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
من خاض في أعراض العلماء، ودعا إلى ذلك، فقد سن سنةً سيئةً، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فالدال على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12].
وما من كاتبٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما كتبت يداه
وما من قائلٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما نطقت شفاه
العلماء حراس الديانة الأمناء، والغض من مكانة الحارس معناه استدعاء اللصوص، العلماء عقول الأمة، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرةٍ بالبقاء، العلماء حملة الشريعة وورثة الأنبياء، والمؤتمنون على الرسالة، حبهم والذب عنهم ديانة، ما خلت ساحة من أهل العلم إلا اتخذ الناس رءوساً جهالاً يفتونهم بغير علم، فيعم الضلال، ويتبعه الوبال والنكال، وتطل عندها سحب الفتن تمطر المحن، ومن الوقيعة ما قتل، فنعوذ بالله من الخطل، وما عالم برع في علمه يؤخذ بهفوته، وإلا لما بقي معنا عالم قط، فكلٌ رادٌّ ومردودٌ عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله، والفاضل من عدت سقطاته، وليتنا أدركنا بعض صوابهم، أو كنا ممن يميز خطأهم على الأقل، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث
وما عبر الإنسان عن فضل نفسه بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!(2/24)
تنكر الطالب لشيخه شنيعة شنعاء
والشنيعة الشنعاء معشر الإخوة، والداهية الدهياء التي تستحق جز الغلاصم، وقطع الحلاقم، ولدغ الأراقم، ونهش الضراغم، فهي البلاء المتلاطم المتراكم: تنكر الطالب لشيخه الذي طالما أفاده وعلمه، وأحسن إليه وأدبه، ولمن كان سبباً في هدايته لهوىً في نفسه يجحد ما مضى من إحسانه إليه، ويسل لسانه عليه، فيقول بقول كافرة العشير: ما رأيت منك خيراً قط، ثم يذم ويشنع، ويقبح ويبدع، يصدق عليه قول القائل:
له بطن تمساحٍ وقلب حمامةٍ وأنياب ضرغامٍ ومنخر هرةِ
سلاحه رث، وحديثه غث!
مساوٍ لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق
فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل حينٍ فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
بليت به جهولاً جاهلياً ثقيل الروح مذموماً بغيضا
ولم يك أكثر الطلاب علماً ولكن كان أسرعهم نهوضا
فله ولمن كان على شاكلته أقول: قعوا أو غِيروا ما ذلك بضائرنا ولا بضائرهم، ووالله ما هو بنافعكم، وإذا أكثرتم الرماد، فأثارته الريح، فلا تلوموها ولوموا أنفسكم، ألا هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والموعد الله.
ومن يعتلق حبل الدعاوى ترد به فحبل الدعاوى ذو خيوطٍ ضعيفة(2/25)
عقاب الطاعنين في الأعراض
ألا إن أعراض المسلمين حفرةٌ من حفر النار، لم يزل يتقحم فيها كثيرٌ من الناس مساكين، مسكين ذلك الذي يجتهد في فرائضه ونوافله يومه كله، ثم يبيت يوم يبيت ولا حسنة له.
يا لله! أين ذهبت فرائضه؟ أين ذهبت نوافله؟ أين ذهب بره وإحسانه وأمره بالمعروف ونهيه؟ فرقها بلا حساب، يجمع ولا ينتفع، يتعب ولا يستفيد، ذاكم هو المفلس حقاً، كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الإفلاس الحقيقي هو في إضاعة الحسنات، في يومٍ لا يتاح فيه لمضيِّع أن يكسب أو يعوض فقال: {إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم وخطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار}.
يا رب!
كم من الأخطاء قد أتينا وكم على أنفسنا جنينا
لكننا نرجوك يا من يغفر وللذنوب والعيوب يستر
إن من كمال عدل الله -يا معشر الإخوة- ألا يدع مظلوماً في ذلك اليوم حتى ينتصف له من ظالمه، ولن يجاوز جسر جهنم ظالم حتى يؤدي مظلمته حتى اللطمة حتى البهائم يقاد لبعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابا، فقائلٌ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] وآخر: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] وثالث: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28].
قد ضوعف الكرب على النفوس ودنت الشمس من الرءوس
واقتص للمظلوم ممن ظلمه بحكمه العدل كما قد علمه
قال صلى الله عليه وسلم: {لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء}.
فإلى أصحاب القرون الذين ينطحون بها -وهم كثر- ليشفقوا على أنفسهم ورءوسهم؛ يا ناطحاً بماله أو سلطانه أو جاهه، أو بقرن غيره، أو بلسانه وقلمه، الله يعلم وسيقضي بينكم يوم القيامة، فهو الحكم العدل، كل ذلك في كتابٍ عنده لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وسيقتص حتى للذرة من الذرة:
فلا تنس أنك يا صاحبي ستسأل عن حبة الخردل
فإن تك في شك من ذلك:
فأقسم بالرحمن إنك واهم أضل من الخفاش في ضوء ضحوة
أخرج الطيالسي وأحمد وصححه الألباني عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال لـ أبي ذر: {أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا.
قال: لكن الله يعلم وسيقضي بينهما يوم القيامة}.
فاغفر لنا ما كان من ذنوبنا وزين الإيمان في قلوبنا(2/26)
توجيهات تحذيرية ونصائح للمغتابين
إلى الطاعنين القعدة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فصاروا ألماً مضافاً إلى أمتهم، يحق في أحدهم:
خطبت فكنت خطباً لا خطيباً أضيف إلى مصائبنا العظام
إليهم أقول: احذروا، ثم احذروا، ثم احذروا! وقول ابن القيم: تأملوا كم أورثت التهم الباطلة من أذىً لمكلوم، عبَّر عن جرحه بخفقة صدر، ودمعة عين، وزفرة تظلم ارتجف منها فؤاده بين يدي ربه في جوف الليل؛ لهجاً ملحاً لكشفها، ماداً يديه إلى مغيث المظلومين، وكاسر الظالمين، والظالم يغط في نومه، وسهام المظلوم تتقاذفه، وعسى أن تصيب ما اقتناه.
فيا لله ما أعظم الفرق بين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو له، ومن نام وأعين الناس ساهرة تدعو عليه!
تحلل فما زال للصلح باب وبالموت يغلق باب المتاب
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيءٍ منه، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون درهمٌ أو دينار، إن كان له عملٌ صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] لكل حتفٍ سبب من السبب، فيا ويل من زلت به القدم ولم يتب، وترك الحبل لحروفه، يضطرب من شرٍ قد حل، لا أقول: قد اقترب؛ أقلع عن الذنب، وكف عن العيب، واندم فالندم توبة، والتائب كمن لا ذنب له، واعزم على عدم العودة.
إنما المؤمن من إن خرق الثوب رفا
وعن التقصير والأنام خوفاً عزفا
عونك الله ربي أنت حسبي وكفى
تحلل ممن اغتبته وطعنت فيه، واطلب عفوه وإبرائه إن بلغه ما قلته، وإن لم يبلغه؛ فاستغفر له ولا تخبره، فإن في إخباره مفسدةً محضةً لا تتضمن مصلحة، أثن عليه بما فيه من خير في المواطن التي طعنت فيه لتصلح ما أفسدته، فوالله إن الأمر لشديد، وإن الحروف لتجر الحتوف: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31].
فكم من حروفٍ تجر الحتوف وكم ناطقٍ ود أن لو سكت
ومع هذا كله:
فالقدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلمٍ ومعرفٍ ومحذر
ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر(2/27)
حروف تجر لخير منيف(2/28)
ذكر الله
معشر الإخوة والأخوات والبنين! والشيء بالشيء يذكر، وبضدها تتميز الأشياء، فكما أن الحروف تجر الحتوف، فإن الحروف تجر للخير المنيف.
فاعلم هُديت: حروفٌ للدلالة على الخير، {فمن دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله}، حروفٌ في إدخال السرور على مسلم: {فأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم}: {والكلمة الطيبة صدقة} حروفٌ في الإصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] {لا يزال لسانك رطباً بذكر الله} {خير الأعمال وأزكاها وأرفعها للدرجات، وما هو عند الله خيرٌ من ضرب الأعناق والإنفاق في سبيل الله ذكر الله} {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم} {لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، وباب من أبواب الجنة، وغرس من غراس الجنة}، والباب واسع ليس هذا موضعه.
أعظم الذكر كلام الله؛ من قرأ منه حرفاً فله حسنة، والحسنة بعشر، ومن علَّم آيةً منه، كان له ثوابها ما تليت، يرفع الله به أقواماً ويخفض به آخرين، فاقرأ وتدبر، واعلم واعمل وبلغ، واعمر بيتك ووقتك وحياتك به، وارج الله أن تكون ممن ينادى عليه يوم القيامة: {اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها}.
لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا(2/29)
تبيين الحق عند رواج الشائعات
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، الجهاد بالحروف ضربٌ من ضروب الجهاد في سبيل الله، لا يقل أثراً عن جهاد النفس والمال، فجاهدوا بألسنتكم حين تروج الشائعات الكاذبة، ويطعن في عرض مسلم بريء، فالكلمة الصادقة والحوار المقنع لدفع ورفع ذلك جهاد في سبيل الله؛ حداء صاحبه:
يا لساني كان الكلام حراماً فانطق الآن فالسكوت حرام
رجل من أهل الكوفة كان ذا قدر ومنزلة وصاحب كلمة مسموعة، يزعم فيما يزعم أن عثمان ذا النورين رضي الله عنه كان يهودياً وظل على يهوديته، ونعوذ بالله مما قال:
مقال ليس يقبله كرام ولا يرضى به غير اللئام
لكن:
كل من عاش يرى ما لم يره والقلب يعمى مثل ما يعمى البصر
سمع أبو حنيفة رحمه الله بذلك، فمضى إليه، وقال له: لقد جئتك خاطباً ابنتك فلانة لأحد أصحابي، فقال: أهلاً ومرحباً بك، مثلك يا أبا حنيفة لا ترد حاجته؛ لكن من الخاطب؟ فقال أبو حنيفة: رجل موسومٌ في قومه بالشرف والغنى، سخي اليد، مبسوط الكف، حافظٌ لكتاب الله، يقوم الليل كله في ركعة، كثير البكاء من خشية الله، فقال الرجل: بخٍ بخ، حسبك يا أبا حنيفة! فقال: لكن فيه خصلة لا بد أن أذكرها لك، فقال: ما هي يا أبا حنيفة؟ قال: إنه يهودي، فانتفض الرجل، وقال: يهودي؟ أزوج ابنتي من يهودي؟! والله لا أزوجها منه ولو جمع خصال الأولين والآخرين! فقال أبو حنيفة: تأبى أن تزوج ابنتك من يهودي، وتنكر ذلك أشد نكير، ثم تزعم للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه كلتيهما من ذي النورين؛ من يهودي هو عثمان رضي الله عنه؟ فعرت الرجل رعدة، وارفض عرقه، وقال: أستغفر الله من قول سوءٍ قلته، ومن كل فرية افتريتها، وجاء الحق وزهق الباطل بعصا الحروف.
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر
فذب الله النار عن وجه أبي حنيفة، كما ذب عن عرض ذي النورين الخليفة.(2/30)
تفنيد الشبهات
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ في مناظرة لتفنيد شبهة، وإحقاق حق، وإزهاق باطل، في قوة حجة وبرهان، وحكمة ومصابرة إنما هي جهاد في سبيل الله
فهلا قمت في النادي خطيباً لك الكلم الحسان لها ثياب
في السير للذهبي: أن محمد بن الخليفة الواثق يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، وفي ذات يومٍ أتي بشيخ مخضوبٍ مقيد، فأدخل على الواثق، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، إن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فقال ابن أبي دؤاد أحد زعماء الفتنة: الرجل متكلم، فقال الواثق: كلمه.
يرجو دواء القلب من ذي علةٍ ويريد وصف الشمس من عميان
فقال: يا شيخ! ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: لم ينصفني أيها الأمير والسؤال لي
عند النطاح يعرف الكبش الأجم
فقال: سل.
قال: ما تقول يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟ قال ابن أبي دؤاد: مخلوق، قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال ابن أبي دؤاد: بل شيء لم يعلموه، فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، علمته أنت! فخجل ابن أبي دؤاد، وقال: أقلني، قال الشيخ: المسألة بحالها، علموه أم لم يعلموه؟ فقال: بل علموه، فقال الشيخ: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم.
يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ما كنت أول طامعٍ لم يظفر
أفما استحيت ولا احتسبت جواب ما تحكيه كيف يخيف ليثاً ثعلب
والله ما أدري أأنت على الثرى أم أنت في طي التراب مغيب
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119] قام الواثق الخليفة ودخل مجلسه واستلقى على ظهره، وهو يقول: سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! وسقطت الوساوس من رأس الخليفة، وسقط ابن أبي دؤاد من عينه، وأمر برفع قيد الشيخ، وأمر له بأربعمائة دينار، ورفعت المحنة فما امتحن أحدٌ بعده، فأثاب الله الشيخ على ما كشف من غمة
فما يعرف الإنسان إلا بغيره وما فضلت يمناك لولا يسارها
فيا أيها العبد المحدث نفسه ألا هل على دعواك جئت بحجة
فإن أنت لم تفعل فإنك كاذب وذو الصدق يبدو صدقه بالأدلة(2/31)
كلمة ذي جاه يقود بها أتباعه إلى الجنة
وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة متبوعٍ ذي منزلةٍ وقدرٍ وجاهٍ عند أتباعه لإنقاذهم برحمة الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن المعصية إلى الطاعة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين، وهي خيرٌ له من حمر النعم، والقدوة في ذلك سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه، من اهتز له عرش الرحمن، يوم أسلم ووقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، فقال في إيمانٍ ويقينٍ، وشجاعةٍ فذةٍ، وحزمٍ نافذ: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى في بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
الله أكبر موجةٌ من ناصف عبرت غواربها المحيط الأكبرا
نصيحةٌ تلك لم يحلم بها أحدٌ فوق المكاييل جاءت والمقاييس(2/32)
كلمة حق عند سلطان جائر
وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة حقٍ يصدع بها صاحبها، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يترخص إن رأى في نفسه قوة التحمل والصبر، فيعيش فاعلاً متفاعلاً عزيزاً وإن قتل، فلعله يكون من سادات الشهداء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: {سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله}.
هاهو الإمام/ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يأمر وينهى، وينكر على من يولي الظلمة لا تأخذه في الله لومة لائم، ولي القضاء في زمنه أبو الوفاء الظالم، فقام الجيلاني وقال لمن ولاه: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك غداً عند رب العالمين أحكم الحاكمين؟ فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته.
ألا ما أحوج الأمة إلى صادعٍ بالحق يصدع رءوساً قد تشبعت وتصدعت من كثرة الإضراء والملق، وصرفت عن تدبر آيات الله ونذره، ونصبت أنفسها آلهةً تقول فلا يرد قولها، فمن لها إلا العلماء الربانيون الذين إذا قالوا بطل قول كل قائل
فليشعر الخلق أن الغيل مأسدةٌ إن غاب رئبالها جاءت برئبال.
ولكم سلف؛ قام أبو هريرة رضي الله عنه إلى مروان وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: [[أتظل عند ابنة فلان تروحك بالمراوح، وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر؟! لقد هممت أن أفعل وأفعل]] اسمعوا.
كم صامتٍ شرواه إن قال ارتدت أقواله تحكي لغات الأرقم
وهاهو ابن أبي ذئب عليه رحمة الله، المهيب الآمر الناهي؛ يجيء إلى أبي جعفر، ثم يقول له: قد هلك الناس، فلو أعنتهم من الفيء يا أبا جعفر، فقال أبو جعفر: ويلك لولا ما سددت من الثغور؛ لكنت تؤتى في منزلك فتذبح، فقال ابن أبي ذئب: هون عليك! قد سد الثغور وأعطى الناس من هو خيرٌ منك؛ الفاروق عمر رضي الله عنه
إذا أخصبت أرضٌ وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جازها الزرع
فنكس المنصور رأسه، والسيف في يد صاحبه، ثم قال: دعوه هذا خير أهل الحجاز.
لا يعلم إلا الله ما سيكون إن لم يقل الربانيون كلمة الحق، المسلمون ينحدرون من هاويةٍ إلى هاوية يتقهقرون يتهافتون، وحذو القذة بالقذة لأعداء الله يتبعون.
ألفت الأمة الآثام حتى أمست جزءاً من كيانها تتمسك به، وتدافع عنه، زين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم، كانت الأقذار الجنسية تتم في خفاء، ثم صارت تبدو على استحياء، ثم تواطأ عليها الرعاع حتى دخلت إلى أعماق البيوتات عن طريق الشبكات والقنوات، ثم صارت قانوناً يعمل به في بعض البلاد، ثم انعقدت لها مؤتمراتٍ عالمية تدعو إليها لا ترى فيها عوجاً، فمن للفضيلة إن سكت الربانيون؟!
فئةٌ بائسة تكره الدين، وتنقم على الوحي، وتريد تحت ثوب النفاق أن تعيدنا إلى النفاق وعمل الجاهلية
قبحت منابتها وشاه نباتها بسوى الفضائح نبتها لم يثمر
من لهؤلاء إن سكت الربانيون؟ لا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه، والساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، لما ولي السفاح ظهر الجور في أفريقيا، فوفد p=1000569> ابن أنعم قاضي أفريقيا نعَّم الله عينه من آمرٍ وناه، وفد وهو عالمها وقاضيها على أبي جعفر مشتكياً، فقال له: ما بك يـ ابن أنعم؟ قال: جئت لأعلمك بالجور في أفريقيا بلادنا، فإذا هو يخرج من دارك، فغضب وهمَّ به، ثم قال له: كيف لي بأعوان، قال: إن عمر بن عبد العزيز كان يقول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه.
له منطق ينبيك عن بأسه كما يدل على بأس الأسود زئيرها
فأطرق، ثم أومأ إلى حاجبه أن يخرجه، فخرج وقد أدى ما عليه.
له قلب أشد من الرواسي وذكرٌ مثل عرف المسك فاحا
معشر الإخوة! أكثرت الأمثلة من باب:
على آثارهم سيروا تكونوا خير ركبان
إن على القائمين بأمر الله ودينه علماء ودعاة ومن دونهم -كل بحسبه- أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان، نصحاً أو تغييراً أو إنكاراً؛ لا يخافون لومة لائم، سواءً هذا الشر قد جاء من حاكمٍ متسلطٍ بالكفر، أو غنيٍ متسلطٍ بالمال، أو أشرارٍ متسلطين بالأذى، أو جماهير متسلطة بالهوى، منهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه سواء، وكلٌ بحسبه، وقد الرءوس في الشرف بقاء، ولحظةٌ من حياة الأسد خيرٌ من حياة الشاة مائة عام، فليكن الحال:
ولما رأيت الحرب حرباً تجردت لبست مع البردين ثوب المحارب
يا لله! أكل سوقيًّ ونبطي ومنافقٍ وعامي ومن لا يعرف له أصلٌ وأبٌ في العلم يريد أن يطرح علينا بسوئه؛ لتصير الرذيلة ديناً، ثم يخرس أهل الحق:
اجهر برأيك لا يأخذك ترويع لا ينفع الصوت إلا وهو مسموع
إن أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر، لا يثقلنك الطمع، ولا يوهننك الفزع ما استطعت إلى ربك أعذر وما استطعت فانه ومر، وغيِّر أو أنكر، زادك الإيمان، وسندك الرحمن:
إن تكن في مثل نيران الخليل أسمع النمرود توحيد الجليل
وإلا فالحتوف، والضيم كل الضيم أن يتنمر المتنمرون وأنت خاضع.(2/33)
الجهاد بالأدب نظماً ونثراً
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروف نظمٍ أو شعر، أو نثر في الدعوة إلى الله، ونصرة دين الله؛ تفصم عرى الباطل، وتلهب القلوب بسياط الحق، وتملأ الآذان وتصك الجنان، وتأسر المشاعر أسراً: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد:4].
هاهم شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون بسنانهم ولسانهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في نظم حسان: {والذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رمي النبل}.
ابن رواحة يعيرهم بالكفر، وحسان يذكر عيوبهم وأيامهم، وكعب بن مالك يقول: فعلنا ونفعل ويتهددهم، فكانت كلماتهم أسرع في العدو من السهم في غلس الظلام.
والشعر إن لم يكن ذكرى وموعظةً أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
لقد أسلم فئام من دوس فرقاً من تهديد كعبٍ حين قال:
قضينا من تهامة كل وثر وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
نجاهد لا نبالي من لقينا أأهلكنا السلاد أم الصليفا
قالوا حين بلغهم ذلك: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف.
حصحص الحق وانتهى كل شيءٍ فمن الحزم أن نجيب الرشادا
فلله دره من شاعر؛ ببيتٍ واحدٍ تسلم قبائل بأسرها خوفاً وفرقاً.
فما هو إلا البحر يلقاك ساكناً ويلقاك جياشاً مهول الغوارب
فرضي الله عنهم جميعاً.
هم البحر إلا أنه طاب ورده وكم من بحار لا يطيب ورودها
أسود غاب ولكن لا نيوب لهم إلا اللسان مع الهندية القضب
هذه صورةٌ مضيئة مختصرة من البيان الحق تنقل لأصحاب الأقلام، والألسنة العيية في الحق، التي تحمل الموت وأسباب الموت، من تلبس القاتل لباس الناسك، وتسم الخلي بسمة الولي، وتؤزر أبناء الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقاب الملوك من نصبها عدو الأمة لرفع الأمة لكن إلى أسفل، وهو من ورائها يتوارى بها كما يتوارى سائق الحمار بالحمار، ثم ينخره ليندفع على غير هدي الغريزة الحمارية، فلا يفهم الناس أن وراء الحمار سائقاً، وأنه يسوقه إلى ما ليس في طبعه وقدرته؛ فهو مسخرٌ لخدمته، غافلٌ عن عاقبته، لأنه إذا تم لمسخره فيما أراد عاد عليه فدمره، فلو كان في أقسام الإضافة في النحو العربي ما هو بمعنى: على، لخلعنا على واحدهم لقب حجة الإسلام، يعني: الحجة على الإسلام.
وهي كذلك رسالةٌ إلى الأدباء الخاملين الخائرين الكسالى البطالين، من أدبهم لا يبعث الروح ولا يثير الطموح، شعرٌ بارد من قلبٍ بارد، أدبٌ ميت يصدر عن أديب ميت، لا يحمل في عينه دمعة ولا في قلبه لوعة، بيانٌ ولا هم، وأرضٌ مخصبة ولا زمزم، ومن لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر.
ألا إن السيف يحتاج إلى ساعدٍ قوي، والقلم واللسان يحتاج إلى فكرٍ مسدد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وكريمة الكرائم؛ قلم صدق يحرر، ولسان حقٍ يعبر، وعقلٌ منضبط بوحي المولى يدبر، فإذا ضاعت هذه فالوجود العدم.
إن المنابر في الإسلام ما رفعت إلا لترفع صوت الحق في الناس
فاختر لأعوادها لا من يلين له بالحق عودٌ ولا يصغي لخناس
وإلا فالحتوف!(2/34)
كلمات عطرة في الثبات عند البلاء
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ وكلمات ومواقف في الثبات حين البلاء على دين الله وإرهاب أعداء الله، لو وُزِّعت على جبناء أهل الأرض لشجعتهم، جديرةٌ بأن تتداول وتثار وتدرس، والعبر منها تؤخذ في وقتٍ يراد لأبواب الجهاد تحت وطأة التهديد أن تقفل فلا تطرق، وتهمل أسبابه فلا ترمق، وتدفن خيوله فلا تُركض، وتصمت طبوله فلا تنبض، وتربض أسوده فلا تنهض، وتمتد أيادي الكفار إلى المسلمين فلا تقبض، ويرضى بالحياة الدنيا من الآخرة، وتطمس السوافي ما قلدته القوافي، وتعيث الهوافي بالقوادم والقوافي، وتفترس العوافي ما نامت عنه العيون الغوافي.
يا صامتاً فلتنطقن، يا وانياً لا تقعدن، يا ساهياً لا ترقدن، يا خاملاً لا تزهدن، ولا تغب بل اشهدن، تخشى الردى فلتخلدن.
هاهو معاذ رضي الله عنه وأرضاه يفاوض وجهاء الروم في أجنادين، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك؛ فوالله لتفرن إلى الجبال غداً، فقال معاذ في عزة المسلم: أما إلى الجبال فلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لتقتلنا عن آخرنا أو لنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون:
ننزل بالموت إذا الموت نزل الموت عندنا أشهى من العسل
فما كان الغد إلا والروم يفرون إلى الجبال، فيقتلون ويأسرون، نعم:
نكوي أناسي أعيا الطب داؤهم والكي آخر ما تأتي العقاقير
وهاهم أبطال القادسية في ثياب العزة يطلقون حروفاً فتكون على عدوهم حتوفاً، يقول أحدهم: اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وثقوا بالله، فإذا سلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنه يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه:
لي وإن كنت كقطر الطل صافي قصفة الرعد وإعصار السوافي
إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم.
فاطلبوا المجد على الأرض فإن هي ضاقت فاطلبوه في السماء
وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم ارتدت الجزيرة، وظهر أدعياء النبوة، وأحاطت الجيوش بـ المدينة، وهددت أهلها، يقول بعض من عنده: لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً يا أبا بكر، الزم بيتك وأغلق بابك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فهب كالأسد:
لمس الزند فاشتعل محنة أمرها جلل
وهو بين ذا وذا في أسى ليس يحتمل
رأب الصدع واشتمل قال في هيئة البطل
[[والله الذي لا إله إلا هو لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله مسلولة ما وضعناها بعد، والله لنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحدٌ إلا على نفسه].
لقد أكمل الله الهدى بمحمدٍ فمن يرتدد فالسيف قاضي القضية
وشهدت الطباق السبع والأرضون السبع أن أبا بكرٍ وفى لدين الله، وقام مقاماً لا يقومه أحد غيره، وفي أقل من سنتين يدمر جيوش المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر فارس والروم.
ستشهد في التاريخ أنك لم تكن فتى مفرداً بل كنت جيشاً عرمرما
ولقائل أن يقول: أنت تحدثنا عن عصر كله خير وسعادة، نشأ أهله في أحضان النبوة ومدرسة القرآن، فكيف يتوقع مثل هذا من رجالٍ تأخر عصرهم وبعد مصرهم واختلفت هيئتهم؟ فأقول: إن كتاب الله لم يزل محفوظاً يغرس الله عليه غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، وإن الجهاد لو قسمت فرائضه، لكان لنا منه حظان بالفرض والتعصيب، فلا غرابة! أحد المجاهدين العلماء في الهند في أواخر القرن الثالث عشر يصدر عليه حكمٌ بالإعدام شنقاً من قاضٍ إنجليزي، يقول القاضي الإنجليزي: هأنذا أحكم عليك بالإعدام، ومصادرة جميع ما تملكه من مالٍ وعتادٍ، ولا يسلم جسدك إلى ورثتك، بل تدفن في مقبرة الأشقياء بكل مهانة، وسأكون سعيداً حين أراك معلقاً مشنوقاً، فتهلل وجه العالم فرحاً وسروراً وحسن ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ثم بدأ يتمثل بقول القائل:
هذا الذي كانت الأيام تنتظر فليوف لله أقوام بما نذروا
حاله:
آذنت شمس حياتي بمغيبي ودنا المنهل يا نفس فطيبي
أما والذي نفسي لديه لساعة من الغزو خير من عبادة حقبة
وهنا تقدم ضابط إنجليزي، وقال: لم أر كاليوم قط! يحكم عليك بالإعدام وأنت مسرور مستبشر! فقال: ومالي لا أفرح ولا أستبشر؛ وأنا أرجو أن تكون شهادة في سبيل الله، وأنت لا تدري ما حلاوتها لكأنه من شوق الجنة في الجنة، ومن انتظار النعيم في النعيم، قد تمثلت له الحور والقصور، والموت في سبيل الله حبور
لو حنطوك بقولٍ أنت قائله غَنِيت عن نفحات المسك والعود
وهاهو مجاهدٌ آخر بقلمه ولسانه في عصره يقاد إلى القتل، وذنبه أنه يريد فيما نحسبه: أن تكون كلمة الله هي العلياء، ويريد الشهادة معها في سبيل الله، والشهادة حقاً -معشر الإخوة- أن تشهد أن شريعة الله أغلى عليك من حياتك، علق في حبل المشنقة كالطود الشامخ، فانقطع الحبل به، فقال في عزة المؤمن وشموخه على الباطل وأهله: جاهليتكم رديئة وحتى حبالكم رديئة، ولقي الله وحاله:
جد بالدما من غير من إن لم تذد عنها فمن؟
فرحمه الله من فردٍ في أمةٍ ولودٍ للذرية، ولأسباب حياة الذرية.(2/35)
كل يعمل قدر جهده وفيما يحسنه
أخيراً معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إننا نعيش عصراً تتسارع فيه الفتن كقطع الليل يرقق بعضها بعضاً
والأمة الوسط استكان حدها وأرى بغاث الطير لا تتلعثم
حلفاء أبي لهبٍ فيه كثير، والمهتدون بهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم قليل، ألا إنه لن يتم الاندفاع بهدى محمد الأمين عليه صلوات وسلام رب العالمين، إلا بالانقطاع عن خزي أبي لهب مع بيان سبيل المجرمين، ولا يصح الإيمان بذي العزة والجبروت والملكوت إلا بالكفر بالطاغوت، وإلا فالحتوف.
كن في الفتنة كابن لبون لا ظهر فيركب ولا لبن فيحلب، وإلا فالحتوف.
إن وقفة الرجل في محرابه متضرعاً، وبقلمه ولسانه في المحافل موجهاً يدفع شبهة، ويرفع شهوة، ويوقظ ضجعة، كوقفته بسلاحه يقصف جحافل الأعداء ويريق الدماء.
إن أقلام وألسنة الكتاب المخلصين لا تقل مضاءً عن سيوف المجاهدين، إن مداد أقلامهم في الدفاع عن الدين لا تقل بإذن الله عن دماء المجاهدين، فسخِّر حروفك لخدمة دينك المنيف، وإلا فالحتوف.
الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بضحيته، ليكون الهبوط بقدر الصعود، فاحذره، وإلا فالحتوف!
المسلمون وأنت فرد منهم هم الأمة الشاهدة الوسط الخيار الأخيرة؛ لا أمة بعدها، فإذا ضاعت ضاعت الرسالة، وإن هلكت غرقت السفينة، فاسع في نقل الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها جهدك، وامض على الصراط المستقيم، ولا تلتفت للوراء ولو كثر العواء؛ حرصاً على الواجبات والأوقات، فكل دقيقة يصرفها العاقل في مجاراة هؤلاء النابحين هي مقتطعة من العمر قاطعة عن العمل، وماذا يقول العقلاء في من نبحته الكلاب جرياً على عادتها وطبيعتها، فقطع وقته في مجاراتها ومحاورتها، لاشك أنهم يقولون: عقله كعقول الكلاب.
فارفع شعار سلام ومر مر الكرام
وإلا فالحتوف.
إن الحياة جهادٌ والجدير بها من غالب العاصفات الهوج والنوبا
وإن من أحكم الأقوال تجربةً أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
فغالب الباطل، وأَتعب قواك في الحق دهرك، وإلا فالحتوف.
أيها الجيل! لديك أعظم ميراث وأكبر ثروة عرفها التاريخ، وثيقتك كتبت من أربعة عشر قرناً أو تزيد، كتبتها المحابر، وأذن بها على المنائر، وصلي بها في المحاريب، وخطب بها على المنابر، وحررت بها العقول والحقول، وفتحت بها الأقطار والأمصار، وقطعت بها البيد والقفار، لن تضل بإذن الله ما تمسكت بها؛ إنها نبع الوحي ما اختلط بطين، لأنه محفوظٌ من رب العالمين، فخذها بقوة، وعض عليها بالنواجذ، وإياك والمحدثات، وإلا فالحتوف.
{من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت} إن عجز اللسان عن قول الخير، والساعد عن حمل السيف، فلا يعجزن اللسان عن الصمت، ولا الساعد عن حمل القلم، وإلا فالحتوف.
بالحروف من الوحي خاطب الأرواح بلغتها، وائت البيوت من أبوابها، فإذا رأيت أرض الأفئدة قد اهتزت وربت، وهضابها القاسية قد تقلبت، فشمر عن الذراع واغتنم خفقان الشراع، والإسراع الإسراع، وإلا فالحتوف.
وكم من حروفٍ تجر الحتوف وأخرى تجر لخير منيف
وكم ساكتٍ ود أن لو نطق وكم ناطقٍ ود أن لو سكت.
هذا مجمل القول عدلت فيه عجزاً عن الوابل إلى الطل، فخرجت كالطيف خطرة طيف، وسحابة صيف، وأرجو أن تكون قد فهمت، فمن الحيف ألا تفهم لغة الضيف:
وما ذاك مني بل من الله وحده بفتحٍ وإمدادٍ وفضلٍ ونعمةِ
فإن أك فيها مخطئاً أو مغالطا فمن ذات نفسي كل خطئي وغلطتي
أتوب إلى الرحمن من كل خطأةٍ وأستغفر الرحمن لي ولإخوتي
وأسأله جلَّ اسمه بصفاته وأسمائه الحسنى قبول كليمتي
يا محيي القلوب بالإيمان اكفنا زلل القدم والقلم واللسان، يا غافر الذنب ويا قابل التوب نستغفرك من كل تصريحٍ أو تلميحٍ بنقصان ناقصٍ كنا متصفين به، نستغفرك من كل وعدٍ وعدناه فقصرنا في الوفاء به.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المسلمين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود ومن هاودهم، اللهم عليك بالنصارى ومن ناصرهم، والمنافقين ومن وافقهم، والمشركين ومن شاركهم، والشيوعين ومن شايعهم، اللهم عليك بجميع أعداء الدين، اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أذق بعضهم بأس بعض، اللهم أذهب ريحهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم كن لإخوتنا المستضعفين والمأسورين والمضطهدين والمجاهدين في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان وكوبا والفلبين وأندونيسيا وجميع العالمين، اللهم كن لهم أجمعين، اللهم أفرغ عليهم صبراً وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم اشف جرحاهم، اللهم فك أسراهم، اللهم تقبل في الشهداء موتاهم، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والنفاق والعناد والفساد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وألف بين قلوبنا، اللهم لا تجعلنا في العمل لهذا الدين كأهل الجحيم؛ كلما دخلت أمة لعنت أختها، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(2/36)
من أسباب تخلف المسلمين
يوم نقلب صفحات ماضينا المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم؛ نأسى ونتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا.
فقد كنا قادة الركب وأصبحنا في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب.
ولهذه المشكلة أسباب وآثار ولها حلول.
فلتجتنب الأسباب، وليعمل بالحلول عسى الله أن يرفع ما بنا.(3/1)
حسرات على أحوال المسلمين اليوم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أني مطيلٌ فاصبروا واحتسبوا، وأسأل الله الإعانة لي ولكم، واسألوا وسائلوا:
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا
واليوم:
اسألوا التاريخ عنا كيف صرنا نحن أصبحنا مثالاً تبعيا
سامنا الأعداء ذلاً ومهاناً نال ذاك الشيخ منا والصبيا
أيكون المثل اليوم لينين وشارون وريغان الشقيا
أنسيتم الصديق والفاروق وذا النورين والصحب الرضيا
خاب من يستبدل الخير بشر يا من أنادي يا أخيا
إخوتي إن أخانا رافع التوحيد أما من سواه فعديا
وإن كان اسمه سعدا رضيا
يوم نقلب صفحات الماضي المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم يوم يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يوم نقلب ونتدبر ونتأمل؛ نأسى ونتحسر، نتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا مع نظرنا لماضينا.
نتحسر يوم نجد البون شاسعاً والفرق هائلاً، نتحسر يوم كانت هذه الأمة تهابها فارس والروم، ثم أصبحت غثاءً كغثاء السيل.
نتحسر يوم كنا سادةً قادةً، ثم أصبحنا غوغاء أتباعاً.
نتحسر يوم صار عددنا ألف مليون مسلم، ثم لا قيمة لهم، ولا وزن، دماء الكلاب أغلى من دمائهم هذه الأيام.
نتحسر يوم نسمع بين الناس أخبار السافلين تملؤ الساحات ولا نسمع شيئاً عن أخبار المسلمين.
نتحسر يوم يقذف بالمئات كل يوم في ساحات الوغى من المسلمين، والأعداء بنا يتربصون ونحن ساهون لاعبون لاهون.
نتحسر يوم يرفع الناس أبطالاً على ساحات الوغى الخضر يلعبون ويقتلون أوقاتهم ويضيعون شبابهم وزهرة أعمارهم، ونتحسر اليوم أن الأبطال الحقيقيين في ساحات الوغى الحمر لا أحد يعلم عنهم، أو يقيم لهم وزناً، جراحٌ على صلبين كل يوم جديد يُنكأ الجرح الذي نكاد ننساه فيجمع من جديد، تلك جراحات الإسلام المحارب في كل أصقاع المعمورة، يتجمع عليه الكفر وأهله، يحاربون الإسلام وأهله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج:8].
نتحسر يوم تجد الحيوانات من يناصرها ويؤيدها وينشئ لها الجمعيات التي ترفق بها والمسلمون لا يجدون من يعزيهم في شهدائهم في كل مكان ومآسيهم وجراحاتهم في كل زمان ومكان، بالمئات يموتون يومياً تهراق دماؤهم وتملأ السدود والأنهار، لم تبق بقعةٌ إلا ارتوت بدمائهم، نتحسر ونقول: هل سأل عنها أحد؟ هل قبض على جرحها أحد فداواه؟ هل على الأقل بكينا لأجلها، ولأجل ما يحل بها؟ نتحسر يوم تكون دماء شهدائنا رخيصةً في كل مكان لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بفنانين ولا أصحاب قوميات ولا وطنيات، وطنهم لا إله إلا الله، وفنهم سبحان الله، وغناؤهم الله أكبر.
نتحسر يوم يرقد مليار مسلم لا يسمعون أنةً ولا صدىً لوقوع الأجساد على تراب فلسطين وأفغانستان، لم يرحم أحد أشلاءهم الممزقة، ولم يرحم أحد أطفالهم الرضع وشيوخهم الركع، لم يرحم أحد ثكالاهم اللائي ما فارقت الدموع مآقيهن، لكن يرحمهم أرحم الراحمين.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
نتحسر ونتألم، ونقول: متى ينزاح السواد الحالك من الذلة والمسكنة، والتبعية المخيمة على هذه الأمة؟ متى ينزاح سواد الخنوع والركوع لغير الله جل وعلا؟ متى ينبري خالد وصلاح الدين والقعقاع، فيحرروا المسلمين من عبودية اليهود والنصارى والشيوعيين؟ متى يكون الأمان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتدعو مطمئنةً دون خوف ترصُّد أو ترقُّب؟ لا يكون والله حتى نرى في نفوس المجرمين العلمانيين الذين يسرقون خيرات الأمة، ويدبرون لها المكائد في الظلام ما تقر به عيون الموحدين: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20].
متى نحيي في قلوبنا سورة (الأنفال) و (براءة) و (آل عمران) لننسف المنافقين والكافرين نسفاً {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] لا إله إلا الله! ماذا دهى هذه الأمة ماذا أصابها؟ يوم ننظر لواقعها ونتذكر ماضيها يعصرنا الألم والأسى والحسرة، لا يملك الإنسان إلا أن يقول: أواه أواه لو تجدي أواه! أزماتنا متكررة ونحتاج لعودة للماضي وما تذكرناه إلا ذبنا ألماً.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
بالله سل خلف بحر الروم من عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
سل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه
هذي معالم خرس كل واحدةٍ منهن قامت خطيباً فاغراً فاه
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه
نذوب حزناً، ونقول ونتساءل: لم تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
لم وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التخلف والتأخر والانحطاط؟
لم نحن الآن في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب، وقد كنا قادة الركب فيما مضى؟
فلنبحث عن الأسباب علنا أن نشخص الداء ونجد الدواء، والله المستعان!(3/2)
أسباب تخلف المسلمين(3/3)
فصل الدين عن الدولة
أعظم سبب يا عباد الله لتخلف المسلمين الآن هو: جعل الدين في المسجد لا صلة له بالدولة ولا الحياة، بمعنى: لا يُحكم البشر بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت الشريعة عن الساحة؛ حُكم البشر بسنن البشر، والبشر قاصر وعاجز، وبهذا يحل ما حل من المصائب.
وكل يوم نرى للدين نازلة يا أمة الحق لا سمعٌ ولا بصر
يزداد الألم يوم نسمع كثيراً من المنتمين لهذا الدين ينادون بفصل الدين عن الدولة، أي: بالعلمنة، أي: بالجاهلية مع أن أهل الجاهلية أنفسهم يئنون تحت وطأتها، هاهو أحد رؤساء الدول الغربية في انتخاباته الرئاسية يرفع الإنجيل، ويقول: آن الأوان لعودة حكم الدولة بالدين، لا إله إلا الله! رجلٌ منحرفٌ يقول هذا! والمسلمون بسخرية وسذاجة يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ونقول: الكل لله، والملك لله، والأمر لله، ولا إله إلا الله! كثيرٌ من المسلمين لا يعون ولا يدركون خطورة هذا الأمر، خطرٌ داهم، وشرٌ قائم، ومع ذلك فالمسلمون في غالبهم الآن يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، لا يخضعون لحكم الله.
وسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير أن من تخلى عن حكم الله؛ تخلى الله عنه، ثم لا يبالي في أي وادٍ هلك، أفغير دين الله يبغون؟! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(3/4)
الهزيمة النفسية
وسبب آخر وهو هزيمتنا النفسية، هزيمتنا أمام عدونا سببٌ لتخلفنا وانحطاطنا، لأن هذا الداء ما تسلط على أمةٍ إلا ساقها إلى الفناء والزوال والسقوط، سُئل علي رضي الله عنه ذلك الشجاع المقدام: يا أمير المؤمنين! إذا هجمت على عدوك نجد أنك تكبر تكبيرةً تنخلع لها القلوب، فلم؟ قال: [[إني أفعل ذلك لأني أقدم على عدوي وأنا موقنٌ بأني سأقتله، عندي من الثقة بالله ثم بنفسي ما يجعلني أثق بقتله، وهو لديه ثقةٌ بأني سأقتله، فأكون أنا ونفسه عليه، فكيف ينتصر؟]]
الهزيمة النفسية أشد من السرطان على الأمة، والأمة والله قد أصيبت بها، وما دخل علينا الأعداء إلا يوم أصبنا بالهزيمة النفسية، أصبح لدى كثيرٍ من المسلمين قناعة أنه لن يُهزم أعداؤنا أبداً؛ مع أنه -ويا للأسف- من أمة تُنصر بالرعب مسيرة شهر كما أخبر بذلك نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، لكن متى تُنصر بالرعب؟ إذا تمسكَتْ بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وسبب تخلفنا سببٌ واحد نشأت عنه أسباب كثيرة لما حل بأمتنا اليوم من تجرع لكئوس الذل والهوان، وعامل نتج عنه عوامل كثيرة
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن أسباب تخلفنا: إعجابنا بالغرب، واعتباره القدوة الصالحة، إعجاباً يبينه ويظهره البعض ويبيته البعض الآخر ويخفيه، حتى وصل الإعجاب بنا بالغرب أن أصبح الذهاب إلى بلادهم أمنية يتمناها كثيرٌ من شباب المسلمين، أصبحنا نبحث عن العلم في بلاد الغرب، وبعضنا يدرس الشريعة في بلاد الغرب، ولا إله إلا الله! يشعر البعض منا بنقصٍ إذا قال أحمل شهادةً من بلد إسلامي، لكنه يرفع رأسه إذا حمل شهادة من بلاد أوروبا والغرب كله.
وصل الهوان بنا أنه لو تبرع لاعب نصراني لأحدنا (بفانيلة) لاعتبرها كنزاً لا يفنى، ووالله إنها لمهزلة ما بعدها مهزلة ومأساة ما بعدها مأساة إن رضينا بذلك، فهي العقوبة لا تبقي ولا تذر.
بفحش وقلة حياء يتسابق شبابنا لتوقيع ورقة تذكار من لاعب نصرانيٍ كافر، ويعتبرون هذا التوقيع أجل من مخطوطات المسلمين جميعها، ثم نرجو النجاة أواه!
أي فحشٍ مظل وعن فساد القوم نم
أي خيبة هبطت لها هذه الأقوام والأمم
إعجابنا بالغرب طغى على الأولاد، لو اشتهر منهم رجلٌ برذيلة، يقلَّد عندنا بعد ساعات، يسأل أحد الشباب: ما مثلك الأعلى؟ فيقول: مارادونا؛ وهو لاعبٌ كافر، والفتيات من مثلهن الأعلى؟ إنها ديانا، لا إله إلا الله حقائق تنطق بإعجابنا بالغرب، وهواننا على الله يا أحفاد محمد بن عبد الله! يا أمة الإسلام!
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم(3/5)
إفساد بعض المسلمين
ومن أسباب تخلفنا وانحطاطنا وتأخرنا وهواننا: الإفساد من البعض في الإصلاح والتطور وعدم الأخذ على أيديهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] قدوتهم فرعون يوم يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ولا إله إلا الله باسم الإصلاح انتُزعت أهم خصائص مؤسسات الأمة الإسلامية! باسم التطور ضاعت جامعات من أعرق جامعات العالم الإسلامي! باسم التطور تنتهك حرمات الله! باسم التطور يضرب بأوامر الله عرض الحائط! {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
عباد الله: الأعداء متفرقون متشتتون بطبعهم، ذاك قول الله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] لكنهم مع تفرقهم يجتمعون علينا ويتفقون جميعاً على ضرب الإسلام، وعلى ما يهيننا ويذلنا، ونحن نختلف في كل شيء إلا في الولاء لهم إلا من عصم الله، هذا يلجأ لذاك، وذاك يلجأ لهذا، وما لجأنا إلى الله، ناسين أو متناسين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فحصل التأخر والتخلف من أمة مسلمة، ووالله لن ترتفع وتعزَّ الأمة إلا بما عزَّ به أسلافها.
بعضنا ذهب إلى أوروبا وجاء لينشر ما تعلمه هناك على أنها مُثل لا تقبل النقاش والجدل، فالأمر ما أمروا والعلم ما ذكروا، يقول أحدهم: علينا أن نلحق بـ فرنسا حتى في لباسنا، ومنهم من تولى مناصب قيادية في الأمة المسلمة، فقادوا المسلمين إلى الهاوية، قادوهم إلى التأخر والتقهقر والتدهور باسم التطور، وهم يعيشون بيننا الآن ويتكلمون بلغتنا، أسماؤهم محمد وعبد الله، والله منهم براء {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
في قومنا من يدعي صدق الهوى ودم الهوى في عرقه يتخثر(3/6)
ضعف القدوة وخيانة بعض المسلمين
من أسباب تخلف المسلمين: ضعف القدوة لدى طلبة العلم والعلماء والقادة، لم يعد كثيرٌ من هؤلاء أهلاً للاقتداء بهم، ولذلك اقتدى الناس بالمنحرفين، وحمَّلوا الأمة الهوان والذل.
يا معشر القراء يا ملح البلد من يُصلح الملح إذا الملح فسد
ومن أسباب تخلفنا: خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم، أصبحوا عملاء للشرق والغرب، فخانوا الله والرسول وأماناتهم، فحسيبهم الله الذي لا إله إلا هو.(3/7)
تفرق المسلمين إلى أحزاب وجماعات
وجماع هذه الأسباب، بل من أعظم هذه الأسباب التي أدت إلى التأخر والتخلف: نشوء العصبيات والقوميات والوطنيات، والإقليميات.
تعلمون -أيها الإخوة- أن العرب أمةٌ مشتتةٌ مفرقة حتى جاء الإسلام فجمعها، فهل اجتمعت تحت لواء قريش؟ لا.
هل اجتمعت تحت لواء الأوس أو الخزرج؟ لا.
إنما جمعتهم ووحَّدتهم لا إله إلا الله، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] دان الشرق والغرب كله لهذه الكلمة، وأهان ذلك الأعداء، فرأوا أن أحسن طريقٍ لبُعدنا عن ديننا نشوء العصبيات، فأنشئوا القوميات، ثم جاءوا بالوطنيات، ثم جاءوا بالإقليميات حتى أصبح أهل الوطن الواحد يتفرقون إلى شيع وأحزاب، ولا زال ينحدر كثير من الناس في هذا الطريق، ذبحونا بعشق الوطن والكلمات المائعة عن الوطن حتى قال قائلهم:
بلادك قدِّمها على كل ملةٍ ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُم
وقال الآخر:
وطني لو شغلت بالخلد عنه لنازعتني إليه في الخلد نفسي
لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! ما أكرمك! أيُقدَّم الوطن على الجنة؟! إنها الوطن الذي نسعى إليه، لكنه ليس لها بأهل، ولن يكون الأول والآخر ممن يتكلم بهذا، وطننا وأرضنا وسماؤنا وهواؤنا وتنفسنا هو: لا إله إلا الله، من عمل بمقتضاها فهو أخٌ حميم ولو كان عبداً حبشياً، ومن رفضها فهو عدوٌ لدودٌ ولو كان حراً قرشياً.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدَّر من غمامٍ واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
عباد الله: والجبن والخوف والهلع وحب الدنيا وكراهية الموت وترك الجهاد أدت بنا إلى ما نحن فيه من التخلف والانحطاط.
هذه -يا عبد الله- بعض أسباب الضعف والانحطاط التي حلت بالمسلمين، وغرزت فيهم الهزيمة التي استطاع الشاعر أن يعبر عنها بقوله:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه(3/8)
آثار تخلف المسلمين(3/9)
انحراف في الفكر
عرفنا أسباب التخلف والتأخر، فما الآثار التي نتجت عن هذا التأخر والتخلف؟
لا إله إلا الله ما أعظم الآثار! لكن قلوبنا غلف، نتج عن ذلك انحراف في الفكر، يتمثل في الإلحاد وانتشار المذاهب الهدامة -وما الحداثيون منا ببعيد- وفساد بعض المناهج في البلاد الإسلامية، وخللٌ اجتماعيٌ اعترى الأسر حتى صارت أوضاع الأسر مؤلمة محزنة، ولو ذهبنا لمراكز التربية الاجتماعية أو المحافل لوجدنا ما يدمي القلوب من المشاكل الاجتماعية.
المرأة استخدمت سلاحاً فتاكاً للقضاء على القيم والمثل، استغلها أعداؤنا استغلالاً بشعاً، الإسلام صانها وأكرمها، وفي عصرنا لا دين، ولا حمية، ولا غيرة، وجهوا لها السهام، واستغلوها أبشع استغلال؛ أكثر من ستين مجلة على غلاف كل واحدة منها امرأة، هذا ما يرى، وما يمنع دخوله كثير وكثير، استخدمت المرأة للدعاية حتى على الحراثات -استخدمت صورة المرأة مع الحراثة للدعاية- فيا سبحان اللهَ! هل في الحراثة جمال؟ لا.
وهل في المرأة قوة؟ لا.
إذاً ليس الهدف جمالاً ولا قوةً، ولكنه استغلالٌ بشعٌ للمرأة باسم المدنية لتحقيق مخططاتهم وأغراضهم، ونجحوا في ذلك.
أوضاع كثيرٍ من نسائنا مؤلمة، ضعيفات كُذِب عليهن فصدقن وطبقن فكانت الكارثة، وكان الخلل، وهو من آثار التخلف والانحطاط.
أين القوامة يا رجال؟! أمانةٌ شرفٌ أليس لكم إباءٌ يذكر
وفي المقابل انحراف كثيرٍ من الشباب يوم يذهبون لبلاد العهر والكفر ليقضوا أوقاتهم على كأس وغانية، ويموت بعضهم في أحضان باغية، ماذا دهانا؟! إنه أثرٌ من آثار تخلفنا وانحطاطنا.
وقليلٌ -يا عباد الله- في هذا العالم من يعمل بنظام الاقتصاد الإسلامي، ما عرفنا الرأسمالية والشيوعية إلا بعد تدهورنا وتخلفنا، أين تستثمر أموال الأمة المسلمة يا عباد الله؟ إنها تستثمر في بلاد النصارى.
إن مشروعاتنا تقوم بها شركات شرقية أو غربية، إن أرصدتها عند أعدائها، لو سحبت أرصدة المسلمين من أوروبا وأمريكا لانهارت بعد ساعات، لأنهم يشتغلون بأموال الأمة، وذلك منشؤه التخلف والتأخر ولا تيئسوا.
ستظل طائفةٌ على إيمانها منصورة تبني الكيان الأكبرا
يا أمة الإسلام وجهك لم يزل بالرغم من هول الشدائد مسفرا(3/10)
ذلة المسلمين في كل مكان
من آثار تخلفنا: أن المسلم لم يصبح كما كان، كان مهاباً عزيزاً كريماً، وأصبح ذليلاً مهاناً، يُتَنَدَّر عليه ويُسْخَر منه، بل أصبح رمز السخرية والضعف والهزيمة، يقول ولا يفعل، بل يفعل عكس ما يقول.
قومٌ يثيرون الكلام قنابلاً فليشتك مما نقول المنبر
نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا لنا، لأننا لم نخف الله ولم نطعه، ولم نحفظه، فتحولنا من سادة وقادة إلى ما يسمى بالعالم الثالث والعالم النامي، وسمانا بذلك من؟ أعداؤنا، ونرددها ببلاهةٍ وهوانٍ وضعف، هانوا على الله فأذلهم، ولو عزوا عليه لعصمهم وأعزهم.
يئس الناس وقنطوا، وتبلدت أحاسيسهم بمشكلات الأمة، وانشغل كل فرد بمستقبله عن مستقبل أمته، همُّ الواحد أن يملك بيتاً وزوجةً ومالاً ورغيفاً، ولا إله إلا الله ما أرخصها من أمنية! أين أمنية التحرير لبلاد المسلمين؟ أين أمنية للمخرج مما نحن فيه؟ أين أمنية لرفع راية الجهاد وإعلاء كلمة الله؟
عباد الله: هذه بعض أسباب وآثار تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، فعودة عودة إلى الله أيها المسلمون! إن كلامنا هذا منطلق مما نراه ونشاهده من إعراضٍ وتيهٍ رغم كل الأحداث، ورغم إحاطة البلاء بالأمة، ورغم حاجتنا الملحة إلى الله، فعودةً وتوبةً وأوبةً إلى الله، صحوةً منظَّمةً، فضحاً فضحاً لأعداء الأمة، وإبطالاً إبطالاً لكيدهم، ونصراً لله تنصروا.
يا أمتي أصبحتِ في دائرة مستحكمة
ما بين إلحادٍ له أطماعه المقتسمة
وبين بعثٍ ظالمٍ يحني ظهور الظلمة
يا أمتي لا تخدعي بالشفة المبتسمة
أخشى على أمتنا من فتنة محتدمة
أقسمت بالله الذي أسدى علينا نعمه
لن يدفع الشر الذي صب علينا حممه
إلا يقينٌ صادقٌ إخلاصنا فيه سمة
نطلب فيه النصر من ذي القوة المنتقمة.
اللهم ارفع ما بالمسلمين من بلاءٍ وخورٍ وتأخر، اللهم ارفع ما بهم من ضعفٍ وهوان، اللهم أعد للإسلام والمسلمين عزهم وقوتهم ومجدهم إنك على كل شيءٍ قدير، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(3/11)
حلول مشكلة تخلف المسلمين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: تتوالى على المسلمين النكبات والهزائم، وستظل تتوالى ما بقي المسلمون على حالهم من حربهم لله ولرسول الله وتركهم الجهاد في سبيل الله {ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا} وما انتصر المسلمون الأوائل بالعدد ولا بالعدة، ولكن انتصروا بالله، فلنراجع صلتنا بالله ونحن نعيش في هذا الزمن العصيب الدقيق، الذي فيه:
دم المصلين في المحراب ينهمر والمستغيثون لا رجعٌ ولا أثرُ
والقدس في قيدها حسناء قد سلبت عيونها في عذاب الصمت تنتظرُ
سل الملايين من أبناء أمتنا كم ذُبحوا وبأيدي خائنٍ نُشروا
سلوا بلاداً من الأفغان ما برحت دماؤنا في ثراها بعدُ تستعرُ
وسائل الليل والأفلاك ما فعلت جحافل الحق لما جاءها الخبرُ
هل جُهزت لحياض الدين أبنيةٌ هل في العراق ونجدٍ جلجل الغُيُرُ
هل قام مليون مهديٍ لنصرتها؟ هل قامت الناس؟ هل أودى بها الضجرُ
هل أجهشت في بيوت الله عاكفةً كل القبائل والأحياء والأسرُ
آمالنا من صلاح الدين يعتقنا وقد تكالب في استعدادنا الغجرُ
يا أمة الحق إنا رغم محنتنا إيماننا ثابتٌ بالله نصطبرُ
غداً بين يدي الجبار سيسألكم الله حكاماً وشعوباً ماذا عملتم تجاه دينكم؟ ما دوركم في عز هذا الدين بعد أن تخلف المسلمون وانحطوا اليوم عن دينهم وبعدوا؟
إن الدور عظيم، والمواقف المنتظرة منكم هي المواقف المنتظرة من رجال الأمن.
ما العلاج لما نحن فيه؟(3/12)
العودة الصادقة إلى الإسلام
إن العلاج لتخلفنا نحن المسلمين يتمثل في عودةٍ صادقةٍ إلى الإسلام، وتحكيمٍ لشرع الله، فوالله لا حياة، ولا عز، ولا فخر إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شرع الله في أرض الله، ومتى ما تخلينا عن ذلك تخلى الله عنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(3/13)
التربية الجهادية
وعليكم بالتربية الجهادية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لنتساءل: هل ربينا أبناءنا على حب الجهاد؟ هل ربيناهم على الاستعداد للموت في سبيل الله؟ لا والله، تركنا الجهاد، وأخذنا وراء الدنيا نلهث ونركض، فحل بنا ما حل من تأخر وتخلف وفساد: [[لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها]] وبمَ صَلُح أولها؟ بالجهاد في سبيل الله.
أعداؤنا يحيكون المؤامرات، ونخشى أن يقضوا علينا بين عشيةٍ وضحاها، أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم، فأين المهرب؟ أين المفر يا عباد الله؟ ففروا إلى الله، وعودوا إلى الله، وربوا الشباب على الرجولة، شبابنا في غالبهم مائعٌ ضائع لا يتحمل لسعة الهواء، ولا ضربة الشمس، هل هؤلاء على استعداد ليواجهوا عدوهم؟ في ملعب من الملاعب يجتمع أكثر من ثلاثين ألف متفرج لمشاهدة مباراة، ويتساءل المسلم لو نادى منادي الجهاد: حي على الجهاد! كم سينطلق من هؤلاء الذين ناداهم منادي إبليس فأجابوه.
والله لئن بقي شبابنا على أساليب تربيتهم الآن، فهي الكارثة، فلا تلوموا إلا أنفسكم: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].(3/14)
وقاية المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لتجتمع كلمة المسلمين، وليلتف الشباب حول العلماء وطلبة العلم، ولتُصْلَح المناهج والوسائل، ولننصح ولنأمر ولننه لا نخشى إلا الله، أطالبكم: من رأى منكراً في صحيفة، أو جهاز، فليكتب إلى المسئولين، لا نستكين ولا نلين، فكلٌ منا على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك يا عبد الله! ثم لنهتم بالأسرة: {فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته {وما من راعٍ استرعاه الله رعية، فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} القائد مسئول، والأب مسئول، والكل مسئول، والأم مسئولة، والأم مسئوليتها تعظم وتعظم هذه الأيام، نريد أماً صادقة تضحي في سبيل دينها بكل شيء، لا في سبيل ما يريد أعداؤها منها من غزوٍ في أزيائها، وخروجٍ بها إلى الشوارع سافرة، وتضييعٍ لبناتها مع السائقين والخدم.
والأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ
والأم مدرسةٌ إذا أفسدتها أفسدت شعباً طيب الأعراقِ
نريد أماً قدوتها عائشة وحفصة وخديجة وزينب، ونعم القدوة هن، انتبهوا لنسائكم يا عباد الله! أصابهن الداء، والبعض منا لا يدري.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
تخلينا عن قيادتنا في بيوتنا، تركناها لآلات اللهو والخدم، وأصبح الأب يمارس بطل مسرحية الضياع في بيته، النار فيه تلتهب وهو جالس لا يحس
أين العقول؟ أما لديكم حكمةٌ؟ أين القلوب، أما تحس وتشعرُ؟
لابد من وقاية المجتمع، لابد من تطهيره إن أردنا العزة والمنعة والمجد، والإسلام عزيزٌ بدونكم، محفوظٌ بدونكم، واعلموا أنه باقٍ ما بقي الليل والنهار ومهما تطاولت الأيدي، ومهما كثر الأذناب والخونة والمجرمون والمنافقون الذين يملأ الجبن قلوبهم، لا يقاتلون مبارزة، بل يطعنون من الخلف، ويتقنعون بالإسلام والإسلام منهم براء، نحن نقول هذا: والله لا نخاف على الإسلام بقدر خوفنا عليكم -أيها المسلمون- أن يتزعزع إيمانكم ويصل اليأس إليكم فتتزلزل قلوبكم، أو يصيب الوهن عزائمكم، لأنكم ترون الخذلان يجتمع عليكم من كل صوب، وترون شراسة العدو وخيانة الصديق، لكن اعلموا أن الكفر كله تجمع يوم الأحزاب يريد القضاء على دين الله، فخاب وخسر {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] وما ظن المؤمنون بالله إلا خيراً {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب:22] ماذا قالوا؟ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
الله أكبر! انظر أخي المسلم وأنت تعيش الفتنة كيف إيمان هؤلاء؟ وكيف تعلقهم بالله؟ كيف كانت عاقبتهم يوم تجمع الأحزاب عليهم؟ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] والذين ظاهروهم ماذا عمل فيهم؟ {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب:26 - 27].
يا عباد الله: ألا لا يداخلنكم ريبٌ في ذلك ولا شك، فما ترونه اليوم من علو للباطل، فإنما هو سرابٌ خادع وابتلاءٌ من الله، والله أغير منا على دينه وهو حكيمٌ عليم غير غافلٍ عما يعمل الظالمون، لكن كل ذلك ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ويمحق الكافرين، فالكفر ذليل مهما حاول كسب العزة: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139].
نحن والله لا نقول هذا الكلام تيئيساً، فإننا والله نعلم أن العاقبة للمتقين، لكن حزننا اليوم على أنفسنا أن لم نكن أهلاً لحمل راية الله، ولا لحمل صفات المتقين.
حزننا على غفلتنا عن عقيدتنا وعن إخوةٍ لنا في كل مكان لا نسمع أنينهم ولا نواسيهم، حزننا وخشيتنا أن يستبدل الله قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا، حزننا أننا على اللهو عاكفون والسُّخف، وأعداؤنا يخططون ويدبرون ويمكرون، والله خير الماكرين.
أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم
وكسا ثوب عزةٍ كل من بالهدى اعتصم
ورمى مدمن الضلال بسوطٍ من النقم
إن قنعنا بسُخطنا وركنا إلى النعم
فخطا الخصم ماضيات من القدس للحرم
عندها يندم الجميع ولا ينفع الندم
اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بها من انحطاط وذل وهوان، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأهلك الطغاة والمجرمين والمنافقين، وأرنا فيهم يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون، نجعلك اللهم في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوءٍ، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا أكرم الأكرمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منا وما بطن، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيءٍ يا أرحم الراحمين.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(3/15)
اجتهاد السلف في العبادة
لقد بلغ السلف الصالح في عبادتهم الثريا، وعلى رأسهم خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الدرس تكلم الشيخ عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن اجتهاد الصحابة من بعده في العبادة، ثم ذكر العديد من قصص التابعين وغيرهم ممن لنا بهم الأسوة والقدوة.(4/1)
عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن العنوان كما استمعتم: (اجتهاد السلف في العبادة) ومن هم السلف؟ كل من سبقنا بخير فهو سلفنا -إن شاء الله تعالى- ونتكلم عن اجتهادهم في العبادة؛ لنعرف تقصيرنا، وكل واحد منا عندما يسمع هذه الكلمات يعرف كم هو مقصر، وكم هو كسولٌ في طاعة الله، وما الذي ينبغي علينا أن نصل إليه؟
ثم بعده نرجو رحمة الله عز وجل.
اسمع إليهم -يا عبد الله- وإياك إياك أن تيأس من روح الله، فإنه من اجتهد يسر الله له السبيل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ثانياً: اعلم أن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، واعلم أن باب الرحمة مفتوح، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، واعلم يا عبد الله! أن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو أشد رحمة من الأم بولدها لعباده، اسمع يا عبد الله وتدبر!(4/2)
تعبده في الليل
إذا ذكرنا السلف كان في مقدمتهم خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، اسمع إليه -يا عبد الله- كيف كان يتعبد ربه جل وعلا وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! يقول حذيفة: (في ليلة من الليالي صليت وراءه فاستفتح سورة البقرة، يقول: فقلت سوف يركع عند المائة فأكمل، قلت: عند المائة الثانية فأكمل، حتى ختم سور البقرة بركعة، يقول: ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه نحواً من ركوعه -وفي رواية-: أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة والأنعام في أربع ركعات) إنه النبي صلى الله عليه وسلم.
يدخل عليه بلال في ليلة من الليالي وقد قام حتى تفطرت قدماه، فقال: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]).
يقول علي بن أبي طالب: [ما منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد -يتحدث عن معركة بدر - ثم يقول: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم -أي: كلنا نمنا من شدة المعركة- يقول: غير رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه كان تحت شجرة يصلي ويبكي حتى الصباح].
نام الصحابة كلهم إلا هو، قائمٌ تحت شجرة يقرأ القرآن ويصلي حتى أصبح الصباح، أرأيت؟ نعم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولكن إنه العبد {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1] هل قال: برسوله؟ هل قال: بنبيه؟ لا.
بل قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] هذا مقام تشريف، كيف شرف الله نبيه بهذا الاسم، بأنه عبد لله عز وجل وقد أمر الله بالعبودية فقال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61].
يقول ابن مسعود: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة إلى الصباح تبكي وترددها، لو فعلها واحدٌ منا لوجدنا عليه -أي: حزنا عليه، ليلة كلها تقوم بهذه الآية؟: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] يرددها طوال الليل، حتى سجد وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل! أخبر محمداً أنا سنرضيك في أمتك) يبكي الليل كله ويقومه بآية إنها العبودية.
إنه مقام عظيم لا يصله أي إنسان تتشقق الرجل وهو لا يشعر بها إنها حالٌ ترقى بالإنسان إلى درجة أنه يتلذذ بالعبادة ولا يشعر بالألم، لو تفطرت القدمان لا يشعر بهما؛ لأن قلبه متصلٌ بالخالق، إن الجسد على الأرض وإن الروح في السماء، يطير في الملكوت الأعلى، قلبه تحت العرش، كيف يتألم من هذا حاله؟!
اسمع يا عبد الله! إلى من تحته ومن بعده.(4/3)
عبادة الصحابة رضوان الله عليهم(4/4)
عمر وعبادته لله
يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: [لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا -ما هي الثلاث؟ دينار؟ درهم؟ قصور؟ أكل وشرب؟ لا يا عبد الله، يقول: لولا أن أحمل على الجهاد في سبيل الله] الأولى: الجهاد، يقول: هذا الذي يبقيني في الدنيا الجهاد في سبيل الله، أصوات الخيل، ونحن نقول الآن: سل المجاهد ما هي أحلى أيام حياتك؟ يقول: والله لو فكرت في الدنيا وتصفحت أيامها فإن أحلى أيامها تلك الليلة التي كنا نسمع فيها أصوات المدافع، وإطلاق الصواريخ، وعلى رءوسنا الطائرات، يقول: تلك كانت أحلى الليالي في الحياة، فهذا عمر كان يعيش في هذه الروح.
والثانية: [مكابدة الليل] الليل مجاهدة، يا عبد الله! إن من الناس اليوم أول ما يأتيه الليل ينام وهو لا يشعر، أمام التلفاز، أو يجالس فلانة، أو في المباريات، أو عند الأفلام، أو يستمع للأغاني، من منا في الليل يجاهد نفسه ويتعب نفسه في قيام الليل؟!
والثالثة: [مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر].
يقول هشام بن حسن: كان عمر يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، يقرأ القرآن فيبكي حتى يختنق من شدة البكاء، فيسقط على الأرض، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً، هل به مرض؟ لا.
إنه القرآن إنها العبادة إنه الخوف من الله جل وعلا.
صلى يوماً بالناس فقرأ سورة يوسف فوصل إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فتوقف، وأخذ يبكي، حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف، ولم يستطع أن يتم الصلاة، عمر يبكي من هذه الآية؟! عمر في يوم من الأيام وأد بنته وكان يسجد للصنم، أما اليوم فإنه يبكي من هذه الآية، ما السبب؟ إنها العبودية لله جل وعلا، إنه حب الله سبحانه وتعالى، إنه الخوف من عذابه تبارك وتعالى.(4/5)
وقفة مع عثمان وعبادته
عثمان؛ إنه الخليفة الثالث الراشد رضي الله عنه، كان يقوم الليل كله فيختم القرآن.
إياك أن تقول: خلاف السنة، ثم إن كان خلاف السنة، فأين نحن من السنة؟
أين نحن من قيام الليل؟
أين نحن من قراءة القرآن؟
أين نحن من الخشوع؟
أسألك بالله: متى قمت الليل؟
بعضكم يجيب يقول: من رمضان إلى اليوم، واقترب رمضان الآخر.
كم مرة قمت الليل؟
هل تصلي الوتر؟
كم مرة من المرات قمت آخر الليل ورفعت يديك لله عز وجل؟
كان عثمان من شدة اللذة ينسى نفسه يختم القرآن في ليلة واحدة، إنه عثمان الذي قال ابن عباس في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] ذاك عثمان، قانت ماذا يفعل؟
سهران على التلفاز قانت في المجالس يشرب الشاي والقهوة؟ {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].(4/6)
ثبات عباد بن بشر في صلاته
اسمع يا عبد الله إلى عباد بن بشر! انظر إلى باقي الأصحاب، وبقية السلف! هذا عباد بن بشر رضي الله عنه أحد الصحابة، يقوم حارساً للنبي صلى الله عليه وسلم هو وعمار على ثغر المسلمين، فيأتيه أحد المشركين في الليل وهو يصلي، فيراه أحد المشركين فيرميه بسهم وهو يصلي، فنزع السهم ورماه وأكمل صلاته، فرماه السهم الآخر، فنزع السهم ثم أكمل صلاته، ورماه بالسهم الثالث، فأتم صلاته وخففها، فانتبه عمار فقال له: ويحك لِمَ لَمْ توقظني؟ قال: والله لقد كنت أقرأ سورة وخشيت أن أقطعها، والذي نفسي بيده لولا أني كنت على ثغرٍ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان خروج نفسي أحب إليَّ من أن أقطع هذه السورة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] بعض الناس يطمئن قلبه بسماع أغنية فلان أو فلانة، أو بمجلس طرب، أو أمام التلفاز، أو في ملاعب الكرة، يقول: هنا يطمئن قلبي! بئس القلب الذي مات وقسا، وران عليه ما ران، أما قلوب المؤمنين إذا سمعت ذكر الله اطمأنت واستبشرت، وانشرح الصدر بذكر الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(4/7)
عبادة عبد الله بن عمر بن الخطاب
ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه كان إذا قام الليل صلى -كل يصلي الليل إلا قليلاً منه ينامه- كان يقوم الليل ثم يسأل نافع بعد الركعتين، فيقول له: يا نافع! -مولاه- أسحرنا؟ فيقول: لا بعد، فيصلي، وبعد الركعتين يسأله: يا نافع! أسحرنا؟ فيصلي وهكذا حتى الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام قال له: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل).
جرب قيام الليل يا عبد الله! أنصحك نصيحة هذه الليلة اعزم القيام وإياك أن تبدأ بقوة وحماس فتصلي نصف الليل ثم في اليوم الثاني لا تصلي شيئاً، ابدأ قليلاً قليلاً وعود النفس ابدأ هذه الليلة بثلاث ركعات ربع ساعة نصف ساعة، ابدأ شيئاً قليلاً، وفي اليوم الثاني زد، وفي الثالث زد، وعوِّد النفس حتى تقوم ثلث الليل، وخير القيام قيام داود.(4/8)
التابعون وعبادتهم(4/9)
عبادة علي بن الفضيل بن عياض
اسمع يا عبد الله إلى الفضيل بن عياض! وأنا أظن أن أكثركم قد سمع بـ الفضيل بن عياض الذي يسمى بعابد الحرمين، هذا الرجل من عبادته أنه كان إذا ذكر عنده الله أو سمع القرآن ظهر عليه من الحزن والخوف ويبكي حتى يرحمه من بحضرته، له ولد اسمه علي كان إذا صلى علي خلفه س وهو إمام في الصلاة، كان لا يرتل القرآن، لأنه يخاف على ابنه، لأن ابنه لا يتحمل القرآن، فكان إذا رأى ابنه خلفه قرأ القرآن قراءة عادية، وفي يومٍ من الأيام دخل ابنه في الصلاة، ولم يكن الفضيل يعلم أن ولده خلفه، فرتل الآيات، ووصل إلى قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] سمع ابنه يبكي، فخفف الصلاة، وبعد الصلاة وجد ابنه على الأرض، فحملوه ولكن فاضت الروح إلى بارئها: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
نعم! إنهم صالحون يخافون من ذلك اليوم يخاف أن يبدو له شيء آخر، أين أولئك الغافلون؟ أين الذين لا يصلون الفجر حتى تطلع الشمس؟ أين الذين قطعوا الأرحام؟ أين الذين نظروا للنساء وتمتعوا بالنظر إليهن؟ أين سماع الأغاني والطرب؟ أين هم؟ إن الصالحين يخافون إذا لقوا الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].(4/10)
عبادة سفيان الثوري
سفيان الثوري رحمه الله يقول عنه عطاء: ما لقيته إلا باكياً، فقلت له: لماذا تكثر من البكاء؟
-واسمع للإجابة ثم ضعها في قلبك وتفكر فيها، واجلس دقائق معدودة فكر في هذه الكلمات- قال سفيان الثوري: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله كتب أنني في النار، أخاف أن الله في اللوح المحفوظ حكم علي أنني من أهل جهنم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
أكثر أحيانه يرى كأنه في سفينة يخشى الغرق، دائماً يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، تجده باكياً، ويدعو بهذا الدعاء.
يقول ثابت البناني رحمه الله: كنا نتبع جنازة فلا نرى سفيان -أي: الثوري - إلا متقنعاً باكياً متفكراً، يقول: هذه حاله، كلما رأيناه يبكي، نراه يخفي وجهه في الجنازة، ويجلس على زاوية ثم يأخذ يبكي، يتفكر في أحوال الموتى، اسمع إلى قول الشاعر ماذا يقول، وتفكر يا عبد الله:
يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ ما الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ
عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ
سوداء تزفر من غيضٍ إذا سعرت للظالمين فما تبقي ولا تذرُ
لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجرُ(4/11)
عبادة ثابت البناني
ثابت البناني: يقول عنه جعفر: بكى ثابت حتى كادت عينه أن تذهب -أي: يعمى- فجاءوا بالطبيب قالوا: أدرك هذا الرجل سوف يصاب بالعمى، سوف تذهب عيناه، فقال له الطبيب: أعالجه على أن يطيعني قال: وما هو؟ قال: إذا أردت بقاء عينيك فلا تبكِ، فقال ثابت رحمه الله: وما خيرهما إن لم تبكيا؟ إذا كانت العين لا تبكي من خشية الله فما فائدتها؟ عينٌ لا تبكي من خشية الله لا خير فيها عينٌ لا تتأثر لما تسمع من آيات النار وآيات جهنم وأهوال القيامة ولا تدمع فلا خير فيها، يقول الله عن الصالحين: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109].(4/12)
عبادة زياد بن جرير
يقول حفص بن حميد: واسمع إليهم يا عبد الله ثم حاسب نفسك، وانظر إلى حالك وحالهم- قال لي زياد بن جرير: اقرأ، قال: فأخذت أقرأ القرآن حتى وصلت إلى قول الله جل وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3] قال: فإذا به يبكي كما يبكي الصبي، فقلت: مالك؟ قال: فعل هذا برسول الله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3] يقول: كيف بنا نحن؟! وزر رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عليه الصلاة والسلام أنقض ظهره، ماذا نعمل نحن يا عباد الله؟!(4/13)
عبادة الفضيل بن عياض
وهذا الفضيل بن عياض، يقول عنه إسحاق بن إبراهيم: كانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً لا يتحمل القيام، كان يقعد في الليل فيصلي، تُلقى له حصيرة في المسجد -الآن تخيل حال هذا الرجل- فيصلي من أول الليل ساعة، حتى تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصيرة في المسجد، فينام قليلاً ثم يقوم: فإذا غلبه النوم نام، ثم يقوم فيصلي ثم ينام، ثم يقوم فيصلي، حتى يطلع الفجر، ثم يقول لمن حوله: أشد العبادة ما يكون هكذا: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17].
تأتي بنت فتقول لأبيها: يا أبت! الناس ينامون وأنت لا تنام؟! لم لا تنام يا أبي فكل الناس ينامون في الليل إلا أنت؟ فيقول: يا بنية! حر النار أذهب عن أبيك حب النوم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
يقول محمد بن واسع: [أدركت رجالاً -لعلهم تابعين أو صحابة- كان الرجل له وسادة واحدة مع امرأته: قد بل ما تحت خده من دموعه وزوجته لا تشعر به] يبكي على وسادة واحدة في الليل وزوجته لا تعرف ذلك، لا يأتيه النوم من البكاء، أتعرف لمَ؟ إن الجواب في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] النوم لا يأتيهم.
قال بعضهم: عجباً لمن كانت النار تسعر تحته، والجنة تزين فوقه كيف ينام؟! ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، كيف ينام هذا الرجل؟!
النار يا عبد الله! تحتك تتسعر، والجنة تزين وقد أزلفت للمتقين، والحور العين تنتظرك! فكيف تنام الليل كله؟!: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].(4/14)
عبادة داود الطائي
تقول أم سعيد ابنة علقمة: كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، وكنت أسمع حنينه عامة الليل.
تقول: أسمع بكاءه في الليل.
ماذا تسمع الآن في بيوت المسلمين؟ مر بالقرب منها فماذا تسمع فيها؟ الأغاني، والطرب، والتلفاز، والبث المباشر.
عباد الله! ما الذي تغير؟ إن حب الله تغير وقل في القلوب إلا من رحم الله محبة الله قلت في قلوب الناس، ذكر الله أصبح في الألسنة قليل حتى أن بعضهم يقوم للصلاة وهو كسلان: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وكأنه إذا دخل بيت الله دخل في سجن! وكأنه إذا قرأ القرآن يمل حتى ينتهي من المصحف، وإن كان عليه ورد قال: متى أنتهي من هذا الورد؟ سبحان الله! أصبحت عبادة الله سجن لبعض الناس.
قبل قليل ولا أكتمكم خبراً جئت من الطائرة إلى هذا المكان فرأيت أمراً عجباً، ركبت في الطائرة وفيها بعض المسلمين وأكثرهم لعلهم نصارى من أشكالهم وهيئاتهم، وأول ما ركبنا الطائرة وطارت كان هناك معنا بعض الخليجيين، والله الذي لا إله غيره فزعوا من مقاعدهم ورجعوا إلى الخلف -انظر ما الذي جرى- كل منهم يأتي بكأسٍ من خمر ليشربها، لم يصدق أن الطائرة تطير، كأنه في قيد محبوس، يتمنى أن يتخلص من هذا القيد ليشرب كأساً مسكين لا يعلم أن هذا هو الحبس الحقيقي هذا هو السجن الأسر أسر الشهوة، العبودية إما لله وإما للشيطان، والشهوة إما في حلال أو في حرام، أنت عبدٌ، إما أن يأسرك هواك، وإما أن تعبد الله جلَّ وعلا وهذه هي الحرية الحقيقية! أنك لا تعبد إلا الله، ولا تقدم قولاً على غير الله، ولا تتلذذ إلا بطاعة الله جلَّ وعلا.(4/15)
عبادة عامر بن عبد الله بن الزبير
عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام يروى عنه أنه في حالة الاحتضار قبل الموت سمع الأذان لصلاة المغرب، فقال لأولاده: احملوني، قالوا: يا أبتِ! أنت معذور وتحتضر فاجلس وصلِّ في البيت، قال: لا إله إلا الله! أسمع الأذان ولا أجيب، احملوني إلى الصلاة، فحملوه إلى المسجد وهو في صلاة المغرب، وفي السجدة الأخيرة سلم الروح إلى خالقها.
انظر للعبادة! انظر للذة! انظر كيف أكرمه الله جلَّ وعلا!(4/16)
عودة إلى عبادة ثابت البناني
انظر إلى جعفر بن سليمان يروي عن ثابت البناني الذي كادت عيناه أن تذهبا، اسمع إليه حين قرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:1 - 7] يقول: تأكله إلى فؤاده وهو حينئذٍ، هكذا يبلغ بهم العذاب ثم انفجر بالبكاء، وأبكى الذين حوله جميعاً، أخذ يتفكر بأنه لا يموت يصل النار إلى القلب، تأكل النار قلبه وهو حي يشعر بالنار ولا يموت: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
ما طريق هذه النار يا عبد الله؟! بداية هذه النار: الشهوات نظر إلى امرأة استماع للأغاني نوم عن الصلاة أكل الربا ظلم الناس الغيبة والنميمة الاستهزاء على خلق الله جل وعلا أكل الحرام استماع الحرام، هذه هي بداية النار، هذه أبوابها.
لا تقل: أنا -الحمد لله- أقول: لا إله إلا الله، اعلم أن ممن يقول: لا إله إلا الله تصيبه النار، ومنهم من يمكث في النار سنين طويلة، ينسى ثم يخرج من النار كل موحد.
يا عبد الله! الأمر ليس بهين، يؤتى في النار إلى الرأس والأقدام ثم تلصقان فينكسر ظهره: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] يؤخذ برأسه وقدمه فيكسر ظهره ثم يرمى في النار، هل تخيلت هذا يا عبد الله؟! يأكل طعاماً فيغص به فلا يستطيع بلعه ولا إخراجه يأكل الشوك من شدة الجوع!
يقول بعض السلف: إن الجوع في النار مثل عذاب النار، إذا سال فروج الزواني تسابق أهل النار ليأكلوها من شدة الجوع: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17].
عبد الله! هذه هي النار، يجوع أهل النار فيأكلون طعاماً ذا غصة لا يستطيع أن يخرجه ولا يبتلعه، فيستغيث بالماء فيأتيه ماء، قال تعالى عنهم: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يؤتى بماء كالمهل فعندما يقرب رأسه ليشرب تسقط فروة رأسه قبل أن يشرب، فإن شرب تقطعت الأمعاء، وخرج الماء من دبره: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
ثم تأتي فتسألني: لمَ كل هذا القيام؟ ولم هذا الصيام؟ ولمَ كثرة قراءة القرآن؟ ولمَ كانوا يبكون؟ لعلك عرفت لمَ كل ذلك، إذا عرفت فانتبه، واستقم على طاعة الله.(4/17)
خوف السلف من الله
قال يوسف: قال لي سفيان: ناولني المطهرة -إناء فيه ماء- يقول: ونحن نتوضأ في المسجد فناولته في المسجد، فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يساره على خده الأيسر -تخيل منظره الآن- يقول: ثم نمت، بعد أن رأيته على هذه الحال قال: فاستيقظت وقد طلع الفجر، فقلت له: يرحمك الله! منذ أن تركتك وأنت على هذه الحال؟ قال: نعم.
تعرف لمَ؟ يقول: ما زلت أتفكر في أمر الآخرة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
من يجلس في المسجد؟
كل الناس يخرجون من يجلس بعد العصر إلى المغرب؟
بل من يجلس بعد الفجر إلى طلوع الشمس؟
كل الناس يخرجون يهربون من بيوت الله لمَ؟
بيعٌ وشراء إلا من رحم الله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] تعرف لمَ هذا المكث في بيوت الله: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] ماكث على هذه الحال من أول الليل إلى طلوع الفجر يقول: أتفكر في أمر الآخرة: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
يروى عن عبد الله بن المبارك أنه كان إذا صلى العصر، أتى إلى مسجد في المدينة يذكر الله حتى غروب الشمس، هذه حالهم كل يوم، بعد العصر لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39].
هل سمعت برجل اسمه مسروق؟ هذا الرجل أحد العلماء العباد الزهاد، تقول زوجته: إنها تجلس خلفه، وما كان يصبح -أي: لا يطلع الفجر- إلا وساقاه منتفختان أمن اللعب؟ أم من المباريات؟ أم لكثرة النوم؟ لا.
تقول: وساقاه منتفختان من القيام، فإذا أذن الفجر تجلس خلفه تبكي على حاله، فإذا طلع الفجر يزحف كما يزحف البعير من شدة قيام الليل.
ثابت البناني يقول عن نفسه: أنه كان إذا أذن الفجر عصر رجليه حتى يستطيع أن يمشي عليهما.
من قدوتهم؟
إنه المصطفى عليه الصلاة والسلام إنه الذي كان إذا قام الليل تفطَّرت قدماه.(4/18)
قصة استجابة الله لدعاء إسكافي
محمد بن المنكدر له قصة عجيبة غريبة، يقول: في يومٍ من الأيام قحط أهل المدينة، فخرجوا يستسقون فما سقوا -أي: ما نزل المطر- كل أهل المدينة، ومن أهل المدينة؟ إنهم الصالحون العباد، يقول: وكنت في تلك الليلة في المسجد وكان المسجد مظلماً، وقد اتكأت على سارية فدخل رجل لا أعرفه، ولم ينظر إليَّ وكان متوشحاً ببردة، فتقدم إلى المسجد، وجلس في الصف الأول وأخذ يصلي، وبعد أن انتهى من صلاته رفع يديه وأخذ يدعو الله ويثني عليه، ثم قال: أقسمت عليك يا رب لما سقيتهم -يقسم على الله أن يسقيهم المطر- يقول محمد بن المنكدر: قلت في نفسي: هذا الرجل مجنون، كل أهل المدينة خرجوا إلى الله يستسقونه وما سقاهم، وأنت تقسم على ربك أن ينزل المطر، فوالله ما أنزل يديه إلا والسماء ترعد، والمطر ينزل، يقول: فعجبت من أمره يقول: فأخذ يبكي، وهو يقول: من أنا حتى تستجيب لي؟ من أنا حتى تستجيب لي؟ عذت بحولك وقوتك، ثم أخذ يثني على ربَّه جلَّ وعلا، وأخذ يصلي حتى الفجر، يقول: فتبعته بعد الفجر حتى علمت منزله، وجئته في الصباح، فدخلت ونظرت فإذا هو إسكافي -أي: يصلح الأحذية- فقلت له: يا فلان! أنا صاحب البارحة الأولى في المسجد -أي: نظرت إليك وعلمت ما الذي جرى- فقال: يا أبا عبد الله! ما شأني وشأنك؟ يقول: فخرجت وانتظرته في اليوم الثاني فما جاء المسجد، وكذا اليوم الثالث فما جاء، يقول: فذهبت إلى البيت لأسأل عنه فقالت عجوزٌ عند البيت: يا أبا عبد الله! ماذا فعلت معه، منذ أن فارقته جمع أمتعته وخرج من البيت ولم يرجع إلى هذه الساعة، يقول: بحثت عنه في المدينة كلها فلم أره ولم أسمع به.
انظر إلى هذه العبادة وإلى هذا الإخلاص يتلذذ بعبادة الله، ولا يحب أن يراه أحداً، ولا يسمع به أحد: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11].(4/19)
وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل
الإمام أحمد يقول عنه ابنه عبد الله: دخلت عليه يوماً من الأيام في غرفة مظلمة، فوجدته متربعاً يبكي، فقلت له: يا أبي! ما شأنك؟ لمَ تجلس هذه الجلسة وتبكي؟ قال: يا بني! أتفكر في القبر وأهواله أتفكر في اليوم الآخر.
فقلت: يا أبي! هلا اتكأت؟ -أي: أنت رجل كبير في السن هلاَّ استندت على الحائط؟ - قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.(4/20)
شدة خوف الإمام أحمد من الله
يدخل على الإمام أحمد أديب في يوم من الأيام فيقول له الإمام أحمد: ما عندك؟ -أي: من شعر- اسمع ماذا يقول الرجل قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
فلما سمع الإمام أحمد الشعر قام من الدرس، ودخل الغرفة وأخذ يبكي وهو يردد هذا البيت.(4/21)
زهد الإمام أحمد
عبد الله! يقول الإمام أحمد هل كان في الدنيا مثلنا؟ يعني أنه في خير ونعمة، يقول ابنه: كان عنده حذاء مكثت معه ثمان عشرة سنة، يقول: وكلما خرم الحذاء خصفه بيده، كان يصلح حذاءه بيديه.(4/22)
عبادة الإمام أحمد وصبره في السجن
دخل الإمام أحمد على المعتصم فقال له المعتصم: يا إمام! قل مثل أصحابك فإني مشفقٌ عليك -أي: قل: إن القرآن مخلوق- لكنه ثبات على المبدأ والعقيدة، قل: القرآن مخلوق وانج بنفسك، فما قالها لأن القرآن كلام الله، فجاءوا إليه بأحد أصحابه، فقال له: يا إمام! قلها وانجُ بنفسك، فقال: يا فلان! انظر فنظر فإذا التلاميذ ألوفٌ مؤلفة بيدهم المحابر ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد؛ لينقلوا عنه للأمة؛ ليحفظ لها دينها.
فإذا بـ المعتصم يأمر الجلادين ثم يعلق ويضرب مائة وستين سوطاً، لو ضرب بها البعير لمات، وهو يقول كلما يفيق: لا إله إلا الله حسبي الله ونعم الوكيل، ثم بعد أن ضرب رمي بالسجن ثمانية وعشرين شهراً، ولما رمي في السجن وكان السجن مظلماً، والجو بارداً يقول: تحسست بيدي فوجدت ماءً بارداً فتوضأت، فأخذت أصلي حتى الفجر، انظر إلى العبادة! إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ثمانية وعشرين شهراً سرد فيها الصوم كلها حتى ينجيه الله عزَّ وجلَّ مما هو فيه.
يأتيه الملك -الخليفة- ويتعجب من أمره، فيأتيه بالطعام اللذيذ -الطعام الطيب- ويقول الإمام أحمد: والله لا أذوق له طعاماً، فكان يأكل من السويق؛ أردأ أنواع الطعام، يأكله ليسد به جوعه حتى حمل بعد أن خرج من السجن على فرس كاد أن يموت، ورمي في البيت طريحاً وكاد أن يموت رحمه الله.
أرأيت العبادة؟! في أحلك الظروف وأضيقها صلاة وصياماً: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].(4/23)
وقفة مع عمر بن عبد العزيز
الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز تقول عنه زوجته فاطمة: أمسى مساءً -ليلة من الليالي- وقد فرغ من حوائج يومه -انتهى من حاجياته وجاء الليل، والأمر فيه عبرة فاستمع وتخيل- فدعا بسراجه الذي كان يوقد له من ماله ثم قام فصلى ركعتين، تقول زوجته فاطمة: ثم وضع رأسه بين يديه، تخيل شكله وهو جالس والرأس بين يديه، تقول: تسيل دموعه على خده يشهق شهقة أقول: قد خرجت روحه، أو انصدعت كبده، ثم لم يزل كذلك حتى برق الصبح ثم أصبح صائماً، تقول: في ليلة قرأ قول الله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] تقول: فصاح حتى سقط على الأرض فخفت وظننت أنه قد مات وقد خرجت نفسه.
ثم هدأ فسمعت صوته، ثم أفاق إفاقة، ثم وثب فجعل يدور في الدار يتحرك وهو يقول: ويلي ليومٍ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، تقول: ثم سقط كأنه ميت، فلم يفق إلا على نداء الصلاة، فكلما تذكرت تلك الليلة، بكيت على حاله.
صلى بالناس ليلة -انظروا الآن يا أخوة- عندما نصلي هل نتدبر؟ هل نخشع؟ تدخل المسجد فلا تكاد ترى خاشعاً، تسأل الناس بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام -إلا من رحم الله- فلا يمكن أن يجيبك إلا القليل أما البقية فلا.
والذين تذكروا هل خشعوا؟ هل دمعت عيونهم؟ فقرأ قول الله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فسكت، فظن الناس أنه نسي، فأعاد الآية: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فسكت، فظن أنه سوف يعيد ويكمل وهو يكرر الآية ولا يستطيع أن يكملها هل تعرف ما بعدها؟ إنها هذه الآية: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] فما استطاع أن يقولها، ماذا فعل؟ بكى ثم ترك هذه السورة وقرأ سورة غيرها.
كان أبو حنيفة -رحمه الله- يقوم الليل كله بآية، تعرف ما هي هذه الآية؟ إنها قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] كل الليل في هذه الآية يقومها يا عبد الله.(4/24)
شاب يصرع لسماع آية
اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الشاب وهذه الكلمات التي خرجت من قلبه وهو يرددها، يقول منصور بن عمار: نزلت سكة من سكك الكوفة، فخرجت في ليلة مظلمة مستحلكة، فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول: كن كحال هذا الشاب، وتفكر في هذه الكلمات واجعلها تخرج من قلبك الآن يا عبد الله: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك بجاهل، ولا بعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي فأعانتني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخي علي، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي، فإلى من أحتمي؟ ومن من عذابك يستنقذني؟ ومن من أيدي زبانيتك يخلصني؟ وبحبل من أتصل إذا أنت قطعت حبلك عني؟ فيا ويلي كم أتوب وكم أعود ولم أستحِ من ربي واشباباه! واشباباه! يقول منصور: فلما سمعته أخذت أقرأ قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقول: وبعد أن ختمت الآية سمعت اضطراباً شديداً، ثم سكت، ثم هدأ الصوت، وجئت في اليوم الثاني أريد أن أعرف خبره، فوجدت جنازة، وعندها عجوزٌ تبكي، فقلت: ما هذه الجنازة يرحمك الله؟ قالت: هذا ولدي، زل عن كبدي، ومن كنت أظن أنه سيدعو لي من بعدي، كان يبكي في الليل على ذنوبه ويتكسب، فجعل كسبه أثلاثاً، ثلثاً يطعمني، وثلثاً للمساكين وثلثاً يفطر عليه، تقول: فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيراً قرأ عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] فجعل ابني يبكي ويبكي حتى فاضت روحه إلى بارئها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].(4/25)
الحث على الطاعات والتحذير من السيئات
يا عبد الله: إذا كان القلب لا يزال عليه ران فاستعن بالله جل وعلا، واعلم أنها دقائق وتمضي، وأيام وتذهب، اذهب وزر المقابر يوماً من الأيام، وانظر إلى أهلها هل قضوا أشغالهم وأمتعتهم؟ هل انتهوا من أحلامهم؟
هذا رجل كان يظن أنه سوف يسافر في العطلة، وهذا آخر كان يبني البيت ولم يسكن فيه، وذاك كان يريد الزواج ويخطط له، وهذا كان يدرس ويتمنى أن يحصل على شهادة، وهذا خرج من البيت ليشتري أمتعة أهله ويرجع إليهم، ولكن المنية والأجل كان أقرب منهم.
اسمع وتفكر في ذلك اليوم:
إذا النبيون والأشهاد قائمة والجن والإنس والأملاك قد خشعوا
وطارت الصحف في الأيدي منشرة بها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأسباب واقعة عما قليلٍ ولا تدري بما يقعُ
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تُبقي ولا تذرُ
تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجو مخرجاً من غمها قمعوا
طال البقاء فلم ينفع تضرعهم هيهات لا رقة تغني ولا جزعُ
لا ينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قومٌ بها الرجعى فما رجعوا
عباد الله! لنكن قوماً إذا استمعوا إلى هذا الحديث اتبعوا أحسنه قوماً نتعلم العلم ونستمعه ونعقله ثم نعمل به، فإن هذا الكلام إما حجة لنا وإما حجة علينا.
عبد الله! ارجع إلى البيت وليكن الحماس منضبطاً: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) قليلٌ دائم خيرٌ من كثير منقطع، عاهد النفس جزء من الليل للقيام بعض أيام الشهر للصيام اجعل لك ورداً لقراءة القرآن، لا بد وأن تختم القرآن -أضعف الإيمان- في الشهر مرة.
كان الصحابة يجادلون يقول أحدهم: أقوى أكثر من هذا، قال: اقرأه في السبع، قال: أقدر أكثر من هذا، قال: أقرأه في ثلاث، قال: أقدر أكثر من هذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث).
رويدك رويدك!! هوِّن على نفسك لا أقول لك: اختم القرآن في ثلاثة أيام، بل أقول لك: في الشهر مرة، صم ولو في الشهر ثلاثة أيام، هذا صيام الدهر.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم، وأُصلي الليل، فإِما أرسل إليَّ، وإِما لقيتُه، فقال: ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي؟ -وفي رواية: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين، ونقهت النفس- فصم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً.
قال: إني لأقوى لذلك.
قال: فصم صيام داود عليه السلام.
قال: وكيف؟ قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى، قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ -قال عطاء: لا أدري كيف ذكر صيام الأبد- قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صام من صام الأبد).
عباد الله: هؤلاء هم سلفنا، وقدوتنا، فهلا كنا لهم متبعين، وعلى خطاهم متمسكين، وبآثارهم سائرين؟
عباد الله! لنشمر ساعد الجد، فإن الجنة تحتاج إلى جد واجتهاد، وبذل وعزم، قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج -أي: من رأى الليل- بلغ المنزلة، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) اترك كل ما يلهيك من تلفاز وأغانٍ وطرب.
نعم يا عبد الله! تقول لي: لا أخشع عندما أقرأ القرآن، ولا أتلذذ بالقيام، أقول لك: أتسمع الغناء؟ تقول لي على استحياء: نعم أحياناً، أقول لك: لن تتلذذ بالقرآن أبداً.
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
اعتزل الغناء اهجر الطرب والمعازف قاطع التلفاز اترك مجالس السوء، ثم تدبر كلام الله جل وعلا تجده كالماء يطفأ به النار، تجده -يا عبد الله- لذة حتى أنك تنادى فيقال لك: يا فلان! عمل، يا فلان طعام شراب، فتقول لهم: ولوا عني واتركوني، أنا متلذذٌ بقراءة القرآن.
طعن عثمان تسع طعنات وهو يقرأ القرآن، حتى سال دمه على المصحف، تقول زوجته: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(4/26)
الأسئلة(4/27)
نصيحة للنساء في العبادة
السؤال
حبذا لو توجه كلمة تنصح بها النساء وخاصة في العبادة، ولعل السائل أيضاً يشير إلى أن أكثر الذين ذكرتهم من الرجال فهل هناك من النساء من كان لهن في ذلك نصيب؟
الجواب
أما بالنسبة للنساء: فهذه عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، يقول عروة: [دخلت عليها يوماً من الأيام في الصباح، وكانت عادتي أن أسلم عليها في الغداة، فوجدتها تصلي وتقرأ آية، وهي قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فرددت الآية وهي تبكي، فقلت في نفسي: لعلها تطيل فأذهب إلى السوق وأقضي حاجتي ثم آتيها، فذهبت إلى السوق وقضيت حاجتي ثم رجعت بعد مدة طويلة، فدخلت عليها في البيت فوجدتها تردد الآية نفسها وتبكي] إنها عائشة أم المؤمنين.
أما نصيحتي للنساء في العبادة، فهو تنبيه: إن المرأة تمر عليها بعض الأيام تسمى أيام حيض، تنقطع فيها عن الصلاة، ويحرم عليها الصيام، فماذا تفعل؟ إن كان الصيام عليها محرم، والصلاة عنها محرمة، وقراءة القرآن عند بعض أهل العلم لا يجوز لها، فإن الذكر لا يجوز أن ينقطع عن لسانها، فإنها تعوض الصلاة والصيام وقراءة القرآن بذكر الله، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] يأتي رجل فيقول: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فدلني على أمرٍ أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله).
أمَةَ الله: أنصحكِ في تلك الأيام وهذه الليالي أن تكثري من الذكر، عوضاً عن الصلاة والصيام والقرآن على بعض قول أهل العلم، لم شرعت الصلاة والصيام والحج؟
يقول ابن القيم: كل العبادات إنما شرعت لغاية وهي ذكر الله جل وعلا، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وانظر الحج، كله شعائر وتهليل وتكبير وذكر لله جل وعلا، بل حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله).
إذاً المرأة لا تعذر في أيام الحيض عن ذكر الله جل وعلا.
أيتها النساء! أنتن دوركن عظيم لبناء هذه الأمة وهذا الجيل، من يربي الأولاد غيركن؟ ومن يخرج لنا جيلاً صالحاً إسلامياً غيركن؟ إن الرجال في هذا الزمن -إلا من رحم الله- غافلون عن تربية أولادهن، لا يعلمون عنهم إلا قليلاً.
إن فتنة النساء على الرجال هي أعظم فتنة على وجه الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) تقول فاطمة رضي الله عنها: [خير للنساء ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال] تقول: خير للمرأة ليس فقط ألا يراها رجل، لكن أيضاً ألا ترى هي أيضاً رجلاً، انظروا إلى الحياء، فلما سمعها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة مني وأنا منها) نعم! إنها حكيمة وعاقلة.
أمة الله! (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لا وجهاً ولا كفاً ولا ساعداً ولا ساقاً ولا شعراً ولا غيره، فإياكِ إياكِ أن تتشبثي بحديثٍ ضعيف، أو بعض أقوال لأهل العلم أخطئوا فيها، أو لبعض العقول التي تصرفك عن سبيل الهدى.
اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة) وهل يعقل -يا عباد الله! - أن الله جل وعلا يحرم صوت خلخال في رجل المرأة مخفي ووجه المرأة حلال؟! لا يعقل هذا في شرع الله.
واعلموا يا عباد الله! أن النساء شقائق الرجال، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وصانا قبل ألفٍ وأربعمائة سنة بهن، فقال: (استوصوا بالنساء خيراً، استوصوا بالنساء خيراً، استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلعٍ أعوج) وأنا أوصيك يا عبد الله! فكم من الرجال من ضيع حقوق النساء كم وكم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كان يقوم في حاجة أهله، حتى يروى أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويخدم أهله في البيت، من منا يفعلها؟! فإذا أذن المؤذن كأنه لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد.
هذه وصية للرجال وللنساء والله أعلم.(4/28)
حكم العمل في مكان يؤمر فيه بحلق اللحى
السؤال
هذا شابٌ يشتكي، ويقول: أنا أعمل في دائرة حكومية منذ اثني عشر عاماً، وعملي رزقٌ حلال طيب إن شاء الله تعالى، ولكن القائمين عليه لا يسمحون لنا بإرخاء اللحية، فماذا نفعل، علماً أننا نبكي عندما نحلق لحانا أفتونا مأجورين وماذا نفعل؟
الجواب
قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] رزقك مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولن تموت نفسك ولن تخرج من جسدك حتى تستكمل رزقك، اضمن الرزق من الله جل وعلا: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22].
أما طاعة المخلوق في معصية الخالق فحرام، فابحث لك من الآن عن فرصة أخرى للعمل، وعن مجالٍ آخر؛ لأن هذا المكان يحرم عليك أن تبقى فيه، لا تقل لي: ليس هناك، ابحث: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] ابحث لك عن فرصة أخرى للعمل، وإن كان المعاش أقلَّ، وإن كان العمل متعباً أكثر، فإن طاعة الله عزَّ وجلَّ أغلى وأثمن.(4/29)
الحفاظ على قيام الليل وصلاة الفجر
السؤال
عبادة الله عز وجل أمرٌ عظيم، ولكن يشتكي البعض من أنهم يرجعون من العمل في وقت صلاة المغرب متعبين، وهذا يعيقهم عن صلاة الفجر، ويقومون بصعوبة، وربما قد يقول هذا الأخ أيضاً: لقد هجرنا قيام الليل وقراءة القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
الجواب
الذي يقول: نعمل إلى المغرب ولا نستطيع أن نقوم الليل، فقد علم الله عز وجل عنهم، وأنزل فيهم آية، تتعجب وتقول: ما هي هذه الآية؟ أقول لك: إنه قول الله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] أي: عندهم أعمال، يبتغون من فضل الله: أي: الرزق: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ماذا يفعلون هؤلاء يا رب؟ قال: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] أي: حتى أولئك: اقرءوا ما تيسر منه ليسوا معذورين، هذا في صلاة الليل، ما تيسر ولو كانت عشر دقائق، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين).
ألا تستطيع يا عبد الله؟! لا أحد يقول لي: لا أستطيع، أقول لك: تستطيع ولو بعشر آيات، وإياك إياك أن تفرط بالوتر، ولو كان قبل النوم كما قال أبو هريرة عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن أوتر قبل أن أنام) أفضله آخر الليل، فإن كنت لا تستطيع فأوتر أول الليل، ولا تقل: لا أستطيع القيام لصلاة الفجر فإنه لا عذر لك، لا عذر بالتخلي عن صلاة الفجر، لا عمل ولا غيره، هذه خمس صلوات، كانت خمسين فجعلها الله خمساً، فهي خمسون في الأجر وخمسٌ في العمل، وبعد هذا تتكاسل لا يا عبد الله! ليصدقن فيك قول الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60] تب إلى الله جل وعلا، واعلم أن صلاة الفجر لا عذر لك فيها، أما قيام الليل فخففها واجعلها ركعات بسيطة ولو كانت بعشر آيات.
والله أعلم.(4/30)
أسباب عدم التأثر بالقرآن
السؤال
ما هي الأسباب التي جعلتنا لا نتأثر بآيات الله عز وجل، حتى عند ذكر الجنة والنار؟
الجواب
أول سبب هو المعاصي والذنوب، قال الله جل وعلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] تقول لي: أنا الحمد لله لا أشرب الخمر، أنا الحمد لله لا أزني، أقول لك يا عبد الله: من الصغائر ما تصل إلى درجة الكبائر، تقول لي: وكيف؟ أقول لك: كم ترى في اليوم والليلة من امرأة؟ تلفت النظرة الأولى بل أكثر، هل تستمع إلى أغاني أو موسيقا بحجة أخبار، بحجة فيلم أو مسلسل؟ بل من أباح لك النظر إلى هذه المسلسلات أليست فيها عورات؟ أليس فيها ما يلهي عن ذكر الله جل وعلا؟ هل يزل اللسان فتغتاب أحداً؟ تتكلم في عرض أخيك تنم بين اثنين تكذب تسخر؟ هل تفعل هذا يا عبد الله؟ هذه الصغائر.
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
صغيرة على صغيرة على صغيرة، كما قال الله جل وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أول سبب الصغائر.
ثاني سبب: التفريط في الطاعات والواجبات التفريط في الصلوات إلا من رحم الله تفريطٌ في النوافل.
ثالث الأسباب يقول ابن القيم: من أسباب قسوة القلوب: الإفراط في المباحات.
وهي من خطوات الشيطان، يأتيك فيقول لك: يا فلان! هل هذا حرام؟ الحمد لله هذا ليس بحرام، اجلس في المجلس بعد العشاء ساعتين أو ثلاث ساعات وأنت تشرب الشاي والقهوة هل تتحدثون بذكر الله؟ لا.
إنما تتحدثون في الأسواق، وفي أسعار العملات، وفي الدول الثانية، وأخبار المباريات، وفلان فعل وفلان ترك ساعتين وثلاث ساعات كل ليلة على هذه الحال، ثم يقول: لا أتأثر إذا ذكرت الله؟ أقول لك: كل هذا المباح {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] قد يجلس ساعة وساعة، ولكن لا يكثرون منها.
دخل عليه الصلاة والسلام يوماً على الصحابة وقد أكثروا في الضحك مع أن الضحك حلال، ولكن إذا زاد عن الحد الذي حده الله قسى قلبي؟ قال عليه الصلاة والسلام: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين من البكاء).
نعم يا عبد الله! المباحات إياك إياك والإكثار منها؛ فإنها سببٌ لقسوة القلب كثرة الأكل والشرب، كثرة النوم، كثرة حديثٍ لا معنى له ولا فائدة منه، كثرة التجول في الأسواق بغير داعٍ ولا معنى، فكثرة المباحات تقسي القلوب، واعتكف على طاعة الله، جرب يومين ثلاثة أيام قيام الليل، واترك المعاصي والذنوب، واعتكف على قراءة القرآن يوماً ويومين وثلاثة ثم انظر إلى القلب كيف يتأثر.
هذا هو علاج القلب يا عبد الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(4/31)
أسباب عدم استجابة الدعاء
السؤال
نحن نقوم الليل وندعو فلا يُستجاب، فما هو السبب؟ وما هو أفضل وقتٍ للقيام؟ وكذلك هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة أو التزم في الجماعة فكأنما قام الليل كله) فما رأيك: هل هذا يغني عن القيام أم لا؟
الجواب
لو كان يغني عن القيام لأغنى محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بلغوا المنازل العليا وبعضهم بشر بالجنة، وما أغناه هذا عن القيام، هذا كأنما قام الليل كله في الأجر فقط، فالذي يصلي العشاء والفجر في جماعة ليس كالذي قام الليل معهما.
ثانياً: يا عبد الله! بالنسبة للدعاء، لماذا ندعو ولا يستجاب لنا؟ أسباب كثيرة:
منها: فتش مطعمك ومشربك وملبسك هل يدخله حرام ربا، رشوة، غش، خداع، سهم من شركات ربوية، أخذ أموالٍ بالكذب والخداع والتزوير، والظلم وقهر الناس؟ سل نفسك! هل هناك شيء من الحرام؟
إن كان هناك شيء من الحرام يحول الله بينك وبين الإجابة، وذكر: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر قال: يرفع يديه) تخيل مسافر والمسافر يستجاب له، أشعث أغبر، حاله رثة أحرى أن يستجيب له، يقول: يا رب! {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ويرفع يديه -وهذا أدب من آداب الدعاء- ويقول: (يا رب! يا رب! -فيقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم-: ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟) كيف يستجيب الله لهذا؟ قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] إجابة بإجابة، تريد أن يستجيب الله لك استجب لله جل وعلا، بعض الناس أمواله كلها في البنوك الربوية، ثم يقول: أنا أدعو ولا يستجيب الله لي، وكيف يستجيب الله لك؟! وقد يستجيب الله لك فتنةً واستدراجاً من الله جل وعلا.
سبب آخر لعدم إجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم).
ثالثاً: من أسباب عدم إجابة الدعاء: الاستعجال (يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل، قالوا: وما يستعجل يا رسول الله؟ قال: يقول دعوت فلم يستجب لي) دعا أسبوعين أو ثلاثة قال: ما استجاب الله لي، ما يدريك يا عبد الله! الله يحبك ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء.
ومن الأدعية المستجابة: دعاء المظلوم واسمع إلى هذه المرأة كما ذكر هذه القصة الذهبي في الكبائر قال: كان عندها كوخ بقرب قصرٍ لملك، وكانت العجوز ليس عندها أحد إلا الله، تخرج كل صباح تبحث عن لقمة عيشها، فتأتي آخر النهار إلى الكوخ لتجلس إلى اليوم الثاني وتذهب تطلب لقمة العيش عجوز مسكينة في كوخٍ صغير بجانب قصرٍ شاهقٍ عظيم لملك، وفي يوم من الأيام خرج هذا الملك يتجول في فناء القصر مع الحرس والجنود، فنظر إلى فخامة القصر -متمتع الآن بجمال هذا القصر- ثم نظر إلى كوخٍ بالقرب من قصره، فقال للجنود: ما هذا؟ قالوا: كوخٌ لامرأة عجوز، قال: لقد شوه منظر القصر أزيلوه اهدموه، فذهب الجنود وذهب العسكر إلى ذلك الكوخ، ورجعت العجوز إلى بيتها آخر النهار فرأت ما حل به، ليس عندها أحدٌ إلا الله، فرفعت يديها وهي تبكي وتقول: اللهم إن كنت غائبة فأين أنت؟! فرفع الله القصر وقلبه على أهله، في لحظات خسف الله به الأرض وبداره، فانظر خطورة دعاء المظلوم.
إياك أن تظلم أحداً وإن كان كافراً، فإن رفع يديه فليس بين دعائه وبين الله حجاب، يستجيب الله له، وفي بعض الروايات قال: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).
تحرى -يا عبد الله- أوقات الدعاء المستجاب، ومنه: آخر الليل، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).(4/32)
الفراغ وخطره
السؤال
كثير من الشباب في أيامنا هذه نجدهم يجلسون ويسمرون على معصية الله ورسوله بين شرب الدخان والشيشة، وكذلك يسألون عن حكم الدخان والشيشة والقات، فنرجو توجيه نصيحة لهؤلاء الناس وربما تكون شبهتهم أنه ليس عندهم ما يفعلونه وإنما وقت فراغ؟
الجواب
أرجو المعذرة، أنا أرد على الإخوة الذين يسمونهم الناس غير ملتزمين مثلاً، أو يسمي نفسه أنه إنسان عادي لا مطوع ولا فاسد الحمد لله! أصلي وأجلس في هذه المقاهي بعض الأحيان، والمباريات، وأطالع التلفاز مرة وأترك مرة، وبعض هؤلاء الصنف من الناس ينظرون إلي الآن، ويقول: هل يقصدني الشيخ؟ نعم أقصدك، أقصدك أنت.
أسألك بالله يا عبد الله! أنت الآن رجل -إن شاء الله مسلم- وتقول: لا إله إلا الله، ولم تأتِ إلى هذا المسجد إلا لأنك غير الشباب الآخرين، وفيك إيمان، وفيك حب لطاعة الله، وإلا لما جئت إلى هذا المسجد أحدثك وأوجه إليك هذه الكلمات:
هل تعلم ما الذي يجري الآن للمسلمين في العالم؟ أسألك بالله! هل تدري أن أخوات لك -يا عبد الله- تنتهك أعراضهن ولا نصير لهن في الدنيا إلا الله جل وعلا؟
هل تعلم ما الذي فُعل بأخواتنا قبل سنوات في سراييفو أو الشيشان أو الصومال أو جنوب أفريقيا أو شرق آسيا أو الفلبين أو كشمير هل سمعت بأخواتنا ما الذي حدث لهن؟
هل سمعت يوماً من الأيام أن بعض أخواتنا كانت تحمل في بطنها رضيعها فبقر بطنها ثم أخرج ولدها وهي حية ورمي به في أكياس القمامة وهي تنظر إليه يموت؟ هل سمعت بهذا يا عبد الله؟
أسألك بالله: هل هذه الحالة التي نحن فيها في الشيشة ساعتين وثلاث ندخن نتحدث في أمور الدنيا، هل يرضيك هذه الحال؟ المسلمون في ذل وقهر واستعباد، حتى شئوننا الداخلية يتحكم فيها البيت الأبيض والكونجرس، أليس هذا بصحيح؟ حتى إن إسرائيل خمسة ملايين ما تعدو بصاقاً لعربي في هذه البلاد، تعيش بين ألف مليون مسلم، الخمسة تعادل ألفاً، ولا يستطيع الألف مليون أن يجابهوها هل رأيت الذل الذي نحن فيه يا عبد الله؟ ألا تأخذك الغيرة على هذا الدين؟ ألا يدخل في قلبك الحماس أين المسلمون؟ لماذا هذا الذل الذي نحن فيه؟ أين الرجال؟
هذا أحد السلف وقف على المحيط الأطلنطي -وكان عمره لا يجاوز خمسة وعشرين سنة- وبيده السيف، وهو يركب الفرس، فتح شمال أفريقيا كلها حتى وصل إلى الأطلسي ودخل بقوائمه على البحر، ثم قال: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً لخضته بفرسي هذا.
ما كان يعلم أن هناك أقواماً.
جعفر الطيار يحمل الراية بيده اليمنى ثم تُقطع فيحملها بيده اليسرى فتقطع، هل هرب وقال: قطعت يداي لا.
فمسك الراية بعضديه، ثم تكسرت الرماح على ظهره وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة، ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول للنصارى -نسميهم اليوم الأوروبيين المتحضرين والمسيحيين أو إخواننا في الإنسانية كما يقولها بعض المتأقلمين-:
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
أسمعت بابني عفراء؟ شابان صغيران يأتيان إلى عبد الرحمن بن عوف في معركة بدر؛ أول معركة للمسلمين، يغمزه عن يمينه فيلتفت عبد الرحمن بن عوف - أيها الشباب! يا من ضاع وقته في الشيشة والدخان، وبين الأغاني والطرب، هل استفدت شيئاً؟ لا أظن، أظن أن بعضكم فيه من الغيرة على الإسلام أكثر ممن هو معتكفٌ في بيوت الله، نحتاج إلى هذه الغيرة نحتاج إلى حماسك يا عبد الله نحتاج منك إلى كلمة نحتاج منك إلى مال إلى دينارٍ واحد، لربما -ما يدريك- ينصر الله الإسلام على يديك، لم لا تقولها في نفسك؟ لماذا لا تقول: لم لا أكون أنا الذي يفتح الله على المسلمين بي؟ لم لا تقل هذه الكلمات ما الذي يردك؟ وسوف يأتيك بأخبار في هذه العصور- هذا الشاب غمز عبد الرحمن بن عوف فالتفت عبد الرحمن بن عوف فقال له هذا الشاب: أين أبو جهل؟ أي: مثلما يقول الآن واحد منا اليوم في معركة ما: أين نتنياهو؟ أين زعيم الكفر؟ فقال له هذا الرجل: وما شأنك وشأنه يا بني؟ طفل صغير، قال: سمعت أنه يسب رسول الله، فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
هل رأيت هذا الحب لرسول الله؟ هل رأيت مثل هذا الحب الآن عند المسلمين؟ اليهود الآن يدنسون المسجد الأقصى أولى القبلتين، صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء يدنسوه ويحرقونه ويحفرون تحته ليهدموه، والمسلمون في المباريات ساعتين وثلاث ساعات يصفقون ويزمجرون هل رأيت يا عبد الله؟ يريدون أن يدخلوا في قلوبنا الغيرة، أصبح العداء لإخواننا في الإسلام لأجل المباراة، يعادي هذا الشعب كله لأجل مباراة حقيرة تافهة، الحكم فيها لعله التحريم إذا وصل إلى هذا الأمر.
يقول عبد الرحمن بن عوف: تعجبت! فإذا بشابٍ آخر يغمزني عن شمالي فقلت له: ماذا تريد يا بن أخي؟ قال: يا عم! أين أبو جهل؟ قال: وما شأنك وشأنه يا بني؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: وبعد أن حمي الوطيس وحميت المعركة قلت لهما: هذا صاحبكما، يقول: فوالله لقد انقضا عليه كما ينقض الصقر على الفريسة - أبو جهل صنديد من صناديد العرب، رجل لا يجابهه الرجال- يقول: انقضا عليه كالصقر إيمان جعلهما كالرجال، يقول: فلا زالا يضربانه حتى قتلاه، أردوه صريعاً، ثم ذهبا إلى رسول الله، كل واحد منهما يقول: يا رسول الله أنا قتلته، وهذا يقول: لا.
أنا قتلته، يفتخران عند رسول الله أن كل واحد منهما قتل صنديد الكفر.
وأنت جالس ساعتين وثلاث في مقهى يا عبد الله! الإسلام يحتاجك يا عبد الله! الإسلام يناديك يا عبد الله! شعوب المسلمين تُذل من يحكمها؟ من يدير أمرها وشئونها؟ ألف مليون غثاء كغثاء السيل قد أوهن قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/33)
أخطاء في الولائم والأفراح
إن للوليمة سنناً وأحكاماً وضوابط لابد من مراعاتها منها: عدم الإسراف، ووجوب إجابة الدعوة ما لم ير منكر، فإذا وجد لم يجز الذهاب، ووجوب الالتزام بالضوابط الشرعية للضرب بالدف وغيرها.
أما ما يحصل من كثير من الناس من مخالفات شرعية فيجب تركه والعزوف عنه وإلا كنا ممن يقابل نعمة الله بالكفران.(5/1)
سنن وليمة العرس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: ففي هذه الأشهر المقبلة من كل سنة تكثر الولائم، وتزداد الأعراس، ولا بد لنا عند هذه الولائم من وقفة: السنة فيها، ثم حال بعضنا معها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنه لا بد للعرس من وليمة) وليمة العرس: أحكامها، والسنة فيها، وما يخالف الناس فيه من الشرع في هذه الأيام، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لا بد للعرس من وليمة) قال العلماء: إنها واجبة، وقال بعضهم: بل مستحبة.
إليكم بعض السنن في الوليمة:-
أولاً: يجب في ولائم الأعراس عدم الإسراف:-
فقد أوْلَمَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد خيبر في عرسه وبنائه على صفية رضي الله عنها، وانظروا كيف كان زواج خير الخلق؛ يقول الراوي وهو أنس: (بسط في نطع -أي: الجلود على الأرض، هذه وليمته- ووضع فيها التمر والعذق والسمن، فتجمع الناس وأكلوا حتى شبعوا) فكانت وليمة خير الخلق عليه الصلاة والسلام التمر والسمن.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها فأولم، فكانت وليمته من أكثر ولائم نسائه، أتدرون ما قدرها؟ شاة واحدة، ذبحها ووزعها وأكل الناس منها، فهذه هي وليمته عليه الصلاة والسلام.
ويستحب في الوليمة أن يكون فيها اللحم كما قال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الرحمن بن عوف، وهو من أغنياء الصحابة، قال: (أوْلِمْ ولو بشاة) وذلك إن تيسر اللحم.
ثانياً: ويستحب فيها: أن يُدعى الصالحون ولو كانوا فقراء، ويُترك الفُساق وإن كانوا أغنياء، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأكل طعامك إلا تقي) والوليمة من الطعام، لذا قال: (إلا تقي) وبعض الناس هذه الأيام يحرص أن يأتي الأغنياء والوجهاء والكبراء وأهل المناصب، ولعله يصورهم، ويفتخر عند الناس بهم، وإن أتاه الفقراء -ولو كانوا مصلين- أصابه الضيق والحسرة، لا.
بل عليه أن يدعوهم إلى الولائم، ولا يدعو الأغنياء، وأهل المناصب، قال عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء، ويُترك الفقراء) ولو نظرت إلى واقعنا لرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم من علم النبوة، ومن وحي الرحمن جل وعلا.
ثالثاً: يجب عليك إن دُعيتَ إلى وليمة عرس أن تجيب:-
قال عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يجب الدعوة -أي: دعوة الوليمة- فقد عصى الله ورسوله).
وقال: (ولو دُعيت إلى كِراع لأجبت) أي: إن دعيتَ إلى وليمة عرس ولم يكن هناك ثَمَّ منكر في الوليمة، ولم يكن عندك أمر أوجب من هذه الوليمة، يجب عليك أن تلبي الدعوة وتستجيب لها.
أما إن أتيت إلى العرس فرأيت فيه منكراً، فلا يجوز لك أن تحضره، وارجع -يا عبد الله- ولو كنت مدعواً إليها، فعن علي قال: (دعوت النبي صلى الله عليه وسلم فأتى، ثم رجع فقلت: يا رسول الله! دعوتُك فلم تأتِ، قال: إن في البيت تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة) رأى ستراً فيه تصاوير، فرجع، ولم يأتِ إلى صهره وإلى ابن عمه، وإلى خير الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان، رجع ولم يُجِب دعوته؛ لأن في البيت صورة، ماذا نقول في أعراسنا وولائمنا: كيف نحضرها إن كان فيها منكر أكبر من الصورة؟!
وقيل: إن عمر دعاه نصراني في الشام، وقال له: إني أحب أن تتضيف عندي أنت وأصحابك يا عمر! فقال له عمر رضي الله عنه: [إنا لا نسكن كنائسكم من أجل الصور التي فيها] لا نسكن هذه الكنائس؛ لأن فيها منكراً، هي الصور، ولا ندخل مكاناً فيه منكر.
ولو اعتاد الصالحون وأهل الفضل منا، والناس جميعاً ألا يدخلوا هذه المجالس التي تعلَّق فيها الصور، أتظنون أن أصحابها سوف يستمرون بتعليقها؟! أم تظنون أنهم سوف يصرون على تعليقها على الجدران؟! لا والله، بل سوف يزيلونها إرضاءً للناس قبل أن يكون إرضاءً لله.
أيضاً إن أتيت إلى العرس، يُستحب لك أن تدعو بالسنة، تقول: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير.
وغيرها من الكلمات التي اعتادها الناس، وليس فيها محظور شرعي، أما ما يقوله بعض الناس: بالرفاء والبنين، فهذا فيه محظور، ويجب تركه لماذا؟ لأن العادة في الجاهلية أنهم كانوا يتمنون البنين على البنات، ويفضلون البنين على البنات، فلهذا كان يدعو بعضُهم لبعض: بالرفاء والبنين، أما البنات فلا: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58].
أما في ديننا فلا فرق بين البنين والبنات؛ فتدعو بما سنه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، وغيرها من الكلمات التي اعتادها الناس وليس فيها محظور.
ثم يستحب إعلان النكاح، وإظهاره في الناس؛ لئلا يكون مستوراً ولا مخفياً، وقال عليه الصلاة والسلام: (فرقوا ما بين النكاح والسفاح بالضرب بالدفوف) والصوت حتى يُعلم النكاح، وحتى يفرق بينه وبين السفاح، وما يفعله الناس من أضواء، قالوا: لإعلان النكاح وغيرها من الخيام؛ لأن فيها شيئاً من إعلان النكاح.(5/2)
ضوابط الضرب بالدف والغناء في الأعراس
أما الضرب بالدفوف، والغناء في الأعراس فإن في هذا ضوابط وحدوداً فاسمعها يا عبد الله:
أولاً: الأصل في المعازف والغناء والموسيقى التحريم، إنما أبيح في حالات محدودة:-
الضرب بالدف، فلا يباح غيره في الأعراس، فلا تباح الموسيقى ولا الطبول ولا غيرها من أنواع المعازف.
ثانياً: إنما الذي يباح له أن يغني في العرس الجواري الصغيرات، كما سمع النبي صلى الله عليه وسلم جارية تغني في يوم عرسه ووليمته.
ثالثاً: إن غنت الصغيرة البالغة فإنه لا يجوز أن يسمعها الرجال، وإن غنت الكبيرة بالدفوف لا غير، وبالكلام الحسن لا الفاحش ولا البذيء، فإنه يكون في مكان لا يسمعها الرجال، إذا كانت المرأة تُنهَى عن الأذان، وتنهى عن رفع الصوت بالصلاة إذا سمعها الرجال، وإذا أخطأ الإمام فلا تسبح، فكيف بالأغاني وسط الأعراس؟! فإنها تُنهى أن ترفع صوتها فيسمعها الرجال.
أما إن كُنَّ صغيرات وليس في أصواتهن فتنة، فإنه يُباح رفع أصواتهن، والضرب بالدفوف، قال عليه الصلاة والسلام عندما زفت عائشة امرأة كانت ترعاها وتكفلها، فلما كبرت زفتها إلى أحد الأنصار، قال لها عليه الصلاة والسلام: (أما كان معكم لهو؟! -أي: شيء من الغناء المباح- فإن الأنصار يعجبهم اللهو، ثم قال لها: أرسلي لها جارية تغني لها -أي: بنتاً صغيرة- قالت عائشة: ما تقول؟ قال: لتقل:
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم
ولولا الحبة السمرا ما كبرت عذاريكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
)
كلمات ليس فيها فُحش، ولا بذاءة، ولا تغزل بالنساء، ولا وصف لعوراتهن، ولا غيرها من الكلمات البذيئات.
ثم -يا عبد الله- اسمع إلى عرس النبي صلى الله عليه وسلم عندما تزوج إحدى نسائه، فقال لـ أنس: (يا أنس! اذهب فادعُ فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ من المسلمين -فأتت أم سليم وصنعت شيئاً من الطعام المتواضع، ووضَعَته في أناء من نحاس، فأتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذه وليمته- قال لـ أنس: ادعُ فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيتَ من المسلمين، قال أنس -وكان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم- فذهبتُ ودعوتُهم، ومن لقيتُ من المسلمين، قال الراوي: كم كان عددهم؟ قال: زهاء الثلاثمائة.
وصل عددهم ثلاثمائة تقريباً، ملئوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عنده إلا طعام في إناء واحد من نحاس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يديه فيه ودعا بالبركة، وقال: ما شاء الله! ثم قال لـ أنس: أخبر الناس ليتحلقوا عشرة عشرة، ثم قال لـ أنس: أعطهم، وقل لهم: ليسموا الله، وليأكلوا مما يليهم، قال أنس: فأعطيناهم الطعام، فأكلوا وشبعوا جمعياً، قال: فقال لي رسول الله: ارفعه يا أنس! فرفعتُه فلا أدري أكان عندما وضعتُه أكثر أم عندما رفعتُه، ولم يأكلوا منه شيئاً، وشبع الناس جمعياً معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، هكذا كانت ولائمه- قال: فأكل الناس، ثم جلسوا وانتظرو عليه الصلاة والسلام حتى يخرج، فجلسوا يتحدثون ويتسامرون، وأعجبهم الجلوس، وامرأته قد أقبلت مختفية خلف الحائط، ووجهُها إليه، يقول: فخرج عليه الصلاة والسلام فرأى الناس جالسين، ثم رجع، ثم خرج، ثم رجع، ولَمْ يُرِدْ أن يخرجهم، وكأنه تضايق منهم، فأنزل الله جل وعلا: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] أي: اخرجوا، وليذهب كل منكم إلى عمله وإلى منزله، فخرج الناس جميعاً.
هكذا كانت وليمته عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان التلطف فيها، وهكذا كانت سنته في الولائم.
أقول هذا القول.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/3)
مخالفات شرعية في الأعراس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
نظرة سريعة إلى أعراسنا وولائمنا، وإلى الخيام التي توضَع وفيها ما فيها من مخالفات شرعية:-
أولاً: بعض الناس يأتي بالفرق الشعبية، التي تعزف وتغني:-
بل بعضهم يأتي لهم بأموال طائلة، لعل أموال الفرق تعدو أو تربو على أموال العرس كله، وعلى أموال الزواج كلها.
ثانياً: بعضهم يضع مكبرات الصوت فوق البيوت؛ لتغني تلك المغنية:-
وبعضهن -نعيذكم بالله من الفاجرات- تقول كلاماً بذيئاًَ، وبعضهن لا تستحي من بذاءة كلامها؛ فترفع الأصوات، ويسمعها الرجال، وتزعج البيوت، ويظن بعض الناس أنه من غناء النكاح، لا والله، إن هذا من المجاهرة بالمعصية وبالإثم، إنما العرس الذي هو على السنة: جوارٍ صغيرات يغنين، ويضربن بالدفوف بكلام حسن ليس فيه فحش ولا بذاءة، إما إن كُنَّ كبيرات فلا يسمعهن رجل مهما كان.
ثالثاً: لننظر إلى أعراس النساء وما فيها من الملابس الفاضحة:-
فإن المرأة تلبس في الأعراس من الملابس الفاضحة ما لا تلبس في غيرها، بل يحصل في كثير من الأعراس من الاختلاط ما لا يعلمه إلا الله، الزوج يدخل على زوجته أمام النساء، من يرى؟ يرى فلانة متعطرة متطيبة، وفلانة متبرجة، وفلانة كاشفة، وفلانة فيها ما فيها، ويدخل بين النساء، من الذي أباح له ذلك؟! ومن الذي سمح له بذلك؟! وأين الرجال الغيورون؟! أين الرجال الذين يمنعون نساءهم أن يدخل عليهن الرجال؟!
يا عباد الله! قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟! -الحمو أخو الزوج- قال: الحمو الموت) فما بالكم بالغريب؟! ما بالكم بابن العم؟! ما بالكم بذلك البعيد الذي يدخل في صالة النساء وهن متبرجات متعطرات؟!
بل يحدث أكثر من هذا، لا يدخل الزوج فقط، بل يدخل معه بعض الرجال، إلى صالات النساء، وما أدراك ما فيها، بل إن المتحجبة فيهن من تغطي وجهها، وتستر نفسها، وترضى بالمنكر، نعم، ولقد أصابها شيء من الإثم، لكنه أهون من غيرها.
رابعاً: ما يحدث في كثير من ولائم المسلمين في هذا الزمان من الإسراف ومما لا يعلمه إلا الله:-
انظروا بعض الأعراس ماذا يحدث فيها من الأرز واللحوم والطعام المنتشر، بل تكاد براميل القمامة أن تمتلئ بهذا الطعام، الذي لو أُعطي قبيلة كاملة في بلد من الصومال أو غيرها لعله يشبعهم ويكفيهم، وهنا يُرمى في الزبالات والقمامات، لِمَ؟ ليقال: فلان كريم، وليقال: أولم بعشرين شاة، وليقال: نَحَرَ جَزُوراً، وليقال: سالت الدماء، وليقال: انظروا إلى كرمه، كل هذا افتخاراًَ وكبراً ومباهاة بين الناس: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] نعم، والله الذي لا إله غيره سيسأل عن هذا الطعام حبة حبة، وطعاماً طعاماً، أليس منا رجل رشيد يأخذ هذا الطعام المتبقي ويوزعه على الفقراء؟! أليس منا رجل عاقل يقدِّر الطعام: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
خامساً: ما يحصل في كثير من الأعراس من وضع مَنَصَّة:-
وما أدراك ما المنصة! تلك البدعة الجديدة، وتلك العادة الغريبة التي أُدخلت على بلاد المسلمين، حيث يجلس الرجل بجانب زوجته ليلاً؛ ليراه النساء، وليتمتعن بمشاهدته، ولينظرن إلى شكله.
يا عبد الله! إن كنت من الصالحين فلا تسمح بهذا، وإن كنت من عباد الله المتورعين المتقين فلا تسمح بهذا.
؛ إن كان عرسك أو عرس غيرك فعليك بمنعه، كيف يجلس الرجل أمام النساء متزيناً متطيباً والنساء ينظرن إليه؟! بل وينظر إليهن، بل أزيدكم أن في بعض الأعراس -أعاذنا الله وإياكم منها- من يُقَبِّل زوجتَه أمام الناس، وهذا حصل في بلاد المسلمين، والأمر غريب، والأمر عجيب! من أين تأتينا هذه العادات؟! بل يأتي من يصوره مع زوجته في وضع غريب وفي عادة سيئة، والنساء ينظرن إليه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].
سادساً: ما يحصل في بعض أعراس المسلمين من إسراف في إيجار بعض الصالات:-
كصالات الفنادق، وما أدراك ما تلك الإيجارات! إيجارات غالية، يستطيع أن يستبدلها ببعض الصالات الرخيصة التي يوفر فيها الأموال والأكل؛ إنها السمعة! إنه الفخر! إنه الكبرياء! إنها المباهاة! لا بد أن يكون في أفخم الصالات وأغلاها، وأرقى أنواع الأطعمة، وأكثر الأموال، بل في بعض الأعراس ما تُرمى فيه الأموال رمياً، وتنثر على كثير من المغنيات، وعلى كثير من الفرق؛ ليقال: انظروا إلى فلان كريم، وفلان عنده أموال، وفلان لا يبالي بالأموال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
أسمعتم بقصة قارون؟! ما الذي خسف به الأرض؟! إنه الفخر والكبرياء.
سابعاً: ما يحصل في تلك الأعراس من لباس فيه حد يفوق الإسراف والله:-
بل لا أعرف له اسماً في مصطلح الشرع، تلبس بعض النساء فستاناً وثوباً بعضه يفوق آلاف الدنانير، لتلبسه ليلة واحدة، ثم أين؟ ترميه ولا تلبسه مرة أخرى؛ لتقول بين النساء: ثوبي في ليلة العرس بألف دينار، وبعضه من ألف وخمسمائة دينار، وبعضه من ألفي دينار، ثم لتلبسه ليلة واحدة، ثم تضعه، وبعض أولئك ما يكون من أعلاه إلى أسفله الذهب والفضة والجواهر الغالية التي والله أظن كما يظن غيري أنه فوق حد الإسراف، بل تجاوز حد شكر النعمة.
ثامناً: ما يحصل في أعراسنا من منكرات -وهذه بعضها، والمنكرات كثيرة- من تصوير للنساء بالأفلام والصورة الفوتوغرافية:-
ثم إذا أنت تطبع هذه الصور، وما أدراك من يراها؟! ولا تستحي -يا عبد الله- أن تنتقل هذه الصور بين الناس، وبين الرجال، وبين أقارب الزوج وأصدقائه، وأقرباء الزوجة وأصدقائها، ثم ينظر الناس، من هذه؟ ومن تلك؟ بنت مَن هذه؟ وأخت مَن هذه؟ وزوجة مَن هذه؟ أتعلمون لِمَ؟ لأننا سمحنا شيئاً فشيئاً بهذه المنكرات حتى أصبحت الأعراض أرخص ما لدينا، بل أصبح كشف أعراضنا، واختلاط نسائنا بالرجال أهون ما لدينا.
عباد الله: لنتق الله عزَّ وجلَّ، وليكن يوم العرس ويوم الوليمة يوم شكر لله، ولنعمة الله، لا يومَ كفر لله عزَّ وجلَّ، ولا للإسراف، ولا للزينة المحرمة والغناء المحرم، وليكن يوماً نذكر الله فيه ليبارك لنا في هذه الليلة، لا يوماً نكفر الله عزَّ وجلَّ فيه، فيلعن أصحاب تلك الليلة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(5/4)
التائبون
التائبون العائدون إلى الله كثير، ولهم قصص تذرف لسماعها العيون، وتدمي القلوب، وفي هذا الدرس المبارك قصص لشباب عادوا إلى الله، فلنسمعها ولنتعظ بها، فإن في قصصهم عبرة.(6/1)
أب يتوب على يد ابنته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام أيها الأخ المستمع! أوجه إليك هذا الحديث ليس من باب التسلية ولكن من باب العبرة، والإنسان يعتبر بمن حوله، والسعيد من اتعظ بغيره، ولا يقول الإنسان: أنا غير محتاج إلى هذا الكلام، فالحمد لله أنا مؤمن، فإن الله عزَّ وجلَّ أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] فالمؤمن يحتاج إلى توبة، والصادق يحتاج إلى توبة، وقائم الليل يحتاج إلى توبة، وصائم النهار يحتاج إلى توبة، وقارئ القرآن يحتاج إلى توبة، فكيف بالغافل عن ربه! وكيف بالذي ينظر إلى النساء يمنة ويسرة! وكيف بالذي يستمع إلى الأغاني! وكيف بمن يصر على المعاصي ويظن أن الله لا يراه! ألا يحتاج إلى توبة؟!
اسمع إلى ما يقوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] لمن تتوب؟ ولمن ترجع؟ ولمن تفر؟ ولمن تتوجه؟ إلى الله {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].
عبد الله! اسمع إلى بعض التائبين إلى الله جل وعلا، كيف قذف الله في قلوبهم التوبة؟ ولتكن أنت أحد هؤلاء الذين سطروا وذكروا وترحم الناس عليهم.
اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الرجل؛ كان مغرماً بالمعاصي والذنوب، لا يعرف من دنياه إلا اللهو والطرب والخنا والزنا، خرج في ليلة من الليالي بعد أن أكرمه الله بزوجة، ورزقه منها ببنت، وقد أكملت خمس سنين، ولكنه لم يعف نفسه، أباح له الله النكاح ولكنه ما عف فرجه، خرج في تلك الليلة يبحث عن صاحب سوء ورفقة فاجرة يخالطها في المعصية، ذهب وبحث عنهم فإذا بهم قد سبقوه وغادروا، تضايق وأصيب بالحزن والحسرة والضيق والندم، رجع إلى البيت فإذا به يعوض تلك السهرة وتلك المعصية بفيلم خليع.
واسمع -يا عبد الله- إلى هذا النبأ العظيم، يجلس آخر الليل، أين زوجه؟ زوجته نائمة مع ابنتها الصغيرة في غرفة النوم، ويغلق على نفسه غرفة المجلس، وينظر إلى التلفاز وهو يشاهد فيلماً جنسياً خليعاً، أما يتقي الله؟! أما يستحيي من الله؟! لو قبض الله روحه في تلك الحالة تظنه كيف يبعث؟! يبعث على ما مات عليه، والله عزَّ وجلَّ في تلك اللحظات قد نزل إلى السماء الدنيا، وقد كان أقرب ما يكون من العباد، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) وهو غارق في شهواته، ومتلذذ بمعاصيه، ينظر إلى المحرمات، وفي لحظة من اللحظات يُفتح الباب، من الذي فتحه؟! ينظر! فإذا ابنته الصغيرة فتحت الباب، نظر إليها فأغلق التلفاز مسرعاً، فقالت له ابنته الصغيرة: يا أبي! اتق الله عيب عليك! اتق الله عيب عليك! فإذا به يرتجف وتهزه تلك الكلمات، ثم غادرت البنت إلى غرفة النوم ووقف على حاله، يفكر (يا أبي! عيب عليك اتق الله عيب عليك اتق الله) يقول: فظللت أفكر في تلك الكلمات في سكون وهدوء الليل حتى قطع صمت الليل صوت -أتعرف ما هذا الصوت؟ - الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، يقول: إنه صوت أذان الفجر، فإذا بي أذهب فأغتسل من الجنابة، وأذهب إلى المسجد متوجهاً إلى بيت الله، من الذي يشده؟ من الذي يدعوه؟ من الذي يهديه؟ إنه الله جل وعلا.
يقول: دخلت في صلاة الفجر، وفي السجدة الأخيرة أجهشت بالبكاء، فلما سلَّم الإمام ظللت أبكي، فسألني من بجنبي: ما لك يا فلان تبكي؟ قال: إليك عني سبع سنوات ما سجدت لله سجدة -سبع سنوات لو قبض الله روحه تظنه كيف يكون مصيره؟! - يقول: وظللت أبكي حتى طلعت الشمس وأنا أقرأ القرآن.
يقول: فذهبت إلى الدوام والعمل، ثم جلست مع صاحب لي في العمل وأخبرته بالقصة، فرجعت إلى البيت وصليت الظهر، فلما دخلت البيت فإذا الزوجة تبكي، قلت: سبحان الله! ما يبكيكِ؟! قالت: يا فلان! أدركنا، قلت: ما الخبر؟ قالت: ابنتك الصغيرة قد ماتت -ابنته الصغيرة التي قالت له: (عيب عليك اتق الله، عيب عليك اتق الله) - فيقول: أجهشت بالبكاء، واتصلت على صاحبي فصلينا العصر ودفناها، وأنا أقول للناس: والله إني لا أدفن ابنتي ولكنني أدفن النور الذي عرفت به طريق السعادة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(6/2)
توبة شاب كان مغرماً بالأغاني والطرب
عبد الله! اسمع إلى هذه القصة الغريبة والنبأ العجيب: إنه شاب كان مغرماً بالأغاني والطرب، يحب مغنية حباً شديداً، حتى أولع بها، وكان له جار شيخ يعظه كل فترة، وينصحه في الله ويذكره، يقول الشيخ: وكان يبكي، ولكنه سرعان ما يعود إلى ماضيه ومعاصيه، قال: فظل على هذه الحالة فترة طويلة، انظر كيف إذا أراد الله أن يهدي إنساناً، كيف يسخر له أسباب الهداية، وفي يوم من الأيام نصحته فأطال في البكاء، وذكرته ووعظته فإذا به يزيد في البكاء، وعاهدني أن يتوب إلى الله، فجئته في اليوم الآخر فإذا به يأتي بأشرطة الأغاني أشرطة تلك الممثلة، فقال لي: يا فلان! خذ هذه الأشرطة وأحرقها، قلت له: ما الخبر؟ ما الذي جرى؟ قال: عندما نصحتني وذهبت إلى البيت، أخذت أفكر في كلامك، حتى نمت في الليل، ورأيت في المنام أنني كنت على شاطئ البحر، فإذا برجل يأتي ويقول: يا فلان! فقلت له: ما شأنك؟ فقال لي: أتعرف فلانة المطربة؟ قلت: نعم.
قال: أتحبها؟ قلت: نعم أعشقها، قال: اذهب فإنها في المكان الفلاني، يقول: فركضت ركضاً سريعاً إلى تلك المطربة، فإذا برجل يأخذ بيدي، فالتفت فإذا برجل وسيم، وجهه كالقمر، وإذا به يقرأ عليَّ قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] وإذا به يردد الآية بترتيل، يقول: وأنا أرددها وأرتل معه، حتى استيقظت من نومي، فإذا بي أبكي وأردد هذه الآية بترتيل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: أرددها وأبكي، حتى دخلت أمي عليَّ ونظرت إلى حالي، فأخذت تبكي معي، وهي تبكي، وأنا أبكي معها وأنا أردد هذه الآية: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
يا معشر العاصين جود واسع عند الإله لمن يتوب ويندما
يأ يها العبد المسيء إلى متى تفني زمانك في عسى ولربما
بادر إلى مولاك يا من عمره قد ضاع في عصيانه وتصرما
واسأله توفيقاً وعفواً ثم قل يا رب بصرني وزل عني العمى
يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم).
انظر إلى رحمة الله وإلى سعتها!(6/3)
توبة شاب كان ماجناً فأصبح مجاهداً
اسمع إلى هذا الخبر: شاب أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، لا يعرف في الدنيا إلا الذنوب، حتى الصلاة لا يصليها، رجل ضاقت به الدنيا بما رحبت يعاشر النساء، ويشرب الخمور، ويستمع إلى الأغاني، ولكنه ما حصل على السعادة.
وسل وابحث في قلوب أولئك العصاة هل تجد فيها سعادة؟! لا والله، إذا جاء الليل وحل ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، قلوب مظلمة، وصدور موحشة، ووجوه قد أغشيت كقطع من الليل مظلما.
يقول: ضاقت بي الدنيا بما رحبت، فسافرت إلى بلد آخر إلى أخي كي أزوره وكان أخوه صالحاً، فسلَّم عليه وقال له أخوه: ما الذي جاء بك؟ قال: أصبت بالضيق وبالضنك، ولا أدري إلى أين أذهب، فجئت أجلس عندك، فرحب به أخوه، وبات عنده تلك الليلة، ولم يقم لصلاة الفجر، فجاءه صاحب لأخيه، وكان في الديوانية، فأيقظه للصلاة، وقال له: يا فلان! قم لصلاة الفجر، فقال له: اذهب عني واغرب عن وجهي، فذهب وجلس يفكر في تلك الكلمات، حتى كان يقول له ذلك الرجل: يا فلان! جرب الصلاة، جرب الراحة في الصلاة لن تخسر شيئاً، جرب الركوع، والسجود، والقرآن، جرب أن تقف بين يدي الرب تبارك وتعالى، ألا تريد السعادة؟! ألا تريد الراحة؟! قال: فأخذت أفكر في تلك الكلمات، حتى اغتسلت من جنابة وتوضأت وذهبت إلى بيت الله، فأخذت أصلي، ثم بكيت ولم أشعر بالسعادة منذ زمن طويل، وما شعرت بها إلا لما خررت ساجداً لله جل وعلا، يقول: ثم مكثت يوماً عند أخي، ثم سافرت إلى أمي في البلد الذي كنت فيه، وأقبلت على أمي أبكي، تقول: ما شأنك؟ ما الذي غيرك؟ قلت لها: يا أماه! تبت إلى الله جل وعلا يا أماه! رجعت إلى الله يا أماه! أنبت إلى الله.
يقول الذي يروي عنه الرواية: ومكث أياماً ثم جاء إلى أمه، فقال: يا أماه! أطلب منك طلباً، أرجو ألا تردي هذا الطلب، قالت: وما هو؟ قال: أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله أريد أن أقتل شهيداً في سبيل الله.
انظر -يا عبد الله- إلى سعادة الإيمان، وانظر إلى لذة الطاعة، وانظر إلى سعة الدنيا والآخرة يا أماه! أريد أن أذهب إلى الجهاد، فقالت أمه: يا بني! ما رددتك وأنت تسافر إلى المعصية فهل أردك وأنت تذهب إلى الطاعة؟! اذهب -يا بني- إلى أي مكان تشاء، فذهب إلى الجهاد في سبيل الله.
وفي يوم جمعة وقد كان في المعركة معه أصحابه، جاءت طائرة فرمت تلك المتفجرات والصواريخ، فأصيب صاحبه -وليس هو- بشظية فحمله ليسعفه، فإذا بصاحبه تفيض روحه إلى الله جل وعلا، فحفر لصاحبه قبراً فأدخل صاحبه في القبر، ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك ألا تغرب عليَّ شمس هذا اليوم حتى تقبلني شهيداً عندك يا ألله، يقول: ثم أنزل صاحبه، فإذا بغارة فيتحرك من مكانه، فإذا بشظية تأتيه، فإذا بنفسه تفيض إلى بارئها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] نرجو له الشهادة.
يا عبد الله! أتعلم كيف يبعث؟! يبعث وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك، يدفن هكذا -لا يغسل ولا يكفن- في ثيابه ودمه، يدفن -يا عبد الله- حتى يبعث عند الله شهيداً في سبيل الله.(6/4)
شاب يتوب بسبب زانية
عبد الله: اسمع إلى هذا الرجل كيف تاب؟ وكيف سخر الله عزَّ وجلَّ له التوبة؟
هذا رجل ذهب إلى بلد ليزني وليفعل الخنا والفجور، فإذا به يواعد عاهرة داعرة، فدخلت معه في الغرفة، فلما تزينت وتعطرت إذا بها تقول كلمة لا تقصدها ولم تردها، لكنها تلفظت بهذه الكلمة، فقالت: لا إله إلا الله، فسمع تلك الكلمات فارتجف، ثم تذكر ربه العظيم، فقال لها: يا فلانة! البسي ثيابك واخرجي من هذه الغرفة، قالت: ما شأنك؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ قال: لقد ذكرتيني بعظيم، ولم أكن لأعصي هذا العظيم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70].
لا تقل -يا عبد الله- لي ذنوب عظيمة، ولا تقل: إن معاصيّ لا يغفرها الله لي، ولا تقل: إن خطاياي قد بلغت عنان السماء، اسمع إذا كانت توبتك صادقة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] لا تسوف، ولا تقل: غداً، ولا تقل: لما أصل البيت، ولا تقل: إن شاء الله في رمضان، ولا تقل: لما أحج، ولا تقل: لما أتزوج: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر).
يا عبد الله! لعلها تأتيك منيتك وأنت تقود السيارة، أو وأنت نائم، أو وأنت تلهو وتلعب، لا تعلم -يا عبد الله- متى تأتيك منيتك.(6/5)
تائب يحفظ القرآن في أربعة أشهر
اسمع إلى هذا الرجل -جندي-: كان هذا الرجل عاصياً، لا يعرف حتى الصلاة، وفي يوم من الأيام كان واقفاً يحرس في مكان عمله، وكان يوجد بالقرب من مكان عمله مسجد، وقد زار ذلك المسجد داعية يدعو إلى الله جل وعلا، فإذا بهذا الداعية يتكلم في السماعات الخارجية، وهذا الرجل الجندي يسمع لهذه الموعظة، وإذا بهذا الواعظ يذكره بالموت، وبالجنة والنار، وبالمصير عند الله جل وعلا، ويذكره بيوم يقف فيه مع الله جل وعلا، يحاسبه ويذكره ويعظه، وإذا بهذا الرجل ينتبه ويتذكر ويتعظ ويخاف يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، وإذا به يبكي، ومن كثرة البكاء سقط على الأرض مغشياً عليه، فجاءه أصحابه يرفعونه فيقولون له: ما لك؟ ما شأنك؟ قال: اتركوني ودعوني، فإذا به يزداد في البكاء، ثم تركهم وذهب واغتسل من الجنابة، فإذا بدمعته تغسل ذنوبه، وإذا به يأتي إلى المسجد الذي كان يعظ فيه ذلك الداعية، فيصلي ركعتين ويستمع إلى حديثه وهو يبكي، وهو يتذكر ذنوبه ومعاصيه وخطاياه، فلما انتهى جلس مع ذلك الداعية، وأخبره عن شأنه، فقال له ذلك الداعية: أريد أن أجلس معك؟ فجلس معه، فإذا به يتذكر قوله جلَّ وعلا، والداعية يذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ولتنظر نفس ماذا قدمت للغد؟ نظر للنساء، أم استماع للأغاني، أم زنا وخنا، أم نوم عن صلوات، ماذا قدمت لله؟ إذا وقفت بين يديه، أتظن أن الله قد نسي، أو يغفل ولا يراك.
يا عبد الله! انتبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ثم أخذ يبكي يجهش بالبكاء، يقول: حتى ذهب إلى فراشه، أتعرف ما الذي جرى له؟! ختم القرآن كله في أربعة أشهر حفظاً؛ لأن الله قذف في قلبه الإيمان، وأناره به، وشرح صدره بالإسلام: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].
عبد الله: ليلة كاملة ينام على الفراش لا يأتيه النوم، تعرف لماذا؟! {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]
يا نفس توبي فإن الموت قد حان واعصي الهواء فالهوى لا زال فتاناً
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
يقول عليه الصلاة والسلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أقبل على الله، ارجع إلى الله.
هذه امرأة في السبي تلتفت يمنة ويسرة تبحث عن رضيع لها قد أضاعته، وتخيل أماً قد أضاعت رضيعها، والصحابة ينظرون، ثم وجدت رضيعها من بين الناس فأخذت رضيعها، ثم ضمته إلى صدرها، فألقمته ثديها، ثم بكت من شدة الفرح، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتظنون هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] لمن؟ إن رحمت الله قريب ممن يا عبد الله؟ من المحسنين والتائبين والنادمين والراجعين والذين يعزمون على التوبة ويصدقون فيها.(6/6)
أربعة شباب في المرقص
اسمع -يا عبد الله- إلى هؤلاء الأربعة من النفر، كانوا قد أذهبوا دنياهم من المعاصي والزنا والخنا، قرروا أن يسافروا إلى بلد يعاقرون النساء ويشربون الخمر، فإذا بهم يدخلون في مرقص.
اسمع -يا عبد الله- ولعل الله ينقذك كما أنقذ بعضهم، ثم نظروا فإذا بمرقص فخم قرروا أن يدخلوه في تلك الليلة، أتعرف من ينتظرهم؟! إن ملك الموت قد سبقهم وينتظرهم، دخلوا في ذلك المرقص، وفي جوف الليل الآخر والرب يرى، والله عزَّ وجلَّ لا تخفى عليه خافية، إذا بهم في سكرهم ولهوهم وطربهم وكل واحد منهم قد عانق امرأة يراقصها ويقبلها، وفي تلك الأثناء إذا بأحد من هؤلاء الأربعة يسقط على الأرض مغشياً عليه، فأقبلوا عليه وفزعوا ونظروا إليه فقال أحدهم له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، يا فلان! قل: لا إله إلا الله، وإذا به ينتبه فقال له: زدني كأس الخمر وتعالي يا فلانة، فإذا به يردد تلك الكلمات وخرجت نفسه إلى الله جل وعلا.
يلقى الله على تلك الكلمات، ويبعث بين الخلائق وهو يقول هذه الكلمات وهو سكران ويريد أن يعانق النساء ويعاشرهن.
فنظر الثلاثة وأجهشوا بالبكاء وأصيبوا برعب شديد، ثم خرجوا من المرقص كل منهم قد قرر التوبة إلى الله جل وعلا، أتعرف كيف رجعوا إلى ديارهم؟
كان البعض يظن أنهم سوف يرجعون بالهدايا وبما يشترونه لأهليهم وأقربائهم! لا والله، رجعوا بجثة صاحبهم، في المطار كشفوا عن وجهه يفتشون الجثة، يقول أحدهم: لما نظر إلى تلك الجثة من سوادها وقبحها وظلامها خرَّ مغشياً عليه، ولكنهم رجعوا وقد تابوا إلى الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
امرأة تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (يا رسول الله! زنيت) من منا يستطيعها؟ ومن منا يقوى عليها؟ أتعرف ما المصير وما الحكم؟ إنه الرجم حتى الموت بالحجارة.
فقالت: (يا رسول الله! زنيت، قال: لعلك فعلت كذا وكذا، قالت: لا يا رسول الله زنيت، قال: اذهبي حتى تضعي) ذهبت أشهراً ثم رجعت، فقالت: (يا رسول الله! هذا ولدي، أنا التي أتيتك قبل أشهر وقلت لك: قد زينت وهذا ولدي، فقال عليه الصلاة والسلام -أراد أن تستر على نفسها-: ارجعي حتى تفطميه) فذهبت ورجعت بعد أشهر طويلة وفي يدها كسرة خبز تطعم ولدها، فقالت: (يا رسول الله! هاهو ذا قد فطمته يا رسول الله فطهرني) لا تتحمل الذنب والمعصية، لا تتحمل أن تلقى الله بهذا الجرم العظيم، تريد أن يطهرها الله ولو كان بالقتل ولو كان بالموت (فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الولد فأعطاه لأحد الصحابة، ثم أمر بحفرة فحفرت، ثم وضعت في تلك الحفرة، وأمر الصحابة أن يرجموها، فرجموها، فإذا بأحد الصحابة يقع عليه شيء من الدم، فتكلم عليها -وكأنه سبها- فقال عليه الصلاة والسلام: مه، مه، لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم).
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها عضدت أناملي وقرعت سني
ومالي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
عبد الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.
يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك.
يابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) ما الذي يمنعك عن الله؟
ما الذي يصدك عن سبيل الله؟
أقبل على الله يا عبد الله، اطرح بين يديه، اسجد له ولتدمع العين، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].(6/7)
شاب يتوب قبل وفاته بإسبوعين
أختم حديثي معك -يا عبد الله- بقصة شاب كان مع فتاة يعاشرها ويعاقرها، إذا بهذا الشاب يأتيه من ينصحه ويذكره ويعظه، جاءه في الشارع فوجده معها، فأتى لينصحه ولينصحها فإذا بالفتاة تهرب، ثم يقف أمام هذا الشاب، يقول: وأخذت أنصحه وأذكره في الله جلَّ وعلا وأعظه، وأذكره بالموت وبالساعة وأن هولها عظيم، يقول: وإذا بحديثي لا ينتهي إلا والعينان تدمعان، وقد ذرفت عيناه بالدموع.
فلما انتهيت من الحديث أخذت رقم هاتفه وأعطيته رقمي، ثم ذهبت وذهب، وبعد أسبوعين وأنا أقلب أوراقي وإذا بي أقرأ رقمه ورقم هاتفه فاتصلت عليه وكان في الصباح، فسلمت عليه فقلت له: يا فلان! أتعرفني؟ قال: وكيف لا أعرف الصوت الذي كان سبباً لهدايتي، فقلت: الحمد لله! قلت: يا فلان! كيف حالك؟ قال: منذ تلك الكلمات وأنا بخير وبسعادة وأنا أصلي وأذكر الله جل وعلا، فقلت: لا بد أن أزورك اليوم، قال: حياك الله، قلت: سوف آتيك بعد العصر، وعندما صليت العصر جاءني ضيوف فأخروني عن الموعد، فلما جاء الليل قلت: لا بد أن آتيه ولو تأخرت في الموعد، فأتيته في الليل وطرقت عليه الباب، فخرج شيخ كبير فقلت له: أين فلان؟ قال: لقد دفناه في المقبرة، قال: لا كيف وقد كلمته اليوم في الصباح، قال: إنه صلى الظهر ثم نام في القيلولة، وقال: أيقظوني لصلاة العصر، فجئنا نوقظه فإذا هو جثة هامدة، وإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، قال: فبكيت، ثم قال لي: ومن أنت؟ قلت: تعرفت على ابنك قبل أسبوعين، قال: أنت الذي كلمته؟ قال: نعم أنا.
يقول: دعني أقبل رأسك، قلت: لا.
قال: دعني أقبل الرأس الذي أنقذ ابني من النار، يقول: فقبل رأسي: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].(6/8)
شروط التوبة
عبد الله: إن عزمت وقررت التوبة وإذا أردت الإنابة فعليك بثلاثة أمور:(6/9)
الندم على المعصية
أولها: اندم على ما مضى، من الليالي الحمراء، والأفعال القبيحة، واندم على ذنوبك العظيمة يا عبد الله، ولينكسر القلب، ولتكن الحسرة صادقة وخارجة من قلبك.(6/10)
الإقلاع عن المعصية
ثانياً: يا عبد الله! أقلع عن جميع الذنوب والمعاصي كيف تقلع؟ أن تكسر تلك الأشرطة، وأن تفارق تلك المجالس، وأن تحرق تلك الأوراق، وأن تمزق تلك الصور، أقلع ولتكن التوبة صادقة.(6/11)
العزم على عدم العودة إلى المعاصي
ثالثاً: اعزم من قلبك عزماً صادقاً ألا ترجع إلى الذنوب مرة أخرى، فإن غلبتك نفسك وسرت مع الصالحين، ومشيت في طاعة الله، وغلبتك نفسك وأذنبت مرة أخرى، فعد فإن الله كان للأوابين غفوراً، وكلما غلبتك نفسك وعدت إلى المعصية فعد، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
وإياك إياك أن تصر على المعصية، وإياك إياك أن تعزم في قلبك أنك تعود إليها.
عبد الله! لتكن التوبة صادقة، وليكن هذا الكلام الذي تسمعه مني هو بداية ميلاد جديد وحياة جديدة بينك وبين الله جلَّ وعلا.
أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(6/12)
التوحيد
التوحيد أعظم القضايا، وهو غاية كل الأنبياء، ومفتاح الجنة، فلا يدخلها أحد إلا به، والفشل فيه معناه دخول النار خالداً مخلداً.
ولعظم هذه القضية المصيرية تحدث الشيخ عنها، مستعرضاً اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بغرس شجرة التوحيد في النفوس واجتثاث الشرك.
كما تطرق إلى أسلوب القرآن في عرض الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، ثم ختم حديثه ببيان معنى شهادة أن محمداً رسول الله.(7/1)
بيان منزلة التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: معنا في هذه الخطبة قضية عظمى من أجلها خلق الله الخليقة، وأنزل الكتب وأرسل الرسل القضية العظيمة التي لا يقبل الله عز وجل بخلافها صرفاً ولا عدلاً القضية التي بها يدخل الناس الجنة وينجون من النار؛ إنها قضية التوحيد، قال الله جل وعلا: {وما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وما أرسل الله رسولاً وما أنزل كتاباً إلا لتقرير هذه القضية؛ قضية التوحيد في الأمة، أن يصرف الناس عبادتهم لله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] إنها القضية الكبرى التي شهد الله بها: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] شهد الله جل وعلا بأنه لا إله إلا هو، وهو أول أمر معلوم بالضرورة: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وبها يخلق الناس ويخرجون من أرحام أمهاتهم، وهي الفطرة التي خلق الله الناس عليها، فما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة يولد على أنه لا إله إلا الله، ويطلب منه أن يموت عليها (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وهو بين هذا وهذا يعيش عليها {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].(7/2)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بغرس التوحيد ومحاربة الشرك
يأتي عليه الصلاة والسلام في الناس؛ في أمة تعبد الأصنام وتذبح للأصنام، وتنذر لها في أمة تعبد غير الله ومع الله جل وعلا، فيذبحون ويقولون: هذا لله -جل وعلا- وهذا لشركائنا؛ وهذا شرك بالله جل وعلا، يأتون فيقولون وهم يحجون إلى بيت الله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، يشركون بالله، فأخبرهم أن الله واحد، فسألوه عن ربه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] فهو بهذه السورة التي تعدل ثلث القرآن؛ رد على المشركين واليهود والنصارى، بسورة قصيرة يحفظها عموم المسلمين.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] صدع بها بلال، فقال: أحد أحد، فجر على الرمضاء وهو يقول: أحد أحد لا شريك له.
فأخذ يخبرهم أن الإله واحد، فانطلقوا في الناس يتعجبون! {أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] هذا أمر عجيب، وهذا أمر غريب!!
أتى إلى أحدهم وهو من عبدة الأصنام، فقال له: (كم إله تعبد؟ قال: سبعة، قال: ومن هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من تجعله لرغبك ورهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: إذاً اترك الذين في الأرض واعبد الذي في السماء، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله).
أتى لتقرير هذه القضية؛ أول قضية بعث بها، وبعث إليها، ومات عليها عليه الصلاة والسلام، فقبل أن يموت كان يخاطب أصحابه فيقول: (قاتل الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحارب الشرك وهو في آخر حياته.
ويروى عنه: (أنه رأى رجلاً على كتفه خيطاً، فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله! من الواهنة -أمره مشعوذ أو عراف أن يربط هذا الخيط على يده حتى يتشافى من مرضه- فقطعه عليه الصلاة والسلام، وقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) لا يرضى بالشرك، ولا يرضى أن يمس جناب التوحيد بشيء عليه الصلاة والسلام.
سمع بعض الصحابة يقول له: ما شاء الله وشئت، وهو أعظم الناس، وأشرف الناس، وأحب الناس، قالوا له: (ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله نداً! -جعلتني لله شريكاً- قل: ما شاء الله وحده).
وكان يفزع بها فيقول: إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، لا أملك لنفسي ضراً ولا رشداً: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:23] إنه التوحيد الذي ما كان يرضى عليه الصلاة والسلام أن يمس بسوء.(7/3)
التوحيد في القرآن الكريم
اسمع إليه يتلو آيات الله في التوحيد، والقرآن كله توحيد، وكله يحمي جناب التوحيد، ويدل على التوحيد؛ إما ربوبية، أو ألوهية، أو في أسماء الله وصفاته، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأحقاف:4] انظروا إليهم! أصنام كهان عرافين أولياء وسادة {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] إن أرادك الله بمرض، أو بحادث سيارة، أو بمصيبة، أو بفقر، أو بموت، هل يدفع السيد أو الولي عنك ذلك؟ أم تدفع هذه التي تعلقها في السيارة تدفع عنك هذا الحادث؟ أم ذبحك للشاة وتلطيخ الدم بجدران البيت أو السيارة يدفع عنك ذلك؟ كلا والله! {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38] لو أرادك الله بنعمة أو رحمة هل يمنعك هذا السيد، أو هذا القبر، أو ذلك الخيط، أو ذلك المشرف، أو هذا الساحر، أو الكاهن، هل يمنع عنك هذه الرحمة؟
إن الهدهد وهو مخلوق من المخلوقات لم يميزه الله بعقل كما ميز الإنسان، اسمع إليه لما رأى الشرك كيف استنكره، وكيف عظمه، ولم يرض به، جاء إلى سليمان عليه السلام يقول: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] اسمع إليه كيف يستنكر: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:23] يا سليمان! إن النبأ عظيم، وإن الخطب جلل، وإن المصيبة كبرى، وجدت أناساً خلقهم الله لعبادته يسجدون للشمس من دون الله، إنها جريمة، حرم الله بسببها الدخول إلى الجنة: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72].
إن المسلم الموحد مهما عصى الله فيما دون الشرك فإن مآله الجنة يدخلها برحمة الله، أما لو عبد الله طوال حياته وأتى بشرك واحد أكبر فإن الله قد حرم عليه الجنة، فلو سجد لله طول عمره ثم دعا غير الله، فقال: يا فلان أنقذني، أو المدد يا فلان؛ فإنه بهذا قد حبط عمله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] هل تعرف من يخاطب الله؟ إنه يخاطب أعبد الناس إمام الموحدين سيد البشر، يقول: لئن أشركت يا محمد {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] الجهاد، والصلاة، والصدقات، والذكر؛ كله يحبط، ويجعلها الله هباءً منثوراً أتعرف لم يا محمد؟ بشرك واحد (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
إن لقمان حرص على ابنه أكبر الحرص من هذه القضية؛ فجلس مع ابنه الصغير وهو صغير فأخذ يعلمه، لأنها أول العلوم وأول ما يبدأ به الداعية إلى الله، العقيدة أولاً وأخيراً: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
نعم! لو عصيت الله واستغفرته غفر الله لك، بل حتى لو لم تستغفره ومت على التوحيد فإنك إن دخلت النار فإنك لن تخلد فيها، لكن الشرك {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ألم تسمع أن بعض المسلمين يأتي إلى بيوت الله فيشهد الشهادتين، ويسجد لله، ويعبد الله، ثم إذا خرج من بيت الله ذهب بابنه أو بزوجته أو بمريضه إلى كاهن أو عراف: (من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد).
أسمعت بهم! يؤمنون بالله لكنهم مشركون: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].(7/4)
خطورة الشرك
عباد الله: إنها قضية عظيمة حري بنا أن نتفحص أنفسنا بها، وأن نحاسب أنفسنا أين نحن من توحيد الله؟ أين نحن من الإيمان بالله؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: (وأينا لم يظلم نفسه يا رسول الله! قال: ليس هو الذي تذهبون إليه، ألم تسمعوا إلى قول الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]) هذا هو الظلم الذي لا يقبل الله به صرفاً ولا عدلاً، لو أتيته بقراب الأرض ذهباً وفضة وافتديت به لله لا يقبل الله ذلك؛ لأن الله كتب أنه من أشرك به فقد أحبط عمله.
التوحيد -يا عباد الله- هو أن تصرف جميع أنواع العبادة لله.
ومن الشرك ما يكون أصغر لا يخرج صاحبه من الملة، لكن صاحبه قد يقع في الشرك الأكبر وهو لا يدري، ومن الشرك الأصغر: الرياء، وهو أن تصلي لله -مثلاً- ولكن تريد مع الله غيره، فإذا جئت إلى المسجد وعلمت أن من الناس من ينظر إليك حسنت الصلاة، وأطلتها وجملتها؛ هذا من الشرك بالله، لا يقبله الله جل وعلا، وإن كان أصغر لكنه ربما يؤدي بك إلى الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، أو إذا رأى بعض الناس جلوساً أخرج من جيبه مالاً ليتصدق، كأنه يقول: انظروا إليَّ، فهذا لم يعبد الله في هذه العبادة، بل عبد غير الله جل وعلا، فلنحذر من الرياء يا عباد الله! {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6 - 7] توعدهم الله بالويل.(7/5)
أهمية تعلم التوحيد
عباد الله! لنسلَم توحيدنا من الشرك، ونخلَصه من الكفر، وكل منا يتعلم التوحيد، ولا يظن أحدنا أنه سيظل على الفطرة إلى أن يموت، انظروا في الناس لتعلموا أن من الناس من إذا مرض أو افتقر لا يلتجئ إلى الله، وإذا أصابته مصيبة توجه إلى غير الله ودعا غيره، لنعلم أن بعض الناس وإن ادعى الإيمان فإنه مشرك بالله جل وعلا.
أقول: إن هذه القضية على خطورتها يجهلها كثير من الناس، وإن كان البعض يظن أنها معلومة، ولكن الله عز وجل لعله عافاه، فإن كثيراً من المسلمين في هذا الزمان -ونحمد الله أن سلم مجتمعاتنا- يجهلون التوحيد، يظن أن التوحيد هو شد الرحال إلى قبرٍ من القبور في بلد من البلاد، يطلب منه أن يأتي له بالولد، أو يرزقه المال، أو يشفي مريضاً له، وإن كثيراً من الناس إذا مرض له مريضاً ذهب به إلى المشعوذ أو الكاهن ليعطيه ورقات، أو خيط، أو كيس لا يدري ما فيه، أو يأمره بذبح شاة لونها كذا وكذا لا يذكر اسم الله عليها، أو يأمره بكذا وكذا؛ كل هذا -يا عباد الله- من الشرك! وبعضه من الشرك الأكبر الذي لا يقبل الله به ديناً ولا يدخل صاحبه الجنة.(7/6)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
أما القضية الثانية يا عباد الله! فهي: شهادة أن محمداً رسول الله، محمد عليه الصلاة والسلام هو الرسول الذي لا طريق إلى الجنة إلا من طريقه، ولا يعرف الله إلا من خلاله، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن نطيعه فيما أمر، ونجتنب ما نهى عنه وزجر، ونصدقه في كل ما أخبر، ولا يعبد الله إلا بما شرع عليه الصلاة والسلام، دين محمد عليه الصلاة والسلام كامل، ففي حجة الوداع أنزل الله عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقام في الناس يبلغهم فقال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم.
فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد! اللهم فاشهد!) يشهد الله على أن الدين كامل لا يحتاج إلى إضافة أو تصحيح، فمن زاد في الدين فقد قال في النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فمن صلى صلاة لم يشرعها الله ولا رسوله، أو أتى بذكر أو بعبادة مبتدعة فإن (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
عباد الله! كل دين جديد، وكل عبادة لم يأذن بها عليه الصلاة والسلام فاعلم أن صاحبها على خطر.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) فلا ينفع مع البدعة أن تقول: أستغفر الله، حتى تدعها وتتركها فيتوب الله عز وجل عليك.
عباد الله: إن البدعة أمرها خطير، ولهذا قال العلماء: إنها شر من المعصية، ولأن البدعة بريد إلى الكفر والشرك بالله، حتى قال الإمام مالك: "من زعم أن في الدين بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خائن".
أي من قال: هذه بدعة لكنها حسنة، فقل له: كلامك يستلزم أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد خان الرسالة، كيف تكون حسنة ولم يخبرنا بها عليه الصلاة والسلام؟! ولم يبلغنا إياها؟! وهو الذي قال: (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أمرتكم به) وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) ولهذا يأتي يوم القيامة على الحوض يرد مع الناس فتأتي الملائكة تدفع بعضهم وتزيح بعضهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي! فيقولون: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) لقد زادوا وشرعوا وابتدعوا في دين الله.
عباد الله: إن القضية الكبرى؛ قضية أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والمسألة شديدة، والمسألة كبيرة؛ لأن بها يدخل الناس الجنة وينجون من النار، فعلينا أن نتعلم ما معنى لا إله إلا الله؟ وما شروطها؟ وأركانها؟ ومقتضياتها؟ ونتعلم معنى أن محمداً رسول الله؟
ليست القضية علم فقط بل لابد من تطبيق، فالذي يعلم أنه لا إله إلا الله لا يلتجئ إلى غير الله، ولا يستعين فيما لا يقدر عليه غير الله إلا بالله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يدعو غير الله.
والذي يشهد أن محمداً رسول الله يحتاج إلى واقع عملي، لا يزيد في دين الله، ويلتزم بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبهذا يكون قد أتى بمعنى الشهادتين علماً وعملاً، اعتقاداً وتطبيقاً، نسأل الله عز وجل أن يميتنا عليها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.(7/7)
الدار الآخرة
إن الله سبحانه وتعالى قد أنذر عباده المؤمنين ما سيكون في الدار الآخرة من عذاب وحساب وهول عظيم، وقد وصف الله الدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب أليم، وجاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصور الرحلة والانتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت وحال روح المؤمن أو الكافر عند خروجها، وعذاب القبر ونعيمه، والحساب ووقوف الناس على أرض المحشر للقضاء والفصل بينهم، ووصف الجنة، والنار وغير ذلك.(8/1)
حال الإنسان في الحياة البرزخية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد:
اليوم الآخر كلمة طويلة عريضة، ولعل من اسمها يتبين أنه لا يوم بعده، وتبدأ أول مشاهد هذا اليوم بحادثة مثل هذه الحوادث، فاستمع إليها يرحمك الله، قد يكون هذا الرجل يبدأ يومه وهو على الفراش طريحاً، وقد أحس بالروح تخرج، ولعله بدأ يحس بالنزع، وهذا هو النزع الأخير، ولربما تكون زوجه بجانبه، وأولاده عنده، ولربما بكت البنت وسقطت على حضنه، فقالت: أبي، ما لك لا تجيب؟
ولعل زوجه تنوح، وأبوه ينادي بالطبيب، وأخوه يناديه، ولعل الطبيب قد جاء، وحاول أن يرجع الروح إلى صاحبها، ولكن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27 - 28] ظن: أي علم وتيقن أنه الفراق، فراق ماذا؟
فراق المنصب فراق الدنيا فراق السيارة فراق الزوجة فراق الأهل فراق الأولاد والأحباب فراق البيت والأثاث فراق الأصحاب فراق الدنيا بما فيها: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] ثم لما مات وخرجت الروح من صاحبها ومن الجسد حمل على الأكتاف ولف في الكفن: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] إلى أين؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] هنا تبدأ أول مشاهد اليوم الآخر، ولعل هذه ميزة حسنة اسمع إلى تلك الميزة التي بدأ فيها ذلك الإنسان يومه الآخر بأسوأ ما يكون، واسمع إليها لا ندري كيف تكون نهايتنا؟
هذا رجل -أجلكم الله- كان في هذه البلاد لا يحصل على ما يريد، فسافر إلى دولة إباحية تعطيه كلما يشتهي، فجاء إلى أحد الفنادق، فحجز له غرفة، ثم طلب زجاجة الخمر -أم الخبائث، أم الفواحش، الخمر الرجس النجس، ذلك المشروب الذي حرمه الله جل وعلا- فأخذ يشرب ثم يشرب ثم يشرب بعد حرمان طويل، حتى جاء -أجلكم الله- إلى غرفة دورة المياه ليخرج ما شربه؛ لأنه أحس بالغثيان والإعياء، وبعد ثلاثة أيام طرقوا عليه الباب فلم يفتح، فكسروا عليه الباب، فإذا -أجلكم الله- رأسه في مصرف المجاري، وقد زهقت نفسه قبل ثلاثة أيام، وأنتن جسده ورأسه في مصرف المجاري: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] يا رب! ساعة فقط يا رب! ساعتين فقط، أصلي جميع الصلوات التي فاتت أرجع الأموال التي أخذتها من الناس ظلماً إلى أهلها أتوب من جميع الذنوب والمعاصي، فيرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] أي: كلمة يقولها طول عمره لكنه كاذبٌ فيها،
يذكر هذا الرجل أنه لما أصيب بمصيبة بكى، فقال: يا رب! لئن كشفت عني هذه المصيبة أتوب وأصلي والتزم دينك، فلما انكشفت عنه المصيبة رجع كما كان، أراد أن يفضح، رجع إلى ربه وتوسل إليه: يا رب! لئن سترت علي لأفعلن وأفعلن، ستر الله عليه فرجع إلى حاله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
رجل أصيب بمرضٍ شديد، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، سمع المؤذن قالوا له: يا أبتاه، أنت رجلٌ مريض وقد أعذرك الله، صل في البيت، قال: لا إله إلا الله، أسمع حي على الصلاة ولا أجيب، أسمع حي على الفلاح ولا أجيب، احملوني إلى المسجد، فحملوه إلى بيت الله جل وعلا، وهو رجل كبير في السن، وأوقف في الصلاة، فلما صلى مع الإمام وكان في السجدة الأخيرة قاموا من الصلاة فإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، وقد ختم الله جل وعلا له في سجوده بين يديه هل يستوي هذا وذاك؟!
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] هل يجعل الله ذلك الذي يبعث وهو ساجد، وذلك الذي يبعث وهو ملبي، وذلك الذي يبعث وهو صائم، وذلك الذي يبعث وهو يطيع ربه يقرأ القرآن، وذلك الذي يبعث وهو بين يديها، أو عند فرجها أجلكم الله، أو يبعث وهو سكران يشرب الخمر، أو يبعث وهو تاركٌ للصلاة، هل يستوي ذلك وذاك؟!
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] نعم! هم في الدنيا سواء، هذا في كرسي جوار هذا، ويحصل على المال مثل هذا: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ولكن اليوم الآخر هو الفصل، والموعد، وهو الذي يفرق الله فيه بين الناس.(8/2)
حال خروج الروح وشدة النزع
يبدأ ذلك اليوم -كما أخبرناكم- بذلك المشهد الكئيب، ولعله يكون وما مات بحادث سيارة، أو لعله يكون وهو نائم، مسكين لا يشعر! ينام فإذا هي النومة الأخيرة لا يستيقظ بعدها، ما أدركته ولا تداركه، وكان دائماً يُقال له: يا فلان! تب، يا فلان! استقيم، يا فلان! صل، الصلاة عمود الإسلام، يقول: إن شاء الله من الغد إن شاء الله من رمضان القادم، بعد رمضان إن شاء الله من الحج بعد الحج إن شاء الله عندما أتزوج بعد الزواج إن شاء الله لما أفعل وأفعل فإذا به لا يتدارك نفسه إلا وملك الموت عند رأسه، فيقول لها: يأ يتها النفس الخبيثة -اسمع إلى تلك الكلمات والناس من حولك يبكون- اخرجي -إلى أين؟ - إلى سخطٍ من الله وغضبه، الله جل وعلا قد غضب عليه كيف يخرج؟
الروح تتفرق في الجسد، لا تستطيع الخروج، ولا تتحمل أن تخرج، كيف تخرج إلى سخطٍ من الله وغضب؟
فيبدأ ملك الموت ينزع: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2] فتتوزع الروح في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، تعرف كيف ينزع الروح؟ ينزعها بقوة حتى تتقطع العروق والمفاصل.
ألم تر رجلاً يحتضر؟ ألم تر بعضهم كيف يصرخ؟ ألم تسمع بهم كيف ينوحون؟
إن بعضهم يتغير لون وجهه، يزرق وتزرق عينه من شدة الألم وذلك التعب -لا إله إلا الله- (إن للموت سكرات) لا يشعر الإنسان بمن حوله، ينزع تلك الروح فإذا نزعت خرجت كأنتن ريحٍ وجدت على وجه هذه الأرض، رائحة -والله- لو شمها من حوله لما استطاع أن يقف بجانبه، كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض.
أين ذلك الوجه الجميل؟ أين تلك الرائحة العطرة؟ أين ذلك الشكل الحسن؟ كأنتن جيفة على وجه الأرض، يحملها ملك الموت.
أتعرف -أخي الكريم- أن هذا الرجل وهو على الفراش يرى ملائكة على مد البصر يرى وجوههم وجوه ملائكة العذاب، مد بصره قبل أن تخرج الروح؟ عرف المصير، وعرف أين هو المستقر من يأخذ الروح؟ كل ملك يدفعها إلى من عنده، لا يريد أن يوصلها إلى السماء، فإذا أتت إلى سماء الدنيا تسألهم ملائكة السماء: روح من هذه الخبيثة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح اسمٍ له على وجه الأرض، ثم لا تفتح لهم أبواب السماء: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] نعوذ بالله.
أخي الكريم! اسأل الله العافية، إذا لم تفتح لك أبواب السماء فإنه لا جنة بعدها: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] أين يُذهب بها؟ تقذف من السماء إلى الأرض، والأمر حقيقة لا جدال فيها: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] لا تتحمل أن تسقط من أعلى بناية كيف لو تسقط من السماء الدنيا؟ تطرح روحه إلى الأرض طرحاً، تقذف من السماء.
عبد الله! أتعرف أين تأتي هذه الروح؟ تأتي وقد حملت على الأكتاف وهي تصيح، تقول لمن يحملها على الأكتاف: يا ويلها أين تذهبون بها؟
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32] ماذا يتذكر في الدنيا؟
لياليه أين قضاها؟
أيامه هل كان يستيقظ على صلاة الفجر، أم على ذكرها وحبها؟
هل كان يذكر بلسانه الله جل وعلا، أم كانت الأغاني والأفلام والمطربين والمطربات؟
ماذا كان يقرأ؟ هل كان يقرأ كتاب الله أم المجلات الخليعة الماجنة؟
ماذا كان يسمع؟ هل هو ذكر الله والكلام العطر والطيب والنزيه، أم كان يسمع ويتكلم في أعراض الناس، وكان يتكلم في الفحش والبذاءة؟(8/3)
سؤال الميت في القبر
عبد الله! هو على الأكتاف الآن محمول، فلا توضع روحه في تلك الحفرة المظلمة الضيقة -التي لا يستطيع أحدنا أن يتحمل منظرها كيف بمن يعيش فيها- إلا وعينه قد فتحت، وزال القطن من على عينيه، ويستمع إلى الناس فوق القبر، لقد دفنوه ولربما يرشون الماء الآن على قبره، ولربما الآن كل واحد منهم يعزي جاره وأخاه، يستمع إليهم والأقدام تمشي على القبر، يستمع إلى قرع نعالهم، فيجلس في قبره، يجلسه ملكان أسودان أزرقان ينتهرانه ويدفعانه ويجلسانه في تلك الحفرة الضيقة كيف؟ إن المؤمن يؤمن بالغيب، يؤمن بكل هذا، لو حضرناه لوجدنا هذا كله، ولكنه غيبٌ في علم الله جل وعلا، يحدث حقيقة.
يُجلس فيقال له: يا فلان! من ربك؟
فيقول من شدة الخوف: هاه هاه لا أدري، كان يعرفه في الدنيا لكنه نسي.
ما دينك؟ هاه هاه لا أدري.
ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
هاه هاه لا أدري، ما كان يعرف شيئاً عن الإسلام، ما كان يلتزم بحدوده ولا يلتزم بأوامره، كان يستهزئ بسنة النبي عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟
أم كيف يقول: إنه هو محمد رسول الله وهو لا يدري عنه شيئاً؟
يقول: هاه هاه لا أدري، فيقول له الملك: هو محمد رسول الله، أجب! قل: هو محمد رسول الله
فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، كنت أسمع أهل المساجد، كنت أسمع أهل الدين، كنت أسمع الصالحين الذين يلتزمون على الأقل بالصلوات الخمس يقولون: هو محمد رسول الله، كنت أقول مثلهم، فإذا به يسمع صوت منادٍ ينادي: أن كذب عبدي، نتيجة الاختبار الأول؛ فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار.(8/4)
عذاب العاصي في القبر
عبد الله! الأمر حقيقة، ولا ندري لعلها لحظات ويبدأ هذا اليوم، وما ندري لعلَّ الشمس لا نراها تغرب علينا، فيحيى هذا الرجل، فإذا بمطرقة يضرب بها رأسه، لو ضرب بها جبل لصار تراباً، يصير تراباً ثم يعاد مرة أخرى، ثم يضرب بالمطرقة مرة أخرى فيصيح صيحة، يسمعه كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا، ولما دفنوا موتاهم، ثم بعدها يفتح بابٌ إلى الجنة، فيقال له: يا فلان! انظر إلى القصر انظر إلى الأنهار انظر إلى الحور العين انظر إلى هذه الأشجار والثمار انظر إلى هذا النعيم، هذا كله لك لو كنت أطعت الله، لو كانت هذه الخمسين أو الستين السنة القليلة التي لا تساوي شيئاً لو قضيتها في طاعة الله لكان هذا لك، فيغلق الباب ثم يُفتح له بابٌ إلى نارٍ تلظى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] حرها يفصل اللحم عن العظم هذا حرها فكيف بنارها؟!
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] تدعو من يذكر في الله فيدبر، ومن يجمع المال فيتولى تدعوه وتناديه، فتقول: هل من مزيد؟ قد أبدلك الله به هذا، فإذا بريح النار، وسمومها، وعذابها يأتيه وهو في القبر.(8/5)
إتيان العمل في القبر على صورة رجل
ثم بعدها يرى رجلاً قبيح المنظر، منتن الريح، قبيح الثياب، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، أنا ترك الصلاة، أنا فلانة التي كنت تتصل بها، أنا ذلك المنكر الذي كنت تشربه، أنا تلك الليالي الحمراء، أنا تلك السفرات الفاضحة، أنا تلك الليالي الفاسدة، أنا هذه المعاصي التي كنت تفعلها، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً لطاعة الله يا فلان! عندنا درس؛ بطيء، يا فلان! تعال صل، يصلي لكنه ببطء، يا فلان اقرأ القرآن! يأتي ولكنه في ثقل سريعاً إلى معصية الله، سريعاً لسهرة، لأغنية، لطرب، لممثلة، لداعرة، يأتي سريعاً ولا يتأخر، إذا به ينظر إليه، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة يا رب! أكون في هذا المكان في الحفرة الضيقة المظلمة مع هذا الذي هو منتن الريح، وقبيح الوجه، أكون معه ولا تقم الساعة، لأن الساعة أدهى وأمر.(8/6)
خروج الناس إلى أرض المحشر
إذا به بعد سنين طويلة يسمع بصيحة ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وعد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، وإذا به يرى الناس يخرجون من تحته، فيخرج ينفض الغبار عن جسده أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تتفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك، والبحر يحترق، والوحوش تحشر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، البشر من عهد آدم إلى آخر إنسان تخيل كم عددهم؟ بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر.
أما الجبال فتحسبها جامدة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل:88]، البحار من عظمها تتفجر وتحترق، وتخيل الأرض من تحته تتزلزل، إلى أين يذهب؟
قال تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يقف كل الناس على أرض بيضاء عفراء -أي: تميل إلى الحمرة- وتخيل هذا المنظر، الأرض كقرصة نقي مستوية مستقيمة ليس فيها ارتفاع لأحد على أحد.
أتعرف ما أشكالهم؟
حفاة عراة غرلاً، غير مختونين غير مطهرين، كما خلقه الله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] كلهم على أرضٍ واحدة ينتظرون الحساب، والمدة طويلة، وارتفاع الشمس على الرءوس قدر ميل ثلاثة أيام أسبوع، مللنا الانتظار شهر شهرين، سنة سنتين: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] خمسين ألف سنة والناس وقوف.
يا مسكين! أراد الله منك عبادة خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة.(8/7)
وقوف الناس في أرض المحشر
عبد الله! الأمر ليس هو بالهزل، والله ليمل الناس من أول سنة، بل من أول يوم، ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تنصلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون مقدار خمسين ألف سنة، لا مراء في هذا ولا شك، خمسون ألف سنة والعرق يتصبب، منهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، يصل عرقه إلى فمه إلى موضع لجام الفرس، ولا مغيث ولا نصير، أما الصالحون أتظنهم تحت الشمس؟
لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن.
يقفون خمسين ألف سنة؟
لا والله، يقفون كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، ويكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا، في كنفه يقفون، وهؤلاء الضلال الفسقة الفجرة، الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا، تحت حر الشمس خمسين ألف سنة، ثم ماذا؟ ثم يموتون؟!
لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء.(8/8)
الإتيان بجهنم وتذكر الإنسان عمله
بعد خمسين ألف سنة يسمعون صوت السلاسل، وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تجر، لها سبعون ألف زمام -حزام- يجر كل حزام سبعون ألف ملك، واضرب سبعين ألفاً في سبعين ألف لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد جداً، إذا رأوها خر الناس كلهم الأمم، حتى الصالحون والأنبياء يخرون على الركب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] حتى الأنبياء يخرون على الركب، يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.
يقول الله للناس: انظروا هل هذه النار التي كانت تظنونها هزل {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟
تذكر تلك اللحظة وانتبه، وتذكر هذا الكلام، وستذكرون ما أقول لكم، وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس، في تلك اللحظة يمر عليك شريط الحياة تتذكر الدنيا كلها تذكر فلانة وفلاناً، وتلك الليلة، وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23]؛ ولكن: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟
يبكي وينادي ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت الصلوات في بيت الله! على الأقل عمود الإسلام أنجو من النار، يا ليتني ويا ليتني؟!
ولكن: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة، يبكي حتى الصالحون على ساعة ما قضوها في طاعة الله حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.(8/9)
بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح
ثم يبدأ الفصل، ويبدأ الحساب، والله سريع الحساب، يحاسب الناس جمعياً في لحظة واحدة، من آدم إلى آخر البشر يقول: أنت فلان بن فلان، فترتعد الجوارح وتضطرب ولم تعد الرِجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي، ويريد الفرار والنجاة، والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدمه، فيقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] تخرج وتفضح ذلك يوم الخزي، فيقول لهم الرب جل وعلا، وتخيل -أخي الكريم- أنك في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي! ألم أصح لك الجسد؟!
ألم أسقك من الماء البارد؟!
ألم أنعم عليك بكذا وبكذا ويعدد عليك النعم طوال الحياة؟!
ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي ما الذي جرأك علي؟!
عبدي! أتذكر هذا الذنب؟! أتذكر هذه المعصية؟! أتذكر هذه الجريمة؟!
عبدي! أتظن أني لا أرى؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
ثم يقول له: يا رب! ما فعلت، يكذب على ربه جل وعلا مسكين! لا زال في جرأته، ولا زال في عناده وكبره، يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً يا رب! هذا كله كذب
وبدأت الشهود الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون رب أعطيته في اليوم الفلاني شريطاً لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك علي، رب في اليوم الفلاني عملت له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على هذا، يأتي الشهود، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، لا أقبل الشهود يا رب! أنت العدل، كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي؟
فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحدٌ إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه، وإذا باليد تنطق، والجلود تتكلم، والفخذ والخد ينطقان، وإذا به: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] تتكلم: يا رب! في اليوم الفلاني لمس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش وفعل، والرجل: يا رب! ذهب بي إلى المكان الفلاني والفلاني والفلاني والفلاني ينظر إلى الجلود تنطق: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].(8/10)
سحب المجرمين والعصاة إلى النار
ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص، ولا فرار من الله جل وعلا، فينادي الرب جل وعلا على الملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] يسحب بسلسلة، أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟! كل حديدة بقدر حديد هذه الدنيا كلها، وهي سبعون ذراعاً، والذراع من ذراع الملائكة وليس من ذراعات الناس، يدخل من منخره فيخرج من دبره، ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14].
إذا به أول ما يأتي النار تفتح أبوابها، يرى في جهنم أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة، كلما أراد التوبة قال له: يضحكون عليك تريد أن تتعقد؟ تريد أن تتزمت؟ يا فلان! عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سفرة، عندنا كذا وكذا.
يا فلان! يضحكون عليك، كلما أراد التوبة صده ورده، فيراه قد سبقه إلى النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38].(8/11)
وصف نار جهنم
عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاُ واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً.
عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- قبل أن يدخلها أهل النار الشرارة الواحدة تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك لا تؤثر، ولا تحرق، أما شرارة نار جهنم فهي بحجم القصر الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33].
عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبت من النار كيف نام هاربها؟! وعجبت للجنة كيف نام طالبها؟!].
عبد الله! أهل النار يجوعون، أتعرف ماذا يأكلون؟
يأكلون ضريعاً، أتعرف ما هو الضريع؟
شوك في جهنم ينبت، من شدة الجوع يأكلون هذا الشوك، فإذا أكلوا هذا الشوك -وتخيل وتفكر- يقف الشوك في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، يتعلق، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب! الماء يا رب! الماء يا رب! الماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} [الكهف:29] انظر رحمة الله، يعطون الماء، يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فإذا قرب الوجه تسقط فروة الوجه من شدة حر الماء: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، فإذا شربه تتقطع الأمعاء، ويخرج من الدبر من شدة حره، حميماً آنٍ بلغ من شدة حره ما لا يطاق، بل لا يستطيع أحداً أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش.
يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن -أجلكم الله- صديدٌ وقيح ونتن، فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع، أهل النار -كما أخبرناكم: {لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16]- تتشقق جلودهم فيخرج منها الصديد، يتساقط إليه أهل النار ليأكلوه من شدة الجوع: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، وللأسف! {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] في تلك الحال نار من فوقهم، ونار من تحتهم يلتحفون النار، ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].(8/12)
المجيء بالموت على هيئة كبش وذبحه بين الجنة والنار
عبد الله! في ذلك العذاب والحميم والجحيم ينادي منادٍ، يقول لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس يفرحون يظنون أنهم سوف يخرجون منها يا أهل النار! يرفعون الرءوس، فيقال لهم: تعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح، يقولون: نعم.
إنه الموت نعرفه ورأيناه، فيُذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلودٌ فلا موت.
عبد الله! تعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونين؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلودٌ فلا موت {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].(8/13)
خلود المجرمين في جهنم
عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] قرئ عليكم القرآن وذكرتم ووعظتم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].
عبد الله! الخلود في جهنم، مصير الكفرة الملاحدة، من بينهم تاركو الصلاة (بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة) {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أول جريمة أوردتهم سقر وجهنم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] ما كنا نصلي مع الناس، وما كنا نحافظ عليها: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43].
عبد الله! هذا مصير صنفٍ من النار، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام الخالية بإذنه جل وعلا إن أبقانا الله وأحيانا يومٌ أحدثكم فيه عن مصير الصالحين مصير أهل الصلاة، وأهل الذكر، وأهل الطهر، وأهل العفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة، وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون -إن شاء الله- بيننا وبينكم لقاء حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم، وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية.
عبد الله! في الختام أدعوك لأمرٍ واحد أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت؟ وماذا قدمت؟: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] واعلم -يا عبد الله- أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاث:
أولاً: الندم على ما مضى.
ثانياً: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي.
ثالثها: أن تقلع تقطع الصور تحرق تلك الأفلام الخليعة تترك هذه المجالس النتنة تبتعد عن السوء وأهل الفسق والفجور وتلتحق في رفق الصالحين، واعلم -يا عبد الله- أن الله جل وعلا يعينك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة
أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ويثبت أقدامنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/14)
خروج الناس إلى أرض المحشر
إذا به بعد سنين طويلة يسمع بصيحة ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وعد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، وإذا به يرى الناس يخرجون من تحته، فيخرج ينفض الغبار عن جسده أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تتفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك، والبحر يحترق، والوحوش تحشر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، البشر من عهد آدم إلى آخر إنسان تخيل كم عددهم؟ بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر.
أما الجبال فتحسبها جامدة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل:88]، البحار من عظمها تتفجر وتحترق، وتخيل الأرض من تحته تتزلزل، إلى أين يذهب؟
قال تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يقف كل الناس على أرض بيضاء عفراء -أي: تميل إلى الحمرة- وتخيل هذا المنظر، الأرض كقرصة نقي مستوية مستقيمة ليس فيها ارتفاع لأحد على أحد.
أتعرف ما أشكالهم؟
حفاة عراة غرلاً، غير مختونين غير مطهرين، كما خلقه الله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] كلهم على أرضٍ واحدة ينتظرون الحساب، والمدة طويلة، وارتفاع الشمس على الرءوس قدر ميل ثلاثة أيام أسبوع، مللنا الانتظار شهر شهرين، سنة سنتين: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] خمسين ألف سنة والناس وقوف.
يا مسكين! أراد الله منك عبادة خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة.(8/15)
وقوف الناس في أرض المحشر
عبد الله! الأمر ليس هو بالهزل، والله ليمل الناس من أول سنة، بل من أول يوم، ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تنصلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون مقدار خمسين ألف سنة، لا مراء في هذا ولا شك، خمسون ألف سنة والعرق يتصبب، منهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، يصل عرقه إلى فمه إلى موضع لجام الفرس، ولا مغيث ولا نصير، أما الصالحون أتظنهم تحت الشمس؟
لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن.
يقفون خمسين ألف سنة؟
لا والله، يقفون كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، ويكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا، في كنفه يقفون، وهؤلاء الضلال الفسقة الفجرة، الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا، تحت حر الشمس خمسين ألف سنة، ثم ماذا؟ ثم يموتون؟!
لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء.(8/16)
الإتيان بجهنم وتذكر الإنسان عمله
بعد خمسين ألف سنة يسمعون صوت السلاسل، وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تجر، لها سبعون ألف زمام -حزام- يجر كل حزام سبعون ألف ملك، واضرب سبعين ألفاً في سبعين ألف لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد جداً، إذا رأوها خر الناس كلهم الأمم، حتى الصالحون والأنبياء يخرون على الركب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] حتى الأنبياء يخرون على الركب، يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.
يقول الله للناس: انظروا هل هذه النار التي كانت تظنونها هزل {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟
تذكر تلك اللحظة وانتبه، وتذكر هذا الكلام، وستذكرون ما أقول لكم، وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس، في تلك اللحظة يمر عليك شريط الحياة تتذكر الدنيا كلها تذكر فلانة وفلاناً، وتلك الليلة، وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23]؛ ولكن: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟
يبكي وينادي ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت الصلوات في بيت الله! على الأقل عمود الإسلام أنجو من النار، يا ليتني ويا ليتني؟!
ولكن: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة، يبكي حتى الصالحون على ساعة ما قضوها في طاعة الله حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.(8/17)
بدء فصل القضاء والحساب يوم القيامة وشهود الجوارح
ثم يبدأ الفصل، ويبدأ الحساب، والله سريع الحساب، يحاسب الناس جمعياً في لحظة واحدة، من آدم إلى آخر البشر يقول: أنت فلان بن فلان، فترتعد الجوارح وتضطرب ولم تعد الرِجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي، ويريد الفرار والنجاة، والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدمه، فيقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] تخرج وتفضح ذلك يوم الخزي، فيقول لهم الرب جل وعلا، وتخيل -أخي الكريم- أنك في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي! ألم أصح لك الجسد؟!
ألم أسقك من الماء البارد؟!
ألم أنعم عليك بكذا وبكذا ويعدد عليك النعم طوال الحياة؟!
ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي ما الذي جرأك علي؟!
عبدي! أتذكر هذا الذنب؟! أتذكر هذه المعصية؟! أتذكر هذه الجريمة؟!
عبدي! أتظن أني لا أرى؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
ثم يقول له: يا رب! ما فعلت، يكذب على ربه جل وعلا مسكين! لا زال في جرأته، ولا زال في عناده وكبره، يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً يا رب! هذا كله كذب
وبدأت الشهود الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون رب أعطيته في اليوم الفلاني شريطاً لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك علي، رب في اليوم الفلاني عملت له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على هذا، يأتي الشهود، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، لا أقبل الشهود يا رب! أنت العدل، كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي؟
فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحدٌ إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه، وإذا باليد تنطق، والجلود تتكلم، والفخذ والخد ينطقان، وإذا به: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] تتكلم: يا رب! في اليوم الفلاني لمس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش وفعل، والرجل: يا رب! ذهب بي إلى المكان الفلاني والفلاني والفلاني والفلاني ينظر إلى الجلود تنطق: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].(8/18)
سحب المجرمين والعصاة إلى النار
ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص، ولا فرار من الله جل وعلا، فينادي الرب جل وعلا على الملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] يسحب بسلسلة، أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟! كل حديدة بقدر حديد هذه الدنيا كلها، وهي سبعون ذراعاً، والذراع من ذراع الملائكة وليس من ذراعات الناس، يدخل من منخره فيخرج من دبره، ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14].
إذا به أول ما يأتي النار تفتح أبوابها، يرى في جهنم أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة، كلما أراد التوبة قال له: يضحكون عليك تريد أن تتعقد؟ تريد أن تتزمت؟ يا فلان! عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سفرة، عندنا كذا وكذا.
يا فلان! يضحكون عليك، كلما أراد التوبة صده ورده، فيراه قد سبقه إلى النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38].(8/19)
وصف نار جهنم
عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاُ واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً.
عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- قبل أن يدخلها أهل النار الشرارة الواحدة تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك لا تؤثر، ولا تحرق، أما شرارة نار جهنم فهي بحجم القصر الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33].
عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبت من النار كيف نام هاربها؟! وعجبت للجنة كيف نام طالبها؟!].
عبد الله! أهل النار يجوعون، أتعرف ماذا يأكلون؟
يأكلون ضريعاً، أتعرف ما هو الضريع؟
شوك في جهنم ينبت، من شدة الجوع يأكلون هذا الشوك، فإذا أكلوا هذا الشوك -وتخيل وتفكر- يقف الشوك في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، يتعلق، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب! الماء يا رب! الماء يا رب! الماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} [الكهف:29] انظر رحمة الله، يعطون الماء، يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فإذا قرب الوجه تسقط فروة الوجه من شدة حر الماء: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، فإذا شربه تتقطع الأمعاء، ويخرج من الدبر من شدة حره، حميماً آنٍ بلغ من شدة حره ما لا يطاق، بل لا يستطيع أحداً أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش.
يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن -أجلكم الله- صديدٌ وقيح ونتن، فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع، أهل النار -كما أخبرناكم: {لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16]- تتشقق جلودهم فيخرج منها الصديد، يتساقط إليه أهل النار ليأكلوه من شدة الجوع: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، وللأسف! {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] في تلك الحال نار من فوقهم، ونار من تحتهم يلتحفون النار، ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].(8/20)
إتيان الموت على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار
عبد الله! في ذلك العذاب والحميم والجحيم ينادي منادٍ، يقول لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس يفرحون يظنون أنهم سوف يخرجون منها يا أهل النار! يرفعون الرءوس، فيقال لهم: تعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح، يقولون: نعم.
إنه الموت نعرفه ورأيناه، فيُذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلودٌ فلا موت.
عبد الله! تعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونين؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلودٌ فلا موت {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].(8/21)
مكوث وخلود المجرمين في جهنم
عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] قرئ عليكم القرآن وذكرتم ووعظتم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].
عبد الله! الخلود في جهنم، مصير الكفرة الملاحدة، من بينهم تاركو الصلاة (بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة) {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أول جريمة أوردتهم سقر وجهنم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] ما كنا نصلي مع الناس، وما كنا نحافظ عليها: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43].
عبد الله! هذا مصير صنفٍ من النار، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام الخالية بإذنه جل وعلا إن أبقانا الله وأحيانا يومٌ أحدثكم فيه عن مصير الصالحين مصير أهل الصلاة، وأهل الذكر، وأهل الطهر، وأهل العفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة، وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون -إن شاء الله- بيننا وبينكم لقاء حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم، وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية.
عبد الله! في الختام أدعوك لأمرٍ واحد أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت؟ وماذا قدمت؟: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] واعلم -يا عبد الله- أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاث:
أولاً: الندم على ما مضى.
ثانياً: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي.
ثالثها: أن تقلع تقطع الصور تحرق تلك الأفلام الخليعة تترك هذه المجالس النتنة تبتعد عن السوء وأهل الفسق والفجور وتلتحق في رفق الصالحين، واعلم -يا عبد الله- أن الله جل وعلا يعينك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة
أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ويثبت أقدامنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/22)
الأسئلة(8/23)
اسم السجن الذي في جهنم
السؤال
هناك في جهنم سجن وقد أوردت هذا السجن ولكن للأسف ما هي الكلمة، وقد رواه الإمام أحمد في كتاب: الفتن والملاحم لـ ابن كثير؟
الجواب
هذا السجن يسمى (سجن بولس) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد، وذكره الألباني في الصحيحة، وهو أحد السجون في جهنم، ولجهنم أوصاف وأمور فوق الخيال وفوق التصور، ومهما وصفنا وتخيلنا فهو أعظم بكثير جداً، بل لا تستطيع أن تتخيل ناراً أشد من نار الدنيا بسبعين مرة، بل لا تستطيع أن تتخيل النار التي يجرها سبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعين ألف ملك، ما تتخيل ولا تتصور!!(8/24)
كيفية ذكر الله وأنواع الذكر
السؤال
وصف الله المؤمنين بالذاكرين، فكيف يكون الذكر أرشدنا جزاك الله خيراً؟
الجواب
أما عن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات؛ فالذكر أيها الإخوة ثلاثة أصناف:
الأول: ذكرٌ باللسان.
بعض الناس يذكر بلسانه لكنه لا يستشعر، مثل بعض الناس يذكر الله وهو يمشي، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا إله إلا الله، يقولها لكن لا يستشعرها بقلبه، هذه أقل درجات الذكر، يؤجر لكنها أقل درجات الذكر.
الذكر الثاني: ذكر القلب، لا ينطق بلسانه لكنه يتذكر ربه دائماً قلبه حي يخاف من الله يرجو الله يستعيذ بالله، لكن لسانه لا يذكر ربه.
الثالث: هو أعلى الدرجات، وهو ما واطأ اللسان والقلب، يذكر ربه بلسانه وبقلبه، إذا قال: أستغفر الله، فهي من اللسان ومن القلب.
والذكر -يا عبد الله- ليس فقط باللسان، بل حتى بالجوارح، الصلاة ذكر، والصيام ذكر، والزكاة ذكر، والأمر بالمعروف ذكر، وطلب العلم ذكر، كل هذا ذكر يا عبد الله، كلما فعلت من طاعة فهو ذكرٌ لله جل وعلا.
وهناك أذكار مقيدة، وأذكار مطلقة، فمن الأذكار المقيدة: أذكار تكون عند مناسبات، مثل: عند دخول البيت، والخروج منه.
قبل أيام سمعت عن شاب جاءني والده يقول: دخل -أجلكم الله- الحمام، يقول: فسقط في الحمام وجلس إلى الصباح، يقول: ومن ذلك اليوم -يوم سقط- يبكي ويفزع من النوم، سألت هذا الشاب، وقلت له: لما دخلت -أجلك الله- الحمام هل ذكرت الله أو لم تذكر الله؟ رجل صالح لكن نسي تلك اللحظة أن يذكر الله.
باسم الله! اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، الحشوش والحمامات ممتلئة بالشياطين، وبعض الشياطين خبيث يترقب لبعض الناس، خاصة بعض الناس الذين يريد أن يصدهم عن الذكر وعن الصلاة والطاعة، فإذا غفل عن ذكر الله أصابه، وهذا يحدث كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] يعني: أن بعض الناس يتخبطه الشيطان من المس، وهذا لعله يراه بعض الناس، ما الحصن؟ ذكر الله، إذا دخلت البيت، وقلت: باسم الله؛ انحبس خارج البيت ولا يدخل، فإذا قلت عند العشاء: باسم الله؛ منع عن العشاء والطعام فيجوع، وهذا أمرٌ حقيقة، بل بعض الناس كما قال الله جل وعلا: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] يجامع زوجته معه -نعوذ بالله- ألا تغار على زوجتك، بعض الناس الشيطان يجامع زوجته معه، وهذا في القرآن موجود، إذاً ما الحصن؟ تذكر الله جل وعلا، تقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، هذا حتى عند الجماع، إذاً ذكر الله عند حالات ومناسبات يحصنك من الشيطان.
وهناك ذكر مطلق في جميع الأحيان: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا اله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله (كلمتان خفيفتان على اللسان) سهلة -يا أخي- تنتظر الدوام، وأنت في السيارة ذاهب للعمل، وأنت راجع إلى البيت، تنتظر دورك عند مستوصف عند جمعية في أي مكان تنتظر اذكر الله.
عبد الله! حرك اللسان (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان) أنت لا تعرف أجرك يا عبد الله عندما تذكرها (حبيبتان إلى الرحمن -ما هي؟ - سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
سبحان الله العظيم وبحمده، لو قلتها مرة غرست لك نخلة في الجنة، وما من شجرة في الجنة إلا ساقها من ذهب ولا حول ولا قوة إلا بالله، كنز من كنوز الجنة.
إذا كانت عندك ذنوب، كل يوم الواحد يذنب، لا يوجد إنسان لا يخطئ ولا يذنب: (من كان -أي: في سيارته في دابته- خالياً بالله وذكره) أي: يذكر الله سواءًَ بشريط قرآن، أو درس، أو محاضرة، أو يذكر الله في السيارة، أتعرف من الذي يجلس عنده؟ أنت لا ترى بعينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا كان ردفه ملك -في السيارة- قال: ومن اختلى بالشيطان وذكره -أي: مثل الغناء والموسيقى والفجور والمعاصي في السيارة- قال: إلا كان ردفه الشيطان) أعاذنا الله وإياكم منه، هذا لو أصيب بحادث هل يذكرك بلا إله إلا الله؟
الإنسان هذا إذا أصيب بحادث صاحبه الملك يذكره بالشهادتين، أما ذاك فيذكره بالفساد والمنكر، إذاً يتعود حتى يكون لسانه رطباً بذكر الله، حتى إذا جاءت منيته أول ما يتذكر لا إله إلا الله (ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).(8/25)
تفسير قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)
السؤال
ما معنى قوله تعالى في سورة غافر: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]؟
الجواب
هذه الآية استدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات عذاب القبر، وعلى وقوع عذاب القبر قبل اليوم الآخر وقبل قيام الساعة، وذكرنا القبر في هذا الدرس من باب أنه بداية اليوم الآخر، وهو أول منازل اليوم الآخر، والله عز وجل وصف آل فرعون، جاء رجل من آل فرعون يدعوهم إلى الله هذا من آل فرعون قصته عجيبة، اقرأ سورة غافر وتسمى سورة المؤمن، مؤمن آل فرعون، هذه السورة عجيبة جداً فيها قصة عظيمة، هذا الرجل علم أن فرعون وحاشيته ووزراءه سوف يقتلون موسى موسى رجل ضعيف، فيدعو فرعون إلى الله، ذكره في الله، أبى فرعون وتجبر وطغى، وجمع الحاشية، أشار لهم قال: اقتلوه، هذا الرجل من الحاشية والوزراء من البطانة لكنه فيه خير، آمن وكتم إيمانه، ولكن لما سمع أنهم سوف يقتلون موسى ما رضي، إنكار المنكر يصل إلى حد معين بعدها لا نسكت، ذهب بسرعة وفر إلى موسى، يخبره وينذره، وجاء إلى فرعون ومن معه يخبرهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الله، قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] ما ضركم فيه، يدعو ربه ويدعو إلى الله ما ضركم؟! قال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] أي: إذا كان كاذباً لم يضر إلا نفسه: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] يصيبكم بهذا العذاب الذي يتوعدكم به، اتركوه: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} [غافر:29] اليوم لكم القصور والنعيم وهذه القوة والعسكر والجيش لكن: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] دعاهم إلى الله فأبوا، ذكرهم في الله فقتلوه، أو طردوه فنجاه الله جل وعلا، أتعرف ما الذي حصل بآل فرعون؟ أغرقهم الله عز وجل في اليم، كان يقول فرعون الجبار الطاغية: هذه الأنهار تجري من تحتي، فأجرى الله الأنهار من فوقه تجري من تحتك يا فرعون؟! اليوم تجني هذه الثمرة تجري الأنهار من فوقك، أغرقه الله ونبذه الله في اليم {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40].
كان فرعون في يوم من الأيام يقول لجيشه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29] اسمعوا: الذي أراه ترونه، والذي أعتقده تعتقدونه، دينكم ديني، الذي أراه هو الدين: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] أنا أدلكم على الجنة على الخير.
على النعيم، يضحك على قومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] جاء إلى موسى، أتعرف ماذا قال فرعون في موسى؟
قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] يا ناس! يا شعب! أخاف أن يضيع دينكم هذا: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] أخاف أن يفسد في الأرض، ويثير الفتن في الأرض، سبحان الله!
يقول ابن كثير: سبحان الله! صار فرعون خطيباً، صار فرعون يخاف على دين الله، ويخاف على الصلاح، ويخاف الفساد في الأرض، قال: {أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فجاء الله عز وجل بهذا الرجل ونجاه الله منهم، ولربما قتلوه فإذا به يغرق، قال الله عن فرعون وحاشيته: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً} [غافر:46] أي: في بداية النهار {وَعَشِيّاً} [غافر:46] في نهاية النهار، مرتين في اليوم، أي: في قبرهم إلى أن تقوم الساعة، تعرض عليهم النار، يحترقون فيها إلى أن تقوم الساعة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فرعون والحاشية والجنود والعسكر والزمرة كلها التي كفرت بالله، وعارضت شرع الله، وحاربت الأنبياء والرسل كلها معه في نار جهنم: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] هذا هو تفسير الآية.
والله أعلم.(8/26)
الدليل على عذاب القبر من القرآن
السؤال
أريد دليلاً على عذاب القبر من الكتاب، وإذا قيل له: ذكر في السنة المطهرة لا يقبل إلا بالدليل من الكتاب، فكيف يرد عليه؟
الجواب
هذه الآية التي ذكرناها قبل قليل هو قوله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون:100] البرزخ: هو عذاب القبر أو نعيمه، الحياة الذي بين الحياة الدنيا واليوم الآخر، قال الله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] أي: قبل البعث هناك برزخ.
ما هو البرزخ؟ هي حياة بين الدنيا وبين الآخرة فمن أهل الدين ومن أهل الإيمان من يعذب في قبره
حتى يتخفف من الذنوب، هو مصلٍ وراكع وساجد لكن عنده ذنوب ومعاصي، يتعذب في قبره حتى يصفيه الله عز وجل وينقيه قبل اليوم الآخر.
إذاً هو موجود في هاتين الآيتين في كتاب الله، وهناك آية أخرى، كما قال الله جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] وهذه الآية من أدلة عذاب القبر، وهناك من السنة الأدلة الكثيرة المتواترة الصحيحة كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عذاب القبر، وهذا لعله يكون فيه من الأدلة واليقين ما تطمئن به قلوب المؤمنين، وتتيقن بصحته.
والله أعلم.(8/27)
الرد على من يعصي الله ويقول: إن الله غفور رحيم
السؤال
كيف يتوب الإنسان من المعاصي، وإذا كان لا يصلي ويتهاون بالصلاة، وإذا سئل عن ذلك قال: إن الله غفور رحيم؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله، إن الله غفور رحيم لأوليائه لعباده الصالحين.
أخي الكريم! لعلك تقول: الصالحون لا يحتاجون مغفرة، نقول: إن أفضل الخلق غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يحتاج إلى المغفرة عليه الصلاة والسلام، الله عز وجل غفور رحيم لأهل صلاة الفجر لأهل الذكر لأهل الدعوة إلى الله لأهل الصلاح، هؤلاء يحتاجون مغفرة الله، أما للفجار والفساق فهو شديد العقاب، فهو عزيزٌ ذو انتقام، لا تخفى عليه خافية فهو يستدرج كما قال الله عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183].
عبد الله! إن الصالحين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قالت عائشة: (يا رسول الله! الزناة، شاربو الخمور، السراق، هم الذين يخافون، قلوبهم وجلة -أي: خائفة- قال: لا يا بنة الصديق، هم المصلون، الصائمون، الصالحون، الذين يعملون ويخافون ألا يتقبل منهم) الرجل الصالح يخاف أن الله لا يقبل عمله، والعجيب من الفاجر الذي يأمن مكر الله!
قال عبد الله بن مسعود: [المؤمن يرى ذنوبه -المؤمن الصالح إذا أذنب، وكل إنسان يذنب- كأنها جبل يوشك أن يقع على رأسه -كالجبل سوف يقع عليه- والفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا] قد يشرب خمر، قد يترك صلاة، قد يفعل معاصي كبيرة، وكأنه ذبابة وقعت على أنفه فقال بها: هكذا، ولا يبالي، هذه علامة المنافق وتلك علامة المؤمن.
عبد الله! نتكلم الآن عن الفسقة، أما عن الذين لا يصلون فحدث ولا حرج، فحديثهم حديث الكفار -نسأل الله العافية- كيف تكون التوبة؟
بالندم والعزم والإقلاع عن هذه الذنوب والمعاصي.(8/28)
الاحتجاج بالقدر على المعاصي
السؤال
ما رأيك فيمن نقول له: صل أو تب إلى الله، وهو يقول: إذا هداني الله سأصلي؟
الجواب
يقول هذا كما قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم، قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] إذا أراد الله أن يهديني سيهديني أراد الله لي بالصلاة سوف أصلي، وهذه عقيدة الجبرية؛ وهي عقيدة ضالة ليست من عقائد أهل السنة، لأن أهل السنة كما قال الله جل وعلا فيهم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] ابدأ يا عبد الله، ولا تقل: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، أسألك بالله الآن سؤال: أنت لم تأتِ إلى هذا المكان، وتلبس هذا الزي، وتحضر الدوام؟ لماذا؟
لأجل المعاش والراتب، طيب لماذا لا تجلس في البيت وتقول: إذا أراد الله أن يرزقني فسيرزقني؟
تأتي وتتعب وتقوم من نومك مبكراً، وتحضر الدوام؛ تسعى حتى تحصل على الرزق هل إذا جعت جلست في بيتك تنتظر وتقول: إذا أراد الله أن يشبعني يشبعني؟!
لا تفعلها، بل تذهب إلى المطبخ، وإلى الثلاجة، وإلى المطعم، وتأكل حتى تشبع، لمَ تبذل السبب؟
لأجل الدنيا، لكن عندما نقول لك: صلِّ؟ تقول: إذا أراد الله أن أصلي صليت! سبحان الله! هنا تعمل لأجل الدنيا؛ ولكن لأجل الآخرة لا تبذل ولا تسعى! قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] أنت الذي جنيت على نفسك، ولا تقل: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذه كلمة كاذبة من ناصية خاطئة.
عبد الله! إذا سعيت إلى الهداية وفقك الله، وإذا بذلت أعانك الله، وإذا سعيت فتح الله لك أبواب الجنة، أما أنك تجلس في البيت وتقول: لو أراد الله أن يهديني اهتديت؛ هذا كله ضحك، ولا تخدع إلا نفسك يا عبد الله.(8/29)
الدقائق الغالية
الوقت هو الحياة، والإسلام ينظر إليه على أنه كنز نفيس؛ إذا فات لا يعوض.
فالحياة ما هي إلا مجموع الدقائق والثواني، التي تمر على الإنسان، وتنقضي فينقضي هذا الإنسان.
والدقائق الغالية تشمل كل دقائق الحياة بلا استثناء.
وقد تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن استغلال السلف لأوقاتهم، بذكر نماذج منهم عرفوا قدر الوقت فاجتهدوا في العلم وأتقنوا العمل.
كما تضمنت هذه المادة بعض الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها أثناء الطلب.(9/1)
ما هي الدقائق الغالية؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أستسمحكم عذراً عن التأخير؛ حيث أن المنطقة بعيدة، وكلكم يعلم هذا، وهذه الدقائق التي مضت من الدقائق الغالية التي سوف نتكلم عنها.
العنوان مبهم يُبْهِم الموضوع، والبعض منكم يدور في باله الآن (الدقائق الغالية) لعلها الدقائق التي قبل الموت.
والبعض يظنها دقائق الهداية.
والبعض يظنها الدقائق التي يساق فيها الإنسان إلى الجنة.
والبعض كذا كل منكم يدور في ذهنه شيء.
والحقيقة -أيها الإخوة- أن الدقائق التي سوف أذكرها هي دقائق الحياة كلها، الدقائق التي تمر دقيقة بعد دقيقة هي في الحقيقة غالية؛ ولكن لا نحس بها، ولهذا قال ابن هبيرة:
والوقت أنفس ما عنيتَ بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
أما الحياة فهي كلها مركبة من ماذا؟ من دقائق دقيقة بعد دقيقة دقيقة بعد دقيقة، ثم تفنى الحياة، ولهذا قيل:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
الحياة كلها مركبة من دقائق، والعجب العجاب من شخص لا يبالي بدقيقة تلو دقيقة تلو دقيقة، حتى تفنى الحياة وهو لا يشعر بِها.
إذا بُعث الناس عند الله جل وعلا سألهم، فيقول لهم جل وعلا: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]؟ فيجيب بعضهم فيقولون: {لَبِثْنَا يَوْماً} [الكهف:19] يوم واحد.
يستدرك البعض فيقولون: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259] حتى يوماًَ ما عشنا في الدنيا يا رب إنما هي عشية أو ضحاها، ساعات كانت قليلة.
يقولون بعدها يؤكدون: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113].
فيقول الله مجيباً لهم: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} [المؤمنون:114].
الآن فكر! كم سنة مضت من حياتك؟! عشرون؟! بعضكم خمس عشرة سنة؟! بعضكم ثلاثون سنة؟! كيف مرَّت؟! كلمح البصر، بل هو أقرب، ذهَبَت ووَلَّت كَحُلُم.(9/2)
الحكمة من الحياة ودقائقها الغالية
قال سبحانه: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:114 - 115] أتظن -أخي الكريم- أن الله خلق هذه الدنيا كلها؛ السماوات، والأرض، والبحار، والجبال، وخلقك فيها، وجعل لك العينين، والسمع، واللسان، والشفتين، والعقل، واليدين، عبثاً؟! تقول: حتى تركب سيارةً، أو تلعب الكرة وقت اللعب، أو تأكل، وتشرب، وتشبع، أو تنكح وترضي الفرج؟! أتظن أن الحياة لهذا خُلِقَت؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] فيكون شأننا والحيوانات سواء! إذاً بِمَ ميزنا الله عز وجل؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
وهنا يأتي
السؤال
إذا كان الله عز وجل لم يخلقنا عبثاً، وخلقنا للغاية التي تعرفونها كيف نقضي هذه الحياة؟! بل كيف نعيش فيها؟! وتعجب كل العجب من ملتزم مُلْتَحٍ يعرف ربه وأوامر ربه جل وعلا! يقول: كيف أقضي فراغي؟! سبحان الله! وهو يحفظ قوله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] ويسمع حديث رسوله عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس) (لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة)، وقال في الحديث الآخر: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).
ثلاث ساعات في العصر، تسأل شاباً ملتزماً:
ماذا فعلت فيها؟
الحمد لله! استغليت الوقت.
فيم؟
قرأت القرآن.
كم قرأت القرآن؟
نصف ساعة.
مغبون وأنت لا تدري، تقول: قرأت القرآن في وقت العصر نصف ساعة، وأضعت ثلاث ساعات، كمن يشتري سلعة بألف دينار ويبيعها بخمسمائة ريال، حصل على خمسمائة؛ لكنه مغبون خاسر، خسر خمسمائة دينار، وهكذا خسر هذا الرجل، (مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).(9/3)
أهمية استشعار نعمتي: الصحة والفراغ
أنت الآن لا تشعر بالصحة زر أحد مستشفيات يخبر أحد المشايخ عن شاب اسمعوا إلى نعمة الصحة التي لا نشعر بها الآن، يقول هذا الشاب عن نفسه: دخلت على أمي يوماً فقالت لي: يا بني! اذهب بي إلى جارتنا إلى فلانة بالسيارة، قال: لا أستطيع، قالت: يا بني! إن لها علي حقاً، قال: لن أذهب بك -أين طاعة الوالدين؟ - فألحت عليه، فقال لها: بشرط -يشترط على أمه، تباً له- أن آتيك بعد ثلاثين دقيقة بالضبط، وأضرب الهون مرة واحدة، فإن لم تخرجي تركتكِ، قالت: حسناً!
انظر إلى الشرط العسير على أمه التي صبرت عليه تسعة أشهر، وأرضعته عامين وتعبت حتى كبر، والآن يشترط عليها ثلاثين دقيقة، يقول: فأتيتها بعد ثلاثين دقيقة، فضرب الهون مرة واحدة، ولم تخرج، فذهب وتركها، وأسرع في الطريق، فلم يمضِ قليلاً إلا وانقلبت به السيارة، الشيخ الذي زاره يقول: رأيته على هذه الحال سنوات، يقول: لا يستطيع أن يحرك في جسمه إلا رأسه فقط، لا يد ولا رجل، سنوات على هذه الحال أصيب بالشلل، عافانا الله وإياكم.
ماذا يتمنى هذا الرجل؟
زُر بعضهم، عشر سنوات على ظهره وهو لا يتحرك إنما يُحمل، حتى قضاء الحاجة لا يستطيعها.
أخي الكريم! ماذا يتمنى هذا لو خرج لو عوفي؟
يتمنى لو طاف حول البيت يتمنى لو حضر هذه الحلقات يتمنى لو صلى في بيوت الله يتمنى لو حج إلى بيت الله، يتمنى لو جاهد في سبيل الله يتمنى لو أمر بمعروف أو نهى عن منكر يتمنى كل هذا، لكن أنى له؟! (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).
وإليك -أخي الكريم- بعض ما نستغل به أوقاتنا في هذه العطلة، ولعل الواحد منا بعض الأحيان يشتكي لك من كثرة الأعمال، ولو فتَّشْتَ في وقته لرأيتَ الفراغ الكبير، وهو لا يدري، بل جاءني بعض الشباب فقال لي: مشغولٌ مشغولٌ مشغول! قلت: وما شغلك؟! فأعطاني بعض الأعمال، في العصر عمل، والمغرب عمل، والعشاء عمل، قلت له: الظهر، تضيِّع ثلاث ساعات على وجبة غداء، وتقول لي: مشغول؟! ثمان ساعات في الصباح تضيع عليك على مراجعة في مكان واحد وترجع، وتقول لي: مشغول؟! الليل تجلس وتضحك وتلعب حتى منتصف الليل، وتقول لي: مشغول؟! مشغولٌ بِمَ يا عبد الله؟! بعض الناس يضحك على نفسه وهو لا يشعر، بل بعض الناس خاسرٌ أشد الخسارة، وإن رأيتَه يقول: الحمد لله! أنا أستغل وقتي وأستفيد منه.(9/4)
أطفال استثمروا أوقاتهم (خمسة نماذج من السلف)
اسمع -أخي الكريم- إلى بعض أحوال سلفنا، وكيف كان الواحد منهم يستغل وقته اسمع واعتبر! وأريد منك بعد هذا المجلس أن تعمل مثل الساعة، وأن توقف نفسك لله جل وعلا، لأن هذا العمر قصير، فتستغل فيه كل دقيقة غالية إن شعرت أنها غالية، واعلم أن الله عز وجل قد عظم الوقت في آيات كثيرة، فأقسم به، قال سبحانه: {وَالضُّحَى} [الضحى:1]، وقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:2]، وأقسم وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] أقسم بالوقت في آيات كثيرة لبيان أهميته.
فاسمع -أخي الكريم- إلى بعض أحوال سلفنا، قبل البداية أقص لك قصة خمسة أطفال.(9/5)
النموذج الأول: البخاري
الطفل الأول: اسمه محمد بن إسماعيل: وُلِد في بخارى، والعلماء -الآن- كلهم عالة على هذا الصبي، كان صغيراً في السن، يأتي إلى مجالس أهل العلم -واسمع إلى هذه القصص وصدق أو لا تصدق- فيجلس بينهم، فيسأله المؤدب -يسمونه: المؤدب- لأن العالِم ليس فقط يحفِّظهم؛ بل يؤدبهم، وكان الشيخ هو المربي، وكان الذي يحفَظ العلم يتعلم مع العلم الأدب، كان الإمام أحمد يجلسُ قليل من الطلبة حوله يأخذون منه العلم، أما الألوف المؤلفة فكانوا يأخذون من أدبه وحسن سمته.
فقال له المؤدب: كم كتبت اليوم؟ فقال: اثنين، ولم يقل: حديثين إنما قال: اثنين، الإمام البخاري رحمه الله كان صبياً صغيراً، فضحك منه الناس، مجلسٌ لا يكتب فيه إلا حديثين، صبي صغير يعني: بالغصب يكتب له حديثاً أو حديثين، فقال لهم رجل: لا تضحكوا عليه، فلربما يضحك عليكم يوماً ما، وضحك البخاري عليهم يوماً ما، وتعجبوا من أمره، وما ذُكر أحد منهم في التاريخ، وما سُمي، وما اعتبر لأحد منهم، أما هو فالعلماء كلهم عالة على علمه.
البخاري رحمه الله جالس وهو صبي عند شيخ يحدِّث، أخذ يقرأ الأحاديث، فقال: حدثني فلان، عن فلان، وأخذ يحدِّث، فلما قال حديثاً عَلِم محمد بن إسماعيل هذا الصبي الصغير أن الشيخ قد أخطأ، فراجعه فرد الشيخ مرة ثانية، فراجعه فرد الشيخ مرة ثالثة، فراجعه محمد بن إسماعيل، وهو صبيٌ صغير، فقال الشيخ: مَن هذا؟ قالوا: هذا ابن إسماعيل، فنظر في نفسه وراجع، فقال: صدق، خذوا منه، إن هذا يكون يوماً من الأيام رجلاً، صبي صغير لا يفارق مجالس أهل العلم أتعرف كم حفظ؟ أكثر من سبعين ألف حديث وهو صبي صغير أين أولو الهمم العالية؟! تعجب من بعض الإخوة يقول: ليس عندي وقت! فتِّش في وقته؛ يشرب شاي وقهوة، سوالِفٌ وضحك، يَفِرُّ بالسيارة، يجلس في البيت يفكر! ماذا أفعل؟ ثم يذهب النهار كله وهو يقلب كفاً على كف، يقول: ما أدري ماذا أفعل! يحفظ سبعون ألف حديث وهو صغير.(9/6)
النموذج الثاني: ابن تيمية
الطفل الثاني: يُسمى ابن تيمية، هذا الصبي الصغير سمع به أحد الشيوخ من دمشق، فأتى إلى بلده يسأل عنه، قال: سمعت أن شاباً يقال له: ابن تيمية، له حافظة قوية أين هو؟ فقال له أحد الناس: اجلس اجلس، فهو يمر في هذا الطريق إلى الكُتَّاب إلى الدرس، فجلس ينتظر حتى جاء ومعه لوح كبير، وهو صبي صغير، واللوح ربما كان أكبر منه، يحمل اللوح وتَخَيَّلْ هذا المنظر! يا ليتنا ننظر إلى هذه المناظر، شاب يحمل كتابه أو قلمه أو دفاتره وهو صغير في السن، يأتي إلى مجلس أهل العلم ليحفظ ولو كان في مجلس الشيوخ أو العلماء، ويكتب ويحفظ، لقد افتقدنا هذه المناظر منذ زمن ونراها اليوم تبذر هذه البذور الجديدة لبعض الشبيبة؛ لكن تتخطفهم الشهوات والأهواء، وأنى لهم أن يصبروا وهذه الشهوات قد امتلأت من كل مكان، إلا من ثبته الله جل وعلا.
يقول: فنظر إليه فأوقفه، قال: أنت ابن تيمية؟ قال: نعم، قال أعطني اللوح، فأعطاه، وكتب له ثلاثة عشر حديثاً من حِفْظِه، قال: اقرأ، فقرأ، ثم أخذ منه اللوح، قال: اقرأها علَي، فقرأ الثلاثة عشر حديثاً وما أخطأ فيها، فتعجب منه، فكتب للأحاديث أسانيد: حدثني فلان عن فلان، وكتب له أسانيد كثيرة، قال: اقرأها، فقرأها مرة واحدة، كلها، فقال: إن هذا الصبي لم يُعرف في عصره مثله، وسوف يكون له شأن، فصار شيخ الإسلام وشيخ هذا الدين ابن تيمية عليه رحمة الله، انظر وهو صغير ماذا يفعل!(9/7)
النموذج الثالث: النووي
الصبي الثالث: اسمه يحيى بن شرف الدين أبو زكريا النووي، رحمه الله، كان عمره عشر سنوات، فكان الصبيان يُكرِهونه على اللعب ولا يلعب معهم حتى كان يبكي، يُكرِهونه بالغصب، لا بد أن تلعب معنا فلا يسمع لهم بل كان يجلس يقرأ القرآن اللعب قليل عنده، وفي يوم من الأيام أرغمه أبوه على أن يأتي معه في الدكان ويعمل معه، وكان يأتي إلى الدكان ولا يجلس مع أبيه، يقرأ ويحفظ القرآن، وربما أرسله أبوه فيمكث في الطريق، فيسأل أهل العلم عليه رحمة الله، حتى جاءه رجل فنظر إليه، فقال: إنه سوف يكون له شأن، فقيل له: أمؤدب أنت؟ قال: لا، ولكن أنطقني الله جل وعلا.(9/8)
النموذج الرابع: أبو يوسف
اسمع إلى الرابع وهو عجيب: اسمه أبو يوسف! مَن أبو يوسف؟ ومَن منكم لا يحدث عن أبي يوسف يعقوب؟ صاحب أبي حنيفة، لما كان صبياً توفي أبوه ولا عذر لليتيم في طلب العلم، توفي أبوه، وكانت أمه تغزل وتجمع المال، فقالت لولدها: يا بني! اذهب إلى هذا القصار (رجل ينظف الثياب) حتى تتكسب، أنت يتيم وليس عندك مال، فكان يذهب إلى القصار، ترسله إلى القصار فعندما تذهب أمه يهرب إلى أين؟ إلى الملعب إلى الشوارع إلى النوادي؟ أو يتجول في الأسواق؟ لا، إنه أبو يوسف يفر إلى حلقة أبي حنيفة، فيجلس ويكتب العلم ويحفظ معه، وكان أبو حنيفة يعجب به ويقدمه على غيره؛ لحرصه على العلم، فتبعته أمه يوماً وقد علمت أنه يهرب، فدخلت عليه في مجلس أبي حنيفة فقالت لـ أبي حنيفة، وتَخَيَّلْ! هذا المنظر دخلت الأم وكانت تجر الولد ويأتي مرة ثانية وتجر الولد -في الحلقة- ويهرب مرة ثانية يأتي إلى الحلقة، انظروا الإصرار والهمة العالية، فأتت إلى الشيخ يوماً من الأيام، فقالت لـ أبي حنيفة: ما أعلم لهذا الصبي فساداً غيرك، أنت الذي أفسدت علي هذا الصبي، إنه صبي يتيم ليس معه شيء، وأنا أنفق عليه بمغزلي، فاتركه يعمل ويتكسب له شيئاً ينتفع به، فنظر إليها أبو حنيفة، وقال: اذهبي يا رعناء فها هو ذا يأكل الفالوذج بدهن الفستق، الفالوذج أغلى أنواع الطعام حتى الأمراء لا يأكلونه إلا القليل، فقالت المرأة الأم: أما أنت فشيخ قد خرفت فذهب عقلك وتَرَكَتْه وذهبت.
قال أبو يوسف: فمرت الأيام -انظروا الهمة العالية كيف يستغل الإنسان وقته- يقول: فكان أبو حنيفة يعطيني من ماله ولا يترك حاجة إلا أعطاني إياها، ومكث ينفق علي حتى فتح الله علي في العلم، وصرت قاضياً، وكنت أدارس هارون الرشيد الخليفة، فأجلس معه على مائدة واحدة، وفي يوم من الأيام قال لي هارون الرشيد: تقدم يا يعقوب وكل من هذا الطعام؛ فإنه لا يكون لنا في غير هذا اليوم مثله، فقال: وما هذا الطعام؟ فقال هارون الرشيد: هذا فالوذج بدهن الفستق، قال أبو يوسف: فضحكت، فقال لي الخليفة: وما أضحكك؟ فقلت: قصة حدثت، قال: فألح علي حتى أخبرته الخبر، فقال هارون الرشيد وكان رشيداً: إن هذا العلم والله لينفع في الدنيا والدين رحم الله أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه، فأكل الفالوذج بدهن الفستق، صبي صغير يهرب من أمه إلى أين يا غلام؟ إلى حلقة من حلقات العلماء والمشايخ يجلس ويكتب ويحفظ العلم ثم يرحل في سبيله.(9/9)
النموذج الخامس
شاب صغير يسمى سهل:
هذا الصبي ذََكَرَ الله وعمره ثلاث سنوات، وهذا طبيعي فإن كثيراً من الصبية الآن عمره ثلاث سنوات يتكلم، فمنا من يحفِّظه الكلمات والأغاني، وبعضنا يحفظه: الله، ولا إله إلا الله، الله أكبر سبحان الله، ورأيت صغاراً يحفظونها، وصام وعمره خمس سنوات، بدأ بصيام رمضان إلى أن مات، وحفظ القرآن وعمره ست سنوات، وسافر في طلب العلم وعمره تسع سنوات.
هؤلاء الصبية الخمسة، وغيرهم كثير.
فهذا الإمام أحمد كان صغيراً، وكانت أمه لا تتركه يخرج من البيت، تخاف عليه من صغر سنه وكان يذهب للعلم رحمه الله.
وعمر بن عبد العزيز كان في صغره يذهب إلى المدينة وطلب من أبيه هذا أن يجلس مع الفقهاء ويتعلم منهم.
ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كانت تربيته في الصغر تربية رجال مَن ربته؟ إنها أمه هند بنت عتبة، هذه المرأة هي التي ربت معاوية حتى كان إذا اعتزى كان يقول: أنا ابن هند، قال لها رجل يوماً من الأيام: هذا معاوية سوف يسود قومه، فقالت: ثَكِلْتُه إذاً -أي: أموت إذا كان يسود قومه فقط- إذا كنت لم أربه ليسود الأقوام كلهم.(9/10)
صور من ضياع الأوقات والأعمار
نبدأ أيها الإخوة الكرام ببعض الأحاديث والآثار ونسردها سرداً ونقرأها، والواحد منا يعتبر، ولكل حادثة عبرة، واسمع أخي الكريم واعتبر، ثم انظر في حالك وفي يومك وليلتك.
وقال بعض السلف: واسوأتاه واسوأتاه مم؟ قال: من شيخ جاهل رجل طاعن في السن، ولا يعرف ربما جزءاً واحداً، لا يحفظه ولا يعرف تفسيره، بل بعض الإخوة الصالحين ظل سنوات في الالتزام، قل له: اقرأ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1] تراه يتلكأ فيها، والبعض منهم سله سورة الإنسان في أي جزء؟ يقول: لا أدري والبعض منهم قل له: فسر لي أصغر سورة في القرآن {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3]؟ لا يدري، وبعضهم سله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أبنائه أو بعض الغزوات، ومتى كانت؟ يقول: هاه هاه لا أدري! أي علم تعلمته في عمرك؟ لهذا مدح الله جل علا أهل العلم في آيات كثيرة واسمع إلى هذه الأخبار واعتبر منها وصدق بعضها أو لا تصدق فأنت حر، ولكن اعلم أن القوم قد وصلوا، وأن المجد قد وصله قوم وحين تخلفنا عنه.(9/11)
اقتران العلم بالفقر
اسمع إلى أولهم وهو البخاري لما كبر يقول عمرو بن حفص الأشقر: فقد البخاري أياماً من كتابة الحديث في البصرة، أياماً لا يكتب الحديث، أين هو أبو عبد الله عليه رحمة الله؟ فقال: فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان، ما عنده ملابس، يقول: وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء بليت الثياب، وما عنده نقود يشتري ثياباً، قال: فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث، الفقر والعلم قرينان، ويندر أن تجد فقيهاً غنياً وتعجب كل العجب! من طالب علم ترك العلم لأجل التجارة، معاشه قد بلغ الخمسمائة أو الستمائة بل بعضهم الألف ولا يرضى بهذا إلا ويقضي ساعات في فتح محلات تجارية، والتجارة ليست بحرام بل نِعم المال الصالح للرجل الصالح؛ لكن أيهما تقارن يا عبد الله: طلب علم أو طلب مال فكر وقارن!(9/12)
منزلة أهل العلم بالنسبة لغيرهم
يقول الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
هل يستوي رجل من الصباح يحفظ القرآن، فإذا أشرقت الشمس صلى، ثم يجلس على قراءة الكتب، ويعكف على التلخيص، ثم يكتب ويبحث ثم يحفظ ويردد، ثم إذا جاء الضحى صلى، ثم غفا غفوة قليلة، ثم استيقظ للظهر، ثم جلس بعد الظهر يقرأ، ثم صلى العصر وحفظ، ثم ذكر الله وكتب، ثم بعد المغرب حضر الدروس، ثم بعد العشاء أخذ يراجع ويردد، ثم بعدها إذا جاء الليل ركع ركعات ثم صلى الفجر، ثم قام في يومه الثاني كما هو في اليوم الأول.
ورجل آخر في الصباح نائم في العصر مجالس لغو في المغرب يتجول في الطرقات في العشاء لا يحضر إلا درساً بسيطاً ثم يرجع إلى البيت يلهو ويلغو هل يستوي هذا وذاك؟ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].(9/13)
صور من تضحيات السلف
يقول مالك رحمه الله إمام دار الهجرة: "لا يُنال هذا الأمر -أي: العلم- حتى يذاق فيه طعم الفقر" لا بد أن تضحي.
بعض الإخوة لو تُعرض عليه ساعتان زيادةً في الدوام وله مائتا دينار زيادة، هل يتردد؟ لا يتردد! مائتا دينار لعله يفكر في أفكار جديدة في شراء سيارة في أثاث في ترف في أمور كماليات لا يحتاج إليها، فيزيد ساعتين تطلب منه طلباً آخر، تقول: يا فلان! نحضر درساً واحداً لمدة ساعة واحدة ولك الأجر العظيم عند الله؟ يقول: لا.
أنا مشغول، والله لا أستطيع! عندي الزوجة والأولاد، وعندي أعمال وأشغال كثيرة سبحان الله! أتقارن هذا بذاك؟!(9/14)
تضحية الإمام مالك في طلب العلم
الإمام مالك يقال عنه: إنه أفضى به طلب العلم -أتعرف إلى أي حال وصل به الإمام مالك هل أحد منا ما يسمع به انظروا يا إخوان- يقول ابن القاسم عنه "أفضى به إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه" ما عنده نقود، أنزل السقف وأخذ الخشب فباعه؛ ليتكسب ويستمر في طلب العلم؛ هل وصلنا إلى هذه الدرجة أن الواحد منا يضحي بساعات قليلة من العمل، الزيادة في العمل إذا كنتُ منشغلاً في طلب العلم ليس لها داعي، ولا داعي للتجارة إذا كانت تشغلني عن طلب العلم، ولا داعي للمال والأثاث الزائد إذا كان يشغلني عن حلق العلم.(9/15)
افتقار ابن معين في سبيل تحصيل الحديث
يا عبد الله! قارن واعلم أن الله جعل الشهود بعد شهادته وشهادة الملائكة شهادة أولي العلم.
يروى عن يحيى بن معين رحمه الله وكل أهل العلم قد سمع به كل طالب علم لا بد أنه قد سمع بهذا الرجل رحمه الله، خلَّف له أبوه ألف ألف درهم -مليون- والدرهم من فضة، ولعل اليوم يصبح عندنا هذا الرجل مليونير تَخَيَّلْ! تصبح في الصباح فإذا أنت مليونير ماذا تفعل بهذه الأموال؟
يقال عنه رحمه الله -والله يا إخوة قلوب تعلقت بالسماء تمشي الرِّجل على الأرض والرأس في الثريا أما الرِّجل في الثرى، الواحد منهم يمشي على الأرض ولا تعدل عنده جناح بعوضة، مليونير، بيوم وليلة- يقال عنه: إنه أنفقها كلها على تحصيل الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسها، مشى حافياً، وما ترك درهماً واحداً يشتري به نعلاً، كلها أنفقها في طلب العلم هل وصلنا إلى هذا المستوى؟ همة عالية -والله- تنطح الجبال، وتبلغ السماء، والرِّجل تمشي على الأرض.(9/16)
صور أخرى للتضحية في طلب العلم
اسمع إليهم كيف كانوا يجوعون لأجل أن يحفظ الواحد منهم حديثاً واحداً.
يقول بكر بن حمدان المروزي: سمعت ابن خراش يقول: شربت بولي في طلب الحديث خمس مرات، في سفر صحراء عطش يموت وللضرورة أحكام، وتباح المحرمات وقت الضرورات من شدة العطش، في الطريق ما عنده ماء، فيشرب بوله -أجلكم الله- هل يرده هذا عن العلم؟ لا استمر في طلب الحديث ولا يبالي بالجوع.
أقول لك أخي الكريم: تقول: ما عندي وقت؟ أقول لك: فرط يوماً واحداً من الأيام في الغداء فهل تستطيع أن تتحمل معنا درساً بعد العشاء؟
إلى متى يستمر؟
إلى الثانية عشرة.
لكن العشاء متى أتعشى؟
سبحان الله! طالب العلم لا يفكر في العشاء، طالب العلم لا يقارن الغذاء بطلب العلم غذاؤه وروحه هذا العلم، بل بعضهم لو تضع أشهى أنواع الطعام عنده والكتاب لا يبالي بالطعام؛ لأن ألذ ما عنده هو هذا العلم.
اسمع إلى غيرهم! يقول ابن الجوزي: كنت في زمن الصبا، آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر ميسان، فلا أقدر على أكلها، خبز لا يستطيع الواحد أن يأكله، إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين أمتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، يترك الطعام كله ويشبع بكسرة خبز لا يستطيع بلعها إلا بشربة ماء كل هذا لماذا؟ يجلس ويحفظ الأحاديث ويطلب العلم.
حتى النوم لا ينامون إلا قليلاً.
الجوع قلنا: لا يأكلون إلا قليلاً.
المال قلنا: لا يجمعون واسمع إلى أخبارهم، وتعجب من رواياتهم!
تقول فاطمة بنت الشافعي -أما الشافعي فله غرائب وله كرامات رحمه الله، وهذا رجل لم تلد النساء مثله في يومه، رجل قلَّما تجد مثله في التاريخ- تقول عنه فاطمة: ربما أوقدت له في ليلة سبعين مرة، أتعرف لماذا؟ لطلب العلم؛ ليكتب فائدة أو يتذكر شيئاً يكتبه، سبعون مرة في ليلة واحدة، أنت تفعلها مرتين؟ بل بعضنا لا يفعلها لصلاة الفجر لا يوقَد له سراج، ولو قلت لك: هناك حلقة علم الساعة الثانية في الليل هل تحضرها؟ هذا يوقَد له سبعين مرة في ليلة واحدة ويقوم وينام ويقوم وينام؟
يقول أسد بن الفرات وهذه أيضاً فيها غرابة -وهو تلميذ الإمام مالك، انظر إلى هؤلاء الرجل الأفذاذ وانظر ماذا خرجوا- يقول: أتى محمد بن الحسن، فقال: إني غريب! قليل النفقة، والسماع منك نزر، أي: صعب لا أستطيع أن أسمع منك العلم والطلبة عندك كثير فما حيلتي؟ قال: اسمع مع العراقيين بالنهار -يقول محمد بن الحسن لهذا الرجل- يقول: أحضر الدروس في النهار، ولا تتركها، وأجعل لك الليل وحدك في الليل لا يسمع بك أحد فتبيت عندي وأسمعك ما رأيك؟ قال أسد: وكنت أبيت عنده وينزل إلي يعني: في الليل، ويجعل بين يدي قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة يشرح، قال: فإذا طال الليل ونعست، نام، النهار كله علم، والليل يجلس يسمع، قال: فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، قال: فكان ذلك دأبه ودأبي حتى أتيت على ما أريد منه من السماع عليه.
هل جربت هذا؟ أم هل تصورت هذا؟ الواحد من الدرس تنعس عينه إذا صار الدرس ساعة ونصف لا نتحمل، سبحان الله! انظر إلى هؤلاء الرجال وكيف وصلوا.
يقال عنه: إن جميع أوقاته كانت كلها في دروس حتى في الطريق، وكان ربما سقط في حفر الطريق، يمشي وحوله التلاميذ وربما سقط وهو لا يدري؛ لأنه يدرس، قال: وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة وهو لا يشعر.(9/17)
شغف مكحول بالعلم
يقول مكحول رحمه الله أُعتقت بـ مصر -كان عبداً مملوكاً، وتَخَيَّلْ! المملوك إذا أُعتق مثل الأسير حين يرجع ماذا يتمنى؟ يذهب يرتاح، يترفه- قال: أُعتقت بـ مصر فلم أدع بها علماً إلا حويت عليه فيما أرى، يقول: كل نواحي مصر ما أظن فيها علماً إلا حصلت عليه، نحن نقول عن الكويت هذه البلدة الصغيرة هل حويت على كل علم فيها؟ تسمع بالعلماء لعلهم في منطقة أخرى ما هي بعيدة، إذا ما كان في مسجدي أو ما أحضر يقول: مصر كلها ما فيها علم إلا حويت عليه هل اكتفى؟ يقول: لا.
ثم أتيت العراق، ثم أتيت المدينة فلم أدع بهما علماً إلا حويت عليه فيما أرى، يقول: أول شيء مصر ثم العراق ثم المدينة هل بقي شيء يا مكحول؟
قال: ثم أتيت الشام فغربلتها وما تركت فيها شيئاً، ماذا بعد مصر والعراق والمدينة والشام؟ لم يدع علماً إلا حوى عليه فيما يرى!
انظر الهمة العالية، والله إنها لدقائق غالية تمر في أعمارنا وتمضي وتذهب، ثم يقلب الواحد منا كفيه، ثم يقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يا حسرتا على هذا الشباب! يا حسرتا على الأوقات التي ضاعت! يا حسرتا على العمر! يا حسرتا على هذه الساعات! بل إن بعضنا يقدر أوقاته الضائعة ليست بالدقائق، بل يقدر الآن الوقت بالساعات، بل بعضنا بالأيام، تمر عليه الأيام تلو الأيام، ولم يستفد منها علماً انظر إليهم وقارن نفسك بهم.(9/18)
أهمية الحفظ والتكرار لطالب العلم
العلم لا يكفي بأن تحضر درساً ثم ترجع، لا بد من الحفظ والتكرار، فمثلاً تحضر درساً في الصباح، والواحد منا لو حضر درساً في الحديث، يحفظ خمسة أحاديث في البخاري وشرحها، هل يغنيك هذا؟ لا يغنيك إلا أن تأخذ بعض هذه الأحاديث وتردد الحديث مرة وعشرة ومائة حتى تحفظ الحديث هكذا العلم، فالعلم لا ينال بالراحة لابد من التعب، الصوت يذهب من كثرة التكرار، تتعجب من بعضهم يقول: عشرون سنة مضيتها ما حفظت إلى الآن إلا خمسة أجزاء في القرآن، والبعض يقول: خمس سنوات كل ما حفظت أنساه ما السبب؟ ما الذي يجري؟ بل بعضنا يحضر في اليوم أفي الأسبوع خمسة دروس أو عشرة دروس وحصيلته في العلم لا شيء، اسمع إليهم كيف كانوا يحفظون؟
يقول جعفر بن المراغي دخلت مقبرة في تستر، فسمعت صائحاً يصيح في المقبرة، يقول: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، يقول: فتعجبت! ساعة طويلة وهو يردد ويردد ويردد، فكنت أطلب الصوت وأبحث عنه إلى أن رأيت ابن زهير أحد الأئمة عليه رحمة الله، وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش! جالس مع نفسه وهو يردد السند حتى يحفظه هلا فعلناها مع آيات الله يجلس الواحد منا فيقرأ؟ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكٌَ} [التحريم:1] ويردد ويردد ويردد، حتى يحفظ الآية، ثم التي بعدها، ثم التي بعدها، ولا يكل ولا يمل، هلا فعلناها؟
أما أن الواحد منا يحضر الدرس ثم يرجع يلخص، ثم ماذا استفدت؟ لا شيء.
في الأسبوع القادم سله؟ يقول: هاه هاه لا أدري.
واسمع إلى غيرهم! يقول أبو زرعة عن أحمد بن حنبل: "كان يحفظ ألف ألف حديث" أي: مليون حديث قد يكون لمتن الحديث الواحد خمسون طريقاً، فتعتبر الطرق خمسين حديثاً وهو حديث واحد؛ لكن بكثرة الطرق تُعدَّد الأحاديث، فكان يحفظ من هذه الأحاديث ألف ألف عليه رحمة الله، فقيل لـ أبي زرعة: كيف عرفت هذه الأحاديث وعددها؟ فقال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب كلها، انظر إليهم كيف كانوا يستغلون أوقاتهم.
واسمع إلى هذا الرجل قبل الموت كيف كان يستغل وقته؟ اسمع هذه القصة العجيبة يقول الفقيه أبو الحسن عن ابن عيسى: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه عنده حالة الاحتضار، يقول: قد حَشْرَجَ نَفَسُه واحتضر، نَفْسُه تكاد تخرج قبل الموت، قال: حَشَرَج نَفَسُه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحالة: كيف قلت يوماً حساب الجدات الفاسدة؟ هذه مسألة في المواريث، يسأله قبل الموت، فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة تسأل السؤال؟ قال لي: يا هذا! أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها؟ قال: فأعدت ذلك عليه، وحفظ المسألة قبل الموت، قال: فخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ حوله وقد ذهبت نفسه عليه رحمة الله.
البعض منا لو تقول له: يا أخي! أدرس هذا الباب في العلم، يقول: ماذا أستفيد؟ سبحان الله! تلقى الله وفي صدرك العلم خير لك من أن تلقى الله جاهلاً {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هو} [آل عمران:18] أعظم قضية شهد الله عز وجل بها ثم مَن بعد الله، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هو وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران:18] بعد الله جل وعلا الملائكة تشهد، بعد الملائكة من يشهدون؟ {وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] بعد الملائكة أهل العلم (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (إن صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر) تستغفر لصحاب العلم وفرق بين هذا وذاك.
أبيت سهران الدجا وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي(9/19)
بعض آداب طالب العلم
أخي الكريم! عليك ببعض الآداب أثناء الطلب:(9/20)
تعلم الأدب مع الطلب
أول أمر: تعلم مع الطلب الأدب، فلا خير في طالب علم لا يحسن الأدب، وكم هم أهل العلم في هذا الزمان الذين لم ينشروا علمهم بسبب سوء أدبهم، بل لعلك تعجب بعض الأحيان من شاب يحفظ كتاب الله، وسنة رسول الله، وأقوال أهل العلم، فإذا جلس مجلساً أساء الأدب على هذا، وتكلم في هذا، واغتاب ذاك، وسب ولعن وشتم وسفك دماء الناس ما السبب؟ إنه تعلم العلم ولم يحسن الأدب.
اسمع إلى الشافعي! مَن شيخُه؟ مالك، يقول عن نفسه: كنت أفتح الكتاب صفحاً رقيقاً هيبة له ألا يسمع الصوت انظروا إلى الأدب -يا إخوة- هل رأينا هذا الطالب مع هذا الشيخ في هذا الزمان؟ لم أرَ طالباً مع شيخه يفتح الكتاب بهدوء حتى لا يزعج شيخه هيبة له، والجزاء من جنس العمل.
تلميذ للشافعي يسمى الربيع، يقول الربيع عن نفسه: لم أتجرأ أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له، يقول: أستحي أن أشرب الماء أمامه.
انظروا إلى الأدب! وكم سمعنا عن طلبة علم يجلسون مع الشيوخ، فعندما يأخذ أحدهم بعض العلوم، ويظن أنه قد وصل، وقد علم بعض الشيء، وقد اعتمد على نفسه خرج في الناس يقول: انظروا إلى الشيخ الضال المضل! انظروا إليه عنده خطأ كذا! وفيه عيب كذا، وسوءته كذا، وأخذ يفضحه بين الناس ويسيء الأدب
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
واعلموا -أيها الإخوة- أن هؤلاء قلة لا كثرهم الله جل وعلا، فاحرص يا عبد الله على الأدب أثناء الطلب.
ولهذا لا حاجة لنا في هذا الزمان لطلاب علم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الناس، ويحسنون أخلاقهم، ولهذا سمعت الألباني حفظه الله يوماً يقول: إن الأمة الإسلامية تشهد صحوة علمية، يقول: أما الصحوة التربوية فلا! وصدق حفظه الله وكأنه ينظر بعين ثاقبة إلى أحوال هذه الأمة، العلم ينتشر أما التربية أما الأدب أما حسن الخلق؛ فقلَّما تجد شاباً طالباً للعلم يحسن خلقه مع الناس، هذا نادر في الوجود إلا فيمن وفقهم الله جل وعلا.(9/21)
البدء في الطلب بالأولويات
الأمر الثاني يا عبد الله: عليك أثناء الطلب بالأولويات، فبعض الناس لا يعرف في أثناء الطلب ماذا يقدم على ماذا؟
وقد سمعت أحد المشايخ يخبر عن أحد الطلاب، يقول: إنه يحفظ اثني عشر طريقاً لحديث (من أتى الجمعة فليغتسل) يحفظ اثني عشر طريقاً، ولا يعرف آداب غسل الجمعة! بالله عليكم أيها الإخوة، أيهما أولى: أن يتعلم أولاً آداب غسل الجمعة ليحسن عبادته أولاً أو يتعلم هذه الطرق؟ كلاهما مهم لكن هناك أولويات، لا بد أن نتعلمها، ولهذا تعجب من بعض الإخوة حيث تجده بعض الأحيان يجلس يقول لك: فلان وثقه فلان -مهتم منكب على هذا العلم، وهذا علم مهم، ولا بد من تعلمه، وهو من فروض الكفايات- وفلان ضعفه فلان وفلان ضعيف، وفلان صادق، وفلان فيه كذا وفلان قال كذا، ولكن سله عن تفسير القرآن؟
ما قرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله، وأقل القليل للمبتدئين تفسير ابن كثير هل قرأت؟
يقول: لا، قرأت جزءاً أو جزأين بالله عليكم أيهما أولى؟
طالب العلم أول ما يقرأ كتاب الله، ويتعلم معانيه، ويحفظه ويقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعلم معانيها، ويحفظها ويتعلم شيئاً من الفقه في عبادته، وشيئاً من العقيدة لإيمانه ودينه، ويتعلم بعض العلوم شيئاً فشيئاً، أما أنه يريد أن يصل إلى أعلى الدرجات من البداية، فإنه سوف يسقط، وهذا غالباً ما يصيبه العجب والغرور ثم تضيع حياته وما استفاد شيئاً.
وأنصحك في باب الأولويات، بالتدرج في طلب العلم؛ فإن كثيراً من الشباب يسأل: بماذا أبدأ من الكتب الآن؟ فيضع له جدولاً وبرنامجاً في هذه العطلة فمثلاً: يقرأ في التفسير تفسير ابن كثير وفي الحديث مختصر صحيح البخاري للزبيدي مثلاً، وابدأ في الفقه بمتن بسيط أو احضر عند بعض المشايخ، وفي التوحيد اقرأ فتح المجيد، أو اسمع أشرطة الشيخ ابن عثيمين فيه، أو اقرأ كتابه، وفي النحو كذا، وفي المصطلح كذا، وفي الأصول كذا، وضع له جدولاً، أحيلك أخي الكريم إلى كتاب مختصر مبسط بعنوان: برنامج تفصيلي لطالب العلم، ولعله وزع عند كثير من الشباب، هذا يختصر لك التدرج في طلب العلم، وكيف تبدأ وبأي الكتب، ولا تنتقل من كتاب إلى ما بعده حتى تختم ما يوازيه من الكتب، وبهذا تكون قد تدرجت في طلب العلم.(9/22)
الحرص على الرفقة الصالحة
ثالثاً: عليك بالرفقة الصالحة أثناء الطلب، لا يشترط أن يكون ملتحياً قد يكون ملتحياً لكنه مثبِّط، قد يصلي الفجر لكنه في العلم مثبِّط، إذا أردت أن تحرص على طلب العلم فاحرص على طلاب العلم أن تصحبهم، أصحاب الهمم العالية، تجلس مع الواحد فيقول لك: قرأت اليوم (200) صفحة هذا وردي في اليوم القراءة، وذاك يتحسر ويندم أن ربعه الذي يراجعه قد فاته هذا اليوم؛ لأن بعضهم تدمع عيناه إذا فاته ورده، هذا تحرص عليه وتحرص على ذاك الذي إن طرقت عليه الباب فقلت له: ما رأيك نشرب قهوة عند فلان؟ يقول لكم: اسمحوا لي وقت الراحة ليس هذا الوقت؛ لأن هذا وقت الحفظ أو وقت التلخيص، وأنا لا أفرط في هذه الأوقات، احرص على هؤلاء وعض عليهم بالنواجذ، وإياك والبطالين الذين ما عندهم في اليوم والليلة إلا الزيارات والتجول، في الصباح يقضي بعض المراجعات، وفي الظهر ينام أو يقرأ الجريدة، وإذا جاء العصر زار فلاناً، وآخر العصر زار آخر، وبعد المغرب شرب قهوة عند فلان، وجاء في الليل وقال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اليوم قضيناه كله في طاعة الله زيارةً للإخوان، هذا بطال فقد أضاع وقته وأضاع وقت غيره، إياك إياك وهؤلاء!
حتى أن ابن الجوزي جعل لهؤلاء فصلاً، فقال: الفراغ بلاء، يقول لم أستطع أن أرد الزوار يقول: إن استطعتُ أن أعتذر اعتذرت بلباقة، وإن لم أستطع فأختصر الكلام وأستغل الوقت في تبرية الأقلام، وتقطيع الكتب، وتسطير الأوراق وغيرها، استغلالاً للوقت في طلب العلم في تجهيز أوراقي لطلب العلم، احرص على وقتك ألا يضيع مع رفقة هممهم دنية، واحرص على أصحاب الهمم العالية، وإن كان لك أصحاب من هؤلاء فحثهم لعلك أن تكون ممن سن سنة حسنة.(9/23)
عدم انشغال الطالب بعيوب الناس
الرابع: لا تنشغل أثناء الطلب بعيوب الناس، واسمعها مني نصيحة! أثناء الطلب وقراءة الكتب واستماع الأشرطة وحضور الدروس، سوف تقع على زلل كبير حتى على أكبر العلماء، تفتح الكتب فتجد بعض العلماء يسقط ويزل زلة كبيرة، وبعضهم لعله يقع في خطأ شنيع، وسوف تمر على هذا أثناء الطلب، من منا لا يقرأ فتح الباري، وأي طالب علم لا يعتمد على شرح النووي، ومن منا لا يرجع إلى بعض هؤلاء العلماء: كـ القرطبي أو غيره، وسوف يجد في أثناء قراءته لهؤلاء العلماء بعض الزلل وبعض الخطأ ولكن
وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ ولكن عين السُّخط تبدي المساويا
إن كان قلبك سوف ينشغل بعيوب هؤلاء الناس، وفي مجالس أهل العلم تسمع بعض الأخطاء وتسجلها، فاعرف أنك قد مُكر بك، كما قال بعض السلف: إذا رأيت أحدهم منشغلاً بعيوب الناس عن عيبه، فاعلم أنه قد مكر به، كلما رأيت عيباً لا تقبل به ورده واتركه، وامض في طلب العلم واستمر؛ فإنك سوف تقع على زلل كبير وخطأ كثير.(9/24)
تقسيم الأوقات
أيها الأخ الكريم: عليك أثناء الطلب بتقسيم الأوقات، فإذا أردت أن تجعل لنفسك وقتاً في طلب العلم فقسم الأوقات، وكن منظماً، واجعل لك جدولاً: وقتاً للحفظ، ووقتاً للمراجعة، ووقتاً للتلخيص، ووقتاً للكتابة، ووقتاً لحلق العلم، ووقتاً للراحة وللاستجمام، ولكن ساعة وساعة ولا بد منها، ولا تضحك على نفسك تبدأ أياماً تضغط عليها ثم تنفجر وترجع وتصبح عندك ردة فعل.
ثم إياك والدقة الخيالية، فبعض الشباب يجعل وقته بالدقيقة من الساعة الرابعة إلى الخامسة: قراءة الكتاب الفلاني من الخامسة إلى السادسة، الكتاب الفلاني من السادسة إلى السابعة والأربعين دقيقة إلى أذان المغرب، الكتاب الفلاني وقت المغرب كله كذا لا تستطيع اجعل لك -أيها الأخ- أوقاتاً للراحة والفراغ للطوارئ فلان جاءك بحاجة ضرورية، وفلان من الجيران دعاك للعزاء أو لصلاة جنازة أو اتباعها، وفلان مريض لا بد أن تعوده، وأمك طلبت منك حاجة اجعل لنفسك أوقات فراغ تحسباً لهذه الطوارئ ولهذه الظروف.(9/25)
الحذر من الغرور والعجب
أقول لك أخي الكريم: إياك إياك أثناء الطلب أن تصاب بالغرور والعجب فمثلاً: حفظتَ القرآن؟ كان أحدهم عمره سبع سنوات يحفظ القرآن يعني ماذا؟ حفظتَ القرآن وصحيح البخاري ومعه صحيح مسلم هل يحق لك أن تفتي؟ بعض الناس ما قرأ إلا بعض الكتب وحفظ بعض الأجزاء، فتسأله بمسألة فيقول: أنا أرى!! من أنت حتى ترى؟ ويقول: أنا أرجح!! لا يضحك عليك الناس من أنت حتى ترجح؟ أو يقول: الشيخ الفلاني جانب الصواب.
أخي الكريم! كن عاقلاً وتدبر، أسمعت بهؤلاء في الصغر يحفظ سبعين ألفاً من الأحاديث عمره ست سنوات وقد ختم القرآن عمره تسع سنوات يسافر في طلب العلم، إذا أردت ألا يصيبك الغرور، فاقرأ في تراجمهم وسيرهم، واعلم أنك مهما وصلت من العلم فإنك ضعيف وقليل في العلم، والاجتهاد اتركه للمجتهدين، أنت يحق لك أن تنقل الفتوى إذا سئلت: يا فلان! عندك علم فيها؟ تقول: نعم! قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله في المسألة كذا، وسمعت الشيخ الألباني يقول كذا، وقال الشيخ الفلاني كذا، أما أنك تزيد وترجح وترى رأياً جديداً فاعلم أن هذه من علامات العجب والغرور، قد يصاب به الطالب في بداية طلبه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/26)
الأسئلة
نسأل الله عز وجل أن يجزي الأخ نبيل خير الجزاء، وهناك حديث أحببت أن أذكر به الإخوة طالما أن الأخ تكلم في موضوع: (الديمومة على الأعمال) حديث أبي هريرة الذي أخرجه الإمام البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يُشادَّ أحدٌ الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
ويقول يحيى بن يحيى: قال الزهري: طلبنا العلم فأصبنا منه شيئاً كثيراً، وطلبنا الأدب فوجدنا أن أهله قد ماتوا.(9/27)
نصيحة لمن آثر العزلة
السؤال
أحد الإخوة يسأل سؤالاً فيقول: ما هي نصيحتك لشاب اعتزل الشباب لوحده، ولا يحضر الدروس، والسبب هو مضايقة بعض الشباب له؟
الجواب
أظن أن صاحب السؤال يعرف الجواب، ولكن أذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم (الشيطان مع الواحد).
أخبركم بقصة عايشتُها مع شاب كان حريصاً على طلب العلم، وكان من شدة حرصه أن زاده الشيطان حرصاً فقال له: اترك الشباب فإنهم يضيعون وقتك بين طلعة وديوانية ومجلس وغيرها من هذه الأنشطة الكثيرة التي تضيع الأوقات، اجلس واعتكف واطلب العلم، فنصحته ألا يقطع نفسه عن الإخوان في الله، وأن يجالسهم لأنهم عون له، يذكرونه إذا نسي، ويعظونه إذا غفل، ويسددونه، وهو مسكين لا يشعر، فجلس لوحده واعتزل وأبى أن ينتصح، مرت به الأيام فتحولت كتب العلم إلى مجلات ثم إلى جرائد ثم إلى تلفزيون ثم إلى فيديو ثم ترك الصلاة.
أيها الأخ الكريم! اعرف أنها حيلة من حيل الشيطان (الشيطان مع الواحد) يريدك لوحدك ولو كنت تقرأ فتح الباري لكن تكون لوحدك.
ولهذا -أيها الأخ- الرفقة الصالحة تعينك على المنافسة، ثم إنهم يقومونك إن زللت، والمؤمن مرآة أخيه، ثم إن أخطأ عليك الشباب، وإن قصروا في حقك، وإن أساءوا إليك، فقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [كدر الجماعة ولا صفو الوحدة] أكون مع الجماعة على كدر وعلى بعض المضايقات، وعلى بعض الأذى، أصبر قال: [ولا صفو الوحدة] ولهذا كان يحذر عليه الصلاة والسلام من الوحدة حتى في السفر، قال: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب، وقال: وخير الركب أربعة)، (نهى أن يبيت الرجل وحده) لِمَ أيها الإخوة؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28] كلما اجتمع الإخوة كثرت الرحمة، بل كان يوماً من الأيام في مسير مع أصحابه وقد تفرقوا فجمع الناس وناداهم، فلما اجتمعوا قال: (ما لي أراكم عزين، إن تفرقكم هذا من الشيطان).
إذاً أخي الكريم انتبه واعقل واعلم أن إخوانك في الله هم الذين أرشدوك للعلم، وهم الذين وجهوك للكتب، فكيف تتركهم بعد أن دلوك على هذا الطريق؟! فهم المعينون وقت الضيق والشدة، وهم المسددون إذا أخطأت، وهم المنافسون لك في العلم، وإذا كانت هناك بعض المضايقات فتوضح (الدين النصيحة).
تقول: يا أخي! لاحظ أنا تضايقت من كلمة قلتها لي، يا فلان صار بيني وبينك موقف ماذا تقصد به؟ وعليك بإحسان الظن لأن بعض الناس لا يتحمل إخوانه، فكل كلمة يسيء فيها الظن عشرين ظناً، وقال عمر: [لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً]، وقال ابن المبارك رحمه الله: " المؤمن يتطلب المعاذير " كل ما تكلم أحد أو حدث منه موقف أو زلة، هذا المؤمن يتطلب المعاذير، يقول: لعله كذا، لعله نسي، لعله لا يدري، لعله لا يقصدني، لعله يقصد كذا، يتطلب المعاذير قال: " والمنافق يتطلب العثرات " المنافق يبحث عن الزلات، ويفتش ويبحث عن السقطات وينشرها بين الناس، يقول: هذه صفات المنافق عندنا، أما صفات المؤمن فيتطلب المعاذير، وأحسن الظن بإخوانك، وانصحهم إن كان ولا بد والله أعلم.(9/28)
نصيحة للنساء باستغلال الأوقات
السؤال
نريد توجيه الأخوات الحاضرات في الدرس في إجازة فترة الصيف، وخصوصاً ما يخص قضاء وقت الفراغ في الهاتف، أو في الخروج أو في الرفقة؟
الجواب
أولاً: ما قيل للرجال فهو للنساء سواء.
ثم أمر ذَكَّرَني به السائل، وهو قضية الهاتف من مضيعات الأوقات الهاتف -أيها الإخوة- لو نحسب أوقات الهاتف التي نتصل فيها فإنها من أعظم مضيعات الأوقات علينا في هذا الزمان، بل تعجب من بعض الإخوة يظل نصف ساعة يتحدث، ماذا عنده؟ لا شيء، يسأل ما هي الأخبار؟ ماذا فعلت بفلان؟ أين ذهبت اليوم؟ نصف ساعة على أحاديث لا طائل منها، لغو {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] لا أقول لك أخي: الهاتف حرام والأحاديث المباحة حرام! لا؛ لكن الكثرة والاستغراق فيها تضيع الأوقات، وهذا ليس في النساء خاصة بل حتى في الرجال، والآن نعجب أن الناس يطالبون بتخفيض أسعار المكالمات الهاتفية النقالة، لأن الوقت عندهم أهون وأرخص من المال، بل لو كان المال أو كانت المكالمات غالية الثمن، لعرفنا قدر هذا الوقت ولاختصرنا الكلام ولكن نريد أن ينخفض الثمن حتى نكثر في الكلام، ولست أدعو إلى زيادة الأسعار، ولعل البعض عندما يسمع هذا الكلام يظن أنني أدعو إلى الزيادة في الأسعار، والزيادة في الضرائب، وأن أثقل على كاهل الناس، ولكن أخبرك -أخي الكريم- أن الوقت أثمن من جميع المال؛ بل أغلى حتى من الذهب، فلا تضيعه في هاتف، ولا في تقليب جريدة لا طائل منها، بعض الأخبار مهمة لكن تَخَيَّلْ! شاب ملتزم يظل يقرأ الجريدة أتعرف أي صفحة؟ صفحة الرياضة وما شأنك بها؟ بل تعجب من بعض الجرائد ربما أربع صفحات لها في الرياضة، وما نحتاج من هذه الأخبار، أو فلانة حصل فيها كذا، أو خبر طريف في المكان الفلاني، أو حادثة ما الذي نستفيد من هذه الأخبار؟ والله كلها مضيعات للأوقات.
كما قلنا: ما قيل للرجال فهو أيضاً للنساء عامة، وكم هن النساء اللواتي أصبحن عالمات، واقرأن التاريخ، وليقرأ كل منا التاريخ، ليسمع أن بعض أهل العلم قد تتلمذ على نساء، ومن شيوخه نساء تتلمذ على أيديهن، نعم! هناك حاجز وحجاب بينه وبينها، وعائشة رضي الله عنها كان الرجال الأفذاذ الفحول يأتونها في بيتها يسألونها عن حديث واحد، وعن مسائل فقهية رضي الله عنها؛ فإذاً العلم ليس خاصاً بالرجال فقط، بل للرجال والنساء عامة والله أعلم.(9/29)
نصيحة للذين يهجرون كتاب الله
السؤال
كثير من الناس هاجروا كتاب الله عز وجل، وأخص بالذكر الشباب الملتزم، أرجو توجيه نصيحة لهم في هذه الجلسة؟
الجواب
عثمان بن عفان رضي الله عنه من منا أكثر منه شغلاً؟ الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه، في الجهاد هو الأول، وفي الإنفاق هو الأول، وفي التعليم هو الأول، وفي إدارة الأمة هو الأول أعماله كثيرة يروى عنه أنه كان يختم القرآن كل ليلة، وسوف يخرج من يخرج من هذا المجلس، ويقول: خالف السنة، والسنة لا تقرأه في أقل من ثلاث.
أقول لك أخي الكريم: إن خالف عثمان رضي الله عنه السنة، فأين أنت من السنة؟ هل من يطبقها الذي لا يختم القرآن في الشهر مرة؟ هل هذا طبق السنة؟ أو الذي يمر عليه من رمضان إلى رمضان وما ختم القرآن، هل طبق السنة؟ إذا كان الذي ختم القرآن في ليلة واحدة قد خالف السنة، فأين أنت عن السنة؟ تعرف ماذا أنزل الله في عثمان رضي الله عنه؟ كان يقوم الليل بالقرآن، فأنزل الله جل وعلا فيه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] نزلت في عثمان {سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ما هو أثر العلم؟
الآن تعلمنا فتح الواحد منا صحيح البخاري وقرأ بعض الأحاديث في فضل قيام الليل، هذا علم لكن ماذا استفدت من هذا العلم إذا كنت بعده لا تقوم الليل؟ إذاً عندما تقرأ بعض فضائل صيام التطوع ولا تصوم، ماذا نفعك هذا العلم؟
أخي الكريم! {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] من منا لا يعرف فضل قراءة القرآن؟
قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله كتب الله له به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن (ألف) حرف و (لام) حرف و (ميم) حرف).
من منا لا يعرف هذا الفضل ولو قرأت آية واحدة ربما تعدو المائة أو المائتين أو الثلاثمائة حسنة! آية واحدة بل بعض الآيات تعدل آلافاً من الحسنات، بل الصفحة تعدل آلافاً من الحسنات، من منا حرص على هذه الأجور؟ تعجب من شاب ملتزم، أو داعية إلى الله، أو طالب علم ليس عنده ورد، يقرأ القرآن ولو ربع حزب في اليوم والليلة وهذا قليل جداً.
أخي الكريم! نصف حزب، أو حزب في اليوم والليلة، والله ليس قليلاً على نفسك أن تقرأ هذا القرآن {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] إي والله! مهجور قراءةًَ وتلاوةً وحفظاً وتدبراً وعملاً وحُكما ًبه فالله الله بتلاوة القرآن!
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/30)
العبادة في رمضان
إن لله ليالي وأياماً وشهوراً فضلها على سائر الليالي والأيام والشهور، منها: شهر رمضان، فهو شهر القرآن.
وإن لنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة، حيث كانوا إذا أقبل رمضان تركوا سائر الأعمال واعتكفوا على قراءة القرآن وتدبره، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.(10/1)
أخطاء تقع في قراءة القرآن في رمضان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
إن شهر رمضان هو شهر القرآن، فيه يفتح الناس المصاحف بعد هجر طويل، وفيه ينفض الغبار عن تلك المصاحف التي ركنت في البيوت، وعلى الأرفف، وفي بعض المساجد، فتفتح بعد غلق طويل، وينفض الغبار عنها، فإذا الصائمون يفتحون المصاحف؛ ليستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ثم يعكفون على قراءته، وللناس في قراءة القرآن أخطاء ومثالب سوف أنبه عليها.
أولاً: يا عبد الله! اعلم أن شهر رمضان شهر قرآن لا شهر جرائد وقصص، ولا حكايات وأخبار لا معنى لها ولا فوائد منها، رمضان شهر القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] لِمَ؟ {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] هدى للناس.
يا عبد الله: كم من رجل وكم من امرأة سمع آية من كتاب الله فهداه الله، قال تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
هذا أحد الصحابة يسلم بعد أن كان مشركاً، أتى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في الخلق أبغض عنده من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاقترب فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يصلي في الناس صلاة المغرب، وهذا المشرك ينتظره متى يتم الصلاة، فينفرد به ليقتله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب فيصل إلى قوله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ففكر جبير إي والله أم خلقوا من غير شيء فكر بنفسك -يا عبد الله- هل خلقت من عدم؟ لا.
أم خلقت نفسك؟ {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:36] أم أنت الذي خلقت السماوات، أم أنت الذي خلقت الأرض؟ كلا.
إذاً لا بد أن هناك خالقاً، فإذا به يسمع هذه الآية فيطير قلبه ويتعلق بالله فيؤمن به جل علا، ويعلن الشهادتين ثم يقول عن نفسه: [فما كان مخلوق أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم].
يا عبد الله: إنه القرآن الذي فتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، إنه القرآن الذي هدى الله به البشرية.(10/2)
حال السلف مع القرآن في رمضان
كان الإمام أحمد إذا أقبل رمضان جلس في بيت الله واعتكف على قراءة القرآن، وكلما مر وقت ذهب وتوضأ ثم رجع إلى القرآن يقرؤه ويتلوه.
يا عبد الله: كان الإمام أحمد يترك فتاواه ومسائله ومجالس العلم ليعكف على كتاب الله، أما الإمام مالك فإنه إذا أقبل رمضان هجر جميع المجالس حتى مجالس الحديث؛ ليعكف على كتاب الله، وهذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله كان يختم القرآن في رمضان ستين ختمة.
وهذا الإمام الزهري يقول: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا ثالث.
فشهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا غير هذا.(10/3)
فضل تدبر القرآن والعمل بأحكامه
عبد الله: إن كثيراً من الناس -وهذه بعض أخطائهم- ليقرأ القرآن فيكون همه أن يختم القرآن ختمتين أو ثلاثاً في رمضان، هذا هو همه.
فهل استفاد من قراءته؟ لا.
هل اعتبر من قراءته؟ لا.
هل ترسل وتدبر؟ لا.
هل فهم وعقل؟ لا والله.
تجد بعض الناس يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، يقرأ قول الله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وتجده يعق والديه، يقرأ قول الله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] وإذا به يقطع أرحامه.
يقرأ قول الله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة:278] ثم يخرج من المسجد إلى بنوك ربوية يتعامل معها.
يقرأ قول الله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْم} [الحجرات:11] ثم يسخر من أصحابه وزملائه يقرأ قول الله ويخالفه، ورب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.
عبد الله: والله لأن تقرأ في رمضان جزءاً واحداً بتدبر وتعقل وتفهم، وتطبيق لأحكامه خير لك من أن تختم القرآن عشرين ختمة ولم تعقل منه شيئاً، يقول الله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فالله أنزل القرآن لنتدبر الآيات ونتذكر ونتعقل، أما أن نقرأ القرآن هذاً وننثره نثراً، فلم ينزل الله القرآن لهذا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
كان بعض السلف يقوم الليل كله بآية واحدة يتدبرها ويعقلها ويفهم معناها، وهذا سيد الأنبياء وإمام المرسلين عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية واحدة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].
القرآن يقرأ للتدبر، ويسمع بإنصات للتعقل والاستجابة لأحكامه والعمل بها.
فكم من الناس يتدبر بل لعله يبكي ثم لا يستجيب لآيات الله وأحكامه، ولا يطبق كلام الله على نفسه وأهل بيته ومجتمعه.
يا عبد الله: ما أنزل الله عز وجل القرآن لهذا، فهذا ابن عمر عليه رحمة الله درس سورة البقرة وحفظها وعقلها في ثماني سنوات، فثماني سنوات يتدارس سورة البقرة، وهي سورة واحدة لعل بعضنا يقرؤها في ساعة أو ساعتين وابن عمر درسها في ثمان سنوات؛ فكان إماماً فقيهاً عالماً عابداً زاهداً، عقل معنى سورة البقرة، وسورة البقرة ليست كأي سورة فإنها من أعظم السور، وهي التي لا تستطيعها البطلة، يعني: السحرة.
يا عبد الله: القرآن يقرأ بتمهل وتدبر وتعقل واعلم -يا عبد الله- أن لك بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، ومن الناس من تضاعف الحسنة إلى أكثر من عشر حسنات، فإذا حسبت بعض السور لربما تكون لك بالملايين لو عقلت وتدبرت.
فرمضان شهر قرآن لا شهر لعب، وزمر وطرب، ومباريات ونوادٍ، ولهو ورقص ومجون، وفسق وفجور، وتجول في الأسواق وأكل وشرب، ثم يخرج رمضان ولم نستفد منه شيء.
رمضان شهر القرآن -يا عباد الله- فالله الله أن نعتكف في بيوت الله، وأن نتدارس كلام الله، وأن نستمع آيات الله، وأن نعرف معاني كلام الله، وأن نطبق كلام الله في بيوتنا وأهلينا وعلى أنفسنا، فإذا خرج رمضان نكون حقاً قد استفدنا من رمضان، ومن كلام الله جل وعلا.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(10/4)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: كان عليه الصلاة والسلام من أحسن الناس خلقاً، وكان خلقه في رمضان يزداد حسناً، فقد كان عليه الصلاة والسلام أجود وأكرم الناس بماله وخلقه وسعة صدره، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان جبريل يأتيه فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان يقول لأصحابه: (الصوم جنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) يحفظ لسانه ولا يرفع صوته ولا يشتم ولا يكذب ولا يغتاب قال صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد، أو شتمه -اعترض عليك إنسان أو ظلمك أو سبك- فإن سابه أحد أو شتمه فليقل إني امرؤ صائم) إني امرؤ صائم حدث بها نفسك يا عبد الله، فكلما نظرت إلى امرأة حدث نفسك وقل: إني صائم ألا تستحي؟ ألا تتقي الله؟ إذا دعتك نفسك لسماع الأغنية أو النظر إلى فيلم أو مسلسل أو بعض المحرمات فحدث نفسك وقل: إني امرؤ صائم.
يا عبد الله: إذا دعتك نفسك إلى فجور أو معصية فحدثها وقل إني امرؤ صائم.
كم من الناس أثناء نهار رمضان لا يتحمل أحداً؛ فإذا عارضه أحد سبه وشتمه بحجة أنه صائم! وإذا كان في عمله فأتاه مراجع يسأله فإذا به يغلظ عليه بالكلام ولربما يطرده من مكتبه، وكم من الناس من يأتي إلى زوجته فإذا رأى خطأً في البيت أو الأولاد فلربما يتعدى من اللسانه إلى الضرب باليد، ولربما يشتم، ولربما يغضب وكأنه لم يصم أحد قبله ولا بعده، وكأنه الصائم الأول والأخير.(10/5)
الصوم مدرسة الأخلاق
يا عبد الله: الصوم جنة فتعلم فيه حسن الخلق، فإذا سبك أحد فلا ترد أنت بالسب وعود نفسك على أنك صائم، وأنك متبع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنك عبد لله.
قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) ماذا ينفعك يا عبد الله أنك تترك الطعام والشراب ثم تأتي فتقع في أعراض الناس، وتغتاب المسلمين، وتكذب، وتتعامل بالربا؟!!
يا عبد الله: انتبه واعلم أن من الناس من يصوم وليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ولم يكتب له من صيامه ولا حسنة واحدة.(10/6)
بيان عاقبة ترك الصلاة
يا عبد الله: اعلم أن كثيراً من الناس إذا أتى رمضان أقبلوا على المساجد فلا يمر في رمضان يوم أو يومان أو ثلاثة أو أربعة إلا وتجد المساجد تنقص والصفوف تقل، والناس بدءوا يضعفون شيئاً فشيئاً فلا تجدهم إلا في ليلة القدر، نخبر أولئك بأن أول ركن في الإسلام بعد الشهادتين هو إقامة الصلاة، والذي لا يصلي لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولو صام العمر كله، ولو حج طوال عمره ولو اعتمر في كل شهر مرة، ولو تصدق بجميع أمواله ولو حفظ القرآن كاملاً ولو فعل وفعل فإن الله يوم القيامة لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، قال الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتً} [مريم:59] يتركون الصلاة ويذهبون إلى شهواتهم وملذاتهم، وإلى مبارياتهم وملاعبهم، وإلى أغانيهم وطربهم وتلفازهم!
ما مصيرهم يا رب؟ {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة] ويقول عبد الله بن شقيق، يقول: [ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون في الإسلام شيئاً تركه كفر إلا الصلاة] فإن تركها كفر يا عبد الله! (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) أتعرف ما معنى كفر يا عبد الله؟ لو أنك عاقل وفهمت معناها تعرف أنك إذا مت على تركك للصلاة فإنك خالد مخلد في نار جهنم، الأمر ليس مليون سنة أو مليونين، وإنما خالد مخلد في نار جهنم: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] طعامه الضريع والغسلين، والغساق والصديد، ويفترش من النار، ويلتحف النار، ويأكل في بطنه النار، ويصب على رأسه الحميم، في جحيم وسقر، إذا ألقي فيها فلا يصل إلى قعرها إلا بعد سبعين عاماً!! كيف بمن يعيش فيها ويخلد فيها؟! أتعرف لِمَ يا عبد الله؟ لأنه ترك الصلاة.
قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة) لا ينظر إلى برك لوالديك، ولا إلى صلتك لأرحامك، ولا لأمرك بالمعروف، ولا إلى نهيك عن المنكر، ولا إلى قراءتك للقرآن، ولا إلى عمرتك ولا إلى حجك وصدقاتك: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر العمل، وإن فسدت فسد سائر العمل) فسد الحج والعمرة وفسد الصيام والصدقات، وفسدت الأعمال كلها.
يا عبد الله: الصلاة الصلاة! حافظ عليها في رمضان وفي غير رمضان فإنها عمود الإسلام، ومن مات وهو على غير صلاة فإن النصارى واليهود خير منه وأولى، لأنهم أهل كتاب، أما هو فليس بصاحب كتاب، فإن هذا الدين بريء منه حتى ذبيحته لا تحل وذبيحة اليهودي والنصراني تحل، حتى الزواج من غير المصلية لا يحل، إما الزواج من اليهودية والنصرانية يحل بشروط.
عبد الله: تارك الصلاة إذا مات لا يغسل ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث.
يا عبد الله: انتبه فتارك الصلاة شر من اليهود والنصارى ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
عباد الله: الله الله في الصلاة، ولنحافظ عليها في رمضان من أوله إلى آخره ثم بعد رمضان نحافظ عليها إلى أن يتوفانا الله جل علا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم تقبل منا صلاتنا وصيامنا ودعاءنا وقيامنا وسائر أعمالنا إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد، وأقم الصلاة.(10/7)
العظمة
لن يستطيع أحد الثناء على الله سبحانه حق الثناء، فإن الله سبحانه لا يقدره حق قدره أحد.
وإن في آياته في الأنفس والآفاق خير شاهد على عظمته سبحانه.
وإن الناظر إلى عظمة الله تارك للعصيان، مسارع بالتوبة، فليبادر كل متخلف عن طاعة مولاه بالتزام الطاعة.(11/1)
تجلي الله للجبل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الإخوة الحضور! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مهما تكلمنا في هذه المحاضرة ومهما تحدثنا فنحن مقصرون، ولن نثني على الله عز وجل حق الثناء، فالله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبت كل الأسماء وكل الصفات لله جل وعلا على ما تليق به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
موسى عليه السلام كلم الله جل وعلا مباشرة، فكان كليم الله، وبعد أن كلم الله اشتاق لرؤيته، والنظر إليه، فطلب من ربه هذا الطلب: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] أريد رؤيتك وأشتاق لرؤيتك، قال الله جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] في هذه الدنيا لن يراه أحد.
أما يوم القيامة فيراه المؤمنون: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ} [الأعراف:143] انظروا إلى الشرط الذي اشترطه الله على موسى قال: انظر إلى الجبل الأصم الشامخ العظيم إن أطاق رؤيتي فسوف تراني، فإذا بالرب جل وعلا يتجلى للجبل قال ابن عباس: [قدر رأس الإصبع] فإذا بالجبل العظيم يندك ولا يبقى من الجبل شيء.
وموسى لما رأى المنظر خر على الأرض صعقاً، ولما أفاق: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143].
{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].(11/2)
سعة ملك الله عز وجل
هل من ترك الصلاة قدر الله حق قدره؟
هل من أكل الربا قدر الله حق قدره؟
يقول الله جل وعلا لمن أكل الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] قال ابن عباس ترجمان القرآن: [يأتي يوم القيامة فيعطى رمح ويقال له يوم القيامة: بارز ربك] حارب الله جل وعلا، لأنه أكل الربا في هذه الدنيا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
يقول بشر رحمه الله: [لو تفكر الناس في عظمة الله جل وعلا ما عصوا ربهم جل وعلا].
يقول سعد بن بلال: لا تنظر إلى صغر المعصية -لا تقل ليس فيها شيء أن أنظر إلى فلانة أو أتكلم معها أو أختلي بها، أو أسمع الأغاني، أو أنام عن الصلاة، أو أعق الوالدين، أو أقطع الأرحام- ولكن انظر إلى من عصيت تعرف قدر المعصية، ولو عرف الناس قدر عظمة الله ما عصوا ربهم جل وعلا.
أرأيت هذه السماوات السبع، والكون كله، نحن على الأرض لا شيء، والأرض في المجموعة الشمسية لا شيء، والمجموعة الشمسية في المجرة لا شيء، والمجرة ضمن المجرات لا شيء، فنحن نقطة في فضاء كامل لا نراه، يقيس علماء الفلك الآن الفضاء بالسنوات الضوئية، شيء عجيب وكون فسيح حتى نصل إلى السماء الدنيا، ثم بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، ثم بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام.
أرأيت هذه السماوات العظيمة وهذا الكون الكبير الفسيح هذا كله بالنسبة إلى كرسي الرحمن كحلقة ملقاة في أرضٍ فلاة -أي في صحراء- هذا الكون كله والسماوات السبع كحلقة، أرأيت؟! أتخيلت؟! أتصورت؟!
نحن ماذا نساوي داخل هذه الحلقة؟ لاشيء.
ثم اعلم أن هذا الكرسي بالنسبة لعرش الرحمن جل وعلا كالحلقة بالنسبة للغلاة -الصحراء- تخيل وتصور!! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
يعلم ما توسوس به كل نفس، يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] أعظم آية فيها صفة الرب {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] حي لا يموت، حي لا ينام، قيوم: قائمٌ بنفسه مقيم لغيره، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].(11/3)
اطلاع الله تعالى على عباده
تقول عائشة: (جاءتنا المجادلة -المجادلة التي في سورة قد سمع الله- تشتكي إلى رسول الله من زوجها، تقول عائشة: وليس بيني وبينها إلا ستارٌ رقيق، تقول: لا أسمع بعض كلامها، وإذا بالرب ينزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]) لا تظن عندما تختلي بنفسك في معصية أو تغترب عن الأرض؛ لتعصي الله جل وعلا، أو تغلق على نفسك الباب وتطفئ الأضواء لتعصي لا تظن أن الله قد غفل عنك:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
الإمام أحمد بن حنبل لما سمع هذه الأبيات ترك مجلس العلم، ودخل في غرفة وأغلق الباب على نفسه، وانتظره طلابه فلم يخرج، فجاءوا إلى الغرفة يريدون طرق الباب، فسمعوا الإمام أحمد يردد هذه الأبيات وهو يبكي.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
يقول وهب رحمه الله: [خف الله على قدر قدرته عليك] خف من الله.
زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه وجده: كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقولون له: لم يصفر لونك عند الوضوء؟ بعض الناس يكبر للصلاة ولا يدري عن الصلاة شيئاً، هذا الرجل إذا توضأ اصفر لونه قالوا: لم؟ قال: [أتدرون بين يدي من أقف؟! أقف بين يدي الله أقف بين يدي الله] أين الذين يكبرون للصلاة وقلوبهم في الأسواق وفي الدنيا وشهواتها؟ تجده يسمع قول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4] والقلب ما زال في الدنيا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] وأدع هذه الآية إلى آخر المحاضرة.(11/4)
التحدي بخلق الذباب
شاب كان جالساً في الطريق يمر ملكٌ طاغية ظالم فاجر طاغوت يعبده الناس من دون الله، وكان الشاب صالحاً متديناً، فرأى الناس يتجمعون حول هذا الملك الطاغية كلٌ منهم يتقرب إليه، ويتوسل إليه، ويريد منه القربى والزلفى وأموراً من الدنيا، فنظر إلى الناس، ونظر إلى هذا الملك وحوله الجنود، وحوله الحرس.
فإذا ذبابة تطير حول الملك، كلما اقتربت ووقفت على وجهه هشها من حوله، فذهبت ثم رجعت والناس يتعجبون، كلما أراد إزالتها ذهبت الذبابة ثم رجعت على وجه الملك والناس يستغربون، ذبابة ما استطاع دفعها!
فإذا بالشاب المسلم الصالح يستغل الموقف، فإذا به يرتل قول الله أعوذ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] كل الناس يستمعون، فالله يضرب مثلاً ويقول للناس استمعوا لهذا المثل، واسمع إلى هذا المثل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج:73] الله أكبر! أرأيت هذا المثل في هذا الموقف؟ أرأيت هذا الملك وجنده بل كل من في الأرض جميعاً الشرق والغرب بالتكنولوجيا التي اكتشفوها ووصلوا بها إلى القمر ودخلوا إلى الأرض وكسروا الذرة، هل يستطيعون أن يخلقوا ذبابة واحدة، تحدٍ من الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] هذا التحدي الأول.
التحدي الثاني: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} [الحج:73] لو أن الذباب يأخذ شيئاً من طعامهم أو شيئاً من شرابهم فإن كل أهل الأرض ما يسترجعونه؛ لأن الذباب حشرة إذا دخل الطعام مباشرة في جوفها يتحلل الطعام ويتغير مباشرة ويتفكك: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74].
فإذا بالناس كل منهم يكبر ويقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله والله أكبر! وانفض الناس عن ذلك الملك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].(11/5)
رسالة إلى كل غافل
أخي الكريم: يا من تنام عن الصلاة!
أخي العزيز: يا من هجرت القرآن!
أختي الفاضلة: يا من مازلت تترددين هل تتحجبن أو لا تتحجبن؟(11/6)
إلى الغافل عن أوامر الله ونواهيه
أخي الفاضل: يا من مازلت تبيع الحرام، أو تشتري الحرام، أو تأكل الحرام، نحن لا نتعامل مع بشر، نحن نتعامل مع رب البشر جل وعلا، الذي قال عن نفسه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] الله أكبر! الله يحذر البشر نفسه، ومازال بعض الناس في غيبته وغفلته.
وبعض الناس لا ينتبه، أتعرف متى ينتبه؟! إذا كان ملك الموت عند رأسه، فهنا يتذكر ويقول: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] الآن عرفت ربك؟ الآن عرفت قدر الله عز وجل؟ أليجمع أموالاً؟ ينظر أفلاماً ومسلسلات؟ يتمتع ببيته الجديد؟ أو يعانق زوجته وحبيبته؟ أو يقبل أولاده؟ لا.
نسي الدنيا كلها، ويريد شيئاً واحداً: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(11/7)
إلى الغافل عن عظمة الله
يوماً من الأيام والنبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فإذا به يقول لهم: (تسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا يا رسول الله) واسمعوا هذا الحديث، وأريد كل واحدٍ منكم أن يتصوره، قال: (أطت السماء) والأطيط: هو صوت الحمل على الناقة إذا كان ثقيلاً ومشت الناقة يظهر له صوت، بعضكم لعله سمع أو يتخيل هذا الصوت، وأي حمل على السماء؟ (أطت السماء وحق لها أن تئط) ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ السماء العظيمة فيها حمل ثقيل، أتعرف ما الذي فيها؟ (ما من موضع شبرٍ إلا وفيه ملك ساجدٌ أو راكع) الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! (ما من موضع شبرٍ إلا وفيه ملك ساجد أو راكع).
هؤلاء الملائكة الذين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] إذا بعثوا يوم القيامة تعرف ماذا يقولون؟
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! لا يعصون الله، حياتهم عبادة، وركوع وسجود وتنفيذ لأوامر الله، لا يعصون الله ما أمرهم، يسبحون الله ولا يفترون، ثم ما عبدناك حق عبادتك، تعرف لماذا؟ تعرف لِمَ؟
لأن تقديرهم لله أعظم من تقديرنا لله، بعضنا يَمنُّ على الله أنه صلى خمس صلوات في المسجد، ماذا تعني خمس صلوات؟! لا شيء، كانت خمسين فجعلها الله خمساً، وهي خمس في العمل خمسون في الميزان، ومع هذا يَمنُّ على الله أنه صلاها في اليوم والليلة، يَمنُّ على الله إذا حج بيت الله، يَمنُّ على الله إذا صام الإثنين والخميس: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
أرأيت أو أسمعت بوصف أفضل الملائكة جبريل؟ جبريل له ستمائة جناح؛ كل جناح يغطي الأفق كله، فتخيل، وتصور!
هذا جبريل صاح صيحة دمر قرية كاملة.
جبريل بطرف جناحه قلب قرية على رأسها.
جبريل هذا المخلوق العظيم رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج في السماء السابعة كالحلس البالي، كالثوب الخلق، تعرف لِمَ؟ لأن جبريل قد اقترب من الله فزاد خوفاً وهلعاً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67].
أرأيت السماوات السبع العظيمة؟ يطويها الرب جل وعلا كطي السجل للكتب: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] الله، {ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] الله {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15] يوم القيامة {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر:16] كل الناس حفاة عراة، ويقبض الرب عز وجل الأرض بيمينه والسماوات بيده الأخرى وكلتا يديه يمين، فيقول للخليقة كلها: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ من يرد عليه، من يجرأ أن يرد على الله في ذلك اليوم؟
أين ملوك الأرض؟ أين السلاطين؟ أين المتجبرون على أمر الله؟ على شرع الله؟ على دين الله؟ أين المتكبرون عن السجود لله عز وجل؟
{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].(11/8)
نماذج للغافلين
شرف لك -يا عبد الله- أنك تطبق أوامر الله، وتسجد لله، كم من الناس في الدنيا اليوم محروم عن السجود لله؟ كم من الناس اليوم لا يعرف ربه؟ ولا يعرف ملة يهتدي بها في هذه الدنيا؟ أسمعت إلى ذلك الشاعر الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ثم أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
لست أدري لست أدري
شئت هذا أم أبيت
لست أدري
نعم هو لا يدري من أين جاء؟ ولا يدري إلى أين المصير؟ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان:1 - 2] من الذي خلقه؟ الله.
أرأيت إلى العالم المتحضر: رجل حصل على شهادة فوق الدكتوراه، ولعله بروفيسور ولعل عنده من علوم الدنيا ما عنده؛ لكنه يسجد لبقرة، أو يدعي أنه لا إله في الأرض، أو يعبد شهوته وهواه سبحان الله!(11/9)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] في يوم القيامة عندما يجمع الله الأولين والآخرين، يأتي الناس إلى أبي البشر ليشفع لهم فيقولون له: أنت أبونا، وأنت أول من خلقك الله اشفع لنا عند ربك، ماذا يقول آدم؟ ماذا يقول نوح؟ ماذا يقول إبراهيم؟ ماذا يقول موسى؟ ماذا يقول عيسى؟ أتعرف ماذا يقولون؟
كلهم يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، اذهبوا إلى إبراهيم، اذهبوا إلى موسى، اذهبوا إلى عيسى، اذهبوا إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، هل يقول اذهبوا إلى غيري؟
تقف الشفاعة عنده، فإذا به يقول -بأبي هو وأمي-: أنا لها أنا لها أنا لها فيذهب إلى ربه جل وعلا فيخر ساجداً بين يديه، ولا يحق لأحد أن يقوم هذا المقام إلا هو، فيخر ساجداً ويلهمه الله عز وجل تسابيح وتحاميد ما كان يقولها في الدنيا، ثم يقول الله عز وجل لحبيبه ولخليله محمدٍ عليه الصلاة والسلام: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تُعط واشفع تشفع) تظنه ماذا يقول؟ هل يطلب النجاة لنفسه؟ هل يطلب النجاة لأولاده وأحبابه فقط؟ يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي).
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:1 - 2] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) أسمعت بهذا الحديث؟ الله يكلمك ويكلم كل الناس، بعض الناس لقلة إيمانه وضعف يقينه يقول الله يكلم كل البشر؟ نعم، أليس الرب جل وعلا الآن يسمعنا جميعاً؟ لو كل واحد في الأرض دعا ربه لسمعه الله، بل كل واحدٍ في الصلاة في مشارق الأرض ومغاربها إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يرد الله عليه فيقول: حمدني عبدي، الرب جل وعلا عظيم.
فإذا بالرب جل وعلا يكلمك (ما منكم من أحد ألا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) لا توجد واسطة، (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم) هل قدم قيام الليل؟ هل قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل قدم صيام النافلة؟ هل قدم الصدقات والزكاة؟ هل قدم الدعاء والذكر؟ أم ماذا قدم؟ هل قدم النوم عن الصلاة؟ هل قدم النظر إلى النساء والخلوة بهن؟ هل قدم استماع الأغاني والطرب؟ كل شيء فعله في الدنيا يراه، قال الله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:4].
لا تنظر إلى صغر المعصية، لا تقل صغيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، الواحد منا اليوم إذا كان في مجمعٍ من الناس يستحي أن يعصي ربه، أمام والده يستحي أن يرتكب بعض المنكرات، أمام إخوانه، أمام شيخ المسجد، أمام بعض الصالحين يستحي من بعض المعاصي، لكن إذا لم يكن أحدٌ يراه لا يستحي من الله جل وعلا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:1] ألا يعلم هذا الرجل وهذا العاصي بتلك العاصية أن الله عز وجل مطلع عليه فيها، أن الله يراه.
عمر بن الخطاب يتجول في الصباح الباكر فإذا به يسمع امرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء، قالت البنت الصغيرة: يا أماه! إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد منع الناس من مذق الماء باللبن، فقالت أمها: إن أمير المؤمنين الآن لا يرانا، كل الناس يمذقون فامذقي يا بنية! فقالت البنت المؤمنة: إن كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الله يرى ويسمع.
يا عبد الله: هل فكرت أن ترجع إلى الله؟ يا من تتوجه بيديك وقلبك إلى البشر، هلا توجهت إلى الله؟ هلا كنت صادقاً في توجهك إلى الله؟(11/10)
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
رجل تاجر كان يوصل براحلته من مكان إلى آخر، فإذا به -اسمع ما الذي حدث- يركب على راحلته رجل، وقال له: أوصلني، قال: إلى أين؟ قال: أوصلني إلى بلد الفلاني، قال: أوصلك، يقول: وأثناء الطريق دخلنا وادٍ مظلم، ورأيت جماجم الناس متناثرة، يقول: فخفت، وعلمت أن في الأمر شيئاً، يقول: فقال لي: انزل عن البغلة، قال: ماذا تريد؟ قال: فأشهر سكيناً قال: أريد قتلك، يقول: فهربت منه، يقول: فتبعني حتى قبض عليّ، ثم قلت له: يا فلان خذ البغلة وما عليها واتركني أعيش، قال: أما المال والبغلة فهي لي، أما أنا فأريد قتلك، قال: فإن كان ولابد فدعني أصلي ركعتين قبل أن تقتلني، قال: لك ذلك، ولكن أوجز فيهما.
يقول: فكبرت للصلاة، ومن شدة الخوف نسيت القرآن كله، ولم أتذكر إلا آية واحدة، أي آية؟ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:6] يقول: وما إن انتهيت من الصلاة إلا وجاء فارس من قلب الوادي قد أشهر رمحه يقول: فلما اقترب ضرب الرجل في قلبه فلم يخطئه فخر صريعا، فقلت: سبحان الله! من أنت؟ فقال لي: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه، الله أكبر!
الله أكبر بكرة وأصيلا وله الثناء مرتلاً وجميلا
الله أكبر كلما هتفت به مهج العباد وسبحته طويلا
الله أكبر ما تطوف محرم بالبيت أو لبى له تبتيلا
الله أكبر في السماوات العلى والأرض حيث تجاوبت تهليلا
الله أكبر! الله أكبر! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67].
أخي العزيز: أختي الفاضلة! أتعرف أن الرب العظيم الجليل الكبير المتعال يحب عبده إذا رجع إليه؟ أتعلم أن الله العظيم يفرح إذا أقبل عبده إليه تائباً؟ لو أمضى سنوات من حياته في المعاصي، وأسرف على نفسه بالذنوب، وأكثر من الذنوب والمعاصي، ثم أراد أن يرجع إلى الله قبله الله، وأحبه، وفرح به {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]؟
من أنا حتى يحبني الله؟ من أنا حتى يفرح الله عز وجل بي؟ أنا الذي أذنبت وأسرفت وأكثرت من المعاصي والذنوب، ولطالما عصيت الله، والآن يحبني الله؟ نعم.
لو رجعت وتبت وندمت على ما مضى فإن الله عز وجل يحبك.
رجل من بني إسرائيل عَبَدَ الله أربعين سنة؛ ثم انتكس فعصى ربه أربعين عاماً، ثم بعد أربعين سنة من المعصية أراد التوبة، فقال وهو يبكي ويدعو: رب عبدتك أربعين عاماً، وعصيتك أربعين عاماً، فهل لي من توبة إن أنا رجعت إليك؟ فإذا به يسمع هاتفاً يقول له: عبدي عبدتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:8] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67].
أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا الحديث وهذا المجلس في موازين أعمالنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/11)
الفتور
يتحمس المرء للدعوة إلى الله بداية أمره، فتراه مندفعاً في كل خير، ثم إذ به بين بكرة وعشية يضعف ويفتر، وقد يصل الأمر إلى الانقلاب إلى الوراء، وهناك أسباب وراء هذا الفتور تحتاج إلى تأمل وعلاج.
هذه الأسباب منها ما هو حقيقي نتج عن قصور الفهم، ومنها ما هو خيالات، أو حيل نفسية ترمي بسهامها عن بعد، فيجب توضيحها وعلاجها.(12/1)
الفتور في الدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الأخ العزيز: أعرني سمعك، فإني سوف أتحدث عن بعض الإخوة، ولعلي أُعنِّف بعض الشيء، ولكن لا بأس فهي كلمات من أخٍ إلى أخ؛ فليتحملها الإخوة إن شاء الله.
هي قصة رجل التزم فبدأ يدعو إلى الله، كان يوماً من الأيام ينصح إخوانه وجيرانه، وأهله، وزوجته، وأبناءه.
كان يوماً من الأيام إذا مرَّ في الشارع فرأى منكراً توقف فنصح.
هي ذكريات مضت، أما الآن فيجلس في مجلس ويستمع فيه إلى المنكرات، ويتلذذ بها ولا يتغير، بل إن لم يكن يفعلها هو، تغيَّر الحال، وتبدلت الصورة.
كان يوماً من الأيام يقوم في المسجد يتكلم في الناس وينصح.
تذكر معي أخي في الله: يوماً من الأيام كنت تجمع الناس إلى المسجد، كنت إذا ذهبت إلى الصلاة طرقت الأبواب، تذكر عندما أعطيت فلاناً شريطاً وقلت له: استمع إليه، لعلَّ الله أن ينفعك به.
تذكر عندما كنت تجتهد في الدعوة إلى الله، وتنصح، وتذكر، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فما الذي جرى؟!
أنا أتكلم عن ذلك الشخص الذي بدأ الفتور يدب إليه ويحسب أنه على خير، إذا نظر في المرآة فالصورة لم تتغير، واللحية لا زالت طويلة، والإزار ما زال قصيراً، -والحمد لله- ما زال يصلي، والمسكين لا يشعر أنه قد فتر في الدعوة إلى الله، بدأ يتهرب من جميع المسئوليات، بل إن وكِّلتْ إليه مسئولية في الدعوة إلى الله تهرب منها وتنصَّل، وتركها إلى غيره يقول الله عز وجل عن همِّ الدعوة وذلك الرجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] أتعرف ما هي الأمانة؟ إنها أمانة هذا الدين.(12/2)
استمراء المنكرات
أخي في الله: مالك بدأت تستمع إلى المنكرات؟! تمرُّ في السوق فتكلمها وتكلمك نعوذ بالله! ألم تكن في يوم من الأيام تقول لها: احتجبي، استتري بارك الله فيكِ؟ أما الآن فتغير الحال، بدأت أنت الذي تكلمها، بدأت أنت الذي تختلي بها، ما الذي جرى؟!
إن جلستُ معك أرى حديثك قد تغير، بدأت تتكلم في الدنيا، كنت يوماً من الأيام لا همَّ لك إلا الدعوة، كان حديثك: المسلمون في بلاد كذا، المسلمون يُقتلون، الناس في ضلال، الناس في ضياع، كان هذا حديثك في السابق، أما اليوم فلا أراك تتكلم إلا عن الصفق في الأسواق، وعن أخبار المباريات، وعن أسعار العملات، وعن التجارة، وعن البيع، وعن الشراء، وعن الدنيا، وكأنك لم تسمع أو تناسيت قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38] إذا قيل لك: تعال معنا ندعو إلى الله، قلت: عندي الآن الزوجة، والأولاد، والبيت، والسيارة، والأثاث، والمزرعة، وغيرها من الأعذار!
نناديك أن تدعو إلى الله؛ فتعرض {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] تغير حديثك، بدأت تتكلم، لكنَّ العمل لا أثر له، وتحسن الجدل، والكلام، إن جلست في مجلس وكأنك أكبر الدعاة وكأنك أفضل المجاهدين، لكن لا نراك بعد هذا المجلس تفعل شيئاً، نرى الكلام تحسنه أما العمل فلا تتقنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] بل وصل بك الأمر إلى الجدل فأصبحت لا تتقن إلا الجدل، تجادل في كل أمر، وتنتقد كل شخص، وكأنك المبرأ من العيوب، وكأنك الذي يُسأل ولا يسأل.(12/3)
احذر الرجوع إلى الوراء
نراك قد انقطعت غيرتك؛ فلا تنكر منكرا، بل إن جلست في مجلس أُدير فيه المنكر واستُمِعَ فيه إلى الحرام ضحكت وابتسمت، وقلت: سيقوم بهذا الأمر غيري، أو لا فائدة، أو غيرها من الأعذار.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
نعم.
القلب بدأ يموت، حتى أصبح لا يتأثر بالجروح، نراك كلما ناديناك إلى الدعوة، إلى عمل أو مشروع خيري: يا فلان، شارك معنا، ضع يدك في أيدينا، نحتاج إليك.
تقول: أنا مشغول! تخدع نفسك، لا تخدع غيرها! تتظاهر بالشغل وإن فتشت في نفسك فلا ترى إلا ضياع الوقت في النوم والأكل واللعب والسفر في المباحات، وفي أمور الدنيا ضاع وقتك، وضاع عمرك {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
إن دخلت في عملٍ في الدعوة إلى الله تغيرت، وأصبحت لا تعرف إلا الفوضى، تأتي يوماً وتتركنا أياماً، وتظن أنك على خير إن بدأت في عمل لا تلبث أن تتركه إلى غيره، أصبحت لا تعرف إلا الفوضى في الدعوة إلى الله وكأن الأمر لعب وضحك ألا تذكر آخر آية كنت تحفظها؟ لا أدري هل نسيتها أم تناسيتها؟ في آخر سورة الصف التي بدأها الله بالقتال وختمها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] سل نفسك وحاسبها من صباحك إلى ليلك: هل أنت من أنصار الله؟ أم أنت من الذين لا همَّ لهم في الدنيا إلا المباح؟ ما الفرق بينك وبين جارك؟ ما الفرق بينك وبين فلان الذي كنت تنكر عليه؟ كنت يوماً من الأيام ترأف لحاله، فما الفرق اليوم بينك وبينه؟
أصبح الظاهر: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا} [المنافقون:4] إن جلس في مجلس {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] لكنَّ الحقيقة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
اسمح لي -أيها الأخ العزيز- فلعلي قد عنفت عليك بعض الشيء، ولكن سماعها مني أفضل من سماعها من غيري.(12/4)
أسباب الفتور
سوف أتطرق إلى بعض الأسباب، فلعل ما عندك يكون منها أو من غيرها، فاسمع وصارح نفسك.
واعلم أن الله عز وجل يقول: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] كل منا يحاسب نفسه.(12/5)
عدم الإخلاص لله تعالى
لعل السبب: أنك كنت تدعو إلى الله، فدخل في قلبك شيء لغير الله.
لعلك يوماً من الأيام أردت أن يشير الناس إليك بالبنان، أو أردت أن تحصل على المناصب، أو أردت أن تدعو لكن دخل في قلبك شيءٌ لغير الله، إنه الرياء، وما أدراك ما الرياء!
من الذي يتعثر في الدعوة إلى الله؟ إنما يتعثر من لم يخلص عمله لله، وإلا فالدين ما زال بحاجة إلى رجال، والدعوة ما زالت بحاجة إلى دعاة، الدين لا زال يضربه ويشتمه ويسبه كثيرٌ من الناس ما الذي جرى؟ لعلك لم تكن مخلصاً لله، أو أخلصت ودخل في قلبك شيء، لعلها الدنيا: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) ألم تعلم أن رسولك -هو خير الناس على وجه الأرض- مات ولم يخلِّف إلا بغلة وبعض الدراهم، ودرعاً مرهونة عند يهودي، كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال ولا يوقد في بيته شيء، ويأتي عائشة في الصباح.
فيقول لها: (هل عندكم طعام فتقول: لا) بيت أفضل الخلق ليس فيه طعام! وأنت لا هم لك في اليوم والليلة إلا أن تجمع الطعام والأموال، والرصيد، والسيارة ليست كسيارة فلان، والسفر إلى الخارج، وغيرها من الترهات والتفاهات.
يأتيها ويقول لها: (هل عندكم طعام؟ فتقول: لا.
فيقول: فإني صائم) الله أكبر!
ويربط عمر بن الخطاب بطنه وهي تقرقر ويقول لها: [قرقري أو لا تقرقري فوالله لن أشبع حتى يشبع عيال المسلمين].
ألم تتذكر قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد:20]؟
ألم تعلم أن أبا أيوب الأنصاري يقول: [جاهدنا مع رسول الله، فقلنا بيننا وبين أنفسنا: إن أموالنا قد ضاعت -ضيعوا المزارع والبيوت من أجل الجهاد في سبيل الله- لو أنَّا التفتنا إلى أموالنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما بها- لقد جاهدوا مع رسول الله، ولكن أرادوا أن يصلحوا بعض ما هلك من أموالهم- فأنزل الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ويروى عن أبي أيوب أنه ما زال بعد هذه الآية يغزو في سبيل الله حتى قبضه الله].(12/6)
الانشغال بالأهل والمال
لعلك تعتذر بزوجتك وكأنك أول من تزوج، ألم تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من امرأة واحدة؟
تعتذر بأولادك وكأنك الوحيد الذي أنجب الأولاد وملك الأموال وأثث البيوت ألم تعلم أن المنافقين عندما كان يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد كانوا يقولون: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11]؟ كانوا يتعذرون بالأزواج، وبالأولاد، وبالبيوت {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13].
نعم، لأهلك عليك حق، ولنفسك عليك حق، ولزوجك عليك حق، ولربك عليك حق، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه.
كم تقضي وقتاً مع أهلك؟ وكم تقضي في الدعوة إلى الله؟ حاسب نفسك وكن منصفاً، وعادلاً.
أما تذكرت قصة حنظلة؟ أظنك سمعتها مراراً كلاماً يقال، لكنها في الحياة بلا تطبيق حنظلة ذلك الصحابي الجليل في ليلة عرسه وزواجه يجامع زوجته، ويسمع منادي الجهاد: يا خيل الله! اركبي.
فينتفض من عند زوجته، ويقوم ليجاهد في سبيل الله فيقتل، فتغسله الملائكة!! أتذكر تلك القصة أم أنك نسيتها؟
ألا تعرف قصة صهيب الرومي الذي خرج من مكة، وترك أمواله، وترك كل ما كان يتعب في الحياة الدنيا من أجله، مَنَعه المشركون فقال: ماذا تريدون؟ خذوا أموالي فهي في مكان كذا وكذا، واتركوني أهاجر إلى الله ورسوله.
وهاجر وحيداً فريداً، ترك كل أمواله، فإذا به يقدم المدينة فينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبشراً فيقول له: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!).
يقول لك إخوانك: نريد منك بعض المال للدعوة إلى الله، فتقول: لا أستطيع عندي سيارة، وعندي بيت، وعندي أثاث، وعندي القسيمة، وعندي وعندي(12/7)
الصحبة والذنوب والمعاصي
لا أدري ما هو السبب الذي غيرك بهذه الصورة؛ حتى أصبحت تظن أن المجالس لشرب الشاي والقهوة من دون الدعوة إلى الله؟ أصبحت تظن أنَّ هذا المجلس تستمع فيه إلى درس ثم ترجع فيه إلى البيت فتصبح به داعياً إلى الله؟ مسكين إن ظننت هذا الظن!
لا أدري ما السبب الذي أوصلك إلى هذه الحال؟ لعلها صُحْبَتُك لذوي إرادات ضعيفة، وهمم دنيئة، لعلك كنت تصاحب أناساً لا هم لهم إلا التجارة، والمال، والسفر، والبيوت، والعقارات، كنت تخالطهم حتى أصبحت مثلهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله) وقل لي من تجالس أخبرك من أنت.
لعل السبب هو الذنوب والمعاصي، فانظر إلى نفسك، وحاسبها، وتذكر: يوماً من الأيام قمت لصلاة الفجر، واستمعت إلى الأذان، فرجعت ونمت، لعله السبب الذي به خذلك الله عن الدعوة إليه.
استمع إلى ما قاله ابن القيم رحمه الله، يقول: ومن عقوباتها -أي: المعاصي- أنها تضعف سير القلب إلى الله وإلى الدار الآخرة.
تضعف السير، لا تجعلك تسير، ولا تتقدم في الدعوة إلى الله أو تعوقك وتوقفك وتعطلك عن السير، فلا تجعلك تخطو إلى الله خطوة، حتى لا تستطيع أن تنصح نصيحة واحدة بسبب الذنوب والمعاصي.
أتذكُر تلك الليلة عندما أغلقت على نفسك الباب ففعلت فعلتك التي فعلت؟ أتذكر ذلك اليوم عندما فتحت الجريدة فنظرت إليها؟ ومسكين أنت تظن أنه لا يراك أحد {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
يقول ابن القيم متمماً كلامه: هذا إن لم ترده عن وجهته إلى الوراء.
أي: الذنوب والمعاصي {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] ثبطهم الله عندما علم ما في قلوبهم من الذنوب والمعاصي، ولعلها هي التي أقعدتك بعض الشيء.(12/8)
عدم وضوح الهدف
لعلَّ من الأسباب: عدم وضوح الهدف لعلك كنت تلتزم مع إخوانك الصالحين، وتدعو إلى الله، لكن لم تعرف ما هو هدفك في الحياة، إلى متى تدعو إلى الله، ولماذا تحضر هذه الديوانية، وهذه المجالس، وهذه الدروس، وتحفظ القرآن، لماذا كل هذا؟ يقول: لا أدري إلى أين المصير؟ لا أعرف.
استمع إلى هذه القصة: إنها قصة لـ عمر بن عتبة أحد السلف الصالح:
خرج مع أصحابٍ له، يقول ابن عمه فنزلنا في مَرج حسن؛ أرض خضراء لو نزلت فيها لتمنيت أن تنزل مع أهلك أو أصحابك لتلعبوا فيها قال: فنظرت إليه، فقال: ما أحسن هذا المرج! لو نادى منادٍ: يا خيل الله! اركبي فيكون رجل في أول الصف فيصاب فيقتل فيدفن في هذه الأرض.
فما هي إلا لحظات، فإذا منادٍ ينادي: يا خيل الله! اركبي -انظر إلى الأمنية وكيف حققها الله له- يقول: فالتحم الصفان، فقيل لأبيه أبي عمر: القصة والخبر، فقال لهم: إليَّ بـ عمر أحضروه.
فهو يعرف أنه لا يتمنى شيئاً إلا ويحققه الله له، يقول: فبحثنا عنه فإذا هو مصاب، فما دفن إلا في مركب رمحه، في تلك الأرض هذا هو همه، وهذه هي أمنيته، لو سألته: ماذا تريد في الحياة؟ لقال: أن ينصر الله دينه، سوف أدعو إلى الله إلى آخر رمق، وأجاهد في سبيل الله، وأنفق جميع أموالي في سبيل الله، حتى ينصر الله دينه:
عش عزيزاً ومت وأنت كريمٌ بين طعن القنا وخفق البنود(12/9)
عدم الصبر على المعوقات والمصائب
ومن الأسباب: معوقات ومصائب ما تحملتها؛ فجلست وركنت، وجلست في مثل هذه المجالس تقول: للدعوة رجال، أما نحن فلسنا من أهلها.
ولعل السبب أنك أصبت بمالك، فخسرت بعض الشيء في الدنيا الناس قد حصلوا على العمارات والعقارات، وحصلوا الأثاث والبيوت، أما أنت فجلست تنظر إلى حالك فرحمتها، فقلت: الدنيا الدنيا، ليس لي مكان بين هؤلاء الناس، لا أستطيع الدعوة إلى الله.
لعله قد استهزأ بك رجل، أو ضحك عليك أقوام، فقلت: لا أستطيع أن أتحمل، فتقاعست عن الدعوة إلى الله.
ألم تعلم أن أصحاب نبيك كانوا يسحبون على الشوك في الشمس، وتوضع الصخور على صدر أحدهم وهو يقول: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد.
يقول ابن عباس: حتى إن أحدهم لا يستطيع الجلوس من العذاب، ومن الضرب، حتى إنَّ الكافر ليمر عليه فيقول له: هذا إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، هذا إلهي من دون الله، يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
ألم تسمع بقصة ذلك الصحابي الذي نظر إلى أمه تطعن في فرجها برمحٍ حتى أزهقت روحها، وهو صابر محتسب، يمر عليهم عليه الصلاة والسلام فيقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
ألم يخنق حبيبك صلى الله عليه وسلم؟ خنقه عقبة بن أبي معيط فما فكه إلا أبو بكر ألم يوضع على ظهره سلى الجزور فما رفعه عن ظهره إلا ابنته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها.
ألم تسمع بـ أبي ذر حينما قام للناس وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فضُرِب حتى سال منه الدم، فما فكه عنهم إلا أحد المشركين، ثم يقوم في اليوم الثاني فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيُضرب حتى يدمى.
ثم هكذا في اليوم الثالث.
ألم تُكسر رباعية نبيك عليه الصلاة والسلام؟ ألم يُشج وجهه؟ ألم يُطعن في عرضه؟ ألم تدمى أصبعه؟ ألم يسقط في حفرة حتى كاد أن يُقتل؟ ألم يحصل له كل هذا؟
ألم تسمع بقصة ماشطة بنت فرعون، والحديث وإن كان في إسناده شيء إلا أنه يتقوى ببعض الطرق (مرَّ عليه الصلاة والسلام برائحة طيبة، فقال لجبريل: ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون قال: وما خبرها؟ قال: كانت تمشط ابنة فرعون فسقطت المدرة من يدها -المشط- فأخذتها وقالت: باسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربُ أبيك الله رب العالمين، قالت: أُخبر أبي.
قالت: أخبريه.
فأخبرت فرعون -الذي طغى، وتجبّر، وقتل الرجال، وسفك الدماء- فناداها فقال لها: أولك ربٌ غيري؟ قالت بصبر وصمود وثبات: ربي وربك الله رب العالمين -وهي تعرف أنه ليس وراءها إلا الموت- فقال: ائتوا بأولادها، فأتوا بأولادها الصغار، فبدأ يحرق أولادها واحداً تلو الآخر أمام عينها، فقالت له: لي إليك حاجة.
فظن أنها سوف ترتد عن عقيدتها، فقال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أبنائي في ثوبٍ وتدفننا جميعاً.
قال: ذلك لكِ من الحق علينا.
حتى انتهى إلى رضيعٍ كانت تحمله، فأرادت أن ترمي بنفسها في الزيت الذي يغلي، فكأنها تقاعست ليس لأجلها ولكن لأجل رضيعها، فأنطق الله ذلك الرضيع في المهد -وقال ابن عباس: إن الله أنطق أربعة منهم هذا- فأنطق الله ذلك الرضيع فقال: يا أماه! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فرمت بنفسها ورضيعها).
ألم تسمع بتلك القصص أم أنك نسيتها؟! {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] أما أنت فماذا مسك؟ وماذا أصابك؟ كلمات سمعتها من فلان، أم أنه مرضٌ أصابك، أم أن الوظيفة قد فقدتها، أم أنه بعض الدنانير قد خسرتها ماذا أصابك؟ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] هل هذا هو السبب الذي أوصلك إلى هذا الحال؟ ألا تتحمل المصائب؟ أم أنك لا تحتمل كلام الناس؟ أم أنها ثقلت عليك الهموم والغموم؟ مسكين إن كانت هذه حجتك!(12/10)
عدم الشعور بالتحدي
ومن الأسباب: أنك لم تشعر بأن أعداء الله قد تكالبوا علينا وعلى الدعاة ألم تعلم أن الدعاة يسجنون، ويضربون، ويهانون؟! ألم تعلم -يا عبد الله- أن دعاة الباطل في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يفعلون، وفي الجرائد يكتبون، وفي الإعلام يتكلمون، وفي كل مكان يعملون صباحَ مساءَ سراً وجهار؟
أما معاشر الدعاة إلى الله فما يعمل أحد معم فترة إلا ويترك أخرى.
ألا تشعر بالتحدي؟ ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
ألا تشعر أننا في صراع، وفي حرب دائمة؟ لِمَ تركت إخوانك؟ ولِمَ تقاعست؟ ولِمَ جلست تنظر إلى المعركة من ينتصر فيها؟ ألم تعلم أن رسولك قد قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)؟ إن بعض من يتسمون بالإسلام في هذه الأيام هم أول من يحاربون الإسلام ألم تسمع بشيوخ تقتَّل؟ وبأطفال ييتموا؟ وبنساء ترمل؟ ألم تسمع أنَّ أخواتك في الله تهتك أعراضهن بالألوف ولا يستطعن حولاً، ولا دفعاً، وليس لهنَّ نصيراً؟ وليس لهم ذنب {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] في غياهب السجون يعذبون، الواحد منهم يهتك عرض أخته أمام عينيه ولا يستطيع أن يتحرك، وأنت جالسٌ في النعيم تشرب الشاي والقهوة، وتضحك حتى تبدو نواجذك، وإذا قيل لك: يا فلان تعال معنا اعمل معنا ادع إلى الله انصح جيرانك انصح أهلك، تقول: لا أستطيع لست لها، لست لها!(12/11)
عدم العمل بما ندعو إليه
ولعل من الأسباب: أنك في البداية كنت تدعو الناس ونسيت نفسك، كنت مقصراً في الطاعات، ولا نراك في صلاة الفجر، ولا نراك تقرأ القرآن في المسجد منذ متى جلست بعد الفجر إلى الشروق تقرأ القرآن وتذكر الله؟ متى تصوم الإثنين والخميس؟ أو تصوم صوم التطوع؟ لعلك كنت قد قصرت في هذا؟
ألم تسمع بـ عبد الله بن المبارك؛ كان من المجاهدين في سبيل الله، فإذا جاء الليل ورأى الناس قد ناموا قام يصلي لله تعالى، وكان إذا صلى العصر يجلس في المسجد يذكر الله وكأنه لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، يذكر الله حتى غروب الشمس فكان في النهار مجاهداً، وفي الليل عابداً زاهداً راهباً.
ألم تسمع بـ سفيان الثوري الذي كان إذا أصبح رفع رجليه على الحائط حتى يعود الدم إلى رأسه من قيام الليل! وكان في النهار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصارع الطغاة، ويجاهد الظالمين، حتى إنه يخفي كراريسه في الأرض خوفاً عليها، وإذا درَّس تلاميذه فيدرسهم في الخفاء؛ حتى لا يراه أحد، وإذا جاء الليل يضع يده اليمنى على خده اليمنى فيجلس من أول الليل إلى الفجر على هذه الحال يتفكر في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، فيسأله صاحبه: أكنت على هذه الحال من أول الليل؟ قال: إي والله، ما تركتني حتى أذن الفجر وأنا على هذه الحال، أفكر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
ولعلَّ السبب أنك لم تحافظ على الأذكار، ولم تقرأ القرآن، ولم تجلس مع نفسك وتحاسبها.(12/12)
اليأس من نصر الله
ولعل السبب أنك قد يئست من نصر الله، جلست سنوات تدعو إلى الله ثم نظرت يمنة ويسرة فإذا الدين يهان، وإذا أهل الدين مهانون، وإذا الدعوة إلى الله اضمحلت، ولعلها قَلَّتْ، فقلت: لا نستطيع أن نفعل شيئاً، فجلست في البيت وقد يئست من نصر الله ألم تسمع قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] ألم تسمع قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]؟
جاء في صحيح مسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) فما بالك! أيئست من نصر الله؟
يأتي خباب فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيفرق فرقتين، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط ما دون لحمه وعظمه لا يرده ذلك عن دينه شيئاً، ولكنكم قوم تستعجلون) دعوت إلى الله عشر سنوات، ثم نظرت فإذا الدولة ضدك فقلت: لا فائدة، فضربت كفاً على كف وجلست في البيت! نوح عليه السلام يدعو تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، كان يدعو إلى الله بدون توقف، ولولا أن الله قال له: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] لاستمر في الدعوة إلى الله.(12/13)
الخلاف مع الإخوان
لعل السبب كان خلافاً بينك وبين إخوانك على بعض الأمور، فتركتهم واعتزلتهم، ثم جلست في البيت وقلت: هؤلاء لا يصلحون للدعوة إلى الله.
وإذا كانوا لا يصلحون فأنت لا تصلح أيضاً؟ ما بالك جلست؟
ألا تستطيع أن تنفق شيئاً من جيبك وتشتري بعض الأشرطة وتوزعها للناس؟! ألا تستطيع أن تشتري بعض الكتب وتوقفها للمسلمين؟ ما بالك لا تطرق الباب على جيرانك وتدعوهم إلى الصلاة؟ هل إخوانك هم السبب؟
يقول يونس الثقفي: ما أعقل الشافعي! يقول: ناظرته يوماً فاختلفنا في المسألة فافترقنا وكم من الإخوان يختلفون في مسائل فيفترقون -نسأل الله العافية- يقول: فافترقنا، فلقيني يوماً -انظر إلى فقه الشافعي - فلقيني يوماً فأخذ بيدي فقال لي: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً ولو لم نتفق في مسألة؟
لنختلف في جميع المسائل لكن القلوب تبقى صافية، وتبقى الألفة، ويبقى التعاون على البر والتقوى، وتبقى الأخوة وإن اختلفنا في بعض المسائل فقههم يختلف عن فقهنا، وقلوبهم تختلف عن قلوبنا.(12/14)
النظر إلى من هم أقل منه منزلة
لعل السبب أنك تنظر إلى من هو دونك، تنظر إلى كبار طلبة العلم وأهل الشهادات وخريجي الجامعات يجلسون في البيت ولا همَّ لهم إلا كيف يُصلِح بيته وكيف يُصلِح سيارته وكيف يجلس ويشرب الشاي والقهوة واليوم العشاء عند فلان، وغداً عند فلان، واليوم النزهة إلى المكان الفلاني، والسفر إلى المكان الفلاني، وكنت تقول: هذا فلان قد تخرج من جامعة شرعية، وحصل على أعلى الشهادات، وهو خطيب في المسجد وهذه حاله، فأنا أفضل منه، لأنني قد نصحت زوجتي وأبنائي.
سبحان الله! تنظر إلى من هو دونك!
أسألك -أخي العزيز- أن تحاسب نفسك، وتعرف السبب، ثم تعالجها، وتسمع قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
أسمعت بقصة حبيب بن زيد؟ يروى أنه أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة -انظر إلى خدمة هذا الدين، وإلى التضحية في سبيل الله، وأنت ماذا فعلت حتى تكون في صفهم؟ - أرسله إلى مسيلمة، فأعطاه رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب مسيلمة وقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أتشهد أني رسول الله؟ فرد عليه حبيب مستهزئاً: إنّ في أذني صمماً، فربطه وأراد أن يعذبه، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله.
قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إنَّ في أذني صمماً، يستهزئ به، فقال للجلاد: اقطع منه جزءاً، فقطع منه طرفاً من جسده فتدحرج، والدم يسيل منه، وقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، فلم يزل الجلاد يقطِّعه قطعةً قطعة حتى صار قطعاً على الأرض منثورة، وهو يلفظ آخر أنفاسه ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله.
أخي العزيز: ماذا قدمت لهذا الدين؟ سمعت الخبر فماذا سيكون دورك؟ أتسمع الخبر وتقول: لهذا اليوم أعددته، وعند الله أحتسبته! نقول هذا لنسائنا وزوجاتنا، نقول لهنَّ تلك القصة، أين أنتنَّ من أم حبيب؟ ثم إنَّ أم حبيب تقول: بايع حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيراً ووفى اليوم كبيراً.
أسمعت بقصة عباد بن بشر رضي الله عنه، الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حارساً للمسلمين، هو وعمار بن ياسر، يقول عباد بن بشر لـ عمار: أتريد أن تكون أول الليل حارساً أم آخره؟ فقال عمار: أنام أول الليل وأكفيك آخره، فنام عمار، وقام عباد على ثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فرآه أحد المشركين في الليل، فرماه بسهمٍ حتى وقع فيه، فنزعه وأكمل صلاته، والدم يسيل منه.
والآن أنت في موقفٍ في الدعوة إلى الله، أنت على ثغرٍ من ثغور المسلمين، ماذا أصابك؟ ماذا دهاك أخي في الله؟ أصابتك كلمةٌ من أحد إخوانك فتركت الدعوة وأهلها، أصابتك مصيبة، فتركت الدعوة برُمَّتِها ثم يصيبه المشرك بسهم آخر، فينزع السهم ويكمل صلاته، ثم يصيبه بالسهم الثالث، فينزعه ويكمل صلاته، ثم يقطع صلاته ويوقظ عماراً، فيقول عمار: ما لك رحمك الله؟ لِمَ لم توقظني من أول سهم؟ قال: كنت في سورة فما أحببت أن أقطعها، وايمُ الله لولا أني على ثغرٍ أمرني رسول الله أن أحفظه لكان قطع روحي أحب إليَّ من قطع تلك السورة.
هكذا يكون استشعار العمل، هكذا تكون الدعوة إلى الله، أما حالنا -نسأل الله العافية- فلنبك ولنندب أحوالنا.(12/15)
نصيحة للتخلص من الفتور
أنصحك -أخي في الله- أن تتعاهد إيمانك، وتحاسب نفسك، اجلس مع نفسك هذه الليلة ثم سلها: ماذا تقدم لدين الله؟ ماذا قدمت -يا نفس- في الدعوة إلى الله؟ هل أنت من الذين يخادعون أنفسهم، الذين لا همَّ لهم إلا الجلوس والحديث واللغو والكلام، ثم يرجع إلى البيت فينام، وهكذا حياته كلها؟ حاسب نفسك ثم أكثر من العبادات {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ينتبهون فيبصرون، ينفض الغبار عن نفسه، ويرجع إلى إخوانه، ويضع يده في أيديهم، ويقول: أرجع معكم مرة أخرى، ماذا تريدون؟ ماذا تطلبون؟ أموالي للدعوة إلى الله، وقتي للدعوة إلى الله، جسدي للدعوة إلى الله، ماذا يريد الله مني؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فهل بعت نفسك؟ وهل تمت الصفقة؟ ما هو الثمن؟ إن الثمن هو الجنة: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
بعها وتوكل على الله، وسر في طريق الدعوة، ولا تقل: عندي ذنوب ومعاص، فكل الناس يذنبون
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمدِ
كل الناس عصاة ومذنبون، فما بالك تمنعك المعاصي والذنوب، وعليك ألاَّ تجمع ذنباً على ذنب، ولا تجمع معصية إلى معصية، وأدعوك أن تصفِّي قلبك مرة أخرى، ضع يدك في يد إخوانك، وابدأ معهم طريقاً جديداً وصفحةً جديدة، وقل مع إخوانك: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
قيل للبخاري: إن أقواماً يقولون فيك كذا وكذا، فالتفت إليهم وقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] قالوا: ألا تدعو عليهم؟! قال: سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض) إنها قلوب كبيرة، وصدور شُرحت بالإسلام.
وهذا الإمام أحمد يبكي ليلة كاملة، فيقال له في الصباح: ما بالك -رحمك الله- تبكي في الليل؟ قال: مر عليَّ في الدرس قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم الذي كان يأمر بجلدي، فسجدت لله في الليل أبكي أن يحلله الله مني.
الله أكبر! هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟ هل وصلنا إلى هذه السورة؟
قلوبنا -أيها الإخوة- قد دخلت فيها الذنوب، وران عليها الذنوب، حتى أصبح أحدنا لا يتحمل أخاه، ولا يحتمل كلمة.
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في منى يزاحمه رجل فيلتفت إليه فيقول له: إني لأظنك رجل سوء، فيبتسم سالم ويقول: ما عرفني إلا أنت.
نعم والله، الناس يظنوني رجل خير لكنك الوحيد الذي عرفتني.
ويأتي الحسن بن الحسن، ويتكلم على زين العابدين، فذهب إليه في البيت وطرق عليه الباب، فخرج وتعجب! ما باله يأتيه في الليل؟! فقال له: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته عني فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام، وتركه ومضى، فلحقه الحسن بن الحسن، فعانقه وأخذ يبكي ويطلب منه أن يعفو عنه، فقال: لا بأس عفا الله عنك.
حتى رثى لحاله وهو يبكي، وقال: لا والله لا أعود لأمرٍ تكرهه بعد هذا.
ألا نكون مثلهم؟ ألا نأتي إلى إخواننا ونضع أيدينا في أيديهم، ونبدأ معهم مرة أخرى في الدعوة إلى الله؟! أقلَّ القليل أن ندعو إلى الله فيما نتفق عليه، فنحن متفقون أنه يجب علينا أن ندعو الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن ترك الصلاة إلى إقامتها، ومن البدعة إلى السنة، ثم إن اختلفنا ينصح بعضنا بعضاً.
وأنصحك -أخي الحبيب- أن تنظم وقتك مرة أخرى، وتحاسب نفسك: كم ساعة للدعوة إلى الله؟ وكم ساعة لنفسك ولأهلك ولزوجك؟ وتكون عادلاً، وتنصف في توزيع الأوقات، ساعة في الدعوة على الأقل وخمس ساعاتٍ لأهلك ونفسك، فكن عادلاً ولا تظلم نفسك ولا تبخسها حقها.
وأنصحك أن تقرأ سير الأنبياء والصالحين ألم تسمع بنبي أخذ من بين يدي أبيه وأمه صغيراً، ثم رمي في الجب وكاد أن يُقتل، ثم بيع في الأسواق زهيداً رخيصاً عبداً يباع ويشترى، ثم أصبح خادماً في قصر العزيز، ثم تعرض للفتن، ثم ساءت سمعته في الناس وتكلم الناس في عرضه، ثم يُقذف في السجن بضع سنين، فعندما دخل وجد صاحبين في السجن فقال لهم: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] فلو دخلت السجن كن داعية إلى الله، وفي المدارس، والوظائف، في العمل، والسيارة، والبيت، والشارع، والمسجد، وكل مكان كن داعية إلى الله.
ألم تسمع قصة نوحٍ عليه السلام؟!
ألم تسمع قصة ذلك المجاهد الشاب عقبة بن نافع، وكيف كان يدعو إلى الله بسيفه وفرسه، حتى وصل إلى المحيط الأطلسي وعمره خمسٌ وعشرون سنة، فيدخل بفرسه إلى البحر، ويبلل حوافر الفرس، ويرفع سيفه وهو يقول: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً وأرضاً لخضته بفرسي هذا هكذا يكون الجهاد!
ألم تسمع بـ جعفر الطيار الذي حمل راية الدعوة والجهاد بيده اليمنى فقطعت، ثم حملها بيده اليسرى فقطعت، ثم حملها بين عضديه فتكسر الرماح في ظهره وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدةٌ أنسابها
وأنصحك أن تدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفض الغبار عن نفسك، وتقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) تدعو بهذا الدعاء صباح مساء، ليل نهار، ثم تنفض عن نفسك الغبار وترفع يدك إلى الله وتدعو الله عز وجل أن يعينك، وتقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250].
يقول زيد بن ثابت: لقيت سعد بن الربيع في إحدى المعارك وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول لي:: بلِّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَّي السلام، وقل له: إني أجد ريح الجنة.
ثم قال له: قل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف.
ثم فاضت روحه إلى الله.
فلا عذر عند الله، إن يتكلم في الدين ويهان الدين في كل مكان ويستهزأ بسنة سيد المرسلين، وفينا عين يطرف.
أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وجزاكم الله خيراً.(12/16)
الأسئلة(12/17)
معنى: من كانت فترته إلى سنتي فقد نجا
السؤال
قد يحصل للإنسان فتور عن العبادات كما ذكر، فنرجو التوضيح؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة)، وفي رواية: (ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد نجا، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك) وفي رواية: (فقد ضل) فالحديث صحيح، وحسنه بعضهم لكنه صحيح، ومعنى: {من كانت فترته إلى سنة} أي: أنه يظل على الواجبات مثلما قال الشيخ جزاه الله خيراً، أي: فلا يرتكب المحرمات ولا يفرط في الواجبات فهذا قد نجا.
مثاله: رجل فتر حتى أصبح -مثلاً- لا يقوم الليل، أو فتر حتى أصبح لا يصوم الإثنين ولا الخميس، أو فتر حتى أصبح لا يجلس بعد الفجر إلى الشروق، فهذا الفتور إلى السنة، لكن عليه أن يحاول أن يرجع، نسأل الله أن يجدد لكم إيمانكم، وهذه درجات دنيا، لكن المصيبة أن يؤدي الفتور إلى ضلالة، حتى يصبح الرجل كما ذكرنا يجلس في مجلس فيه منكر، فإنه فتور غير محمود، أو يمر في الأسواق ويكلمها وتكلمه ويضاحكها وتضاحكه، ويظن أن هذا الفتور لا بأس به، بل إنه يترك الدعوة إلى الله برمتها، والدعوة واجبة على كل مكلف، بل قال عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية) وهذا الرجل لا هم له في الدعوة إلى الله بتاتاً، ثم يقول: هذا فتور طبيعي! لا، هذا فتور إلى ضلالة.
فجزاه الله خيراً إذ نبه على أن الفتور نوعان: فتور في ترك السنن والمستحبات، وهذا طبيعي، قال بعض السلف: لا بد من الغفلة، لكن لا تطل النوم.
فانتبه، اقرأ القرآن حتى يزداد الإيمان مرة ثانية، لعلك تموت على ضعف الإيمان، تحصل على الدرجات الدنيا، وقد يكون الفتور في ضلالة ونحن ما نشعر، نقول: هذا فتور عادي وطبيعي.(12/18)
حق النفس والأهل على الإنسان
السؤال
نرجو توضيح حديث: (إن لنفسك عليك حقاً الحديث)؟
الجواب
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لجسدك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً) قد تعجب من هذا الشخص كيف كان في الدعوة إلى الله، فإذا رأيت وجدت أهله أول من يحتاج الدعوة إلى الله، ثم إذا كبر أبناؤه فهم يحتاجون إلى تربية، تجد أبناء بعض الدعاة في الشوارع وهو يدعو إلى الله، ناسياً أن أول من يحتاج دعوته أبناؤه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132] ولما هاجت الأمواج كان من أول دعاء نوح عليه السلام هو ابنه {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] وبعض الدعاة إلى الله لو سألت عن حاله، لقيل لك: يمكث في المزارع في الشاليهات، لا يدخل البيت إلا الساعة واحدة في الليل أو الساعة الثانية عشر في الليل، وليس ذلك في الدعوة إلى الله، فإن الدعوة إلى الله لا تكلف ساعة في اليوم، ولكن الأوقات الأخرى تقضى في السوالف والأحاديث والسمرات، وغيرها من الأمور التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وإذا دخل البيت الساعة الثانية عشر في الليل، فقالت زوجته: أين كنت؟ قال: كنت مشغولاً في الدعوة إلى الله.
يا مسكين! لا تخدع نفسك، ليكن أول من تدعو أهلك قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] والنبي صلى الله عليه وسلم دعا خديجة أولاً وأبا بكر، وابن عمه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] بل كان بعض السلف يجلس مع أهله ويدرسهم ويحدثهم، ويذكرهم بالله، وهذه هي الدعوة إلى الله، أما أن يغفل عن بيته ويدعو الناس فلا.
فهذا من الأمور المهمة الخطيرة جداً، فقد أهملت حتى صار بعض الدعاة يؤتون من قبل بيوتهم، لأنه يدعو إلى الله فيلتفت خلفه فإذا أبناؤه في الشوارع، وزوجته قد فعلت وتركت، ثم يأتي وإذا الفضيحة والعار، ثم يترك الدعوة إلى الله ويترك إخوانه الصالحين، بحجة أنه سوف يدرك أهله، ثم لا هو بالذي دعا أهله، ولا هو بالذي صلح بدعوته مع الناس، فعلى الداعية أن ينتبه ويوازن نفسه.(12/19)
أحوال مختلفة لمجالسة أهل السوء
السؤال
هذا يسأل عن حكم بقائه في مؤسسة أو عمل ومعه جلساء سوء يعملون المنكرات؟
الجواب
إذا كان وجودك أصلح من خروجك فاجلس، كأن يكون وجودك سبباً يمنعهم عن منكر أكبر أو تدعوهم إلى شيء أفضل مما هم فيه، مثل الصلاة، أو تحدثهم عن الدين فابق عندهم فإن هذا من مصلحة الدين، أما إذا وجدت نفسك بدأت تتأثر بالجلوس معهم، وأخذت تلعب معهم، وتعشق ما يفعلونه، فاخرج، وفر من المجذوم فرارك من الأسد.
واعلم أن إنكار المنكر على درجات، فقد تنكر المنكر وتجعل مكانه معروفاً وهذا واجب، وقد تنكر المنكر فيأتي منكر أضعف منه وهذا مستحب، وقد تنكر المنكر ويأتي منكر مثله فهذا موضع اجتهاد وقد يكون غير مشروع، قد تنكر المنكر ويأتي منكر أكبر منه وهذا محرم لا يجوز.(12/20)
الكلام على العلماء واتهامهم بالتقصير
السؤال
بعض الإخوة يتكلم على العلماء، ويقدح فيهم بحجة أنهم لا يصدعون بالحق، وأن شرع الله لا يحكم، وأن المنكرات منتشرة جهاراً، وهؤلاء العلماء لا ينصحون المسئولين بزعمه وقد يقول: إنهم منافقون وهكذا، فنرجو التوضيح.
الجواب
جزاك الله خيراً، واعلم أنه لن تصلح أمة لا توقر علماءها وولاة أمرها، والعلماء هم ولاة الأمور، فإذا كان كلام الأمة في علمائها فلن تصلح هذه الأمة، بل هذا الرجل الذي يطعن في العلماء يقول: الناس وصلوا وفعلوا، وهؤلاء لا يزالون يدرسون كتب الفقه والعقيدة، ماذا فعلوا؟ وماذا نصحوا؟
فقل له: أنت لا درست ولا وصلت، أنت لم تفعل فعلهم ولا فعلت فعل غيرهم، بل أنت جالس في البيت، وما يدريك أن الذي ينصح ينصح لله ولا يشتهر في نصحه ليقول للناس: انظروا أنا نصحت، وكما أخبرني كثير من الثقاة أن الشيخ ابن باز ينصح، وما يأتيه رجل من الكبار والصغار إلا وينصحه، كذلك غيره من العلماء ينصحون؛ لكن ليسوا كغيرهم من الذين إذا نصحوا قالوا: يا ناس انظروا فنحن نصحنا وفعلنا.
ثم نسأل: هل الدعوة إلى الله واجب العلماء فقط؟!
نعم قد قال الله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ} [التوبة:122] نعم نعيب على طلبة العلم الذين تخرجوا من الجامعات وجلسوا في البيوت، لكن أقول لمثل هذا: أنت ماذا فعلت؟! تكلم أولاً عن نفسك: (بلغوا عني ولو آية) ألا تحفظ آية؟ ألا تحفظ قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] ألم تحفظ قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] لم لا تأمر الناس بالصلاة؟
جاء بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم سأل عن الشهادتين وبقية أركان الإسلام، ثم ذهب إلى قومه يدعوهم، فأسلمت قبيلته كلها، فهكذا تكون الدعوة، أما أنك تلقي اللوم على غيرك من العلماء وطلبة العلم، فقل لنا: ماذا فعلت؟ وكم آية تحفظ؟ وكم حديث قرأت؟ فهل بلغته؟ إذا كنت الآن تحفظ الحديث ولم تبلغه فكيف إذا حفظت الكثير؟ فسوف تكون كمن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، ينشغل بغيره عن نفسه، وهذه مصيبة وطامة.
وأشير هنا إلى قول الحافظ ابن عساكر رحمه الله: "واعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر بيته) وقال الشاعر:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
كف اللوم عن العلماء والمصلحين والدعاة، أو على الأقل سد المكان الذي يسدونه، فأنت لا تستطيع أن تفعل فعلهم، فما بالك تتكلم عليهم؟!(12/21)
أهمية علم الداعية بما يدعو إليه
السؤال
بعض الإخوة يدعو إلى الله بغير علم، فما توجيهكم؟
الجواب
جزاك الله خيراً، هذه نقطة مهمة، لا تدعو إلا بعلم، صحيح لا تدعو بجهل فتخرج الناس من منكر إلى منكر أكبر منه، فكم من رجل يدعو إلى الله وهو يأمر بالبدعة، يظن أنه يدعو إلى الله وما فعل إلا الشر، ومعنى أن تدعو بعلم أن تعرف أن الصلاة واجبة فهذا علم تدعو إليه، ويكفيك دليل واحد من القرآن أو السنة، تعرف أن الحجاب واجب، وعندك دليل من الكتاب أو من السنة، فاذهب وادع النساء إلى الحجاب، ولكن لا تتكلم بأمر لا تعلم عنه.
وكذلك العلم بحال المدعو وفي الحديث: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) فانظر كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل وذلك لأن لكل قوم سجايا تحتاج إلى مراعاة وفهم.
كيفية الدعوة: دخل رجل المسجد فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت ركعتين؟ قال: لا يا رسول الله! قال: قم فصل ركعتين) فانظر حال المدعو، واعرف حاله، لتعرف كيف تدعو إلى الله.
وجاء رجل فبال في المسجد فهمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوه لا تزرموه! فلما أتم بوله، أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، فأتى هذا الرجل وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً) فينبغي أن توجد الحكمة في الدعوة إلى الله، وانظروا إلى إخواننا من جماعة التبليغ، فبعضهم حجة لبعض؛ لكن عنده أسلوب، لا يمر في الشارع إلا واهتدى على يديه جماعة بفضل الله، ويتوبون إلى الله، ثم يدخلون إلى المرافق؛ إلى أماكن شرب الخمور، بل إلى الكفار فيخرج الكافر يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نعم.
نحن لا نقرهم على بعض أعمالهم؛ لكن هذه من أعمالهم الخيرة التي نشجعهم عليها.
والمهم أنك إذا أردت أن تدعو فادع بعلم، ولا تدع إلى بدعة، ولكن هل صحيح أننا ليس عندنا ذلك العلم الكافي حتى ندعو إلى الله؟
لنحاسب أنفسنا فسنجد أننا نعرف أن الصلاة واجبة، والحجاب واجب، والزكاة واجبة، ونعرف أن الأغاني حرام وهكذا.(12/22)
النفور من التدين بسبب اختلاف المتدينين
السؤال
بعض الناس ينفر عن الدعوة بسبب الخلافات، ويترك الدعوة بحجة الخلافات.
ماذا توجه له من نصيحة؟
الجواب
ما ذكرته يعتبر من أسباب الفتور في الدعوة إلى الله، ونحن لم نذكر جميع الأسباب، ومنها الفردية في الدعوة، فإن كثيراً من الناس مرت به فترة من الدعوة وهو نشيط جداً، وأظن بعضكم يذكر البعض.
حين كان من أنشط الناس في الدعوة إلى الله ثم إذا به يتراجع، فما الذي حدث له؟ حدث أنه كان يدعو إلى الله لكن لوحده وما عليه من غيره، وهو ينسى أن ديننا دين جماعة، دين تحاب، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]، وأمر رسوله فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] فأنت لا تستطيع لوحدك، وديننا دين جماعة، دين تآلف، دين وحدة.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فلو جاء الجهاد فأظن أن هذا الذي يدعو وحده ويقول: أنا لا أدعو إلى الله مع هؤلاء لأنه توجد عندهم أخطاء ومخالفات، سيبقى وحده، فنقول: هؤلاء متفقون معك على أصول أهل السنة ولكن عندهم بعض الإشكالات التي تختلف أنت معي فيها، ويختلف فيها كبار أهل العلم، لكن ينبغي أن ندعو إلى الله: {صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] أسألك: لو جاء الجهاد في سبيل الله فماذا سوف تفعل؟
لا أظنك سوف تجاهد معي، لأنك الآن لا تدعو إلى الله معي، بل لو أتى الجهاد في سبيل الله فلا آمن أن ترفع السلاح في وجهي، هذا الذي حصل في كثير من بلاد المسلمين يرفع أحدهم السلاح في وجه الآخر، فالحاصل أنه ينبغي الاجتماع والتعاون.(12/23)
الوقت وأهميته
إن الوقت هو الحياة، وهو عمر الإنسان، ورأس ماله، لذلك لابد من الاهتمام به والحفاظ عليه وعدم تضييعه، فيا ترى كيف تقضى الأوقات؟
هذا هو ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً الأمور التي تقضى بها الأوقات كالصلاة على وقتها، ثم تحدث عن العلم وفضله ومنزلته وأهميته، وفضل طالب العلم، معرِّجاً على نماذج من السلف في طلبهم للعلم ثم بين كيفية تنظيم الأوقات، محذراً من مضيعات الأوقات، ومبيناً علامات الوقت الضائع، وكل ذلك ليبين أهمية استغلال الوقت في طاعة الله تعالى، وعدم تضييعه.(13/1)
قيمة الوقت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه الكلمة بمناسبة بداية العطلة الدراسية، وهي للطلبة خاصة، لكنها للناس عامة، فكل الناس في هذا الزمان يشكون من الفراغ، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116]
ووقتك هو حياتك، وإذا ذهب وقتك فقد ذهبت حياتك، وكلما مر الوقت كلما ذهبت الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس وذكر منها: حياتك قبل موتك) أي: اغتنم هذه الحياة قبل أن تذهب، ويخلفها الموت، قال ابن هبيرة:
والوقت أنفسُ ما عنيتَ بِحفظهِ وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
فالوقت أغلى شيء وأسهل شيء في الضياع، ولهذا يُقال في المثل: الوقت من ذهب.
وهذا المثل خاطئ، فالوقت لا يقدر بالثمن، ولهذا تجد بعض الناس يشكون من الفراغ، ويسمونه الفراغ القاتل، يكاد يقتله هذا الفراغ ولا يعرف ماذا يفعل به، بل إن بعضهم يقتل نفسه من ألم الفراغ، وبعضهم يتعاطى المخدرات ويفعل المنكرات ليتخلص من هذا الفراغ، فراغ قاتل، إن لم تشغله بالخير شغلك بالشر.
قالت رابعة لـ سفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل.
فإنك تذهب مع الوقت، وأنت تعلم فاعمل.
عندما مات محمد بن جرير الطبري، شيخ المفسرين، حسبوا أوراقه التي صنفها، ثم قسموها على أيام حياته فوجدوا كأنه ألّف كل يوم أربع عشرة ورقة.
في كل يوم من حياته، منذ أن بلغ الحلم إلى أن مات، كأنه ألّف أربع عشرة ورقة، تأليفاً لا قراءة.
وقال أبو جعفر لأصحابه: أتنشطون في كتابة تفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، تكتبون وأنا أمليكم.
قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه.
سوف نموت وما انتهينا من ثلاثين ألف ورقة.
فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
ثم قال: هل تنشطون لكتابة تاريخ العالم منذ آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، أي: ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: تفنى الأعمار قبل أن تفنى هذه الأوراق.
ثم اختصره إلى ثلاثة آلاف، ثم قال رحمه الله: إنا لله! ماتت الهمم في كتابة ثلاثة آلاف! ونحن في هذا الزمان لو أملى الشيخ على التلميذ ثلاث ورقات لملَّ الطالب، ووضع الورقة وتعب، وهؤلاء اختصر لهم الكتاب في ثلاثة آلاف ورقة!(13/2)
مرور الأيام يفني الأعمار
كل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي
يذهب يوم بعد يوم، وتذهب ساعة بعد ساعة، ويضيع العمر وأنت نائم لا تشعر في أيام المدرسة كنت تقضي ست ساعات في الدراسة، والآن لقد أتت العطلة فماذا تفعل في الست الساعات هذه؟
هل وضعتَ لك هدفاً؟ هل وضعتَ لك برنامجاً؟ وغير الست الساعات كنت تدرس وتحل الواجبات، وكنت تذهب إلى المدرسة وترجع من المدرسة، وكنت تذاكر للاختبارات هذه الأوقات كلها ذهبت، وأتى بعدها فراغ، ماذا سوف تفعل فيه؟ كنتَ تحضر دروساً، وكنتَ تطلب العلم، وإذا ظللت على حالك هذا فسوف تقضي سبع ساعات من الفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) سوف تُسأل عن كل دقيقة بعد الأخرى، فماذا ستجيب ربك؟ تقول: نمت ولعبتُ وجلست أمام التلفاز، أو تقلب الجريدة والمجلة، أو تتجول على هذا بعد هذا، أو تتكلم مع هذا بعد هذا، وضاعت الأوقات بالأحاديث التي لا طائل منها، وباللغو الذي لا فائدة فيه، وبالطعام والشراب وباللعب واللهو، وإن لم تكن بالمحرمات ضاعت فبالمباحات.
يقول أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي عن نفسه: لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري.
ألَّف كتاباً يسمى الفنون، يقع في ثمانمائة مجلد، من غير كتبه الأخرى، ألَّف هذا الكتاب ومع ذلك يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري.
أتظن أن هذا كانت تضيع أوقاتُه بالنوم، أو باللعب، أو بالأحاديث الفارغة، أو بالمشي، أو بالزيارات التي لا طائل منها ولا فائدة ولا هدف منها؟!
إذا كنتُ أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعةْ
فلم لا أكون ظنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعة
وإذا كنت متيقناً أن الحياة كلها كساعة واحدة، كأنك تغمض عينك فتفتحها وإذا العمر قد فات، فلماذا لا تغتنم وقتك؟! ولذلك يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة للمشركين: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] لعله أقل من يوم، أو جزء من يوم، بكرةً أو عشية أو ضحاها {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] اسأل أهل الحساب، اسأل الذين كانوا يعدون الأيام {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:114 - 115] أتحسب أنَّ الوقت -الذي هو نعمة من نعم الله- وأعطاك الله عزَّ وجلَّ إياه، أتحسب أنه عبث؟ أتظن أن الله لن يسألك عنه؟ أتظن أنك ستأتي يوم القيامة وتقول: يا رب، على الأقل أنا ما فعلتُ منكرات؟! بل إنك سوف تحاسب؛ لأنها نعمة {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] وإذا كنت لا تشعر أنها نعمة فاعلم أن بعض الناس يتمنى قراءة المصحف فلا يجد وقتاً، يذهب إلى العمل منذ طلوع الفجر حتى تغيب الشمس، ثم يرجع إلى البيت فيأكل لقمة، ثم تغلبه عيناه فينام، ثم يستيقظ في الفجر ليذهب إلى العمل ويكدح ويتعب حتى تغرب الشمس، ثم يرجع إلى بيته، وهكذا طول حياته، لا إجازة ولا راحة، وأنت الآن مترف منعم بهذا الوقت، يأتيك الطعام والشراب والمال، وتنام في بيت بارد هنيء مريح، وعندك الكتب ما تشاء منها، بل عندك المشايخ، الأشرطة، ثم بعد هذا تتكاسل! وتظن أن الله لن يسألك عن هذا!!(13/3)
ليكن لك هدف
لن تستغل وقتك حتى تجعل لك هدفاً، قبل أيام كانت هناك اختبارات، وكم كان الوقت ثميناً عند الطلبة؟ كان الطالب لا يضيع دقيقة، وإذا طلب منه أحدٌ شيئاً قال: أنا مشغول.
يريد أن يقرأ ويذاكر، فقد عرف قيمة الوقت؛ لأن عنده هدفاً، وهو الاختبار، وهذا هو الذي جعله يستغل الوقت.
فليكن لك هدف، أما أن تحفظ القرآن في العطلة، على الأقل تحفظ عشرة أجزاء، وتنتهي من تفسير القرآن الكريم كله ولو مختصراً، وتنتهي من حفظ متن في الفقه، فتعرف أحكام الفقه كلها، وتحفظ بضعة أحاديث، أو تدعو إلى الله وإذا لم يكن لك هدف فاعلم أنك لن تستغل وقتك، ومِن الناس مَن يخطط مِن الآن لأهداف مثل النوادي الصيفية، أو المراكز، ولعب الكرة، أو يدخل نادياً يتقوى فيه، فهدفه أن تنتهي العطلة وقد قوي جسده
يا خادم الجسم كم تتعب لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ
أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
فالمهم النفس {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
وما هي الفائدة التي يجنيها هؤلاء؟ يتعب سنوات من عمره وتضيع هباءً وهدراً، ثم بعد هذا يحصل على الكأس، ويصبح نجم الكرة، ثم بعد سنوات يُنسى ويُطوى في التاريخ، كما نُسي غيره، ثم يعقب هذا كله الندم والخسران والألم والحسرة! هذا إن أصبح نجماً، فما بالك إن لم يصل إلى هذه المنزلة أو إلى هذه الدرجة! ماذا سيكون حاله؟ سوف يُنسى كما نُسي غيره.
وبعض الناس هدفه في هذه العطلة أن يسافر إلى دول الفجور والخنا والزنا، يجمع المال من الآن، ويخطط مع أهله، فيذهبون إلى تايلاند، أو إلى بانكوك، أو إلى إنجلترا، أو إلى فرنسا أو إلى باريس، أو إلى غيرها من الدول، ويظن أنه سوف يتمتع وبعض الناس يخطط في هذه العطلة أن يستمع الموسيقى، ويصبح مغنياً مطرباً، فيدخل معهد الفنون والموسيقى.
ومنهم ذلك الشاب الذي ما إن انتهت الدراسة إلا وقد عزم وأصر أن يختم القرآن في هذه العطلة، فما إن تنتهي الدراسة وتبدأ العطلة، إلا ويبدأ يعكف على كتاب الله، يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، ويراجع ما فاته من الحفظ، ويبدأ في الحفظ ويتقن حفظه، حتى ينتهي من حفظ القرآن، ثم يبدأ في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثرى والثريا {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
قد هيئوك لأمر لو فطنتَ له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
أيها الأحبة: كل الناس أغلبهم عنده هدف، وانظر إلى أهداف بعضهم الدنيئة والحقيرة:
منهم في هذه العطلة من يريد أن يجمع المال، وبعد جمع المال، ما الذي سوف يحصل؟ المال تتعب قبل جمعه وبعد جمعه، أما العلم فسوف يريحك، وسوف ينعمك في هذه الدنيا.
ومنهم من يحرص على متابعة برامج التلفاز، ويجمع الأموال ليشتري جهاز فيديو، بل يشتري جهازاً للبث المباشر؛ ليتابع البرامج الغربية الخلاعية وغيرها أهذا الهدف خير أم هدف ذلك الشاب الذي ينوي في هذه العطلة أن يطلب العلم، وأن يدعو إلى الله، فما أن تنتهي العطلة إلا وقد طرق كل بيت من بيوت الجيران، يعاهد ربه ما أن تنتهي العطلة إلا وقد ختم هذه الكتب كلها، فينتهي من الكتب المختصرة، ثم الموسعة، ثم المفصلة، فتنتهي العطلة وقد تعلم في ثلاثة أشهر ما لا يتعلمه غيره في سنوات.(13/4)
ثبات يرفع القدر
أعرف بعض الشباب جدوله هو الجدول، كان في أيام الدراسة من الصباح إلى الظهر في المدرسة، ثم انتهت الدراسة وإذا هو ذلك الشاب، من الصباح إلى الظهر عاكفاً على الكتب.
أيها الإخوة: ما هو الفرق؟ كنت تذهب كل يوم إلى المدرسة من السابعة إلى الواحدة، فلماذا تكاسلت في العطلة؟ لأن الأمر ليس فيه جائزة مادية محسوسة، أما تلك ففيها شهادة المؤمن دائماً يفكر في أجور فضل طلب العلم، وفضل الدعوة، وفضل بر الوالدين، وفضل صلة الأرحام، وهكذا ولهذا إن جلس بعد الفجر إلى الظهر فلا يمل ولا يكل ولا يتعب ولا يسأم، ولو كان لوحده، ولو نام الشباب، ولو نام الناس، ولو ضاع الناس، ولو تركوا العلم والكتب فهو عاكف عليها.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثانِ
تدارك نفسك، وتدارك عمرك، واعلم أن كل لحظة تمر يذهب شيء من عمرك، وكل دقيقة مرت سوف تسأل عنها يوم القيامة.
إن من الناس من لو سألته: ما هدفك في العطلة؟ لقال: ما أدري.
سبحان الله! هذا أتعب الناس وأتعس الناس، كل من الناس جعل له هدفاً، أما هو فيقول: ما أدري.
ما الذي سوف تفعل في العطلة؟ أوقات الفراغ كيف ستقضيها؟ يقول: ما أدري إما أن يقضيها في المزارع، أو في الصيد، أو في السيارة يتجول، أو يزور الناس فيضيع أوقاتهم، أو أن يسافر كل يوم إلى منطقة من المناطق، ويظن أنها صلة رحم، ويضحك على نفسه، ويضيع عمره ووقته من غير أن يشعر.(13/5)
كيف تقضى الأوقات
بعد هذه المقدمة -ولعلنا أطلنا فيها- ندخل في صلب الموضوع، وهو: كيف نقضي الأوقات؟
بدأت العطلة وبدأ الفراغ، وبدأت الأوقات تمر، ومن قال: غداً أبدأ، فاعلموا أن فيه شيئاً من الضعف، ومن لم يستغل وقته من اليوم من بعد صلاة الظهر، ومن بعد انتهاء الدراسة؛ فاعلموا أنه قد بدأ في الضعف، وبدأ بالتسويف، وهذه خطوات الشيطان، كل يوم يقول له: اجلس اليوم، وغداً ابدأ في الدراسة، اجعل لنفسك راحةً قليلاً ثم ابدأ بعدها بطلب العلم والدعوة اعلم أن هذه من خطوات الشيطان.(13/6)
أداء الصلوات الخمس
أول أمر تحرص عليه في هذه العطلة وفي غيرها من الأيام هو الصلوات الخمس، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] والله لن ينفعك هذا الكلام ولا هذا الدرس إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس، فإنك سوف تأتي يوم القيامة وأول ما تحاسب عليه الصلاة، فإن لم تصلح صلاتك فقد خبت وخسرت، وفسد سائر عملك ماذا ينفعك العلم والدعوة والنشاط والحركة والجهاد، إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام؟
وبعض الناس يحرص على طلب العلم وتفوته صلاة الفجر! واسمعوا إلى هذه الحادثة:
أخرج مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح؛ فذهب عمر في ذلك اليوم إلى السوق -وكان مسكن سليمان بين المسجد والسوق- فمر عمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لَمْ أَرَ سليمان في الصبح.
فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه.
كان يقوم الليل، فنام عن الفجر، فقال عمر:
[لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليَّ من أن أقوم ليلة] صلاة الفجر في جماعة أفضل من أن أقوم الليل كله.
فيا من أضعت وقتك، تقوم الليل كله بقراءة كتاب، وتمضيه في سماع شريط، وتلخيصه، ثم تنام عن صلاة الفجر؟! ماذا نفعك العلم؟ ذاك رجل بال الشيطان في أذنه، وضحك الشيطان عليه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه) لا تقم ليلة فيفوتك الفجر، ولا تطلب العلم في الصباح، ثم تنام عن صلاة الظهر، ولا تطلب العلم بعد الظهر ثم تنام على الكتاب وقد فاتك العصر، أي علم هذا؟! لا تظن أنك سوف تستفيد من وقتك وأنت تضيع الصلوات فأول شيء تحافظ عليه الصلوات الخمس؛ لأنك إن حافظت عليها تَنَظَّمَ وقتُك، وتستطيع أن تستغله، وتحافظ عليه، بل أن الله عزَّ وجلَّ يبارك لك في الوقت، ويبارك لك في العلم، وحافظ على الصلاة في جماعة، واحرص -أيها الأخ- في هذه الأوقات -أوقات الفراغ- ما إنْ يؤذن المؤذن إلا وأنت في المسجد فإنك في فراغ وليس هناك أي مانع.(13/7)
طلب العلم وفضله
الأمر الثاني -ولعله هو أكثر ما سنتحدث عنه في هذه الليلة- هو طلب العلم واسمع إلى فضل طلب العلم:
إذا لم يكن عندك حماس، ولا همة في طلب العلم، ولم تتشجع لقراءة الكتب، واستماع الأشرطة، فاسمع الآية تلو الآية، والحديث تلو الحديث، والأثر تلو الأثر، والقصة تلو القصة، لعل الهمة فيك تقوم وتعلو.
أيها الإخوة: إنه والله مسكين من ترك العلم، كما قال بعض السلف: واسوأتاه! ما أقبح من شيخ جاهل! أي: (شيخ كبير في السن وجاهل) ما أقبح هذا! والله عيب ما بعده عيب، ولو كان الرجل مشلولاً أو مريضاً أو عاجزاً أو مقعداً، أو قبيحاً وجهه؛ لكن عنده علم، فإن الله عزَّ وجلَّ يرفع شأنه، ولو كان أجمل الرجال وأعلاهم قدراً ومنزلة ومالاً وما عنده علم فإن الله عزَّ وجلَّ يضعه بين الناس حقيراً ما يسأله أحد، ولا يلتفت إليه، ولا ينظر إلى كلامه؛ لأنه جاهل.
قال الله تعالى في فضل العلم: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال بعض المفسرين: أي العلماء.
انظر مرتبتهم؛ بعد الله رسوله، وبعد رسوله هم العلماء، وقال الله تعالى: {قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] لا يستوون؛ هذا جالس طول الليل يقرأ كتاباً ويلخص، ويكتب في الهامش، ويرجع إلى الأحاديث صحيحها من ضعيفها، ويسمع الشريط ويلخص، وهذا جالس على التلفاز والجريدة هل يستوون؟! والله لا يستوون عند الله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى واحد من الصحابة، وقال (طالب العلم -ليس شرطاً أن يكون عالماً- يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر) حتى السمك في البحر يستغفر له! هل هناك أفضل من هذا؟! أأنت خير أم من يجلس وقته كله يقرأ الجريدة أو المجلة أو ينام على الفراش؟
هل سمعتمُ عن بعض الناس ينام من المغرب ولا يقوم إلا عصر اليوم الثاني؟ ينام في اليوم والليلة ثماني عشرة ساعة، كم سيستيقظ؟ ست ساعات، ربع العمر، وثلاثة أرباعه في النوم، هل يستوون؟
وقال عليه الصلاة والسلام: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه في الدين) الله أكبر! خصلتان إن كانت فيك فحري بك أن يصرفك الله عزَّ وجلَّ عن النفاق: حسن سمت، وفقه في الدين وقال عليه الصلاة والسلام: (فضل في علم خير من فضل في عبادة) وقد سئل الإمام أحمد: أيهما أفضل: قيام الليل أم طلب العلم؟ فقال: طلب العلم.
ولو خيرتَ بين أمرين: هل تصوم التطوع أم تطلب العلم؟ لأن بعض الناس يقول: لو صمتُ لما استطعت أن أقرأ، وإن أفطرت سوف تكون لي همة في القراءة، فأيها أفضل؟ إن فضل صوم التطوع عظيم! يباعد الله عزَّ وجلَّ بينك وبين النار مسافات عديدة، لكن طلب العلم أفضل، وإن استطعت أن تجمع بين الأمرين فهو خير على خير.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم) هذا هوا الفضل، وهذا هو الشرف، وليس هذا الفضل للملك وللأمير وللوزير ولا للشريف ولا للغني، إنما هذا الشرف وهذا الفضل لرجل ولو كانت ثيابه ممزقة نتنة، ولو كان الناس يستقبحونه، خرج ليطلب العلم (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع حتى يرجع) منذ أن يخرج من البيت ذاهباً إلى درس في مسجد إلى أن يرجع يا إخوان: تحسسوا هذا الأمر، ومن استشعر هذا الأمر لا يمل، فمن حين يخرج والملائكة تضع أجنحتها له، والملائكة لها أجنحة عظيمة، تتواضع لهذا الرجل ولهذا الشاب ولو كان طفلاً صغيراً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أي: واجب، وهناك واجب عيني وواجب كفائي.(13/8)
العلم رفعة وتشريف لصاحبه
قال أبو الأسود الدؤلي:
العلم زَين وتشريف لصاحبه فاطلب هُدِيتَ فنون العلم والأدبا
العلم كنز وذخر لا نفاد له نعم القرين إذا ما صاحباً صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثم يُحْرَمُه عما قليل فيلقى الذل والنصب
وجامع العلم مغبوط به أبداً ولا يُحاذر منه الفوت والسَّلَبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه لا تعدلن به دراً ولا ذهبا
والله لو يعدلون به الذهب، ولو تُعطى ما تُعطى فإياك أن تفوت العلم، خصوصاً في هذا العمر، وفي هذا الزمان، وفي هذا الوقت الذي لا يشغلك فيه شاغل، ولا يصرفك صارف لا أبناء، ولا بيت، حتى الذي عنده الأبناء والبيت معاشه يأتيه آخر الشهر وهو لا يتعب، بل إن بعض الناس يشتكي من الفراغ في دوامه، يقول: أذهب إلى الدوام وأجلس.
سبحان الله! إنها نِعْمَة والله (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) نِعْمَة ما يشعر بها كثير من الناس، وليس شرطاً في طلب العلم وفي فضله أن تصبح عالماً، يكفيك أن تتعلم مسألة فتعلمها غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) انظر إلى هذا الفضل العظيم، تتعلم المسألة ثم تعلمها أحد الناس، سنة تعلمتها ثم ذهبت وعلمتها بعض الناس، يكون لك مثل أجور من علمتهم، ثم ذلك يعلمها غيره، ثم يعلمها رجلٌُ ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم عاشر، ثم بعد هذا ينتشر العلم بين الناس، وأنت لم تشعر بهذا الأجر قلتَ كلمة في مجلس أوفي مسجد، أو ذهبتَ ونصحتَ إنساناً، وبعد هذا انتشر العلم بين الناس، ويأتيك الأجر ولو كنت في قبرك.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).(13/9)
طلاب العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتعرف أن طلبة العلم وصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وصى أصحابه بطلبة العلم من بعده، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عندما جاءه طلبة الحديث: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقد وصى قبل موته بهؤلاء الطلبة؛ طلبة العلم، طلبة الحديث، ما هم بطلبة نوم، ولا طلبة الأكل والفراغ واللعب واللهو والضَّياع، إنما وصى بطلبة العلم وطلبة الحديث قال: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بكم] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بطلبة العلم.
أيها الأخ: اطلب العلم فسوف يأتي عليك يوم يرفعك العلم إلى أعلى عليين، ولا تطلب هذا العلم لأجل هذه المنزلة، ولكن اعلم أن العلم سوف يرفعك بين الناس، قال أبو معاوية الضرير وهو أحد العلماء، وكان ضريراً، أي: أعمى البصر؛ لكن الله عزَّ وجلَّ أنار قلبه يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً -وهو خليفة المسلمين، وكان الخلفاء في السابق يحترمون العلماء، ويُعطونهم قدرهم- يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً، ثم صب على يدي رجل لا أعرفه -ليغسل يده- يقول: ما أعرف من هو هذا الرجل، ثم قال الرشيد: أتدري من يصب عليك؟ قلتُ: لا.
قال: إنه أنا، وذلك إجلالاً للعلم.
يقول الخليفة: أنا أصب على يديك الماء ليس لأجلك، ولكن لأجل العلم الذي تحمله.
فانظروا إلى العلم كيف يرفع صاحبه!
أتعرفون من هو الأعمش؟ ما هناك طالب علم إلا وسمع به، وقد مر على وفاته إلى الآن قرون عديدة، وإلى الآن يُذكر على الألسنة، ويُترحم عليه، ويُستفاد من علمه يقول الأعمش: لولا القرآن لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني.
ولكن العلم رفعه!
وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لإحدى نساء مكة، عبد يباع ويشترى، أنفه أفطس، شكله إن نظرتَ إليه تستقبحه، ثم أصبح مولى لـ ابن عباس يذكر عنه أنه رجع إليه أهل مكة كلهم في الفتوى، لا يستفتون أحداً في مكة إلا عطاء بن أبي رباح، حتى إن أبا حنيفة كان يستفيد منه يقال عنه: أنه كان يجلس في المجلس، فيأتيه الطلبة ويجلسون عنده، ويقولون: كنا نهاب أن نسأله حتى يتنحنح، فإذا تنحنح بدأنا نسأله.
وذلك من هيبته، واحترامه هذا الذي كان عبداً يباع ويشترى، ثم تعلم العلم فرفعه الله عزَّ وجلَّ.
وانظروا إلى العلماء في هذا الزمان كيف يُترحم عليهم، ويُدعى لهم، وإذا مات أحدهم انظروا كيف تقوم الدنيا ولا تقعد!
قدم هارون الرشيد الرقة -إحدى المناطق- فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتركوه وقد تقطعت النعال وارتفعت الغبرة تخيلوا هذا الموقف، قدم هارون فاجتمعوا حوله، فلما ظهر عبد الله بن المبارك ذهبوا كلهم خلفه، والغبار يعلو، والنعال تتقطع، ما الذي حصل؟ ما الذي جرى؟ قالوا: فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب -وهي زوجة هارون الرشيد - فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: هذا عالم خراسان قدم الرقة، يقال له: عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان.
إي والله، لا ملك الوزراء والأمراء والملوك والأغنياء، الذين يمشون بحرس وبعسس، بل إن بعضهم لا يسَلَّم عليه إلا لمصلحة ولا يصافَح إلا طلباً للمصلحة، ويتمنى من حوله زواله، أما أهل العلم فقد كان بعضهم تُقَبَّل يدُه وكان الإمام البخاري، أثناء الحلقة يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، فسئل: ما بالك؟ قال: نظرت إلى باب المسجد -وكان الصبيان يلعبون- وكلما مر صبي قمت وجلست.
قالوا: من هذا الصبي؟ قال: هذا ابن شيخ كان يدرسني.
فكان كلما مر الابن قام احتراماً لأبيه، الله أكبر!
انظروا كيف رفع الله شأنهم! إذاً: العلم يرفع شأنك ولو كان الناس يستقبحونك.
قال الإمام الشافعي -وهي حكمة عظيمة لعلك تستشعرها- قال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
فكل علم له فائدة وثمرة، حتى الحساب، فإنه يجزل رأيك به، وتكون صاحب رأي.
أيها الإخوة: إن العلم -كما قلنا- أفضل من العبادة، فهو أفضل من صلاة النافلة، وأفضل من صوم النافلة، وأفضل حتى من جهاد التطوع قال الحسن رحمه الله: لأن أتعلم باباً من العلم فأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله.
أي: لأن أقرأ باباً وأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن أنفق جميع الدنيا في سبيل الله.(13/10)
مراتب العلم
يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث فيه كما يقول ابن القيم مراتب العلم الأربع-: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي: حسَّن الله صورته، وجمَّل الله وجهه، بعض الناس شكله ليس بحسن، لكن الناس تحب منظره، وتحب الجلوس معه، وتحب مخالطته.
قال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي) هذه أول مراتب العلم: السماع.
المرتبة الثانية قوله: فوعاها، والوعي هو الفهم، فبعد السماع لابد من الفهم.
المرتبة الثالثة: المراجعة والحفظ والتكرار، فما يكفي أنك تسمع وتفهم، فإن بعض الناس تسأله: ما هو طلب العلم عندك؟ فيقول: أحضر درس الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني والحلقة الفلانية، وألخص الأشرطة، وأقرأ الكتب.
فإذا سألته لم يعرف شيئاً، وكلما سألته سؤالاً يقول: لحظة، فيذهب ويفتح كتاباً ويقرؤه، ويقول: هذه الإجابة لا ينفعك العلم إذا كان هكذا، بل لا بد من الحفظ، تقضي ساعة في الدرس، ثم ساعات في الحفظ، أما أن تسمع وتسمع وتسمع فلا.
لابد من سماع، ثم فهم، ثم حفظ (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلَّغها) المرتبة الرابعة: التبليغ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كم من رجل يحفظ حديثاً، ثم يبلغ رجلاً آخر فيفهم أكثر منه، وهذا في الناس كثير، فإنك تجد رجلاً حافظاً للقرآن لكنه لا يفقه منه شيئاً، ورجلاً حافظاً أحاديث كثيرة ولا يعرف يطبق منها حديثاً واحداً.(13/11)
لا يستطاع العلم براحة الجسد
لا يُستطاع العلم براحة الجسد فإذا كنت تريد أن تطلب العلم فنظم وقتك من الآن، فطالب العلم لا يصلح أن يطلب العلم ساعة واحدة، فهذا ليس بطالب علم، طالب علم ينام من الفجر إلى الظهر كيف سيطلب العلم؟! هذا سوف يطلب لكن بقدر ضعيف جداً طالب العلم لا يقضي ساعة على الأكل، ولا يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات يلعب ويلهو طالب العلم لا بد أن يتعب الجسد، فاللحم يذهب، والشحم يذهب، والعظام تتعب، والعين تحمرّْ أتريد أن تبلغ الدرجات العالية في العلم وأنت نائم على الفراش؟! تحضر درسين في الأسبوع وتسمي هذا طلب علم؟! يقول ابن أبي حاتم: كنا بـ مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، في نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل.
إذا أتى الليل نكتب ونقابل النسخ، يقول: فأتينا يوماً أنا ورفيقٌ لي شيخاً فقالوا: هو عليل.
-أي مريض- فرأينا سمكة فأعجبتنا فاشتريناها، وذهبنا إلى البيت لنأكل السمكة، فحضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن ثلاثة أيام ما عندهم وقت يشوون السمكة، هؤلاء هم طلبة العلم، أما طالب علم ويقول: مللت من الفراغ، ماذا أفعل بوقتي؟! ويفكر ما عنده شيء يقضي به الوقت، ويسمي نفسه طالب علم! يقول: ثلاثة أيام حتى كادت أن تنتن، فأكلناها نيئة، ولم نتفرغ نشويها.
ثم قالوا -اسمع إلى هذه الجملة واحفظها، وكلما تعب الجسد اذكر هذه الجملة- قالوا: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
فالذي ينام ويكثر من النوم اعلم أنه لن يبلغ من العلم مبلغاً عظيماً.
وقيل للشعبي -وهو أحد العلماء الحفاظ- قيل له: من أين لك هذا العلم كله؟ فقال: بدفع الاعتماد -ما يعتمد على غيره- والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد انظر إلى الجماد، هل يتعب أو يمل؟! فلو جلس في درس أربع ساعات، لم يقل: قد أطلت، وقد مللنا، ويقفل الكتاب، ويضع القلم، لا.
ولكن وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب.
أقول هذه الكلمة لمن يسهر طوال الليل ثم ينام عن الفجر، ولا يقوم إلا وقد ارتفعت الشمس، واحترت الأرض، أقول له: وبكور كبكور الغراب، أتريد الحفظ؟ عليك بأول النهار، أتريد العلم؟ عليك بأول النهار.
وسئل الطبراني عن كثرة حديثه، فقيل له: كيف تحدث كل هذه الأحاديث؟ فقال: كنت أنام على البواري -أي: على الحصير- ثلاثين سنة.
يقول: أتريدون أن تعرفوا هذا العلم الذي جمعتُه؟ إني كنت أنام على حصير ثلاثين سنة.
أما أن تريد أن تنام وأنت مرتاح وما تقوم إلى بعد أن شبعت من النوم، وما تجلس إلا في أفضل الأماكن، ولا تقرأ إلا أفضل الكتب، وأسهلها، وما تقرأ دقيقة إلا وترتاح عشر، فهكذا لن تتحصل على العلم أبداً.
ويقول مكحول الشامي -رحمه الله-: أُعتِقت بـ مصر كان عبداً وأُعتق بـ مصر، يقول: فلم أدع علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق سافر من مصر إلى العراق، لماذا يا إخوان؟ أللنزهة؟ أو لكي يسلم على فلان ويرجع؟ أو لكي يقضي الوقت؟ أو لكي يضيع الوقت؟ يقول: ثم ذهبت إلى العراق والمدينة، فلم أدع علماً إلا حويته فيما أرى.
انظروا إلى الهمة، وإلى الجد والاجتهاد! ليس مثل بعض الناس، يحضر درسين في اليوم، ويظن أنه يطلب علماً!! يقول: ثم أتيت الشام فغربلتها.
أي: ما تركت مكاناً في الشام إلا وأتيته لطلب العلم.
فما الذي بقي بعد مصر والعراق والمدينة والشام؟!
وكان الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج وإيقاد السراج ليس بالأمر السهل في ذلك الزمن، بل كان يحتاج إلى وقت، وليس الأمر مثلما نحن عليه اليوم الضوء مباشرة، السراج يحتاج إلى وقت طويل حتى توقده، فليست شمعة توقدها مباشرة بـ (كبريت)، فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره وهو نائم يفكر في فائدة وخاطرة علمية، فيقوم من النوم ويشعل السراج ويكتب الفائدة، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم أخرى وأخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه في الليلة الواحدة عشرين مرة، يقوم عشرين مرة حتى يكتب فائدة.
أما نحن اليوم فإننا نقول: عليك بالقيام لصلاة الفجر، فلو قمت لها لصلح حالك، ولا نأمرك بأن تقوم لفائدة، فهذا ليس فينا، إنما هو في الأسبقين.
وبعضهم كان يسافر الشهر ليسأل عن حديث واحد.
وبعضهم كان يسير على رجله أميالاً عديدة، حتى إن بعض العلماء كان يضع الكتب الثقيلة على ظهره ويسافر أميالاً عديدة، فلم يكن معهم طائرة، ولا سيارة، ولا وسائل عصرية حديثة، بل كان يمشي على رجله، والكتب على ظهره، ويسافر أميالاً عديدة حتى يسأل عن حديث واحد.
فقد سافر بعضهم إلى الشام وإلى بغداد، وهو يريد أن يسمع حديثاً من رجل، فلما أتاه سأل عنه فقيل له: قد نُعي قبل قليل، مات -أي: مات- فيبكى بكاءً شديداً؛ لأن ذلك العالم قد مات، ويقول: كادت مرارتي أن تنشق من الحسرة والندم كان يسافر أميالاً عديدة ليسأل عن حديث، وليسمع سنداً، وليسأل رجلاً.
وبعضهم كان يسير إلى مالك بن أنس أشهراً عديدة ليسأله بعض الأسئلة.
وهذا محمد بن إبراهيم آل الشيخ في هذا العصر، رحمه الله، أتعرفون كيف كان يقضي وقته؟ إن هذه السير والله ليست لأناس من حديد، ليست لأناس مخلوقين غير خلقنا، بل من لحم ودم وشحم، من أناس مثلي ومثلك، عندهم شعور، ويحتاجون إلى النوم والأكل والشرب والجماع والراحة.
محمد بن إبراهيم -رحمه الله- كان يصلي الفجر ثم يجلس بعد الفجر فيدرس ثلاثة دروس في النحو، المستوى الأول، والمستوى الثاني، والمستوى الثالث، ثم بعد هذا كان يدرس الفقه، ثم الحديث، ثم يذهب إلى بيته، يلبث شيئاً قليلاً، ثم يرجع إلى المسجد، فيدرس، فيُقرأ عليه أمهات الكتب حتى قبيل صلاة الظهر، ثم يذهب إلى البيت، ثم يرجع لصلاة الظهر، وبعد صلاة الظهر يدرس حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يدرس التوحيد والفقه والحديث والنحو حتى المغرب، ثم بعد المغرب كان يدرس الفرائض حتى قبيل صلاة العشاء، وقبيل صلاة العشاء كان عنده درس عام في تفسير ابن كثير، ثم يصلي العشاء، وبعد العشاء يذهب إلى البيت ليستقبل الناس ويقضي لهم حوائجهم، وبعد ذلك يجلس مع أهله، ثم ينام فيستيقظ قبل الفجر ليقوم الليل ويتهجد ويقرأ القرآن ويدعو، ثم يذهب إلى المسجد قبل الفجر وهكذا أربعين سنة.
هل هو من كوكب آخر؟! هل هو رجل وأنت لستَ برجل؟! هل هو مخلوق آخر؟! لا.
بل إن حاله كحالك، لكن رفع الله شأنه ورفع ذكره، لأنه كان يعرف كيف يقضي وقته، أما أنت فتحب الكسل والدعة والراحة والفتور.(13/12)
بادر فالعلم لا ينتظر
أيها الأخ: اعلم أن العلم لا ينتظرك، والعلماء يذهبون، فكل يوم يموت عالم، وكلما مر الوقت تسمع فلاناً من العلماء مات، ولعلك تبكي وتتحسَّر وتتضايق، لأنه مات الشيخ الفلاني، وبعد أيام سوف يتصل عليك أحد الشباب: هل سمعت بالخبر؟ ما الخبر؟ لقد مات فلان، إنا لله وإنا إليه راجعون! عالم بعد عالم، ثم يأتي عليك يوم تطلب فيه العلم، وتأتي إلى مسألة وتصعب عليك، وتريد أن تذهب إلى العلماء فتتذكر فلاناً رحمه الله، فمن يحلها لك؟ وتأتي إلى سند من الأسانيد لا تعرف صحته، ولم تدر ما قال فيه العلماء، ثم تريد أن تسأل عن العالم الفلاني، فلا يحلها إلا عالم واحد، تسأل عنه فإذا به قد مات وتعرض لك مشكلة في الفقه، فتبحث عنها في الكتب وفي المصادر والمراجع وتسأل عنها، فما أحد يجيبك عنها، وتتحير، ثم تريد أن تذهب إلى عالم من العلماء فإذا به قد مات فتدارك نفسك قبل أن يموت العلماء.(13/13)
أمور لابد منها عند الطلب
إذا أردت أن تطلب العلم فعليك بأمور، نذكر بعضها:(13/14)
لا تطلب العلم منفرداً
الأمر الأول: ألا تطلب العلم بمفردك.
تعاون مع إخوانك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجماعة رحمة) وفي الجماعة البركة، وتنزل الرحمة، وتغشاهم السكينة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن لله سيارات من الملائكة، يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم صفوا بهم) الله أكبر! انظر إلى الحث على الجماعة، فلا تطلب العلم بمفردك، بل إذا وجدتَ حلقاً للذكر فاجلس فيها، ولا تجلس في البيت، وتقول: أنا أقرأ كتاباً وأطلب العلم وأحفظ وما عليَّ من الناس؛ فإن الرحمة لا تنزل عليك، ولا تغشاك السكينة، ولا يذكرك الله عزَّ وجلَّ فيمن عنده، فإن هذا الفضل لمن يجتمع مع الإخوان ومع الأصحاب.
ثم طالب العلم لوحده تكثر أخطاؤه، ويكثر زلَلُه، وتكثر عنده الشبهات، ثم طالب العلم لوحده مَن ينافس؟ ما عنده أحد ينافسه، أما طالب العلم مع الجماعة ومع الأقران فإنه ينافس هذا وذاك، وهذا يحاول أن يعلو عليه، وهكذا يتحمس ويتشجع، أما لوحده فلن يحصل على هذا.(13/15)
العلم يعصم من الفتن
الأمر الثاني: اعلم أن العلم يعصمك من الفتن.
أتذكر الأزمة التي مرت بنا، من صمد في الأزمة برأيه وبعقله؟ إنهم العلماء، أما أكثر الناس فتخبطوا، هذا يقول: افعل، وهذا يقول: لا تفعل، هذا يقول: اقتل، وهذا يقول: لا تقتل، هذا يقول: الزم، وهذا يقول: لا تلزم وكل الناس في شعب وأفكار، وهذا تزعزع، وهذا اضطرب، حتى إن بعضهم خرج من البلد ونسي ابنته في البيت، أما أهل العلم فقد ثبتهم الله عزَّ وجلَّ، لأن العلم يثبت أهله.(13/16)
الشعور باللذة
الأمر الثالث: أثناء طلب العلم لا بد أن تشعر باللذة.
ما هي هذه اللذة؟ إذا لم تحصل لك فاعلم أن هناك لذة ما يحصل عليها إلا من جربها، فإذا وقعت لك مشكلة أثناء طلب العلم، كأن تعرض لك مسألة فقهية، ما عرفت حلها، فتبحث عنها وتقلب الكتب والمراجع والمصادر، وتسأل، وتمر عليك أيام وأنت تبحث، حتى تحصل عليها، فتقول: وجدتُها، وجدتُها ما أحلاها من لذة! والله إنها لذة عظيمة.
طالب حديث يبحث عن سند فلا يجده، ثم يبحث حتى يجده في النهاية، والله إنها لذة عظيمة، ما يشعر بها إلا من جربها.
بات بعض العلماء قلقاً يفكر، أصابه القلق والمرض من الحاجة والفقر، يقول: فعرضت لي مسألة في الفقه، ثم تجلت هذه المسألة أخذ يفكر ويفكر في المسألة، حتى انحلت، فقام فرحاً بعد أن كان قلقاً، ثم قال: أين الملوك؟ تقول أمه: نظرتُ إليه فتعجبت من حاله، لقد كان قلقاً، والآن أصبح فرحاً، ما الذي حصل؟! إنها لذة طلب العلم.
جرِّب -أيها الأخ- عندما تُلخص أشرطة، كعشرين شريطاً للشيخ ابن عثيمين أو غيره من العلماء، فعندما تصل إلى الشريط الأخير تحس بلذة، وسوف ترى أن الشريط الأخير ينتهي بسرعة، وتتمنى أنه ما انتهى ما يشعر بها إلا من دخل في طلب العلم، فإن بداية العلم صعبة، ثم بعد أيام ستشعر بلذة، ولو دعيت إلى اللهو واللعب لما التفت إليه أبداً لأنك في لذة وفي نعمة لا يعلمها إلا الله.(13/17)
المنهجية في طلب العلم
رابعاً: عليك بالمنهجية في طلب العلم.
إياك أن تكون فوضوياً في طلب العلم! اطلب العلم لكن بمنهجية، فابدأ بالأهم ثم المهم، ابدأ بحفظ القرآن، وقراءة معاني القرآن، ثم بالسنة وقراءة معاني أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقراءة الفقه، ثم العقيدة وهكذا.
ومن العجيب أن بعض الناس ينشغل بالفروع عن الأصول، فتجده يحفظ اثنتي عشرة طريقاً في حديث: (من أتى إلى الجمعة فليغتسل) وهو ما يعرف آداب الغسل! وتجده يعرف مسائل دقيقة جداً في الفقه، حتى إن بعض العلماء ما سمعوا بها، ولكن لو تسأله عن صلاته لما عرف كيف يصلي، ولا يعرف مسنونات الصلاة، ولا يعرف ماذا يفعل، حتى لسانه يقع في محرمات وهو لا يشعر!!!
فعليك بالأهم ثم المهم، وكل الدين مهم لكن هناك أمر أهم من غيره، وعليك بالتدرج.
عليك ألاَّ تنشغل بالأدوات عن الهدف، فإن بعض الناس ينشغل بالأدوات مثل النحو ومصطلح الحديث، وينشغل به، وهو ليس إلا أداة لتعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتتعلم معانيه، أما أن تنشغل بهذه الأداة عن الهدف الأساسي فهذا خطأ في طلب العلم.(13/18)
إياك وتتبع الزلات
وبعض الناس ينشغل أثناء طلب العلم بعيوب الناس، وهذه مصيبة، فيتكلم في الشيخ الفلاني، وفي العالم الفلاني، وفي الداعية الفلاني، ويجمع الأشرطة والكتب، حتى إن بعض الناس تجده يجمع الأوراق والأشرطة والكتيبات، وكل كتاب يكتب في أوله أخطاء ذلك العالم، وهو لو قرأ عليك القرآن لما قرأه قراءة صحيحة، ولو أخطأ في صلاته لما عرف إصلاح صلاته، ولا يعرف معاني آيات في القرآن، ثم بعد هذا ينشغل بعيوب الناس، ويأتي ليتكلم في أمور كبار للعلماء، في الجماعات، وفي الفرق، وفي أهل البدع، يرد على شبهات أهل البدع وهو لا يعرف عقيدة أهل السنة والجماعة فهذا من الخطأ ومن الجهل والفوضى في الطلب، فلا يطلع كتاب إلا واشتراه، يذهب ويسأل صاحب المكتبة: ما هي الكتيبات الجديدة؟ وكل يوم فقط يقرأ الكتبيات الجديدة، هذا طلب علم لكنه فوضى، فطالب العلم الجاد يقرأ العلم من الأصول، فيقرأ القرآن، ومعانيه، وتفسيره، والحديث، ومعناه، والفقه أما أن يكون علمه في الكتيب الجديد في الساحة فهذا لا يستفيد من طلب العلم.(13/19)
تعلم العلم مع الأدب
خامساً: لابد من تعلم العلم مع الأدب.
إياك إياك أن تتعلم العلم بغير أدب! وانظر إلى الأدب عند بعض العلماء وعليكم أن تتحملوا فإن هذا الدرس تطبيق عملي لما قلناه من الصبر، ومن احتمال الكلام، ومن التصبر في طلب العلم.
يقول الشافعي رحمه الله -وانظروا إلى الأدب مع شيخه- يقول: كنتُ أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبة له لئلا يسمع وقعها.
هذا هو الأدب، وماذا نستفيد من طلب العلم بغير أدب؟! طالب علم حافظ للقرآن وحافظ أحاديث كثيرة، وما جلس مجلساً إلا ولسانه سليط على الناس، يبدِّع الناس، ويفسقهم ويكفرهم ويضللهم، ولو ناقشته في مسألة لفسقك وبدَّعك، ولا تستطيع أن تناقشه أصلاً، فإنه يرفع صوته عليك، ولا بد أن يكون منتصراً هذا عنده علم لكنه قليل في الأدب، فلا ينفع علمه هذا إلا إذا وجد معه الأدب.
يقول الربيع بن سليمان، وهو تلميذ الشافعي، فلأن الشافعي أحسن أدبه مع شيخه، أحسن تلميذه معه الأدب، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، يقول الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له.
وبعض الناس قليل أدب، يجلس أمام شيخه، والشيخ يتكلم، فينادي باسمه، أو يتصيد أخطاءه، أو يفضحه بين الناس وكل عالم وشيخ له أخطاء، وله زلات، لكن هذا ليس عنده إذا جلس في مجلس إلا أن يقول: سمعتم الشيخ ماذا قال؟ ويبدأ يتكلم ويجرح سبحان الله! أتعب نفسه في جمع الأدلة على الشيخ فلان، أتعب نفسه ووقته وضيع عمره وقل أدبه.(13/20)
تنظيم الأوقات وتقسيمها
سادساً: عليك بتقسيم الأوقات.
لا يكون وقتك سَبَهْلَلاً، بل يكون لك وقت في الحفظ، ووقت مطالعة، ووقت كتابة، ووقت تلخيص، ووقت مدارسة، ووقت مراجعة، ووقت حضور درس ولا بد أن يكون لك وقت للراحة، فطالب العلم لا بد أن يرتاح، ولا بد أن يستجم، ويلهو لهواً مباحاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن ساعة وساعة) فلا تضحك على نفسك، تتحمس من البداية ولا تجعل لك وقتاً ولو ربع ساعة تلهو أو ترتاح، ثم تستمر يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة، (إن الله لا يمل حتى تملوا) وطبيعة الإنسان ساعة وساعة، فإذا وصلت إلى مرتبة العلماء، بعد هذا نقول: اجعل وقتك كله للناس، وأما من الآن فلا تجعل أوقاتاً تلعب أو تمرح أو تتنزه فيها هذا من الخطأ، اجعل أوقات فراغك مع إخوانك، في الأنشطة، وفي البرامج، وفي الرحلات، والنزهات، اخرج معهم ولو كان على حساب طلب العلم؛ لأن النفس تحتاج، ولو لم تقضِ هذا الوقت مع إخوانك فسوف تقضيه مع غيرهم، ولو أن تجلس لوحدك في البيت للراحة.(13/21)
عدم الاستعجال في الفتيا
سابعاً: إياك أن تستعجل الفُتيا.
فإن بعض الناس يحفظ القرآن وعمره سبع سنوات، ويحفظ معه مائة أو مائتي حديث، ويظن أنه قد بلغ مرتبة الفتيا، وأنه يحق له أن يفتي،
يا أخي: إلى الآن لم تبلغ مرتبة الفُتيا، الفُتيا لها شروط ولها ضوابط، وانظروا إلى السلف كيف كانوا يتهربون من الفُتيا، أما الآن فإنك إذا سألت أحداً قال لك: أنا أرى في المسألة وأرجِّح كذا.
من أنت حتى ترجح؟ أو يقول أنا أقول في هذه المسألة كذا.
من أنت حتى تقول أصلاً؟ أنت إما أن تنقل رأي العلماء وفهمهم أو تسكت، أما أن ترجح وتفصل وتقول: والله أظن أن الشيخ الفلاني جاءنا بالصواب.
سبحان الله! إما أن تسمعها من شيخ وإلا إياك أن تتعجل حتى تبلغ هذه المرتبة.
يقول حجاج بن عمير بن سعيد: سألتُ علقمة عن مسألة، فقال: ائت عبيدة فاسأله -يتهرب من المسألة- قال: فأتيت عبيدة، فقال: ائت علقمة.
فقلت: علقمة أرسلني إليك.
فقال: ائت مسروقاً فاسأله.
فأتيتُ مسروقاً فسألتُه، فقال: ائت علقمة فاسأله -أرجعه إلى الأول- فقلتُ: علقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك.
فقال: ائت عبد الرحمن بن أبي ليلى.
فأتيتُ عبد الرحمن بن أبي ليلى يبحث عن سوال واحد، ولو سئل به أحد الناس لأجاب مباشرة قبل أن يكمل السؤال قال: فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فسألتُه فكرهه.
كره الإجابة، مع أنهم علماء! يقول: فكرهه، ثم رجعتُ إلى علقمة، فأخبرتُه، فقال: كان يُقال: أجرأ القوم على الفُتيا أدناهم علماً.
إذا أردت أن تعرف أضعف الناس علماً فهو الذي يفتيك بسرعة، الذي كلما سألتَه بسؤال أجابك، فهذا أضعف الناس وأقلهم علماً.(13/22)
كل ميسر لما خلق له
لا تقل: أنا لا أصلح للعلم، فكل إنسان يصلح، ولا تقل: قد جربت فما فلحت.
بل جرِّب مرة أخرى، ومرة ثالثة، ورابعة، وتجرب حتى يدركك الموت وأنت تجرب وتحاول.
ومن الأمور التي تستغل وقتك بها أثناء العطلة: الدعوة إلى الله، ومنها: صلة الأرحام، ومنها: بر الوالدين، ومنها: زيارة الإخوان في الله، ومنها: عيادة المرضى، ومنها: اتباع الجنائز، ومنها: أن تعين مريضاً أو ضعيفاً، ومنها: أن تعمل أمراً يخدمك في الدنيا، وينفعك عند الله عزَّ وجلَّ، وهناك أمور كثيرة، فالذي لا يصلح لطلب العلم يصلح في أمور أخرى.
فلا تقل: أنا لا أصلح لطلب العلم، بل اطلب العلم الواجب واستغل وقتك في أمور أخرى، فهناك أمور كثيرة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وبعض الناس يطلب علماً قليلاً جداً، يقضي به فرضه، ثم إذا كان عنده وقت فراغ كبير يقول: ما أصلح لطلب العلم، نقول له: عندك دعوة، عندك زيارة الإخوان، عندك بر الوالدين، عندك صلة الأرحام، عندك عيادة المرضى، عندك توزيع شريط أو نشره، عندك مساعدة الإخوان في الله وإذا لم تستطع هذه فطاعة الله عزَّ وجلَّ كثيرة، المهم أن لا يمضي الوقت إلا في طاعة الله عزَّ وجلَّ.
وأفضل الأعمال على حسب الأوقات، فمثلاً: قراءة القرآن، الحسنة بعشره أمثالها، ولكن أيهما أفضل: قراءة القرآن أم الترديد خلف المؤذن؟ قراءة القرآن أفضل من الترديد خلف المؤذن، لكن لو أذن المؤذن، ففي هذه اللحظة يكون الترديد خلف المؤذن أفضل، لأن لكل وقت ما يناسبه وبين الأذان والإقامة، الأفضل هو الدعاء، فإن لم تفعل فاقرأ القرآن أو اذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا تخلط بين الأوقات، ولا تخلط بين الأمور، فإذا أمرك أبوك بأمر، فلا تقل: أنا مشغول، أنا أطلب العلم! هذا خطأ، فإن هذا أفضل، وهذا وقته، وصلة الأرحام لها وقتها، وعيادة المريض كذلك ويأتي إليك إخوانك في الله ويقولون لك: فلان من الناس مات، هناك جنازة، فلا تقل: أنا مشغول، أنا أطلب العلم! هذا خطأ، هذا وقت اتباع الجنائز، ولكل شيء وقت، وإذا مرض جارك، أو أخوك في الله فاذهب إليه، ولا تقل: ليس عندي وقت، أريد أن أحفظ القرآن سبحان الله! [لأن أمشي في حاجة أخي خير لي من أعتكف في مسجدي هذا شهراً] وإذا جاءك جار لك وقال: يا أخي أوصلني، سيارتي تعطلت، فلا تقل: لست بفارغ، الآن جدولي أن أحفظ قرآناً.
هذا خطأ يا أخي، ولكل وقت ما يناسبه، ولكل حالة ظروفها.
المهم أن يمضي الوقت في طاعة الله، بأي شيء.
إن العاقل دائماً يشتكي ويقول: ما عندي وقت، أما البطَّال فيقول: ما أفعل بالوقت؟ وقتي فارغ، علموني، أعطوني أشياء أعملها.(13/23)
كيف تنظم وقتك
وهنا نصائح سريعة -قبل ختام الدرس- فحاول أن تحفظها، وإذا ما حفظتها فاسأل غيرك ممن حفظها، كما كان بعض السلف في طلب العلم، كان أحدهم يطلب العلم والآخر يعمل، ونحن نقول: البعض يطلب العلم، والبعض ينام، ثم إذا استيقظ هذا يعلِّم هذا.(13/24)
رتب شئونك أولاً
قبل أن تبدأ في طلب العلم رتب أمورك، ورتب جدولك، وفي كل يوم يكون عندك ورقة صغيرة تكتب فيها الأمور التي تريد أن تعلمها اليوم ماذا سأفعل أزور فلاناً، وأدعو إلى الله، وأقرأ هذا الكتاب، وأراجع، وغيرها من الأعمال، فاجعل لك ورقة صغيرة، خاصة إذا كنت من كثيري النسيان، وممن وقته ضائع سَبَهْلَلاً، فاجعل لك ورقة تكتب فيها هذه الأمور, ونظم نفسك قبل مجيئك لطلب العلم.
بعض الشباب عنده مكتبة لا تعرف أين مكان كل كتاب منها، فإذا أردت أن تخرج كتاباً تجلس نصف ساعة حتى تجده، ولعلك قد لا تجده فعليك أن تقضي ولو يوماً كاملاً في بداية العطلة لترتيب المكتبة، وكذلك الأشرطة، واجعل لك فهرساً، يسهل لك البحث عن الكتب.
إذاً: رتب نفسك قبل بداية طلب العلم.(13/25)
لا تخطط بدقة
نصيحة أخرى: لا تخطط تخطيطاً دقيقاً.
فلا تكن مثالياً، إلى درجة أنك تقول: أنا من الساعة الخامسة إلى الساعة السادسة في الكتاب الفلاني، ومن السادسة إلى السابعة إلا ربع في الكتاب الفلاني، وبعد المغرب من الساعة السابعة والربع إلى الساعة الثامنة إلا ربع في الكتاب الفلاني، حتى تنام، وهكذا من الصباح إلى الليل لا تضحك على نفسك، ولا يكن تخطيطك بهذه الدقة، فلا بد أن تجعل لك أوقات فراغ، وراحة، تحسباً للطوارئ وللظروف، ولراحة الجسد، فإن العين تمل، والنفس تمل، فلا بد أن تكون مسايراً للواقع، تقول: بعد العصر لهاتين الشغلتين كله، أو بعد المغرب لهذه الشغلة، حتى إذا كانت هناك أوقات فراغ فما يضيع عليك جدولك.
أيضاً أيها الأخ: اعلم أن الأمور الطارئة ليست فشلاً في جدولك، فقد تضع اليوم جدولاً لقراءة كتاب، وحفظ متن، فيأتيك أخ لك ويقول: تعال معنا لعمل شيء ما، أو لتوزيع شريط إسلامي أو زيارة، أو غيرها فلا تقل: أنا اليوم عندي جدول لأقرأ هذا الكتاب هذه أمور طارئة، لا بد منها، واعلم أنها ليست فشلاً لجدول إذا كانت لله عزَّ وجلَّ، وفي طاعة.
أيضاً اعلم أن بعض الناس بغيض، تجلس معه نصف ساعة فيقول: اسمح لي، انتهى وقتك، هذا هو الوقت المحدد للزيارة، حتى إن بعض الناس قيل له: أريد أن أجلس معك، فقال: كم تريد؟ قال: ربع ساعة قال: لا بأس، وأول ما جلس أخذ يراقب الساعة، فلما انتهت الربع الساعة قام، فقال: ما أكملت حديثك، بغير سلام ولا كلام ولا استئذان، فهذا الأمر يجعلك عند بعض الناس بغيضاً نعم لابد من الدقة، لكن ليس إلى هذه الدرجة، على الأقل اعتذر له، ولو بلباقة.
أيها الإخوة: أعلموا أن البداية لا بد أن تكون بقوة، فلابد أن تبدأ طلب العلم والنشاط في هذه العطلة بقوة، لكن عليك بالحكمة، فقد يكون حماسك بتهور ثم تنقطع ابدأ بقوة لكن بحكمة وبعدل واعتدال.
ثم عليك ألاَّ تكون وحدك، استشر، وكوِّن لك مجموعة قرناء، واعلم أن القرين إذا كان ضعيفاً سيحبطك، بل اجعل لك قريناً أعلى منك مرتبة، أو على الأقل يساويك في الرتبة في العلم، حتى تتنافس معه.(13/26)
لا استثناء في البداية
إذا عزمت على ألا تنام بعد الفجر إلى الشروق، ثم بعدها تنام ساعتين، فلا تجلس يومين أو ثلاثة ثم تنقض، ليس هذا العزم بعذر من الأعذار، وإياك أن تستثني من أول الأيام؛ حتى يتعود الجسد، فإنه قد يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يتعود، فإذا تعوَّد ستأتي الاستثناءات، فقد تكون يوماً مريضاً، ويوماً عندك شيء ضروري، ويوماً نمت متأخراً، أما في البداية فإياك إياك من الاستثناءات، فإن النفس كالطفل، كما قيل:
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
أيضاً عليك أن تعلم أن بر الوالدين ليس ضياعاً للوقت.
وبعض الناس يقول: والدي ضيَّع عليَّ وقتي.
لا يا أخي، حمل الحاجات والذهاب إلى صلة الأرحام، وحمل الأهل إلى مكان من الأماكن، وقضاء حاجاتهم، والجلوس معهم، والحديث معهم، هذا ليس بمضيعة للوقت، لا تكن إلى هذه الدرجة صخراً وجافاً، لا يجلس معك أحد، ولا تداعب الإخوان والأهل، ولا تجلس معهم، ولا تقضِ لهم حاجاتهم.(13/27)
مضيعات الأوقات
من مضيعات الأوقات:(13/28)
النوم
أولاً: النوم:
بعض الناس ينام ثماني ساعات، ويقول: قال العلماء: النوم ثماني ساعات، وهذا ليس بشرط، بعض العلماء كان ينام أربع ساعات، وأعرف شيخاً قال لي: والله أنا لا أنام إلا أربع ساعات.
وعشرون ساعة علم ودعوة وشغل، ونحن نقول: الجيد فينا من ينام ثماني ساعات، هذا إذا لم ينَم أكثر من ثماني ساعات، فإياك أن تضيع العمر في النوم، فإن النوم موت، ولهذا يسمى النوم أخو الموت، وفي هذه الأيام نرى بعض الناس يسهر إلى الفجر، ثم يصلي الفجر، ثم ينام إلى الظهر، هذا خطأ يا أخي، فإن ساعة من النوم في الليل تعدل ساعات من النوم في النهار، ولهذا فإن من ينام أغلب النهار يحس بتعب وإرهاق؛ لأن نوم النهار ليس كنوم الليل، فلابد أن تنام من الليل {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [النبأ:10 - 11] قال عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فأنام وأقوم) ثم عليك بنوم القيلولة لحديث: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) نَمْ في الظهر لكي تتنشط في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وإياك أن تتعب نفسك، فلا تعطيها حقها ولا راحتها من النوم ثم لا تستطيع أن تقرأ كتاباً، فكلما قرأتَ صفحةً نعستَ، وكلما صليتَ ركعةً نعستَ، وكلما جلستَ مجلساً نِمتَ، وكلما دعوتَ إلى الله تعبتَ، فعليك أن تعطي نفسك من الراحة ولكن لا تزِد عن حدِّها.(13/29)
الأكل
ثانياً: الأكل.
سمعتُ عن بعض الناس أنه يجلس على الغداء ساعة كاملة، فيجلس حتى يأتي الأكل يتحدث، ثم يأتي الأكل ويتركه ليبرد، ثم يبدأ يأكل لقمة من هذا ولقمة من هذا، وأحاديث وكلام ولغو حتى ينتهي، ثم يأتي ما يحلي به الطعام، ثم إذا شبع جلس حتى يشرب الشاي، ثم بعد هذا يشرب البيبسي، ثم بعد هذا يجلس ليرتاح، ثم بعد هذا ينام، فإذا بالعصر قد ذهب وقته ساعة كاملة على الأكل ما هذا يا أخي؟ تضيع وقتك ثم تقول: ما عندي وقت! أعرف بعض الناس -وهذه لعلها مبالغة- يجلس على الأكل وعنده كتاب، وهذا من حرصه على طلب العلم، وعلى استغلال الأوقات.(13/30)
الكلام
ثالثاً: الكلام.
بعض الناس ما عنده إلا الكلام، لو جلس عندك سبع ساعات لما تعب لسانه، ويأتي بقصة بعد قصة، وحادثة بعد حادثة، وسالفة بعد سالفة، وكلام بعد كلام، ولا يمل، سبحان الله! كل الناس عندهم أحاديث طيبة، يُمْضِي الإنسانُ نصف ساعة يسلي بها الوقت والمجلس، لا بأس بهذا، والكلام إذا كان فيه فائدة، وترويح عن النفس فلا بأس به، لكن بعض الناس يضيع وقته في الكلام، ينتهى من هذا، وهذا كأنه أحس بالملل، فيذهب عند فلان، ويجلس معه ساعة أو ساعتين، ثم يذهب إلى الثالث، ويضرب عليه الهاتف: هل عندك شيء؟ فيجيب: ليس عندي شيء، فيقول: أتمنى أن أقعد وإياك قليلاً، فيجلس وإياه ساعة أو ساعتين، ثم يذهب إلى الرابع، فيقول: يا فلان أنا جالس مع نفسي وأريد أن أجلس معك، وهكذا ثم يأتي الليل فينام ويقول: الحمد لله، اليوم قضيت وقتي كله في طاعة الله، فقد زرتُ فلاناً وفلاناً.
وهو لا يعلم أنه قد ضيع وقته كله، وأن هذا الكلام كله سيحاسب عليه عند الله عزَّ وجلَّ.
والزيارة لا بد منها، ولابد عليك أن تكرم الضيف، ولا تقل: أنا طالب علم، ليس عندي وقت.
هذا خطأ، بل عليك أن تكرمه، وإذا كان ضعيف الإيمان يريدك أن تنصحه، وقد يكون عنده مشكلة، فعليك أن تكرمه مهما كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) لكن بعض الناس ليس عنده شغل إلا الزيارات، رجل فارغ، يجلس من العصر إلى أذان المغرب، ولولا الأذان لما خرج، ولو أتاك بعد الفجر، فسيجلس إلى الظهر، حتى لو قلت له: يا فلان أنا مشغول، يقول: سأذهب معك إلى ظروفك.
يريد أن يخرج معك في شغلك، حتى ولو كنت تريد أن تجلس، سبحان الله! بعض الناس هكذا، يريد أن يضيع أوقات الناس، لكن المهذب، لا تقل له: اخرج أنت فارغ، لا يا أخي، اجلس معه، بالتعريض، تأتي بكتاب وتقرؤه عنده، أو تضع شيئاً وتكتب، فسيفهم إذا كان ذكياً، أو يأخذ كتاباً آخر ويقرأ عندك، فتكون قد استفدت وأفدت.
ابن الجوزي يأتي أمثال هؤلاء فيقول: إن أنكرتُ عليهم صارت بيني وبينهم وحشة، وإن سكت ضاع العمر، فكنت آتي بالأقلام لأبريها، والدفاتر والأوراق لأقطعها ويسطر.
لأن هذه تأخذ عليه وقت، لم يكن عندهم مثلنا، تشاكيل وقلم جاهز، بل الأقلام تُبَرَّى، والأوراق تُقَطَّع وتُسَطَّر، يقول: آتي بهذه التي لا تحتاج إلى شغل الذهن، ولا تمنع عن المحادثة، آتي بها عند الضيوف، وأبدأ أستغل الأوقات بتقطيع الأوراق وتجهيز الأقلام، حتى إذا ذهبوا بدأ في الكتابة، وفي النسخ، وفي العلم، وفي المطالعة، انظروا كيف استغل الوقت!
وبعض السلف كان صريحاً، حتى إن بعضهم يقال له: لعلنا شغلناك.
فيقول: صدقتم؛ لقد كنتُ أقرأ كتاباً فلما أتيتموني تركتُ الكتاب وأتيتكم.
وعليك بحسن الاعتذار، فتقول لإخوانك: يا فلان عندي شغل، اسمح لي جزاك الله خيراً، فإني كنت ألخص في شريط وما عندي إلا هذا الوقت، أراك إن شاء الله بعد المغرب بأسلوب جميل، باعتذار لبق، بأدب، لا تقفل الباب في وجهه، أو تدعو عليه، وبعض العلماء من شغله لو تذهب وتطرق عليه الباب بالسماعة يرد عليك، ليس عنده وقت، ولو جلس يستقبل كل إنسان، ويجلس مع كل إنسان، لما استفاد الناس من علمه، ولما صار علمه إلا لحاجة الناس، والكلام الفارغ مع فلان وغيره.
وبعض الناس عنده عقدة نفسية، كلما قلتَ له شيئاً قال: أنا مشغول، يريد أن يظهر أنه طالب علم، وأنه داعية إلى الله، كلما قلت له شيئاً قال: اسمح لي لا أستطيع أنا مشغول.
وإذا قلتَ له: يا فلان عندنا اليوم نشاط رياضي، قال: أنا مشغول.
وإذا قلت: عندنا طلعة، قال: اسمحوا لي، لا أستطيع، أنا مشغول، أريد أن أحفظ، وأريد أن أقرأ، لا تصل إلى هذه الدرجة من العقد، قد يكون هذا رياء والعياذ بالله، تريد أن تقول للناس: لاحظوا أني ما امتنعت من مجيئي معكم في الطلعة إلا ليقول الشباب: فلان -ما شاء الله- ليس عنده وقت يطلع أو يأكل.
وكأن الأمر أصبح رياءً، يا أخي أنت لابد أن يكون لك وقت للراحة فاجعله مع إخوانك؛ أما أن تظهر الانشغال، فهذا مرض وعقدة نفسية فانتبه لها.(13/31)
الهاتف والمباريات والجرائد
رابعاً: ومن مضيعات الأوقات: الهاتف.
بعض الشباب يقول: وأملُّ من بعضهم، وأعرف عن البعض أنه كان يجلس الساعة والساعتين يكلمني في التليفون، فكنت أسكت وأفكر أن أغلق في وجهه، فأستحي منه، أما الآن فإني أقول له: يا أخي معذرة أنا مشغول، وأعتذر له، فإنه يجلس ساعة ونصف بالهاتف يتحدث ويضيع الوقت.
والمباريات وما أدارك ما المباريات! طالب علم يريد أن يقضي وقته في حفظ القرآن وفي طلب العلم، ويأتي ليشاهد المباريات، أما يستحي؟! يا أخي ما أحد ينظر إليك إلا الله عزَّ وجلَّ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] وتأتي تضيع وقتك أمام المباريات!!
كذلك الجريدة، أتعرف أن الجريدة بعض الأحيان تأخذ ساعة إلا ربع أو ساعة كاملة؟ يمر الوقت بسرعة في مجلة تافهة، ويا ليتها مجلة علمية، فتأتي وتقرأ من العصر وما تشعر إلا وقت أذان المغرب، وقد ضاع وقتك وأنت لم تشعر، في مسابقات ومجلات.
وبعضهم يضيع وقته في الاستحمام، فيسبح ساعة إلا ربع، وهذا من مضيعة الوقت، ولابد أن تقدر لكل أمر قدره، اجعل لكل شيء قدره، فالاستحمام له وقت، والراحة لها وقت، والنوم له وقت، والأكل له وقت، والجريدة لها وقت، وكل شيء له وقت، وإياك أن تفرط في الأوقات أو أن يضيع عليك الوقت.
جد ابن تيمية رحمه الله كان إذا ذهب إلى الحمام للاستحمام أو لقضاء الحاجة كان يقول لحفيده: اقرأ عليَّ الكتاب حتى لا يضيع عليَّ الوقت.
وهو في الحمام -أجلكم الله- ويستمع إلى ولده وهو يقرأ عليه الكتاب.
أما نحن فلا نبالغ إلى هذه الدرجة، لكن شغّل المسجل، هذا إذا كان وقتك ضيق إلى هذه الدرجة، لكن ما أظن أحداً وقته ضيق إلى هذه الدرجة، أنه يستحم أو يقضي حاجته وليس عنده وقت، لكن شغل الشريط واستمع، وليس ذلك عيب، بل هو استغلال للوقت.(13/32)
علامات الوقت الضائع
ما هي علامات الوقت الضائع؟
علامته: بعد أن ينتهي يحس بضيق، يشاهد المباراة ساعة ونصف ويصفقون ويضحكون ويشجعون، وبعد أن ينتهي اسأل عن حاله، يقول: لا أعلم ماذا أصابني، صدري ضيق، ويجلس عند التليفزيون، ويشاهد مسرحية ثلاث ساعات، ويضحك بل لعله يسقط على بطنه من الضحك، وبعد أن ينتهي البرنامج ويقفل التلفاز اسأله عن حاله، فسيقول: أحس بضيق في الصدر.
هذه هي علامة الوقت الضائع، وكذلك لو جلس وتحدثت مع الشباب، فسوف تحس بعد ساعة بضيق في الصدر، لأنه قد ضاع الوقت، ولا يعني هذا ألا تتحدث مع الشباب، ولا تجلس معهم، فإياك إياك! واجعل لكل شيء قدراً.
ثم عليك ألا تضيع الأوقات التي تذهب، كأن تكون في السيارة، فإن بعض الشباب الموظفين يقول: ما عندي وقت.
نقول له: وأنت في الطريق ضع شريطاً واستمع، وكل يوم استمع إلى شريط علمي، وستسمع في الشهر ثلاثين شريطاً، وفي الشهرين ستكمل كتاب التوحيد كله على شرح الشيخ ابن عثيمين أليس هذا الأمر سهلاًَ؟!
الخطيب البغدادي رحمه الله كان يمشي وفي يده جزء يطالعه، وبعض العلماء كان يمشي ويقرأ، فكان ربما يمر بالحفرة فيسقط فيها، وتمر به الدابة فتضربه وهو لا يشعر، فكانوا يستغلون أوقاتهم حتى في الطريق.
والبعض كان يقرأ على بعض العلماء جزءاً كاملاً في الطريق، فهذا ابن عثيمين كان يمشي مع السعدي -رحمهم الله- إذا علم أن عنده زيارة، أو عنده وليمة من مسجده أو من بيته، ويسأله إلى أن يصل إلى بيت الضيف، ما كان يضيع هذا الوقت، حتى إذا ذهب إلى بيت الضيف، كان ربما دخل معه، وربما رجع مع الشيخ، انظر استغلال الوقت!
أما نحن فنضيع الأوقات في الانتظار عند الطبيب، وفي الجمعية، وفي الإدارة، وفي الوزارة، وفي كل مكان! فلا تضيع وقتك، وعليك أن تقرأ كتاباً ولو كان صغيراً.(13/33)
ضرورة الحذر من التسويف ومخالطة أهل الضياع
لا تقل سوف فسوف، يضيع عليك العمر، وهذه من أساليب الشيطان، وإذا كان عندك مهمة صعبة وبحث كبير فجزئه، ولا تقل: أحفظ القرآن كله، لا، بل: احفظ جزءاً في كل شهر، ولا نقول لك: احفظ القرآن كله في سنة، فهذا الأمر صعب، بل نقول: في كل سنة احفظ عشرة أجزاء، فإن الأمر صار سهلاً، إذاً: عليك أن تجزئ الأمور حتى لا تعظمها، ولا تقول: الأمر صعب، وكبير جداً، ولابد من أوقات راحة كما ذكرنا.
لا تخالط أهل ضياع الأوقات، الذين لا هم إلا اللعب واللهو والضحك، واعلم أنه كلما مر الزمان كلما ازداد شغلك، وازداد همك.
يُحكى أن أحمد بن محمد السلفي، الحافظ الكبير، يقول عن نفسه: أنه حدَّث سنة اثنتين وتسعين وما في وجهه شعرة، كان شاباً صغيراً، كان يحدث الناس وعمره سبع عشرة سنة.
يقول الحميدي: سمعتُ زنجي بن خالد، يقول للشافعي: أفتِ يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي.
وهو ابن خمس عشرة سنة، ويقال له: أفْتِ، فقد وصلت إلى درجةٍ تَفْتِي الناس.
انظروا إلى الهمة العالية التي تنطح الجبال!
عباد الله:
إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى جزء من العمُرِ
يقول الشاعر:
والوقت أنفسُ ما عنيتَ بِحفظهِ وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
أقول هذا القول، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(13/34)
الأسئلة(13/35)
اللهو المذموم
السؤال
ذكرتَ أن طالب العلم لا بد أن يكون له وقت يلهو فيه، وما ذكَر الله اللهو في القرآن إلا وذمَّه، فماذا تقصد باللهو؟ وما معنى اللهو في القرآن؟
الجواب
اللهو في القرآن هو الذي يصد عن الله وعن الدارة الآخرة، فهذا هو المذموم، لكن لَهْوٌ يعينك على طاعة الله، ويحببك لإخوانك، ويزيد بينك وبينهم الألفة والتعارف، فهذا لََهْوٌ محمود، أما اللهو الذي يصد عن ذكر الله فهو اللهو المذموم الذي يصرفك عن طاعة الله، والذي يزيدك غفلة على غفلة، وهذا أكثر لَهْوِ أهل الدنيا.(13/36)
كتب ينصح بقراءتها
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها في الصيف؟
الجواب
كل واحد بحسب مستواه، لكن يبدأ الإنسان بالقرآن وتفسيره، ثم بالحديث ومعانيه، ثم بالفقه، وبالعقيدة، هذه هي الأمور الأساسية، ثم أهم شيء أن يجلس مع إخوانه في الدروس وحلق العلم، كما قال علي: [كدر الجماعة، ولا صفو وحدة] فلأن تجلس مع إخوانك مع الكدر والضيق ومع قلة الفائدة أفضل من أنك تجلس لوحدك، وبعد أيام يفترسك الشيطان، فإن الشيطان مع الواحد.(13/37)
لحوم العلماء مسمومة
السؤال
أرجو توجيه كلمة لبعض الشباب الذين يتكلمون في العلماء والمشايخ، والانشغال بالفروع البسيطة في الدين؟
الجواب
أكثر ما يصدر هذا إما من أناس جُهَّال بدين الله عزَّ وجلَّ، فيبدأ يتكلم في العلماء والمشايخ، أو من أناس أصابهم الغرور والعُجب، فيظنون أن مستواهم أعلى من الشيوخ والعلماء، فيبدأ يطعن فيهم، أو من إنسان يظن أن العلماء معصومون، فإذا رأى خطأً من عالم أقام الدنيا وأقعدها، سبحان الله! يا أخي كل الناس يصيبون ويخطئون، (كل بني آدم خطاء) فيبدأ يجمع أخطاء الشيخ الفلاني وأخطاء الشيخ الفلاني، ويبدأ يتكلم ويضيع وقته وعمره، يقول ابن عباس: [من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله] أتعرف لماذا يا أخي؟ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ومن الذين يرثونك؟ إنهم أقرب الناس إليك، أبناؤك وزوجتك وإخوتك، ولهذا لما كان العلماء ورثة الأنبياء فهم أقرب الناس إلى الأنبياء، وهذا يتكلم فيهم في المجالس، من أنت؟ هذا جمع من الحسنات أمثال الجبال، وأنت ماذا جمعتَ؟ حتى الفجر ربما لم تصله، وكل مجالسك غيبة ونميمة، ولو سألناك عن سورة الأنعام ربما لم تحفظها، وهذا الإنسان قد أفنى عمره في العلم والدعوة والجهاد، ولعله أخطأ بعض الأخطاء التي لا يسلم منها أحد.
وأسألك سؤالاً: رجل يحفظ سورة الإخلاص، ورجل يحفظ القرآن، أيهما تكثر أخطاؤه؟ من المعلوم أن الذي يحفظ القرآن كله أخطاؤه أكثر؛ لأنه حافظ كل القرآن، ولهذا كثرت أخطاؤه، أما الذي يحفظ الإخلاص فقط فهذا ليس عنده أي خطأ؛ لأنه ليس عنده علم، ولأنه جاهل، وربما تكون جالساً في المنطقة الفلانية، ولا يعرفك أحد، ولا يراقبك أحد، وليس لك ولا درس واحد، ولو كان لك درس فسنخرج عليك مائة خطأ، حتى اللغة العربية لا تعرف أن تنطقها، لغتك أعجمية، تنصب الفاعل، وترفع المفعول، ومع هذا تجلس في مجلس وتقول: الشيخ الفلاني فعل، والشيخ الفلاني ما فعل، والشيخ الفلاني مبتدع، والشيخ الفلاني كذا.
فهذا إما جاهل وإما مغرور.
وهذا إن لم يتب ويصلح أمره فسوف يفضحه الله عزَّ وجلَّ ولو بعد حين.(13/38)
البداية المحرقة تؤدي إلى نهاية مشرقة
السؤال
من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة ما هو تعليقكم على هذا؟
الجواب
جزاك الله خيراً، فإن الذي ليس له بداية محرقة يحترق، وكما قيل: (ومن طلب العلى سهر الليالي).
وقال الشاعر:-
أأبيت سهران الدُّجَى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي؟!
هذا يتعب ويسهر ويجني، وترى أثر التعب عليه من طلب العلم، ومن قراءة الكتب، وهذا قد انتفخت عينه من النوم، ومن الأكل، ومن الشرب، ومن اللعب، ومن المرح، فهل يستوي هذا وهذا؟ لا والله لا يستويان عند الله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].(13/39)
العلم لا ينتهي
السؤل: سمعتُ الحث على طلب العلم، وقد يفهم الشباب من هذا الدرس أن العلم يؤخذ كله في هذه العطلة، ويريد أن يصبح عالماً، فيأخذ العلم كله في هذه العطلة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
العلم لا ينتهي، اطلب العلم حتى تموت، موسى عليه السلام سئل: من أعلم الناس؟ قال: أنا.
موسى الذي اصطنعه الله على عينه، وكان أفضل من يمشي على الأرض، علمه الله منذ صغره ورباه وأوحى إليه، قيل له: من أعلم الناس؟ قال: أنا، فعاتبه الله، كيف أنت أعلم الناس؟ هذه كلمة عظيمة، اذهب إلى البلد الفلاني فإن فيها رجلاً يعلم علماً لا تعلمه يا موسى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
والعلم ثلاثة أشبار:
الشبر الأول: التكبر، أول ما يبدأ الشباب في طلب العلم يصيبهم الكبر، ويظن أنه ما أحد مثله في العلم.
الشبر الثاني: التواضع، إذا توغل في العلم تواضع.
الشبر الثالث: يعلم أنه لا يعلم.
قال الشافعي: كلما ازددتُ علماً ازددت علماً بجهلي.
فالمتكبر هو الذي عنده قليل علم، فاعرف أنه جاهل، فما تكبر إلا جاهل، وما تواضع إلا عالم، وكلما ازددتَ في العلم كلما ازداد تواضُعك.
أيها الإخوة: ليس العلم كل شيء، الذي لا يستطيع أن يطلب العلم في هذه العطلة، عليه أن يتجه لعبادة أخرى (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
بعض الناس أعطاه الله عزَّ وجلَّ قوة في اللسان، وفي البلاغة.
وبعض الناس أعطاه الله عزَّ وجلَّ حسن أخلاق، فهو يستطيع أن يكسب الناس إلى الدين.
وبعضهم أعطاه الله مالاً ينفقه في سبيل الله.
وبعضهم أعطاه الله عزَّ وجلَّ أسلوب الكتابة.
وبعضهم أعطاه الله عزَّ وجلَّ قوة في الجسد، وهكذا {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
المهم أن يكون وقتك في طاعة الله، علم، دعوة، عبادة، صلة، أي عمل خيري، وليس شرطاً أن تكون طالباً للعلم، المهم أن تتعلم العلم الواجب عليك، والفرض، فهناك فرض كفاية وفرض عين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم.(13/40)
إلى متى الغفلة؟
الغفلة داء عضال، وقد لا يكتشف إلا في ساعة الاحتضار.
وإن الناظر في سيرة السلف الصالح ليتجلى له مدى خوفهم من هذا الداء، وقدر استعدادهم للحظة اللقاء مع الله.
وفي هذا العصر أيضاً صور لأناس استيقظوا من غفلتهم قبل فوات الأوان.(14/1)
الغفلة والانتباه في ساعة الموت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
حياكم الله في هذا المجلس، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً.
أيها الإخوة الكرام: هذه موعظة لنفسي قبل أن أعظكم، والإنسان منا -نسأل الله العافية- يغفل، وتصيبه بعض الأحيان الغفلة، ولعله ما ينتبه منها إلا بعد أن يفوت وقت الندم، ومن الناس من يعيش في غفلة ما ينتبه منها إلا ساعة الوفاة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] فيعيش في الدنيا -نسأل الله العافية- بين الأكل والشرب والنكاح والمأكل والملبس، أهم شيء عنده في الحياة أن يؤثث البيت أضخم أثاث، هذه غايته، أمنيته أن يتزوج الواحدة والاثنتين والثلاث، فلا هم أعلى من هذا، همه في الدنيا أن يلبس أحسن الملابس، ويعتلي أعلى المناصب، ويجمع الأموال {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].(14/2)
الموت يأتي ويقطع الآمال
من الناس من ينتبه في ساعة الوفاة، كان يجلس مع أهله كل ليلة يسامرهم، ويضاحكهم، ويلاعب أولاده، وعدهم بالسفر في الصيف، وعد البنت الصغيرة بلعبة، أما الزوجة فوعدها بالذهب والفضة، والملابس الوفيرة، أحلام وأوهام يعيشها ويعيِّش أولاده بها، نام وقال لزوجته: أيقظيني الساعة السابعة للعمل، أين صلاة الفجر؟ ليست بحسبانه، وليست في باله، أيقظيني للعمل، نام في تلك الليلة، والمسكين كان على موعدٍ لا يعلم عنه شيئاً، انتبه وفزع! رأى شيئاً بجنبه قال: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت.
ما الذي جاء بك؟! قال: جئت أنتزع الروح انتظر قليلاً لم يريد الانتظار؟ أتعرف يا أخي الكريم؟ عنده أمانات ما أرجعها لأهلها، عنده ذنوب ومعاص إلى الآن ما تاب منها، انتظر قليلاً: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] صاح فإذا أهل البيت يجتمعون، فزعت الزوجة وقامت -وهذه القصة واحدة من قصص كثيرة تحصل للناس- فزعت الزوجة: ما الذي بك؟ ما الذي جرى؟ -لا يستطيع أن يجيبها، هو الآن في همٍ آخر، هو الآن في علمٍ آخر، هو الآن في حياة أخرى، يا أخي الكريم! ما تدري أنت بها؟ - وإذا بالأولاد يجتمعون عنده، وإذا بالأب وبالأم يأتون، ينظر إليهم ولكن -للأسف- لا يستطيع أن يجيب أحداً منهم {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) [القيامة:26 - 28] تخيل هذا المنظر البنت على صدره تبكي، تقول: يا أبي! ألم تعدني تلك الليلة بهذه اللعبة؟ لمَ لا تجيب؟ الابن يقول: يا أبي! وعدتنا بالسفر، لمَ الآن لا تجيب يا أبي؟ تقول له الزوج: يا فلان! لمن تتركنا؟ أما الأم فإنها تبكي وتقول: يا بني! غادرتنا صغيراً، أما الأب فقد جاء بالطبيب، والحالة عنده بكاء وفزع وعويلٌ ولعلها نياحة: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] تقول: لمَ هذه السكتة؟ أقول لك: لعلها العبرة قد خنقت القارئ، ولعلها فترة فكر ونظر في هذا المشهد العظيم {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27 - 28] علم أنه يفارق، يفارق ماذا؟ هل يفارق مصحفاً كان يقرؤه؟ لا.
هل يفارق صلوات في آخر الليل؟ لا.
إلا من رحم الله، هل يفارق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله؟ لا.
إلا من رحم الله.
تعرف ماذا يفارق؟ يفارق سيارة جديدة، يفارق أثاثاً وفيراً، يفارق -يا أخي الكريم- زوجة لم يتمتع بها، يفارق ذلك البيت الذي بناه وأثثه ولكن لم يسكنه إلى اليوم {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:28 - 29].
رجل كان يعيش في حلم لم ينتبه منه، كان يقود سيارته مسرعاً -كحال أكثر الشباب هذا الزمن- والموسيقى قد ارتفعت، والأغاني قد تولع بها، ويعيش في عالمٍ آخر يفكر في عشيقة أو حبيبة، أو في أغنية، أو همٍ يحرق قلبه، وفجأة انقلبت به السيارة، وجاءه ذلك الشرطي، وسحب جثته، فعلم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، أتعرف ماذا قال؟ قال: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر، ثم فارق الدنيا {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29]-تقول لي: لِمَ دخل سقر؟ - {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] ما كان يصلي، ولا يذكر الله جلَّ وعلا، وما كان يعكف على قراءة القرآن.
الآن وقد قربنا من شهرٍ كريم -أيها الأخ الكريم- أسألك بالله: متى ختمت القرآن آخر مرة؟ لو دخل بيننا ملك الموت ونزع هذه الروح، هل أنت الآن مستعد؟ هل صليت خمس صلوات اليوم في جماعة بخشوعٍ وخضوع؟ هل أنت اليوم لم ترتكب محرماً إلا وتبت منه، عندك ذنوب سابقة، هل تبت منها؟ هل تخلصت منها؟ مظالم بينك وبين البشر، هل تحللت منهم؟ هل أنت الآن مستعد؟ أم أنك سوف تقول إذا جاءك الملك: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:100] أعمل صالحاً، يا رب! أرجعني فقط وأنا والله ما أرفع رأسي عن السجود، الآن عرف الحقيقة، الآن انتبه من النوم، الآن تيقظ من تلك الغفلة، ولكن لا ينفعه {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] يرجع حتى يقبل بناته؟ أو حتى يسلم على أمه أو يودع أباه، أو يوزع أمواله؟ لا.
أتظن أنه يرجع حتى يبني البيت أو يسكنه؟ لا والله.
بل يرجع لقضية واحدة {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100].
الآن كن أنت هذا الرجل، أسألك بالله منذ رمضان الماضي إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ كم مرة قرأته قراءة تدبر؟ فالقضية ليست قراءة، بل القضية تدبر {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].(14/3)
عظم الموت عند السلف
الله عز وجل أنعم عليك بالنعم، فهل أديت شكرها؟ كم من الناس من هو عقيم لا يلد له، يتمنى أن يسمع كلمة (أبي) فتجده يتمناها، ويحترق قلبه عندما يرى أولاد المسلمين وهو ليس له ولد، أعطاك الله الولد، وأعطاك الذرية، وكبرت الذرية فهل شكرت الله فيها؟ هل حجبت البنات؟ اتق الله فإنهن سوف يتعلقن برقبتك عند الله جل وعلا يوم القيامة.
من أتى لهم بالتلفاز، أليس هو أنت؟ من أدخل للبيت تلك الملاحق القذرة، أليس هو أنت؟ سوف تأتي يوم القيامة وتُسأل عن هذا {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] هل الآن أبصرت؟! الآن لا ينفعك البصر، هل الآن سمعت؟ أين أنت في الدنيا فهي وقت العمل؟ الآن لا ينفعك شيء في يوم الحسرة ويوم التغابن.
يا أخي الكريم: كن مستعداً وصادقاً مع نفسك، لا تقل مثلما قال فلان: في العمر متسع، وإذا جاء رمضان إن شاء الله أو وقت الحج أتوب، أو لما يحصل كذا وكذا سوف أصلح، هل تضمن أن تدرك ذلك اليوم؟(14/4)
أبو العتاهية وهارون الرشيد
دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد وقد مدح الناس قصره، فقال له: ماذا تقول أنت يا أبا العتاهية؟
قال أنا أقول:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
قال الملك: هه، يعني زد، ما أعظم هذا الشعر!!
يجري عليك بما أردت من الغدو من البكور
ففرح الملك فقال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى الملك حتى سقط على الأرض من البكاء، ثم لما أفاق قال للجنود وللحرس: اهتكوا الستر، وأغلقوا الأبواب فإني راجعٌ إلى بيتي القديم.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [آل عمران:185] مصيبتنا -والله- في الدنيا، حتى بعض الصالحين مصيبته في الدنيا، حتى بعض من يتظاهر بالالتزام مصيبته في الدنيا، كبَّر وما زال قلبه في البيت، سجد ومازال يفكر في الدوام، يقرأ القرآن وهو يتذكر زوجته وأشغال البيت، إنا لله وإنا إليه راجعون، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(14/5)
عمر بن عبد العزيز أمام القبور
الخليفة عمر بن عبد العزيز هل سمعتم به؟ إنه أمير المؤمنين، هذا الرجل صار أميراً للمؤمنين، أتعرف ماذا فعل؟ كان يأتيه أحد الولاة، فيدخل في بيت -أو كوخ أمير المؤمنين أمير المؤمنين يسكن كوخاً! - فيسأله أمير المؤمنين عن أحوال الرعية وعن شئون المسلمين -لا يغيب عن المسلمين- فلما انتهى قال الوالي: أما الآن فإني سائلك يا أمير المؤمنين عن أهلك وولدك، قال: انتظر، وكان في الغرفة سراج، فأطفأ السراج وأظلمت الغرفة فقال الوالي: لم فعلت هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا السراج من أموال المسلمين أشعلته لأسأل عن أحوالهم، أما أن تسألني عن أهل بيتي وأولادي فلا يحق لي أن أشعل هذا السراج، إنه من أموال المسلمين.
كان لا يملك إلا ثوباً واحداً، إذا غسلته زوجته فاطمة يجلس في البيت لا يخرج حتى يجف اللباس ثم يخرج إلى الناس ويلبسه.
هذا الرجل في يوم من الأيام صلى بالناس العيد إماماً، وبعد الصلاة مرَّ على مقبرة فنزل عن بغلته -هذا موكبه- وعنده بعض أصحابه، فقال لمن عنده: انتظروا، فذهب إلى المقبرة وأخذ ينظر إلى القبور أسألك -أخي الكريم! وأطلب منك طلباً: اذهب للمقبرة في غير يوم جنازة، لا تقل: أذهب لجنازة قريب أو صاحب، لا.
اذهب يوماً من الأيام لوحدك هكذا، وانظر إلى القبور، وكلمها، هل يجيبك أحد؟ سلها هل يرد عليك أحد؟ - قال عمر وهو ينظر إلى المقابر: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ أيها الموت -يكلمهم- ماذا صنعت بهم؟ فلم يجبه أحد، ثم خرَّ على ركبتيه وهو يبكي ويردد شعراً فيقول:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناسٍ مضوا أما لك فيما مضى معتبر
فإذا به يبكي بكاءً مراً حتى اجتمع الناس حوله، حتى هدأ رحمه الله.
إنها القبور، إنه منزلك يا أخي الكريم! مر عليه يوماً من الأيام وتفحصه، هل تحمل معك أثاثاً؟ أو يدخل معك فيه أحد؟ بعد أيام ولعله بعد لحظات سوف تسكنه وأنت لا تدري، غفلة وأي غفلة!
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185] القضية أكبر من هذا، لو كان موتاً لكان هيناً، يقول الشاعر:
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء(14/6)
عثمان يبكي إذا رأى القبور
القضية أكبر من الموت يا أخي الكريم! القضية هي ما بعد الموت.
عثمان بن عفان رضي الله عنه ثالث الخلفاء، إذا وقف على المقبرة بكى، يروى أنه كان يختم القرآن كله في ليلة، وقد أنزل الله فيه آيات هي: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] هذا هو العلم الحقيقي، العلم الذي يوصلك إلى خشية الله ومخافته، عثمان قتل وبيده مصحف، قال له الصحابة: نقاتل عنك؟ قال: دعوهم، فدى الأمة بدمه، قال: دعوهم واتركوهم.
خوارج كفَّروا عثمان، كفروا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، اقتحموا عليه الباب -انظر إلى الوقاحة- ودخلوا وهو يقرأ القرآن، وزوجته عنده فطعنوه تسع طعنات، طعنه الشقي وقال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر، وكذب والله، فالتسع كلها ليست لله عز وجل، ألله قتل عثمان؟ أعوذ بالله! لما قتل سال الدم على المصحف، فبكت زوجته على أمرٍ واحد، قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].(14/7)
السعادة الحقيقية في طاعة الله
أخي الكريم: القضية سعادة الدنيا والآخرة، أتريد السعادة؟ ما منكم من أحدٍ إلا ويقول: نعم.
أتعرف أين هي؟ إنها في ركعات في آخر الليل، هي في صلاة الفجر وبعدها إلى طلوع الشمس، والله الذي لا إله غيره إنها السعادة.
اجلس مع بعض الأتقياء الورعين الصالحين قل لهم: ما هي أسعد لحظات الحياة؟ يقول لك: إنها ساعة الإفطار عندما كنت في الحرم وأسمع الأذان يؤذن وبيدي رطبات أفطر عليها.
سل الآخر، يقول لك: كنا في مسجد فلان نقوم الليل وكنا نبكي من خشية الله، فهي أسعد لحظات الحياة.
سل الثالث يقول: متى أسعد لحظات الحياة؟ يقول: لما كنا نسمع أصوات المدافع والرشاشات وكنا في الصف الأول فكانت تغمر قلوبنا سعادة لم نشعر بها مرة أخرى، إنها السعادة الحقيقية {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(14/8)
المعاصي لا تأتي إلا بالضنك
قبل أيام اتصل بي شاب قال: أنت الشيخ؟ قلت: نعم تفضل، قال: يا شيخ! لم تخطر على بالك معصية ولن تخطر على بالك معصية إلا وقد فعلتها، قلت: وماذا تريد؟ قال: يا شيخ! كل شيء فعلته في الدنيا، قلت: وما طلبك؟ قال: مللت حياة الدنيا، كرهت الحياة، وكأنه يريد الانتحار، ففتحت له باب التوبة، وفتحت له باب الرجاء، يقول: يا شيخ! كلما أفعل المعاصي كلما ازددت ضيقاً وهماً وغماً.
أتدري ما هو السبب؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] أعرض عن ذكر الله.
بعض الصالحين يقول: عندي أحياناً ضيق في الصدر، تسأله: هم الأمة؟ هم الناس؟ إصلاحهم؟ يقول: لا.
إذاً ما همك؟ هم القيامة؟ هم الآخرة؟ يقول: لا.
ما همك؟ هم القبر؟ يقول: لا.
يقول: ما أدري هم في الصدر، أقول لك: فتش في نفسك عن ذنبٍ ارتكبته، فتش في نفسك، نظر إلى امرأة، سماع أغنية، غيبة زل بها اللسان، نوم عن صلاة، هذا هو ضيق الصدر، يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].(14/9)
السعادة في السجود
أحد الناس يقول عن نفسه: ما من معصية إلا وفعلتها، ضاقت بي الأرض بما رحبت، قررت السفر، مللت الحياة، يقول: سافرت، فإذا به يذهب إلى أين؟ إلى بلدٍ أخرى فيها أخوه، وكان أخوه صالحاً، يقول: طرقت الباب ودخلت عليه، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي والله مللت هذه الحياة -والشيء بالشيء يذكر، السويد من أكثر الدول إباحية، ليس فيها حرام، أو ممنوع، افعل ما تفعل، حتى الرجل يتزوج مثله، وعندهم لذلك قانون، ومع ذلك هذه الدولة أعلى نسبة انتحار فيها، يذهب إلى أعلى عمارة ويرمي نفسه من الأعلى، هذا مصيرهم- يقول هذا الشاب: سافرت إلى أخي وجلست عنده.
يقول: نمت أول ليلة عند أخي، وفي الفجر جاءني رجل يوقظني، قال لي: قم، قلت: إلى أين؟ قال لي: قم لصلاة الفجر، فنظرت إليه، فقلت له: أنا لا أصلي، قال: أعوذ بالله مسلم لا يصلي؟! فقلت: أنا لا أصلي دعني أنام، قال: قم صل ولو مرة، قلت: لا أصلي، واغرب عن وجهي، قال: جرب الصلاة مرة، ثم ذهب، وجلست أفكر على الفراش بكلامه: جرب الصلاة ولو مرة، يقول: فقمت واغتسلت، وذهبت إلى المسجد وصليت، ثم رجعت إلى أخي فقلت له: يا أخي! وجدتها، قال: ما وجدت؟ قلت: وجدت السعادة التي كنت أبحث عنها، قال: أين؟ قلت: في سجودي في الصلاة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر:22] نسأل الله ألا يقسي قلوبنا {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر:22] يسمع ذكر الله ولا يتأثر، لا يقشعر الجلد ولا يبالي، كأنها قصص أو كأنها أحاديث الناس {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
قال أخوه: إذاً نعمت السعادة ونعمت الهداية فظل يوماً أو يومين، ثم قال لأخيه: سوف أرجع إلى بلدي، فرجع إلى أمه وطرق الباب عليها، ففتحت أمه الباب وقالت: يا بني! ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة؟ -كان متعوداً للسفر إلى الحرام- قال: يا أماه! وجدت الذي أبحث عنه، قالت أمه: وما هي؟ قال: وجدت السعادة، قالت: يا بني! أين وجدتها؟ قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في القرآن، وجدتها بالذكر، ففرحت أمه، فظل يوماً أو يومين ثم قال: يا أماه! أطلب منك طلباً؟ قالت: وما هو يا بني؟ قال: أريد السفر يا أماه، قالت: إلى أين يا بني؟ قال: أريد السفر للجهاد في سبيل الله، قالت أمه: يا بني! ما منعتك وأنت تسافر للمعصية أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة؟! اذهب وتوكل على الله.
سافر الشاب التائب إلى الجهاد، وتدرب شهوراً ثم دخل في المعركة وكان بجانبه صاحبٌ له، اشتدت المعركة وقويت الغارة فإذا بصاحبه يصاب بشظية، فحمل صاحبه ليسعفه وأسرع به ولكن المنية أقرب، غادر صاحبه الدنيا، ما غسله ولا كفنه؛ لأن الشهيد لا يغسل ولا يكفن، يبعث عند الله اللون لون دم والريح ريح مسك، أول قطرة من جسمه تغسل جميع ذنوبه، ولو تقطع بالحديد أو تراه يحترق فإنه لا يحس إلا كقرصة نملة.
حفر لصاحبه حفرة وأنزله فيها ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك ألا تغرب عليَّ الشمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً عندك يا رب، ثم قبل أن يدفن صاحبه اشتدت المعركة، حمل السلاح وتقدم، فإذا به يصاب بضربة تودي بحياته ويدفن مع صاحبه في تلك الحفرة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
لا تقل: بي هم وغم، إن كان هم الدعوة هم الإسلام هم المسلمين هم القيام هم المعاد هم القبر، فأقول لك: نعم الهم، أما إن كان هم الدنيا فبئس الهم، أما إن كان هم الدنانير والدراهم فبئس الهم، أما إن ضاق صدرك بالذنوب والمعاصي فبئس الضيق يا أخي الكريم، واعلم أنها بداية شر وأنها شؤم تلك المعاصي، اتق الله عز وجل، وراقبه ولا تقل: لا أحد يراني، والناس يظنون بي الخير، اسمع إلى ما يقول الشاعر عن نفسه:
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
نرضى بكلام الناس ومدحهم، يا شيخ! أيها الصالح! أيها التقي! نفرح بتلك الكلمات، ونسأل الله العافية، ثم إذا جئنا يوم القيامة {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].(14/10)
صور من عبادة السلف(14/11)
قتيل القرآن
هل سمعت عن علي بن الفضيل بن عياض؟ إنه ابن عابد الحرمين، هذا الرجل إذا صلى خلف أبيه -وقد كان أبوه إماماً- فإن أباه لا يرتل القرآن، بل يقرأ قراءة عادية، خوفاً على ابنه؛ لأن ابنه إن خشع وتدبر لا يتحمل نفسه، في يوم من الأيام دخل ابنه ولم يعرف عنه أبوه، فكان يرتل فسمع صوت ابنه يبكي، فأكمل الصلاة مسرعاً فإذا ابنه على الأرض مغمىً عليه يبكي؛ لأنه قرأ قول الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] أتعلم هذا الرجل ماذا يسمى؟ إنه يسمى قتيل القرآن، يروى أنه مات عند آية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] فسكت، فنظروا إليه فإذا هو قد غادر الدنيا.
تقول لي: مبالغة، تقول لي: أصحاب النبي ما حصل لهم هذا، أقول لك: أين السنة؟ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عنده أحد الصحابة (فإذا به يقول له: حسبك -قف ولا تكمل القراءة- قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان) يبكي عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن مسعود: (يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة؟ -كل الليل بآية واحدة- لو فعلها أحدنا لوجدنا عليه) أتعرف ماذا يقرأ؟ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:118] هم الأمة {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فكان يبكي وهو يرددها الليل كله.(14/12)
عبادة أبي حنيفة
الإمام أبو حنيفة يقول عنه رجل: هذا الرجل لا يصلي كثيراً، وصلاته مثل الناس، ثم يقول: لا بد أن أراقبه لأعلم لمَ رفع الله شأنه؟ أتظن أن الأئمة الأربعة ليس هناك من يفوقهم، أو يوازيهم؟ لا.
هناك أئمة كثر، ولكن رفع الله هؤلاء الأربعة، واسمع:
يقول هذا الرجل: راقبته، فصلَّى العشاء ودخل البيت، فانتظرت عند باب البيت -وبعد العشاء كان الناس ينامون ولا أحد يخرج- يقول: وراقبت البيت، فلما هدأ الناس خرج فتبعته، فإذا به يرجع إلى المسجد، يقول: فدخلت خلفه، فإذا به يصلي بعد العشاء إلى طلوع الفجر، بآية واحدة يرددها ويبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وهذا من حديث أهل الجنة، فهم يتلاقون ويتزاورون فيقول بعضهم: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] ليلة كاملة يرددها ويبكي.(14/13)
عبادة الإمام أحمد وصبره
الإمام أحمد رحمه الله، لمَ رفع الله شأنه؟ هذا الرجل حفظ ألف ألف حديث في صدره، وإذا قلنا: إمام أهل السنة والجماعة فإنه لا يستحق غيره هذا الاسم، أحمد بن حنبل يلبس نعالاً ثماني عشرة سنة، ما غير نعله، كلما تقطع نعاله رقعه وخصفه بيديه، دخل عليه ابنه في يوم من الأيام وهو متربع في غرفة مظلمة، يبكي، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! لمَ تصنع هذا؟ قال: يا بني! تفكرت في القبر وحالي بعد الموت، قال: يا أبت! لمَ لا تستند على جدار؟ قال: يا بني! أستحي أن أناجي ربي وأنا مستندٌ على الجدار، جاءه شاعر في يوم من الأيام فقال له: اعطني مما عندك من الشعر؟ فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد ودخل غرفة وطال المقام فسمعه أحد التلاميذ يبكي ويردد هذه الأبيات:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
تصدى لأهل البدع، وقال قولته المشهورة: القرآن كلام الله غير مخلوق، فجيء بالجلادين وقال المعتصم: كل واحد منكم يجلده أقوى ما عنده جلدتين فقط، أقوى ما يستطيع، فجلد وكلما يجلد يسقط على الأرض، ثم يفيق، ثم يجلد، مائة وستين ضربة، هل ترجع يا إمام؟ قال: لا أرجع؟ حمل إلى السجن، وهو رجل كبير في السن، يقول عن نفسه في ليلة باردة قارسة، وقد رمي في السجن يقول: أخذت أتحسس بيدي، حتى وقعت يدي على ماءٍ بارد، يقول: فأخذت الماء وتوضأت به، ثم صليت حتى الفجر، تعرف كم يوماً جلس في السجن؟ ثمانية وعشرين شهراً، أكثر من سنتين في السجن؛ لأنه قال: القرآن كلام الله، وقد سرد الصوم فيها، وما أفطر يوماً واحداً.
يأتيه الوالي بطعام لعظم موقفه، بأفخم أنواع الطعام، والإمام أحمد يقول: والله لا أذوق لهم طعاماً أبداً.
يأتيه الشيطان عند الموت، فيقول: يا إمام! لقد فتني، وهو يقول: لا بعد، لا بعد، لا بعد.(14/14)
العودة العودة إلى طاعة الله
{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17].
نحن ماذا فعلنا يا إخوان؟! {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] لِمَ يأتيك الضيق وذلك الهم؟ سل نفسك: كم تعبد الله جل وعلا؟
تأتي عائشة فتقول: (يا رسول الله! هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: هؤلاء الذين يسرقون ويزنون ويقتلون، قال: لا يا بنة الصديق! هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل الله منهم).
ابن عمر يتصدق فيقول له ابنه: [تقبل الله منك يا أبي، فضحك، وقال: لو علمت أن الله تقبل مني ما كان غائباً أحب إلي من الموت] لو علمت أن الله قبل مني حسنة لكنت أتمنى الموت، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] لا تقل لي: يا شيخ! ضيقت باب التوبة، يا شيخ! أين الرجاء؟ يا شيخ! أين رجاء رحمة الله جل وعلا؟
أقول لك: نعم، الله وصف نفسه بأنه غفار، ولم يقل غافر، بل قال: غفار، لكن لمن؟ اسمع: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] أولاً: تب إلى الله، فهل يعقل أن يكون صالحاً وهو لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس؟!
هل يمكن أن تتصور صالحاً تمر عليه السنة لم يختم القرآن مرة؟!
هل تتصور صالحاً يكبر للصلاة ويفكر في الدنيا؟!
هل تتصور -يا أخي الكريم- صالحاً يرى منكراً في مجلس ويجلس فيه؟!
أيها الأخ الكريم: اتق الله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] فقط؟ لا {لِمَنْ تَابَ} [طه:82] فقط؟ لا {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
أيها الإخوة الكرام: هذه جلسة محاسبة، وهي موعظة لعلها تخرج من القلب إلى القلب، وما ندري قد لا نلتقي بعد هذه اللحظات، بل قد لا تلتقي بأهلك، بل قد لا تخرج من هذا المجلس.
هنيئاً لمن جلس في هذا المكان واستمع هذا الحديث، وقالها من قلبه ندماً وحسرة: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
هنيئاً لمن عاهد الله وهو يستمع إليه ألا تضيع منه ليلة إلا بركعات أول الليل أو آخره.
هنيئاً لمن عاهد الله ألا يهجر القرآن، هنيئاً لمن عزم الآن ألا تفوته صلاة جماعة في بيتٍ من بيوت الله.
هنيئاً لمن عزم الآن وهو جالس أن يخرج تلك الصور وتلك الأفلام وأن يخلص بيته من ذلك الجهاز الخبيث.
هنيئاً لمن عاهد الله ولمن استقام على أمر الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] لن أقول لك: سوف تأتينا فرصة رمضان، فلعلنا لا ندرك رمضان يا أخي الكريم! أقول لك: فرصة هذه الليلة، فرصة هذا المجلس، فرصة قبل رجوعك إلى البيت، فما تدري.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاكم الله خيراً.(14/15)
أمسك عليك لسانك
إن من أخطر ما يواجه دين الإنسان وعقيدته لسانه، ومن مخاطره التي يجب الحذر منها: الولوغ في أعراض المسلمين إطلاقه بالسب والشتم واللعن النميمة.
فعلى المسلم أن يحذر هذا الخطر الكبير، وليصن لسانه بشغله في طاعة الله، فإن لم يستطع فالصمت خير له.(15/1)
اللسان وخطره
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن هذا الموضوع خطير؛ لأنه يتعلق بمصير العبد عند الله سبحانه وتعالى، يتعلق بدخول الجنة أو دخول النار، وهي هذه التي حولها ندندن، ونرجو من الله سبحانه وتعالى دخول الجنة والنجاة من النار.
جاء في الحديث الصحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) ولما سئل: عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: (الفم والفرج) ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّم معاذ بن جبل أركان الإسلام وشرائع الدين، وعمَّا يحبه الله عزَّ وجلَّ وعمَّا يبغضه، قال: (أولا أدلك على ملاك ذلك كله؟ -ما يحفظ لك دينك- قال: بلى يا رسول الله! قال: أمسك عليك هذا، وأمسَك بلسانه).
إن أخطر ما يواجه دين الإنسان وعقيدته لسانه، بل إن اللسان به يدخل الإنسان الإسلام، وبه يخرج من الدين، واللسان كما قيل:
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
فاللسان خطير، ومن خطورته أن أعضاء الجسم في كل صباح تحذر اللسان، وتقول: (اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) ويقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] كل كلمة وكل لفظة تُسجَّل.
وكم يجلس الإنسان في المجالس! ويأخذ في الكلام، فإذا بهم قد جاءوا بفلان من عباد الله، ووضعوه بينهم وهو ميت، فأخذوا ينهشون في لحمه! بل كم نرى من الأمثلة من عباد صالحين مصلين! يذهبون إلى العمرة وإلى الحج، ويتصدقون ويصومون النوافل، ولكن كما قال ابن القيم: كم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ما شاء الله عليه! تجده حتى السواك لا يتركه، وبعض المكروهات عنده كالمحرمات، وبعض المباحات يتركها خوفاً من الوقوع في المحرمات، والشبهات يجتنبها كم من رجل تجده متورعاً عن الفواحش والظلم، يقول ابن القيم: ولسانه يسري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول!(15/2)
الولوغ في أعراض المسلمين
تعرفون حادثة الإفك، وما الذي جرى؟ ولِمَ أنزل قرآن بسببها؟ والرسول صلى الله عليه وسلم شهر كامل لا يدري ماذا يصنع، أتعرفون ما الذي حدث؟ كل المصيبة كانت من اللسان {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] أتحسب أن الأمر هين عندما تجلس في مجلس وتتكلم على فلان أو علان، أو في أعراض المسلمين؟! {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج لمَّا عٌرِج به -وأرجو أيها الأخ العزيز، أن تتخيل المشهد- (رأى رجالاً لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، وصدورهم -تخيل الدم ينزل، ولو رأيته لقلت إنه مجنون، من يفعل بنفسه هذا الفعل؟ هذا الإنسان يخمش وجه وصدره- فقال: سبحان الله ما هذا؟! فقال: هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس، ويتكلمون في أعراض المسلمين) (ونظر إلى الكعبة وقال: ما أعظم حرمتك! لكنَّ حرمة المسلم أعظم منك).
إذاً: فالمؤمن الذي يشهد الشهادتين له حرمة عند الله سبحانه وتعالى، فإياك إياك! فإن الكلمة عندما تخرج لا تعود مرة أخرى، وسوف تجدها عند الله سبحانه وتعالى في المحشر {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف:49] يدعون على أنفسهم بالويل والثبور! لماذا؟ {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].
أي لفظة صغيرة كانت أو كبيرة.
قال أهل العلم: الغيبة -غيبة المسلم- من الكبائر.
ولاشك أنكم سمعتم بحديث المفلس، ولكن هل تفكرتم فيه؟ نعم.
فنحن نحفظ حديث المفلس، بل بعضنا يحفظ روايات لهذا الحديث، وبعضنا يحفظه من صغره، بل إن البعض منا يعرف أقوال العلماء في ضوء هذا الحديث، لكنَّ المصيبة أين نحن من واقع هذا الحديث؟ هل تفكرنا فيه؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا.
فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
فكر وأنت الآن جالس تستمع إليّ، كم من إنسان تكلمت عليه بسوء؟!
من الناس من يقول: هم ألوف لا أستطيع أن أحصيهم، فكلهم سيكونون خصماءك عند الله يوم القيامة، فيخاصمونك إلى الله {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
أتظن أن الأمر هين؟! تجلس في مجلس فتغتاب أخاك، وتتكلم فيه وتطعن، وتتكلم بما يسوءه ويكرهه، ويتركك الرب جل وعلا؟! لا.
إن الأمر فيه عدل، وميزان عند الله سبحانه يوم القيامة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] يقول أنس رضي الله عنه: [خدمت رسول الله تسع سنين، فوالله ما نهرني، ولا قهرني، ولم يقل لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله] أسمعت هذا الأدب الرباني، أدب النبي عليه الصلاة والسلام مع خادمه، تسع سنوات ما قال له يوماً من الأيام: لماذا فعلت هذا الشيء؟ أو لِمَ لَمْ تفعل هذا الشيء؟
ويقول أنس: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أرأيتم إلى الأدب؟ فإياك إياك أن يتكلم اللسان إلا بعد أن تفكر، يقول أحدهم: جاهدت نفسي عشر سنوات وما زلت أجاهدها على أمر وسوف أدركه قالوا: وما هو؟ قال: أن أصمت عما لا يعنيني.
يا أخي ما الذي يعنيك؟ ما شأنك وشأنه؟ ما الذي ألزمك أن تتكلم في عرضه؟ من الذي أجبرك على أن تلوِّث لسانك بعرض فلان، وتلوكه بحرمة فلان، وتتكلم في عورة فلان؟ من الذي ألزمك بهذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال عليه الصلاة والسلام: (من صمت نجا) والحديث في صحيح الجامع.(15/3)
إطلاق اللسان بالسب والشتم واللعن
من الناس من يطلق لسانه -للأسف حتى من بعض المسلمين- في السب والشتم، فإذا غضب سب وشتم، بل إن بعضهم تجده يصلي، لكنه إذا غضب لا يمسك لسانه، قال عليه الصلاة والسلام: (المتسابان شيطانان) وفي بعض الأحيان تجد في الطريق، أو في الدوام، أو في البيت، اثنين هذا يسب هذا، وهذا يتكلم على هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: (المتسابان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان).
وأعظم السب الذي يخرج من اللسان على وجه الدنيا هو سبُّ الرَبّ جل وعلا، وسبُّ الرَبِّ بنسبة النقص له سبحانه وتعالى، أو بنسبة الولد له، هذا كله سب وشتم لله، ويأتي تحته درجة أقل منه: وهي سب الأنبياء والرسل، وسب الملائكة، وسب الصالحين، وعلى رأسهم الصحابة، في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فكم من الناس من لا يبالي فيسب أصحاب رسول الله! أسمعت أولئك الذين يتكلمون في عرض أصحاب رسول الله؟! فقد قال بعضهم: ما رأينا أكبر منهم بطوناً ولا أجبن عند اللقاء.
ألسنة تكلمت بهذا الكلام، فأنزل الله عز وجل آيات من فوق سبع سماوات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] كنا نقضي الأوقات حتى تمر الساعات {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] كلمات أُطلقت أَوبقت دنياهم وآخرتهم، ومن الناس من يطلق لسانه بأشد من هذا، أو بمثله من اللعن؛ واللعن من أخطر الأمور، فإياك أن تلعن أحداً يوماً من الأيام! قال عليه الصلاة والسلام: (لعن المؤمن كقتله) أرأيت إنساناً يمسك بالسلاح فيقتل؟ ستقول: أعوذ بالله من القتل، ولن تصل إلى هذه الدرجة بإذن الله، لكن (لعن المؤمن كقتله).
واللعن هو الطرد من رحمة الله ويقول صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) تخرج اللعنة إلى السماء فإن استحقها صاحبها وإلا رجعت على قائلها، قال بعض أهل العلم: حتى الكافر الحي في حال حياته لا يعيَّن باللعن، وما يدريك؟ فلربما يسلم ويؤمن ويتوب قبل أن يموت، هذا في الكافر، فما بالك بمن يلعن المسلمين؟! ما بالك بمن يصفهم بلسانه بالكفر، فيضلل فلاناً ويفسق فلاناً، ويبدع فلاناً؟ وقد جاء رجل يوماً من الأيام إلى صاحبه، وكان ينكر عليه كل يوم، فقال له ذات يوم: (والله لا يغفر الله لك -من غضبه وحماسه وشدة إنكاره للمنكر، قال: أنت على هذه الحال، فلا يغفر الله لك- فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليَّ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) أحبط الله عمل الصالح وغفر لصاحب المنكر، قال الإمام الشافعي: قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته.
يقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا تتكلم في شيء لا تعلمه، لا تتكلم في شيء من حقوق الألوهية أو الربوبية، فإن سلب الإيمان من الإنسان، أو لعنه، أو إخراجه من دين الله، هذا يحتاج إلى شروط، فاحذر من خطر اللسان {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
اجلس في مجالس الناس اليوم وانظر: من منهم يجلسون على ذكر الله؟! أغلب المجالس اليوم إما غيبة للناس، أو لغو بالباطل، والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] إن لم تكن مجالس فحش وبذاءة.
والله جل وعلا وصف مجالس الناس فقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:11] أكثر نجوى الناس لا خير فيها {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:11].(15/4)
أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم
هل يتجرأ واحد منا أن يأكل ديناراً من ربا؟ ولو أعطيتك ديناراً من الربا فهل ستأخذه؟ أعوذ بالله من الربا (درهم ربا -يأكله وهو يعلم- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) (إن أدنى الربا مثل أن يأتي الرجل أمه) وإن أشد تصوير لجريمة في القرآن هو للربا، قال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:27] قال ابن عباس: [يعطى صاحب الربا يوم القيامة رمحاً فيقال له: بارز ربك!] تأكل الربا طول عمرك فالآن حارب ربك! ومن منا يقوى على تلك العقوبة؟! إن الربا شنيع، وإن أربى الربا وأشد الربا الاستطالة في عرض المسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وإنَّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه) وإذا كانت حرمة المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة، فما بالك يا أخي العزيز! وما الذي جرأك؟! وبأي حجة تلقى الله؟ وبأي عذر تواجه ربك؟
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] انظر الآن إلى الخطوات الربانية! انظر إلى القرآن وتسلسله! أول خطوة يبدأ الإنسان بها: إساءة الظن، فيبدأ يراقب، ويتتبع العثرات، ويتجسس، ويبحث عن العورات، ولعله يسجل عليك، لم كل ذلك؟ لأنه أساء الظن بداية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ما الذي يحصل بعد الظن؟ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] ثم بعدها بدأ يتجسس، ويجلس في المجالس، ويقول: لقد رأيت فلاناً يفعل كذا وكذا، وفلان الذي يدعي أنه داعية إلى الله، وأنه صالح، وأنه مصلح أتعرفون ماذا يصنع في بيته؟ وماذا عنده؟ وماذا فَعَل في العام الماضي؟ ثم يبدأ يغتابه {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] وقالوا عن ميمون -وهذه قاعدة فاعمل بها، ويكفي من هذه الكلمة هذه القاعدة، وميمون هو أحد القراء، يقولون-: كان لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً عنده يغتاب، بل كان ينهاه وإلا قام وتركه.
وأنت جرب هذا من هذه اللحظة، أمسك لسانك عن غيبة المسلمين، فإن اغتاب رجل فانصحه بالتي هي أحسن، وقل له: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، دعنا من الناس، فإن عاد فعد وقل: يا أخي! بارك الله فيك، لنتكلم بما ينفعنا وما يفيدنا، ولا نأتي بأسماء الناس في مجلسنا، ونغتاب الناس.
فإن انتهى وإلا فقم واتركه.
إني أدعوك إلى هذا الصنيع، وقد تقول: لا أستطيع.
أقول لك: بل إنك تستطيع، ووالله الذي لا إله غيره، لو طبقنا هذه القاعدة لانتفعنا خيراً الكثير، ولعلمنا حقاً أن أكثر مجالسنا لا تنفع، إلا ما ذكر فيها الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:11] أتظن أن الكلمة عندما تخرج تذهب! لا.
بل {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] هذه هي المصيبة؛ أننا نسينا في الجد كم تكلمنا؟ لكنَّ الله جلَّ وعلا قد أحصى ذلك كله، يقول الحسن: [الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد].
وأرجو أن تتأمل معي في هذه اللحظات كم من رجل كان يدعو إلى الله، وكان من رواد المساجد، بل كان لا يترك الصف الأول في صلاة الفجر، وربما يجلس إلى الشروق، وكان يقرأ القرآن، وكان يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أين هو الآن؟ ما الذي جرى له؟ وما الذي حصل؟ لو رأيت إلى أكثرِهم لوجدت أن السبب هو الغيبة، كان لا يتورع عن غيبة الناس، بل إن بعضهم كان يغتاب الدعاة إلى الله، والعلماء، والمصلحين، فأصابه ذلك السم، قال الحسن: [الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد] أرأيت الآكلة؟ هي الآن مثل السرطان، الرجل سليم -ما شاء الله- ليس فيه شيء، ولكن لحظة من اللحظات وقع، يُفحص جسمه فإذا السرطان قد انتشر فيه، ويقول الطبيب: سيبقى أياماً ثم يموت، انتهى أمره!
إذاً: الغيبة أسرع في الدين من الآكلة في الجسد، ويقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل منشغلاً بعيوب غيره عن عيب نفسه فاعلم أنه قد مُكِر به.
جعل يتكلم على الناس ونسي نفسه، فيا من تتكلم على غيرك بالسوء هل نسيت نفسك؟! سبحان الله! يرى أحدكم القذا في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه! يحاسب أخاه لأنه قد أخطأ في شيء قد اجتهد فيه، أو زلَّ في أمر لم يقصده، وينسى جرائمه وفضائحه! تجده لا يصلي الفجر ولا يهتم بها، وتجده عاقاً لوالديه ويستهين بهذا الأمر، وتجده قاطعاً للرحم؛ وهذه كلها كبائر ملعون صاحبها، فلا يبالي بهذا كله، ولكنه يشتغل بأعراض الناس ويتكلم عن سوآتهم.
قال: إذا رأيتم الرجل ينشغل بعيب غيره عن عيب نفسه فاعلموا أنه قد مكر به.
هذا الرجل مستدرج، وقد مكر به، فانتظر عليه أياماً وشهوراً وسنوات، فسوف يأتي يوم وتسمع خبره، لأن أولئك العلماء وأولئك الصالحون لما تكلموا بهذه الكلمات رأوها بأعينهم قبل أن يتكلموا بها بألسنتهم، سنة الله في خلقه، بل (من تتبع عورة أخيه -تكلم في عورته- تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر داره) والله يقول: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11] فكل شيء يُكتب وسوف تحاسب عليه عند الله جلَّ وعلا.(15/5)
النميمة وخطرها
ما بالكم بالذي يتكلم ليفسد بين الناس فيمشي بالنميمة؟ فإن من أخطر الأمور وأكبر آفات اللسان: النميمة يأتي إلى فلان ويقول: سمعت فلاناً قال فيك كذا، وسمعت أن فلاناً صنع كذا، ويجلس حتى يفرق بين الأحبة يقول تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: يمشي بين الناس بالنميمة.
قال ابن مسعود: [والله الذي لا إله غيره ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان] ويأتي عمر إلى أبي بكر فينظر إليه جاذباً لسانه، فيقول: [مه يا أبا بكر غفر الله لك؟ فيقول: هذا الذي أوردني الموارد] من يقول هذا الكلام؟ إنه أبو بكر الذاكر، العابد، الصالح، التقي، الورع، يقول: هذا الذي أوردني الموارد، فماذا سنقول نحن؟! وفكر في لسانك اليوم فقط، هل وقعت في غيبة مسلم؟ بل قد يكون المسلم في ناحية من نواحي الأرض، في أقصى الشرق أو الغرب ونحن جالسون في هذا المجلس قد نقع في عرضه! فهل فكرت يوماً من الأيام أن تحاسب هذا اللسان؟
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما جادل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وهو كان يريد الحق، ويريد الرفعة لهذا الدين، قال: [أنعطي الدنية في ديننا؟] وأخذ يخاطب أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقاتل الكفار حماية لهذا الدين.
انظر إلى هذه الكلمات التي قالها عمر، ظل يتذكرها إلى أن مات، وقال لمن عنده: [ما زلت أعمل لذلك أعمالاً].
يقول: أخاف أن أحاسب على تلك الكلمات، فعملت لها أعمالاً، لعل الله أن يعفو عني (واتبع السيئة الحسنة تمحها) {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6 - 11].
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يُضحِكُ بها جلساءه -كلمة في مجلس أضحك بها الجالسين- يهوي بها أبعد من الثريا) والحديث صحيح.
هذه كلمة فما بالكم بكلمتين! ما بالكم بالمجلس كله من أوله إلى آخره! يُضحك، ويكذب، ويقع في أعراض المسلمين، يتكلم بكلمات وهدفه أن يضحك بها الناس، من طلب منك أن تُضحِك الناس بما حرَّم الله؟ وهل أنت ملزم بهذا؟ وماذا ينفعك هذا المجلس عند الله سبحانه يوم القيامة؟ إذا رأيت في الصحيفة: فلان تكلمت عليه، وفلان وقعت في عرضه، وفلان سببته، وفلان اغتبته ما الذي سينفعك عند الله إن جئت بهذه الأعمال؟ فكر، فالمسألة خطيرة! ولهذا لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟) أي: الخمر نؤاخذ عليه، والزنا نؤاخذ عليه، والقتل نؤاخذ عليه، هذه الأعمال علمنا أنها فواحش ومنكرات وكبائر، لكن اللسان، الذي يستهين به أكثر الناس، حتى اللسان؟ بعض المرات نمزح، نقضي المجلس، نُضحِك الناس، ولا نقصد شيئاً: (أوَنحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ما الذي يدخل الناس النار أيها الإخوة؟! إنه اللسان، فانظر إلى خطورته.
ويقول الله تعالى في وصف عباده: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] اللغو: هو الكلام الذي لا ينفع، فما بالكم بالكلام الذي يضر!
إن من أخطر الكلمات التي يطلقها الإنسان شهادة الزور.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فلما جاء إلى شهادة الزور قال الراوي: (وكان متكئاً فجلس -وقد تغير وجهه- فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة والزور) يقول الحسن رحمه الله: [من كثر كلامه كثر كذبه] فالذي يكثر من الكلام في كل مجلس لغير فائدة، يكثر كذبه.
والشافعي عليه رحمة الله كان لا يتكلم إلا فيما ينفع، حتى إنه إذا تكلم لم يكن يرفع صوته، يقول ابن بنت الشافعي: ما سمعت أبي ناظر أحداً يوماً فرفع صوته.
حتى رفع الصوت! يقول: ما رأيته يوماً يرفع صوته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) كل واحد منا يحفظ الحديث، لكن من يريد منا هذا البيت في الجنة؟ وكم من الناس من يكذب ليضحك به الناس، وهو لا يشعر أنها كذبة وقد سجلت عليه.(15/6)
ضرورة انشغال اللسان بما ينفع
أخي العزيز: ما الذي تشغل به لسانك؟ اشغله بذكر الله، اشغله بطاعة الله، بالتسبيح، بالتحميد، بالتهليل، بالاستغفار لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في المجلس الواحد يستغفر الله سبعين مرة، فهل استغفرنا مرة واحدة في المجلس؟! كم ضيعنا من الأجور والحسنات ونحن نجلس نتحدث في المجالس ولا ندري ما الذي نتفوه به، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) وليس في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب، فهل جربت هذا؟ لن تأخذ منك إلا ثانيتين أو ثلاث ثوان، ولو أردنا أن نزرع نخلة كم ستأخذ منَّا؟ ستظل شهوراً حتى تثمر، وربما لا تثمر، لكن في خلال ثلاث ثوانٍ تحصل على نخلة في الجنة ساقها من ذهب هل جربت في المجلس أن تقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، ولن تأخذ من وقتك خمس دقائق، وما الذي يحصل؟ (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) والله يقول: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فاشغل لسانك بالخير، وقد تقول: لقد تكلمت بالخير، وبالصالحات، وسألت عن أحوال المسلمين، وتكلمت عن شجونهم، وتكلمت عن مآسي المسلمين، شغلت لساني بهذا وانقطع الخير، فماذا أصنع؟ أقول لك ما قاله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال عليه الصلاة والسلام لأحدهم لما قال: لا أستطيع، قال: (إن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا عن خير).
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما ذكرت، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم.(15/7)
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
ميزان التفاضل بين الناس إنما هو التقوى، وفي هذه الخطبة بين الشيخ خطر الافتخار بالأنساب، ووضح أن ذلك من أمور الجاهلية، كما ذكر عقوبة من يفتخر بأنسابه الفجار أو الكفار، وأن النسب لا يغني يوم القيامة عن الفاجر شيئاً.(16/1)
الافتخار بالأنساب من أمور الجاهلية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة داء عظيم وشر عريض انتشر في صفوف كثير من المسلمين، بل في بعض أصحاب الدين، وهذا الشر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وهو شر عظيم، إن مات عليه الإنسان فقد مات على الجاهلية، وهذا الشر -أيها الإخوة الكرام- حذَّر الله جل وعلا منه ورسوله عليه الصلاة والسلام، فاسمع وانظر إلى واقعنا وواقعك قبل هذا، هل أنت تقع في هذا الشر أو أصابك هذا البلاء؟
إن كان ذلك فاستعذ بالله منه ثم تخلص منه، فإنك إن لقيت الله جل وعلا به فقد لقيته بشر عظيم.
هذا الشر الذي حطمه الله جل وعلا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
قالوا: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: (أكرم الناس عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: أكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: تسألوني عن معادن العرب؟ قالوا: نعم.
قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) هذا هو ميزان الله جل علا، وهذا هو المقياس عند الله، أكرم الناس وأشرفهم وأعلاهم وأعظمهم هو أتقاهم لله جل علا.
ومن عقيدة لا إله إلا الله أنك تحب في الله وتبغض في الله جل علا، ولن يصل الإنسان إلى أعلى مقامات الإيمان إلا بهذا، أن يحب لله ويبغض لله، أن يحب فلاناً الذي خالفه في اللون والأصل والجنس وخالفه في البلد لله جل وعلا، ويبغض فلاناً ولو كان من أمه وأبيه؛ لأن الله عز وجل يبغضه ولا يحبه.(16/2)
التحذير من الافتخار بالآباء والأجداد
واسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى العصبية الجاهلية في بعض أصحابه، حيث إن منهم من كان يتعصب لقبيلة، ومنهم من كان يتعصب لأصل، ومنهم من كان يتعصب لبلد، رأى هذا في أصحابه صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: فخر الجاهلية أو عيب الجاهلية- وفخرها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب) أي: إذا أردت أن تفتخر بالأصل فافتخر بما تطأه تحت رجلك، فتفخر أن أصلك من تراب، هذا الذي يهيله الناس ويطئونه بأقدامهم افتخر به؛ لأن هذا هو الأصل الذي نرجع إليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس بنو آدم، وآدم من تراب، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي) مقياس الناس مؤمن تقي فهذا هو الكريم، وفاجر شقي فهذا هو اللئيم، قال: (لينتهين أقوام عن فخرهم برجال إنما هم فحم من فحم جهنم) أي: كفوا عن هذا؛ لأن بعض الناس إذا افتخر يفتخر بفلان الذي يرجع أصله إليه، فإن جئت لترى سيرته تجده فاجراً أو فاسقاً أو غير مشهود له بصلاح ولا بعلم ولا جهاد.(16/3)
عقوبة من يفتخر بنسبه وهم عصاة
إذاً: تفتخر بماذا يا عبد الله؟ قال: (إنما هم فحم من فحم جهنم) ثم اسمع إلى عقوبة أولئك الذين يفتخرون بأولئك الرجال قال: (أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) أرأيت تلك الحشرات التي تمشي على الأرض تدفع النتن بأشرف شيء في جسدها ألا وهو الأنف، قال: إذا افتخروا بأولئك الرجال يكونون عند الله أهون من هذه الجعلان؛ لأن المؤمن إذا افتخر فإنما يفتخر بعمله الصالح، وإن فرح فإنما يفرح بنسبه إلى الله جل علا، وهو التقوى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] يأتي الناس يوم القيامة ويأتي من كان يفتخر ويعجب ويعظم نفسه على الناس؛ لأنه من قبيلة كذا، يأتي يوم القيامة فيقول الله لهم: (رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي).
نعم يا عباد الله! رفعنا أنسابنا ووضعنا نسب الله -إلا من رحم الله- فتجد الواحد منا يحقر فلاناً مع أنه يحفظ القرآن الكريم كاملاً أو من الذين يصلون الفجر، أو ممن يطيع الله جل علا، يحقره لأنه من بلد كذا أو من لون كذا، ونعظم ونشرف فلاناً ولعله يجاهر بالمعصية، بل لعله فاسق فاجر، نعظمه لأنه من أنسابنا قال: (رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي -هذا يوم القيامة- فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم).
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيخرج المجرم الأثيم في ذلك اليوم فيقول: رب أحرق قبيلتي وعشيرتي كلها في النار وأنقذني منها يا رب! فيرد الله جل وعلا عليه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:11 - 18].(16/4)
انقطاع الأنساب يوم القيامة
كلا يا فلان: كلا أيها المجرم! يا من رفعت نسبك في الدنيا ووضعت نسب الله جل وعلا! اليوم لا تنفعك القبيلة ولا تنفعك العشيرة.
هذا نوح عليه السلام ماذا استفاد ابنه منه، أبوه كان أول رسول على وجه الأرض لكن هل انتفع بهذا النسب أم نفعه ذلك الأصل؟ كلا.
عندما شفع له نوح عليه السلام قال الله جل علا: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] فلا ينفعك الأصل ولا النسب عند الله جل وعلا.
وهذا عليه الصلاة والسلام، اصطفاه الله جل علا من خير الأقوام ومن خير العشائر، بل كان من أفضل قبيلة على وجه الأرض، وكان في هذه القبيلة من أفضل فخذ وعائلة، نسب قد استله الله عز وجل من شريف ثم من شريف ثم من شريف حتى خرج أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، فلما خرج في الناس جمع قبيلته وعشيرته الشريفة التي خرج منهم أفضل الناس عليه الصلاة والسلام فقال: (يا معشر قريش!) خير القبائل في ميزان الناس: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً -لا تنفعكم القرابة ولا ينفعكم النسب ولا ينفعكم أنني من قبيلتكم ومن عشيرتكم- اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً) ثم اقترب من أصله: (يا بني عبد مناف! -هذا هو الفخذ الذي ينتسب إليه قال:- اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً) لا ينفع الأصل ولا النسب ثم جاء إلى عمه: (يا عباس بن عبد المطلب! لن أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لن أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ لن أغني عنك من الله شيئاً) ولو جاءت فاطمة يوم القيامة فقال لها الله: ماذا فعلت يا فاطمة؟ فقالت: إن أبي محمداً عليه الصلاة والسلام، فإنه لن يغنيها من الله شيئاً.
عباد الله: إن هذه المسألة خطيرة، وإن هذا الأمر لجلل، وإن كثيراً ممن يزعم لا إله إلا الله ويسجد لله جل وعلا قد رسب في هذا الاختبار، اختبار التقوى واختبار محبة الله جل وعلا، أن نحب من يحب الله وأن نبغض من يبغض الله، ولو كان أقرب الناس إلينا، بل ولو كان أخاك من أمك وأبيك، إذا كان لا يُعرف بصلاة ولا بذكر ولا بعبادة لله جل وعلا، فإننا نبغض من أبغض الله جل وعلا وهكذا كما قال بعضهم
كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي(16/5)
من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه
ولو قلت -يا عبد الله- أنا أرجع في أصلي إلى فلان بن فلان، وماذا يا عبد الله؟ أنت تقاس بعملك الصالح وتقاس بصلوات الفجر وتقاس بذكرك لله، ومدى قراءتك للقرآن وتطبيقك لشرع الله، أما نسبك فلن ينفعك عند الله شيئاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) من بطأ به عمله، قصر في الطاعات والواجبات لم يسرع به نسبه عند الله ولن ينفعه نسبه.
وإذا وضع الصراط على النار يوم القيامة جاء الناس يمشون، فهذا يمشي كسرعة الريح وذلك كالجواد، وهذا يركض وهذا يمشي، وهذا يزحف وهذا يتلبط على بطنه فيقول: يا رب يا رب لمَ بطأت بي؟ فيرد الله جل وعلا عليه يوم القيامة فيقول: (إني لم أبطئ بك يا فلان، إنما بطأ بك عملك) لقد تخلفت عن الصلوات، لقد تخلفت عن قراءة القرآن، إنك لم تُحسن العمل معي، في الدنيا تأخرت عن الطاعات، وهكذا يتلبط على بطنه على متن جهنم نعوذ بالله وإياكم منها.
أقول هذا القول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
جاء أبو ذر رضي الله عنه، ومن منا يعلو في عمله الصالح أبا ذر؟ ومن منا يستطيع أن يصل إلى مستوى أبي ذر رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رأى أبو ذر رجلاً فقال له: [يا بن السوداء] وما يضر اللون وما ينفع؟ هذه هي حكمة الله جل وعلا أن جعل هذا أحمر وهذا أصفر وهذا أبيض وهذا أسود، نعمة من الله جل علا عليهم جميعاً، وجعل هذا من بلد كذا وهذا من بلد كذا، أم أنك اخترت أنك من بلد كذا قبل أن تولد؟ أم أنها بقدرتك وبشجاعتك وبذكائك اخترت أن تكون من لون كذا؟ أم أنك اخترت أباك وأمك يا فلان؟ كله بقدر الله جل وعلا قال أبو ذر: [يا بن السوداء] فسمع ذلك عليه الصلاة والسلام، ذلك النبي العظيم الذي أسس دولته على تقوى من الله جل علا، فلا فرق بين الناس إلا بالتقوى، فقال عليه الصلاة والسلام: (أعيرته بأمه يا أبا ذر؟ -فسكت- قال: أعيرته بأمه يا أبا ذر؟! إنك امرؤ فيك جاهلية) ولو كنت من العباد والزهاد، ولو كنت ممن تقوم الليل وتصوم النهار وتطعم المساكين، إنك امرؤ فيك جاهلية، نعم هي الجاهلية -ورب الكعبة- التي تجعل الإنسان يقيس الناس بألوانهم وبجنسياتهم وببلدانهم وبأصولهم فيحقر فلاناً، لأنه من أصل كذا أو من قبيلة كذا أو من بلد كذا: (أربع في أمتي لا يتركونهن من الجاهلية) والحديث صحيح، فإلى أن تقوم الساعة وهذه في أمة محمد ممن هم ضعاف الإيمان فدخلت الجاهلية في قلوبهم وانظر ماذا قدم قال: (الفخر بالأحساب).
اجتمع الناس يفتخرون بأنسابهم، كل منهم بحسبه وبقبيلته وبأصله، وكان بينهم سلمان رضي الله عنه فهذا قال: أنا ابن كذا، وأنا ابن كذا فقيل: يا سلمان! انتسب، فقال رضي الله عنه: [لا أعرف لي أباً في الإسلام، ولكني سلمان ابن الإسلام] نعم وصدق الشاعر:
دعي القوم ينصر مدعيه ويلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم
نعم افتخر بنسبك إلى كذا، أما أنا فأفتخر بنسبي إلى صلاة الفجر، أما أنا فأفتخر بنسبي إلى قراءة القرآن، أما أنا فأفتخر بنسبي إلى الدعوة إلى الله وإلى الجهاد في سبيل الله.(16/6)
وقفة أخيرة مع الافتخار بالأنساب
بل -عبد الله- لو كان من أنسابك من هو مجاهد أو عالم أو عابد أو زاهد، فإنه لا يحل لك أن تفتخر به.
ولسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
نعم يا عبد الله! لو كان أبوك صالحاً ومجاهداً وعالماً أينفعك هذا؟ إلا أن تتأسى به في دين الله جل وعلا، كيف بمن انتسب إلى غير هذا؟
عباد الله!
ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة
نعم لا ينفع الأصل إذا كانت النفس خبيثة، وإذا كان الرجل يكذب، وكان ينظر إلى النساء، وكان غشاشاً، وكان يعادي دين الله جل وعلا، ويحارب الله جل وعلا، لا ينفعه الأصل ولو كان من هاشم ولو كان من أصل محمد صلى الله عليه وسلم، أسمعت بـ أبي لهب؟ ذلك الرجل النسيب من القبيلة العظيمة والعشيرة النسيبة، إنه أبو لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5].
نعم يا عباد الله! لم ينفعه ماله ولا أصله ولا عشيرته ولا قبيلته، بل حكم الله عليه أنه في النار، ويلعنه المسلمون إلى قيام الساعة فيقول صغيرهم وكبيرهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ولو كان من أصل عظيم، ولو كان من جنس عظيم، هذا عمر رضي الله عنه يقول: [يا أيها الناس! لو كان سالم مولى أبي حذيفة -مولى أي: عبد من العبيد- حياً لجعلته خليفة على المسلمين].
دين الله لا يحابي أحداً ولا يجامل أحداً، وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه يقوم في الناس فيقول: [يا أيها الناس! إني رجل من قريش أعظم القبائل وأشرف القبائل -لكن اسمع ماذا قال- ولا أعلم رجلاً يفضلني بتقوى -أحمر أو أسود أو من أي لون كان ومن أي جنس كان- إلا تمنيت أني في مسلاخه] تمنيت أنني هو.
ولو كان من ذلك الأصل، أو ذلك اللون، أو ذلك الجنس، أو تلك القبيلة، نعم إنه قول الله جل علا الذي دخل قلوبهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] آدم وزوجه حواء: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] لمَ يا رب جعلتنا شعوبا وألواناً وقبائل؟ لمَ يا رب كل هذا؟ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] وكأن الله عز وجل ينبه على هذا الأمر، أن من الناس من سوف يفتخر بقبيلته وبشعبه فقال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
نعم أيها الإخوة! إنه دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاء من الناس من شاء، وأبى من الناس من أبى، ورضي من رضي، وسخط من سخط، فإنها عقيدة لا إله إلا الله وشريعة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، الذي كبر في الصلاة فصلى خلفه سلمان من فارس، وصهيب من الروم، وأبو بكر من قريش، وبلال من الحبشة، كل منهم يستوي مع أخيه لا يتقدم أحد على أحد، ولا يتأخر أحد على أحد، إنها عقيدة الإسلام وكلمة لا إله إلا الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.(16/7)
بلغوا عني ولو آية
تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن الله سبحانه وتعالى قد رتب عليه الخيرية والصلاح والنجاح والنجاة والاجتماع لهذه الأمة المحمدية، وقد أصبحنا في عصر انتشر فيه الفساد وادلهمت الفتن، ولا يوجد آمر بمعروف أو ناه عن منكر؛ وكل هذا يرجع إلى أسباب أدت إلى الفتور عن الدعوة.(17/1)
سبب خيرية هذه الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] أخرجت هذه الأمة للناس، ماذا تفعل؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] بل أمر الله جل وعلا هذه الأمة كلها نساءً ورجالاً، شباباً وشيباً، قال الله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] أي: لتكونوا كلكم أمة، ما تفعل هذه الأمة؟ ماذا تصنع؟ تلعب؟ تلهو؟ تأكل؟ تشرب؟ تنام؟ تنكح؟ لا، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
الفتور في الدعوة: كان رجلاً داعية إلى الله جل وعلا، لا يرى منكراً إلا أنكره، وزجر عنه، يصدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، يدخل في المجالس يذكرهم بالله، إذا ذهب إلى الصلاة ومر في الطريق على بشر قال لهم: الصلاة يا قوم، الصلاة، أذكركم الصلاة، كان إذا خرج من المسجد ورأى منكراً، لا يتركه إلا أنكره بيده إن استطاع، وإن لم يستطع فبلسانه، كان آمراً ناهياً داعياً إلى الله جل وعلا.
ما الذي أصابه؟!
أصابه الفتور، وبدأ يضعف، بدأ الآن يرى المنكرات فيولي، ويستطيع الكلام لكن لا يتكلم، يدخل في محل فيه الموسيقى والمعازف لا يتكلم، كان في السابق يقف عند الباب، أأطفأتم المعازف والموسيقى وإلا لا أدخل؟ أما اليوم تغير الحال، بدأ يدخل، لا يبالي سواءً أأُطْفِئت الموسيقى أم لَمْ تُطْفَأ، بل بدأ يتطور الأمر، بدأ يجلس مجلساً فيه المنكر، ويُعمَل فيه بالحرام، ويتكلم فيه بالإثم، وهو مبتسم، لا يبالي!
ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟!
أكثر من هذا: بدأ يتصور الأمر، بدأ يفعل هو المنكر، بدأ يقع فيه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] أنت وليي وأنت أخي وأنت خليلي، لِمَ؟ لنأمر بالمعروف ولننهى عن المنكر! ولَمْ يَسْتَثْنِ الله جل وعلا النساء، قال: حتى النساء، المرأة في بني جنسها، المرأة في بيتها، المرأة بين قريباتها، داعية إلى الله جل وعلا.
أسمعتَ بـ عائشة كيف حفظت لنا شيئاً كثيراً من ديننا؟!
كانت تدعو إلى الله جل وعلا، وتُعلم الدين، وكم سمعنا في التاريخ من نساء، كن عالماتٍ، آمراتٍ بالمعروف، ناهياتٍ عن المنكر بين بنات جنسهن.(17/2)
أسباب الفتور في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الأخ الكريم: الدعوة إلى الله قد يصيب صاحبها الفتور والضعف والخمول، ولهذا أسباب، سوف نتكلم عنها في هذا المجلس، فأعرني سمعك، وانتبه، ولا تقولن: إن الدعوة إلى الله وظيفة الإمام، أو وظيفة الشيخ، أو وظيفة لجنة من اللجان، أو هيئة خيرية، أو هذا عمل وزارة الأوقاف، أو العلماء والدعاة؟! كلا، كل مسلم هو داعية الله جل وعلا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).
ألا تحفظ آية من كتاب الله؟! بلغها يا عبد الله، ألم تحفظ حديثاً من أحاديث رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فبلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
هذا رجل في أقصى المدينة، سمع أن في آخر المدينة قوماً كفروا بالله، جاءهم رسول يأمرهم بالمعروف فما استجابوا، نهاهم عن المنكر فما انتهوا، بلغهم دعوة الله فما استجابوا له وكذبوه، هل جلس وقال: هم بعيدون عني؟! هل قال: يهلكوا إن هلكوا، وأنا الحمد لله نجوت بديني؟!
ما قال هذه الكلمات، بل ركض على رجليه، ما مشى، أخذ يركض ويسعى ليبلغهم دين الله، قال الله عن هذا الرجل: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] من أبعد مكان في المدينة، بعض الناس تقول له: جارك لا يصلي، يقول: ما لي علاقة به.
يا أخي: في المحل الذي بالقرب منك، هناك منكر يُباع، هلاَّ بلغت ولو مرة في حياتك، قال: أنا الحمد لله ما أبيع، ما لي علاقة بالناس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] يركض على رجليه، أتعرفون ماذا قال؟! {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21].
في النهاية بعد دعوته إلى الله، هل قالوا: جزاك الله خيراً، كما يُقال لنا اليوم؟! هل قالوا له: جزاك الله خيراً؛ لكن لا تعيد الكرَّة؟!
لا.
بل قتلوه؛ لأنه دعا إلى الله جل وعلا، جاء من آخر المدينة، يركض على رجليه، ينقذ الناس من النار، فكانت النتيجة والثواب: أنهم قتلوه.
فبعثه الله جل وعلا: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] إلى الآن مشفق على قومه، قتلوك أيها الداعية! ذبحوك أيها المبشر المنذر! ومع هذا تشفق على قومك؟! نعم.
إنها الرحمة على الناس: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
لمَ يترك كثير من الناس الدعوة إلى الله؟ يدعو سنة أو سنتين ثم يترك الدعوة إلى الله، انظر واستمع إلى هذه الأسباب.(17/3)
الدعوة لغير الله وترك الإخلاص
السبب الأول يا عبد الله: بعض الناس يدعو لكن لغير الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن لغير الله جل وعلا، يدعو لنفسه، يدعو لسمعة، يدعو لوجاهة؛ حتى يصل إلى منصب، حتى يقال في الناس: فلان ما شاء الله اهتدى على يديه عشرة، يتمنى هذه الكلمات، ما يريد وجه الله تبارك وتعالى.
يريد أموالاً من الناس، يعلِّم القرآن، يدرِّس الناس، يهديهم إلى الله جل وعلا من أجل حفنة دنانير، لَمْ يدعُ إلى الله جل وعلا؛ ولكن دعا من أجل هذه الدنانير، وكانت الأنبياء تقول لأقوامها: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:51].
إنما يتعثر وينقطع عن الدعوة من لم يخلص لله، هل حقاً كنت تدعو إلى الله؟ فما بالك اليوم جلست؟! هل الله تبارك وتعالى الذي كنت تدعو إليه في السابق غاب الآن؟
انظر لنوح عليه الصلاة والسلام، انظر للمخلص، تعرف كم ظل يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟!
ألف سنة إلا خمسين عاماً، كلها دعوة إلى الله جل وعلا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] ما كان هناك دوام، في الليل أدعو وفي النهار ما أدعو، لا، كل حياته دعوة إلى الله، سواءً أكنتُ في العمل أو في البيت، أو في المسجد، أو في الشارع، أنا داعية إلى الله تبارك وتعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:5 - 7] هل جربتَ أن تدعو إنساناً فيضع أصبعيه في أُذنيه حتى لا يسمع؟ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7] يضعوا الثياب على وجوههم حتى لا يسمعون نوحاً: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:7] انظروا! عنادٌ وعتوٌّ وفجور؛ لكن نوح كان يدعو لله، لا يدعو لأجل السمعة، لأجل المال والدنانير، لأجل المناصب، بل يدعو لله جل وعلا، بعد تسعمائة وخمسين سنة قال الله جل وعلا: يا نوح! انتهى الأمر: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36].
أغلقت أبواب التوبة، ما هناك أحد سيهتدي يا نوح.
ونوح عليه السلام الآن يخاف على المؤمنين أن يضلوا، لأن باب الضلال لم يُقْفَل، فماذا قال نوح عليه السلام؟
قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27].
يخاف على قومه أنهم إذا ولدوا فسيولدون كفاراً، وإذا بقوا لعلهم يضلوا، اسمع -يا عبد الله- في آخر حياته لما قال الله له: فاركب على السفينة، أتعرفون ماذا قال الله؟ ما حصيلة تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة؟ أمثل ما في هذا المسجد ثلاثمائة أو أربعمائة رجل؟! لا.
قال الله جل وعلا بعد تسعمائة وخمسين سنة دعوة إلى الله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] إنا لله وإنا إليه راجعون! تسعمائة وخمسون سنة؟! ما فَتَر، ما تَعِب، ما سئم، أتعرفون لِمَ؟ لأن الله يعلم أن الله خلقه لعبادته، والدعوة إلى الله من أشرف العبادة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33].
إذاً: أول أمر -يا عبد الله- الإخلاص.
أنت تدعو لله أم للذين كفروا؟! لِمَ الآن تغيرت يا عبد الله؟! لِمَ كنتَ في السابق خطيباً داعياً واعظاًَ، أما اليوم نجدك في المقاهي تستمع إلى الأغاني، وتغتاب المسلمين، وتلعب بعض الألعاب المحرمة؟! ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! كنت في السابق تجول وتصول، تصدع بالحق، أما اليوم على مدرجات الملاعب تصفق وتزمجر، ما الذي حدث؟! هل كنت تدعو إلى الله حقاً أم كنتَ تدعو لغيره؟!(17/4)
الركون إلى الدنيا
السبب الآخر الذي به يفتر الناس عن الدعوة -واستمع لهذه الأسباب، وابحث عن دائك، فإن بعض الناس لا يدري أصلاً، ولعل أحد هذه الأسباب أو أكثرها تقع عليك يا عبد الله-
آفة النسيان: الركون إلى الدنيا:-
همه قلبه حياته مماته لأجل الدنيا يعيش من أجلها يموت من أجلها لا يتمنى ولا يطلب غيرها قلبه منشغل بها واسمع إلى ما يقوله الرب جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15] كان يوماً من الأيام يأمر بالمعروف، دخل في تجارة، وليست بحرام، ولكن انشغل عن الدعوة، بدأ في تجارته يتعامل بالربا، بدأ يسلف النساء، بدأ يعاقر الحرام، بدأ يتساهل في دين الله شيئاً فشيئاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يدخل على الملك، فيقول له الملك الطاغية: يا بن تيمية! سمعنا أنك تريد ملكنا، وملك آبائنا؟
أتعرفون ماذا قال ابن تيمية؟! كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم، سُجن مرات عديدة، رُمي في بئر عاماً كاملاً، لا يرى الشمس فيه، يُنزل إليه الطعام بالحبل، يقضي حاجته في مكانه، عاماً كاملاً في السجن.
استدعاه الملك فقال له: سمعنا أنك تريد ملكنا؟ انظروا إلى أهل الدنيا، يخافون من الدعاة إلى الله، يظنون أن الدعاة يريدون الحكم، يريدون الملك، يريدون المنصب، لا والله، الدعاة إلى الله جل وعلا ما يريدون شيئاً من الدنيا، فقال له شيخ الإسلام، وقد أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال له: والله ما ملكُك ولا ملك آبائك وأجدادك يساوي عندي حفنة من هذا التراب.
انظر يا عبد الله إلى الدنيا في قلب شيخ الإسلام، مات ولم يتزوج، ليس رغبة عن الزواج، ولكنه لم يتفرغ للزواج، من سجن إلى آخر، من سجن إلى آخر، حتى توفي في سجن دمشق وقد ختم القرآن إحدى وثمانين مرة، حتى وصل في المرة الحادية والثمانين إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] ثم خرجت روحه إلى بارئها، انظروا لمن تبرأ من الدنيا! لمن ترك الدنيا! كيف عوضه الله جل وعلا! لعله يحصل على مقعد صدق عند مليك مقتدر.
صهيب الرومي: جاء فقيراً إلى مكة، فجمع المال، انظر -يا عبد الله- الفتنة، جمع المال، وكان ثرياً غنياً تاجراً معروفاً في قريش، فلما آمن وأراد الهجرة إلى المدينة، قال له صناديد قريش: جمعتَ أموالنا، وتريد أن تذهب بها؟! والله لا ندعَك، الآن لو يُقال لك: تريد أن تدعو إلى الله؟! تريد أن تنشر دين الله؟! اترك جميع أموالك، اترك هذا العمل، اترك المنصب الذي أنت فيه، اترك الدنيا وزينتها، هل تفعل؟!
قال صهيب الرومي: [يا قوم! تريدون أموالي وتتركوني أهاجر بديني؟ قالوا: نعم، نريد أموالك، قال: اذهبوا إلى مكان كذا وكذا ففيه جميع أموالي وما جمعتُه] فذهبوا يأخذون أمواله فإذا بـ صهيب الرومي يهاجر، فلما أقبل إلى المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] إن المنافق إذا أمرته بعمل دعوي، أو شجعته لنشاط دعوي يحسب حسبته: هل هناك مصلحة مادية؟! هل هناك أموال من ورائها؟! هل هناك عَرَضٌ قريب، شهرة، منصب، أموال، فإذا لم يجد يتعذر بالأعذار: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42] والله الذي لا إله غيره لو كانت الدعوة إلى الله جل وعلا فيها أموال، وفيها مناصب، وفيها كنوز لاتبع أكثر الناس سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولكن بالعكس، فيها تضحيات، فيها بذل من المال، فيها بذل من الوقت والنفس ولعلها الروح يا عبد الله!.
ولهذا ما يتبعها إلا قليل، وإذا سألتهم يعتذرون بالتجارات، يعتذرون بالأعمال، يعتذرون بالأولاد، يعتذرون بالأهل، يقولون لك: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11] هذا عذرهم في السابق وهذا عذرهم في اللاحق.
اسمع يا عبد الله إلى أبي بكر رضي الله عنه، لما علم أن الدعوة إلى الله تحتاج منه بعض المال، تحتاج الآن الدعوة إلى الله مالاً، وأنت فقير ما عندك شيء، أتعرف ماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟! جاء بكل ماله، لم يفكر في غده، ولم يفكر في أولاده، وأهله، الإيمان إذا بلغ هذه المرتبة، لا يفكر الإنسان بحطام الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك؟! قال: تركتُ لهم الله ورسوله) أسألك بالله، هل سمعت أن ابناً لـ أبي بكر أو بنتاً لـ أبي بكر مات جوعاً؟! لا يا عبد الله! {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
عبد الله: إذا كنت تخاف بعض الأحيان على منصب، أو رزق، أو أموال، أو تجارات تضيع، فاعلم -يا عبد الله- أن الرزق: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] لا أقول لك: اجلس في المسجد، أو اترك العمل نهائياً، لا يا عبد الله! ولكن ادعُ إلى الله ولو كنت في العمل، ادعُ إلى الله ولو كنت في تجارة، ادع إلى الله جل وعلا ولو كنت تبيع وتشتري، كن داعياً إلى الله جل وعلا صباح مساء، في السر والعلن، في البيت وخارج البيت، كن داعياً إلى الله تبارك وتعالى.(17/5)
عدم الصبر
السبب الثالث: من الأسباب التي يترك بعض الناس بها الدعوة إلى الله: عدم الصبر:-
فهو يترك الدعوة إلى الله جل وعلا، لسب أو شتم، أو قرار فصل، ولعلها إهانة، أُغلق الباب في وجهه، أو طُرد من البيت، قال: لن أتعب نفسي لأجل هذه المساجد، أجلس كما كنتُ في السابق، أعبد الله، وليس لي علاقة بأحد، ويتحدث بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105].
اسمع يا عبد الله للسابقين كيف صبروا؟! وأضرب لك أمثلة للنساء قبل الرجال، لتعلم أيها الرجل! أن من النساء من صبرن على الدين، ومن الرجال من لم يصبر.
انظر إلى هذه المرأة التي شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحتها في السماء، رائحة طيبة، قال لجبريل: (ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون) خادمة، وظيفتها تمشِّط شعر بنت فرعون، الذي كان يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أنا إلهكم، فاستحيا النساء، وذبح الأبناء، الدماء تسيل في الشوارع، بذنب وبغير ذنب، فرعون كان يقوم في الناس فيقول لهم: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] أدلة الربوبية عنده، أنه يملك مصر: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] انظر السخافة: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] حتى إنه قال لهم يوماً: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] أعوذ بالله! وليس أي رب، بل قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] كانت عندهم آلهة، لكن كان يقول: أنا الأعلى، أعوذ بالله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ} [النازعات:25] قوله: الأعلى: {وَالْأُولَى} [النازعات:25] قوله: ربكم.
جاءت هذه الماشطة فآمنت بالله، خادمة عندها أولاد صغار رُضَّع، وكانت تقوم بتمشيط بنت فرعون، وفي يوم من الأيام، وكانت تكتم إيمانها، سقط المشط، فأخذت المشط، وقالت: باسم الله، فقالت البنت: مَن؟ أبي؟ قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، طفح الإيمان، وانفجر الإيمان من القلب، لم تبالِ بقتل ولا بسفك دماء، ولا بغير هذا، لم ترفق بأولادها، قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، فتهددتها وقالت: سأخبر أبي، قالت: أخبريه، فأُخْبِر فرعون، فاستدعيت الماشطة، إنا لله وإنا إليه راجعون!
ثم سألها -وراءك أولاد، وراءك بيت يا عبد الله! وراءك أهل تنفق عليهم، هذه ليس وراءها رجل، وراءها أولاد صغار، جيء بالماشطة في قصر فرعون- قال لها فرعون: أَوَلَكِ ربٌ غيري؟! قالت والموت ينتظرها، والدماء تسيل في الشوارع، والأولاد خلفها قالت: نعم، ربي وربكَ الله رب العالمين.
انظر إلى الداعية إلى الله، بدأت الآن تدعو فرعون إلى الله جل وعلا، فتقول: ليس ربي فقط بل ربي وربك، أي: ارجع إلى الله يا فرعون! امرأة خادمة ماشطة، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول: ربي وربك الله ورب العالمين، أي: فافعل فما تريد، ما قتلها، بل جاء بأولادها الصغار، والأم تقتل نفسها ولا ترى أولادها يصيبهم شيء، فجيء بأولادها الصغار، الرضع يا عبد الله! وأحميت القدور.
أحميت القدور، وجيء بولدها، وتخيل المنظر، الولد لما يُجَر، يلتفت لمن؟ لأمه، وتخيل المنظر، يظنه لا يبكي، نعم يبكي، المشهد يقتضي أنه يبكي، وأن يستنجد بأمه، وأن قلب الأم قد تفطر، وأن الموت أمامه، والجنود يسحبونه، ولعلهم يتضاحكون، وفرعون أمامها، وينتظر منها كلمة تنقذ أولادها، ولكنه الصبر، أُخذ الولد الأول، فيرمى في القدر وهو حي يصيح، ويحترق، وينفصل اللحم عن العظم، وهي تراه، حتى طفحت العظام وذابت اللحوم، والولد الآخر -والقصة حقيقية يا عبد الله- الولد الآخر هكذا، والأطفال ينظرون إلى إخوانهم، والولد الثالث، حتى فني أولادها جميعاً، ما بقيت إلا العظام، جيء بها الآن تُجر إلى ذلك القدر، فقالت لفرعون والتفتت: لي إليك حاجة، فرح فرعون، ظن أنها سوف ترجع عن دينها، قال: ما تريدين؟ قالت: أسألك: أنك إن أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن واحد، وتدفننا جميعاً، عجب فرعون وقال: ذلك لك من الحق علينا، فإذا بها ترمى في القدر وتحرق معهم.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] * {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] لا تظن -يا عبد الله- أن هذا الدين هكذا، الحمد لله نصلي في المسجد ونرجع، ولا شيء، أتعرف لِمَ؟ لأنه يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه قوة وزيادة اشتد عليه البلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء.
فهذا زكريا تبعه قومه ليقتلوه، تخيل، نبي يدعو إلى الله، ليتهم طردوه من بيته بل تبعوه ليقتلوه، زكريا -يا عبد الله- الذي ما كان بدعاء ربه شقياً، لو رفع يديه لأهلك الله قومه، تبعوه فدخل في الغابة، وهم يركضون خلفه، والشيطان معهم، حتى فتح الله له شجرة، فدخل فيها، وأغلق الله الشجرة عليه، ولكن بقي شيءٌ من ثيابه خارج الشجرة، فجاء الشيطان يدل الناس على مكانه، فقال: هذا مكان زكريا، دخل في الشجرة وهو حي، فإذا بقومه يأتون بالمنشار، لينشروا زكريا، فإذا به لما بدأ المنشار ينشره يئنُّ من الألم، فقال الله: وعزتي وجلالي لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض عليهم، فسكت زكريا، وتحمل العذاب، حتى لا يهلك الله قومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
الواحد منا يدعو سنة أو سنتين قال: مللتُ، ماذا يا عبد الله؟! أنت داعية إلى الله جل وعلا حتى تخرج روحك من جسدك، ادعُ إلى الله في السوق، ادعُ إلى الله في الشارع، بعض الناس للأسف إذا أُغلق الباب في وجهه ترك الدعوة إلى الله جل وعلا، وإذا بصق في وجهه قال: بطَّلنا الدعوة إلى الله، هذا محمد عليه الصلاة والسلام يسجد عند الكعبة، فإذا بـ أبي جهل يقول لقومه: [من يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيرميه على ظهر محمد؟] عليه الصلاة والسلام، فيقوم أشقى القوم إلى سلى جزور بني فلان فيأتي به فيرميه على ظهره عليه الصلاة والسلام، قذارة، ونجاسة البعير، يرميها كلها على ظهره عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أن يرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أحد من الصحابة أن يتحرك، كل منهم قد كتم إيمانه، وآمن سراً، فإذا بـ فاطمة وكانت بنتاً صغيرة جويرية تركض ركضاً إلى أبيها، وهي تبكي، حتى جاءت إليه تزيح الدم وسلى الجزور عن ظهره عليه الصلاة والسلام.
أناس يُضربون بالسياط، أناس يُحمى الحديد فيطفأ في ظهورهم، أناس يوضعون على الجمر، فينسلخ الجلد عن اللحم، عمار يقف وأمه أمامه تضرب وتجلد، ويمر عليه الصلاة والسلام عليهم فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عنده شيء، ما عنده جنود، ما عنده جيش- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ هذا طريقها، جنة بغير بلاء ومكاره، ليست هناك جنة: (حفت الجنة بالمكاره) فإذا بـ عمار ينظر إلى أمه فيقوم أبو جهل الطاغية فرعون هذه الأمة، فيأخذ حربة بيده، فيطعن أم عمار في فرجها، فيسيل الدم، وهي تصيح حتى تموت، من ينظر إليها؟ عمار يا عبد الله، ابنها الصغير، ينظر إلى أمه تعذب هذا العذاب، لكنه صبر في سبيل دين الله جل وعلا.
خباب قال: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟!) جاع الصحابة ثلاثين يوماً، ليس عندهم طعام ولا شراب، أطفالهم يصيحون من الجوع، والمشركون يأكلون اللحوم والأطعمة، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس لي ولـ بلال طعام إلا ما يواريه بلال تحت إبطه) يخفي الطعام بلال تحت إبطه حتى يأكله عليه الصلاة والسلام، أكلوا ورق الشجر، ونحن للأسف لأجل وجبة غداء تركنا الدعوة إلى الله، لأجل وجبة عشاء نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأجل بطوننا، لأجل فروجنا، إلا من رحم الله جل وعلا، فيأتي خباب فيقول: (ألا تدعو لنا؟! -ماذا يريد خباب؟ يريد دعوة إلى الله، أتعرف ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قام مغضباً وقد تغير لون وجهه فقال: يا خباب! إنه كان فيمن كان قبلكم، يؤتى بالرجل -انتبه! - فتحفر له الحفرة -وتخيَّل! - فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه -فيفرق فرقتين، ليس هناك مخدر، تخيل المنشار على رأسك، ويبدأ ينشر الرأس، ولا تموت إلا بعد ملل، إنا لله! لِمَ كل هذا؟ - قال: ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه -يفصل اللحم عن العظم وهو حي- قال: لا يرده ذلك عن دينه لكنكم قوم تستعجلون).
انظر يا عبد الله! إلى هذا العالم الداعية، دعا إلى الله جل وعلا في بلده، وأطلق فتوى تعارض الطاغية في بلده في ذلك الحين، وسمع الملك الطاغية أن عالماً في بلده أصدر فتوى تعارض سياسته، فاستدعاه في القصر، وكان طاغية جباراً ظالماً، يسفك الدماء، فاستدعى ذلك الرجل العالم الداعية، فقال له: سمعنا أنك أفتيت فتوى، قال: وما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: لو كان عندك عشرة أسهم لرميت النصارى بتسعة، ورميتنا بسهم واحد، هل قلت هذا؟ لو قال: نعم، يقتل الآن.
فقال هذا العالم الداعية: لا والله ما قلت هذه الفتوى، ففرح الطاغية، وقال: إذاً ماذا قلتَ؟ قال: قلتُ: لو كان عندي عشرة أسهم لرميت النصارى بسهم واحد، ورميتكم بتسعة.
صححِّ الفتوى، أنتم تسعة أسهم، والنصارى واحد، فقال: ماذا تقول؟ قال: أقول ما تسمع.
فما قتله الملك، بل صلبه بين الناس، وقال ليهودي -أشد الناس عداوة-: اسلخ جلده من رجليه إلى رأسه، ولا تقتله.
اسلخ الجلد وهو حي، فجاء أمام الناس والناس ينظرون.
للأسف ينظرون إلى هذا العالم يُضرب، وهذا يُقتل، وهذا يُسجن، وهذا يُبعد، وهذا يُضيق عليه، والناس يتفرجون، كل منهم يخاف على أولاده، وعلى ماله، وعلى نفسه، إلا من رحم الله، فإذا بهذا اليهودي يسلخه من رجليه، تخيل الآن المنظر، يسلخ الجلد وهذا العالم الداعية يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ويرددها: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وإذا به يسلخه حتى وصل إلى صدره، وهو يردد هذا الذكر، فتأخذ اليهودي رأفة؛ فيطعنه بالخنجر في قلبه، حتى مات: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
وهذه امرأة تحمل رضيعاً بيدها، وأمامها أخدود مليء بالنيران، يقال لها: ترجعي عن دينك أو ترمي بنفسك والرضيع في النار؟ قالت: أرمي بنفسي، فلما أرادت أن ترمي نفسها، ترددت، وقالت: ما ذنب هذا الرضيع؟! أنا أحرق نفسي لله، لا بأس، روحي فداء لدين الله، لكن هذا الرضيع ما ذنبه؟! ما جريمته؟! لِمَ أحرقه بهذه النيران؟! فإذا بها تتردد وتتقاعس، فينطق الله الرضيع في المهد فيقول: يا أماه! اثبتي فإنك على الحق.
فترمي بنفسها ورضيعها في النار: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7].
لم كل هذا؟!
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
لا تقل يا عبد الله: أنا ما أُبتلى!
أقول: يبتلى المرء على قدر دينه.(17/6)
ضعف الإيمان
السبب الرابع: من أسباب ترك الدعوة إلى الله جل وعلا: ضعف الإيمان:
فلان يدعو إلى الله ثلاث سنوات، ثم يترك الدعوة! ما السبب؟!
ضعُف الإيمان، فتَر، بدأ يرتكب بعض الذنوب والمعاصي.
فتش في نفسك يا عبد الله، لِمَ كنت في السابق إذا رأيتَ منكراً انقبض الصدر، تضجرت، خرجت من هذا المجلس، ما تتحمل منكراً في الأرض؟! أما اليوم تنظر إلى التلفاز صباح مساء، الأفلام العارية الداعرة، المجلات القذرة تقرؤها صباح مساء، ما الذي جرى؟!
إنها الذنوب والمعاصي.
أتذكر يا عبد الله تلك النظرات؟! أتذكر تلك المسلسلات؟! أتذكر تلك الأشرطة؟! أتذكر تلك الليالي الحمراء؟! أتذكر عندما كنت تغلق الباب على نفسك وتفعل ما تفعل؟! هذا الذي ثبطك عن الدعوة إلى الله! {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
ولهذا يا عبد الله إن الدعوة إلى الله متناسبة مع الإيمان، كلما ارتفع الإيمان ازدادت الدعوة إلى الله، وكلما ضعف الإيمان قلت الدعوة إلى الله.
واسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) الواجب الأول باليد، إذا رأيت تلفازاً والأهل ينظرون فأغلق التلفاز في بيتك، أنت صاحب البيت ورب الأسرة، تستطيع أن تمنع المنكر فامنع بيدك، أنت مدير في مؤسسة، أنت مسئول في مكان، أنت صاحب المحل، أنت صاحب السلطة، أنكر المنكر بيدك، إلا إذا رتب منكراً أكبر من هذا، فهنا يحرم الإنكار.
قال: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) يا عبد الله! ما الذي يمنعك من اللسان؟! {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] اصدع يا عبد الله، هل تخاف في الله لومة لائم؟! هل تخاف كلام الناس؟! هل تتثبط لاستهزاء المستهزئين؟! اصدع بما تؤمر.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يستطع -الدرجة الثالثة- فليغيره بقلبه).
كيف يغير بالقلب؟!
قالوا: يخرج من المجلس، يتضايق، يغادر هذا المكان، يبين لمن حوله: أنني صحيح لم أستطع أن أتكلم؛ لكن لتعلموا أنني لا أرضى بهذا المنكر، أخرج من هذا المكان.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وذلك أضعف الإيمان) أضعف الإيمان، يعني: أقوى الإيمان الإنكار باليد، ثم اللسان، وقد يتفاوت، فأحياناً يكون الإنكار باللسان خير من اليد.
عبد الله: الإيمان يتناسب مع تغيير المنكر، مع الأمر بالمعروف، مع الدعوة إلى الله، ولهذا قال الله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِوَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الإيمان بالله جل وعلا.
تذكر ذنوباً، تذكر معاصٍ كنت تفعلها يا عبد الله صدتك عن طريق الدعوة إلى الله جل وعلا.(17/7)
عدم التوكل على الله سبحانه
السبب الخامس: وهو يمنع كثيراً من الناس عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ويصيبهم بالضعف والفتور وهو: عدم التوكل على الله:-
يعتمد على أسبابه، يظن أنه إذا دعا اهتدى الناس! لا يا عبد الله! الأمر كله معلق بالله جل وعلا، أسمعت بمؤمن آل فرعون؟! فرعون كان في قصره مؤمن، كتم إيمانه، وخاف، لكن لما اجتمع فرعون والحاشية وكان هو موجوداً، واتفقوا على قتل موسى، هذا الرجل ما استطاع كتمان الإيمان، فأظهر إيمانه وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] أتفعلون هذا الفعل في رجل يدعو إلى الله جل وعلا؟! أتسجنون هذا الرجل؟! ما جريمته؟! ألأنه دعا إلى الله جل وعلا تطردونه، وتضربونه، وتقتلونه، وتستهزئون به؟! هذا المؤمن الداعية إلى الله جل وعلا ما تحمل وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].
وأخذ يجادلهم، وأخذ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويناقشهم، ويقنعهم بالدعوة إلى الله، وبصحة هذا الدين، وفي النهاية ماذا قال؟ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44] قال: ستذكرون هذا الكلام، وأنا أفوض أمري إلى الله، ومتوكل على الله جل وعلا، أنا فقط عليَّ البلاغ، ومتوكل على الله.
قبل قليل قال لهم: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
عباد الله: يقع زلزال في خمس ثوانٍ فيدمر جميع البيوت، هذا جندي من جنود الله، فهذه ريح أرسلها الله على قوم عاد سبع ليالٍ وثمانية أيام دمَّر الله القرية كلها، حتى إنه كانت الريح تأخذ الواحد منهم إلى أعلى السماء ثم تطرحه على الأرض فينفصل الرأس عن الجسد.
العجوز كانت تختبئ في البيت من شدة البرد، ريحٌ صرصر بارد، تجلس في البيت فتغلق الباب على نفسها، وتشعل النار، فتموت من البرد وهي في بيتها.
وسمعتم بذلك الرجل، الذي قتل، وقد قدمنا قصته أول المحاضرة، هل أرسل الله عزَّ وجلَّ جيشاً؟! هل أرسل الله ملائكة؟! هل أرسل الله عزَّ وجلَّ عباداً له؟!
لا يا عباد الله! انظر ماذا قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس:28] ما أنزل الله ملائكة.
ماذا فعل الله؟!
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29] صيحة واحدة، جندي من جنود الله جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
توكل على الله، وفوض أمرك إلى الله جل وعلا، وإياك إياك أن تعتمد على حساب الماديات، تعتمد على حولك وقوتك ونشاطك وذكائك! لا يا عبد الله.
انظر إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، رمي في النار بالمنجنيق، شهر كامل يجمعون الحطب لحرق إبراهيم، فلما جمعوا الحطب وأشعلوا النار، يمر الطير من فوق النار فيسقط من حرارتها، إبراهيم ما استطاعوا أن يأتوا إلى النار فيقذفوه فيها، بل رموه بالمنجنيق، فلما كان في الهواء جاءه جبريل في اللحظة الأخيرة، قال: ألك إليَّ حاجة؟ -جبريل ينقذه الآن- فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما سقط في النار، قال الله جل وعلا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70].
توكل على الله أيها الداعية، لا تقل: أنا بقوتي وبنشاطي وبعملي سوف أكره الناس جميعاًَ! لا يا عبد الله! {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ما تستطيع يا عبد الله!
إذاً توكل على الله تبارك وتعالى.(17/8)
شدة الخلاف والنزاع بين الدعاة
السبب السادس: عبد الله، من أسباب الفتور في الدعوة -واستمع لهذا السبب وانتبه له-: كثرة الخلاف، وانتشار الشقاق والنزاع، هذا يسب هذا، وهذا يشتم هذا، وهذا يطعن في هذا، وهذا يغتاب هذا، حتى صار بعض الدعاة والخطباء الواعظين الآمرين بالمعروف والنهاة عن المنكر يحتاجون إلى من يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى!
ما السبب؟!
دخل في هذه المتاهات، بدأ يختلف مع إخوانه، وهل كلما اختلفنا افترقنا يا عباد الله؟! نحن المسلمون للأسف كما قال صلى الله عليه وسلم: جعل الله بأسنا بيننا، بأس هذه الأمة بينها، كلما اختلف رجل مع أخيه تفرقا وتهاجرا، حتى قال شيخ الإسلام: إن كان هذا الأمر صحيحاً ما بقي أخَوان.
عباد الله: نحن نتفق في أصول الإسلام، نتفق في أصول أهل السنة والجماعة، وماذا بعد هذا؟
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
هذه الحادثة والله لو حدثت في زماننا ولم تحدث قبلنا، لرأيت النزاع والشقاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) ففهم بعض الصحابة أنه حتى ولو فات وقت العصر فلن يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وبعض الصحابة فهم أمراً آخر قالوا: لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الاستعجال، فلما حان وقت الصلاة صلوا في الطريق.
اختلفوا يا عباد الله! هل سمعت أن الصحابة تقاتلوا وافترقوا لأجل هذه المسألة؟ لا.
يا عبد الله: الصدور أوسع مما تظن، والحمد لله هذا الدين يسع كثيراً من الخلاف، ولهذا رأينا الشافعي يخالف الإمام أحمد، ومالك يخالف أبا حنيفة، هل سب أحد منهم الآخر؟! هل شتمه؟! هل حذر منه؟! هل نفر الناس عنه؟! هل حذر من التتلمذ والدراسة عليه؟! لا يا عباد الله.
أتعرف لماذا؟ لأن عندهم قاعدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] نحن والحمد لله ندخل تحت لواء أهل السنة والجماعة، فليعذر بعضُنا بعضاً.
نعم، نتناصح، نتناقش، نتجادل، وسألتُ بعض الناس سؤالاً، قلتُ لهم يوماً: لو رأينا رجلاً شيخاً وقوراً صاحب دين وصدق، أكل لحم جزور، ونحن نعلم أن لحم البعير ينقض الوضوء، وبعد أن أكل لحم البعير قام ليصلي بنا، فقام بعض الناس يقول له: يا شيخ! لحم البعير ينقض الوضوء، وهذا هو القول الصحيح، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل: (أنتوضأ من لحم الجزور؟ قال: نعم) فقال الشيخ: لا، لحم البعير لا ينقض الوضوء.
فقلنا له: يا شيخ، صلاتك لا تصح، قال: لا، أنا مقتنع بأن لحم البعير لا ينقض الوضوء، فقام وصلى بنا، هل تصلي خلفه وأنت تعتقد أن لحم البعير ينقض الوضوء؟
يقول الشيخ محمد الصالح بن عثيمين: يصلي خلفه، وصلاته صحيحة، وصلاتك صحيحة، أرأيت ما أعظم هذا الدين! أرأيت ما أعظم فهم العلماء وفقههم الدقيق.
يقول: بما أنه يعتقد أن هذا لا ينقض الوضوء، وهو ليس متبعاً للهوى، بل متبعاً للدليل، وهذا قول جمهور العلماء أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء، وهم يقولون: إن هذا الحديث منسوخ، إذاً هو متبع للدليل ومجتهد، وإن أخطأ فله أجر، فتصلي خلفه، وبما أن صلاته صحيحة، فصلاة من خلفه صحيحة.
أرأيتم يا عباد الله! كيف أن بعض الناس ضاقت أنظارهم، صار لا يرى في أخيه إلا الخطأ، لا يرى فيه إلا السوء، لا يرى فيه إلا الزلل، لا يعرف حسناته وفضائله.
سُئل الشيخ ابن عثيمين حفظه الله في الحج الماضي: عن تقويم الناس، وتقويم الجماعات والطوائف، يقولون له: إن بعض الناس يقول: لا يجوز إذا أردت أن تقيم إنساناً أن تذكر حسناته، تذكر العيوب التي فيه فقط؟ أتعرف ماذا قال الشيخ ابن عثيمين؟!
قال: إذا كنت تريد أن تقيم إنساناً يجب عليك وجوباً أن تذكر حسناته وسيئاته.
ليس استحباباً، بل وجوباً؛ لأن هذا تقييم، هذا ميزان العدل والإنصاف يا عبد الله، أما إذا أردت أن تحذر من بدعة أو خطأ، فلا يجب عليك أن تذكر الحسنات، بل تحذر من البدعة، وتحذر من الخطأ، ولا بأس بهذا كله.
إذاً: يا عباد الله! لتتسع صدورنا للناس.
نعم، نتعاون، نتناصح، نتذاكر، نتناقش، إمامنا ورائدنا كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة السلام وإجماع الصحابة، هذه حجتنا القاطعة التي ليست بعدها حجة؛ ولكن يا عباد الله! لتكُن صدورنا أوسع مما هي عليه الآن.(17/9)
وجود الشبه المثبطة
السبب السابع: من الأسباب التي تجعل بعض الناس يترك الدعوة إلى الله جل وعلا: شُبَهٌ -وسوف أسردها سريعاً- يتعلق بها كثير من الناس.
لِمَ لا تدعو إلى الله؟ لِمَ لا تأمر بالمعروف؟ لِمَ لا تعمل معنا في طريق الدعوة إلى الله؟ اسمع لهذه الشُّبَه:
الشبهة الأولى:
بعض الناس يقول: الواقع مرير، والفساد كبير، والسيل جارف، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً، اجلسوا في بيوتكم، عليكم أنفسكم.
وهذا الرجل المسكين ما قرأ كتاب الله حقاً؛ لأن الله جل وعلا يقول لنبيه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ما عليك شيء، {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] حتى ما يكون هناك حجة علي، فقط بلِّغ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22].
ماذا قالت بنو إسرائيل؟
{لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164] ما فيهم خير؟ القوم ضاعوا وفجروا وتركوا دين الله، والفساد منتشر، لا تستطيعوا أن تفعلوا شيئاً: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] لا نيئس من رحمة الله جل وعلا.
الشبهة الثانية:
بعض الناس يقول ضد هذا، يقول: الحمد لله، الناس في خير، لِمَ هذا التعب؟! لِمَ هذا الصياح؟! لِمَ الأمر بالمعروف؟! لِمَ النهي عن المنكر؟! الحمد لله المساجد ممتلئة.
نقول: هذا الرجل ينظر بعين واحدة، ولا ينظر بالعين الأخرى.
عبد الله: أما ترى الفساد منتشراً؟! ألا ترى التبرج في كل مكان؟! أين نحن من صلاة الفجر؟!
أيها المصلي صلاة الفجر: ألا ترى الفرق بينها وبين صلاة العشاء؟! ألا ترى الفرق بين هذا وهذا؟!
الصلاة تقام وما زالت المحلات مفتوحة! وبعض الناس يعمل ولا يبالي بالصلاة، ألا ترى هذا يا عبد الله؟!
ألا ترى سب النبي صلى الله عليه وسلم في الصحف؟! كيف تجرأ الناس إلى هذا؟!
يأتي ذلك فيقول: ليس هناك دليل، لا من القرآن ولا من السنة على وجوب الحجاب! إنا لله وإنا إليه راجعون.
ألا ترى الآخر يقول: ليس هناك دليل في القرآن ولا في السنة على تحريم الخمر؟! ألا ترى هذا يا عبد الله؟!
فجور سب لله سب لرسول الله تحريف لهذا الدين، وأنت جالس تقول: الحمد لله، الناس بخير! أي خير هذا يا عبد الله؟!
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
الشبهة الثالثة:
اسمع يا عبد الله إلى شبهة أخرى: بعض الناس يقول: تعال يا أخي، نريد أن نوزع شريطاً في الشارع، في المحلات، في ذلك المجمع، جمعنا بعض الأشرطة ونريد أن نوزعها في ذلك المجمع، في ذلك السوق، تعال معنا، فيقول: إني أخاف.
لِمَ تخف يا عبد الله؟!
قال: أخاف الفتنة، أخاف أن أنظر إلى النساء، أخاف أن يتعلق قلبي بهن، اتركوني في البيت، في المسجد، سبحان الله! لَمَّا يذهب لحاجياته لا يقول: أخاف الفتنة.
إذاً يا عبد الله! إن كنت تخاف الفتنة، لِمَ لا تدعو في مكان الرجال؟! لِمَ لا تدعو في عملك؟! لِمَ لا تدعو في المقاهي التي تجلس فيها؟! تدعو إلى الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] استأذن عن الجهاد، اعتذر عن الجهاد، أتعرف لِمَ؟
الجد بن قيس قال: (يا رسول الله! ما أستطيع أن أذهب إلى الجهاد، قال: لِمَ؟ قال: أخاف فتنة بني الأصفر) أخاف أن أفتتن بالنساء، قال الله جل وعلا: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
الشبهة الرابعة: بعض الناس يحتج بشبهة أخرى: يقول: أنا لا أصلح للدعوة إلى الله، أو بعضهم يقول: أنا عندي ذنوب، وعندي معاص، كيف أدعو إلى الله جل وعلا؟! اسمع! كل منكِر مطالب بالدعوة ولو كان عنده بعض المعاصي.
ولو لَمْ يعظ الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمدِ
هل هناك بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إنسان لا يعصي الله؟! حتى أبو بكر: (كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون).
إذا كان كل إنسان يقول: أنا عندي معاصٍ، حتى أترك المعاصي ثم أدعو إلى الله.
أخطأت يا عبد الله، صحيحٌ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] هذا إثم؛ لكن لا تجمع مع الإثم إثماً آخر، ما هو الإثم؟ ألا تدعو إلى الله جل وعلا، وقلها صادقة من قلبك: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108].
أول الناس في هذا الطريق محمد عليه الصلاة والسلام، وأيضاً من يسير في طريق الدعوة إلى الله؟! قال: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] كل من ادعى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يدعو إلى الله، وهذه الآية -يا عبد الله- تدل على أن من تمام الاتباع الدعوة إلى الله.(17/10)
عدم الشعور بالتحدي
السبب الثامن: ختاماً: من أسباب ترك الدعوة إلى الله: عدم الشعور بالتحدي:
أيها الإخوة الكرام: كل منا مطالب بالدعوة إلى الله، ألا تشعر أننا يتحدانا أُناس يريدون أن ينشروا الرذيلة بين صفوفنا؟! ألَمْ تسمع بهذا؟!
ألا تعلم أن اليهود والنصارى همهم الآن -في هذه البلاد خاصة- أن يجردوها من الإسلام؟ أن يغير فكر المسلم الذي يصلي إلى فكرٍ غربي، بحيث يصبح همه في الحياة المادة، وهذا حصل لكثير من الناس.
جاءني أحد الأيام شاب، بعد أن صليت الظهر، قال لي: يا فلان! أما زلتم تصلون؟! قلتُ: نعم، قال: الناس وصلوا إلى القمر وأنتم ما زلتم تصلون؟!
قلت: أنت لَمْ تَصِلْ إلى القمر ولَمْ تُصَلِّ، نحن الحمد لله صلينا، وإن شاء الله سوف نصل إلى أعلى من القمر، بإذنه جل وعلا، فنحن نأمل أن نصل إلى الفردوس الأعلى.
عبد الله: ألا تشعر بالتحدِّي؟! هناك كتَّاب في الجرائد يسخرون من دينك، يستهزئون بك، يشككون الناس حتى في العقيدة، هناك أناس يشككون الناس حتى في دين الله، بعضهم يشكك أن دين الإسلام لا يصلح، لو أردتَ أن تطبق فتطبق أي مذهب؟! انظر التشكيك، وبعضهم يأتي بشُبه حتى يشكك العجائز وكبار السن في دينهم يا عبد الله، أين أنت؟!
يقول أحد الشباب: كنت في بلاد ألمانيا في صبيحة كل يوم أخرج للدراسة، وفي يوم من الأيام طرق عليَّ الباب طارق، فتحتُ الباب فإذا امرأة من الدعاة النصرانيات، يتجولن كل صباح على الناس، تخيَّل! نصارى، يقول: فلما علمت أنها تدعوني إلى النصرانية، أغلقتُ الباب في وجهها.
انظر لعزته بدينه، يقول: وجلستُ في البيت، يقول: والله! أسمعُها تدعوني إلى دينها من وراء الباب نصف ساعة.
نصف ساعة تتكلم، تنشر دينها، ولا تبالي، أُغْلِقَ الباب أم لم يُغْلَق؛ لكن تدعو إلى مبدئها، ودينها الباطل، أين المسلمون؟! أين الدعاة إلى الله جل وعلا؟!
نحن متحدَّون يا عباد الله، النصارى يغزوننا، اليهود يغزوننا، ليس غزواً عسكرياً، بل غزواً إعلامياً وثقافياً، والآن سوف يكون الغزو في المرحلة القادمة اقتصادياً، وأنت أعلم بهذا.
عباد الله: ما دورنا؟! ما عملنا؟! الواحد يكفي أنه يصلي ويرجع إلى البيت؟! لا والله، لا يكفي هذا، ما يكفي أنك تفتح المصحف ثم تدرس في البيت، ألم تسمع قول الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110].
يا عباد الله: الآن في هذا الزمن من يفكر في أمريكا، وفي بريطانيا، وفي روسيا كيف يدمروا ديننا وكيف يفسدوا عقيدتنا؟!
تتعجب من هذه المخدرات في الآونة الأخيرة انتشرت في كل البلاد الإسلامية، وهذه الخمور في كل الأحياء.
قبل أيام ركبتُ طائرةً، زذهبت لإحدى الدول لإلقاء الدروس والمحاضرات، هذه الطائرة أغلب ركابها نصارى -والله أعلم- بحيث يعرفون من أشكالهم، ولم يكن معي من المسلمين إلا القلة، ممن يلبسون اللباس الإسلامي -الهيئة الخليجية- والله الذي لا إله غيره، لما ارتفعت الطائرة في السماء؛ نزع كل منهم حزامه، فرأيت بعض الناس يرجع إلى الخلف، ثم اكتشفت أنهم يرجعون لأخذ الخمور وشربها، والله إن هؤلاء المسلمين العرب سبقوا النصارى لهذه الخمور!! للأسف يا عباد الله!
بعض النساء تشتكي وتقول: تزوجته صالحاً، وبعد زمن تعرف على شلة فاسدة، فبدءوا يأتونه في البيت، ترك الصلاة، بدأ يشرب الخمور، حتى وصل به الحال أنه يجبر زوجته على أن تعاشر أصحابه، هذا في بلاد المسلمين بلاد التوحيد -يا عباد الله- ألسنا في تحدٍ؟!
إلى الآن ألَمْ تعلم أن من الناس من يفكر في إفساد دينك ودين أولادك، حتى في أرحام الأمهات، هناك من يخطط لإفساد الأولاد في أرحام أمهاتهم! أما تعلم بهذا يا عبد الله؟!
بعد عشرين أو ثلاثين سنة تكبر وتشيخ، وسوف يعيش أولادك في هذا المجتمع، وإذا لم يصلح المجتمع -يا عبد الله- فسوف يكون أولادك أول ضحية، وإني مذكرك: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44] ستذكر هذه الكلمات.
سوف يأتي يوم من الأيام ابنتك لا تستطيع أن تدرسها، بعض البلاد الإسلامية اليوم ممنوعٌ أن تظهر المرأة بحجاب، كونها تخرج من البيت بحجاب تعتبر جريمة، لو كنت مكانهم ماذا تفعل يا عبد الله؟!
فحتى لا نصل إلى مثل هذه الحال، علينا أن نبادر إلى الدعوة إلى الله جل وعلا، لنبلغ دين الله تبارك وتعالى، لنأمر بالمعروف، لننهَ عن المنكر، حتى لا يأتي يوم ندعو الله جل وعلا فلا يستجيب لنا، ثم يسلط الله عزَّ وجلَّ عباداً علينا، ندعوه فلا يكشف عنا السوء، حتى لا يأتي يوم يصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، حتى لا يأتي ذلك اليوم علينا أن نجتهد في تبليغ دين الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
قال الله تبارك وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:121 - 122].
أقول هذا القول.
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/11)
ثغرات في البيوت
إن الله سبحانه وتعالى لم يكتف بأمر العبد بإصلاح نفسه، بل أمره بإصلاح أهله وتربيتهم التربية الحسنة الصالحة، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) والوقاية من النار تكون بالصلاح والإصلاح والطاعة لله سبحانه، فلذلك يجب على المؤمنين إصلاح بيوتهم، خاصة وقد أصبحنا في عصر المغريات والشهوات والشبهات والعياذ بالله.(18/1)
لماذا الاهتمام بالبيوت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
موضوع المحاضرة -أيها الإخوة- ثغرات في البيوت، وحينما أردت أن أعد الموضوع رأيت أن الثغرات كثيرة، وأنني لن أستطيع أن أحصيها في هذا المجلس، ويكفينا بعض الثغرات نقضي بها هذا الوقت نسأل الله أن يصلح لنا بيوتنا، ولكن بداية ومقدمةً لماذا نهتم بالبيوت؟
يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] إذن الله عز وجل يمتن علينا بهذه البيوت، فكم من رجلٍ يفترش الأرض ويلتحف السماء، وكم من أسرة لا تجد بيتاً يأويها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى الفراش حمد الله الذي آواه، وجعل له هذا المسكن.
ثانياً: أن في هذه الكلمات وفي هذه الدروس وقاية لنا ولأهلينا من عذاب النار وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] فلا يكفي المسلم أن يقي نفسه من النار، بل يجب عليه أن يقي والدته ووالده وإخوته وأبناءه وزوجه وكل من في البيت {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] أتعرف كيف صفتها؟
{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] أترضى عبد الله أن ترى أمك يوم القيامة تحترق في هذه النار؟ تصور أن ترى أختك وأخاك يحترقان في تلك النار، أو ترى أولادك الصغار الذين طالما سهرت على راحتهم أن تراهم يحترقون في النار {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولهذا جعل الله الخسران الكبير ذلك اليوم {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
ثالثاً: يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ أم ضيع) حتى يسأل الرجل عن أهل بيته.
رابعاً: عبد الله! إذا اشتدت الخطوب، وزادت الفتن، وكثرت على المسلم إلى أين يلتجئ؟ إلى أين يذهب؟ كيف يحتمي؟
يقول عليه الصلاة والسلام: (سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته).
خامساً: أن أكثر الناس يقضون أوقاتهم في البيوت، ولهذا حق لنا أن نتكلم عن ثغراتٍ في البيوت.
عباد الله! يسأل الصالحون متى يصلح الله هذه الأمة؟
ومتى يصلح الله هذا المجتمع؟ ومتى تزول المنكرات؟
ومتى يحكم بشرع الله؟
لكن نسألك قبل هذا السؤال متى تصلح بيتك؟
يا من عجز عن إصلاح بيته، كيف يصلح المجتمع؟
يا من لم يستطع أن يطبق شرع الله في بيته، كيف ستطبقه في المجتمع؟
يا من ينظر إلى الجيران، وإلى الأسواق، وقد كثرت فيها المنكرات، ألا تنظر إلى بيتك؟
ألا تلتفت إلى غرفتك؟ ألا تنظر إلى أمك وأبيك؟ ثم تنظر إلى غيرهما؟
عبد الله! ماذا يحدث لو أصلح كلٌ منا بيته؟
لو فرضنا أن هذا المجلس يحوي مائتي رجل مصلح داعية إلى الله، استمع إلى الكلام وذهب بيته، ولنفرض أن متوسط الاعداد في البيوت سبعة، إذاً لعله يصلح بنا بعد هذا المجلس ما يزيد على ألف وأربع مائة رجل وامرأة.
انظروا يا عباد الله! كيف لو أصلح كلٌ منا بيته، ماذا سوف يحدث في المجتمع؟
أبو بكر يأتيه عليه الصلاة والسلام في القائلة متخفياً فيقول: بأبي هو وأمي، لا يأتي في هذا الوقت إلا لحاجة، فيدخل فيقول: (أريدك في أمر) وكانت عائشة في البيت، فيقول: هم أهلك يا رسول الله! أي أن عائشة تحفظ السر ولكن أي سر؟
سر الهجرة، فيقول أبو بكر: هم أهلك يا رسول الله! أي: لن يفشوا لك سراً، ثم يخبر عليه الصلاة السلام بالسر الأعظم، وبالأمر الكبير الهجرة إلى المدينة، فهل تفشي عائشة سراً؟ إنه بيتٌ صالح لا يفشي سراً، ولا يعرف منكراً، يريد الخروج للهجرة، من الذي يقوم عليهما؟
ابنته الثانية أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، تريد أن تحفظ لهما الطعام فلا تجد إلا نطاقها فتمزقه اثنتين ثم تربط به الطعام.
إنه بيتٌ صالح.
وأي بيت وبيت عمر رضي الله عنه من الذي خرج منه؟
خرج منه عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وبيت علي بن أبي طالب من الذي خرج منه؟
خرج منه سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين وذرية طيبة بعضها من بعض.(18/2)
بعض ثغرات البيوت
الثغرات نسردها ثغرة ثغرة، وكلما ذكرنا ثغرة فقف في بيتك ولو لبرهة، وادخل غرفة غرفة، وفرداً فرداً وانظر في هذه الثغرات، هل هي حقاً موجودة في بيتك؟
لتتعاهدها وتصححها ولا تنتظر مني الحلول، فسوف أذكر كل ثغرة وأعرض لحلٍ بسيط، والحل يبدأ من نفسك.(18/3)
ضعف الإيمانيات والعبادة
الأولى: ضعف الإيمانيات والعبادة فيها.
حتى لا تكاد تجد فيها مصلياً، أو داعياً، أو قارئاً للقرآن، أو ذاكراً لله، أو تالياً آيات الله، أو باكياً، أو رافعاً يديه، يقول عليه الصلاة والسلام: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت) فهل رأيت الفرق بينهما؟
ويقول الله عز وجل لموسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس:87] لمَ؟ ماذا نجعل في هذه البيوت يا رب؟
لقد كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، ويتبعهم ويلاحقهم ويعذبهم، فما حاجتنا لهذه البيوت؟
قال الله تعالى: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] قال ابن عباس: [أمروا أن يتخذوها مساجد] ليلزم كلٌ بيته، وليغلق على نفسه الباب، وليأتي إلى زوجته وأبنائه وإخوانه وأخواته فليقيموا فيه الصلاة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] أين بيوتنا من تلك البيوت؟ ولنسرد عليكم بعض صفات بيوت الصالحين وقس بيتك على بيوتهم:
عتبان بن مالك أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البدريين يقول: (أتيت رسول الله، فقلت: يا رسول الله! قد أنكرت بصري -يعني: ضعف بصري- وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار وسال الوادي الذي بيني وبينهم لا أستطيع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت يا رسول الله! -انظر إلى طلبه وقس نفسك عليه- أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى) أي: تصلي فأجعل مكاناً في بيتي مصلى أصلي فيه، فأين هذا المصلى في بيتك؟
ابحث عنه، هل هو في غرفة نومك؟ أم في غرفة الجلوس؟
أم المكان الذي يجتمع فيه أهل البيت؟
سل نفسك هل يوجد هذا المصلى في بيتك تصلي فيه النوافل؟
قال: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله، قال عتبان: فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ -أي مكانٍ تحب أن تجعله مصلى- قال: فأشرت له في ناحية البيت، هذا المكان يا رسول الله! قال: فقام رسول الله، فكبر فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم) رواه البخاري {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87].
عبد الله! هل تتذكر آخر مرة صليت فيها نافلة في بيتك؟
قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها مقابر) عندما تصلي في البيت ويأتي أخوك الصغير، فينظر إليك، فماذا سيفعل؟ وعندما تأتي أختك الصغيرة، فتنظر إليك وأنت تصلي النافلة، وتراقب، فماذا تظنها فاعلة؟
سوف تقلدك في الصلاة، تخيل -عبد الله- وأنت تصلي هل يجرأ أحدٌ في البيت أن يغني، أو يرفع أصوات الغناء؟
فوالله إن الشياطين لتفر من البيت، فلتجعل لبيتك من صلاتك النافلة.
يقول ابن عباس -انظر الابن إذا رأى زوج خالته يصلي ماذا يفعل؟ - يقول ابن عباس: (بت في بيت خالتي ميمونة -أم المؤمنين رضي الله عنها، زوج رسول الله- قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء -تخيل غلام صغير يقص تلك القصة، انظر كيف تأثر بذلك القدوة- ثم جاء إلى منزله قال: فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام فقال: نام الغليم -يعني ابن عباس - يقول: وأنا أنظر إليه -يراقبه ابن عباس صغير قال: فتوضأ ثم قال: فقمت من النوم فتوضأت مثل وضوئه ثم صففت عن شماله وصليت -غلام صغير إذا رآك تصلي يفعل مثلك؟ - قال: فجذبني بأذني وجعلني عن يمينه، يقول: فصليت معه حتى صلى خمس ركعات، قال: ثم صلى ركعتين، فنام حتى سمعت غطيطه) انظر كيف تأثر الصبي انظر كيف يتأثر أفراد البيت بمن يصلي في البيت؟
كان عبد العزيز بن أبي روَّاد رحمه الله إذا جن عليه الليل يأتي إلى فراشه فيمر يده على فراشه فيقول: إنك للين، ووالله إن في الجنة لألين منك.
نعم إن الفراش لين، لكن في الجنة ما هو ألين منه، ولا يزال يصلي الليل كله {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:15 - 16].
ومعاوية بن قرة كان يقول إذا صلى العشاء: يا بني! نوموا، يا بني! نوموا لعل الله أن يرزقكم من الليل خيراً، يأتي بعد العشاء وينوم أهل البيت حتى يقوموا آخر الليل.
وانظر إلى الأم كيف تتأثر بابنها إذا صلى!
تقول أم الربيع بن خثيم إذا رأته قام بالليل، يصلي فيبكي: يا بني! لعلك قتلت قتيلاً -أخبرني اعترف- فيقول: يا أماه قتلت نفسي {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
وانظر كيف تتأثر البنت بأبيها عندما يصلي!
تقول ابنة عامر بن عبد قيس: يا أبتاه! مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام! فيقول: يا بنية! إن جهنم لا تدع أباك ينام {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} [طه:132].
عبد الله! أين أنت من صلاتك في البيت؟ انظر إلى أولئك الصالحين، تقول زوجة مسروق: كان إذا قام الليل جلست خلفه أبكي عليه، فإذا صلى انتفخت قدماه، فإذا انتهى من صلاته لا يستطيع أن يمشي من شدة القيام، تنتفخ قدماه، تقول: أبكي خلفه وأسأل الله عز وجل أن يعينه.
انظر كيف تتأثر الزوجة بزوجها؟
وانظر كيف يتأثر الابن بأبيه يقول: عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سُبعاً، يعني سبع القرآن، يصلي بالليل سبع القرآن، يعني في كل سبعة أيام يختم القرآن كله، يقول: وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو.
يقول وكيع: كان علي والحسن ابنا صالح بن حي وأمهم قد جزءوا الليل ثلاثة أجزاء -تخيل- يقول: فكان علي يقوم الثلث ثم ينام، ويقوم الحسن الثلث ثم ينام، وتقوم أمهما الثلث ثم تنام.
يعني الليل كله صلاة في صلاة، وتدخل البيت فلا تسمع -كما تسمع في بيوتنا- تلفازاً ومسلسلات وأغاني ومجوناً وطرباً وفساداً وتنتشر الشياطين وتعشعش في البيوت، لا والله إن دخلت فالليل كله قراءة في قراءة، من أوله إلى آخره، فماتت الأم فجزآ الليل بينهما، أحدهما نصف الليل والثاني النصف الآخر، قال: ثم مات علي، فقام الحسن الليل كله، حتى لا تمر دقيقة في الليل إلا وفي البيت مصلي.
زيد بن الحارث أتعرف ماذا يفعل؟ كان يجزئ الليل مع ابنيه ثلاثة أجزاء، له جزءٌ، ولابنه جزءٌ، ولابنه الثالث جزء.
حتى لا تبقى في الليل ثانية إلا ومصلٍ أو راكعٍ أو ساجدٍ أو قارئ للقرآن.
ويقول إبراهيم بن وكيع: كان أبي يصلي فلا يبقى في دارنا أحدٌ إلا صلَّى حتى جارية سوداء.
كل أهل البيت يصلون حتى الخادمة تصلي معهم في الليل.
ويقول أبو عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة -جلست عنده ضيفاً- سبع ليال، يقول: فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، تخيل حتى الخادمة تصلي معهم الليل {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54] أتعرف ماذا كان يفعل؟
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55].
عبد الله! إن قمت لصلاة الفجر فمن يقوم معك؟
إن قمت الليل فمن يصلي معك؟
سلوا أنفسكم وانظروا إلى بيوتكم، كلٌ منا ينظر إلى بيته، هل يقوم أهل البيت؟
هل يقوم الوالد والوالدة؟
هل يقوم الإخوة والأخوات؟ هل يقوم الأبناء؟
هل تقوم الزوجة؟ هل يقوم الأهل؟
يقول رفعة بن صالح: كان له أهلٌ وبنات كان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر، يعني: إذا جاء آخر الليل أتعرف ماذا يفعل؟
يصلي لوحده، فإذا جاء آخر الليل نادى بأعلى صوته:
يا أيها الركب المعرشون أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فتصلون.
يقول: فيهب أهل البيت جميعاً صغيراً وكبيراً، فمن باكٍ، ومن مصلٍ، ومن داعٍ، ومن متوضئٍ، ومن ذاكرٍ لله، يقومون حتى صلاة الفجر، لا يبقى أحدٌ في البيت إلا وقام.
وتزوج رياح القيسي رحمه الله امرأة -وهو رجل صالح- يقول: فلما جاء الليل في الليلة الأخرى قال: قامت تصلي، وأراد أن يختبرها، فقامت ربع الليل فلما انتهى ربع الليل قالت: يا رياح! قم فصلِّ، قلت: سوف أقوم، ورجعت ونمت، أريد أن أختبرها، يقول: فمضى الربع الآخر، نصف الليل وهي تصلِّ، فقالت: يا رياح! قم فصلِّ، تريده أن يصلي لتنام، يقول: فقلت: سأقوم ونمت، أريد أن أختبرها، يقول: فذهب الربع الثالث فقالت: يا رياح! قم فصلِّ، يقول: فقمت ورجعت فنمت، يقول: فقالت لي: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم، ليت شعري من غرني بك يا رياح!
أي أنه لا يقوم الليل، فكيف بحال بيوتنا؟ لا يصلي بعضهم حتى الفجر، يقول: فقامت حتى الصباح، قامت الليل كله.
عبد الله! هل يُقرأ في بيتك القرآن؟
قال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة).(18/4)
ضعف العلم الشرعي
الثغرة الثانية: ضعف التعليم الشرعي في البيوت.
انظر إلى بيتك، أهلك، أمك وأبيك، هل حقاً يتعلمون العلم الشرعي؟
بعض الصالحين يهتم بالجيران، ويهتم بأهل المسجد، ويهتم بالناس، ولا يهتم بأمه ولا أبيه.
يروى أن أحد الصالحين جاء إلى أمه وقد كبرت في السن، قال: يا أماه! اقرئي عليَّ القرآن، قالت: يا ولدي لا أعرف إلا سورة واحدة أقرأ بها في جميع صلاتي، ظن أنها الفاتحة، قال: يا أماه! اقرئي عليَّ تلك السورة، فاستعاذت وسمت، ثم قالت:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
قال: يا أماه! القرآن، قالت: هذا أقرأ به في جميع صلاتي، قال: يا أماه! والفاتحة؟ قالت: والله لا أحسن غيرها.
من المسئول؟
يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في البخاري: (ثلاثة لهم أجران) ليس أجراً واحداً بل أجران يا من فرط بالأجور! يا من يبحث عن البعيد وأقرب الناس إليه قد فرط فيه! قال: (من الثلاثة: ورجلٌ كانت عنده أمة) ليست زوجته ولا أمه ولا أبناؤه، بل أمة، فكيف بالزوجة والأم، قال: (فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران).
تأتي امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً -أي: تعلمنا وتحدثنا وتفقهنا في أمور ديننا- قال: موعدكن بيت فلانة، فكنَّ يجتمعن، ويأتي عليه الصلاة والسلام ويدرسهن).
عبد الله! هلا جعلت في بيتك يوماً في الأسبوع تدرس فيه الأهل، تقرأ عليهم من رياض الصالحين، أو تفسير السعدي، أو بعض القرآن، أو تقرأ عليهم بعض القصص، أو تعلمهم بعض أمور الدين.
عبد الله! هلا جعلت في بيتك مكتبة سمعية وأخرى مرئية، هلا جعلت في بيتك مكتبة فيها بعض الكتيبات، وبعض القصص، وبعض المجلات، وبعض الأوراق والنشرات، لعلك -يا عبد الله- قد غفلت عن هذا.
عبد الله: إن من أهم الأمور أن تجعل في بيتك مجلساً تدرس فيه الأولاد، والزوجة، والأم، ما يحتاجونه من أمورهم، ولنضرب على ذلك أمثلة:
تجلس معهم جلسة في الأسبوع تقرأ عليهم بعض القصص، وبعض الأحكام التي يحتاجون إليها؛ في الطهارة، والصلاة، والتفسير، تفسر لهم الفاتحة، وبعض السور القصيرة، وتعلمهم بعض أحكام البيوت، وأحكام الطعام والشراب، وأحكام اللباس، وأحكام المجلس، وأحكام النوم، وآداب الاستئذان، وآداب المزاح.
يقول أبو قتادة: وكان يريد أن يتوضأ فقربوا إليه إناءً فيه ماء، فلما أراد أن يتوضأ جاءت هرة فشربت وولغت فيه ثم ذهبت، فتوضأ فقالت له زوجته: (تتوضأ وقد ولغت فيه الهرة! فقال لها يعلمها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيها: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) تنظر إلى أخيك الصغير يشرب وهو قائم فتعلمه، تقول له: اجلس (نهى رسول الله أن يشرب الرجل قائماً) وتنظر إليهم وقد فعلوا بعض المنكرات -وسوف نأتي إلى بعضها- فتخبرهم بأن هذا الأمر حرام.
واطلب العلم قبل أن تعلم غيرك، واجعل لهم مسابقات في البيت في حفظ القرآن، وفي حفظ الأحاديث، وفي حل بعض الأسئلة، وفي قراءة كتاب، واجعل لهم جوائز مادية، وجوائز معنوية، كأن تذهب بهم رحلات إن أجابوا على هذه الأسئلة، وإن حفظوا تلك الأجزاء أو السور، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6].
ومن الوسائل: أن تدعو في بيتك بعض الصالحين، قال نوحٌ عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح:28] فادع بعض الصالحين إلى بيتك، واجعل لأهلك يوماً تدعو فيه أحد الصالحين وتجعل لهم مجلساً يذكرهم وينصحهم ويعظهم كما كان يفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام.(18/5)
انتشار المنكرات والمعاصي
الثغرة الثالثة: انتشار المنكرات والمعاصي في البيوت.
وسوف نسرد بعض المنكرات وتخيل بيتك وتذكر، وتجول في الغرف؛ لتنظر هل هذه المنكرات توجد فيه، ولعل المنكرات لا تعد ولا تُحصى ولكن هذه بعضها:
أول المنكرات وهي من أعظمها وأشدها: اختلاط النساء بالرجال، ودخول غير المحارم على النساء.
قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء! قال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ -يعني قريب الزوجة أو قريب الزوج- قال: الحمو الموت) أي: الحمو بمثابة الموت.
انظر ماذا يحدث في بيوتنا؟
وتذكر من يدخل على أخواتك؟
هل يدخل عليهن من ليس بمحرمٍ لهن؟
من يدخل على أمك؟ من يدخل على زوجتك؟ من يدخل على بناتك؟
هل يدخل عليهن من ليس بمحرمٍ لهن ويختلي بهن وهن بغير حجاب؟
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أتعرف فيمن نزلت؟ لقد نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابيات العفيفات الطاهرات، فكيف بك أنت وكيف بنا نحن في هذه العصور التي كثرت فيها المعاصي وانتشرت؟!
ثانياً من المنكرات: السائقين والخادمات.
وفي ذلك من المنكرات ما الله بها عليم، واسمع إلى الحديث وكفى بهذا الحديث عبرة، يقول أبو هريرة وزيد بن خالد: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله -يسأل رسول الله- إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال يا رسول الله: إن ابني كان عسيفاً عند هذا) أي: خادماً عند هذا، انظروا إلى خطورة الخدم والسائقين والخادمات، ودخولهم إلى البيوت بغير حرمة وبغير استئذان.
قال: (إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني خادماً- قال: فزنا بامرأته) أتعرف هذه القصة فيمن نزلت؟ وأين وقعت؟ في عهد رسول الله (قال: فزنا بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة وخادم) حتى أحل المشكلة ويسكت أعطيته مائة شاة وخادم، والآن ماذا يحدث؟
إذا زنا ابنه بالخادمة ماذا يفعل؟
يسكتها ببعض المال ويرسلها إلى بعض الدول لتقتل الولد الذي حملت به، فيجمع بين الزنا والقتل ثم يرسلها إلى بلدها، انظر إلى الجرائم التي تحدث في بيوت المسلمين بسبب خادمة تأتي بغير حاجة، وتختلط مع أهل البيت بغير ضرورة، وبغير حاجة، وبغير ضوابط.
قال: (ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله -لا مجاملة، حكم الله ينزل- قال: المائة شاة والخادم رد عليك -رجع له المائة الشاة والخادم، لأن ذلك ليس حكم الله- قال: وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام لا مجادلة فيها ولا مجاملة، ابنك يجلد مائة جلدة ويطرد سنة كاملة- قال: واغدُ يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فذهب أنيس إلى تلك المرأة فاعترفت فرجمها) رواه البخاري.
فانظر ماذا يحدث مع السائقين!
عبد الله! تخرج أختك مع السائقين لوحدها، أليست خلوة؟
أليس الشيطان ثالثهما؟ ثم تسأل بعدها: أختي لم تلتزم؟ زوجتي لم تصلح؟
ألا تسأل ابنك: لِمَ يجلس في البيت والخادمة موجودة؟
ألم تحاسب الخادمة: كيف تخرج متبرجة؟
من الذي أجاز لك أن تستقدم الخادمة ثم ترسلها بين المسلمين عارية متكشفة؟ من الذي أباح لك هذا؟
من الذي أجاز لك أن تأتي بكافرة إلى بلاد المسلمين؟
عبد الله! إن في الخادمات والسائقين والخدم خطورة لا يعلم بها إلا من عرفها.
ثالثاً: من المنكرات: التلفاز.
الشاشة، مدمرة البيوت، ومفسدة الأخلاق، والله إن في الشاشة لأخطار لا يعرف حقيقتها إلا من عرف دين الله، وعرف شرع الله، وذلك في العقيدة، يجلس الأبناء أمام التلفاز فماذا يرون؟
يرون النصارى واليهود، ويحبون هذا الممثل، وتلك الممثلة، وهذا اللاعب، وتلك المطربة، وهم نصارى ويهود، وبعد هذا يهدم الولاء والبراء من نفوسهم.
ماذا يرون؟
الصليب يمسح على مريض فإذا به يُشفى، سبحان الله صغار سن! ماذا يرون؟
تأتي الراهبة تخرج من الكنيسة، فتذهب إلى ذلك الميت تقرأ عليه فإذا به يحيا، سبحان الله! ما الذي يرون؟
يرون رجلاً يموت فتذهب روحه إلى السماء، فتأتي إلى الذي يحاسبه من؟
الله!! فينظر الطفل إلى الرب يحاسبه ماذا يفعل.
يرسله إلى الجنة أو إلى النار!! سبحان الله! ما الذي سوف يُغرس في قلوب هؤلاء الأولاد، تظن عبد الله أنك سوف تعلمه العقيدة؟ أي عقيدة؟
ومن أخطاره في الاجتماع، انظر كيف يؤثر التلفاز على روابطنا الاجتماعية! التلفاز يدعو إلى الجريمة، من الذي علم أولئك الأولاد كيف يسرقون؟
أم كيف يغتصبون؟
أم كيف يضربون ويبطشون؟
أم كيف يقتلون؟ أم كيف يفعلون ويفعلون؟
من الذي دربهم وعلمهم شيئاً فشيئاً خطوة فخطوة إنه التلفاز، ونحن لا نشعر، ونقول: إذا أخرجنا التلفاز فكيف يقضون الأوقات؟ مساكين ما عندهم شيء غير هذا التلفاز.
كذلك أخلاقياً، ما الذي يثير شهوة البنت؟ أختك، أتعرف ماذا ترى؟ ترى العراة وشبه العراة في كل ليلة.
تخيل عبد الله أن أختك أو زوجتك ترى هذا المنظر! أو أن أمك رأت ذلك المنظر! هل تتحمل تلك الشاشة؟ أم تملكك نفسك؟
عبد الله أين الغيرة؟ أين الشهامة؟ أين الرجولة وزوجتك وأختك وأهل بيتك ينظرون إلى العراة، وإلى شبه العراة في كل ليلة، وأنت ساكت، وأنت لا تبالي، وبعد هذا تقول: فسد البيت، فسد البيت، وانتشرت المنكرات، ولم يستمع إلى نصحي أحد؟؟
أيضاً: في الإجازة كيف يستطيعون أن يصلوا الفجر وهم يسهرون على التلفاز؟
انظروا ماذا يحدث في النساء إذا أراد الرجل أن يتزوج عليها، ماذا تقول؟
تقول: الزواج من المرأة الأخرى ظلم، وتعدي ولا يجوز، وهذا حرام، وهذا رجلٌ ظالم، من الذي علمها؟
ومن الذي أفسد عقيدتها وعبادتها؟
إنه التلفاز وأنت لا تشعر يا عبد الله.
وتاريخياً: يفسد التاريخ، ويكذب على الناس وكم كذب عليهم! وصحياً: يضعف البصر والجسد، ومالياً: يرهق رب الأسرة، التلفاز يتبعه جهاز الفيديو، وبعده الأشرطة، وبعدها التصليح، وبعده يريدون جهازاً أكبر، ثم البث المباشر وما أدراك ما البث المباشر؟ ونترك هذا فكلٌ منكم يعرف خطورته.
أيضاً: من المنكرات يا عبد الله! الهاتف.
يقول أحد المصلحين: ما مررت على جريمة إلا وكان الهاتف وسيطاً فيها، الزنا، السرقة، حتى الأعراض، الهروب من البيت، المخدرات، المسكرات.
يا مسكين! يرفع رجلٌ سماعة الهاتف، أين فلان؟
صاحبه، من الذي ترد عليه؟
أختك، أو زوجتك، فلان ليس هنا، وبعضهن نسأل الله العافية ترقق صوتها وتجمله، والذي في قلبه مرضٌ يطمع، فيتصل بعد فترة ويقول: أين فلان؟
فتقول: غير موجود، فيقول: إذا أتى قولي له فلان اتصل عليك، ثم المرة الثالثة، ويسأل المرة الرابعة: أين ذهب؟ متى ذهب؟ ألم تخبريه، ثم يتحدث معها وهي ترد عليه، الرابعة الخامسة السادسة العاشرة، ثم بعدها نظرة فابتسامة فكلامٌ فموعد فلقاء، من الذي أوصلها إلى تلك الجرائم، وذلك الحضيض؟
إنه الهاتف ولا أحرمه، فإن فيه فوائد كثيرة، وفيه مصالح عظيمة، ولكن تضبط بضوابط الشرع يا عبد الله! هل يصح أن يظل الهاتف في غرفة أختك الساعات الطوال؟
من تكلم؟ تضحك عليك، أكلم فلانة، من فلانة؟ لا تدري؟ الهاتف وضع للاحتياجات الضرورية، تكلمها في حاجة ضرورية ثم بعدها تضع الهاتف وتغلقه، وإن كان هناك رجل لا ترفع المرأة الهاتف، ما الذي يجعلها ترفع الهاتف وهناك رجل، وزوجها موجود وأخوها موجود فهو الذي يرفع الهاتف، فإن كان ولا بد فرفعت الهاتف فلتلتزم قول الله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وكم من المصائب كانت بدايتها الهاتف؟
ومن المنكرات التي تنتشر في البيوت وابحث عنها في بيتك يا عبد الله، وأصلحها شيئاً فشيئاً حتى لا تؤتى من قبل البيت: رموز الديانات الكافرة.
ابحث في بيتك، إن كان هناك صليب فاكسره ولا تبالغ، ولا يصيبنك الوسواس، كلما رأيت خطين متقاطعين قلت هذا صليب وكسرته، لا، ما كان يشبه الصليب فأزله، تقول عائشة رضي الله عنها في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه).
السادسة: صور الأرواح.
ادخل كل غرفة إن كانت لك سلطة، وإلا فبالتي هي أحسن، بالحكمة والموعظة الحسنة، ادخل كل غرفة، فإذا رأيت صورة معلقة، أو تمثالاً موجوداً، أو على أي مكان، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها) يعني طمسها، من مثله يفعل؟
يذهب إلى البيت ويبحث في كل غرفة، إن كانت هناك صورة بدأ بالتي هي أحسن وقال: هذا حرام، تقول عائشة: (اشتريت نمرقة فيها تصاوير، فدخل عليه الصلاة والسلام فرآها فوقف عند الباب، فرأيت في وجهه كراهة، فقلت: يا رسول الله: أستغفر الله وأتوب إليه ما أذنبت؟ قال: ما هذه النمرقة؟ يا عائشة! أما علمتي أن أصحاب هذه التصاوير يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، يا عائشة! ألم تعلمي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ أو صورة).
عبد الله! هلا كان لك بهذا الموقف أن تأتي إلى أبيك فتخاطبه بالتي هي أحسن فتقول له: يا أبتاه! إن هذه الصورة حرام تمنع الملائكة من دخول البيت، فلا تجعلوها تدخل البيوت، وكم انتشرت المنكرات في بيوتنا، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ولا تجعلوا بيوتكم مقابر) هل المقابر فيها صور؟ المقابر والحشوش والخلاء ينتشر فيها الشياطين لأنه لا يذكر فيها الله، هل فيها صور؟
ليس فيها صور، فكيف لو جاءت الصور؟
كيف لو كثرت التماثيل؟
كيف تنتشر الشياطين؟
ثم بعدها نسأل: لِمَ هذا المس الذي يصيب كثيراً من الناس؟
امرأة تصاب بمس، وشاب يصاب بمس، وينتشر السحر، وينتشر الجن والشياطين في البيوت، فما السبب؟ وما الذي يحدث؟
انظروا إلى بيوتنا كيف انتشرت فيها المنكرات.
السابعة: التدخين.
وهو من المنكرات، فلا تسمح أن يدخن في بيتك، إن كنت صاحب سلطة كالأخ الكبير، والزوج، والأب، يقول الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والدخان منها، والدخان حرام، ومنكر شرعاً، ولا يجوز لك أن تجلس في مجلسٍ يدخن فيه، فإن كنت تستطيع أن تنكره بيدك فافعل فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع ففارق هذا المجلس، ولا تجلس في مجلسٍ كهذا، ولك أن تضع لوحة في المجلس -إن كنت لا تستطيع ويغلبك الحياء- تمنع بها التدخين، واطلب من الكبار أن يمنعوا كل من يدخن، ولا تجعل في بيتك أدوات طفايات أو ولاعات أو غيرها للمدخنين، لا تسمح في بيتك لهؤلاء، من أراد أن يدخن ليخرج ويدخن ثم يرجع إلى البيت، حاول قدر المستطاع، إن لم تستطع ففارق هذه المجالس التي يدخن فيها.
ومن المنكرات: الإسراف في تجميل البيوت وتزويقها.
تقول عائشة: (إن رسول الله خرج في غداة فأخذت نمرقة فسترته على الباب -قماش على الباب- تقول: فلما قدم فرأى النمرقة، عرفت الكراهية في وجهه، تقول: فهتكته -قطع القماش- فقال: يا عائشة! إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين) ما أمرنا أن نزين الحجارة والطين، وليس تجميل البيوت بحرام (إن الله جميل يحب الجمال) ولكن المذموم الإسراف والمبالغة في هذا، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ستفتح عليكم الدنيا حتى تنجدوا بيوتكم كما تنجد الكعبة) كما تزين الكعبة تزينوا البيوت، بل لعل الأمر زاد على هذا، زينت بيوتٌ أكثر من الكعبة، قال: (كما تنجد الكعبة فأنتم اليوم خيرٌ من يومئذ).
أخيراً من المنكرات: المجلات الخليعة.
لا تسمح أن تبقى في بيتك مجلة خليعة، بعض الإخوة يشتري الجريدة وفيها ملاحق نازلة فاسقة فاجرة، ويقول: أتابع الأخبار، فمن الذي أباح لك أن تدع هذه الملاحق في البيت؟
من الذي يقرؤها؟ من الذي ينظر إلى الصور؟
أختك وأخوك، أبوك وأمك، وزوجتك، أدخل الجريدة بغير الملحق إن كان فيها صور عارية، وإن كنت تستطيع أن تقطع تلك الصور الخليعة فافعل، وبعد هذا أخرج هذه المجلات من البيت بعد أن تقرأ ما فيها من أخبار، ولا تصبح المجلات مرمية في كل بيت، مجلات للأزياء، ومجلات للأخبار، وملاحق، وصور عارية، توضع في البيت من الذي ينظر إليها؟ من الذي يطلع عليها؟ من الذي يفتتن بها؟ ومن الذي يجلس في البيت وأنت غائبٌ عنه.(18/6)
ضعف الروابط الأسرية
كذلك من الثغرات التي في البيوت: ضعف الروابط الأسرية في البيوت.
أخاطب الصالحين، أخاطب الدعاة بهذا بعض الصالحين يتعجب أن الأهل لا يستجيبون.
أنكر المنكر فلا أحد يستجيب، وأنصحهم بالصلاة فلا أحد يصلي، أقول لهم: أبعدوا التلفزيون فلا يبعدونه، فماذا أفعل؟
أقول لك يا عبد الله! أد دورك في البيت يستجب الأهل لك، فما دورك في البيت؟
يدخل بعض الصالحين ولا يتكلمون، يستمع إلى شريط، ثم يقرأ في كتاب، فإذا أذن المؤذن خرج المسجد فحضر الدرس وجلس مع الصالحين، ثم رجع البيت، تعشى ثم نام، ثم قام في الصباح إلى المدرسة، ثم رجع وهكذا.
أمه تقول له: تذهب إلى السوق؟
يقول: ما أستطيع عندي درس، اشتر الأغراض يوجد غيري فليذهب.
هناك ضيوف في البيت من الذي يستقبلهم؟
الديوان موجود.
أبوك سيسافر يحتاج إلى أغراض؟
يوجد غيري في البيت، ثم بعد هذا يسأل هذا الرجل يقول: لماذا لا يستجيب الأهل؟
سل نفسك يا عبد الله! واعلم أن البيت ليس فندقاً، تسلم ثم تأكل وتشرب ثم تذهب، لا بل أنت مسئول في البيت حالك كحال غيرك، عليك وظيفة كما على غيرك وظيفة، لا يصلح أن يأتي ذلك الفاسق فيقوم بأعباء البيت وأنت الصالح التقي لا تقوم بالأعباء، واسمع إلى تلك الأحاديث واعجب لها، تقول عائشة: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه) تخيل يخيط ثوبه، إمام المسلمين، وخير الناس على وجه الأرض يخيط ثوبه، قالت: (ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) فهل تعمل هذا يا عبد الله؟
عبد الله! ما بالك لا تبر بوالديك، والوالدة لا تعطف على ولدها، والزوج لا يراعي حقوق زوجته، ولا الزوجة تراعي حقوق زوجها.
عبد الله! انظر إلى هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (كل لهو ابن آدم باطل إلا ثلاث -وذكر منها- مداعبة الرجل زوجته) فهل تداعب الزوجة؟ (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك) هلا بكراً، كان عليه الصلاة والسلام يمازح عائشة ويتسابق معها، بل تقول رضي الله عنها: (كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد بيني وبينه واحد فيبادرني -انظر يمازحها وهو يغتسل وهي تغتسل- تقول: فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي، فتقول: ونحن جنبان) انظر كيف كان يمازحها وهو على جنابة، وهي على جنابة، بل كان إذا أتى من سفر يستقبله الصبية في البيت، فيعانقهم ويحتضنهم عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى دورنا في البيوت، ثم نسأل عن دور الأهل؟(18/7)
ضعف الرقابة والمحاسبة
ومن الثغرات: ضعف الرقابة والمحاسبة في البيوت.
أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ وما دورك في البيت؟
ألا تسأل أختك عندما خرجت أين ذهبتِ؟
ولا تبالغ فيها، بل كن وسطاً فيها، أين ذهبت؟
من الذي أوصلك؟ وليس كل مرة حتى لا يضيق الأهل منك، ولكن بعض المحاسبة والمراقبة يا عبد الله! في البيت: مع من رجعت؟ لم تأخرتِ؟ والأب يسأل ابنه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم تأتي فاطمة فيقول لها: (أين كنتِ؟ فتقول: كنت في جنازة لبني فلان، فقال: لعلك بلغت معهم -يعني المقبرة- تقول: يا رسول الله! كيف أفعل وقد سمعتك قلت فيه ما قلت! قال: أما إنك لو فعلت -أي دخلتِ المقبرة- ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك).
وعائشة رضي الله عنها تقول: يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً إلى البقيع قالت: فأذهب خلفه وأنظر ماذا يفعل؟ تقول: ودخل المقبرة، ثم رجع، فرجعت، فهرول فهرولت ودخلت البيت وسبقته فدخلت تحت اللحاف وغطيت نفسي، فدخل عليه الصلاة والسلام فجلس عندها فاستمع إليها تتنفس بسرعة، قال: (ما شأنك يا عائشة؟ قلت: لا شيء يا رسول الله! قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: يا رسول الله! كنت خلفك، قال: أما إنك كنت السواد الذي رأيته؟ قالت: بلى يا رسول الله! أنا السواد، قال: يا عائشة! أخفت أن يحيف الله عليك ورسوله، يا عائشة! أتاني جبريل وخشي أن يدخل عليك وأنت على غير حجاب فخرجت فكلمني وقال لي: إن الله يأمرك أن تذهب إلى أهل البقيع فتستغفر لهم، فذهبت فاستغفرت لهم).
انظر كيف كان يسألها، وكيف كان يحاسبها، فهلا حاسبت زوجتك؟ وهلا حاسبت إخوانك؟ وهلا حاسبت أهل بيتك؟(18/8)
إهمال الأولاد في البيوت
من الثغرات: إهمال الأطفال الصغار في البيوت.
عباد الله! كلٌ منا له إخوة صغار، وله أبناء، فما دورك معهم؟
هلا جلست معهم تقص عليهم القصص؟
تعلمهم أصول العقيدة، كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن عباس يعلمه أصل العقيدة؟ (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) هلا قصصت عليه قصة نوح، أو قصة أصحاب الكهف، أو قصة أصحاب الغار، وتعلمهم الآداب، وتحفظهم كتاب الله، وانظر هلا جلست تمازحه في البيت فقد كان عليه الصلاة والسلام يمازح الأطفال الصغار.
يقول يعلى بن مرة -واستمع إلى هذا الحديث العجيب- (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا الحسين يلعب في الطريق، يقول: نخرج الآن -تخيل إمام المسلمين وسيد الخلق أجمعين يخرج مع أصحابه فإذا حفيده في الطريق، انظر ماذا فعل؟ - قال: فأسرع النبي في المشي أمام القوم، ثم بسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا، ويفر هاهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه، قال: ويضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى فوق رأسه فقبله عليه الصلاة والسلام، يقول: ونحن ننظر إليه)
وكان عليه الصلاة والسلام يأتي الأطفال الصغار فيقول لأحدهم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان يأتي الأطفال فيحملهم على ظهره، وكان يمسح على رءوسهم، ويداعبهم، ويضحك معهم، يقول: (كان رسول الله ليجمع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصبي حمرة لسانه فيندهش له) أي يضحك، ويسر له عليه الصلاة والسلام.
أخيراً عبد الله ما هو الحل؟
الحل ذكرناه آنفاً في طيات الكلام، ولكن الله عز وجل يقول ونختم بهذه الكلمات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]
إياك عبد الله والاندفاع، فلا ترجع إلى البيت اليوم، وتهتك الصور، وتزيل الهاتف، وتزيل التلفاز، إياك يا عبد الله! كن متدرجاً، وكن حكيماً، وكن فطناً، ابدأ معهم بالأولويات، بالأهم ثم المهم.
أولاً: بأمرهم بالصلوات الخمس، بالفروض والواجبات، وحببهم إلى الدين، وحسن أخلاقك معهم، وقم بواجباتك، شيئاً فشيئاً تتدرج معهم، ولا تطلب المستحيل أن ينقلبوا في يوم وليلة، وتأمل في حاله عليه الصلاة والسلام، ثلاثة عشرة سنة يعلم أصحابه وما أمروا بأكثر الشريعة، حتى تقول عائشة: لو أمروا بترك الخمر ما فعلوا في مكة، وما أمروا إلا بعد الهجرة إلى المدينة، فكن متدرجاً وكن صابراً {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] لم يقل الله عز وجل: واصبر، قال واصطبر، فتحمل واصبر عليهم، وكن رفيقاً بهم، وكن حليماً عليهم، أقول هذا القول وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(18/9)
الأسئلة(18/10)
التدرج في تعليم الأهل
السؤال
أريد أن أعلم أهلي العلم الشرعي فبماذا أبدا؟
الجواب
أظن في الكلام الذي ذكرناه، يبدأ معهم بأصول العقيدة، بأحكام الفقه التي يحتاجونها، وليس كل أحكام الفقه بل التي يحتاجونها، من الطهارة والصلاة والعبادات والزكاة وغيرها مما يحتاجون إليه، ويحببهم في الدين بالرقائق وفضائل الأعمال مثل رياض الصالحين وغيرها من الكتب.(18/11)
نصيحة لإحدى الضرات
السؤال
أمي تصلي وتصوم وتقوم الليل ولا أزكيها على الله، ولكنها لا تحب امرأة أبي، يعني ضرتها، وتتشاجر معها دائماً، فماذا تنصحها يا شيخ؟
الجواب
هذا يحصل، حتى إنه حصل مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحصل بينهن خلاف، بل انقسم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حزبين، حزب مع عائشة، وحزب مع أم سلمة، وكان يقع بينهن من الخلاف الشديد، بل مرة أتت إحدى أزواح النبي صلى الله عليه وسلم بصحن فيه طعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأته عائشة فكسرته من الغيرة الطبيعية التي تحصل بين النساء، ولكن نحاول أن نسدد ونقارب، وهي تتحمل، وتلك تتحمل، وكل منهما تكتم غيظها وغيرتها في قلبها، فإن رأت ما تكره من زوجة زوجها فعليها أن تتذكر محاسنها وفضائلها لكي تصبر وتتحمل، فلعلها تهدم صلاتها وصيامها ببعض أخلاقها السيئة.(18/12)
المعين على قيام الليل
السؤال
أريد قيام الليل ولكن الشيطان يوسوس لي، فماذا أفعل؟
الجواب
اترك الذنوب والمعاصي يعينك الله عز وجل على قيام الليل.(18/13)
نصيحة للنساء
السؤال
ما نصيحتك للنساء وخاصة أن هناك نساء كثيرات؟
الجواب
النصيحة التي ذكرناها هي للرجال وللنساء، بل أعظم الناس حلولاً في هذه القضايا وهذه الثغرات هن النساء، لأنهن ربات البيوت، وهن أكثر من يجلس في البيوت، فإذا صلحت ربة البيت والأم التي تجلس في البيت صلح البيت كله، فعليهن صلاح الأولاد، وصلاح الذرية، وصلاح أهل البيت كله.(18/14)
صحة إمامة الرجل زوجته في النوافل
السؤال
هل يجوز لزوج أن يؤم الزوجة في صلاة الليل أو بالعكس؟
الجواب
نعم يجوز أن يؤم بها وتصلي خلفه، والصحيح أنه هو الذي يؤم بها، ولا تؤم المرأة الرجال.(18/15)
حكم الألعاب التي على هيئة صور مجسمة
السؤال
ما حكم ألعاب الأطفال التي تكون مجسمة على أشكال الحيوانات أو يكون فيها صور؟
الجواب
لو تساهلت في البداية في بيتك في أمور صغيرة فسوف تكثر عليك الأمور وتتشعب وإن الجبال من الحصى، فإياك أن تتساهل في البداية، ولو كانت للبنات، فلا تأتي بعروسة شكلها مجسم تماماً، فلو كانت العروسة ممسوحة الوجه، أو ليست بهيئة إنسان مائة بالمائة، فلا بأس بهذا، لكن أن تأتي بتمثال، بهيئة إنسان مائة بالمائة فلا، فهذا لا يجوز، أو تأتي بملابس لأطفالك عليها صور ذات أرواح وما ذكرناه في الدرس من الصور نقصد بها ذات الأرواح، أن تأتي بملابس الأطفال فيها صور لذوات الأرواح، وإن تساهلت في هذه الأمور شيئاً فشيئاً فسوف تسمح بالصور تعلق على الجدران، ثم تسمح بالتماثيل، ثم تسمح بجميع المنكرات، فاقطع الشر من دابره، نعم هناك صور لا تستطيع أن تتخلص منها مثل التي على المعلبات فلا حرج فيها، أو في الجرائد فقد تأتي فيها صور لكن بعد قراءتها عليك أن ترميها من البيت، وأحياناً تأتي بعض الصور داخل بعض الكتب فلا بأس لكن لا تكون على الأغلفة، الآن هناك مشقة في بعض الأمور والمشقة تجلب التيسير.(18/16)
حكم لبس الساعة التي فيها شكل صليب
السؤال
بالنسبة لساعة اليد التي عليها صليب وهي غالية الثمن، وليس هناك سبيل لتغييرها، وشكل الصليب الذي فيها ليس بواضح؟
الجواب
إن كان هذا الشكل الذي ذكره فهذا ليس بصليب، لكن ينتبه إذا كان يقترب من شكل الصليب فالأولى أن يتركها (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) حتى إن أحد الرجال الصحابة كان يلبس خاتماً من حديد فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هل يجرؤ أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها على يده وأخذها ورماها على الأرض، فلما ذهب عليه الصلاة والسلام قالوا له: خذها وابتعها وانتفع بثمنها، قال: لا والله.
لا آخذ شيئاً رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاتركها إن كانت أقرب إلى الصليب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/17)
حياؤك إيمانك
إعداد المرأة وتربيتها هو الخطوة الأولى في طريق الإصلاح الشامل للمجتمع.
والإسلام منهج لإعادة صياغة الإنسان فكراً وعقيدة وأخلاقاً، وقد أنتج هذا التوجه نماذج رائعة من النساء الرائدات، وجدير بكل مؤمنة أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار حين تنظر إلى موقعها في خارطة الصلاح والفساد.
والدعوة إلى طريق هؤلاء النساء والتحذير من مسالك شياطين الإنس، الذين يخططون لسلب المرأة أغلى ما لديها، هو الموضوع الأساس لهذه المحاضرة.(19/1)
وقفة مع أم أيمن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
أختي الكريمة: أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكِ في هذا المجلس، وأن يكون ما نقول في هذا المجلس حجة لنا لا حجة علينا.
أبدأ حديثي إليكِ بقصة لا علاقة لها بالموضوع عن طريقٍ مباشر فاسمعي إليها:
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما: مر بنا إلى أم أيمن، من هي أم أيمن؟ إنها إحدى الصحابيات إنها امرأة وهي واحدة من بنات جنسك عاشت في العصر الأول وفي الصدر الأول من يزورها؟ إنهما خير من يمشي على وجه الأرض حين ذاك، إنهما أبو بكر وعمر -الشيخان- رضي الله عنهما.
قال: مر بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما وصولا إليها بكت أم أيمن، فقالا لها: ما يبكيك رحمك الله؟ إن ما عند الله خيرٌ لرسوله، تبكين على رسول الله؟! رسول الله غادر هذه الدنيا الملعونة الحقيرة إلى ما هو خير، إلى ما هو أعظم، فلم تبكين؟ فقالت: إني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار إلى خير مما كان فيه، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع عنا من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعل أبو بكر يبكي، وجعل عمر يبكي، وبكى الثلاثة جميعاً أن الوحي قد انقطع من السماء.
إن أم أيمن تبكي وإن المرأة في القرن العشرين تبكي، لكن ما الفرق بين البكائين؟! ما هَمُّ أم أيمن؟! همها أن الوحي قد انقطع، أما الآن فلا وحي جديد، ولا قرآن ينزل، لهذا بكت، هذا هَمُّ أم أيمن، وما هم فتاة القرن العشرين؟! تبكي آخر الليل لفراق حبيبها، وتبكي أول النهار لسماعها ذلك المطرب وهو يتغزل بالنساء، تبكي لأنها ما لقيت عشيقها في تلك الليلة، تبكي لأنه تزوج ولم يتزوجها!
فرقٌ بين أم أيمن وبين فتاة القرن العشرين، أم أيمن تبكي لأنها تسمع قول الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] اسمعي إلى أم أيمن كيف كانت تستشعر إلى هذا القرآن {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] تقشعر الجلود، تدمع العيون.
هذا المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول لأحد أصحابه: (اقرأ، قال: اقرأ عليك وقد أنزل القرآن عليك! قال: أقرأ، إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت حتى وصلت إلى قول الله تعالى في سورة النساء: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك -لمَ حسبك؟ - قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان) ما تحمل عليه الصلاة والسلام ذلك الكلام، يقوم الليل كله بآية، فهلا جلسنا هذه الساعة كما جلست أم أيمن تبكي لأن الوحي قد انقطع.
أختي الكريمة: كيف حالك مع القرآن؟! هل دمعت عينك يوماً ما؟! سلي نفسك هذا السؤال، كم تقرئين في اليوم والليلة؟ كيف أنت مع أوامر القرآن ونواهيه وأحكامه؟ كم تحفظين من القرآن؟ هلا سألت نفسك هذا السؤال؟ هل هذبت به النفس، وطهرت به القلب، ورفعت به الإيمان؟ هل عملت به؟ هل دعوت إليه؟ هل شغلت به الأوقات؟ أم أنها المسلسلات والمجلات والأغنيات والفيلم والمرآة والزيارات وغيرها، إننا نفقد أم أيمن في هذا الزمن.(19/2)
المرأة بين الجاهلية والإسلام
أختي الكريمة: ولنبدأ بموضوعنا: حياؤك إيمانك.
إن المرأة قبل الإسلام لا شيء، إن المرأة قبل الإسلام في متاعب بل هي أحقر حتى من الدواب، المرأة قبل هذا الدين وقبل هذه الشريعة المتاع خيرٌ منها، بعض الدواب تُرحم أما هي لا ترحم، إذا مات زوجها هل ترث منه شيئاً؟ لا بل هي تورث، يرثها إخوان الزوج، أقرباء الزوج يرثونها كالمتاع الساقط اللاقط، بل البنت كانت يوماً من الأيام عاراً وفضيحة.
انظري إلى عبد الله بن المغفل بعد أن أسلم كان يبكي، لماذا؟ لأنه طلب من زوجته أن تزين تلك البنت، من؟ إنها ابنته، زينيها، فأخذها وقلبه يرق لها ولكن يخشى العار والفضيحة، فإذا به يذهب بها إلى ذلك البئر الذي قد جف منه الماء، فيتردد هل يلقيها في ذلك البئر والبنت تداعبه وتلاعبه، وقد زينتها أمها بأحسن زينة، وهو يتردد بين عاطفة الأبوة وبين الجاهلية الجهلاء، من خوف الفضيحة والعار يتردد ويتلكأ، ثم إذا به بعد لحظات يسقطها من شفير البئر إلى قاعه لتسقط بجسدها في ذلك البئر الذي جف فتناديه تقول: يا أبتِ! ضيعت الأمانة! يا أبتِ ضيعت الأمانة!
يأتي رجل ويقول: (يا رسول الله! كانت لي في الجاهلية اثنتي عشرة بنتاً وأدتهن كلهن فقال: من لا يرحم لا يُرحم).
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] قبل الإسلام، قبل شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، قبل هذا القرآن الذي بين يديك {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] يتردد بين هذا وهذا، هل يمسكه على هونٍ وذلٍ وفضيحة وعار، أم يدسه في التراب؟ يدس من؟ تلك البنت الصغيرة التي شرفها الله، بل جاء الإسلام ورفع شأنها حتى جعل سورة كاملة في القرآن وسماها "النساء"، بل وسورة أخرى سماها "مريم"، بل سورة ثالثة سماها "المجادلة"، كل هذا لمن أختي الكريمة؟ تكريماً وتشريفاً لك يا أمة الله!
إن المرأة في هذا الدين قسيمة الرجل، لا فرق بينها وبين الرجل {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] نعم، لها ما للرجل وعليها ما على الرجل إلا فيما اختصت به، وإلا فيما اختص به ذلك الرجل.
أختي الكريمة: جاء الإسلام ليرفع من شأنك وليعزك، هذا الإسلام الذي جاء موافقاً لفطرة المرأة، المرأة مفطورة على ماذا؟ مفطورة على الحياء، مفطورة على الحجاب، على الستر، على العفاف، هذه فطرة المرأة فطرت عليها، ولهذا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهن ذلك الأدب، ويحثهن على ذلك الحياء، قال لهن لما خرجن من المسجد: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) لا تمشين في الوسط، لا تزاحمن الرجال في الطرقات، هذا وهي ليست خارجة من مسرح، أو ملهى، أو مقهى، أو مطعم! لا.
أختي الكريمة، بل وهي خارجة من بيت الله قال: (استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق -أي تتوسطن الطريق- عليكن بحافات الطريق).
هل اعترضت إحداهن؟ هل قالت: كيف وكيف؟! هل قالت: أنا امرأة لي الوسط كما للرجل؟! هل قالت المرأة هذا الكلام؟ لا، قال الراوي: (فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليلصق بالجدار من لصوقها به) الثوب يلصق بالجدار، فطر الله المرأة على هذا.
أيما امرأة خالفت حياءها وعفتها فإنها خالفت فطرتها، ومسخت فطرتها؛ لأن الله جل وعلا يخاطبها بالفطرة فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] هل أنتِ من نساء المؤمنين؟ إذن اسمعي: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] قال بعضهم: أي يضعن الغطاء من الرأس إلى الصدر فلا تبدو إلا عينٌ واحدة للطريق فقط، حتى ترى بها الطريق، عينٌ غير مكحلة، ولا مزينة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].(19/3)
امرأة من أهل الجنة
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: [ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت: بلى يا ابن عباس] امرأة في الدنيا تمشي وهي من أهل الجنة الله أكبر! كيف استحقت الجنة هذه المرأة؟
قال: [هذه المرأة السوداء انظر إليها] انظر إليها إنها من أهل الجنة وهي تمشي على الأرض، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني أصرع وأتكشف فادع الله لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئتِ صبرت ولك الجنة -الصبر على هذا الصرع، وهذا البلاء ما الثمن؟ الجنة، الجنة يا أختي الكريمة- وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك -تريدين المعافاة؟ أو تريدين الصبر على البلاء ثم الجنة؟ - فقالت: بل أصبر يا رسول الله).
القضية جنة أختي الكريمة، جنة عرضها السماوات والأرض، جنة فيها الأنهار تجري من تحتهم، جنة فيها القصور لبنة من ذهب ولبنة من فضة، جنة عرضها السماوات والأرض، قالت: (بل أصبر ولكني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها صلى الله عليه وسلم) نعم.
أحب الجنة، وسوف أصبر على هذا البلاء وأتحمل هذا المرض، وأتحمل هذا الصرع إلا شيئاً واحداً لا أتحمله، ما هو؟ إنه التكشف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
نعم، أختي الكريمة إنها صبرت لكنها لم تصبر على التكشف، والسبب حياؤها، تقول: يا رسول الله! نعم أريد الجنة، لكن لا أتحمل أن أتكشف، فيراني الرجال، ففرحها بالجنة لم ينسها حياؤها.(19/4)
ضرورة التمسك بالحياء والصبر على ذلك
أختي الكريمة: إياك إياك! أن تبالي بالدعوات السافرة، قالوا: معقدة، قالوا: متزمتة، قالوا: من يتزوجك؟ قالوا: انظروا إلى الخيمة التي وضعتها على رأسها، قالوا: انظروا إليها لا تستطيع أن تمشي، من سوف يقودك إلى الجامع؟ إلى المدرسة؟ من قال لك: إن الحجاب واجب؟! ومن ألزمك بالحجاب؟! دعوات ما تحملتها تلك المرأة فإذا بها تقول لهم: كفى كفى.
لا أتحمل هذا، فنزعت حياءها، وتعرت من جلبابها، ورمت حجابها، ثم انكشفت أمام الناس، والله جل وعلا يقول لها ولأمثالها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال العلماء: يعني الثوب الخارجي، هذا الذي يظهر، هل لك على العباءة سبيل؟ لا، العباءة لا بد أن تظهر، وكل الصحابيات كُن َ كالغربان السود، أرأيت الغراب الأسود؟ هل يُرى منه شيء أبيض؟ لا، فهن كالغربان السود، يمشين في الطرقات، ويلتصقن بالجدار، فيتعلق ثوبها بالجدار.
أرأيت: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] بعض الناس يقول: ما ظهر أي: الوجه والكفان لا، خاب وخسر، والكفان، تقول عائشة: [كنا محرمات فإذا مر علينا الرجال أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها] تسدل الواحدة جلبابها على وجهها، وهي محرمة لا يجوز لها أن تغطي وجهها، ولكن كشف الوجه أشد، لا بد أن تغطي وجهها إذا مر عليها الرجال، ولكن تقول: [فإذا جاوزونا كشفناه] نعم، إذا جاوزونا كشفناه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [الأحزاب:59] ثم قال في نهاية الآية، اسمعي وعي: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] يعني: حتى لو كان في رجلك خلخال، أو أي شيء يوضع في الرجل، أو كان كعب عالٍ؛ فانتبهي، لا يجوز لك أن تضربي بالرجل على الأرض، بل ما الذي دعاك ودهاك فلبستي هذا الخلخال؟!
أختي الكريمة: أين الحياء؟ (الحياء والإيمان مقترنان، إذا ذهب أحدهما ذهب الآخر) واسمعي ما يقوله بعضهم:
إنا سمعنا أختنا شيئاً عجاب
قالوا كلاماً لا يسر عن الحجاب
قالوا خيام علقت فوق الرقاب
قالوا ظلام حالكٌ بين الثياب
قالوا التأخر والتخلف في النقاب
قالوا الرشاقة والتطور في غياب
نادوا بتحرير الفتاة وألفوا فيه الكتاب
رسموا طريقاً للتبرج لا يضيعه الشباب
يا أختنا هم ساقطون إلى الحضيض إلى التراب
يا أختنا هم سافلون بغيهم مثل الكلاب
يا أختنا هذا عواء الحاقدين من الذئاب
يا أختنا صبراً تذوب ببحره كل الصعاب
يا أختنا أنت العفيفة والمصونة بالحجاب
يا أختنا فيك العزيمة والنزاهة والثواب
فالنار مثوى الظالمين لهم عقاب
والله يكشف ظلمهم يوم الحساب
والجنة المأوى ويا حسن المآب(19/5)
قصة تبين أثر العفة
أختي الكريم: أسمعت بـ سارة؟ من هي؟ إنها زوجة الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، سارة أخذت عنوة إلى ذلك الظالم الطاغية الذي كان يحكم مصر في ذلك الزمن.
قام جنوده بالقبص عليها، قبضوا على من؟ على العفيفة الطاهرة سارة، ليذهبوا عفتها، وليسلبوا كرامتها، أخذوا زوجة خليل الرحمن! فإذا بها تربط وتحبس لتنتظر مصيرها الأسود المظلم، فرفعت يدها وقلبها إلى الله جل وعلا وهي تبكي فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني أؤمن بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عليَّ هذا الكافر، اللهم اكفنيه بما شئت، اللهم اكفنيه بما شئت.
فاقترب منها الكافر ليسلب منها ما يريد، فإذا بجسمه ينشل، وإذا بجسمه يتجمد، وإذا به لا يستطيع الحراك، فيصرخ ويصيح، فإذا تركها زال ما به، ثم إذا اقترب منها مرة أخرى يتجمد جسمه مرة ثانية وينشل ولا يستطيع أن يحرك الجسد، وكلما أراد الاقتراب منها تجمدت يده وانشل جسمه وصرخ: أخرجوها من عندي ما جئتموني إلا بشيطان، ثم أرسلها إلى زوجها ومعها هدية هاجر فأصبحت جارية لإبراهيم خليل الرحمن {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].(19/6)
واقع المرأة في العصر الحديث
أختي الكريمة: هذا الزمن الأمر تغير، والنساء تغيرن، أين الحياء؟
تجدين المرأة في هذا الزمن تجلس مع رجل، وتختلي معه في غرفة، وتغلق الباب وهي معه، بحجة ماذا؟ دكتور في الجامعة، أو في الكلية، تناقشه في رسالتها، أو تسأله بعض الأسئلة، أو تبحث معه بعض المواضيع الدراسية، من هو؟ هل هو رسول الله؟!
من هو؟! هل هو أبو بكر؟! لو كان أبو بكر فإنه لا يجوز.
وإن كنَّ بعض النساء تأتي بحجة أنها مريضة، فتذهب إلى المستشفى، أو إلى المستوصف فتدخل على الطبيب وتخلو به لوحدها، بلا محرم من محارمها كالأب والأخ وغيرهما، حتى ولا أمٌ ترافقها، تدخل على الطبيب لوحدها، فيغلق الباب فيسألها عما شاء، وينظر إليها كيف شاء، بل والمصيبة والأدهى والأمر أ، يكشف منها ما شاء! الله أكبر! أين الحياء؟! أين العفة؟! أين الطهارة؟! إلى هذه الدرجة تنازلت المرأة؟! إلى هذه الدرجة -أختي الكريمة- تساهلتِ في الحياء؟! عفتكِ عندك لا شيء؛ إن المرأة لا تساوى شيئاً بغير عفة، المرأة بغير حياء لا تساوى شيئاً، لا تساوى ذلك المنديل الذي ترميه في القمامة، إي والله!
أختي الكريمة: هل نسيتِ نداء الله جل وعلا؟ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
أختي الكريمة: بعض النساء تذهب مع زوجها، أو أخيها، أو حد محارمها.
إلى أين؟! تذهب إلى ملهى، أو إلى مطعم تقول: هذا مكان مخصص للعائلات وفيه اختلاط الرجال مع النساء، وهي تقول: هذا مكان للعائلات، هل هذه حجة؟ هل هذا تأويلٌ أم تحريف لنصوص الشرع؟
وبعضهن تذهب للأسواق بحاجة وبغير حاجة، لم؟ تقول: أريد أن أخرج من البيت، مللت هذا السجن، مللت هذا البيت، أريد أن أذهب كي أتسكع في الأسواق، ثم تقول: الحمد لله لست بمفردي، مع من تذهبين؟ أذهب مع السائق! الله أكبر! أين الحياء؟! أين العفة؟! إيمانك مرتبطٌ بالحياء، كلما قل الإيمان قل الحياء، وإذا ذهب الحياء: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
تجلس بعض النساء في أماكن مختلطة وليس لها في ذلك حاجة، مثلاً: تذهب إلى المستشفى هناك طبيبة أو طبيباتٌ وطبيبٌ واحد، وتقول: لا أريد طبيبة، أريد طبيباً بحجة أنها ضعيفة، إنها لا تفهم مثل غيرها، تريد طبيباً، الله أكبر! أين حياؤك؟ أين عفتك؟ هل وضعتي الحياء في البيت ثم خرجتِ!
اسمعي أختي الكريمة: إن هذا الوجه الذي طالما كنتِ في الدنيا تحسنيه، وتجمليه، وهذا الجسد كم كنت في الدنيا تحرصين على نعومته، وهذه الثياب التي تلبسينها، أتعلمين -يا أختي الكريم- أنه سوف يأتي يوم إن كنت من الغافلات، وكنتِ ممن ذهب عنهن الحياء وضاعت منهن العفة، اسمعي يا أختي الكريمة إلى هذا الوجه، ما الذي سوف يحصل له {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] أرأيتي السمكة كيف تشوى في النار؟ وهكذا يتقلب هذا الوجه الحسن، والوجه الجميل، ما الذي حدث له؟ ما الذي جرى له؟ أين جمالك؟ أين تلك النضارة؟ {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} هل تعرفين ما السبب؟ {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66].
يا ليتنا أطعنا الله عندما قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] يا ليتنا أطعنا الرسول عندما قال: (المرأة عورة) (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، وذكر منهما نساء كاسيات عاريات) نعم تلبس لكن اللبس عارٍ، تجعل أسفل الثياب شقوقاً وخرقاً لماذا؟
بحجة أن تمشي على راحتها، ولم تجعلين الثياب ضيقة؟ من أباح لك هذه الثياب الضيقة؟ وتجعل أعلى الصدر فتحة، وعند الساقين فتحة، وإذا الأكمام قصيرة حتى بدا الساعدان، والثياب ضيقة حتى انكشفت الصدور، واتصف الجسد.(19/7)
المصير المحتوم للمرأة المتبرجة
أختي الكريمة: أتعلمين ما الذي سوف يحدث لهذا الوجه الذي كنتِ طالما تحسنيه وتجمليه {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا} [الكهف:29] يستغيثون في النار، يستغيثون يريدون الماء يريدون الشراب البارد، يريدون أي شيء حتى الموت ولا يحصلونه.
{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29] انظري إلى رحمة الله، يعطيهم الله عز وجل الماء، يقتربون ليشربوا من الماء فإذا بفروة الرأس تسقط، وإذا بالوجه يشوى، أرأيت كيف يشوى اللحم؟ يشوى الوجه قبل شرب الماء {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
هذا الجلد الناعم، أتعرفين ما الذي سوف يحصل له؟ {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] نزاعة للشوى: ينفصل العظم عن اللحم، يظهر العظم دون اللحم، لم؟ من شدة حر النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] يا من تلبسين الملابس الفاتنة، وتخرجين إلى الناس لتقولي لهم: هيت لك! يا من تلبسين الملابس التي هي من فرنسا وأمريكا وبريطانيا، مجلات داعرة، حتى إن بعض المسلمات تسبق الكافرات باللباس الفاتن، يا من تخرجين إلى الناس، وتظنين أنه لا أحد يراك، وقد فتحت في الثوب فتحة، أو رميت العباءة، أو وضعتها على الكتف، أو تلبس البنطلون، نسأل الله العافية! الله أكبر!
أختي الكريمة: كوني صادقة، ارجعي إلى نفسك، حاسبيها حساباً صادقاً، أتعرفين ماذا يلبس أهل النار؟ اسمعي أختي الكريمة! اسمعي وتفكري واستشعري {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ} تفصل لهم ثياب، أتعرفين ما هذه الثياب؟ من حرير؟ أم ممَ؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20] بل أكثر من هذا، يلبسون قبل دخولهم النار ثياباً، أتعرفين ممَ؟ من نحاس منصهر، تخيلي النحاس إذا انصهر، هل تستطيعي أن تضعي إصبعك فيه؟! أهل النار يلبسونه رجالاً ونساءً {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:49 - 50].
أختي الكريمة: لقد سمعنا أن امرأة تأتي إلى بائعٍ في محل فتداعبه، وتضاحكه، بحجة ماذا؟ حتى يخفض السعر، سبحان الله! الدينار أغلى عندك من الحياء؟! الدرهم والدينار صارا عند بعض النساء أغلى من العفة والكرامة، وأغلى من العرض.
أختي الكريمة: كيف تختلي امرأة في محلٍ مع بائع وقد كشفت وجهها وساعديها وتنظر إليه وتكلمه ويكلمها، وكأنه محرمٌ لها، اسمعي لما يقول الشاعر، وتفكري وتدبري واجعلي نفسك مثلما يقوله هذا الشاعر:
كيف احتيالي إذا جاء الحساب غداً وحشرجت بي أثقالي وأوزاري
وقد نظرت إلى صحفي مسودة من شؤم ذنبٍ قديم العهد أوطار
وقد تجلى لبسط العدل خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار
يوم الذل، ذل والله! {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
وقد تجلى لبسط العدل خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار
يفوز كل مطيعٍ للعزيز غداً بدار عدلٍ وأشجار وأنهار
لهم نعيم خلود لا نفاد له يخلدون بدار الواحد الباري
ومن عصى في قرار النار مسكنه لا يستريح من التعذيب في النار
فابكوا كثيراً فقد حق البكاء لكم خوف العذاب بدمع واكفٍ جاري(19/8)
العفة في أعلى مراتبها نماذج وشواهد
فاطمة بنت محمد بن عبد الله رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها، أسمعتي بها؟ هل جاءتك أخبارها؟ هل تشكين فيها يوماً من الأيام؟ اسمعي إليها وهي تحاور صديقة لها، من هي؟ إنها أسماء بنت عميس، تقول لها: [يا أسماء -اسمعي للحوار، وعيه، وانتبهي إليه، وتدبري معانيه- إني لأستحي أن أخرج غداً على الرجال من خلال هذا النعش] أتعلمين ماذا تقصد؟ تقول: يا أسماء أخاف أن أحمل يوماً من الأيام على الأكتاف، فينظر الناس إلى جسمي، وقد وصف هذا الجسم تقول: أخاف من هذا المنظر، أخاف من هذا الموقف، لا أتحمله، نعم تخاف على حيائها بعد الموت، وتخشى على عفتها بعد الموت، تريد أن تعيش عفيفة وتموت عفيفة وتحشر إلى الله عفيفة.
فقالت لها أسماء: [يا فاطمة! أولا نصنع لك شيئاً رأيته في الحبشة؟ تقول: فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه] مثل الصندوق، توضع فيه المرأة فلا يراها من حولها، وتحمل على الأكتاف لا يراها الناس، الله أكبر! الله أكبر! تقول فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، سترك الله كما سترتني.
أرأيت -أختي- عفافاً مثل هذا العفاف؟ أرأيت طهراً أفضل من هذا الطهر، تقول فاطمة يوماً من الأيام: [خيرٌ للنساء ألا يرين الرجال ولا يراهن الرجال].
هي بنت من هي زوج من هي أم من من ذا يداني في الأنام علاها
أما أبوها فهو أفضل مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تياها
أختي الكريمة: يا من بدأ الناس يتكلمون على عفتك، وحيائك، وحجابك! قوليها صادقة:
لست من تأسر الحلي صباها فكنوزي قلائد القرآن
وحجابي الإسلام فوق جبيني هو عندي أبهى من التيجان
لست أبغي من الحياة قصوراً فقصوري في خالدات الجنان
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].
هذه امرأة قتل ولدها في المعركة، فجاءت بعد المعركة تبحث عن ولدها بين القتلى، تبحث عنه يمنة ويسرة، تبحث عنه بين القتلى فلا تجده، امرأة متنقبة محتجبة محتشمة تبحث عن ولدها القتيل بين القتلى، فرآها الرجال تبحث عن ولدها، فقالوا لها: يا فلانة اكشفي النقاب لتبحثي عن ولدك حتى تريه، أتعلمين ماذا قالت؟ إن حزن فقد ولدها لم ينسها عفتها وكرامتها وحياؤها، قالت تلك المرأة كلماتٍ عجيبة قالت: لأن أفقد ولدي خيرٌ لي من أن أفقد حيائي وديني.
يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء(19/9)
نساء في الهاوية
قبل أيام جاءني بعض الإخوة -واسمعي وانتبهي فالخطب جلل- من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من الدعاة الصادقين، رأوا بعض العمارات التي يدخلها النساء غير الشريفات، عمارات وشقق مخصصة لهذه الدعارة الفاضحة الماجنة، فانتظروا تلك المرأة حتى خرجت، فجاءوا إليها يكلموها وينصحوها، فاتضح أنها تملك بيتاً وزوجاً وأولاداً وبناتاً، لا إله إلا الله! من الذي جرها إلى هذا؟ من الذي ضحك عليها؟ من الذي غرها؟
أختي الكريمة: إن هذا الحياء الذي نطالبك به وذلك الحجاب، وأن تصبح المرأة كلها محجبة محتشمة ليس طاعة لفلان أو علان، وليست عادة، وليست تقاليد، أو موروثات، لا يا أختي الكريمة، إنما هي طاعة لله ولرسوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ليست لك الخيرة، إنه أمر الله، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.
أختي الكريمة: كلها ستين أو سبعين سنة ثم ماذا؟! ثم سوف تقفين بين يدي الجبار العزيز القهار، الذي لا تخفى عليه خافية {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30].
أختي الكريمة: سوف تقفين بين يدي العزيز القهار الجبار، يقول لك: يا فلانة! ألم أوجب عليك الحجاب؟! يا فلانة ماذا فعلت بالحياء؟! يا فلانة ألم تعلمي أنني أراك وأنت تكلمين ذلك الرجل؟! ألم تعلمي أنني أسمعك وأنت ترفعين سماعة الهاتف فتكلمي فلاناً ويكلمك فلان؟! فلانة ما الذي غرك بي؟ ألم أصح لك جسدك؟ ألم أسقك من الماء البارد؟
وإن كذبت على الله وقلتي: يا رب ما فعلت شيئاً، يا رب ما ارتكبت شيئاً، ما كلمت رجلاً قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] تنطق اليد فتقول: يا رب! في اليوم الفلاني فتحت تلك المجلة، وذلك التلفزيون، ونظرت إلى ذلك المسلسل، يا رب! في اليوم الفلاني صافحت ابن عمها، وصافحت ابن خالها، يا رب! في اليوم الفلاني لمست ذلك الرجل ولمسها ذلك الرجل، إنها الفضيحة، إنه العار، والذل بين يدي العزيز القهار، ذلك اليوم تصبح المرأة -واسمعي إلى حالها-: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
هل تتحملين يا أختي الكريمة وقوفك أمام الله جل وعلا، الجلد يتكلم، والرجل تنطق، تقول: يا رب في اليوم الفلاني سافرت بغير محرم، يا رب في اليوم الفلاني ذهبت إلى ذلك المطعم، ولذلك الملهى، ولذلك النادي، وإلى ذلك السوق {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].(19/10)
حوار شعري مع متبرجة
اسمعي إلى هذا الرجل وهو يخاطب تلك المرأة التي كشفت عينيها المكحلتين، وشيئاً من خديها، والكفين وشيئاً من الساعدين، بل لما كانت تمشي تنزل من السيارة تظهر شيئاً من ساقيها، أو تصعد السلالم تظهر شيئاً من ساقيها ولا تبالي ولا تهتم، اسمع إلى هذا الشاعر كيف يخاطبها يقول لها:
هذي العيون وذلك القدُ والشيح والريحان والندُّ
من أين جئت أأنجبتك رؤىً بيض فأنت الزهر والوردُ
قالت وفي أجفانها كحلٌ يغري وفي كلماتها جدُ
عربية حريتي جعلت مني فتاةً ما لها ندُّ
أغشى بقاع الأرض ما سنحت لي فرصةٌ بالنفس يعتدُّ
عربيةٌ فسألت مسلمةٌ قالت نعم ولخالقي الحمدُ
فسألتها والحزن يعصف بي والنار في قلبي لها وقدُ
من أين هذا الزي ما عرفت أرض الحجاز ولا رأت نجد
هذا التبذل يا محدثتي سهم من الإلحاد مرتد
فتنمرت ثم انثنت صلفاً ولسانها لسبابها عبدُ
قالت أنا بالنفس واثقة حريتي دون الهوى سد
فأجبتها والنار تلفحني أخشى بأن يتناثر العقدُ
ضدان يا أختاه ما اجتمعا دين الهدى والكفر والصد
والله ما أزرى بأمتنا إلا ازدواجٌ ما له حدُ
ألا تفكرين في ذلك اليوم؟(19/11)
أين المتبرجات من هذه المرأة
أختي الكريمة: والله إن الأب ليتبرأ، وإن الأم لتهرب، وإن الأطفال ليتبرءون منك عند الله جل وعلا، تأتين إلى ابنك، أو إلى زوجك، أو أخيك تطلبين منه حسنة أو شفاعة فكلٌ منهم يقول: نفسي نفسي {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
أختي الكريمة: هذه عجوزٌ ذهبت إلى المستشفى لتعمل عملية في عينيها، فلما خرجت من العملية ونجحت، بكت هذه العجوز، فقيل لها: ما يبكيك يا فلانة وقد نجحت العملية؟ فقالت: لا أبكي على عيني، وإن فقدتها، ولكني أبكي أن رجلاً قد كشف عن وجهي ولم ير وجهي أحدٌ من الناس طوال هذه السنين، عجوزٌ تبكي لأن رجلاً نظر إلى وجهها مع الضرورة ومع الحاجة لها، ولكن: إنه الحياء، إنها العفة يا أمة الله!
انظري إلى نساء هذا الزمن، كل يوم يرتخي الثوب، كل يوم يقصر الثوب، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: كيف يصنع النساء في ذيولهن؟ -إلى أعلى من الكعب، يا رسول الله المرأة ما تتحمل هذا الشيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرخينه شبراً -يعني يرخين الثياب على الأرض شبراً- قالت أم سلمة رضي الله عنها: إذاً تنكشف أقدامهن -يعني شبر لا يكفي يا رسول الله- قال: يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه).
أختي الكريمة: الأمر خطير، المرأة هذا الزمن بدأت فقط لا تكشف من ساعديها ولا شيئاً من ساقيها، بل وصل الأمر إلى الركبتين.
لحد الركبتين تشمرينا بربك أي نهرٍ تعبرينا
كأن الثوب ظلٌ في صباحٍ يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعورٍ لأنك ربما لا تشعرينا
أختي الكريمة: في هذا الزمن أصبحت بعض النساء تلزم زوجها أن يأتي في حفلة الزفاف وفي ليلة العرس فيدخل أمام النساء على شيء مثل المنصة ليقف عليها أمام الناس، لينظر إلى النساء بغير حياء، ولا عفة، أو طهر، يدخل الرجل أمام النساء لينظر إليهن واحدة تلو الأخرى، بل صارت المرأة تخالط ابن عمها وابن خالها وابن خالتها وتجلس معه، بل وتركب معه في السيارة، بل ويصافحها وتصحافه، بحجة أنه من القبيلة، أو أنه من العشيرة، بل صارت المرأة هذا الزمن تختلط حتى بالسائقين وتختلي بهم، تذهب معهم إلى أين؟ إلى السوق، أو الطبيب، أو المدرسة، أو الكلية، سائقٌ يخلو بها لوحدها، لا محرم، حتى الأم لا تركب معها، ما الذي حدث؟ ما الذي جرى يا أختي الكريمة؟ (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) حقاً وصدقاً.
عائشة كانت فتاةً صغيرة، تقول: (كنت أنظر إلى الحبشة يلعبون بالمسجد وأنا متسترة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يسترني بردائه) وهي فتاة صغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يسترها وهي تنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، أرأيت الحياء؟! أرأيت الستر؟! أرأيت العفاف؟! {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
اسمعي إلى هذا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا تسل عنهم -يعني هالكون- وذكر من الثلاثة: امرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده) فلا تسل عنهم، خرج زوجها وتركها في البيت لا تحتاج أحداً، فإذا بها ترفع سماعة الهاتف، أو تضع ذلك الفيلم، أو تواعد فلاناً، أو تخرج من البيت بغير إذنه، أو تخالط فلاناً وفلاناً من الناس، الله أكبر! أين العفاف؟! أين الحياء يا أختي الكريمة؟!
هذه امرأة امتنعت عن تقديم اختبارٍ للقرآن الكريم في الكلية -إحدى الكليات الشرعية- وكانت من الذكيات المجتهدات المتقدمات في الدراسة، لكنها امتنعت عن الاختبار الشفهي للقرآن فقيل لها: لمَ امتنعتي عن هذا الاختبار؟ قالت: كيف يسمع صوتي أحد من الرجال؟! ولو كان مدرس القرآن، ولو كان شيخاً من الشيوخ، ولو كان رجلاً صالحاً، ولو كان غيره من الناس.(19/12)
حقائق عن دعاة تحرير المرأة
أختي الكريمة: يا من تكشفين شيئاً من الوجه، أو شيئاً من الذراعين، أو من الساعدين، أو الساقين، ألا تقدرين الله عز وجل حق قدره؟! من الذي أمرك بالحياء؟ من الذي أمرك بالعفة؟ إنه الله جل وعلا، أتعرفين من هو الله؟! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
أتعرفين من الذي أمرك بالحياء، والحجاب، والعفة، والطهارة، والنزاهة؟ إنه الله جل وعلا {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
أختي الكريمة: إن الغرب الآن الذي يعيش فيما يسميه بالحرية وفيما يسميه بالتقدم والحضارة في أمريكا قبل سنوات طويلة عملوا إحصائية فوجدوا أن في كل سنة يوجد عندهم مليون طفل مرمي من الزنا، مليون طفل من الزنا في كل سنة! كيف يعيش هذا الولد؟! كيف يحيا بغير أم، وبغير حنان، وبغير أبوة، وبغير عاطفة؟! يمشي ويعيش في الأرض وقد امتلأ قلبه بالحقد الدفين والغل على هذه الأمم، وعلى هذه الشعوب.
عشرون ألف حالة اغتصاب سنوياً في دولة واحدة، قبل سنوات وليس اليوم عشرون ألف حالة اغتصاب، أين الحرية المزعومة؟! أين حرية المرأة؟! وأين كرامتها المزعومة يا أختي الكريمة؟!
يقول بعضهم: لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي حتى يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].(19/13)
رحلة فتاة من الظلمات إلى النور
أختي الكريمة: قبل أن نختم حديثنا، اسمعي إلى قصة هذه الفتاة، فتاة غرتها المجلات، فتاة ضحكت عليها تلك المقالات، سمعت بدعاة تحرير المرأة، قرأت لهن، وكتبت إليهن، واستمعت إليهن، فإذا بها تسير وراءهن، داعيات تحرير المرأة، هدى شعراوي هل سمعتي بها؟ أم تلك التي تسمى صفية زغلول امرأة سعد زغلول هل سمعتي بها؟ أولئك اللواتي استقبلن سعد زغلول بعد تحرير مصر استقبلن سعد زغلول كما يسمونه الرجل الوطني الهالك، استقبله أفواج من النساء متحجبات في الظاهر، أما الباطن لا يعلم به إلا الله، ثم يسيرون مسيرة إلى ميدان الإسماعيلية، ليجتمع الناس الحشود الهائلة والجماهير الغفيرة، إلى قادات المجتمع، وإلى سيدات المجتمع، من؟! هدى شعراوي؟ صفية زغلول؟ وغيرهن من الهالكات، فإذا بهن يرمين الحجاب ويطأنه بأقدامهن ثم يحرقنه وسط تصفيق الجماهير الحاشدة، أرأيت كيف؟
هذه الفتاة غررت بتلك الدعوات، كانت لما تقرأ على صفحات المجلات صورة من؟ صورة فلانة النجمة الموهوبة، أو الممثلة الواعدة، أو المطربة الشهيرة، فلانة بنت فلان، كيف تطبع هذه المجلة؟ كم نسخة؟ عشرون ألف، ثلاثون ألف، بل بعض المجلات مئات الآلاف تطبع؛ ليقرأها وليرى صورتها كل ساقطٍ ولاقط، وكل حقير ووغد، وكل ساقطٍ ومجرم فاسق، ينظر إلى صورتها ويتمتع بها، هل تساوى هذه المرأة شيئاً؟!
فاغترت هذه الفتاة بهذه المجلات، وبهذه القصص، وبتلك الوعود، تقول عن نفسها: ضياعٌ في التفكير، ضياعٌ في المشاعر، تقول: كل من حولي كان سافراً، أمي سافرة، أخواتي سافرات، صديقاتي سافرات، تقول: كيف يدعوني أحدٌ للحجاب والكل من حولي سافر؟!
تقول: كنت لم أتجاوز السابعة عشر من العمر، رافقت أختي وخالتي في السيارة لكي نذهب إلى أهلي، يقول: ومع السرعة الشديدة وعدم تحكم السائق انقلبت بنا السيارة، تقول كان حادثاً رهيباً، واقتربت ساعة الموت {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [المؤمنون:99] فهل تظنين -أختي الكريمة- أن هذه التي كانت كل يوم في موضة، وكل يوم في سهرة، وكل يوم معها صديق، هل تظنينها ماذا تفعل عند لحظة الوفاة؟ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] تقول: حادث رهيب لم أنسه حتى اليوم، توفيت أختي وخالتي، تقول: ونجوت وحدي ولله الحمد.
تقول: وبعد هذا الحادث، رأيت في المنام أحلاماً مفزعة، تقول: أرى في المنام رأسي ويدي ورجلي مسودة، تقول: الرجل مسودة، واليد مسودة، والرأس مسوداً تقول: ففهمت الرسالة، وعلمت أنها الأعضاء المكشوفة، وأنه الجسد المكشوف.
تقول: فأقوم من نومي فزعة، وتقول: هاأنا اليوم أعلنها بغير تردد، عازمة متوكلة على الله تقول: تحجبت والتزمت بالصلاة، والتزمت بالعفاف، ورضيت بالحياء، وتقول: لن أفارق المصحف، ولن أفارق الصلاة ولا الصيام، تقول: محاولات كثيرة وعديدة من شيطانات الإنس يحاولن إعادتي للسفور، وللضياع، وإعادتي للدنيا ولكن لا أمل لهن {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].(19/14)
العاقبة الحسنة للعفيفة
قوليها صادقة بملئ فيك أختي الكريمة: حيائي قبل كل شيء، عفتي وإن لم يرض الناس جميعاً، كرامتي في ستري.
أختي الكريمة: قوليها صادقة، توكلي على الله، ابدئي حياة جديدة، حياة الستر، والعفاف، والطهر، حياة الحياء، الحياء لا يأتي إلا بخير، أتعرفين ما النهاية؟! أتعرفين ما هو المصير؟! {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
إذا كانت الحورية في الجنة الياقوتة على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، وتلبس سبعين حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل، والحورية في الجنة لو اطلعت على الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ونصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، وكل فترة وزمن تزداد حسناً وجمالاً، هذه الحورية في الجنة كأمثال اللؤلؤ المكنون، فكيف يكون مصير المؤمنة إذا دخلت الجنة؟!
جاء في بعض الآثار أنها سوف تكون سيدة الحور العين، وأجمل من جميع الحوريات، وأحسن من جميع الحوريات.
أختي الكريمة: هذا جزاؤك في الجنة، وهذا مصيرك في الجنة، في الدنيا نعيم وفي الآخرة سعادة أبدية، قوليها صادقة من قلبك: صفحة جديدة بينك وبين الله {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا وأصلي وأسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(19/15)
خطوات الشيطان
إن العداوة بين الإنسان والشيطان قديمة، منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، والشيطان مستمر في إغوائه لعباد الله وأوليائه؛ لذلك لابد من اليقظة والحذر من الشيطان ومن خطواته ومداخله هذا ما تحدث عنه الشيخ، مذكراً بقصة إبليس مع العابد برصيص، واستدراجه له وإغوائه إياه.(20/1)
العداوة بين الإنسان والشيطان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: ذكر أهل التفسير قصة عجيبة سوف نوردها عليكم في هذه الخطبة، وفيها عبر جمة، تدلك -يا عبد الله- على أن للشيطان خطوات يبدؤها بعبد الله الصالح خطوة خطوة، وغايته العظيمة ومناه الأكبر أن يكفر الناس بالله رب العالمين، فإن كفر الناس فرح وإلا حزن.
ولنعلم -عباد الله- أن العداوة بين الشيطان وبني آدم قديمة، منذ أن خلق الله عز وجل آدم وقبل أن ينفخ فيه الروح، كانت تلك هي بداية العداوة، والحسد، والحقد، والصراع بين الإنسان والشيطان.
حتى إذا خلق الله آدم أمره بالسجود، ولكنه: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] ثم تهدد بني آدم كلهم فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] انظروا كيف الكافر المتكبر ينسب الغواية لله، يقول: أنت الذي أغويتني، ويقول بسبب أنك أغويتني {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}.(20/2)
قصة إبليس مع العابد برصيص واستدراجه له
واسمعوا -يا عباد الله- إلى هذه القصة كيف قعد لهم صراط الله عز وجل المستقيم.
يروي أهل التفسير أن هناك عابداً من بني إسرائيل كان يعبد الله عز وجل أربعين سنة، ولم يصبر عنه الشيطان، واسم هذا العابد برصيص، ولنسمع إلى حكايته، وإلى العجب في أمره:
أربعون عاماً لم يقدر عليه إبليس ولا أعوانه، فجمع إبليس الشياطين والمردة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لإبليس عرشاً على الماء يجمع فيه أعوانه والمردة من الشياطين، ثم يرسلهم على بني آدم) يرسلهم على فلان المصلي، وعلى فلان الصائم، وعلى فلان الراكع، وعلى فلان الساجد، وعلى فلان الذي أسلم حديثاً أو قديماً ليضلهم عن سبيل الله.
فجمع أعوانه فقال لهم: من منكم يقدر على هذا العابد؟
لنا أربعون عاماً لم نقدر عليه، فجاء الشيطان، ووصفه يسمى الشيطان الأبيض الذي كان يتصدى للأنبياء والمرسلين، وقال: أنا أتكفل به.
قال: اذهب إليه، فتمثل هذا الشيطان بصورة رجل راهب عابد ساجد لله، فأتاه في الصومعة، فدخل عليه يناديه فلم يجيبه برصيص، وقد كان يصلي عشرة أيام، ولا يرتاح بعد العشرة الأيام إلا يوماً واحداً، فدخل عليه الشيطان في صورة راهب، وتمثل له أنه يصلي بجنبه، وأخذ يصلي بجنبه عشرة أيام وانظروا إلى صبره وانظروا إلى طول نفسه، وإلى خطواته خطوة خطوة.
فلما انتهى من العشرة أيام، نظر إليه العابد من بني إسرائيل، وقال: ما تريد؟
وما شأنك؟
قال: جئت أتمثل بك، وأتعبد الله عز وجل مثلك، وأصلي وأركع وأتأسى بك، فتركه ذلك العابد وجلس معه يصلي، فزاد ذلك العابد في صلاته، فكان لا ينقطع عن الصلاة إلا بعد أربعين يوماً، ويصوم أربعين يوماً، ويفطر يوماً، حتى يختبره هل يصبر أو لا يصبر، فكان الشيطان لخبثه ولمكره يصلي معه أربعين يوماً، ويصوم معه أربعين يوماً، ولا يفطر إلا يوماً واحداً، ولا يرتاح إلا يوماً واحداً، فتحمله سنة كاملة على هذه الحال، يصلي ويصوم ويذكر الله معه، وتمثل له بأنه عابد راكع خاشع زاهد لا يريد من الدنيا شيئاً، فلما انتهى الحول، قال له الشيطان: ظننت -يخاطب العابد- ظننت أنك تعبد الله خيراً من هذا، فقد أخبروني عنك أنك تعبد الله وما كنتُ أظن أنك بهذا الضعف في العبادة.
قال: ماذا تقول؟
قال: أريد أن أبحث عن غيرك يعبد الله أكثر منك.
قال له: اجلس.
وكأن العابد قد تشوق إليه.
قال: لا.
سوف أتركك لأبحث عن غيرك، ولكني أعلمك كلمات احفظها ينفعك الله بها، قال: وما هي هذه الكلمات؟
قال: كلمات إذا قلتها على مريض شافاه الله، وإذا قلتها على مبتلى عافاه الله، قال: وما هي هذه الكلمات؟
فعلمه كلمات ثم ذهب وتركه ثم جاء إلى إبليس، فقال له إبليس: ما صنعت بذلك الرجل؟
قال: قد أهلكته، قال: كيف هذا؟
قال: اصبر، فذهب الشيطان إلى رجل بين الناس فخنقه وصرعه، فسقط مجنوناً، فبحث الناس عن طبيب، فتمثل الشيطان على صورة طبيب، فجاء إليهم، فقال للناس: أنا أعالجه وأطببه، فأتوا بهذا المجنون إلى ذلك الطبيب، فقال لهم الطبيب: إن به جنوناً لا يقدر عليه إلا رجل واحد من الناس، قالوا: ومن هو؟
قالوا: برصيص العابد، يقدر عليه ويعالجه، فذهبوا به إلى ذلك العابد، فقرأ عليه تلك الكلمات، فتخلى الشيطان عنه، فإذا به يرجع معافىً كما كان، فخنق الشيطان ثالثاً، ورابعاً، وخامساً، فانتشر بين الناس أن هذا العابد عنده كلمات إذا قرأها على رجل مريض شافاه الله، حتى جاء الشيطان إلى جارية للملك ولحاشيته، فصرعها فذهبوا بها إلى هذا العابد الزاهد.
فقال لهم: إنني لا أقرأ على النساء وطردهم.
فقال لهم الشيطان: اجعلوها في غار عنده، فإذا جُنَّت وصُرِعت أتاها وقرأ عليها فشفيت بإذن الله، فجعلوها في الغار.
وانظروا إلى خطواته! والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] ليست خطوة ولا اثنتان بل هي خطوات طويلة، وانظروا إلى السنوات التي ترقَّب فيها ذلك العابد.
أتاه الشيطان فقال له: هذه جارية مريضة مسكينة اقرأ عليها لتذهب إلى أهلها، لِمَ تجلس في هذا الغار لوحدها؟
لربما أتاها أهل السوء، ولربما فعلوا فيها كذا وكذا، انزل إليها، واقرأ عليها ولتذهب، فنزل ذلك العابد المسكين من صومعته إلى ذلك الغار، فلما اقترب من الغار صرع الشيطان تلك الفتاة، فلما صرعها ألقت ما عليها من ثياب وهي لا تشعر، فلما دخل ذلك العابد نظر إلى جسد لم ينظر إليه طوال حياته، ولم يره طوال عمره، نظر العابد إلى ذلك الجسد فالتفت، فوقع الشيطان في قلبه، فقال: أرأيت؟
فأخذ يذكره بتلك الصورة، وقال: ارجع إليها فاقرأ عليها، فرجع فنظر فإذا الجسد عار، فلا زال به مرة ومرتين وثلاث حتى وقع العابد على تلك المرأة، فزنى بها!!
أربعون عاماً يعبد الله! لكن الشيطان إلى الآن لم يرضَ بهذا؛ فأخذ يراوده مرتين وثلاث وأربع حتى وقع عليها مرات طويلة، حتى حملت منه، فجاءه الشيطان وقال له: يا فلان! أتفعل هذا؟
لو أتى أهلها فنظروا إليها لَفُضِحت ولانكشف أمرك ولتكلم الناس عليك وعلى أمثالك من العباد.
فقال للشيطان: ماذا أفعل؟
قال: اقتلها، ثم تب إلى الله فإن الله غفور رحيم.
فأتاها ذلك العابد بعد أن زنى وارتكب الجريمة الفاحشة، قتلها وقتل ما في بطنها، ثم قال له الشيطان: اذهب فادفنها في مكان كذا وكذا، حتى لا يراك أحد، فإذا أتاها أهلها فقل: إن الشيطان صرعها وذهب بها فدفنها ثم لما جاء أهلها يسألون عنها: أين فلانة يا فلان؟
-وانظروا إلى الجريمة الثالثة: الزنى، ثم القتل، ثم الكذب- قال لهم: إن الشيطان قد أتاها وصرعها وذهب بها، ولا أدري إلى أين، فأخذوا يبحثون عنها، فلما أيسوا رجعوا إلى بيوتهم وقد صدقوا ذلك العابد، فرجعوا إلى البيوت.
فجاء الشيطان في المنام إلى الثلاثة الذين كانوا يبحثون عن الفتاة فقال لكل واحد منهم: إن أختكم وجاريتكم لم يذهب بها الشيطان، إنما قتلها ذلك العابد بعد أن زنى بها، قتلها ودفنها عند جبل كذا وكذا، فلما استيقظوا قال الأخ الأصغر: أنا رأيت في المنام كذا وكذا، فقال الأوسط: وأنا كذلك، وقال الكبير: وأنا كذلك، لكنهم ذهبوا إلى العابد فقالوا له: رأينا في المنام كذا وكذا، فقال لهم: تتهموني وأنا العابد؟!
تتهموني وأنا المصلي الراكع الساجد؟!
تتهموني بهذا؟!
قالوا: لا والله لا نتهمك.
ثم رجعوا إلى أنفسهم، فجاءهم الشيطان مرة أخرى وقال لهم: لقد كذب عليكم مرة ثانية، اذهبوا إلى مكان كذا وكذا، وسوف ترون بعض ثيابها لم يُدفن، فذهبوا إلى المكان، فحفروا فإذا بأختهم مقتولة، وإذا بجنينها معها، فذهبوا إلى ذلك العابد وقالوا له: كذبت علينا قاتلك الله! فأخبروا الملك، فأمر بصلبه، فهدموا صومعته ومسجده، ثم ربطوا عنقه بحبل وجروه بين الناس ليفتضح أمره، ثم جيء به إلى الملك أمام الناس ليقتل ويُصلب، فجاءه الشيطان فقال له: هل عرفتني؟
قال: لم أعرفك، قال: أنا الذي عبدتُ الله معك سنة كاملة، وعلمتُك الكلمات، قال له: ماذا تريد؟
قال: إنك إن قُتلتَ افتضح أمرك، وإن قُتلتَ تكلم الناس على أمثالك من العباد، قال: كيف المخْلَص؟
قال: هل تريد أن تتخلص من هذا الذي أنت فيه؟
قال: نعم، قال: ولا يراك الناس؟
قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة وأنا أخلصك مما أنت فيه، فلما استكان له واستجاب له وهو يريد الخلاص، سجد له سجدة واحدة، فلما سجد قال الشيطان له: إني بريء منك، فقتله الملك على الكفر بالله جل وعلا، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
, أو(20/3)
مداخل الشيطان وخطواته
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: إن للشيطان مداخل كثيرة وخطوات طويلة، فلعله يبدأ ببعض الناس بالطاعة، ثم لا يزال به يستدرجه، ثم يستدرجه حتى يكره العبادة لله جل وعلا، ويبدأ ببعض الناس بالمباح؛ بلعب الكرة أو بالسهر أو بمجالس اللغو، أو ببعض الألعاب المباحة، يبدأ بها فلا يزال به حتى يرتد عن دين الله جل وعلا، ويبدأ ببعض الناس بالمكروهات فيأتيهم ويقول لهم: ليس الأمر بحرام إنما هو مكروه، ويأتي لبعض الناس بالصغائر ويقول لهم: إن الحسنات يذهبن السيئات، ويقدر على بعض الناس بالفواحش العظام وهو يقول لهم: إن الله يقبل التوبة عن عباده فافعل وتب إلى الله.
وهكذا له خطوات، كما قال الله جل وعلا على لسانه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17].
نعم.
وصدق الكذوب: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] انظر في الناس وفتش ثم ابحث: أين فلان الذي كان يصلي يوماً من الأيام؟
أين فلان الذي كان يركع ويبكي لله جل وعلا؟
أين هو الآن؟
لا يستجيب لنداء الله جل وعلا أين فلان الذي كان يحفظ القرآن في صدره؟
الآن لا يعرف إلا الأغاني والطرب أين فلان الذي كان يدعو الناس إلى الله؟
الآن يصد الناس عن سبيل الله، ما الذي حدث؟
وما الذي جرى؟(20/4)
إبليس وإغوائه لآدم عليه السلام
لقد بدأ طريقه وخطواته بخطوة أولى مع آدم عليه السلام، أتى إلى آدم وحواء فقال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف:20] واسمع إلى هذه الخطوة التي كانت بداية الشقاء للبشرية جمعاء، وهي بداية النزول من النعيم إلى دار البلاء، قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] فبدأ يوسوس لهما ليبدي لهما ما وُري عنهما من سوءاتها، بدأ يدلهما بغرور، حتى جاءهما بلباس الناصح الأمين، ولباس الشيخ الوقور، وقال لآدم: يا آدم أتريد الخلد في هذه الجنة؟
أتريد أن تصبح مَلَكاً من الملائكة؟
قال آدم: نعم.
ومن منا لا يريد هذا؟!
قال: كل من هذه الشجرة، يا آدم! أحل الله لك كل ما في الجنة إلا هذه الشجرة، ما شأنك تريد الأكل منها؟!
الشيطان يا عباد الله! إنه يأمر بالفحشاء والمنكر، فإذا بآدم يأكل، وإذا بالسوءة تنكشف، وإذا بأول معصية من آدم لله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] ثم تاب آدم فتاب الله عليه، ولكن جُبِلَت أمته على هذا الأمر، نسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته.(20/5)
الحذر من فتنة الشيطان
عباد الله: لا بد أن نكون متيقظين منتبهين، كل منا ينتبه على دينه؛ فإن الشيطان لنا بالمرصاد، وأقسمُ بالله أنه حق، كما قال: يأتينا من بين أيدينا -من أمامنا- ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، يأتينا الشيطان الخبيث من كل مكان؛ ليصدنا عن سبيل الله جل وعلا، يأتينا بالمباح، يأتينا بالمكروه، يأتينا بالصغائر، يأتينا ببعض المشتبهات؛ ليضلنا عن سبيل الله، وعندما يضل الناس يأتيهم يوم القيامة ليخطب بهم خطبته الشهيرة، ويجمع الناس الله الإنس والجن تحته ليقول لهم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: لست بمنقذكم: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] يكفر بهم، ويكفر بما كانوا يعبدونه من دون الله.
إنها الحسرة والندامة لأتباع الشيطان وللشيطان نفسه يا عباد الله!
اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم.
اللهم إنا نعوذ بكلماتك التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارقٍ إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
أقول هذا القول وأقم الصلاة.(20/6)
رسالة إلى صانعة الأجيال
النساء شقائق الرجال، وإصلاح المرأة وتربيتها واجب لا بد منه، وهو إصلاح للمجتمع وللجيل القادم.
إن دور المرأة لا يقل عن دور الرجل، إلا أن الفطرة والدين يجعلان لكل منهما اختصاصاً وميداناً للعمل ليس للآخر، بحيث تتحقق السعادة في ظل إبداع كل منهما في مجاله، فيرضى الخالق عن هؤلاء المخلوقين.
في هذه المادة بيان لما يجب تركه من العادات الخاطئة، ووسائل الإعلام الهدامة، والذهاب إلى السحرة، مع بيان لمسائل لا تستغني عنها أي مسلمة.(21/1)
نداءٌ للمرأة المسلمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيتها الأخوات الكريمات! هذه رسالة إلى صانعة الأجيال، صانعة المجتمعات، هذه رسالة إلى المرأة التي جاءت تطلب الأجر من الله جل وعلا في صناعة هذا الجيل.
أيتها الأخت الكريمة! لعل الناظرة منكن إلى هذا المجتمع وإلى هذا الجيل الذي نعيش فيه، تجد أن الفساد وأن الشر قد انتشر، وأن الضلال قد عم، وأن المنكر قد استفحل، كما قال الله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] ففي البيوت فساد، وفي الأسواق فساد، وفي الشوارع فساد، وفي المدارس فساد، وفي الجامعات فساد، في كل الدنيا فساد، الشر قد انتشر، والله عز وجل ينتدبنا مؤمنين ومؤمنات، وصالحين وصالحات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} [التوبة:71] وصفتهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وهذه الولاية وذلك التعاون من أجل: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71].
نعم.
المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والمؤمنات بعضهن أولياء بعض، يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر؛ المنكر الذي قد انتشر في البيوت والأسواق، وفي المدارس والجامعات، وفي كل مكان، الله عز وجل انتدبك يا صانعة الأجيال! ويا مربية الأنبياء والرسل!
من أين خرج موسى؟ وكيف تربى عيسى؟ ومن أين ظهر نوح عليهم الصلاة والسلام؟ ومن الذي أرضع محمداً عليه الصلاة والسلام؟ إنها المرأة، إنها صانعة الرجال.
أختي الكريمة، إليك أوجه هذه الكلمات، وإن كانت النصيحة في الوقت قصيرة، لكن أرجو أن تكون ثمينة فلرب كلام قليل يدل على خير كثير.
أختي الكريمة: يا من تعيشين في البيت والله عز وجل أمرك أن تقري فيه! ألا ترين حولك في البيت أن المنكرات قد انتشرت، والفساد قد عم، أين دورك؟ وما هي وظيفتك في البيت؟ أكل وطبخ وشرب وتنظيف فقط، إن التنظيف الأول والمطلوب الأول منك يا أمة الله: تنظيف البيت من المنكرات قبل القاذورات! وإن تطييب البيت المطلوب تطييبه بالصالحات، من صلاة وذكر وقرآن قبل أن تكون بالروائح الطيبة.(21/2)
احذري التلفاز
أختي الكريمة: ألا ترين ذلك التلفاز الذي يجثم في بيوتنا، وما يظهر فيه من المنكرات من المعازف والأغاني، ألا ترين ابنك كيف يدخل في غرفته فيغلق على نفسه الباب ليشاهد تلك المسلسلات والأفلام، بل بعضهم يتمادى ويأتي ببث مباشر ينقل له الشر والخطر والمجون من بلاد الغرب، ويغلق على نفسه الباب لينظر!
أختي الكريمة: أين دورك؟ ما هي التربية التي ربيت بها أولئك الأبناء؟ هل هذا التلفاز جاء رغماً عن أنفك؟ أم لك دور في تربية الأبناء منذ الصغر على توجيه هذا التلفاز، وعلى تقييده، وعلى التحذير من شره؟(21/3)
احذري الصور
أختي الكريمة: ألا ترين تلك الصورة المعلقة على الجدار؟ صورة الجد، والعم، والأب، والأخ، والأولاد؛ لمَ تعلق على الجدران؟
أجيبك بهذه الإجابة: حتى تطرد الملائكة من البيت، وتأتي الشياطين لتعشعش في هذا البيت المسلم.
أختي الكريمة: من الذي أباح لك أن تعلقي هذه الصور؟ وما دورك في البيت؛ طباخة، كناسة، نعم هذا عمل شريف وعظيم، لكن أعظم من هذا أن تكنسي البيت من تلك الصور: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة).(21/4)
احذري الخادمات الكافرات
أختي الكريمة: من الذي أباح لك أن تعلو في البيت أصوات الموسيقى والمعازف؟
بل من الذي أباح لك في البيت أن تأتي بأولئك الخادمات الكافرات اللواتي يربين الأبناء، وعلامَ يربين الأبناء؟ خادمة نصرانية، ألم تسمعي بطفل يعيش في بلاد المسلمين لأبوين مسلمين، كبر هذا الطفل فوجد يعلق على صدره صليباً، فلما سئل قال: مربيتي ومعلمتي هي التي علمتني، قالوا: أمك؟! قال: لا.
بل الخادمة، لأنه يعيش مع الخادمة أكثر من الأم.
أين دورك يا صانعة الأجيال؟
هل خلقنا لأجل مجالس اللغو والشاي والقهوة، ولنقلب المجلات، ولنقرأ الجرائد؟ ثم الأولاد من الذي يربيهم؟ الخادمة.
أيا صانعة الأجيال أين دورك في البيت؟
أختي الكريمة: أنتِ حارسة للبيت، تمنعين الشر من دخوله، وكل ضلال وفساد إنما يعرض عليك قبل الدخول في البيت، ثم يمنع.(21/5)
احذري الساحرات
أختي الكريمة: البيت المبارك لا يسمح أن يدخل فيه كفر ولا زندقة ولا ضلال، وإليك ذلك الكفر الذي دخل بيوت المسلمين، اسمعي إلى هذا الكفر، وهذا نبأ عظيم، وأمر جلل دخل بيوت كثير من المسلمين فأفسدها، وهذا الأمر أرجو أن ننتبه له أيتها الأخوات، صار بعض النساء مجنونات، وصار بعضهن موسوسات، لا تعرف أباها من أمها، بل صار بعضهن لا تتحمل الصلاة ولا قراءة القرآن، أتعرفن لمَ؟ لدخول السحر والشعوذة في بيوت كثير من المسلمين.
وإليك أيتها الأخت علامات تعرفين بها تلك الساحرات الكافرات الفاجرات، اللواتي أفسدن بيوت كثير من المسلمات، هذه العلامات احفظيها، وأرجو أختي الكريمة، أن تعلمي هذه العلامات لكل النساء، من جارات وصديقات وقريبات، علميهن هذه العلامات، علامات الكافرات الساحرات، اللواتي أمرنا الله عز وجل أن نستعيذ من شرهن، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:1 - 4].
إذا أردت أن تربي أهل بيتك على الصلاح والعفة، فاسمعي إلى علامات تلك الساحرات اللواتي أفسدن بيوت كثير من المسلمين:(21/6)
التسمي بأسماء محببة إلى النفوس
العلامة الأولى: أنها قد تسمى مطوعة: أو لعلها تسمى باسم من الأسماء المحببة إلى النفوس، لكن من علاماتها: بعضهن تسأل المريض -وهذه أمور أرجو أن نفضح بها كل الساحرات- عن اسمه واسم أمه، وماذا تريد من اسم أمه؟ وهؤلاء كثيرون من السحرة والساحرات يسألون عن اسم أم المريض، وذلك لأنهم يستغيثون بالشياطين وبمردة الجن ليعالجوا هذا المريض، ولن يستطيعوا أن يسلطوه على مريض أو على زوج أو على زوجة إلا بعد أن يعرفوا اسم أمه.(21/7)
أخذ بعض آثار المريض
العلامة الثانية: أنهن يأخذن أثراً من آثار المريض، إذا ذهبت إلى المطوعة، أو إلى رجل يسمى مطوعاً، أو شيخاً، أو عنده من هذه الأمور التي يلبس بها على كثير من الناس، وقال: أعطوني أثراً من آثاره، ثوباً، منديلاً، طاقية، غترة، ساعة، نعلاً، أي شيء من آثاره، إذا طلبه هذا الشيخ أو تلك المطوعة أو هؤلاء الدجالون المشعوذون، فاعلمن أنها ساحرة، وأنه ساحر، وحكم الساحر في الشرع أنه كافر بالله العظيم، وحده القتل.
أيتها الأخوات! الأمر خطير، ليس الأمر شفاء مريض فحسب، الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) تعلمن ما معنى كفر؟ معناها: أن الصلوات، وصيام رمضان، وقراءة القرآن، والصدقات كلها صارت هباءً منثوراً.(21/8)
أمر المريض بذبح حيوان موصوف
العلامة الثالثة: من علاماتهن: بعضهن يطلبن من المريض حيواناً، شاة، أو دجاجة، أو ناقة، لونها كذا، تذبح بغير أن يذكر عليها اسم الله، ثم تدفن في مكان كذا، أو ترمى في مزبلة كذا، أو في تلك الخربة، أو في ذلك المكان، أو عند غروب الشمس، أو عند شروق الشمس، صفة معينة يذبح بها هذه الشاة، شكلها كذا وصفتها كذا، بشرط ألاَّ يذكر عليها اسم الله، هذه إذا سمعتنها من امرأة أو رجل، فاعلمن أيتها الأخوات أنهم مشعوذون دجالون.(21/9)
قراءة آيات ثم إلحاقها بتمتمات وطلاسم
العلامة الرابعة: يبدءون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، والفاتحة، ويقرءون بعض الآيات ثم يتمتمون ببعض الطلاسم، وهذه من علاماتهم، وهم يستغيثون بشياطين من الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6].
بعض الناس من العوام الجهلة، يسمون هؤلاء الجن أجاويد أو أجواد، وبعضهم عير ذلك، وهذا من الجهل والبعد عن شريعة الله جل وعلا، ولو كانت تقرأ القرآن لسمعت قوله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6].
كان هذا فعل الجاهلية، فعل الكفار، يستغيثون ويطلبون الإعانة والاستعانة من الجن.
والمصيبة كل المصيبة أنه يلبس على الناس أن أسماءهم مطاوعة وشيوخ، وأنهم أهل دين، وأنهم أهل قرآن، بعضهم يعلق المصحف أو أنه يعلق بعض الآيات في بيته، وكل هذا دجل، وكذب وضحك على الذقون.(21/10)
كتابة الطلاسم
العلامة الخامسة من علاماتهم: أن بعضهم يأمر المريض أن يأخذ بعض الأوراق، مكتوبة فيها طلاسم، مربعات أرقام حروف.
تكتب الآيات في الأعلى والأسفل وفي اليمين والشمال لكن في وسط الورقة طلاسم، وكلمات غير مفهومة، كلمات تضحكين عليها، حروف وأرقام، وهو كفر بالله، واستغاثة بالشياطين، هذه استعاذة واستعانة بغير الله جل وعلا، والله عز وجل أمرنا ألا نستعين إلا به: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
بعضهم يقول للمريض: اجلس في غرفة مظلمة، لا يدخل عليك فيها أحد فترة معينة من الزمن، أياماً معدودة، هذه من علامات بعضهم.
وبعضهم يطلب من المريض ألا يمس الماء مدة من الزمن، لا يغتسل ولا يتوضأ.
وبعضهم يعطي المريض أشياء يقول: هذه خذها وادفنها في أرض كذا وكذا.
وبعضهم يعطي المريض أوراقاً يقول: هذه احرقها وتبخر بها، وبخر البيت، وبخر الغرفة كل يوم بها.
هذه كلها من علامات الدجالين المشعوذين، وبعضهم يتمتم بكلام غير معروف.
وبعض الساحرين والساحرات يخبر المريض أول ما يدخل يقول: أنت فيك كذا، ومبتلى بكذا، ووقع لك كذا، وسقطت في الحمام، وأتاك فلان، وترى في المنام كذا، وما يدريك؟ إنه يدعي علم الغيب؟ لا.
هو يستعين بالجن والشياطين، ليعلموه هذه الأمور.
أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! بيوت المسلمين والمسلمات ممنوع عليها أن تدخلها أولئك الساحرات، لأن الله جل وعلا يقول عنهم: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
كيف نتصرف معهن؟ نطردهن، نفضحهن، نمنعهن، نحاربهن في كل مجلس، تعلمن عن أم فلان؟ تعلمن عن فلانة المطوعة؟ ألا تعلمن أنها تفعل كذا وكذا؟ هي مشعوذة، هي ساحرة، هي دجالة، ولا تخافي إلا من الله، لأن الله يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51].(21/11)
واجب المرأة في التربية والدعوة
أختي الكريمة: اجلسي في البيت، هل تعودت يوماً من الأيام أن تجلسي مع ابنك الصغير الذي عمره ست أو سبع سنوات تعلميه كتاب الله؟ هل جربت أن تجلسي مع البنت الصغيرة وتقرئي عليها الفاتحة، وتقرأ معك الفاتحة، والمعوذتين، وسورة الإخلاص، وإنا أعطيناك الكوثر؟
تعلمين الصبي الصغير كيف يتوضأ، والبنت الصغيرة تربينها منذ الصغر على العفاف والحياء، والحشمة، تعلمينها ولو كان عمرها ست أو سبع سنوات، أنها لا تخرج إلا متحجبة متعففة، لا تقلد الغرب، لا تقلد أولئك الكافرات، هل جربت أن تصلحي البيت؟
ما بال البيت أختي الكريمة لا نسمع فيه القرآن؟ ولا يتلى فيه كتاب الله جل وعلا، ما الذي جرى في البيت؟ بيوت الصالحات السابقات، إذا دخلت البيت ترينها آخر الليل الزوجة والزوج يقومان الليل، فإذا أذن الفجر استيقظ أهل البيت -كل من بلغ سبع سنوات- ليصلوا الفجر، ما بالنا في بيوتنا أختي الكريمة لا نرى في صلاة الفجر ضوء يضاء، ولا ناراً تشعل، ولا سراجاً يضيء؟ ما لنا أختي الكريمة! نرى البيوت لا تستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، بيوت نسأل الله العافية، أزال الله عنها البركة؟
أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! أراك تذهبين إلى المدرسة، وتخالطين الفتيات، وتجلسين مع بعض المتبرجات، ما أراك تتكلمين بكلمة، أو تهديهن شريطاً أو كتيباً أو تنصحينهن بنصيحة؟! ألم تسمعي قول الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108].
أينما كنت أيتها الأخت الكريمة؛ في المدرسة، والبيت، والشارع، والسوق، والوظيفة، أنت داعية إلى الله جل وعلا، لا فرق بين الرجل والمرأة.
المرأة تدعو النساء، والرجل يدعو الرجال في الفصل، وإذا خرجتن من المدرسة، إذا جلست بين الحصص تجلسين مع فلانة، تقولين لها: اسمعي هذا الشريط لعل الله أن ينفعك به، فلانة! ما رأيك بهذا الكتيب هو هدية مني إليك، فلانة! عندنا مجلس للذكر، نجتمع فيه عند بيت فلانة، نستمع إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، نتدارس القرآن، نتعلم بعض الخير، ما رأيك أن تأتي إلينا إلى هذا المجلس؟ فلانة ما لي أراك لا تتحجبين، ألا تخافين من نار الله جل وعلا؟ ألا تخشين عقوبة الله؟ ألا تعلمين أن المتبرجة لا تدخل الجنة، ولا تجد رائحة الجنة؟
أختي الكريمة: عندما تذهبين إلى الأسواق، مالي أرى حالك كحال كثير من النساء، لا تبالي بحلال أو حرام، تخرج متعطرة، متبرجة، متزينة، وكأنها تقول للرجال: انظروا إلى هذا الجمال، وانظروا إلى هذا الوجه، ومن منكم يتبعني؟ ومن منكم يلحقني؟(21/12)
التنبيه على بعض المنكرات في الأسواق
أختي الكريمة: دورنا في الأسواق:
أولاً: لا نخرج إلى الأسواق إلا متحجبات، محتشمات، متسترات، متعففات، بعض الأسواق لا يجوز لنا أن ندخلها، لأنها مريبة، بعض الأسواق فيها شبه، بعض الأسواق أيتها الأخت والله لو كنت صالحة عفيفة، لا يصلح أن تدخلي تلك الأسواق ولو كانت الحاجة ما كانت، الحمد لله لن تموتي من الجوع، الحمد لله أنت عندك ملابس تسترين بها العورات، ولا ينقصك شيء.
بعض الأسواق أيتها الأخت الكريمة -وأنت تعلمين عنها- لا تسلم منها حتى الصالحات، ما نذهب إليها إلا لعلة إذا كان عندنا محرم.
أختي الكريمة: بعض المحلات لا بد أن نقاطعها، نقاطع هذه المحلات التي تبيع أشرطة للأغاني، ومجلات خليعة، وملابس فاضحة، وتعلق بعض الصور التي هي أشبه ما تكون للنساء العاريات، هذه المحلات نقاطعها، وتلك المحلات نهجرها، بل نأمر الناس بحربها وبتركها، أيتها الأخت، هذه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مالي أراك أيها الأخت إذا ذهبت إلى السوق تكلمين البائع أو أخوك، وكأنه زوجك، تضحكين معه، وتتلطفين في العبارة معه، والله جل وعلا يقول لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن أشرف النساء على وجه الأرض: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] المرأة لا تتلين في الكلام، ولا تتميع في الحديث مع البائعين، والتجار، والمارين، بل بعضهن أعاذنا الله وإياكن من هذا، إذا رفعت سماعة الهاتف، وكأنها في الحديث تتميع وتتلين، وتخضع بالقول، كأنها تقول لهذا الرجل: هيت لك، أعوذ بالله من تلك الأساليب.
بل إن بعض الصالحات، وكما حدثنا عنهن -ثبتهن الله- كانت إحداهن تدرس في كلية الشريعة وتدرس مادة القرآن على شيخ صالح، وهذه المادة فيها اختبار شفوي، وعليها درجات، هذه المرأة المتسترة صاحبة العفاف والحياء، تقول: تنازلت عن هذا الاختبار، وضحيت بتلك الدرجات وأخذت في الاختبار صفراً تقول: لا أريد أن يسمع رجل صوتي، لا أريد أن يسمع رجل صوتي.
نساء المسلمين في الأسواق نسمع أصواتهن من خارج المحلات يضاحكن البائعين، وكأنهم أزواج لهن، وكأنهم إخوان لهن، إذا دخلت المحل أزالت الحجاب، تقول: حتى أرى البضاعة.
أختي الكريمة: إذا كان هذا حالنا فلنعلم بأن الله عز وجل سوف يؤاخذنا بما نفعل، ولعل العقوبة تكون في الدنيا قبل الآخرة.
أختي الكريمة: إذا ذهبت إلى الأسواق، مالي أراك تشترين من الحلال والحرام؟ مجلات خليعة ما أنزل الله بها من سلطان، ادخلي المكتبات والجمعيات ماذا ترين فيها؟ مجلات تدعو إلى الجنس والشهوة، افتحيها ماذا فيها؟ فيها أخبار ممثلين وممثلات، ومسلسلات وأفلام، ودعوة إلى الفحش والدعارة، وبعض القصص الغرامية، تأتين بالمجلة، أولاً: حرام عليك أن تقرئي هذه المجلات، ثانياً: لو أتيت بهذه المجلة ورميت بها في البيت من يقرأ هذه المجلة؟
أيتها الأم! أيتها الزوجة! لنكن صادقين، إذا الزوج فتح المجلة، ونظر إلى تلك الصورة الجميلة، أتعرفين ماذا سوف يفعل؟ سوف يستقبح صورتك، وسوف يكره منظرك، لأنه نظر إلى صورة أجمل من صورتك، إذا شاهد تلك المسلسلات، ونظر إلى تلك الصور الابن المراهق، تعلمن أيتها الأخوات ماذا سوف يحدث؟!(21/13)
الانتباه للأطفال وصونهم من الانحلال
الآن في هذا المجتمع، وفي هذه البلد نسأل الله أن يعافينا، يقول لي أحد الإخوة: أن بعض صغار السن، ما تجاوز اثنتي عشرة سنة، تعلمن ماذا يفعل؟ يتعاطون المخدرات، من التي ربته؟ ومن الذي رباه؟ ومن أي بيت تخرج؟ وما قرأ؟ وكيف رضع؟ وأين عاش هذا الشاب؟
هذا أمه منذ الصغر ما كانت تعرفه، ما كان يعرف إلا هذه الخادمة وذلك السائق، ثم لما كبر شيئاً ما، خرج من البيت لا يأتي إلا في منتصف الليل، أين الأم؟ مع سماعة الهاتف، أو أمام المسلسل، أو تقلب المجلات إلى منتصف الليل، وجاء إلى غرفة المجلس رأى تلك المجلات، وهذه الأفلام والأشرطة، فأخذها وذهب إلى الغرفة وأغلق على نفسه الباب، ليكمل مسيرة الفساد، والذي أفسده؟ الأم والأب: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).(21/14)
واجب المرأة تجاه منكرات الأعراس
أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! تستطيعين أن تغيري شيئاً كبيراً في هذا المجتمع، ولك دور عظيم، تستطيع هذه المرأة أن تغير كثيراً من مراسيم الزواج، ومن العادات البالية، ومن التقاليد التي عفا عليها الدهر وهي مخالفة لشرع الله، وإليك بعض الأمور التي أنت أيتها الأخت تستطيعين أن تغيريها بإرادتك، وباستطاعتك، وبالوقفة الصادقة من النساء الصالحات يستطعن أن يغيرن هذه العادات الدخيلة على عاداتنا، وعلى مجتمعاتنا، وأقصد مجتمعات المسلمين، ومجتمعات الصالحين.
أولاً: المرأة في هذا الزمن -إلا من رحم الله- لا تبحث عن رجل صالح، بل تبحث عن رجل وسيم، صاحب سيارة ضخمة، وصاحب منصب، وصاحب رفعة، واسمه كذا، ومن القبيلة الفلانية، هذا الذي تبحث عنه كثير من المسلمات، هداهن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
غلاء المهور: بعض المسلمات يفتخرن على غيرهن، تقول: كم مهرك؟ أنا مهري خمسة آلاف فقط!!! فتجيبها خمسة آلف يا مسكينة! أنا مهري سبعة آلاف، وما تدري هذه الجاهلة أن المهر كلما زاد كلما قلت بركة المرأة، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أقلهن مؤنة -أي مهراً- أكثرهن بركة) يعني: التي مهرها عشرة دنانير أعظم بركة من التي مهرها ألف دينار، والتي مهرها ألف دينار أعظم بركة من التي مهرها ألفين، ما بالك بالتي مهرها سبعة آلاف أو ثمانية آلاف دينار، أين البركة فيها؟! لعلك تقولين: أنا مجبورة، وأنا مقيدة بالعادات.
أقول لك يا أمة الله: قوليها صريحة: بأنني لا أريد إلا ما أجهز به نفسي للعرس، ولا أظن أن امرأة تريد أكثر من ألف دينار لتجهز نفسها، ولكنها العادات، نسأل الله عز وجل أن يعافينا منها، والله جل وعلا يقول: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27].
في بعض عادات النساء في الأفراح تسمع أصوات الغناء، والدفوف، والطار، وبعض المعازف والأغاني تخرج خارج الصالات، وخارج البيوت مكبرات ليسمع تلك الأصوات كل من مر عند البيت، وكل الجيران، وهذا حرام، فالذي أباحه لنا الشرع دف تضربه بعض الجواري بينهن ولا يسمعهن الرجال، ومعه كلمات لا تشتمل على فحش ولا على بذاءة ولا على سب ولا ما يخالف الدين، وكلام بسيط، وذلك الدف بغير معازف ولا أغاني هذا الذي أباحه لنا الشرع في العرس.
ثم أختي الكريمة: بعض الأعراس يكون فيها السهر، حتى إن بعض النساء تخرج في الساعة الثانية عشرة، أو الواحدة ليلاً، فتذهب لتنام وتترك صلاة الفجر.
وما يحدث في كثير من الأعراس من تبرج واختلاط، حتى إن بعض الرجال يدخل صالة الأفراح، ومن الذي أباح للزوج أن يدخل في الصالة يأخذ زوجته يقول: هذه عادة؛ لكن يدخل في الصالة ويجلس مع الزوجة أمام النساء ليتمتع برؤية الوجوه، ليرى نساء جميلات وإذا نظر إلى زوجته عافها واستقبحها وكره منظرها، لأنه رأى خمسمائة أو أربعمائة امرأة كل واحدة أجمل من الأخرى، من الذي أباح له أن يدخل؟ ومن الذي سمح له أن يدخل على النساء؟ هل هو رجل أم امرأة؟ فإن كان رجلاً فلنحترم أنفسنا ولنعظم شرعنا، بأنه لا يجوز له أن يدخل كما قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، قال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت، الحمو الموت).
أختي الكريمة: يا صانعة الأجيال! كما قلت لك: إن الفساد كثير، والمنكرات كثيرة، فلنخرج من هذه الصالة كل واحدة منا بيدها وفي لسانها وبجهدها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تدخل في البيت تفتش، تذهب إلى المدرسة تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر، وفي الوظيفة، وفي كل مكان بالضوابط الشرعية بينها وبين النساء، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وقائدنا وشعارنا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88].
أسأل الله العلي القدير أن ينفعنا بما سمعنا، هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(21/15)
صفات المنافقين
إن النفاق داء عضال قد انتشر في هذه الأمة، وقد بين الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام صفات المنافقين للحذر منها والابتعاد عنها؛ لأن النفاق خطر يوشك أن يخرج صاحبه من الدين إن كان نفاقاً أصغر، وإن كان نفاقاً أكبر فإنه يخرج صاحبه من الملة بالكلية.(22/1)
حقيقة المنافقين
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: إن مما ابتلى الله عز وجل به هذه الأمة: أن جعل بين صفوفها صنفاً من الناس لا تعرفهم، يتكلمون بألسنتنا ويدَّعون ويظهرون الإسلام والإيمان، ولكنهم في حقيقتهم كفار، يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، يصلون مع المؤمنين، ويصومون معهم، ويحجون معهم، ويجاهدون معهم، لكنهم كفروا بالله العظيم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
إنها فتنة عظيمة في هذه الأمة، وبلاء عريض قد انتشر فيها، وهذه من حكمة الله جلَّ وعلا، أن يبتلي المؤمن فيراه يصبر أو لا يصبر، ويراه ينخدع بهم أو لا ينخدع بهم، ولم يترك الله عز وجل هذه الأمة إلا وقد بين لهم صفات هؤلاء المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30].
وقد ذكر الله عز وجل كثيراً من صفاتهم؛ بل جعل لهم سورة كاملة سماها باسمهم، وجعل أغلب سورة براءة وسورة التوبة في التحذير منهم وفي بيان صفاتهم، فاسمع رعاك الله إلى بعض أوصاف هؤلاء المنافقين، ولا تعجب إن رأيت بعضهم يصلي، وإن سمعت بعضهم ينطق الشهادتين، وإن علمت أن بعضهم يحج إلى بيت الله الحرام، فهو وإن كان هذا ظاهره؛ فباطنه الكفر بالله العظيم.(22/2)
صفات المنافقين
اسمع إلى بعض صفاتهم، واعلم أن النفاق نوعان:
نفاق عملي لا يخرج صاحبه من الملة، ولكن صاحبه على خطر يوشك أن يخرج من هذا الدين.
ونفاق آخر أكبر اعتقادي يخرج صاحبه من الملة: وهو ما يبطن به الكفر ويظهر به الإيمان.
وكلاهما لهما أوصاف، فاسمع إلى هذه الأوصاف حتى تتبرأ أنت منها يا عبد الله أولاً! ثانياً: إن رأيت هذه الأوصاف قد اجتمعت في رجل يحارب الله ورسوله، فاعلم -وإن تظاهر بالإيمان- بأنه منافق، فاحذره يا عبد الله!(22/3)
الكسل في العبادات
أول صفة من صفات المنافقين: أنهم كسالى في العبادات.
إذا قام إلى صلاة، أو إلى ذكر، أو إلى دعوة إلى الله، أو إلى جهاد في سبيل الله، فهو لا يقوم لها إلا بكسل وعجز، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
بل كثير منهم يتخلفون حتى عن صلاة الجماعة، كما قال ابن مسعود عنهم: [ولقد رأيتنا لا يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق] أي: قد علمنا نفاقه، هذا إن كان تخلفه بغير عذر من الأعذار الشرعية.(22/4)
لمز المطوعين من المؤمنين
أيضاً -أيها الإخوة- من علامات هؤلاء المنافقين، واسمعها يا رعاك الله! فإنهم كثر لا كثرهم الله، بل منهم من يتقلد المناصب، ومنهم من يكثر كتابته في الجرائد، ومنهم من يطلق لنفسه العنان في المؤتمرات والمجتمعات، يتكلم باسم الله ويختم بحمد لله، ويصلي على رسول الله وهو من أعداء الله، من صفاتهم: لمز المطَّوِّعين من المؤمنين.
يلمز الصالحين، ويستهزئ بالمتدينين في كتاباته ومقالاته، ومجالسه، وأحاديثه، كلما استهزأ فإنه لا يستهزئ إلا بالصالحين، لسانه قد برئ من الوقيعة في الكفر وأهله، لا يتكلم على النصارى، ولا يطعن في اليهود، ولا يطعن في العلمانيين، إنما كلامه واستهزاؤه وهمزه ولمزه بالمتدينين، قال الله جلَّ وعلا عنهم، وفضحهم في سورة الفاضحة: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
بل لعلَّ بعضهم قاتلهم الله، يكتب مقالات طويلة عريضة كلها في سب الصالحين، وفي الوقيعة في أعراض المتدينين، لا همَّ ولا حرب له إلاَّ هؤلاء، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون.
وصفهم الله في وصف آخر وأخبر عن ألسنتهم، قال الله جلَّ وعلا: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] ألسنة كأنها السيوف على الصالحين، حتى جاء أحدهم إلى ابن المبارك، وقد وقع في أعراض المتدينين، أو أحد العلماء الصالحين، فقال له: غزوت فارس، قال: لا، قال: غزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك فارس والروم ولم يسلم منك المؤمنون.(22/5)
الاستهزاء بالقرآن والسنة
أيضاً من صفاتهم يا عباد الله: أنهم يستهزئون بالقرآن، ويسخرون من السنة؛ بل يضحكون حتى على أفضل هذه الأمة محمد عليه الصلاة والسلام، سيد الناس ولا فخر، يتكلمون عليه وعلى سنته؛ بل بعضهم تجده في الجرائد والمجالس والمجتمعات يستهزئ بسنته عليه الصلاة والسلام: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
وكم رأينا وسمعنا من أناس يدَّعون الإسلام -عافنا الله وإياكم من هذا- يستهزئ ببعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة ويسخر منها؛ بل إن بعضهم قرأت له مقالاً -أسأل الله لنا وله الهداية- يستهزئ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل بعضهم يخبر أن سنته قد بليت وانتهى وقتها وعفا عليها الدهر، وأن هذا القرآن لا يصلح لهذا الزمن، وأن الرجوع إلى أحكامه وإلى شريعته عليه الصلاة والسلام إنما هو رجوع إلى الخلف وإلى الوراء، وإلى عصور الظلام قاتلهم الله أنَّى يؤفكون.
استهزاءً به عليه الصلاة والسلام وبدينه وبقرآنه وبشريعته عليه الصلاة والسلام: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وإذا رأيته في مقالاته تجده -هذا المنافق- أشد أعدائه هو صاحب اللحية، وصاحب الثياب القصيرة، فتجده يصدر مثقالاً يقول فيه: وجدت صاحب لحية كثيفة يقول: كذا وكذا، ثم يكيل عليه التهم والسباب والشتائم، وما شأن لحيته بهذا.
وإذا بدأ مقالته أو مجلسه أو كلامه فإن أول ما يبدأ به وصف سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: دخل عليّ شاب ثيابه قصيرة فقال: كذا وكذا، وما شأن ثيابه القصيرة بكلامه يا منافق! يا عدو الله!
تجده في المجالس إذا تكلم، فبحكم من أحكام الله، وإذا سب فهي آية من آيات الله، وإذا استهزأ فهو على شرع من شريعة الله جلَّ وعلا؛ يظهر الإيمان ولكنه يبطن الكفر (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها).(22/6)
التخذيل والإرجاف
وأيضاً من أوصافهم قاتلهم الله: التخذيل والإرجاف.
كلما أراد المؤمنون أن ينصروا الله خذلوهم، وكلما أرادوا أن يقيموا شرع الله أرجفوا بينهم.
تجدهم يقفون عند أبوابهم، وفي طرقات الناس ومسالكهم، فإذا أرادوا أن يذهبوا إلى الجهاد قالوا: لما تذهبون إلى الجهاد؟ إن أعداء الله أقوياء وإنكم لا تستطيعون عليهم، أتذهبون إلى الموت والقتل؟ ما الذي يجعلكم تفعلون هذا؟ أنتم ضعاف لا قوة لكم ولا شأن: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81 - 82].
كانوا يقفون عند أبواب المدينة لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أن يذهبوا إلى الجهاد، ووقفوا في طريقهم عقبات، فأخذوا يخذلون ويرجفون، فيقولون: ما الذي يخرجكم؟ فإن الحر شديد، وإن الأمر صعب، وإن الأعداء أقوياء، فما الذي يخرجكم في هذا الحر؟ فرد الله عليهم فقال: {قل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] لا يفقه المنافقون هذا! والكفار لا يعلمون هذا؛ لا يعلمون أن النار هي نار جهنم، ولكنهم لا يفقهون.(22/7)
الاعتراض على قدر الله
وأيضاً يا أيها الإخوة من أوصافهم: الاعتراض على قدر الله.
وكلما نزلت مصيبة، أصابهم الجزع والهلع، وكلما نزلت كارثة أخذوا ينسبونها إلى الأسباب ولا يرجعونها إلى الله جل وعلا، فلما مات بعض الصحابة في غزوة أحد، وقتل منهم من قتل، وجرح منهم من جرح، أخذوا يضحكون عليهم ويعترضون على القدر، فقال الله عنهم: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] لو جلسوا معنا وما ذهبوا إلى الجهاد ما ماتوا وما قتلوا، كما يقول بعض الأعداء -قاتلهم الله-: لو لم يذهب إلى الجهاد، لو لم يقم لله جل وعلا آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما أصابته مصيبة، وما نزلت عليهم هذه المصيبة.
ولهذا إذا أصاب أحدهم منهم موت عزيز أو قريب أو حبيب؛ يصيبه الجزع والهلع، تجده متضايقاً يرد أمر الله وقدره؛ بل سمعنا عن بعضهم في هذا الزمان -وليس كل هذه الأوصاف دليل على النفاق الأكبر، فلربما يكون نفاقاً أصغر- يعترض على قدر الله في الإنجاب، فإذا جاءته بنت اعترض على القدر وتضايق، وإن جاءه ولد فرح؛ بل إن بعضهم هداه الله يشترط على زوجته إن أنجبت بنتاً فإنه يطلقها، وإن أنجبت ولداً فإنه سوف يبقيها في ذمته، وسمعنا عن هذا من بعض الناس، إما أنه يدل على جهل في أمر دينهم، أو ضعف إيمان، أو نفاق عافنا الله من هذا.(22/8)
الإفساد في الأرض
أيضاً من علاماتهم: أنهم يفسدون، وإذا أنكرت عليهم قالوا: إنما نحن مصلحون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12].
بل يتكلم بأنه الذي يريد الإصلاح لهذه الأمة، وهو يخاف عليها من الفتن، ومن الظلام، ويريد منها أن ترجع إلى الوراء، ويخاف عليها من هؤلاء المتدينين، وهو الذي يريد بهذه الأمة الفساد، وإذا تكلم أحسن الكلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]؛ بل لعله يُصدِّر كلامه بالآية وبالحديث وبسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:205 - 206].
فهو الذي ينشر الفاحشة في الذين آمنوا، وهو الذي يثير بينهم الفساد والفتن، وهو الذي يبث بينهم السموم، ولكنه إذا تكلم ونطق يقول: أنا المصلح الأمين لهذه الأمة، أنا الذي أريد لها الخير، أنا أخاف عليها من الضياع، أنا أخاف على دينها، كما قال قائده الأول وزعيمه الأكبر فرعون عليه لعنة الله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] واعجباً من فرعون! يقوم في الناس يقول: أخاف على دينكم، وأخاف أن ينشر بينكم موسى الفساد، أفيخاف فرعون على الناس من الفساد؟! تشابهت قلوبهم، والله يعلم ما يخفون في صدورهم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
أقول هذا القول وأستغفر الله.(22/9)
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: إن أوصافهم كثيرة، وكل هذه الأوصاف ذكرها الله عز وجل ليفضحهم، وليخرج ما في قلوبهم، وليشهد عليهم الناس، فاسمعوا -أيضاً- إلى بعض منها في هذه الخطبة:
من أوصافهم: أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
فهم يأمرون بالفاحشة، وبالتبرج للنساء، ويأمرون بالزنا ومقدمات الزنا، ويأمرون بالخمور، وينهون الناس عن الصلاة وعن القرآن وعن الحكم بشريعة الرحمن: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:67 - 68].
إن جاءتهم وليمة، أو دعا ضيوفاً له وأقرباء؛ فإنه يذبح لهم ما يذبح من الولائم، ولعلها تبلغ السبعين وليمة وهم سبعة أشخاص، فإذا وجاء وقت طاعة الله والإنفاق للجهاد في سبيل الله ولمشاريع الخير {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] يقبضون أيديهم إذا كان لله، فلا يخرج شيئاً من جيبه، أما لنفسه ولسمعته ولدنياه فإنه يخرج كل ما في جيبه؛ بل يستدين لهذا، أما لله فلا.(22/10)
التربص بالمؤمنين
أيضاً من صفاتهم يا عباد الله: أنهم يتربصون بالمؤمنين.
فإن نزلت بالمؤمنين كارثة، أو أصيبوا بهزيمة، أو سحقهم الكفار، فرحوا وطربوا وأخذوا يغنون في المجالس ويتذاكرون ويفرحون بمصيبة المؤمنين، أما إن أصاب المؤمنين نصر، ونصرهم الله بين الناس، تضايقوا وحزنوا، كما قال الله عنهم: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
وهاهم يتربصون بالمؤمنين في كل زمان ومكان، فإن أصاب المؤمنين نصر أو فوز فإنهم يكيلون لهم التهم والشتائم، وأنهم يريدون الملك، وأنهم يريدون الدنيا، وأنهم عملاء لأعداء الله، وأنهم يريدون كذا وكذا، وإذا أصابتهم هزيمة قالوا: انظروا إليهم، إن دعوتهم لباطلة، وإن دينهم على غير الحق، كل هذا كفر بالله وبرسوله.(22/11)
التشدق والتفيهق والتكلم بالدين بغير علم
يتكلم وكأنه أحد الفقهاء والأئمة الأربعة، وهو لا يفقه من الدين شيئاً، يتكلم بجزئيات في الشريعة، إذا سمعته تظنه إمام المسلمين، وهو العالم المفوه، وهو العلامة الذي ليس بعده ولا قبله، وإذا سألته لتجدنه أجهل الناس، كما قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ولكنهم في الحقيقة كما قال الله جل وعلا: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].
يتعلم جزئيات من التاريخ، وبعض الشبه في الدين، لينشرها كأنه يتكلم باسم إمام المسلمين، وسله عن أبسط مقدمات المسلمين، وأصول هذه الملة، ستجده جاهل بها لا يعرف حقيقتها.
أيها الإخوة: هذه بعض من صفات المنافقين، الذين قد نجدهم بين أظهرنا، ونجدهم يجلسون بيننا؛ بل بعضهم يتسمى باسم عبد الله ومحمد وأحمد وعبد الرحمن، ولكنه عدو للرحمن ولي للشيطان.
أيها الإخوة: هذه حقيقة لا يجوز أن ننكرها؛ وهي أن المنافقين في هذه الأمة باقون إلى قيام الساعة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولعلهم يصلون بيننا؛ بل بعضهم يصلي حتى الفجر، ولكنه في قلبه عدو لله ولرسوله.
فنسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم من النفاق وأهله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
أقول هذا القول وأقم الصلاة.(22/12)
صفة التثبت
التثبت خلق عظيم يجب أن يتحلى به المرء يوم أن فقده كثير من الناس اليوم إلا من رحم الله، وإن عدم التثبت في الأخبار له الأثر الكبير في تفرقة الإخوان وتدمير الأسر والبيوت، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في أمر بني سلمة، وعبد الله بن عمرو وماعز وكذا في حادثة الإفك.(23/1)
أهمية التثبت والتبين في واقع الناس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! نتابع ما ذكرناه في الخطبة الماضية حيث ذكرنا أدباً وخلقاً عظيماً، وهذا الخلق هو العدل والإنصاف بين الناس، وأن يتحلى الداعية إلى الله وطالب العلم والأخ مع أخيه بخلق العدل والإنصاف، وأن ينتهي عن خلق الجور والظلم الذي أصيب به كثير من الناس، فأصبحوا لا يرون إلا بعين واحدة، هي عين الإساءة، وعين العيوب، ولا يرون بغيرها، حتى قال بعضهم: "لو أصبت تسعة وتسعين مرة، وأخطأت واحدة، لعدوا عليّ خطئي" أي: نسوا فضائلي ومحاسني وما تذكروا إلا الأخطاء.
واليوم نتكلم عن خلق آخر يجب أن يتحلى به جميع الناس، بل أمرنا الله جل وعلا به، والله جل وعلا لا يأمر إلا بخير، وهذا الخلق كان لتركه أثر في طلاق كثير من الناس لنسائهم، وكان له سبب في افتراق كثير من الإخوان عن إخوانهم، وتدمير كثير من أعمال الخير.
فلو تحلينا بهذه الصفة لاستمر هذا الخير، هذه الصفة من أعظم الصفات التي لا يتحلى بها إلا من أطاع أوامر الله جل وعلا، واسمعها -يا عبد الله- وحاول أن تتخلق بها، وهي صفة (التثبت والتبين).
عبد الله! كم وكم من الناس قيل له: فلان قال: كذا فلان يقول: كذا.
فيقول: عليه من الله ما يستحق، هو الذي فيه كذا وكذا، ولو أنه تثبت وتبين لعلم أن فلاناً ما قالها، أو قالها وما أراد كذا، أو قالها في سياق كذا وكذا، ولكنه وللأسف! العجلة التي هي من الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (التأني من الرحمن، والعجلة من الشيطان).(23/2)
حث القرآن الكريم على التثبت والتبين
اسمع إلى قول الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] من المخاطبون؟
إنهم المؤمنون إنهم الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، الذين يؤمنون أن لهم موقفاً بين يدي الله جل وعلا فيحاسبهم على كل كلمة قالوها.
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وعامة قراءة أهل المدينة (فتثبتوا) لمَ يا رب نتبين؟
لمَ نتمهل ونتثبت من الكلام؟
قال: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] كم وكم أصبنا قوماً بجهالة؟ وكم جاءنا إنسان فقال لنا: فلان الذي يدعو إلى الله فلان ذلك الرجل الصالح الذي يتظاهر بالصلاح فيه كذا وكذا يتعامل بالربا، وإذا بنا نتهمه ونبغضه، قال الله: (بجهالة) فهي عين الجهالة، والجهل ضد العلم، ولو تبين لعلم أنه أخطأ بالحكم عليه: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6].
ثم ماذا يحصل بعد أن تكبر الخصومة، ويظهر الحق: {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] تندم -يا عبد الله- إن لم تندم في الدنيا، فإنه سوف يصيبك الندم عند الله جل وعلا يوم القيامة، فيأتيك فلان، فيقول: يا رب! تكلم فيّ فلان، فيأتي هذا يأخذ من حسناته، وهذا يأخذ من حسناته، كيف إذا كان الأمر ليس متعلقاً بواحد، بل بمجموع كبير من الناس؟ الجماعة الفلانية فيها كذا وكذا من قال لك ذلك؟ قال لي: فلان.
هل تبينت؟ هل تثبت؟ هل جئت وسألتهم؟ لا والله، قال: فلان كذا وكذا.
ومن فلان؟ فلان رجل صالح ثقة! والله يقول: فاسق، أما فلان فليس بفاسق، رجل عدل ثقة، ولكن -يا عبد الله- من أخبرك أن هذا الثقة نقل الخبر عن ثقة مثله.(23/3)
حرص السلف الصالح على التثبت والتبين
كم وكم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أسقطها العلماء في الأحكام ولم يوردوها في الأخبار، ذلك أن أحد رجال السند لا يصلح للنقل لأنه ليس بحافظ ولا ضابط ولو كان رجلاً صالحاً، واسمع إلى أبي الزناد، يقول: "أدركت بـ المدينة مائة كلهم مأمون" أي: كلهم رجال صالحون مأمونون قال: "لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من بأهله"، أي: رجل صالح أمين تقي ورع، ولكن لا يقبل منه الحديث، لأنه ليس من أهله حيث إنه لا ينقل الحديث بالنص ولا يحفظه فكيف نأخذ منه الرواية؟
يقول وكيع بن الجراح وذكر له رجلاً من السلف، قال: "ذلك رجل صالح -وليس أي رجل- وللحديث رجال" نعم! مع أنه صالح وصاحب دين وعلم، لكن لا يؤخذ عنه الحديث، ولا أخبار الناس، ولا تقبل روايته إلا بعد أن نتبين ونتثبت، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] أي: لا تقل شيئاً ولم تتأكد وتتثبت منه، ثم يظهر لنا بعض الناس يقول: أنا لا أتكلم على أحدٍ، إذن: بهذه الطريقة لا نتهم أحداً.
أقول لك يا عبد الله: كفى بهذا الأمر شرفاً وعزاً أن تأتي عند الله -جل وعلا- ولم تحمل على ظهرك أوزاراً للناس، ولم تتكلم على أحد من البشر، إلا بعد أن تثبت وتبينت وتأكدت من الخبر.(23/4)
سليمان عليه السلام وتثبته من خبر الهدهد
واسمع -يا عبد الله- إلى هذه القصص وتلك المواقف من أفعال الأنبياء والمرسلين، كيف كانوا يتثبتون ويتبينون وإن كان الخبر من أوثق الناس؟
قال الله جل وعلا وهو يحكي قصة سليمان مع أحد جنوده، ألا وهو (الهدهد) وكان الهدهد مقرباً إلى سليمان عليه السلام، بحث عنه يوماً من الأيام فلم يجده بين الجيش تفقده فلم يجده {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] أي: لم ينتظر إلا قليلاً، فإذا بالهدهد قد قدم، فقال له الهدهد: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] يا سليمان! جئتك بعلم لم تعلمه أنت يا رسول الله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِيْن} [النمل:22] جئتك من سبأ وملكة سبأ، بخبر وأي خبر؟ قال: (بنبأ يقين)، وليس بالأمر المشكوك فيه، بل هو علم وأعلى درجات العلم.
قال: أي: أنني متيقن من الذي سوف أقوله لك، ثم قال له الخبر وقصة بلقيس مع قومها، أتعرف كيف رد سليمان عليه السلام على هذا الهدهد؟ وكيف أجابه؟ {قَالَ سَنَنْظُر} سنبحث في الأمر ونتأكد من الأمر: {قَالَ سَنَنْظُر أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت أو وهمت لعل الذي نقل لك الكلام ليس بثقة، لعل في الأمر التباس {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] وليكن هذا شعارنا بين الناس، كلما جاءنا رجل قال لنا: فلان في الدرس الفلاني قال كذا، وفلان يُتهم بكذا، لو أجبنا كل أحد بهذه الكلمة، سننظر، سنبحث، سنتأكد {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] لو كان هذا شعارنا، لانتهت أكثر الخصومات بين الناس، ولحافظ كل منا على لسانه وما يتلفظ به من قول.(23/5)
من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في التثبت والتبين(23/6)
تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من خبر بني سلمة
اسمع -يا عبد الله- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه خبر عن بني سلمة ما هذا الخبر؟
خبر ليس فيه جريمة، ولا اتهام كبير، ولكنه خبر كالأخبار وهو: أن بني سلمة سوف ينتقلون من بيوتهم؛ لأن بيوتهم بعيدة عن المسجد، فيشترون بدلها بيوتاً بالقرب من المسجد، فالأمر عادي، والخبر خفيف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم على أناس ولا ينصحهم من ورائهم إلا بعد أن يتثبت، فجاءهم فقال: (يا بني سلمة! إنه بلغني أنكم سوف تنتقلون قرب المسجد) يريد أن يتأكد هل هذا الأمر صحيح؟ وهل هذا الخبر أكيد؟ ومن الذي نقله إليه؟ إنهم صحابة عدول رضي الله عنهم وأرضاهم ولكنه التثبت والخلق العظيم: (إنه قد بلغني عنكم، أنكم سوف تنتقلون قرب المسجد؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فقال: يا بني سلمة! دياركم دياركم تكتب لكم آثاركم) لم ينصحهم ولم يتكلم عليهم، ولم يوصل إليهم النصيحة من وراء أظهرهم إلا بعد أن تثبت، لأنه تمثل قول الله جل وعلا: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وفي قراءة قال: (تثبتوا) قال بعض المفسرين: "تبينوا وتثبتوا بمعنى واحد".
وقال بعضهم: تبينوا تختلف عن تثبتوا، فالتثبت يكون في الإسناد، أي: نتأكد هل قال أم لم يقل؟
وتبينوا في المعنى، أي: ماذا يريد بهذا الكلام؟ وما الذي حمله على هذا الكلام؟ فالأمر فيه معنى أوسع.(23/7)
تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من خبر عبد الله بن عمرو
واسمع -يا عبد الله- إلى عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: [والله لأقومن الليل وأصومن النهار ما عشت أبداً] أي: كل الليل أقومه، وجميع الأيام أصومها في حياتي كلها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتكلم ولم ينصح من ورائه، ولم يقل: فيه كذا وكذا، إنما ذهب إلى عبد الله بن عمرو بنفسه يتثبت، ووراءه الأمة، وعنده الجيوش، ووراءه دعوة الناس، ولكنه الخلق العظيم، قال: (يا عبد الله! أنت الذي تقول ذلك؟! -هل حقاً ما نقل عنك؟ - قال: نعم يا رسول الله! قال: إنك لم تستطع هذا)(23/8)
تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك
وما كان في حادثة الإفك من الخلق العظيم الذي تمثل به عليه الصلاة والسلام، مكث الناس شهراً كاملاً يتكلمون، والخبر منتشر، وبعض الصحابة وقع في هذا الأمر، وإذا به يسأل بريرة، وزينب ويسأل فلانة ويتأكد من فلانة ليتثبت من أمر عائشة، فإذا به عليه الصلاة والسلام يمسك لسانه، وإذا بالخبر يأتيه من السماء، إنه التثبت يا عباد الله!
إنه التبين؛ ذلك الخلق القويم الذي فقدناه في أواسط كثير من الناس، ولو كانوا صالحين أو أهل علم وعبادة، ولكنه خلق لا يتمثل به إلا قليل منهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.(23/9)
تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب بن أبي بلتعة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
عباد الله! حاطب بن أبي بلتعة، لما تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر وتثبت منه، جاء إليه فقال له: (يا حاطب) انظر إلى التبين والتثبت من الأمر بعد أن تأكد أنه قاله، وقرأ الكتاب قال: (يا حاطب! ما الذي حملك على ما صنعت؟) ما هي نيتك؟ ما هو قصدك؟ الأمر خطأ، والبدعة بدعة، ولكن باتهام الناس ما الذي حملك على ما صنعت؟ ما الذي حملك على ما قلت؟ ما الذي حملك على ما كتبت؟ ما الذي حملك على ما وزعت؟ نعم.
الخطأ يبقى خطأ، والبدعة تبقى بدعة، والمعصية تظل معصية، ولكن الحكم على الناس يحتاج إلى تبين وتثبت.
خالد بن الوليد في إحدى المعارك: فقتل رجل من المسلمين أحدَ الكفار، والسنة أنه إذا قتله فإنه يأخذ سلبه، أي: يأخذ ما معه من سلاح وما يحمل من غنيمة فيكون له، وقد دل على هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد فمنع هذا المسلم من أخذ سلب الكافر، وهذا خطأ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد، فقال له بعد أن تثبت وتأكد من الخبر، قال: (يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟) ما قصدك من هذا الذي فعلت؟ ما نيتك عندما فعلت هذا الفعل؟ فقال: يا رسول الله! قد استكثرته، أي: قد استكثرت ما معه من سلب؛ نيته وقصده أن يخفف الحكم عليه يا عباد الله!(23/10)
تثبت النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم على ماعز
أتى ماعز إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! زنيت.
ما أعظم هذا التدين، وما أكبر من هذا التثبت، صاحب الخطأ يأتيك فيقول: فعلت كذا وكذا، فيتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى قومه، فيقول: أبه جنون؟ أفي عقله شيء؟ هل تشكون من أمره شيئاً؟ تثبت وأي تثبت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] تبينوا تمهلوا، يا عبد الله! إياك إياك كلما سمعت فلاناً ولو كان تقياً، ولو كان ورعاً، ولو كان صاحب عبادة، قال في فلان كذا، إياك أن تتعجل، فإن العجلة من الشيطان، قال الحسن البصري عليه رحمة الله: [المؤمن وقافٌ حتى يتبين] لا يلفظ لسانه شيئاً، ولا يتعجل بالحكم على الناس، ولا يتهم عباد الله الصالحين، فالمؤمن وقافٌ حتى يتبين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.(23/11)
علامات الساعة
إن من رحمة الله بنا أن جعل للساعة علامات قبل قيامها لكي نستعد لها ولأهوالها، وهذه العلامات تنقسم إلى قسمين: علامات صغرى، وعلامات كبرى.
وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة عشر علامات من علامات الساعة الصغرى، موضحاً وقوع أكثرها.(24/1)
من علامات الساعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة عشر علامات من علامات الساعة، وهذه العلامات من العلامات الصغرى، وقد كان عليه الصلاة والسلام ينبه أصحابه ويحذرهم من اقتراب الساعة، فقد كان يقول يوماً: (اعدد ستاً بين يدي الساعة) وكان يقول لغيره: إن بين يدي الساعة كذا وكذا، ويذكر لهم علامات وأشراط وأمارات تدل وتنبئ بقرب قيام الساعة.
الساعة وما أدراك ما الساعة؟! إنها الحاقة، إنها القارعة، إنها الطامة الكبرى، إنها الصاخة، إنها يوم الفصل الذي يفصل الله عز وجل فيه بين الناس.
اسمع يا عبد الله إلى هذه العشر، الأمارات والعلامات من علامات الساعة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم عن وقت قيام الساعة، بل كان يُسأل عنها فيقول: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) وسأله أحدهم فقال: (متى الساعة؟ فقال: ما أعددتَ لها؟) أي: كيف تجهزتَ لها؟! وهل استعددتَ لها بالأعمال الصالحة أم أنك تريد أن تعرف وقتها فقط؟! فالعبرة بالاستعداد لا بمعرفة الميعاد.
يا عبد الله اسمع إلى هذه العشر، ثم وأنت تسمع إلى هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم حاوِل أن تطبقها على واقعنا، ثم احكم يا عبد الله: هل هذه العشر قد وقعت؟ فإن وقعت منها علامة واحدة فاعلم أن الساعة قد اقتربت، وإن وقعت علامتان فهي أقرب، وإن كانت أكثر فالساعة قريبة يا عبد الله، فأعدد لها واستعد.(24/2)
العلامة الأولى: ذهاب الصالحين
تجد المجتمعات والبلاد يقل فيها الصالحون ويموتون ويفنَون عن الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض -أي: أن أهل الفضل والصلاح يقبضهم الله جل وعلا، يقلُّون في الناس، يصبحون معدودين على الأصابع- قال: فيبقى فيها حثالة -يعني: أراذل الناس يبقَون- لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً -ما صفة الحثالة؟ وما صفة الأراذل؟ وما صفة هؤلاء الناس الذين يبقيهم الله في الأرض؟ - قال: لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً -لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، يبقيهم الله لأنهم حثالة، أما شريطته وهم أهل الصلاح وأهل الخير، الآمرون بالمعروف فيأخذهم الله ويقبضهم) هذا الحديث رواه أحمد وإسناده صحيح.(24/3)
العلامة الثانية: ارتفاع الأسافل
تجد أسافل الناس وأراذلهم، وأقلهم ديناً يرتفعون فيملكون زمام الأمور، ويسيطرون على الناس، ويتأمَّرون عليهم، وهم في مقياس الشريعة من أراذل الناس، اسمع إلى هذا الحديث؛ يقول عليه الصلاة والسلام: (إنها ستأتي على الناس سنون خدَّاعة، يصَدَّق فيها الكاذب، ويكَذَّب فيها الصادق، يؤتَمَن فيها الخائن، ويخَوَّن فيها الأمين، وينطِقُ فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة) سفيه لا دين له ولا عقل، ولا حكمة عنده، ولكنه يُمَلَّك زمام الأمور فيتكلم في أمر العامة، ويحكمهم ويسيطر عليهم، ويدير شئونهم.
هو في دين الله سفيه، وفي شرع الله لا بد أن يُقام عليه الحد، وفي كتاب الله المفروض أنه لا يتكلم، ولكن سنون خدَّاعات، نعم والله، إنها سنون خدَّاعات يتكلم فيها الرويبضة، بل جاء في الحديث الآخر أن الناس يقولون عنه: ما أجلده -أي أنه قوي- ما أظرفه -ما شاء الله مضحك- ما أعقله -ذو حكمة وعقل- قال: وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
الرويبضة -يا عبد الله- إذا نطقوا فانتظر الساعة.
وقال في هذه العلامة عليه الصلاة والسلام: (لا تذهب الدنيا حتى تصِير لِلُكَع بن لُكَع) أي: أحمق وسفيه ومن الأراذل يملك الدنيا ويملك الناس ويدير شئونهم، وهو -كما وصفه عليه الصلاة والسلام- لُكَع بن لُكَع.
والحديث رواه أحمد، وهو في صحيح الجامع.(24/4)
العلامة الثالثة: لبس النساء للباس غير الساتر
نعم.
محتشمات وغير محتشمات، كاسيات لكنهن عاريات، اسمع إلى هذا الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على السرج -والسرج: جمع سَرْج، ما يُرْكَب به على الحصان والدابة- قال: كأشباه الرحال، ليسوا على رحال -أي: ليسوا على إبل وليسوا على فرس- يركبون رحالاً كأشباه الرحال -قال بعض العلماء: لعلها السيارات في هذا الزمان- قال: ينزلون على أبواب المساجد أي يصلون- قال: نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف) أي: رأسها -إذا شبهته- كرأس البخت، أي: الإبل العجاف الهزيلة الضعيفة، عُنُق طويل ورأس كبير، وانظر إلى شعورهن كيف ينفشنها، انظر إليهن يذهبن إلى بعض الكوافيرات وبعض الصالونات لينفشن شعورهن ليظهرن عند الرجال وفي المجتمعات عاريات، بل بعضهن لا ترضى بشعرها حتى تضع شعراً على شعرها، تسميه الباروكة، وانظر إلى كثير من الرجال، حتى جاء في بعض الألفاظ: (كأشباه الرجال) وليس كأشباه الرجال، أي: رجال وليسو برجال، قال: (كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات) ليس من قولي يا عبد الله، هذا قول رسولك عليه الصلاة والسلام، قال: (العنوهن فإنهن ملعونات) أي: العنوهن على العموم، على قول بعض أهل العلم: ولا تعيِّن اللعنة، قال: (العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدَمْن نساؤكم نساءهم، كما يخدِمَنَّكم نساءُ الأمم قبلكم) رواه أحمد، والحديث صحيح.(24/5)
العلامة الرابعة: ظهور الأخلاء ذوو الوجهين
تجد في الناس إخواناً في العلانية، يصافح بعضُهم بعضاً، ويوَدُّ بعضُهم بعضاً، فإذا خلا كل منهم إلى صاحبه وإلى نفسه لَعَن أخاه وسبه واغتابه وشتمه:-
هم على صراط واحد، وعلى عقيدة واحدة، إخوان لكن في العلانية، فإذا كانوا في السريرة رأيتهم أعداء متباغضين متلاعنين يحذر بعضُهم من بعض.
اسمع إلى هذا الحديث الموقوف، هذا الكلام الذي يرويه أمين هذه الأمة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، روى الطبراني عن محمد بن سوقة قال: أتيتُ نعيم بن أبي هند فأخرج إلي صحيفة -رسالة- فإذا فيها: [من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب سلام عليك -وجاء في هذه الصحيفة- وإنا كنا نتحدث أن أمر هذه الأمة في آخر زمانها سيرجع إلى أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة] سوف يكونون في آخر الزمان إخواناً في العلانية أمام الناس، وإذا أتيتَ إليهم منفردين فإنهم أعداء، فرد عمر بن الخطاب على هذه الرسالة يؤكد ما قالا ويصَدِّقهم على ما قالا- ولكنه يقول: [سوف يكون هذا الأمر إذا ظهر في الناس الرغبة والرهبة] أي: إذا أخذوا يرغبون في الدنيا ويرهبون منها، وأصبحت أخوتهم لأجل مصالح الدنيا.
يقول الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] اقتربت فهي قريبة، إن كان من العلامات علامة قد وقعت فهي قريبة، ما بالكم وأكثر هذه العلامات نراها بأم أعيننا قد انتشرت في هذا الزمان؟!(24/6)
العلامة الخامسة: انتشار الشرط إخوان الظلمة
سيكون في الناس أمراء وحكام، وانظروا إلى صفحات عالمنا، وانظروا إلى سلسلة تاريخنا لتروا الظالمين كيف حكموا الناس، ويكثُر عند هؤلاء الظلمة أعوان وشُرَط وخادمون، وهذه من علامة الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر الزمان شُرطة يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله -أي: يخرج أحدهم من أول النهار وهو في غضب الله، ويرجع آخر النهار وهو في سخط الله- قال: فإياك أن تكون من بطانتهم) والحديث في صحيح الجامع.
وقال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لَمْ أَرَهُما: وذكر منهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس).
اسمع إلى أحد علماء أحد هذه الأمة، وهو النووي عليه رحمة الله لَمَّا ذَكَر هذا الحديث قال: وهذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
وذلك قبل قرون عدة، فأما أصحاب السياط قال: فهم غلمان والي الشرطة -أي: رئيس الشرطة- غلمانه وحرسه هم الذين ذكرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الذي يقول عنه الإمام النووي: إنه وقع في ذلك الزمان قبل قرون عديدة.(24/7)
العلامة السادسة: انتشار الزنا في الناس
أن ينتشر الزنا، ويتنتشر أسبابه، وتنتشر دواعيه في الناس، حتى يصبح أمراً عادياً، وحتى يصبح الأمر معتاداً، أنك تفتح جريدة فتسمع عن اكتشاف شقة للدعارة، وتقرأ خبراً في اغتصاب امرأة، وتسمع إلى حديث عن فلانة كيف فُضِح أمرُها، حتى يصبح الأمر عادياً وهذه من علامات الساعة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أشراط الساعة وذكر منها: ويظهر الزنا) ويظهر، أي: ينتشر في الناس الزنا، وتشيع الفاحشة.
كيف لا يا عبد الله؟! كيف لا ينتشر وهانحن نجد في بعض الجرائد مقابلات مع ممثلات داعرات؟! فلانة كيف أصبحت نجمة؟! لأنها ظهرت عارية كما خلقها الله في أكثر من فيلم ينتشر بين الناس، أصبحت نجمة، وأصبحت بطلة.
عبد الله! هذا يُنْشَر في جرائدنا وفي صحفنا التي نشتريها ونرميها في البيت.
كيف لا ينتشر الزنا ولا يظهر وبعض الناس -هداهم الله- يأتي بعمالة من النساء يرميهن في الطرقات، يقبض عليهن الأموال للتجول والتكسب من البغاء؟! وكيف لا ينتشر الزنا يا عبد الله وصور النساء العاريات على صفحات المجلات، وعلى جدران بعض المحلات.
عبد الله! كيف لا ينتشر الزنا وهذه بعض أحوالنا؟!
قال القرطبي وهو شيخ القرطبي المفسر، قال: هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع.
يقول القرطبي: فوقعت خصوصاً في هذه الأزمان، أتعرف أي أزمان؟ في القرن السابع للهجرة، ونحن الآن في القرن الخامس عشر، هذه العلامة التي قال عنها القرطبي عليه رحمة الله: إنها وقعت كيف به لو يعيش أزماننا هذه؟! كيف به لو يتجول في أسواقنا؟! كيف به لو يمشي في مجتمعاتنا وهو ينظر إلى هذه الأحوال؟!
عباد الله! إن الله عز وجل يقول عن الساعة واقترابها: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] نعم -يا عباد الله- اقتربت وأزفت؛ ولكن هل من مستعد لها؟! وهل من متجهز لها؟!
أقول هذا القول، وأستغفر الله.(24/8)
علامات أخرى للساعة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:(24/9)
العلامة السابعة: انتشار الربا
السابعة من العلامات انتشار الربا، حتى لا تكاد تجد مكاناً إلا وفيه دار للربا، بل قال عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة يظهر الربا) أي: ينتشر الربا، وفي البخاري: (حتى تجد الرجل لا يبالي عن كسبه، هل من حلال، أو من حرام) لا يهتم، يشتري البضائع، ويشتري السيارات، ويتعامل مع الناس، ولا يبالي، هل من حلال أو من حرام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] فإن رأيت بنكاً ربوياً في أي مكان، فاعلم أن هذا علامة من علامات الساعة، واعلم أن التعامل معه يقرِّب الساعة، وأن ظهورَها في المجتمعات شرطٌ من أشراطها.(24/10)
العلامة الثامنة: انتشار المعازف واستحلالها
ومن علامات الساعة: أن تنتشر المعازف -أي: الموسيقى- وتُسْتَحل بين الناس.
وانظر إليها -يا عبد الله- في مجتمعاتنا، في المدارس، وفي بعض المستشفيات، وفي المجتمعات، حتى إنك تجد هذه المعازف لا يخلو منها بيت من بيوت المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر الزمان -واسمع إلى هذا اللفظ، قال: آخر الزمان، أي: إذا وقع فاعلم أن هذا الزمان هو آخر الزمان، والساعة قريبة- قال: خسف وقذف ومسخ) وفي حديث صحيح آخر: (أن منهم من يُمْسَخ إلى قرد، ومنهم من يُمْسَخ إلى خنزير -أجارنا الله وإياكم- قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقَيْنات) أتعرفون مَن هُنَّ القَيْنات؟ إنهن المغنيات اللواتي قد انتشرن في هذه المجتمعات، والحديث في صحيح الجامع ورواه ابن ماجة.(24/11)
العلامة التاسعة: انتشار عقوق الوالدين
أن تجد البنت تتطاول على أمها، والولد يتطاول على أمه ويعقُّها، هذه من علامات الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (سأخبرك عن أشراطها -أي: الساعة- إذا ولَدَت الأَمَةُ ربَّتَها، وفي - صحيح مسلم -: إذا ولَدَت الأَمَةُ ربَّها) أي: أن تجد البنت والولد يعقان أمهما، ويتطاولان عليها، حتى أصبحت هذه الضعيفة والمسكينة لا تستطيع أن تأمر ولدها ولا ابنتها، حتى وجد في بعض المجتمعات أن يشتكي الولد بأمه وأبيه، ويبلغ الشرطة عن أمه وأبيه، أتعرفون لِمَ يا عباد الله؟ لأنه قد منعه الحرية، في أن يعاشر النساء، وأن تخالط البنت مَن تشاء من الرجال.(24/12)
العلامة العاشرة: كثرة التجارة
من علامات الساعة -وهي الأخيرة- كثرة التجارة بين الناس، حتى يصبح أكثر الناس أهل تجارة وأهل أموال، ولا يفكرون من الصباح إلى المساء إلا بالدينار والدرهم، قال عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفُشُوُّ التجارة حتى تشارك المرأة زوجَها في التجارة) رواه أحمد، وهو صحيح، بل إن بعض الرجال يُرغِم زوجته أن تدخل معه في التجارة، ويُرْغِمها أن تشاركه في المال والدينار.
هذه -يا عبد الله- بعضٌ مِن علامات الساعة، وإلا فهي كثيرة، وما وقع منها كثير.
عبد الله: قال الله جل وعلا: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] أي: جاءت علاماتها وجاءت أماراتها، هل تنتظر -يا عبد الله- أن تقع عليك، فإنها لن تقوم إلا على شرار الخلق، وإنها إذا قامت وأنت حي -يا عبد الله- فاعلم أنه مَن تقع عليه الساعة فهو من شرار الخلق، فسَل الله عز وجل ألا تقوم وأنت حي موجود على وجه هذه البسيطة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(24/13)
فضل الصيام
إن شهر رمضان شهر عظيم ينتظره المسلمون بفارغ الصبر يعدون أيامه ولياليه عداً، ولابد لنا قبل قدوم هذا الشهر الكريم أن نتعلم أحكامه وفقهه وآدابه، وما يجب فيه وما يحرم حتى يكون صومنا صحيحاً متقبلاً.(25/1)
أصناف الناس في استقبال شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! يهل علينا بعد أيام قليلة شهر هو من أعظم الشهور في العام -شهر رمضان المبارك- هذا الشهر الذي ينتظره المسلمون بفارغ الصبر ينتظره عباد الله الصالحون، يعدون الأيام والليالي عداً، حتى إذا جاء ذلك الشهر فرحوا بقدومه، واستبشروا به، والناس في قدوم هذا الشهر أحوال وأصناف وأجناس، فمنهم: من يفرح بقدوم هذا الشهر ليروج بضاعته في هذا الشهر، فهو يفرح لا لله؛ لكنه يفرح لتجارته.
وذاك رجل آخر يفرح بقدوم هذا الشهر لتلك المسلسلات والأفلام والبرامج التي تُعرض في التلفاز، فهو يفرح؛ لكن ليس لله عزَّ وجلَّ، ولا للدين؛ لكنه يفرح لأمر في نفسه.
وآخر يفرح لأجل الليالي التي يقضيها في رمضان في لعب، ولهو، وسمر، وطرب، ومعصية لله عزَّ وجلَّ، فهو يفرح؛ لكنه خاب وخسر بهذا الفرح.
أما المؤمنون الصادقون، فإنهم يفرحون بقدوم هذا الشهر؛ لأنه شهر الرحمة وفيه ليلة خير من ألف شهر؛ لأنه شهر المغفرة.(25/2)
فضائل شهر رمضان
اعلم -يا عبد الله- أن المؤمن والعاقل منا لا يضمن نفسه أنه سوف يدرك هذا الشهر، فليكن متأهباً له فرحاً به، فلربما يؤجر بقيامه وصيامه وإن لم يأتِ عليه هذا الشهر.
هذا الشهر يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبواب الجنان):
فُتِّحَت يا عبد الله أتعرف أبواب ماذا؟!
إنها أبواب الجنان! أبوابٌ إذا فتحت خرجت رائحة من الجنة تُشَمُّ على مسيرة أربعين عاماً.
أبواب الجنان التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سوف تفتح بعد بضعة أيام، فكن مستعداً لها فلربما تُكتب من أهلها، وأنت لا تعلم.
قال: (وغُلِّقَت أبواب النيران) نعم -يا عباد الله- فالنار في شهر رمضان مغَلَّقة، بل يكتب الله عزَّ وجلَّ في كل ليلة عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة من ليالي رمضان.
فاحرص أن تكون من العتقاء من النار في شهر رمضان، (فرغم أنفه من أدرك رمضان ولم يُغفر له).
(ينادي منادٍ في رمضان: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لم يكتبه الله جلَّ وعَلا مشقة ولا تعذيباً، ولا تكليفاً فقط {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فلستم أول الأمم يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ فالأمم التي سبقتكم قد كتب عليهم الصيام، فهوِّنوا عليكم، وارفقوا بأنفسكم، واعلموا أنكم لستم أول الأمم.
قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذا هو غاية الصيام، وتلك هي أهدافها.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] بل يعينك الله جلَّ وعَلا في شهر رمضان حتى تصل إلى التقوى، فتصفد الشياطين ومردتها، وكم نسمع في شهر رمضان من مذنب أقبل على التوبة! ومن متبرجة تحجبت! ومن تارك للصلاة صلى! ومن بخيل أدى زكاة ماله! ومن مذنب بكى لله وخشع! ومن فاسق فاجر أقبل على الله بالطاعات والحسنات؟!
لِمَ يا عبد الله؟! لأنه شهر التقوى والرحمة (رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه من أدرك رمضان ولم يُغفر له) شهر الرحمات -يا عبد الله- تتنزل فيه الرحمات، وتقبل فيه الأعمال، بل من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه.
إذا فاتك هذا الفضل، أي صمتَ ولم يُغفر لك فاعلم أن (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) فإن قمت رمضان ولم يُغفر لك فالفرصة ثالثة لا تفوتك: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) ليلة القدر يا عبد الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:2 - 5].
أتعرف ما هو الصيام يا عبد الله؟!
ليس هو امتناع عن الأكل والشرب والجماع وغيره من المفطرات، بل هو شهر الصيام الذي يتلذذ به الصائمون لمن تترك طعامك وشهوتك يا عبد الله؟ لله جلَّ وعَلا، يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) من الذي أمر به؟ الله، ولمن تصوم؟ لله، ومن الذي يثيب عليه؟ الله (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
من يمنعك -يا عبد الله- إذا خلوت في بيتك بمفردك فأكلت وشربت؟! مَن عَرفك؟! ومن اطلع عليك؟! ومن الذي علم بك؟!
من الذي يمنعك عن الطعام والشراب وأنت في السر وحدك؟! إنها مراقبة الله (إلا الصوم فإنه لي) سر بين العبد وربه (وأنا أجزي به) أتعرف ما ثواب الصائم -يا عبد الله- إذا لقي الله جلَّ وعَلا؟ الناس يدخلون من أبواب الجنان إلا الصائمين، فلهم باب مخصص بهم، لا يدخله غيرهم إنه الريان، وما أدراك ما الريان! صبروا على الصيام فوفاهم الله أجورهم، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].(25/3)
الفطر في رمضان بغير عذر
كم من الناس -أعاذنا الله وإياكم- مَن يفطر في نهار رمضان بغير عذر أباح الله له فيه الفطر؟!
اسمع إلى هذا الحديث الخطير الذي يبين فيه عليه الصلاة والسلام عقوبة المفطرين في نهار رمضان، والحديث عن أبي أمامة، قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني في المنام آتيان، فأخذا بعضُدَي، ثم قالا لي: انطلق، قال: فانطلقتُ فإذا بجبل وعر، فقالا لي: اصعد، قلت: لا أطيقه، قالا: سنسهله عليك، قال: فصعدتُ، فلما كنت في سواد الجبل فإذا بأصوات شديدة، قلتُ: ما هذا؟ قالا: هذا عُواء أهل النار، ثم قالا لي: انطلق! فانطلقتُ فإذا بأقوام معلقون بعراقيبهم، مشققة أشداقُهم -شفاههم ووجوههم مشققة- تسيل دماً، فقلتُ: سبحان الله! مَن هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذي يفطرون قبل تحلة صومهم).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لا تستثقله -يا ضعيف الإيمان- فإنه {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ثلاثون أو أقل يأتي ويذهب كلمح البصر، ولا يشعر به الصالحون، بل يتمنون بقاءه، أما ضعاف الإيمان -المذنبون أهل الشهوات- فإنهم يستثقلونه والعياذ بالله.(25/4)
شهر رمضان شهر القرآن والدعاء
شهر رمضان -يا عبد الله- أنزل الله فيه القرآن كله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نُزِّل منها إلينا خلال ثلاث وعشرين سنة، من السماء الدنيا إلى الأرض مُنَجَّماً {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].(25/5)
قراءة القرآن في رمضان عند السلف
كان الإمام الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة، أي: في كل يوم يختم القرآن في النهار مرة، وفي الليل مرة، عرفوا قدر هذا القرآن، لعلك تقول: السنة في كل ثلاثة أيام؟ أقول لك: لشهر رمضان ميزة وخاصية، لا تعدلها في غيرها.
وهذا الإمام مالك عليه رحمة الله -إمام دار الهجرة - كان في شهر رمضان يترك المجالس والكتب كلها، إلا مجالس القرآن الكريم، وتلاوة القرآن.
هؤلاء سلفنا الصالح كانوا في شهر رمضان لا يعرفون إلا القرآن، يتركون كتب العلم؛ لأجل مدارسة القرآن.
هلاَّ كنا مثلهم يا عباد الله؟! نعكف على قراءة القرآن نتدبره ونتلوه، ونقوم الليل به، ونحفظ آياته وأحكامه.
يا عباد الله؟! هلاَّ كنا مثلهم نستعد في شهر رمضان للقرآن؟!(25/6)
استجابة الدعاء في رمضان
للصائم دعوة لا ترد أتعرف ما هي الدعوة؟!
قال بعض أهل العلم: إنها قبل الإفطار.
فاستعد يا عبد الله قبل أن يؤذن المؤذن لغروب شمس يوم في نهار رمضان أن ترفع يدَيك إلى الله، وتستقبل القبلة، وتدعو الله جلَّ وعَلا أن يتقبل منك صومك، ويعتقك من النار، ويغفر ذنوبك، فادعُ الله، فإن لكل صائم دعوة مستجابة، قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
عباد الله! إنه شهر المغفرة والرحمة!(25/7)
شهر رمضان شهر الإقلاع عن المعاصي
هل يصح لنا في هذا الشهر أن نستمر على معصية الله جلَّ وعَلا؟!
وهل يصح لأولئك الذين يعكفون على التلفاز، ويستمعون إلى الأغاني، وينظرون إلى الأفلام، أن يصروا على لهوهم وطربهم ومعاصيهم؟!
هل يصح لأولئك أن يظلوا على تركهم للصلاة؟! ولهؤلاء على أن يتابعوا النساء؟! ولأولئك أن ينظروا للحرام؟! ولهؤلاء أن يأكلوا الربا؟!
يا عباد الله! ألا يحق لنا في ذلك الشهر أن نكف عن المعاصي والآثام؟! وأن نستعد للتوبة من الذنوب والآثام؟! وأن نستعد للقاء الرحمن جلَّ وعَلا؟!
ألا يحق لنا في هذا الشهر ألا يخرج رمضان إلا وقد غفر الله لنا ذنوبنا؟! (مَن لَمْ يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) فماذا يغنيك -يا عبد الله- أن تترك الطعام والشراب والجماع الذي هو مباح، ثُم ترتكب الحرام، فتستمع للغناء، وتأكل الربا، وتترك الصلاة، وتنظر إلى النساء، وتفعل المُحرَّمات (فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه).
أقول هذا القول، وأستغفر الله.(25/8)
أدلة وجوب صيام شهر رمضان وشروط الصيام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! صوم رمضان واجب بالكتاب، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].
وواجب بالسنة، قال عليه الصلاة والسلام: (بُني الإسلام على خمس وذَكَر منها: صيام رمضان).
وبالإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان.
فقال أهل العلم: صوم رمضان واجب على كل من:
1 - المسلم: فالكافر لا يجب عليه صيام رمضان، وسوف يُحاسب به عند الله.
2 - العاقل: فالمجنون لا يجب عليه صيام رمضان، وكذلك إذا كَبُر الرجل أو المرأة، فذهب عقله أو ذهب عقلها، أو أصابه الكِبَر أو أصابها، فأصبح لا يعرف شيئاً، فهذا لا يجب عليه الصوم، ولا يجب أن يُصام عنه، ولا يُطعم عنه عن كل يوم مسكيناً، فقد رفع الله عنه القلم.
3 - البالغ: فالصبي الذي لم يحتلم، والبنت التي لم تبلغ لا يجب عليهما الصيام؛ لكن يعوَّدون منذ الصغر، كما كان الصحابة يعودون أولادهم الصغار منذ الصغر على الصيام، ويلهونهم باللعب وبغيره عن الطعام والشراب، فيُعَوَّد الصغير، وتُعَوَّد الصغيرة منذ الصغر على الصيام حتى يُعْتاد عند الكِبَر.
4 - القادر: فالعاجز الذي لا يستطيع الصوم كالمريض لا يجب عليه الصوم، فإذا كان مرضه يُرجى برؤه، فإنه يقضيه بعد أن يشفى إن كان المرض لا يُرجى برؤه، وسوف يستمر معه حتى الموت إلا بعلم الله وبإذنه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
5 - المقيم: فالمسافر لا يجب عليه الصوم، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
6 - التخلي من الموانع: فالمرأة الحائض وكذا النفساء لا يجب عليهما الصوم، ويقضيان بدلاً عنه أياماً أُخر.(25/9)
مبطلات الصيام
عباد الله: ليس من المفطرات شيء إلا ما بَيَّنَه الله جلَّ وعَلا وبَيَّنَه رسوله عليه الصلاة والسلام:(25/10)
الأكل والشرب
من مفطرات الصوم: الأكل والشرب، قال الله جلَّ وعَلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فإذا أكل الإنسان أو شرب في نهار رمضان فقد أفطر، إلا إن كان ناسياً، إن أكل ولو كان طعاماً غير مُغَذٍّ ولا مشبع أو غير نافع، كأن يكون ضاراً فإنه أفطر، إلا إن كان ناسياً أو مكرهاً أو غير عامد.(25/11)
الجماع
كذلك من المفطرات: الجماع، فمن جامع زوجته في نهار رمضان متعمداً عالماً فقد أفطر، وعليه القضاء والكفارة، سواءً أنزل أو لَمْ يُنْزِل، فإن من المسلمين -هداهم الله- من يظن أنه يجوز له أن يجامع بشرط ألا يُنْزِل، ونحن نقول: الجماع يوجب القضاء والكفارة سواءً أنزلت أم لَمْ تُنْزِل.(25/12)
التقيؤ عمداً
ثم من المفطرات -يا عباد الله- الاستقياء، بأن يتعمد الإنسان أن يُخْرِج ما في بطنه سواء أكان بإصبعه أو بعود، أو بتعَمُّدِ شَمِّ رائحةٍ كريهة، أو بتعَمُّدِ عَصْرِ بطنِه، أو بغيرها من الوسائل، فإذا تعمد إخراج ما في بطنه فقد أفطر، وعليه القضاء.
فإن خرج ما في بطنه رغماً عنه بغير قصد ولا تعمد، فلا شيء عليه، وصومه صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن ذَرَعَه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقضِ) أي: مَن تعمَّد إخراج ما في بطنه.(25/13)
إخراج المني
كذلك من المفطرات: إخراج المَنِي بشهوة، أو بمباشرة، أو بتعَمُّد، فمن أخرج مَنِيَّه -ماءه- بتعَمُّد سواءً أكان بيده، أو بفراشه، أو بمباشرة زوجته بغير جماع فقد أفطر، وعليه القضاء ولا كفارة.
أما من خرج ماؤه وهو نائم فاحتلم، فاستيقظ فرأى الماء، فلا شيء عليه، وصومه صحيح.(25/14)
الحجامة
قال بعض أهل العلم من المفطرات: الحجامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) فاحتياطاً يترك الإنسان الحجامة.(25/15)
الأمور التي لا يبطل بها الصيام
ومن الأشياء التي لا تفطر، ويظن بعض الناس أنها تفطر:
1 - بلع الريق:-
فمن بلع ريقه فإنه غير مفطر، إلا إن أخرج النخامة إلى فمه فإنه احتياطاً يخرجها ولا يبتلعها مرة أخرى.
2 - السواك:-
وما يُروى من حديث: (استاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي) فغير صحيح، فالسواك سنة أول النهار، وآخر النهار، أما ما يوجد هذه الأيام من سواك مضاف إليه طعم بالنعناع أو الليمون أو غيره فإنه يُتْرك في نهار رمضان، لأن فيه مادة تُزاد على طعم السواك، فلا يجوز لك أن تتسوك به في نهار رمضان.
3 - وكذا من غير المفطرات التي لا تؤثر في الصيام: الاغتسال؛ فمن اغتسل في نهار رمضان فلا شيء عليه.
4 - وكذا من أصبح جُنُباً: فمن جامع زوجته بالليل فنام، ثم أذن الفجر وهو نائم، فاستيقظ ولم يغتسل، فصومه صحيح، فليغتسل وليتم صومه.
5 - وكذا بالنسبة للنساء: الحِنَّاء، والاكتحال، فإنهما لا يفطران.
6 - القطرة؛ فإذا كانت في العين أو في الأذن، فإنها لا تفطر.
7 - وبالغ -يا عبد الله- في الاستنشاق والمضمضة إلا أن تكون صائماً.
8 - من الناس من يظن أن الحقن جميعها تفطر الصائم، وهذا غير صحيح؛ إلا الحقنة التي تغني عن الطعام والشراب، فإنها تفطر صاحبها.
عباد الله! لا بد لنا قبل قدوم شهر رمضان أن نتعلم أحكامه، وفقهه، وآدابه، وما يجب فيه وما يحرم حتى لا نقع في المحظور، ثم يأتي الناس فيسألون عن صومهم، فإذا هم قد أبطلوه.(25/16)
حكم تقدم رمضان بصيام وحكم تبييت النية
عباد الله! يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقدموا شهر رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا صوماً كان يصومه أحدكم) فإذا كان اليوم الأخير من شهر شعبان فلا نصومه احتياطاً، حتى لا يكون من رمضان (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) إلا من كان معتاداً على صيام أيام فليصُمها ولا حرج عليه.
ويجب على كل مسلم أن يبيت نية الصوم قبل أذان فجر أول يوم من رمضان فلا صوم لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر، إذا لم تعزم ولم تقصد في قلبك أنك تصوم غداً، فإذا أذن الفجر وأنت غير عازم على الصيام، فلما أذن الفجر نويته بعد الأذان فإنه لا صوم لك -يا عبد الله- إلا ما كان نافلة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.(25/17)
كيف تقوي إيمانك؟ (1)
لقد بلغ سلفنا الصالح في قوة الإيمان والخوف من الديان مبلغاً عظيماً، وما ذاك إلا لأنهم علموا حقيقة الدنيا فاستدركوا الأمر قبل فواته.
أما في حاضرنا فقد انتشر ضعف الإيمان إلا فيمن رحم الله، فرُكن إلى هذه الدنيا وشهواتها ولذاتها وزينتها ونسي لقاء الله وغفل عنه.
والتوبة، والتفكر في المصير النهائي الذي يصير إليه العبد من أهم العوامل التي تساعد على تقوية الإيمان.(26/1)
ظاهرة ضعف الإيمان عند الملتزمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
وبعد:
فيسر اللجنة الثقافية بجمعية التربية الإسلامية أن ترحب بكم وتشارككم في هذه الفعاليات للمخيم الشتوي، والتي نلتقي في هذه الليلة مع فضيلة الشيخ/ أبي علي نبيل العوضي إمام وخطيب جامع صفوان بن أمية بـ الكويت، وكما قد عرفه بعض الإخوة، وهو من إخواننا الطيبين والذي له أثره، وبعض أشرطته المنتشرة -ولله الحمد- قد لاقت قبولاً عند كثيرٍ من الناس.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، ونسأل الله لنا وله الإخلاص في القول والعمل.
ونترك المجال الآن مع فضيلة الشيخ ليلقي كلمته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
العنوان كما تشاهدون: (كيف تقوي إيمانك؟) والمتكلم أحوج بهذا العنوان من السامع، وكل منا أدرى بنفسه، وكما قيل:
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني
قال بعض السلف: "لو كان للذنوب رائحة لم يطق أحدٌ أن يجلس عندي؛ ولكنه ستر الله جل وعلا".
فنسأله بعد الستر العفو.
العنوان هو: (كيف تقوي إيمانك؟) اسمع يا عبد الله إلى هذه الأمثلة من قصص سلفنا وحياتهم كيف كانوا يعيشون وكيف نعيش؟!
الواحد منا في بداية التزامه وهدايته يكون عنده حماساً وحرصاً وذكراً وخوفاً من الجليل، أما الآن فقد تغير الحال، بدأ هذا الشاب الملتزم يستمع إلى بعض الأغاني بدأ هذا الرجل الملتزم ينام عن صلاة الفجر ما الذي جرى؟
بدأ إذا مشى في الأسواق ينظر يمنة ويسرة ينظر لهذه ويلتفت إلى تلك ما الذي جرى؟
الإيمان قل وضعف، كان في السابق لا ينام الليل حتى يقومه أبداً لا ينام الليل كله، أما الآن فتمر عليه الليلة والليلتان والثلاث فلا يصلي حتى الوتر، كان في السابق يصوم الاثنين والخميس ويريد أكثر، أما الآن فيمر عليه الشهر وهو لا يصوم حتى ثلاثة أيام ما الذي جرى؟
يرى المنكرات فلا يشمئز قلبه، ولا يغضب لله، ولا يتكلم المنكرات تلو المنكرات ما الذي حدث؟
إن مؤشر الإيمان قد ضعف يقرأ القرآن وكأنه صحيفة أو مجلة يستمع إلى الآيات والمواعظ وكأنها حكايات ما الفرق وما الذي جرى؟
إنه الإيمان، فالقلب هو القلب؛ لكن الإيمان ضعف.(26/2)
حقيقة الإيمان عند السلف الصالح(26/3)
الحسن البصري وشدة خوفه من الله
اسمع -يا عبد الله- إلى الحسن البصري عليه رحمة الله: قام ليلة من الليالي فزعاً من نومه فأخذ يبكي! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ يبكي بكاءً شديداً حتى أبكى أهل الدار جميعاً، فلما هدأ قالوا: ما لك يرحمك الله؟
قال: ذكرت ذنباً لي فبكيت، قال الله -جلَّ وعلا- عن أحوال هؤلاء لأنهم تدبروا تلك الآيات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] أرأيت مؤشر الإيمان! ذنب يبكيه ليلة كاملة، ونحن -والله المستعان- إلا من رحم الله ذنوبنا تترا، وآثام ومعاصٍ؛ بل حتى الكبائر والرجل يضحك ويلعب علامَ تلعب؟! ولِمَ تضحك وتلهو وأنت تعصي الله جلَّ وعلا؟ {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الأنعام:15] مِمَّ تخاف؟ ومِمَّ تخشى؟ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
هذا الحسن البصري أتعرف كيف كان يعيش؟
كان هذا الرجل يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: (يخرج من النار رجل بعد ألف عام) تُرى يا عبد الله! لو حُكِيْتَ هذا الخبر ماذا تقول؟ أعوذ بالله! ألف سنة يمكث في النار؟ ونار الآخرة ضُعِّفت عن نار الدنيا بسبعين مرة، ويأكلون فيها الزقوم، والغسلين، والغساق، والصديد، والحميم أعوذ بالله! {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاش} [الأعراف:41] ألف سنة في هذه النار أتعرف ماذا قال الحسن البصري؟ قال: [يا ليتني أكون هذا الرجل] المهم أنني أخرج من النار، ولو كان بعد ألف عام.
اسمع -يا عبد الله- ماذا يُروَى عن الحسن البصري! يقال: إن النار كأنها لم تخلق إلا له، من بكائه وخوفه من الله، ومن قوة إيمانه.(26/4)
قوة إيمان الإمام مالك بن أنس
هذا الإمام مالك رحمه الله، قام ليلة من الليالي -طوال الليل- وهو قابض على لحيته، وهو يقول: "يا رب يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارَين مالك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لا يستطيع أن ينام كيف ينام والنار تسعر تحته؟!
كيف ينام والجنة تزين فوقه؟!
كيف ينام من هذا حاله؟! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16].
عبد الله! هلاَّ كنا كهؤلاء؟! الذنوب كثيرة، والآثام أكثر هلاَّ قمنا ليلة من الليالي نبكي ونتذكر الذنوب ونحصيها ونعدها؟!
أتظن أن الله ينسى؟! أتظن أن نظرتك عندما فتحت الجريدة ونظرت للمرأة أتظن أن الله نسيها؟!
أم تظن -يا عبد الله- عندما كنت تستمع إلى تلك الأغنية ثم أغلقت الشريط أو المذياع وقد تمتعت بالسماع أتظن أن الله قد نسي، قال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
نعم! نسينا الذنوب لكن هل تعرف متى نتذكر؟
الجواب
إذا لقينا الله جل وعلا، وجيء بجهنم تُجر، لها سبعون ألف زمام، وتخيل ذلك المنظر الأنبياء، والمرسلون، والصالحون، والصديقون يجثون على الركب {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] كل الأمم تجثو على الركب، في تلك الحال كل منا يمر عليه شريط حياته، وذكريات عمره، يتذكر يوم نادته أمه فقال: لا، وأمره أبوه فقال: أف، كلٌّ مسطور.
عبد الله! {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23] ولكن! {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا يستفيد من الذكرى؟ يتذكر كم ليلة نام عن صلاة الفجر ولم يقم إلا والشمس قد طلعت، والمصيبة أنه يضحك تضحك علام يا عبد الله؟!
كان السلف من الصحابة والتابعين يبكون ليس فقط إذا خرج وقت الصلاة؛ بل إذا فاتتهم صلاة الجماعة، كان الواحد منهم إذا دخل المسجد والناس قد صلوا بكى.(26/5)
حاتم الأصم وقوة إيمانه ومحاسبته لنفسه
كان حاتم الأصم يجلس في بيته وقد فاتته صلاة العصر في جماعة ولم يخرج وقت الصلاة، فيصلي ويجلس في البيت، فيأتيه بعض الناس يعزونه ويواسونه، فبكى! فقالوا له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: " لو مات لي ولد لعزاني أهل الحي جميعاً، وتفوتني صلاة ولا يعزيني إلا نفر قليل، والله إن فوات الصلاة علي أشد من موت ابن لي".
عبد الله! أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كيف كان إيمانهم في القلوب كالجبال الراسية، كان الواحد منهم إذا قرأ آية لا يتحملها، يتدبر فيبكي من آية واحدة.(26/6)
عبادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
اسمع لـ عروة وهو يحدِّث عن أبيه عبد الله بن الزبير يقول: كنت إذا غدوت -أي: في الفجر أو الصباح الباكر- أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، وفي يوم من الأيام دخلت عليها فإذا هي قائمة تصلي -مَن؟ عائشة، مَن هِي عائشة؟ صِدِّيْقَة بنت صِدِّيْق، من أهل الجنة، وأبوها أول هذه الأمة دخولاً الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: كانت تصلي وتقرأ قوله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فنظرت فإذا هي تبكي وتعيد الآية مرة ثانية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] انتظرت فإذا هي تعيد الآية مرة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وهي تبكي، حتى أطالت علي، فتركتُها وذهبت إلى السوق أقضي حاجة لي، فقلت: أرجع لها بعد زمن، ثم رجعت إليها بعد زمن طويل، فدخلتُ عليها في البيت فوجدتها قائمة تردد الآية نفسها وتبكي {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
أرأيت الفرق بيننا وبينهم! كانوا إذا قرءوا القرآن ليس كحالنا اليوم، كانت الآية الواحدة توقفهم، فيتدبرون ويستشعرون ويتلذذون {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].(26/7)
قوة إيمان محمد بن المنكدر وخوفه من الله
اسمع لـ محمد بن المنكدر بكى بكاءً شديداً حتى أشفق عليه أهله وتضايقوا منه، لِمَ هذا البكاء ولم ذلك النحيب؟ حاولوا معه فلم يستطيعوا.
عبد الله! هم بشر كما نحن بشر، وهم يذنبون كما نحن نذنب، ولكن فرق بين قلوبهم وقلوبنا، نعم (كل بني آدم خطاء) لكن أرأيت الفرق بين التوابين وبين غيرهم.
قال الراوي: فاستدعينا صاحباً له ليهون عليه، وليخفف عليه بكاءه ونحيبه، يقول: فجئنا بـ أبي حازم صاحبٌ مثله فدخل عليه يخفف عليه، فقال له: يا أبا عبد الله! ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ أبكيت أهلك، لقد أشفقوا عليك، لم كل هذا البكاء؟ فقال له محمد بن المنكدر: يا أبا حازم أتعرف ما الذي يبكيني؟ قال: ماذا؟ قال: قول الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] كان يظن أنه إذا لقي الله فإن أبواب الجنان مفتوحة، نعم! كان يظن المسكين لما حضر بعض الدروس، أو صلى بعض الصلوات، أو قرأ بعض الآيات، ظن أنه في الفردوس الأعلى، فلما جاء يوم القيامة إذا حسناته هباءً منثوراً، وإذا أعماله {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
يأيها الصالحون! لا تأمنوا مكر الله يأيها المتقون القائمون الصائمون! لا تأمنوا مكر الله كيف بمن لا يقوم الليل!
كيف بمن لا يصوم النهار!
كيف بمن لا يعرف القرآن ولا يتدبره!
كيف بمن لا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس!
كيف بمن إذا خلا بمحارم الله انتهكها {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
عبد الله! لا تظن أن الأمر هزلاً وضحكاًَ.
عبد الله! إذا جئت يوم القيامة ورأيت الأعمال كـ جبال تهامة بيضاً فجعلها الله هباءً منثوراً ماذا تفعل؟ وماذا تقول؟ وماذا تصنع؟
هل ينفع النحيب أم ينفع البكاء أم ينفع الندم؟
اسمع إلى قول بعضهم وكأنه يحكي عن نفسه ويحكي عنا، وهذه صفة التائب المنكسر
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومني
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني(26/8)
قوة إيمان ابن عمر رضي الله عنه
هذا ابن عمر! أتعرف من هو ابن عمر؟ ومن أبوه؟
إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الرجل الذي كسَّر كسرى، وقصَّر قيصر، وفتح الله به البلاد، لو كان نبيٌ في هذه الأمة لكان عمر، الملهم المحدَّث، الذي صدَّقه القرآن، وأنزلت آيات من فوق سبع سماوات تصديقاً لكلامه.
هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب يشرب في يوم من الأيام ماءً بارداً ثم بكى، فقيل له: لماذا تبكي؟ فاشتد بكاؤه، فقال: [ذكرت آية في كتاب الله -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- قالوا: وما هي هذه الآية؟ فقال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] فعلمت أن أهل النار يشتهون الماء فيحال بينهم وبين الماء] هذا من شرب الماء البارد، فكيف بمن سكن بيوتاً مثل بيوتنا! كيف لو عاشوا مثل عيشتنا! كيف لو شربوا هذه المشروبات، وأكلوا تلك الأطعمة، ولبسوا هذه الملابس، وسكنوا هذه البيوت، ماذا تظنهم يقولون؟ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].(26/9)
قوة الإيمان عند عمر بن عبد العزيز
اسمع -يا عبد الله- إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الراشد، كان يقوم الليل يصلي -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- فإذا به يقرأ في الليل آية ويرددها الليل كله وهو يبكي! انظروا الفرق بيننا وبينه، وانظروا إلى قلوبنا وقلوبهم، وأحوالنا وأحوالهم، هذا الرجل يقرأ بنفسه الآية ثم يبكي الليل كله، أما نحن -أيها الناس وأنا أولكم- فنسأل الله ألا يكون قد ختم على قلوبنا، أتعرف ما هي هذه الآية؟ {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] مَن هم؟ إنهم أهل النار أين الأغلال؟ في الأعناق، أتظنها كأغلال الدنيا؟ أم تظنها كحديد الدنيا؟ ماذا يلبسون؟ سرابيلهم -ملابسهم- من قطران -أي: نحاس منصهر- يلبسونه! تخيل هل تتحمل الأغلال في الأعناق {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر:71] ثم ماذا؟ {يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ} [غافر:71 - 72] يسحبون على وجوههم في النار، وتخيل هذا المنظر {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] ثم يحرقون في النار، يتقلبون بل يشوون في النار {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أتعرف ما معنى {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16]؟ أي: ينفصل اللحم عن العظم من شدة الحر فكيف بالنار؟!
عبد الله! يتفكر في هذه الآية طوال الليل وهو يبكي ويرددها، ولكن انظر إلى حالنا! لا تظن -يا عبد الله- أنك عندما تصلي، وتحضر بعض الدروس، وتستمع إلى بعض الآيات، وتتصدق ببعض الدنانير لا تظن أنك قد أمنت مكر الله، لا تعرف فالأعمال بالخواتيم، فكم وكم من الناس كان صالحاً فختم له بالسوء؟!
اسمع إلى هذا الشاب الذي حفظ القرآن كله وخرج للجهاد في سبيل الله، وهذه القصة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية، فكان في الجهاد من أفضل الناس، يصلي بالناس، ويقرأ فيهم القرآن، ويعلمهم، فأحبه الجيش كله، وكان يختم القرآن كله، فلما وصلوا إلى معسكر الروم، وعسكروا عند حصنهم، فإذا بهذا الشاب يذهب ليقضي حاجة له، فلما ذهب نظر في الحصن فإذا فتاة نصرانية تنظر إليه، فنظر إليها.
عبد الله! إنما لك الأولى وليست لك الثانية، اصرف بصرك، ألا تحفظ القرآن؟ ألم تسمع قول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]؟ ما لك؟ لكنه استمر في النظر وتلذذ به، ثم خاطبها انظر كيف أن النظر يؤدي إلى الكلام، والكلام يؤدي للشوق، فإذا به يقول لها: كيف السبيل إليك؟ أين كتاب الله؟! فقالت له تلك الفتاة: أن تتنصر، فإذا به يطرق باب الحصن، ويعلن ردته ويتنصر، وكان قبل قليل يصلي بالناس، ويحفظ القرآن كله، فيدخل الحصن ليعانقها، فيبحث المسلمون عنه فلم يجدوه، فأسفوا عليه أسفاً شديداً، بحثوا عنه فظنوا أن الروم قد أسروه؛ بل لعلهم قتلوه، ثم رجعوا إلى بلادهم وقلقوا وحزنوا عليه حزناً شديداً، ورجعوا في السنة القادمة، وعاد الأمر مرة أخرى؛ فإذا بهم يعسكرون عند الحصن نفسه، وإذا بهذا الشاب الذي كان يصلي بهم ويحفظ القرآن يقف مع النصارى في صف واحد يرفع السلاح، فقالوا له ينادونه: يا فلان! فنظر إليهم، فقالوا له: يا فلان! ما فعلت قراءتك؟! ما فعلت صلاتك؟! ما فعل عملك الصالح؟! فقال: لقد أنسيتُ القرآن كله إلا آية واحدة لم ينساها أتعرف ما هي يا عبد الله؟ {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] الله أكبر! جعلها الله حسرة في قلبه، يتعذب بها إلى يوم يلقاه {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] لا تقل: الحمد لله! أنا أصلي، وأقرأ القرآن، وأنا مسلم! لا يا عبد الله، لا تأمن مكر الله، ادعُ الله في السجود، ادعُ الله بين الأذان والإقامة، ارفع يديك، وقل: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم ما يدريك لعل الله قد لا يقبل منك حسنة، ولعل الله عز وجل لا يتقبل منك سجدة وركعة.
يأتي ابن عمر سائل، فإذا به يقول لابنه: [أعطه درهماً؟ فيعطيه درهماً، فيذهب ليتصدق، ثم قال له ابنه: يا أبتاه! هل تقبل الله منك؟ فقال ابن عمر -واسمع إلى تلك الكلمات العظيمات-: يا بني! لو علمت أن الله قد تقبل مني ما كان غائب أحب إلي من الموت] لو كان الواحد منا يعلم أن الصلاة متقبلة منه، أو أن الله تقبل منه حسنة ما كان غائب أحب إلينا من الموت.
أتعرف لماذا؟ يقول: لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، ويقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] أي: يصلون، ويركعون، ويقومون الليل، ويصومون النهار، ويدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وقلوبهم وجلة، {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] هذا الذي يصلي ويركع ويسجد، يخاف أن الله لم يتقبل منه، فكيف -يا عبد الله- بمن إذا جاء في الليل، وأغلق باب بيته، وجلس مع أهل بيته وفتح لهم التلفاز، فنظر إلى ما شاء، واستمع إلى ما شاء، وقلَّب المجلة فنظر فيها إلى ما شاء، وذهب إلى الأسواق يتلفت يمنة ويسرة، ويكلم من شاء، ويضاحك من شاء، ويلاعب من شاء، وينظر إلى من شاء هذا كيف يخاف؟!
عبد الله! لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولنكن صادقين، والواحد منا يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله جل وعلا.(26/10)
التفكر في الأجل والمصير من أسباب زيادة الإيمان
من الأمور التي تقوي إيمانك يا عبد الله! أن تتفكر في الأجل والمصير.(26/11)
ابن عباس وتدبره لآيات الفراق والمصير
اسمع إلى ابن عباس وهو يقرأ قول الله جل وعلا: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] فبكى، ثم قيل له: [يـ ابن عباس! لماذا تبكي؟ قال: آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك] {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] ما يدريك أنك قد لا تخرج من هذا المجلس من يضمن لك أنك تصل إلى البيت؟ البعض منا وهو يستمع إلى هذه الكلمات يقول: إن شاء الله أتوب من الغد، وما يدريك أنك ترى الغد؛ بل من يضمن لك أنه إذا خرج منك النَّفَس أن يعود إليك؟!
عبد الله! لا تكن طويل الأمل.
عبد الله! إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء.
عبد الله! لا تضمن أنك تخرج من هذه الأبواب وأنت جالس تستمع إلي، اعزم على التوبة، وعلى ترك الذنوب والمعاصي، قلها صريحة من قلبك: رب تبتُ إليك اندم والندم يكون في القلب لا في اللسان، لينكسر القلب، وليخشع لله، ثم اعزم من القلب أنك لن تعود إلى المعاصي أبداً ما حييت؛ فإن غلبتك نفسك وعدت فعد مرة أخرى للتوبة، وكلما عدت عد مرة أخرى للتوبة.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أجمعها خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
لما أتت أبو الدرداء سكرات الموت قال كلمات -أرجو منك أن تحفظها قبل أن تخرج- عظيمات تكتب بماء الذهب، قال رضي الله عنه وهو ينصح هذه الأمة وكأنه يعنينا أمة غافلة أمة نائمة أمة قد ألهتها الشهوات أمة لا تعرف -إلا من رحم الله- إلا النوم على الأغاني والطرب والنساء أتعرف بم ينصحهم؟ يقول وهو يحتضر: [ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت} [المؤمنون:99 - 100].
عبد الله! لا تقل: من الغد، وما يدريك لعل هذا يكون هو النذير الأخير.(26/12)
قصص بعض التائبين
اسمع إلى هذه القصة يرويها أحد الدعاة إلى الله، وكأن الله عز وجل إذا أراد أن يهدي إنساناً يسر له السبل، وفتح له الأبواب، وقذف في قلبه النور، ولعل بعض الناس ينقذهم الله قبل الموت، ولعلك منهم، ولعل هذا المجلس -يا عبد الله- تكتب لك فيه السعادة، وتتخلص فيه من ذنوب أنت أدرى بها.
نعم! أنت تدري ولا يدري أحد سواك إلا الله، أنت أدرى بها، ذنوب في السر ذنوب تخفيها في الخلوة ذنوب تتحدث بها في نفسك والله يعلم {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر:19] يعلم هذه الأعين الخائنة في الصور والجرائد والمجلات والأسواق والتلفاز {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
يقول هذا الداعية إلى الله: مررت في الشارع فرأيت شاباً مع فتاة، فجئت لأنصحهم ولأدعوهم إلى الله -وهذه العبرة ليست فقط للعصاة أو لمن ضعف إيمانهم؛ بل هي أيضاً للصالحين الذين كسلوا في الدعوة وتباطئوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يقول: فلما اقتربتُ، فإذا الفتاة قد هربت، فجئت للشاب، فأخذت أنصحه وأذكره وأعظه نصف ساعة، فلما انتهيت رأيت عيناه تذرفان كم هم الشباب في هذا الزمان من يحتاجون إلى موعظة؟! إلى نصيحة؟! إلى كلمة تخرج من القلب فتفتح القلوب؟! كم وكم يا عبد الله؟! لكن من البخيل؟! ومن المقصر؟! ومن المسئول؟! إذا جاء عند الله عز وجل يوم القيامة! كم وكم؟!
يقول: فلما بكى أعطيته رقم هاتفي، وأخذت رقم هاتفه ثم ذهبت، وبعد أسبوعين تذكرتُه، فاتصلت به في الصباح، فقلت له: فلان، قال: نعم، قلت: هل تذكرتني؟ قال: وكيف أنسى صوتاً كان سبباً لهدايتي؟! قلت: الله أكبر! اهتديت؟ قال: نعم، إنني والله منذ تلك النصيحة وأنا لا أفارق المسجد ولا الصلاة ولا الذكر ولا القرآن، أنقذه الله على يديه، فقلت: سوف أزورك -إن شاء الله- اليوم، فقال لي: متى؟ قلت: بعد صلاة العصر، فصليت العصر ورجعت إلى البيت، فجاءني ضيوف وأخروني عن الموعد، فلما تأخر الموعد وحل الليل، قلت: لا بد أن أزوره حتى ولو تأخرت عنه، فجئته في الليل، فطرقت عليه الباب ففتح الباب رجل كبير في السن، فقلت له: أين فلان؟ فقال: فلان؟ قلت: نعم.
قال: دفناه قبل ساعة، قلت: أنا اليوم كلمته بالهاتف، قال: دفناه قبل ساعة، وأنا أبوه، فقد صلى الظهر ثم جاء إلى البيت لينام، وقال: أيقظوني لصلاة العصر فجئنا لنوقظه؛ فإذا هو قد فارق الدنيا، وقال لي الشيخ الكبير: من أنت؟ فقلت لأبيه: أنا عرفت ابنك قبل أسبوعين، فقال ذلك الشيخ الكبير: دعني أقبل رأسك، قلت: لماذا؟ قال: لأنك أنقذت ابني من النار {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
لا تقل يا عبد الله: غداً، ولا تقل: عندما أرجع إلى البيت، ولا تقل: بعد المحاضرة، الآن وأنت تسمع فلربما يدخل علينا ملك الموت ويقبض هذه الروح وينزعها وأنت لم تتب إلى الله، فأعلنها صادقة من قلبك، وتلفظ بها في قلبك، وقل: رب تبت إليك، لعلك تسألني، وتقول: مم أتوب؟
أقول لك: يا عبد الله! أنت أدرى وأعلم مم تتوب؟ كم وكم هي الذنوب التي نخفيها؟ كم وكم هي المعاصي التي نسرها إن لم تكن معاصٍ فهي تقصير في واجبات صلوات خشوع فيها بر والدين صلة أرحام أمر بمعروف نهي عن منكر هذه واجبات كم وكم قصرنا فيها؟ أعلنها يا عبد الله صريحة، أطلقها من قلبك الآن وتب إلى الله عز وجل.
اسمع إلى هذا الشاب عمل من المعاصي والذنوب في هذه الدنيا نساءٌ عاشَر شرابٌ شَرِب أغاني استمع إلى كل شيء، له في الدنيا كل ما تتصوره فَعَلَه هل شعر بالسعادة؟ لا والله.
هل أحس بالفرح؟ لا.
أتعرف ماذا يقال عنه؟ إنه ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، تعرف لم يا عبد الله؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] والله لو عاشروا كل النساء، وسكنوا القصور، وأخذوا من الأموال الملايين، وسافروا إلى بقاع الدنيا؛ فإن الضيق في صدورهم، وإن الحسرة في قلوبهم، وإن الوحشة يعيشون فيها، ويعيشون بها، ويموتون عليها، يقول: إنه ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، لم يتحمل الألم والضيق فسافر إلى أخيه في بلد آخر، وكان أخوه صالحاً، طرق الباب، فقال له أخوه: سبحان الله! ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي! والله لقد ضاقت علي الدنيا بما رحبت أحس بوحشة وبضيق، قال: تفضل واجلس عندي، فجلس عنده، فلما جاء وقت الفجر جاء رجل صالح ليوقظهم لصلاة الفجر، وكان أخوه صالحاً، قام أخوه للصلاة فجاء الصالح ليوقظ هذا الرجل، فقال له: يا فلان! قم يا فلان! قم يا فلان! قم، قال: سبحان الله! لماذا؟ قال: صلِّ الفجر، قال: ماذا؟ قال: صلِّ الفجر؟ قال: أنا لا أصلي، قال: أعوذ بالله! لا تصلِّ، قم صلِّ، قال: أنا لا أصلي منذ سنوات، قال: اتق الله، جرب الصلاة ولو مرة، قال: اذهب، فذهب الرجل، وجلس يفكر على الفراش (جرب الصلاة ولو مرة) جرب الهداية جرب الالتزام، أنت فعلت كل شيء في الدنيا وما حصلت على السعادة والفرح الذي تريد، وما شعرت بالحلاوة التي تطلب، فقام من الفراش، واغتسل من الجنابة، وذهب إلى المسجد، فصلى، يقول: ولما سجد أحس بسعادة ما شعر بها منذ سنوات {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] الصدر ينشرح {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
يقول: أحسست بسعادة ما شعرت بها منذ سنوات، ولما رجع إلى أخيه قال: يا أخي! تبت إلى الله رجعت إلى الله، فسافر إلى بلده، فطرق الباب، فإذا أمه تقول له: ما الذي جاء بك؟ لماذا رجعت مسرعاً؟ قال: يا أماه! حصلتُ على السعادة.
قالت: كيف؟ قال: تبت إلى الله رجعت إلى الله، فقامت له أمه وأجلسته عندها، ومكث أياماً، ثم جاء إلى أمه فقال: يا أماه! أريد منك طلباً، قالت: وما هو؟ قال: أريد السفر، قالت: إلى أين؟ قال: للجهاد في سبيل الله، قالت: يا بني! كنت تسافر للمعصية ولم أمنعك، أفأمنعك أن تسافر للطاعة، اذهب يا بني على بركة الله، فسافر للجهاد، وفي أثناء الجهاد، وفي إحدى المعارك إذا بصاحبٍ عنده أصيب بشظية فحمل صاحبه ليسعفه ولينقذه، فإذا بصاحبه يموت بين يديه، فحفر له قبراً والشهيد لا يُغَسَّل ولا يُكَفَّن، إنما يُبعث عند الله، اللون لون الدم، والريح ريح المسك في المحشر، فإذا به يحفر لصاحبه قبراً، ويُنزل صاحبه في القبر، ويرفع يديه فيقول: اللهم إني أسألك ألا تغرب علي شمس هذا اليوم إلا وقد تقبلتني شهيداً في سبيلك، فأنزل صاحبه، فإذا بغارة أخرى، فيذهب للسلاح، وتشتد المعركة، ويحمي الوطيس، فإذا به يصاب، فتذهب نفسه، ويدفن مع صاحبه في ذلك القبر {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(26/13)
التوبة التوبة! قبل حلول الأجل
عبد الله! أطلب منك في هذه الكلمات ألا تؤجِّل، أو تسوِّف، فإذا ضعف الإيمان فقِسْ نفسك، وراجعها مع كلام الله جل وعلا اقرأ القرآن تدبر يا عبد الله! {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] تدبر يا عبد الله ولو صغار السور ألا تتدبر قوله جل وعلا: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11].
عبد الله! ارجع في هذه الليلة إلى البيت؛ إن كنت تملك أشرطة أو بعض الصور أو بعض الأفلام، فاحرقها ومزقها وقطعها لله جل وعلا، وقل: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] عجلت إليك يا رب! رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
عبد الله! أتعلم أنك لو تصلي ركعتين فتحسن فيهما ولا تحدث بهما نفسك، وتعلنها في الركعتين توبة صادقة لله، فإنك لا تنتهي من الركعتين إلا وقد بدل الله سيئاتك حسنات.
عبد الله! هذا رجل كبير في السن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على عصا، حاجباه قد سقطا على عيناه من كبر سنه، فيقول: (أي محمد أي محمد أي محمد! فيُدَل على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فيقول: ما تريد؟ قال: إن لي ذنوباً وخطايا لو وزعت على أهل الأرض لأهْلَكَتْهم) ذنوبي لو يتقاسمها كل أهل الأرض لأهلكتهم، تخيل ماذا فعل؟ وماذا أحدث هذا في دنياه؟ كل هذا العمر المديد كل هذه الذنوب والمعاصي والشرك والكفر- فيقول: (هل لي من توبة؟ فيقول له عليه الصلاة والسلام: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! قال: إذاً تعمل الخيرات، وتترك السيئات -تبدأ الآن تصلح، {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70]- يبدلها الله لك حسنات -لكن الرجل لم يصدق- قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟ -يعني: ذنوبي كثيرة- قال: يبدلها الله لك حسنات، ثم تولى الرجل وهو يقول: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!) {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] ما هي اللذة؟ يقف ساعة فقط؛ لكن انظر للإثم: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان:69] ضيق الدنيا، وضنك في الدنيا، ووحشة وحسرة وألم في الدنيا، ثم ضيق في القبر، ثم يضاعف له العذاب يوم القيامة، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:69 - 70].
{مَنْ تَابَ} [الفرقان:70]: يعلنها الآن صادقة من قلبه.
{وَآمَنَ} [الفرقان:70]: صدَّق بوعود الله.
ثم {عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70] هجر هذه المجالس إلى مجالس الخير، ترك هذه الأفلام لأفلام الخير، كسر تلك الأشرطة إلى القرآن والمواعظ والدروس والخير، ترك أولئك الفسقة الفجرة إلى هؤلاء الصالحين الطيبين {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
دخل الحسن البصري على أهله، فقالوا له: يا أبا سعيد! العشاء فلا يجيب، يا أبا سعيد! العشاء فلا يجيب، فيقول لأهله: كلوا عشاءكم أتعرف لماذا يا عبد الله؟
لأنه رأى رجلاً يحتضر ويموت أمامه، فقال لأهله: لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقى الله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(26/14)
الأسئلة
نشكر فضيلة الشيخ على ما قدم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياه لما يحبه ويرضاه.
هناك مجموعة من الأسئلة:(26/15)
الجمع بين الخوف من الله والرجاء فيما عنده
السؤال
كيف نوازن بين الآيات والقصص التي ذكرتها من الخوف من الله عز وجل، وبين يقيننا بأن الله رب رحيم غفور، ولو أتى العبد بذنوب مائة سنة ولم يشرك بالله عز وجل شيئاً لغفر له ولمن يشاء، فكيف نوفق بين ذلك؟
الجواب
وأزيدك من الشعر بيتاً اسمع! يقول عليه الصلاة والسلام: (لو بلغت خطاياكم عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم)؛ بل يقول الله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] لكن لمن رحمة الله يا عبد الله؟ ولمن مغفرته؟
يقول الله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] رحمة الله عز وجل للذين يتقون رحمة الله تبارك وتعالى للذي يعمل الصالحات ويخاف للذي يصلي ويصوم ويركع ويسجد ويقرأ القرآن ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ثم يخاف عقاب الله، هذه رحمة الله عز وجل بهم، ولهذا عندما مرت امرأة تبحث عن رضيعها وكأنها مجنونة، تبحث عنه يمنة ويسرة والصحابة ينظرون؛ ما بالها؟ فلما وجدت ابنها أخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها ترضعه وهي تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أتظنون أن هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها) الله أرحم بعباده.
لكن الشاهد -يا عبد الله- أن الله أرحم بمن؟ بعباده.
نعم! يذنبون؛ بل حتى المتقون -أولياء الله- يقعون في الذنب؛ لكن يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] التقي لله إذا أذنب تذكر وانتبه وأتبع السيئة الحسنة تمحها، هذا هو المتقي لله، ولهذا فرق بينهم ابن مسعود، فقال: [المنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا -يعمل الكبائر وكأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا وطار الذباب- أما المؤمن فيرى ذنبه مثل جبل يوشك أن يقع عليه] هذا هو الفرق.
أعلمت رحمة الله لمن؟ إنها لمن يذنبون لكنهم يتوبون ويستغفرون (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).
يصف الله المتقين بأوصاف، ومن هذه الأوصاف {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران:135] هل المتقون يفعلون الفواحش؟! نعم قد يقع في الفاحشة، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] ثم قال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] نعم! رحمة الله للذين لا يصرون، إذا فعل الذنب أو المعصية فر إلى الله جل وعلا، واستغفر وأناب، وركع وسجد، وتاب إلى الله جل وعلا فهؤلاء لهم الرحمات ولهم المغفرة.
عبد الله! توبة الله، ورحمة الله عز وجل ومغفرته لها شروط:
أولها: الندم:
اندم على ما مضى اندم في هذا المجلس، فلعل السعادة تكون الآن، ولعل الله يسجلك الآن من أهل الجنة اندم على ما مضى وغداً يكون حقيقياً من القلب؛ كما قال الله: {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110] القلب يتقطع.
ثانيها: أن تقلع عن جميع الذنوب والمعاصي:-
لا تقول: أستغفر الله وأنت لا زلت محتفظاً بالأفلام والأشرطة والكتيبات وغيرها، لا.
انتبه!
ثالثها: العزم على ألا ترجع إلى المعصية:
ولم يقل العلماء: لا ترجع، بل قالوا: تعزم على ألا ترجع، فلربما ترجع يوماً من الأيام تضعف النفس ويضعف الإيمان وترجع إن رجعت إلى المعصية، فعد إلى التوبة، فإن الله عز وجل {كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء:25] كلما أذنبوا عادوا إلى الله جل وعلا.(26/16)
التوبة إلى الله وخطر الرجوع إلى المعاصي
السؤال
لقد مررتُ بمرحلة خطيرة في حياتي، حيث بدأت بالسجائر والخمور والحبوب المسكرة وقد أدمنتُ عليها، أما الآن فقد بدأ قلبي يميل إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، وإلى قراءة القرآن الكريم، وقررت أن أترك هذه الأشياء التي كنت أمارسها، ولكن الماضي بدأ يلاحقني مرة أخرى، فأرجو من فضيلتكم التكرم بإعطائي بعض النصائح، وكذلك أرجو أن تدعو لي، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
عليك بأمور:
أولاً: غيِّر مكان الوظيفة:
إن كانوا معك في أي مكان فاهجر هذا المكان كما قال ذلك الناصح العالم: (إنك بأرض سوء، فاتركها واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم).
أقول لك: يا عبد الله! اذهب إلى مخيماتهم إلى جمعياتهم إلى مجالسهم إلى مساجدهم إلى مراكزهم إلى أماكن تواجدهم وهم كثيرون، نسأل الله أن يحفظنا وإياهم كثيرون في هذه البلاد التي نسأل الله عز وجل أن يحفظها ويحفظ أهلها، اذهب إليهم واطرق عليهم الباب، وقل: يا إخوة! إني تبت إلى الله، وأريد أن أعرف مجالسكم وأماكن تجمعاتكم أين تجلسون؟ ماذا تقرءون؟ ماذا تتعلمون؟ عندهم الذكر والإيمان والرحمات تنزل، وتغشى مجالسهم السكينة، وتحفهم الملائكة إلى السماء الدنيا، فاجلس معهم.
ثانياً: عليك بكتاب الله:
عليك بالقرآن الكريم، فليس هناك واعظ بعد الله عز وجل مثل كلامه جل وعلا -كلام الله القرآن- اجعل لك ورداً في اليوم والليلة تقرأه بينك وبين نفسك، إما أن تقرأ أو تستمع، إما شريط أو قارئ يقرأ عليك، أو تقرأ في حلقة، أو تقرأ لوحدك اقرأ القرآن وتعلق به، سواء في الليل، أو بعد الفجر، أو بعد العصر، وأقل القليل أن تقرأ جزءاً واحداً، وهذا هو أضعف الإيمان؛ أن تقرأ في اليوم جزءاً بتدبر وخشوع {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه} [الحديد:16].
ثالثاً: عليك بالأذكار:
أذكار الصباح والمساء أدبار الصلوات دخول البيت الخروج من البيت دخول المسجد والخروج منه اللباس الجماع الطعام والشراب، كل شيء له ذكر؛ حتى الأوقات التي ليس فيها أذكار مخصوصة فإن فيها أذكاراً عامة (لئن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مِمَّا طلعت عليه الشمس) أتعرف لماذا؟ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] إذا تركت الذكر مشى معك شيطان، فإذا قلت: أنا لا أراه، أقول لك: يا عبد الله! هذه حقيقة يمشي معك يدخل البيت معك يأكل معك، بل حتى يجامع الزوجة معك، إذا تركت ذكر الله جل وعلا، لماذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل فجاً سلك الشيطان فجاً آخر، بل في بعض الروايات أن الشيطان يخر على وجهه إذا رأى عمر لماذا يا عبد الله؟ مِن ذكرٍ لله في القلب قبل أن يكون في اللسان.
رابعاً: عليك بالدعاء:
ادعُ الله جل وعلا، قل: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك.
يا عبد الله! إذا كان عندك بعض الذنوب والآثام فلا تقل: أنا منافق وقد نافقت، ولا أستحق أن أكون مع الصالحين، أو لا أصلح أن أصلي في بيوت الله؛ إما أن أكون مستقيماً (100%) وإما أن أكون فاجراً! لا يا عبد الله! هذه حيلة من حيل إبليس، وهذه مكيدة أتعرف ماذا يريد أن يودي بك؟ أن تترك الصلاة، وتهجر الصالحين، بل قلها: لم لا أترك المعاصي والذنوب وأكون مستقيماً على طاعة الله! إن لم تستطيع أن تتغلب على الذنوب والمعاصي فكن مع الصالحين، فلعل الله عز وجل أن يعفو عنك {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وجاهد نفسك لتتخلص من هذه الذنوب والمعاصي.
خامساً: احذر من سوء الخاتمة:
فإنك إن نويت الرجوع لعل ملك الموت ينتظرك، ولعلك يصدق فيك حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: (فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -صلاة وذكر ودروس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -سوف يدخل الجنة؛ بكاء وذكر وخشوع لو مات على هذه الحال دخل الجنة- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
عبد الله! هذا رجل كان صالحاً مع الصالحين لكنه فتر وضعف وقل الإيمان في قلبه لكنه لا يزال مصلياً، تعرَّف على أصحاب سوء وفجرة وفسقة، كان يجلس معهم لكنه كان يذهب للصلاة، يريد أن يوفق بين هذا وهذا، يقول: أتمتع شيئاً قليلاً معهم وأصلي مع الصالحين، وهذا الرجل مسكين! ألا يعلم أن حب الغناء والقرآن في قلب عبد لا يجتمعان؟!
في يوم من الأيام قالوا له: يا فلان! سوف نسافر، قال: إلى أين؟ قالوا: إلى بلد كذا وكذا.
قال: لماذا؟ قالوا: نريد أن نلعب ونلهو قال: أعوذ بالله! لا أذهب معكم، لأنه لا يزال في قلبه شيء من الصلاح كحال أكثر الناس، قالوا له: يا فلان! سفرة قليلة ثم نرجع؟ قال: أعوذ بالله أن أذهب معكم.
قالوا: تعال معنا -انظر حزب الشيطان انظر كيف يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير -قالوا: تعال ولا تفعل معنا شيئاًَ- قال: لا آتي، فلا زالوا به حتى أقنعوه، انظر خطوات الشيطان! فلما سافر معهم دخلوا الفندق، وكانوا في كل ليلة يذهبون للزنا والخنا وهو جالس في الغرفة لا يذهب معهم؛ لأنه لا يزال في قلبه شيء من التقوى والخوف من الله، ولكنه لم يبذل الأسباب، اسمع وتدبر -يا عبد الله- لعل الشيطان يستدرجك مثله، وكان يجلس كل ليلة في الغرفة فمكروا مكراً، وقالوا: هذا الرجل لا يذهب معنا ولا يفعل المعاصي معنا، لا بد أن نفعل له أمراً ونمكر به، فقال بعضهم: ماذا نفعل؟ قالوا: نأتي له ببَغِيٍّ -عاهرة داعرة- في غرفته، فجاءوا إليه في الغرفة، وأدخلوا عليه امرأة، وأقفلوا عليه الباب، فلا زال يصد ويغض البصر ويردها ويدفعها ولا زالت تحاول به وتراوده عن نفسها، ولا زال يردها حتى وقع بها، فلما وقع بها قبض الله روحه، ومات على هذه الحال.
عبد الله! الأمر استدراج عبد الله! لا تظن أن الأمر فقط هذه المرة وإن شاء الله أرجع، ما يدريك لعلك يختم لك على هذه الفعلة! ولعلك تموت وأنت معها! أو تموت وأنت تنظر لهذا الفيلم أو ذاك المسلسل الداعر! ما يدريك لعلك تموت على هذا الحال! هل تنفعك الصلاة؟! أم ينفعك القرآن؟!
عبد الله! إنما الأعمال بالخواتيم، وما من ميت يموت إلا بعث على ما مات عليه.
القضية ستون سبعون سنة ثم ماذا؟ ثم نقف عند الله خمسين ألف سنة هل تعادل هذه هذه كن حكيماً، وحاسب نفسك يا عبد الله.(26/17)
مناصحة الشاب المنحرف بعد أن كان ملتزماً
السؤال
شخص من صغره حتى سن التاسعة عشر كان ذا دين وصلاة وإخلاص، والآن أهمل الصلاة، وحلق لحيته، وشرب الدخان، وعاشر البنات، نصحناه مرات ولا زلنا ننصحه فما الحل معه؟
الجواب
فلنستمر في النصيحة، ثم الدعاء، ولا تعلم ماذا يفعل الدعاء؟
اسمع إلى هذه القضية! هذا شيخ كبير يقول: كان لي جار كنت أنصحه كل يوم، وكان هذا الجار مولع بالطرب ودائماً يستمع للأغاني، فكنت كل فترة أنصحه، فيعاهدني على التوبة، لكنه يرجع في اليوم الثاني كما كان، لكن هذا الشيخ ما ملَّ منه، يقول: فجئته يوماً من الأيام فنصحته وأغلظت عليه في النصيحة، فرأيته فإذا به يبكي، فقلت: لعله تأثر، ثم ذهبت وجاءني في اليوم التالي وفي يده جميع الأشرطة، فقال لي: يا شيخ! خذ هذه الأشرطة واحرقها، قلت: ما الخبر؟ قال: تبت إلى الله، فقلت له: كيف؟ قال: يا شيخ! جلست في الليل أفكر في حديثك، وأتفكر في الكلام الذي قلته، فنمت على هذه الحال، فرأيت في المنام أنني على شاطئ البحر أمشي، فإذا برجل يأتيني فقال لي: يا فلان! قلت: نعم.
قال: أتعرف المطربة الفلانية؟ -التي كان يعشقها- قلت: نعم! قال: هي تغني في المكان الفلاني، فأخذت أركض باتجاه صوت الأغنية، ثم مسك بيدي رجل، فالتفت فإذا هو رجل حسن الوجه، فنظرت إليه فقلت له: دعني! فقال: لن أدعك، فقلت له: ماذا تريد؟ فقرأ علي قول الله جل وعلا في المنام وهو يرتل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] قال: فتعجبت في المنام من هذا الأمر، فأخذ يردد الآية وهو يرتل في المنام، يقول: وأخذت أردد معه الآية، ولما استيقظت من النوم وأنا أردد هذه الآية وأبكي ولا أدري عن نفسي، فدخلت علي أمي وأنا أردد هذه الآية وأبكي، فأخذت أمي تبكي معي وأنا أردد هذه الآية: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: فمن لحظتها قررت التوبة إلى الله جل وعلا.
أيها الدعاة إلى الله! لا نيأس من رحمة الله، ندعو لهم، وأنت يا عبد الله لا تدعو إلى الله عز وجل فتنفر الناس، لأن الدعوة لها آداب وشروط وصفات.
يا عبد الله! ابدأ معه باللين بالمواعظ بالرقائق بالأشرطة بالكتيبات بالنصيحة الغير مباشرة بالنصيحة المباشرة بالدعوة الفردية بالدعوة الجماعية لا تيأس من رحمة الله جل وعلا.
فهذا نوح عليه السلام تسعمائة وخمسون سنة ما يئس من رحمة الله، ما آمن معه إلا قليل، كان مستمراً في الدعوة لولا أن الله قال له: قُفِل الباب، كفى {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] هنا انتهى الأمر دعا على قومه وإلا فإنه كان غير آيس من رحمة الله استمر في الدعوة إلى الله ولا تيأس، ولعل الله أن يهديه قبل أن يموت.(26/18)
النظر إلى النساء في التلفاز وتأثير ذلك على الإيمان
السؤال
ما حكم النظر إلى النساء في التلفاز؟ وهل يؤثر ذلك على الإيمان؟ كما نرجو من فضيلتكم تقديم نصيحة لأولياء الأمور أن يراقبوا أبناءهم في رؤية التلفاز لا سيما الأفلام المدبلجة وغيرها وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما بالنسبة للتلفاز فهو خطر عظيم، وشر مستطير يا عبد الله! إذا لم تستطع أن تخرجه من البيت فعلى الأقل خفف منه راقب التلفاز فالأولاد إذا نظروا إلى المسلسلات، أو الأفلام الثقافية، أو برامج دينية، أو بعض الأمور التي ليس فيها محرمات فلا بأس بهذا، أما أن نفتح التلفاز لكل من هب ودب؛ بل بعض الأولاد يدخلون التلفاز في الغرفة ويغلقون على أنفسهم الباب والأب لا يعرف ذلك؛ بل بعضهم أشر من هذا؛ يأتي بجهاز فيديو ويضعه في غرفته مع التلفاز ولا يعلم الأب ماذا ينظر الأولاد؛ بل بعضهم يأتي بالستلايت -البث المباشر- ويضعه في بيته، أتعرف ماذا في هذا الجهاز؟ أظن أن أكثركم يعرف هذا ثم يسأل: أولادي لا يصلون! كيف تريدهم يصلوا بعد أن ينظروا إلى هذه الأفلام وإلى تلك المسلسلات.
اسمع إلى هذا الخبر العجيب!
كان رجل فيه شيء من الصلاح ولكنه غافل عن تربية أولاده، وكان له ابن وبنت صغيران في السن، دخل عليهما البيت يوماً من الأيام، ولما فتح غرفة الأولاد فإذا به يجد الولد يفعل بأخته الفاحشة، وهما صغيران، فعنف عليهما وضربهما، ثم قال الأب للولد: لم فعلت هذا؟ قال: يا والدي! رأيته في التلفاز.
ولم تضربه يا عبد الله؟! أنت الملوم، وأنت المخطئ.
يا عبد الله! ثم إذا كبر الولد وعق أمه، والآن العقوق -ولا حول ولا قوة إلا بالله- حدث به ولا حرج عقوق الأمهات، وعقوق الآباء، وتفكك الأسر، والآداب الدخيلة كيف جاءت؟ أنت رجل صالح أدرى بهذا، وأنا أعلم أنك لم تعلم أولادك إلا الأخلاق الحسنة حتى الكذب تضربهم عليه، وهذا من حسن تربيتك لهم، وتأمرهم بالصلاة وجزاك الله خيراً، حتى القرآن تحثهم على قرائته؛ لكن يا عبد الله جئت بتلفاز يجلسون عنده أكثر مما يجلسون عندك، ويسمعون منه نصائح أكثر مما يسمعون منك؛ بل أصبح النجوم والأبطال والقادة والقدوات من؟ إما نصارى أو يهود أو شهوانيون أو فجرة وفسقة ثم تطلب منه أن يقرأ القرآن أو يصلي أو يركع ويسجد!
يا عبد الله! لا تكن متناقضاً إذا جاءك الشر ولا بد منه في البيت، فراقبه وحُد من شره، فمثلاً: بعد الثامنة أو التاسعة شيئاً فشيئاً حتى تتخلص منه، وأنا لا أقول هذا من باب إباحة المعصية! لا يا عبد الله! إنما أقول لك: إن استطعت أن تخرجه فأخرجه من بيتك، وكثير من البيوت -بفضل الله- تعيش بغير تلفاز، والحمد لله الأخبار تسمع من وسائل أخرى مذياع وجرائد ولا تظن أنهم يعيشون في ضيق ونكد! لا، بالعكس إذا دخل الأب يلتفون حوله، أما أنت إذا دخلت أثناء الفيلم أو المسلسل هل يقوم أحد يسلم عليك؟ بعض الآباء يدخلون يسلمون فلا أحداً يرد عليهم؛ بل يقول بعض الأولاد: لا تقاطع الفيلم! اتركنا ننظر!
أرأيت يا عبد الله؟! لا تقل: بيوت ليس فيها تلفاز فيها ظلمات وضيق ونكد! لا.
كيف أن بعض الزوجات الآن هداهن الله أصبحت تتعلم كيف ترد على زوجها تغلظ عليه القول؛ بل تقول له: أنا مثلك في البيت، وحالي مثل حالك في البيت؛ بل تريد أن تخرج كما يخرج الرجال، وتعمل كالرجال، وتفعل كل شيء، وتقول: لا يوجد فرق بيني وبينك!! كيف تعلمت المرأة كل هذا؟ ألم تنظر إلى أمها محجبة مستترة، لو أن أبا هذه الزوجة أمر زوجته أن تقوم الليل كله خدمةً لوالدها لفعلت ولا ترد له شيئاً، واسألوا العجائز: هل ترد الواحدة على زوجها؟ لا والله، الزوج كأنه أمر مقدس، إذا أمر بأمر تجدها تعمل وتكدح من الصباح إلى المساء ولا ترد له طلباً ما الذي جرَّأ كثيراً من النساء؟
إنه التلفاز يا عبد الله تغريب للبيوت هدم للعقيدة، يصبح الشاب إذا كان عمره عشرين سنة، تقول له: يا أخي! لا يجوز تهنئة النصارى بالكريسمس.
يقول: لماذا لا يجوز! هم نصارى ونحن مسلمون حالهم مثل حالنا، لهم دين سماوي ونحن لنا دين سماوي! كيف تعلم هذا الشاب هذه العقيدة الفاسدة؟! هذا يهدم دينه يا عبد الله؟ يقول الله جل وعلا واسمع إلى هذه السورة:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] سماهم الله كافرون {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:2 - 6].
ألا يحفظ هذا الشاب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]؟!
أيها الشاب المسكين! أتعرف أنك عندما تهنئ النصارى بعيد الكريسمس أتعرف بم تهنئهم؟! كأنك تقول: أهنئكم بشتمكم للرب جل وعلا، (شتمني ابن آدم) أتعرف كيف شتمه لله؟! أن ينسب له الولد، وهم يحتفلون في هذا اليوم أن ولد الله عيسى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:90 - 91] وهو يقول: عيدكم مبارك أو كلمات إفرنجية! يهنئهم بهذا الكفر والشتم لله جل وعلا، كيف تعلم شباب المسلمين هذا؟
التلفاز يا عبد الله البث المباشر الأفلام والمسلسلات، أنت رجل صالح وملتزم ومتمسك بالعادات والتقاليد؛ لكن كيف دخلت في بيتك على حين غفلة منك؟ إنه التلفاز شر وأي شر.
يا عبد الله! هَدَمَت الأسر، وضَيَّعَت الأولاد، وأفْسَدَت الأخلاق، ودَمَّرَت حتى العقائد إلا ممن رحم الله جل وعلا.
إذاً يا عبد الله! إذا استطعت أن تتخلص فتخلص، وإلا فخفف وهون عليك هذا الشر، وإذا استطعت أن تراقب فراقب التلفاز منع الأفلام والمسلسلات لا ستلايت وبث مباشر لا فيديو، شيئاً فشيئاً حتى تدخل البديل على البيت، ويصبح التلفاز مغلقاً لا يفتحه إلا بعض الناس، في بعض الحالات الاضطرارية، وليس فيه محرم ولا منكر.
والله أعلم.(26/19)
الأسباب المعينة على صلاة الفجر ونصيحة للنساء
السؤال
نرجو منكم حثنا على أسباب تعين المسلم على صلاة الفجر، وقد ذكرتم في محاضرتكم أن البعض ينام على الأغاني، فهل يجوز لنا أن نذهب للنوم ونحن نستمع إلى القرآن من جهاز التسجيل؟
ثم ختاماً نرجو أن توجه كلمة تنصح بها النساء؟
الجواب
كل ما قيل في المحاضرة للرجال فهو للنساء أيضاً؛ ولكن نخص النساء بنصيحة لنفسي أولاً ثم لأخواتي النساء ثانياً:
أيتها الأخوات: لعلنا عندما تكلمنا عن تربية الأولاد نعلم -ونحن صادقون- أن أكثر من يجلس مع الأولاد ويربيهم هن النساء، فلهذا دورهن في تربية الأولاد أكبر من الآباء؛ لأن الأب -كما نعلم- يكدح ويعمل ويشقى؛ لأن يأتي ببعض لقيمات لأولاده وأهل بيته، أما الأم فهي التي تربي وتعلم وتدرس.
أمة الله! فرق بين أم تعلم أولادها منذ الصغر على الأفلام والمسلسلات والمصارعات والأغاني والطرب، وبين أم تربي أولادها أول ما ينطق الولد، يقول: سبحان الله، والحمد لله، وإذا أكل قال: باسم الله، وإذا انتهى من الطعام قال: الحمد لله.
أعرف -أيها الإخوة وأسأل الله أن يبارك في مثل هؤلاء الأولاد- أولاداً أعمارهم ثلاث سنوات، لا يأكلون الطعام إلا ويقولون: باسم الله! ولا يدخلون الخلاء إلا ويقولون: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) ولا ينتهي من الطعام إلا يقول: الحمد لله، وإذا سمع الأغاني والموسيقى إلا ويذهب يغلق التلفاز والمسجل، وأعرف بعض الإخوة له ولد -أسأل الله أن يبارك فيه- لو كان في الشارع وبجانب الشارع سيارة قد فتحت الموسيقى يناديه -عمره ما أكمل أربع سنوات- ويقول: أما تدري أن الموسيقى حرام؟! أغلق الموسيقى.
عبد الله! هلا ربينا أولادنا على هذا؟!
اسمع لهذا الشاب، وأختم بهذه القصة لأولئك النساء:
رجل حث على الجهاد في سبيل الله، فإذا به بعد الخطبة جاءته امرأة، فقالت له: يا شيخ! ولم يلتفت إليها، قالت له: يا شيخ! فأعطته صُرَّة وقالت له: يا شيخ! ليس عندي إلا هذا أتصدق به للجهاد في سبيل الله، امرأة تجاهد بمالها في سبيل الله، انظروا مَن مِن النساء، الآن تجد بعض النساء لو أراد الزوج أن ينفق شيئاً من المعاش في سبيل الله لقالت له زوجته: لا.
عندنا أثاث، وأريد ذهباً مثل فلانة؟ ولم لا تذهب بي إلى هذه المطاعم؟ ولم لا نسافر إلى بلد كذا وكذا؟ قال: يا فلانة! أريد أن أتصدق ببعض المال قالت: لِمَ نتصدق؟ وليس الأمر واجباً، إنما ندفع الزكاة وكفى مثبطة عن طاعة الله، لكن بعض النساء تصدقت بصُرَّة، ولما فتح الشيخ هذه الصُّرَّة فإذا فيها ضفيرتان، ما عندها إلا جسمها، قصت شعرها وتصدقت به في سبيل الله؛ لأن أغلى ما عند المرأة هو شعرها، قصته وأعطته لذلك الشيخ، وقالت: أسألك يا شيخ أن تجعله رباطاً لفرسك في سبيل الله، فربطه الشيخ لفرسه في سبيل الله، وأراد أن يذهب للمعركة فناداه صبي صغير، فقال له: يا شيخ! قال: ماذا تريد؟
قال: أن تحملني معك للجهاد، قال: أنت صبي صغير وعذرك الله، قال: أقسم عليك بالله لتحملني معك في الجهاد، قال: أنت صبي صغير، قال: أقسمت عليك بالله، فقال له: بشرط، قال: ما هو الشرط؟ قال: إذا مت وبعثك الله فاشفع لي عند الله يوم القيامة، قال: لك ذلك الشرط، فحمله معه على الفرس، وذهب إلى الجهاد، وبدأت المعركة، وحَمِي الوطيس، فإذا بهذا الشاب الصغير يقول للشيخ: يا شيخ! أعطني سهماً ولا يرد عليه الشيخ، والمعركة قد حميت، فقال له: أعطني سهماً، فأعطاه ثلاثة أسهم، فقال: باسم الله! ورمى سهماً، فأصاب به نصرانياً فقتله، والثاني قتل آخر، والثالث قتل آخر، فقتل ثلاثة بثلاثة أسهم، ثم وهو في المعركة أصيب بسهم فسقط من على الفرس، فنزل الشيخ ومسح الدم عن وجه هذا الصبي، فقال للشيخ: يا شيخ! أعطِ هذه الخرقة لأمي، قال: يا بني! ومن أمك؟ قال: أمي صاحبة الضفيرتين {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] فأخذ الصُّرَّة ودفن الولد، ثم رجع إلى البيت وطرق الباب، فخرجت بنت صغيرة، فقال لها الشيخ: أين أمك؟ قالت: وأين فلان أخي؟ قال: أبشركم بأنه مات في سبيل الله، فهلل أهل البيت وكبروا، ثم قالوا: مات أبوه فاحتسبناه في سبيل الله، ومات أخوه الكبير فاحتسبناه في سبيل الله، والآن مات أخونا الصغير فنحتسبه عند الله، الله أكبر!
هذه التربية؛ ليست تربية مطاعم الوجبات السريعة إلى منتصف الليل والولد عند المطاعم متى يأتي؟ آخر الليل، أين ذهب؟ لا ندري، الأم عند فلانة وفلانة، الأم لا تعرف إلا الأفلام والمسلسلات، ثم إذا انتهت الأفلام والمسلسلات رفعت سماعة الهاتف ساعة وساعتين تكلم فلانة أين الأولاد؟ لا تدري أين البنات؟ لا تردي ماذا يستمعون؟ لا تدري، والله إنها مسئولة عند الله -جل وعلا- عن هؤلاء الأولاد.
إنها جريمة في حق الأولاد إذا فعلنا بهم هذه الأفعال؛ بل حتى الأب -يا عبد الله- ولستَ أنت أيضاً بمبرأ عن هذا الكلام، فأنت مسئول عن ابنك أين توصله؟ وأين ترسله؟ ومع من يجلس؟ وماذا يرى؟ وماذا يستمع؟ وماذا يلعب؟ وهل يصلي أم لا يصلي؟
عبد الله! أنت مسئول عن الأولاد، وليس الأمر فقط إنجاب الأولاد ثم رميهم في الشوارع! لا، تسأل عنهم واحداً واحداً يوم القيامة.
ثم يا عبد الله! إن لم نحسن تربية الأولاد أتعرف ما الذي سوف يحصل؟
سوف تجد الثمار في الدنيا قبل الآخرة أتعرف كيف؟
استمع لهذه القصة:
قبل أيام نَشرت عندنا في الكويت في جريدة الوطن، نَشرت هذه القصة وهي غيظ من فيض، وما خفي أعظم:
أم عجوز طردها ابنها من البيت، فذهبت إلى دور العجزة -دور الرعاية- فاتصلوا على ابنها يأتي ليعمل الإجراءات الرسمية ليدخل أمه، فقال: أنا مشغول وغير مستعد، قالوا له: يا فلان! أما تستحِ؟! أمك عندنا.
قال: افعلوا ما تفعلون لست مستعداً أن آتي إليها، فذهبت هذه الأم في الشوارع تبحث عن لقمة عيش، فما وجدت إلا المستشفى تدخله فتسقط فيه أياماً وقد آلامها المرض، فإذا بها تشتكي في الجرائد والمجلات تشتكي إلى الله جل وعلا من عقوق الأبناء.
أتعرف يا عبد الله من هو المسئول؟
أولاً: أنت إذا لم تحسن تربية الأولاد فإنك سوف تجني ثمرة العقوق قبل أن تموت وقبل أن تلقى الله جل وعلا.
عبد الله وأمة الله! عليكم واجبات في تربية الأبناء والبنات، وفي إصلاح البيوت الواحد منا إذا رجع إلى البيت: هذه الصور لماذا هي معلقة؟ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة أين البركة؟ لماذا الصور تُعَلَّق يا عبد الله؟ أنزل الصور، لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة، الموسيقى لا نريد أن نسمعها في البيت.
عبد الله! لم لا تجعل مسجلاً، هناك أشرطة إسلامية؛ مواعظ قرآن أذكار تجعلها في البيت إذاعة القرآن أو غيرها، تشتري بعض الكتيبات وتضعها في البيت في الصالة؛ لتقرأ الأم والأخت، ويقرأ الأولاد.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه آجمعين.(26/20)
لحظة لا بد منها
إن العبد إذا أصلح نيته، وعبد الله وأطاعه وأخلص له؛ بُشر بعمله ذلك في الحياة الدنيا عند الممات، فحسنت خاتمته، وإذا أفسد النية، وعصى الله ورسوله، وحارب الدين الحنيف، بُشر بعذاب الله وسخطه في الدنيا عند الممات، فساءت خاتمته، ولابد لكل إنسان أن يعلم أنها لحظة لابد منها ألا وهي: ساعة السكرات، وقد كان يخافها الصالحون والأتقياء الأبرار، فأقضت مضاجعهم، وأحرقت أفئدتهم.(27/1)
السلف وتذكرهم للموت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام! (لحظة لا بد منها) موقف لا بد منه، ساعة قادمة لا محالة؛ فما هذه اللحظة التي لا بد منها؟
لا بد أن نمر فيها المؤمن والكافر، الصالح والفاجر، صغير أو كبير، غني أو فقير، هذه اللحظة لا بد منها أي لحظة تلك؟
هي لحظة الاحتضار، ساعة السكرات، الفراق من هذه الدنيا، فكر معي في هذه الجلسة في هذه اللحظات التي هي حقاً لا بد منها؛ فكل الناس ميتون: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] هل أنت منهم؟ إي والله؛ لكن فعلك لا يوحي بذلك، لكن تصرفاتك وقلة عبادتك وضعف اليقين لا يوحي بأنك مؤمن بهذه الآية حق الإيمان، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران:185].
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يجلس كل ليلة مع العلماء والعُبَّاد والزُّهَّاد يتذاكرون الموت وهذه اللحظة؛ فيبكون كأن جنازة بين أيديهم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
وكان عثمان رضي الله عنه إذا ذُكر له الموت بكى.
وكان سفيان إذا قيل له عن الموت شيء أو ذكر الآخرة أخذ يبكي حتى يبول الدم رحمهم الله جميعاً.
أكثروا ذكر هادم اللذات.
أرأيت الغفلة؟! إنما جاءت بعد أن نسي الناس هذه اللحظة التي هي لا بد منها، قال بعضهم:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل
سليمان عليه السلام نبيٌ من الأنبياء كان جالساً مع أحد أصحابه، فجأة دخل رجل ثالث عليهما، فأخذ الرجل الثالث ينظر إلى الرجل الذي عند سليمان -اسمعوا القصة العجيبة- فخاف الرجل، رجل غريب دخل وأخذ يحد النظر وينظر إليه بعينين محدقتين، فلما خرج الرجل الغريب قال صاحب سليمان: يا نبي الله، من هذا الرجل الذي دخل؟ قال: لم تسأل؟ قال: رأيته ينظر إلي نظراً محدقاً ففزعت منه، قال: ألم تعلم من هو؟ قال: لا يا نبي الله، قال: هذا ملك الموت، فخاف الرجل وقال: يا نبي الله احملني، قال: لمه؟ قال: احملني إلى أي أرض بعيدة أهرب من ملك الموت، كل الناس يخافون من الموت، فحمله سليمان إلى بلاد بعيدة قيل: هي الهند، فلما نزل الرجل، فإذا بملك الموت يستقبله، فقَبَضَ روحه.
فجاء ملك الموت إلى سليمان عليه السلام قال: له نبي الله: يا ملك الموت أخبرني عن قصة هذا الرجل، قال: هذا قصته غريبة، قال: ما قصته؟ قال: أمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد فوجدته عندك فقلت: سبحان الله! أمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد البعيدة وهو عندك جالس، يقول: فإذا به يذهب بنفسه إلى حتفه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8].
مهما فعلتَ وصنعتَ وأخذتَ من الاحتياطات واستعديت يا أخي العزيز لصحتك؛ فإن الموت قادم مهما فررت، أرأيت المستشفيات كيف تمتلئ؟!
أرأيت الناس ماذا يصنعون؟!
أرأيت الناس عن ماذا يبحثون؟!
عن الحياة لكنه الموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].
أخي العزيز! فكر في هذه اللحظات والناس على صنفين:
- منهم من يموت وخاتمته حسنة.
- ومنهم من يموت -والعياذ بالله- وقد ساءت خاتمته.
كم من الناس من فضحه الله عز وجل عند الموت، فُضِح -إي والله- فإذا به يكفر ويفجر، وإذا بملك الموت يقبض روحه وهو على فجوره ومعصيته.
كان يقول: إنها آخر مرة أعصي الله ثم أتوب بعد هذا، وما يدري أنها اللحظة الأخيرة، إنها السكرة، إنه على موعد مع ملك الموت.
كان يقول: سوف أتوب إذا قدم الحج، سوف أتوب في رمضان، سوف أتوب بعد شهر أو شهرين والمسكين لا يدري أن الموت أقرب: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء:205] في لهو وطرب وسكر وعربدة: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:205 - 206] الموت! {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].
سفيان الثوري يقول: [والله لا أخاف ذنوبي -الأمر ليس بالذنوب، الذنوب يتوب منها؛ لكنه يقول: لكن أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت] أخاف أن أُفتن فأسلب الإيمان قبل الموت.
أحد السلف يقول: [والله إني أخاف أن أُفتن قبل موتي، قالوا: وكيف ذاك؟ -كيف تُفتن- قال: أخاف أن يشتد نزعي -يعني: خروج الروح- ثم أقول كلاماً لا يرضي ربنا، ثم أُفتن قبل الموت].
يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -من صلاة وصيام وقيام وركوع وسجود- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] الظالم يضله الله قبل الموت.(27/2)
نماذج لأناس ساءت خاتمتهم
اسمع إلى الأولين والحاضرين كيف ساءت خاتمتهم، وكيف حسنت خاتمة بعضهم:
العماد المقدسي هذا رجل صالح يقول عنه صاحبه ابن قدامة رحمهما الله: (والله ما أعلم أنه عصى الله معصية واحدة) ما رأيته في حياتي كلها على معصية واحدة، أرأيت إذا استقام الرجل! مَن صلح ظاهره وصلح باطنه لا تسوء خاتمته، إنما تسوء خاتمة من أقدم على الكبائر، أو فسد عقله ودينه، أو أقدم على الذنوب العظام، هذا الذي تسوء خاتمته، أما مَن أصلح ظاهره وأصلح باطنه فإن الله عز وجل يثبته، أتعرف ماذا فعل هذا الرجل قبل الموت؟
قال وهو يحتضر: يا حي يا قيوم! لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث يقولون: فاتجه باتجاه القبلة ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
{إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] يقول ابن عباس: [تتنزل -أي: حقيقة- عند الوفاة] أتعرف ماذا تقول؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
أما من فسد واستمر على الذنوب والمعاصي فاسمع ما يحدث له!(27/3)
رجل كفر بـ (لا إله إلا الله) عند الموت
وهذه القصص التي سوف أذكرها لكم إنما هي والله قليلٌ مِن كثيرٍ مما نعاشرُه ونعاصرُه، بل تركت بعض القصص الحقيقية خشية أن يكذبني بعض الناس، ومَن سأل وعايش ومَن عُمِّر يسمع مِن هذه الأخبار العجب العجاب.
يقول عبد العزيز بن أبي روَّاد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن أي: يقال له: قل لا إله إلا الله، فكان آخر كلمة قالها: هو -وهم لا يقولون: أنا حتى لا يلفظون ألفاظ الكفر- كافر بما تقول، هو كافر بما تقول، فقالوا له: قل لا إله إلا الله، فيقول: هو كافر بما تقول، هو كافر بما تقول، يقول: فلا زال يرددها حتى مات، يقول: فسألتُ عنه ما جريمته؟ ما مصيبته؟ مسلم مع المسلمين قالوا: هذا الرجل كان يدمن الخمر، وكان يشرب الخمر كثيراً.
أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجعك في السكر المنية
فتضحى عبرة للناس طرىً وتلقى الله من شر البرية
أيأمن الذي يشرب الخمر أو يتعاطى المخدر أن يلقى الله عز وجل على هذه الحال؟!
{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].(27/4)
نهاية متعاطي المخدرات
بل نسمع عن كثير من الناس في الشهر الماضي عندنا في البلد مات ثلاثة عشر شاباً، كلهم صغار في السن، أتعرف كيف ماتوا؟ كلهم ماتوا متعاطين للمخدرات، ثلاثة عشر شاباً في شهر واحد، الله أكبر! (ما من ميت يموت إلا يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه)، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
يقول لي أحد رجال المباحث: دخلنا إحدى الشقق وكسرنا الباب وإذا بالرائحة متعفنة، فوجدنا جثة على هيئة سجود متعفنة يخرج منها الدود، أتعرف كيف مات؟ مات وهو يتعاطى المخدرات، تقول لي: سجد لمن؟
أقول لك: العلم عند الله، متعاطٍ ساجد مات على هذه الحال منتحراً قبل الموت.
أخي العزيز! {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54].
يقول عبد العزيز بن أبي روَّاد الذى رأى هذا الرجل رحمه الله: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
الذنوب والمعاصي يا عبد الله! العمر واحد، والحياة مرة، والموت مرة واحدة، وليست هناك فرصة أخرى، من مات انتهى أمره وعمله، لا ندم، لا توبة: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر) فإذا غرر انتهى أمره ولو كانت فيه روح.(27/5)
فتاة تموت في يوم عرسها
اسمع إلى تلك الفتاة التي كانت تحلم وتأمل الآمال والأحلام، جاءها من يريد خطبتها، فوافق الأهل ووافقت البنت، وكانت أسعد لحظات حياتها، ثم جاء وقت عقد القران فعُقِد عليها وفرحت البنت الشابة الصغيرة، فإذا بها تذهب مع أمها وأخواتها لتشتري الثياب والذهب وتعد لحفلة الزفاف، يا ألله! إنها أسعد لحظات الفتاة، تتأمل هذه اللحظات، كيف يدخل عليها زوجها! كيف تخرج معه! ماذا سوف تلبس! كيف سوف ندعو الناس! في أي مكان! ما هي الوجبات! ما هو الطعام! ماذا سوف أفعل! ماذا سوف نصنع! من سوف تغني! إنها أسعد لحظات الفتيات.
يقولون: في يوم زفافها بعد أن كانت قد ذهبت إلى إحدى الصالونات، صفَّفَت شعرها، وفعلت ما فعلت، الله أعلم هل هو من الحلال أو من الحرام، الله أعلم ماذا صنعت! يقولون: وفي السيارة وهي ذاهبة إلى الصالة أصيبت بحادث، وانتهى كل شيء، وخرجت الروح إلى بارئها.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من صحيح مات من غير علةٍ وكم من سقيم عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغار يُرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري(27/6)
شاب يصاب بمرض الإيدز
بل اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الشاب الذي غرق في الذنوب والمعاصي، كلما جمع بعض الأموال ذهب إلى بلاد الحرام يفعل الفجور، ويزني ويعاشر النساء، ويشرب الخمور.
وكان لا يبالي، همه في الحياة النساء الفتيات الزنا الحرام الخمر يوم من الأيام سقط في الفراش مريضاً؛ حُمِل إلى الطبيب لكنه لم يقوَ على الخروج، يوم ويومان المرض يزداد والأدوية لا تنفع، الرجل يزداد مرضه بعد التحاليل جلس إليه الطبيب قال: أريد أن أخبرك بخبر قال: وما هو؟ قال: وتتحمل الأمر قال: أخبرني قال: للأسف بعد أن حللنا الدم علمنا أنك مصاب بمرض الإيدز.
كأنه حكم بالإعدام، بل الإعدام أرحم، إي والله الإعدام أرحم، فإن موت الإيدز موت بطيء، قد يظل الرجل يتألم شهوراً، أسمعتم بهذا؟ شهوراً قد يظل على الفراش، يصل إليه الأمر أن يُشَل جسمه، ألم لا يقوى عليه حتى لو يُعطى المسكنات لا ينفع، يصاب بالشلل، يصاب بالعَتَه، يصاب بالعمى، يصاب بالخرس ربما شهور وهو على الفراش، لا يقرب منه أحب الناس إليه، بل بعضهم أجلكم الله لا يستطيع أن يقضي حاجته، ويقضي الحاجة على فراشه، تخيلتَ! تصورتَ! يا ليته مات قبل هذا: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].(27/7)
شاب يموت على سماع الموسيقى
أخي العزيز! أسمعت بهذا الرجل الذي مات وهو يسمع الغناء والطرب؟
يقول: كنا شابين ذهبنا للدراسة في بعض البلاد، فدخلنا ذلك المكان الذي سوف نسجل فيه للدراسة يقول: وكان صاحبي في سيارته في الموقف فقلت له: تعال لنذهب نسجل للدراسة يقول: وقد فعلنا من الحرام ما فعلنا فقال لي صاحبي: لا.
سوف أنتظرك في السيارة، قلت له: ماذا تصنع؟
قال: اذهب سجل واسأل: هل هناك تسجيل ثم ارجع، يقول: فذهبت إلى العمارة وهو واقف في سيارته يقول: وطال بي المقام، فرجعت بعد ساعات إلى صاحبي فوجدته نائماً في السيارة، فتحت الباب قلت له: يا فلان، قم، يقول: وصوت الموسيقى خارج السيارة يقول: فلم يرد علي، قلت له: يا فلان قم، يقول: فلم يجبني، يقول: حركته، يقول: سبحان الله! لم يكن به بأس أبداً، مات وهو يستمع الموسيقى مات وهو يستمع إلى الغناء.
منهم من مات وهو يغني، منهم من مات وهو يدندن، منهم من مات أمام الناس وهو يرقص ويغني ويفسق ويفجر والناس كلهم شهود عليه وأتاه ملك الموت وقبض روحه.
تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نئومُ
تموت غداً وأنت قرير عينٍ من الغفلات في لُجج تعومُ
لهوتَ عن الفناء وأنت تفنى وما حي على الدنيا يدومُ
والمصيبة أن بعض الناس غره ظاهره، نظر، ما شاء الله! اللحية، والإزار قصير، والسواك في الجيب، ظن أنه بهذا قد بلغ الفردوس وما يدري أن هذا مهم ولكن الأهم سلامة القلب: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
هل سمعتَ برجل يصلي الصلوات الخمس يقضي ليله على الفضائيات والقنوات الخليعة؟!
هل سمعت بشاب يتظاهر بالسنة وربما تبدو عليه آثار السنة يجلس أمام الإنترنت بالساعات الطوال يدخل على بعض المواقع الإباحية، والمسكين يظن أنه لا أحد يراه: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]؟!
هل سمعتَ بفتاة تتظاهر بالحجاب والستر والعفاف، فإذا نام الأهل، وهدأت الأصوات، وسكن الناس دخلت إلى غرفتها فرفعت سماعة الهاتف تكلِّم صاحبها ويكلمها؟!
هل سمعت بمن يتظاهر بالسنة يجلس مجالس لا همّ له فيها إلا الغيبة والنميمة، ثم يقول: نحن على خير، فاللحية لا زالت على السنة، والثوب على السنة، والسواك في اليد، وهذا مهم، وظن المسكين أنه بهذا قد وصل.(27/8)
رجل يموت ورأسه في مصرف المجاري
أخي العزيز! الغفلة وما أرداك ما الغفلة!
شخصية كبيرة أعرفه، قضى حياته كلها أتعرف في أي شيء؟
قضى حياته في حرب شريعة الله عز وجل، رجل ممن يسمى بالعلمانيين يحارب شريعة الله عز وجل طوال حياته، يحارب الإسلاميين، يحارب أهل الدين، يحارب شريعة الله، أتعرف كيف مات؟ مات ورأسه عند مصرف المجاري، يقولون: قَبُح وجهه وهو ميت، الذين غسلوه يقولون: هذا فلان! قَبُح وجهه وقَبُح منظره: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُم} [الأعراف:185].
من منكم يضمن -أيها الإخوة الكرام- أن يرى شروق الشمس؟! من يضمن أن يأتي الفجر عليه؟!
والله لا أحد، أنا وأنت لا نضمن، من منا يضمن أن يرجع إلى البيت؟!
من الناس من يقول الآن: سوف أرجع إلى البيت فأحرق الصور، وأتلف الأشرطة، وأزيل هذا الجهاز، بل سوف أرجع إلى البيت وأغيِّر حتى رقم الهاتف، وألغي هذه الأرقام حتى لا يعرفني أحد، وأهجر هذه المجالس أقول لك: يا أخي الكريم! أنت أملك طويل، هل تضمن أن ترجع إلى البيت؟! هل تضمن يا أخي العزيز أن تسمع نهاية حديثي؟!
هل تضمن يا أخي الكريم أن تسمع آخر كلمة أقولها؟!
والله لا نضمن، أن نسمع أذان العشاء، بل لا نضمن إذا خرج النفس أن يرجع إلينا مرة أخرى.(27/9)
شاب انسلخ عن منهج الله
أخي العزيز! (ما من ميت إلا يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه).
اسمع إلى هذا الشاب! ونحذر كل من أقبل على الله ثم انتكس، كل من استقام ثم انحرف! انتبه! انتبه! القضية ليست بالهينة!
يقول بعض كبار السن -والقصة قريبة لعلها في العقود الماضية- ممن كانوا يبحرون في البحر للتجارة: كان هناك شاب ركب معنا في السفينة يريد التجارة معنا يقولون: كان هو المؤذن والإمام يدعوهم للصلاة، ويعنف على من يتأخر عن الصلاة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إمامهم ومؤذنهم، الله أكبر! شاب صالح يقولون: فَرَسَت السفينة عند جزيرة من جزر الهند للتجارة، يقولون: فلم ينزل من السفينة خشية على دينه والثبات عليه، ومرت الأيام، ترسو السفينة أياماً حتى يتبضع الناس، يقولون: فجاء صاحب له؛ انظر لأصحاب السوء، فقال له: يا فلان لم أنت حابس نفسك في السفينة؟
قال: لا أريد أن أنزل.
قال: لمه؟
قال: أخشى الفتنة.
قال: تعال، ولا تدخل إلى مواقع الفتنة، تعال إلى السوق فقط يقولون: فراوده حتى اقتنع، فنزل معه وأخذ يتجول ويطلق لعينيه العنان، يقولون: حتى اقترب من موضع فساد فقال له الصالح: ما هذا؟ قال: هذا مكان الفجور لا تقرب منه، فقط اجلس هنا، سوف أدخل ثم أخرج إليك، قال: يا فلان! اتق الله، قال: اتركني ألهو برهة من الزمن ثم أخرج، يقولون: وانتظَرَ صاحبَه، يقولون: وأخذ ينظر إلى كل من يدخل ومن يخرج، أرأيت! إنها خطوات الشيطان، خطوة خطوة، يقولون: فلما نظر اقترب، فتح إحدى النوافذ وأخذ ينظر إلى الداخل، فتحرك قلبه للمعاصي وللذنوب يقولون: ولم يفعل شيئاً فرجع إلى السفينة.
وفي اليوم الثاني نزل بنفسه إلى المكان، أرأيت! إنها خطوات الشيطان يقولون: فنزل إلى المكان بنفسه، لم يحتج إلى أحد، فدخل، فأخذ يعاشر ويعاقر الحرام ويشرب من الحرام ويفعل الحرام يقولون: وظل أياماً في ذلك المكان لم يخرج منه أبداً.
ولما حانت ساعة الرحيل قال قائد السفينة: أين فلان؟ ركب الناس، قالوا: لا نعلم قال: انزلوا ابحثوا عنه فبحثوا فوجدوه في مكان الفجور والدعارة يقولون: فرجعوا إلى قائد السفينة قالوا: إن فلاناً قد فسد دخل إلى ذلك المكان الفاجر، قال قائد السفينة: ائتوني به قالوا: لا يرضى قال: قيدوه وأتوا به وفعلاً، يقول كبار السن: فقُيِّد بالحبال وأدخل السفينة رغماً عنه وهو يبكي وهو يقول: لا أريد أن أذهب معكم، أريد أن أمضي حياتي في هذا المكان، أرأيت كيف انتكس!
يقولون: ومرت السفينة وسارت في البحر، يؤذن المؤذن فلا يصلي معهم، يقولون: فقط جالس في السفينة يبكي، يبكي بكاء شديداً حتى جاءه قائد السفينة يوماً لما اشتد بكاؤه قال: يا فلان! لقد أزعجتنا، لقد رفعت الصوت حتى مللنا منك لم تبك هذا البكاء؟
قال: أتريد أن تعرف؟ قال: نعم، يقولون: فكشف عن سوءته -عورته- يقولون: فنظر إلى سوءته قد أصابها المرض ويخرج منها الدود، يقولون: حتى فزع قائد السفينة وهرب منه، قال: أعوذ بالله! أعوذ بالله! لم نسمع بهذا من قبل.
يقولون: وفي تلك الليلة قام كل مَن على السفينة على صوت صيحة شديدة وصراخ يقولون: فاتجهوا ناحية الصوت في آخر الليل فوجدوا هذا الشاب عاضاً على خشبة في السفينة وقد زَهَقَت روحُه، أرأيت! أرأيت!
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] مثل: الثعبان، أرأيت الثعبان كيف ينسلخ من جلده؟! هكذا: {فَانْسَلَخَ مِنْها} كان يصلي الآن لا يصلي، كان يقرأ القرآن الآن يستمع الغناء، كان يذهب إلى الحج والعمرة الآن يذهب إلى بعض البلاد ليفعل الحرام: {فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:175 - 176] أي: بالدين {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176].
أتعرف مَثَل هذا الرجل الذي ينسلخ، الذي ينتكس؟! كان يقوم الليل، الآن في الليل على الفضائيات؛ أفلام، مسلسلات، رقص، غناء، كان يبدأ صباحه أول ما يبدأه بصلاة الفجر في المسجد أما الآن صباحه على الأغاني والموسيقى، كان يذهب يتجول ليدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، الآن يتجول لينظر إلى النساء ويعاكسهن، أرأيت! {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:176].(27/10)
امرأة تقتل ولديها ارضاءً لعشيقها
أخي العزيز! أسمعت بأناس عشقوا حتى مرضت قلوبهم وسقمت القلوب من العشق؟! أسمعت بمرض العشق؟!
مرض الزمن، شباب ورجال يبكون أتعرف لم يبكون؟
لأن حبيبته فارقته، الله أكبر! أسمعت برجل احمرَّت عيناه من البكاء، ودق جسمه، وترهل واحدودب ظهره ومرض وسقم تعرف لماذا؟ لأنه يعشق، الله أكبر!
أسمعت بامرأة أنجبت طفلين صغيرين من أجمل ما خلق الله، أحدهما عمره سنة والآخر ثلاث سنين، طلقها زوجها فعشقت رجلاً وعاشرته بالحرام، فامتنع الرجل عنها، قال: إن أردتيني فتخلصي من الطفلين، أتعرف ماذا صنعت؟ وضعتهما في سيارة، ودفعت السيارة إلى أحد الأنهار، فسقطت السيارة وفيها الطفلان، وغرق طفلاها إرضاءً لعشيقها إرضاءً لحبيبها.
أسمعت برجل ضرب أمه وأباه إرضاءً لعشيقته؟!
أسمعت برجل دمَّر أسرته لعين عشيقته؟!
أرأيت! إنه مرض العصر إي والله، إنه مرض العصر.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
إي والله، أما العشق فإنه لا يستفيق صاحبه.(27/11)
ابن عباس يؤتى بشاب عاشق
ابن عباس في يوم عرفة -وعرفة قريبة منا- استشِعْر لَمَّا يقال: لك: عرفة، ومنى، ومكة، استشعر هذه البلاد، أعظم يوم، يوم عرفه، وابن عباس كان جالساً بعد العصر، وهذه أفضل ساعة في يوم عرفه، آخر الساعات في أفضل يوم، والرب ينزل، والمكان عظيم، وجيء لـ ابن عباس بشاب يُحمل، شاب ضعيف قد ترهل جسمه ونحف، فتى بلِيَ بدنُه يُحمل إلى ابن عباس، فقال ابن عباس: [سبحان الله! ما هذا؟ فقالوا له: استشفِ لهذا يا ابن عم رسول الله -أي: ادعُ له الله عز وجل- قال: ما به؟ قالوا: يا بن عم رسول الله إن به مرض العشق -العشق في أيام ابن عباس - فقال ابن عباس: ماذا؟ قالوا: العشق، فأخذ الشاب الضعيف صاحب البدن المريض الذي يوشك أن يفارق الحياة، فأخذ يترنم يقول شعراً أتعرف ماذا قال؟ اسمع ماذا قال هذا الشاب:
بنا من جوى الأحزان والصب لوعةٌ تكاد لها نفس الشفيق تذوبُ
ولكنَّ ما أبقى حشاشة مقولٍ على ما به عودٌ هناك صليبُ
وما عجبي موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيبُ
قال ابن عباس: ويحك! ماذا تقول؟
يقولون: فأخذ يصيح ويضطرب بين يدي ابن عباس حتى خرجت روحه في يوم عرفة.
وما عجبي موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيبُ
يقول عكرمة: فما زال ابن عباس رضي الله عنهما يتعوذ من العشق يومه ذلك حتى غربت الشمس].
إنه مرض! ألا ترونهم ماذا يكتبون؟ ألا ترون أشعارهم؟
جنون وغرام، بل والله إن بعض أشعارهم لا تقال إلا في الله، عبادة يعبدون بها من يعشقون إي والله!
أسمعت بمن سجد لعشيقته فكانت السجدة الأخيرة، ويلقى الله عز وجل على هذه الحال.(27/12)
رجل يعشق فتاة نصرانية فيكفر هو وتسلم هي
يذكر ابن الجوزي قصة رجل مسلم عشق فتاة نصرانية؛ فتعلق قلبه بها فحُرِم منها وحرمت منه؛ فمرض الرجل ومرضت الفتاة، يقول ابن الجوزي في ذم الهوى، اسمع ما الذي حصل!
يقول: فاشتد مرضه، وكان عندهما صاحب ينقل الخبر بين الاثنين، يأتي إليها فينقل خبره، ويأتي إليه فينقل خبرها، فمرض الشاب وازداد مرضه، فسقط على الفراش حتى اشتد به المرض، وكان صاحبه عنده فقال الرجل المريض العاشق: يا فلان! أرى أنه قد حان الأجل، سوف نفارق هذه الدنيا، قد حان الأجل واقتربت الساعة، قال: أما صاحبتي فما لقيتها في هذه الحياة، وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة فقال صاحبه: إذاً ماذا تصنع؟
قال وهو يحتضر: سوف أبدل ديني؟ قال: ماذا؟ قال: سوف أبدل ديني، قال: هو على دين النصارى، وأعبد الصليب وأعبد عيسى، يقول: فلا زال يرددها حتى مات من ساعته، أرأيت!
يقول ابن الجوزي: يُروى أن هذه الشابة ماتت بعد أيام أتعرف كيف ماتت؟ يقولون: ماتت وهي مسلمة، أسلمت وشهدت الشهادتين، ثم ماتت وهي مسلمة: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].(27/13)
شاب يموت وهو يعاشر امرأة بالزنا
يقولون: أحدهم مات وهو يعاشر امرأة بالزنا، شاب صالح فتر وضعف دينه، اختلط ببعض الفسقة الفجرة، وكان قد تعود على العمرة والحج قالوا له: نريد أن نذهب إلى بلاد الزنا والخنا قال: أعوذ بالله! قالوا: تعال تمتع، قال: لا، فلا زالوا به حتى اقتنع، والقصة حقيقية، وهذه القصة ربما البعض لا يصدقني بها؛ ولكن هناك من القصص ما هو أغرب.
يقولون: فذهب معهم بعد أن اشترط عليهم ألا يذهب معهم إلى الحرام، فقط ليرى تلك البلاد، فكان في كل ليلة يجلس في الغرفة في الفندق، وهم يذهبون إلى الحرام ويرجعون في الصباح، كل ليلة وهو لا يذهب معهم لا زال فيه شيء من الدين.
يقولون: حتى مكروا مكراً قالوا: سوف نأتي بعاهرة إليه في الغرفة لم لا يفعل الزنا معنا؟! حسد وحقد يقولون: فجاءوا له بعاهرة إلى غرفته ووعدوها بمكافأة عظيمة إن راودته ووقع عليها، يقولون: فأُدخلت العاهرة إليه في الغرفة وأُغلق الباب، فلا زالت تراوده ولا زالت تكلمه، ولا زال بها ولا زالت به هو يدفعها وهي تراوده حتى وقع عليها وفعل معها الزنا، يقولون: وفي الصباح دخلوا عليه فوجدوه مضطجعاً عندها، هما الاثنان على فراش واحد، فراش الزنا.
فقالوا لها: كيف صاحبك؟ قالت: هو بخير حال، هل فعل ما فعل؟ قالت: نعم.
ويقولون: فأيقظوه فلم يتحرك، فلان، لم يجبهم، أتعرف ماذا صنع الله عز وجل به؟
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] مسكين ما يدري أن ملك الموت ينتظره، فلما وقع انتهى أمره.
تقول: لماذا؟
أقول لك: القلب مريض، القلب كان يريد المعاصي، كان يريد الزنا، كان يريد الخنا: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] يقول الله عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
سمعتُ عن رجل أتعرف كيف مات؟ قيل له: قل: لا إله إلا الله يقول: لا أريد أن أقولها، قيل له: قل: لا إله إلا الله قال: لا أريد أن أقولها.
وآخر: قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر.
وثالث: قيل له: قل: لا إله إلا الله قال: بم أجيبه؟ بم أجيبه؟ قالوا: مَن؟ قال: ربي بم أجيبه إذا لقيته؟
وآخر: قيل له: قل: لا إله إلا الله! أتعرف ماذا قال؟ قال: ربي هو ذا يظلمني، ربي هو ذا يظلمني، ربي هو ذا يظلمني، قيل له: اتق الله اتق الله، وهو يقول: ربي يظلمني، ومات وهو يلفظها يلقى الله عز وجل على هذه الحال.
أخي الكريم! العمر واحد والحياة واحدة، فاختر لنفسك أي ميتة تريد.
كان رجل من بني النجار في أيام النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يشفع له أن كان في ذلك العصر، كان مع النبي وحفظ البقرة وآل عمران وكان من المقربين؛ لكنه انتكس وتنصر واتبع دين النصرانية، وذهب إلى النصارى، فأعجبوا به، رجل كان مع محمد عليه الصلاة والسلام وختم البقرة وآل عمران؛ فأعجب به النصارى ورفعوا شأنه وأعلوا مكانه حتى وصل به الأمر أنه نُصِّب منصباً عند النصارى، بعد أيام قصَم الله عز وجل عنقه ومات الرجل أتعرف ماذا صنع الله به؟ يقولون: دُفن هذا الرجل ثم جيء بعد يوم وقد لفظته الأرض، النصارى دفنوه، ثم جاءوا بعد يوم فوجدوه قد لفظته الأرض، فدفنوه مرة أخرى، وجاءوا بعد يوم فوجدوه خارج الأرض، الأرض تلفظه، ثم دفنوه في اليوم الثالث وحفروا له حفرة، وأدخلوه في الحفرة، وردموا عليه التراب فجاءوا في اليوم الثالث، فوجدوه خارج الأرض، كلما دفنوه فإذا بالأرض تلفظه حتى الأرض لا تريد أن تحوي هذا الرجل رجل انتكس: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:176] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29].(27/14)
نماذج لأناس حسنت خاتمتهم
أخي العزيز! حتى لا يصاب الإنسان منا باليأس انظر إلى الصالحين كيف ختم الله لهم.
سوف أخبرك بقصص قديمة وقصص حقيقية واقعية معاصرة حتى لا تقول: الأمر في الأزمان الماضية فقط، لا يا أخي العزيز.(27/15)
الرسول صلى الله عليه وسلم يختار الرفيق الأعلى
على رأسهم نبينا عليه الصلاة والسلام فمات وعلي أي حال مات؟! كان يعرق ويصاب بالحرارة حتى تقول له عائشة: (يا رسول الله! إنك تمرض لا كما يمرض أحدنا، قال: نعم إني أوعك ليس كأحدكم) أتعرف لمه؟ (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل) كان يُسكب عليه سبع قرب من الماء حتى تخف حرارته عليه الصلاة والسلام فيفيق، ثم يريد القيام فيسقط مرة أخرى ويُغمى عليه، ثم يسكب عليه بالماء وهكذا حتى يرفع إصبعه إلى السماء ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات).
أخي الكريم! هل فكرت في هذه السكرات! كيف الموت! كيف تخرج الروح! يقول: أحد السلف لما احتضر قيل له: [كيف الموت؟ قال: كأني بين السماء والأرض وقد أُطبقت السماء على الأرض وأنا بينهما -الله أكبر! - وكأن نَفَسِي يخرج من ثقب إبرة] إي والله كأن النَّفَس يخرج من ثقب إبرة.
قال بعضهم: كأنه شوك يُجَر من الرجل إلى الرأس.
إنه الموت، الموت قد يكون الليلة، قد يكون غداً، هل فكرت في هذه اللحظات، بكت فاطمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بنية! لم تبكين؟ قالت: واكرب أبتاه، واكرب أبتاه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم، لا كرب على أبيك بعد اليوم).
وضعته عائشة على صدرها بين سحرها ونحرها، فأخذ يقول: (الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى) لا إله إلا الله! ثم خرجت نفسه عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].(27/16)
عمر بن الخطاب المبشر بالجنة
أرأيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي الفجر يقولون: في آخر صلاة بكى -بكى في صلاة الفجر- فبكى الناس حتى سُمِع نشيجه من وراء الصفوف، فتقدم أشقى القوم المجوسي وكان بيده خنجراً مسموماً، فأخذ الخنجر وطعن به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه -طعنه في الصلاة- فحمل عمر -أتعرف ماذا قال عمر وهو مطعون؟ - قال: الصلاة الصلاة ماذا صنع الناس بها؟ الصلاة الصلاة ماذا صنع الناس بها؟ فإذا بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُحمل فيُدخل إلى غرفته، فإذا ابن عباس يقول: يا أمير المؤمنين! ما من عين تطرف إلا يذكرك الناس بخير فقال: غُرَّ بهذا غيري يا ابن عباس، فقال لابنه عبد الله: يا بني! ضع خدي على الأرض، فلم يلتفت عبد الله، ثم قال له مرة أخرى: ضع خدي على الأرض، فلم يتلفت قال: يا بني! ضع خدي على الأرض لا أم لك، يقولون: فوُضع على الأرض فأخذت عيناه تذرفان بكى عمر، ثم قال: ويلٌ لي إن لم يغفر لي ربي، ويل لي إن لم يغفر لي ربي، إنه المبشر بالجنة، فاروق هذه الأمة.(27/17)
عثمان بن عفان يستشهد على أيدي الخوارج
أسمعت بـ عثمان؟
عثمان علم أنه سوف يموت، رأى رؤيا في المنام -وكان صائماً- أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر، فقالوا له بعد أن سلموا عليه: اصبر يا عثمان، فإنك ستفطر عندنا، فاستيقظ في الصباح وكان صائماً فعلم أنه لن تغرب عليه الشمس إلا وقد قبض الله روحه، فأعْتَقَ عشرين مملوكاً يملكهم وتصدق بما تصدق، وجلس في بيته يقرأ القرآن قالوا: [نقاتل الناس عنك قال: لا، دعوهم.
فإذا به يدخل عليه الأشقياء الفجار، فيأتي الرجل ويمسك عثمان من لحيته فيطعنه تسع طعنات قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر.
وكذب، فالتسع كلها ليست لله.
فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه لَيُحْيِي الليل بالقرآن] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} هذه هي الوفاة، هذا هو الموت الذي يشرف الإنسان: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32].(27/18)
سعد بن أبي وقاص المبشر بالجنة
أسمعت بـ سعد بن أبي وقاص، هذا العابد المبشر بالجنة، هذا المجاهد؟
كان رأسه في حضن ابنه مصعب وهو يحتضر؛ فبكى مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأبوه ينظر وهو يحتضر فقال له: [أي بني لم تبك؟ قال: أبكي على حالك يا أبي، فقال له: يا بني! لا تبك فإن الله لا يعذبني أبداً، وإني من أهل الجنة] كيف لا وقد بُشِّر بها؟!
{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
أخي العزيز! أي خاتمة تريد؟ ألا تريد هذه الخاتمة؟ إنه الجهاد إنه الصدق إنها العبادة.
عثمان أتعرف لم مات على هذه الحال؟
كان يقوم الليل، ويصوم النهار، وينفق ماله في سبيل الله، ويجاهد في سبيل الله، هكذا قبض الله عز وجل أرواحهم.(27/19)
الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة
أسمعت بـ الحسن بن علي المبشر بالجنة ريحانة رسول الله رضي الله عنه وعن أبيه؟
لما احتُضِر بكى بكاءً شديداً سبحان الله! مبشرون بالجنة ويبكون عند الوفاة! بكى بكاء شديداً فقال له أخوه: [ما يبكيك يا أخي؟ إنما تقدم -انظر التذكير! إذا الإنسان احتضر ذكِّره بأعماله الصالحة، ذكِّره بأعماله الخيِّرة؛ حتى يحسن الظن بالله عز وجل- قال: يا أخي! لم تبكِ وأنت تقدم على رسول الله، وعلى علي، وعلى فاطمة، وعلى خديجة، وهم قد ولدوك؟!
كيف تبكي وأنت سيد شباب أهل الجنة؟!
كيف تبكي وقد قاسمت الله مالك ثلاث مرات؟!
كيف تبكي وقد مشيت إلى الحج خمس عشرة مرة على قدمك؟!
كيف تبكي وأنت المبشر بالجنة؟!
يقول الراوي: فأخذ يزداد بكاؤه رحمه الله] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
مصيبة! بعض الناس يصلي خمس صلوات الفروض وظن أنه قد وصل، ظن المسكين أنه قد انتهى وقد أصاب الفردوس الأعلى!
الحسن بن علي أتعرف لما توفي ماذا وجدوا؟ وجدوا على ظهره خطوطاً سوداء فسألوا: [ما هذه الخطوط؟ ماذا كان يصنع الرجل؟ فلم يجدوا إجابة، حتى بحثوا كثيراً فوجدوا صاحباً له ومقرباً إليه قالوا: أتعرف هذه الخطوط السوداء في ظهر الحسن؟ قال: نعم، قالوا: مم هذه الخطوط؟ قال: كان رحمه الله ورضي الله عنه كل ليلة إذا انتصف الليل، ونام الناس، وسكنت الأصوات، كان يحمل كيساً من طحين ودقيق على ظهره كل ليلة، فيتجول على بيوت الفقراء فيوزع عليهم الطعام، أرأيت! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].(27/20)
أبو الدرداء يشتكي من ذنوبه
أبو الدرداء رضي الله عنه، تعرفون من هو أبو الدرداء.
يقول معاوية: [دخل عليه أصحابه في مرض الموت فقالوا له: مم تشتكِ رحمك الله؟ قال: أشتكي ذنوبي، فقالوا له: وماذا تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قال: أفلا ندعو لك الطبيب؟ -هل تريد طبيباً؟ - قال: الطبيب هو الذي أضجعني] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28].
قبل سنوات في الحج الناس قبل غروب الشمس في يوم عرفة، أعظم يوم، يغفر الله لكل أهل عرفة، يقول لملائكته: (أشهدكم أني قد غفرت لهم) بل لو أن الإنسان ذنوبه مثل عدد حبات الرمل، أو مطر السماء، أو أيام الدنيا ليُغَسِّلها الله في ذلك اليوم، يكفر كل الذنوب.
في ذلك اليوم قبل سنوات والناس في سياراتهم ينتظرون موعد النفير، غروب الشمس في اللحظات الأخيرة، والرحمات تتنزل، إذا بإحدى الباصات يخرج منها التكبير: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! تجمَّع الناس؛ ما الخبر؟ قبض الله روحه في تلك اللحظات.
يُبعث عند الله وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
الناس في المحشر ينظرون، مَن هذا؟ ماذا صنع؟ ماذا فعل؟ حَجَّ واعْتَمَرَ ومات وهو في هذه الحال.
يقول في المحشر والناس يسمعون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وربما بجنبه رجل بُعث عند الله يغني!
بُعث عند الله يشرب الخمر!
بُعث عند الله يزني!
بُعث عند الله على التلفاز، أو أمام الإنترنت!
بُعث عند الله نائماً عن الصلاة متعمداً، وضع ساعته بعد طلوع الشمس متعمداً ألا يصلي الفجر!
بُعث عند الله يدخن!
بُعث عند الله عز وجل يسكر!
ومنهم من يُبعث عند الله وجرحه ينزف والناس ينظرون ما باله يضحك ويبتسم وهو ينزف الدم! اللون لون دم، والريح ريح مسك أتعرف من؟ إنه الشهيد: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] أي ميتة هذه! الله أكبر!
أرأيت! تسحقهم الدبابات، نزلت عليهم الصواريخ، تفجرت فيهم الألغام، تبحث عن جثته، لا تجدها، احترق، تقطع إرْباً إرباً، مزق جسمه حتى لا تكاد تجد له أثراً، هل أحس بالألم؟ كلا والذي خلق السماء لا يجد ألماً إلا كما يجد أحدنا ألم القرصة قرصة النملة أسمعت بهذا؟ إلا كقرصة النملة، ثم إن خرج الدم أول قطرة يَغْفِرُ الله ذنبه كله، يرى مقعده من الجنة قبل أن يموت، يؤمَّن فتنة القبر، إنها الميتة.(27/21)
جعفر الطيار يموت وهو يبتسم
جعفر الطيار قُطِعَت يمينه، فمسك الراية بالشمال فقُطِعَت، فاحتضن الراية بعضُدَيه فتكسرت الرماح عليه وهو يبتسم ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها(27/22)
ابن تيمية يموت وهو يقرأ القرآن
أسمعت بـ شيخ الإسلام كيف مات وهو يقرأ القرآن؟
ختم القرآن أكثر من ثمانين مرة فلما وصل إلى قول الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] فجلس ولفظ الشهادتين وخرجت النفس إلى بارئها.(27/23)
عمر بن عبد العزيز مات وهو يعاين الملائكة
عمر بن عبد العزيز الزاهد العابد المجاهد الورع، قبل الوفاة قال لمن حوله: [اخرجوا فإني أرى وجوهاً ليست وجوه إنس ولا جن -الملائكة- فلفظ قبل الوفاة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]].
هل أعددت أيها الأخ الكريم لهذه اللحظات؟!(27/24)
الحسن البصري يموت وهو يلفظ الشهادتين
أسمعت عن الحسن البصري؟
الذي كان يبكي بكاءً شديداً، الذي زار جارية يوماً من الأيام يعزيها قبل وفاتها، فبكى رحمه الله، الحسن البصري كان يبكي فيقال له: لم تبك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً.
الحسن العابد الزاهد العالم التقي النقي يقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً.
في الاحتضار بكى، قالوا: لم تبك قال: نُفَيْسَةٌ ضعيفةٌ وأمرٌ هئول، وإنا لله وإنا إليه راجعون! ثم أغمي عليه، فأيقظوه، يا أبا سعيد! يا أبا سعيد! فاستفاق قال: رحمكم الله، لقد نبهتموني من جنات وعيون، ومقام كريم، أيقظتموني وأنا في إغمائتي دخلت الجنة، وأنا في إغمائتي دخلت الجنة ورأيتها رحمكم الله.
ثم لفظ الشهادتين وفاضت روحه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].(27/25)
داعية يموت على عتبات المسجد
شاب عمره خمسة عشر عاماً وأحد الدعاة إلى الله، داعية ملتزم عابد حسن الخلق يحدثني من أثق ويعرفه.
يقولون: توضأ لصلاة المغرب، فذهب إلى المسجد، ولم يكن به مرض أبداً، رجل شاب أثَّر في كثير من الناس، واهتدى عليه بعض الناس، شاب أحد الدعاة إلى الله، من طلبة العلم ومن الملتزمين توضأ لصلاة المغرب، قد انتهى يومه، يقولون: فما أن خطى عتبات باب المسجد لعله كان يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك فإذا بروحه تخرج ويسقط عند باب المسجد: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
أخي العزيز! فكِّر أي ميتة تريد؟ فكر في حالك، لا تقل: لا، الله سوف يقبضني على هذه الحال، ما أدراك؟
يا من يصر على الذنوب! يا من يخفيها بينه وبين نفسه! يا من يسهر على الفضائيات! يا من يكلم الفتيات! يا من ينظر إلى الحرام! يا من يجلس مجالس الغيبة والنميمة! فكر يا أخي العزيز؛ فإن الموت يأتي بغتة: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
ماذا أصنع؟
تب من الآن، واستعد، وانتبه، فإن هذه اللحظة تأتي فجأة.
كن مستعداً يا أخي العزيز، ادعُ الله أن يحسن الخاتمة، ادعُ الله بالثبات فإن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
أخي العزيز! استعد لهذه اللحظات.
كيف أستعد؟
بالصيام، من مات وهو صائم وجبت له الجنة.
بالقيام، فإن القيام من أسباب ووسائل الثبات على الدين.
قراءة القرآن، فلعل الله يثبتك يا أخي العزيز.
ولا تقل: أنا ملتزم، فإن هذه المقولة إنما تدل على ضعف الإيمان، وعدم معرفة حقيقة النفس.
الملائكة التي لا تعصي الله ما يأمرها، طوال حياتها عبادة، إذا بُعِثَت قالت: (سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك).
أسأل الله جل وعلا أن يحسن خواتيمنا جميعاً.
أقول هذا القول، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم وإنصاتكم.(27/26)
لماذا لا ينصرنا الله؟!
لقد وصل المسلمون في هذا الزمن إلى حال من الذل والهوان مع أن عددهم يفوق الألف مليون، بسبب الخلاف والنزاع والتشرذم الذي طغى عليهم، وذلك لتخلقهم ببعض الأخلاق السيئة كالكبر والحسد التي أوصلتهم إلى هذا المستوى من الذل، فلابد من الرجوع إلى دين الله عز وجل والتآخي والتآلف فيما بينهم لينالوا نصر الله عز وجل.(28/1)
من أسباب ذل المسلمين وهزيمتهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! لماذا لا ينصرنا الله جل وعلا؟!
كم عدد المسلمين في هذه الأيام؟
يفوقون الألف مليون مسلم، وهم أرخص الدماء على وجه الأرض!
ما الذي يجري للمسلمين؟
وما الذي يحدث لهم؟
أمةٌ من أمم الإسلام تباد من الأرض ولا يتحرك لهم ساكن!
ما الذي يحدث لهم؟ وما الذي يجري؟ ولماذا وصلنا إلى هذه الحال؟!
كنا خير أمة تهابنا الفرس والروم؛ تحسب لنا الأمم ألف حساب، ثم صرنا إلى أذل الأمم، صار حالنا لا يؤبه له، دماؤنا أرخص الدماء، كلامنا لا يسمع ولا يطاع؛ بل لا نُستشار حتى في أمورنا، ما الذي حدث؟! وما الذي جرى؟!
إن من أعظم الأمور التي أوصلتنا إلى هذه الحال التي نحن فيها ما سوف نتحدث عنه في هذه الخطبة.(28/2)
الخلاف والنزاع بين المسلمين
من أعظم أسباب ذلنا وهزيمتنا: الخلاف والنزاع بين المسلمين والتفرق والتشرذم بينهم.
انظروا إلى أحوالنا، كثيرٌ منا يحمل الحقد على أخيه؛ تعصبٌ للجنسيات، والقبليات، والقوميات، والأصول، والأعراف؛ لم يخرج المستعمر من هذه البلاد الإسلامية إلا بعد أن زرع فينا التفرق والتشرذم والتعادي، ووضع بيننا حدوداً تلو الحدود.
وما زال اليهود إلى هذه اللحظة يؤججون الفتن بين المسلمين، قال الله جل وعلا في وصف أفضل أمةٍ وخير ناس -أصحاب محمدٍ عليه الصلاة والسلام-: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] ليست القضية بالمال.
هل المال يجمع الأسود والأبيض والأحمر والأخضر؟! هل المال يجمع الحبشي والرومي والفارسي والقرشي؟! لا والله! {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] دين الله هو الذي يجمع بينهم.
سبحان الله! هل نصدق أن يضع الفارسي يده بيد الرومي؟!
سلمان وصهيب من أمتين تقتتلان صباحَ مساءَ، أعدى أمتين على وجه الأرض في ذلك الزمان، ولكن يضع سلمان الفارسي يده بيد صهيب الرومي.
من يصدق أن يتقدم الحبشي على كل القرشيين ليكون هو المؤذن لرسول الله؟!
أي أمة تلك؟! أي شعبٍ هذا؟! إنها تربية المصطفى عليه الصلاة السلام.
أبو بكر سيدٌ من سادات قريش يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت الرب جل وعلا).
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].
وصلنا إلى زمان يحتقر المسلم فيه أخاه؛ لأنه من جنسية كذا، أو لأنه عامل نظافة، أو لأنه ليست عنده شهادة، أو لأنه فقير مسكين، يحتقره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي يكفيه شراً، فإنه بلغ قمة الشر أن يحقر أخاه المسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) المسلمون في قطر وفي الكويت، وفي المملكة، وفي المغرب، وفي أمريكا، وفي السودان، وفي أنحاء الأرض كلها هم إخوة.
(المسلم أخو المسلم؛ لا يسلمه ولا يظلمه).
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
نبكي حالنا، ونحن ألف مليون مسلم:
ألف مليون أصبحوا كغثاء بشط يم
ومُصَلَّى نبيهم بيد اللص يقتسم
أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم
وكسا ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم
إن قنعنا بسخفنا وركنا إلى النعم
فخطى الخصم ماضيا ت من القدس للحرم
عندها يندم الجميع يوم لا ينفع الندم
{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
النزاع والضياع والتفرق هي من أسباب الهزيمة التي نعيشها في هذا الزمن.
هل -حقاً- نحن إخوانٌ مسلمون، متآلفون مترابطون؟!
جاء اليهود -كما يفعلون اليوم- يؤججون الفتنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا للأوس يذكرونهم بالماضي -مساكين بعض الناس؛ يتذكر الماضي فيحقد على أخيه- وجاءوا للخزرج يذكرونهم بالماضي، أججوا الفتنة حتى كاد الخلاف أن يقع وينشب بين يدي رسول الله، فقام عليه الصلاة والسلام فقال قولته المشهورة: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم).
ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاء في هذا الزمن إلينا؟! أي دعوى جاهلية نتداعى بها!! بل فاق المسلمون دعاوى الجاهلية، وهو صلى الله عليه وسلم أمام خلاف يسير بين الأوس والخزرج قد قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) كيف لو عاش بيننا؟!(28/3)
أسباب تفرق المسلمين
المسلمون تفرقهم الحدود؛ بل داخل الوطن الواحد تفرقهم الأعراف والقبليات والقوميات؛ بل داخل الفئة الواحدة تفرقهم المناصب والوجاهات، حتى صار هذا الجسد ممزقاً لا يأبه له أحد.
الشيشان وفلسطين وكشمير والصومال، عدِّدْ ما شئت من مصائب المسلمين التي لو طلبت من أحدهم ريالاً أو بضع ريالات قال: ليس هذا شأني، هم يتحملون شئونهم، وكأن المسلمين لا يتكافلون، ولا يرعى بعضهم بعضاً، والله جل وعلا وصف المؤمنين فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] نعم، هكذا المؤمنون وإلا فلا، إن لم يكونوا أولياء بعض، فليسوا حقاً بمؤمنين، ما الذي حدث؟! ولماذا وصل المسلمون إلى هذه الحال؟!(28/4)
الكبر من أهم أسباب تفرق المسلمين
من أهم الأسباب التي تفرق بين المسلمين: الكبر.
اسمع أول سببٍ يفرق بين المسلمين، وفتش في نفسك، هل هذا السبب فيك؟! هل هذا الأمر دخل في قلبك يوماً من الأيام؟ (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ذرة من كبر تمنع الإنسان عن الجنة.
وأول ما عصي الله عز وجل به الكبر: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [ص:76] يقول: أنا خيرٌ من هذا، تريد أن تساويني به؟! {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] أنا خيرٌ منه، أنا من قبيلة كذا وهو من قبيلة كذا، أنا خيرٌ منه، أنا منصبي كذا وهو عامل نظافة، أنا خيرٌ منه، أنا جنسيتي كذا، وهذا جنسيته كذا، قل لي بالله: هل هناك فرقٌ بين المعنيين، بين كلمات إبليس وما يطلق من كلمات في هذا الزمن؟ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] إنه الذي ملأ قلوب بعضنا.
ما هو الكبر؟ هل الكبر أن يركب الإنسان سيارة نظيفة، أو يلبس ملابس جميلة، أو يتزين عندما يدخل المجالس؟ لا، هذا ليس من الكبر، بل هذا مطلوب إن لم يتجاوز الإسراف، الكبر: بطر الحق وغمط الناس، أن يرد الإنسان الحق ويحتقر الناس، يحتقر أي إنسان كان ولو كان يعمل أخس الأعمال، ولو كان يعمل في النجاسات؛ فإن احتقره فإن في قلبه كبراً، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فقد قسمنا الله إلى أمم وشعوب وألوان وجنسيات لهدفٍ واحد، قال عز وجل: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فإن دخل في قلبك كبر فاسمع قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
دخل رجل فقال عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون هذا فيكم؟ فقال: يا رسول الله! هذا حريٌ إن تكلم أن يسمع له -هذا رجل لو جلس في مجلس ونطق فالكل يسمع له- وإن خطب أن ينكح -لو أراد أي بنت فلا أحد يرده- وإن استأذن أن يؤذن له -يدخل أي مكان شاء، فهو رجل ذو وجاهة ومنصب- ثم دخل رجلٌ آخر، فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! هذا حريٌ إن تكلم ألا يسمع له -لا أحد يأبه له، ولا أحد يلتفت إليه- وإن خطب ألا ينكح -لا أحد يزوجه، فهو مسكين فقير رث الهيئة، والناس لا تلتفت إليه، هذا ميزان من؟ ميزان البشر، أما ميزان رب البشر فإنه يختلف- قال: والله إن هذا -أي: الفقير المسكين المطرود المنبوذ- خيرٌ من ملء الأرض من مثل ذاك) الله أكبر! ديننا عظيم، ديننا كبير، وليس هناك دينٌ أعظم منه.
ليدع الغرب ما يدعون من الحضارة، وليزيفوا ما يزيفون من الحقائق؛ فإن في أعظم دولة متحضرة في هذا الزمن يدخل مليون رجل -من الاضطهاد والعصبيات والعنصريات- السجون ويضربون؛ بل ويقتلون لأجل لونهم!
أيدعون الحضارة؟! أي حضارة هذه؟!! كذبوا والله!
حضارتنا وديننا يجعل فيه عليه الصلاة والسلام أسامة بن زيد -وهو مولى ابن مولى- قائداً لجيشٍ فيه أبو بكر وعمر، هذا ديننا، وهذه حضارتنا، وهؤلاء أجدادنا وأعلنها صلى الله عليه وسلم مدوية: (لا فضل لأعجمي على عربي ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) وذلك موافق لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
الكبر وما أدراك ما الكبر؟!
انظر إلى أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام كيف كان متواضعاً؛ صبيان صغار يقول أنس: (كان يأتيهم فيسلم عليهم) هل جربت هذا؟!
ماذا يصنع قائد الأمة، الحاكم، رئيس الدولة، ماذا يصنع في البيت؟!
تقول عائشة: كان يخصف نعله؛ إذا تقطع نعله كان يصلحه؛ بل كان يصلح ثيابه؛ بل كان يقوم في خدمة أهله، فمن منا جرب هذا؟
يخدم أهله في البيت، بل كان أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام يحلب الشياه، وكانت تأتيه الجارية البنت الصغيرة، فتأخذ بيده فتذهب به أين شاءت؛ لا يردها حتى تقضي حاجتها؛ بل كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، وكان إذا أكل لا يتكئ، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها، وكان يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
الله أكبر!
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146].
علام تتكبر؟!
مرَّ مَلِكٌ على عالم من العلماء، فلم يقف له العالم قال: ويحك! ألا تدري من أنا؟! -أتدري من أنا الذي جئت ولم تقم لي؟! - قال: أعرفك، قال: من أنا؟ قال: أنت أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وهذا تحمل في بطنك العذرة، فقال الملك: إي والله! ما عرفني إلا هذا!
(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
عندما تولى أبو بكر الخلافة قالت جارية من الجواري -وكان يحلب لهن الشياه- الآن أبو بكر صار خليفة، لا يحلب لنا الشياه، فسمعها أبو بكر، فقال: لا والله! أبو بكر يحلب الشياه قبل الخلافة وبعد الخلافة.
عمر يحمل كيساً من الدقيق إلى الفقراء فيقال له: يا عمر أنت الآن خليفة وتفعل هذا؟! قال: وجدت في نفسي شيئاً فأردت أن أكسرها.
عثمان ينام في المسجد، فلا يُدرى من هو الخليفة، لا يعرفون من هو أمير المؤمنين؛ لا يعرفون عثمان بين أصحابه.
علي بن الحسين رضي الله عنه من آل بيت رسول الله، فهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما مات وجدوا في ظهره سواداً قالوا: من أين هذا السواد؟ فسألوا عنه؟ فقيل: إنه كان يحمل كل ليلة الدقيق على ظهره في الليل، ولا أحد يراه، ويوزعه على أيتام المسلمين.
الحسن بن علي بن أبي طالب مر يوماً على فرسه، فوجد الفقراء على الطريق ليس عندهم إلا كسرة خبز، فقالوا: هلمَّ إلى الغداء يابن رسول الله -انزل تغد معنا يابن رسول الله- فنزل وهو يقول: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23] فنزل وأكل معهم خبزاً يابساً على الطريق.
يأكل مع فقراء المسلمين؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا لا يحب المستكبرين.
أيها الإخوة المسلمون! التآلف والتحاب والتواد والتآخي بين المسلمين أصلٌ من أصول ديننا، وإن اختلفت الجنسيات، والأوطان، والألوان، فإننا كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
أقول هذا القول، وأستغفر الله.(28/5)
الحسد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
من أسباب تفرق المسلمين: الحسد.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
هل عملت في الأرض معصية قبلها؟!
إنه الحسد؛ الذي ملأ قلوب بعض الناس، فحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله.
اتق الله، وارض بما قسم الله لك، المؤمنون إخوة؛ لا يحتقر بعضهم بعضاً، ولا يحسد بعضهم بعضاً، ولا يظلم بعضهم بعضاً، ولا يتكبر بعضهم على بعض (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
إن أعظم الأمم التي تفرق المسلمين هي اليهود، إذ أن الحسد هو شغلهم الشاغل منذ أول الزمان إلى هذا الوقت، حيث أرادوا أن يؤلبوا المسلمين في المدينة بعضهم على بعض، وهم الذين وضعوا السم له، ولا يزال السم يعاوده ويجد أثره حتى مات عليه الصلاة والسلام.
من الذي سممه؟ اليهود؛ بل هم الذين سحروا محمداً عليه الصلاة والسلام.
وهم قبل ذلك قتلة الأنبياء والمرسلين؛ بل ما تجرأت أمةٌ على سب الله كما تجرأ اليهود، هم الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] قالوا: الله يطلب منا المال فهو فقير!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
بل يقولون في التوراة المحرفة: إن الله نزل وتصارع مع يعقوب؛ بل يقولون -تعالى الله عما يقولون-: إن الله بكى ورمدت عينه، وعادته الملائكة! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
أما سبهم الأنبياء، فإنها أكثر أمةٍ سبت الأنبياء، وقتلت الأنبياء والرسل، وحاربت دين الله.
ثم لما مات عليه الصلاة والسلام زرعت الفتنة والفرقة بين المسلمين، فادعى ابن سبأ الإسلام، ثم أخذ ينشر الفتنة بين المسلمين، وهكذا لا يزالون يفرقون الأمة؛ لأنهم يعلمون أنه أعظم سلاحٍ يقضون به على الإسلام والمسلمين.
انظروا إليهم الآن كيف يفرقون المسلمين، والمسلمون يتكالبون على رضاهم، ويستجدون السلام منهم؛ يستجدون رضا اليهود حتى يعيشوا في سلام، كأنهم يعاندون قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
يريدون السلام مع اليهود، والمساكين لم يقرءوا كلام الله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82].
في حين يحارب بعضهم بعضاً، يطلبون الصلح والسلام مع اليهود.
أي أمة هذه؟! هل تستحق النصر؟!
إن الله لا يظلم أحداً، ومتى ما رأى الله فينا استحقاق النصر نصرنا وهو القائل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
إنهم يصادمون سنة الله الكونية والشرعية وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود).
أليس في قلبك هذا؟ ألا تنتظر هذا اليوم؛ الذي تكون فيه في جيش عيسى عليه السلام تقاتل فيه اليهود؟! (لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون).
الله أكبر! هذه سنة الله الكونية والشرعية، وهم يستجدون اليهود السلام، ويطلبون رضاهم، وهم يحرقون شعباً مسلماً، يحرقون لبنان ويقصفونها صباحَ مساءَ، والمسلمون يتوسلون منهم السلام والرضا! أي ذلة يعيشها المسلمون اليوم؟! (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب فتقول زوجته: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث).
إذا طم الخبث وعم بالمسلمين، فإنهم يهلكون وإن كانوا ألف مليون مسلم؛ لكنهم غثاء كغثاء السيل، قد أوهن قلوبهم حب الدنيا، وكراهية الموت.(28/6)
أسباب النصر
من أسباب النصر التي لا بد أن نأخذ بها: الرجوع إلى الدين، والتآخي والتآلف.
من اليوم لا فرق عندك بين أعجمي وعربي، وأبيض وأسود، وأصفر وأحمر، لا فرق بين مديرٍ وعامل نظافة، لا فرق بين غنيٍ وبين فقير، الناس كلهم سواء عندك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] يكون في قلبك كل المسلمين سواء، أخوك في الصين، وفي الهند، وفي باكستان، وفي أمريكا، وفي جنوب أفريقيا، والذي بجنب بيتك؛ كلهم لك إخوان.
فهذا من أسباب النصر.
ثم لنرجع إلى ديننا، ولنأمر بالمعروف، ولننه عن المنكر، ولنتآلف، ولنتحاب، ولنتواد؛ فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
أقول هذا القول، وأقم الصلاة.(28/7)
ما الهم الذي تحمله؟
إن الإنسان المؤمن الصادق مع نفسه، لو نظر إلى حال السلف الصالح وصدقهم مع الله في مقالهم وحالهم، والهم الذي كانوا يحملونه، حيث حملوا همَّ دين الإسلام وهمَّ الدار الآخرة والمصير، يجد الفارق الكبير بين تلك الأمة وأمتنا اليوم، حيث أصبح همها السفاسف والدناءات، والأمور الدنيوية، وهذا له سبب وهو البعد عن الله، وعدم النظر والعمل بالكتاب والسنة.(29/1)
ضرورة الاهتمام بعمل القلب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
الموضوع كما سمعتم: ما الهم الذي تحمله، وهذا الموضوع لعلي ما اخترته إلا قبل أن آتي لهذا المجلس، ولأنه يهم كثيراً من الملتزمين قبل العوام، ولهذا تجد كثيراً من الملتزمين إنما التزامهم في الظاهر، أما همه فقلبه أبعد ما يكون عن الالتزام، سله من صباحه إلى مسائه، من يومه إلى ليله، بم تفكر؟
ماذا يشغل قلبك؟ ما الهم الذي تحمله؟
أقصى شيء الدوام والوظيفة والمعاش، أو الدارسة إن كان طالباً، أو الزوجة أو الأولاد، أو البيت والأثاث والقسيمة، ثم ماذا؟
ثم لا شيء، ثم أن ينام على الفراش ليستيقظ ويبدأ يوماً جديداً، هذا همه، هذا حاله، هذا تفكيره، ولهذا كثير من الناس يفرح لما يرى اللحية ما شاء الله على حالها، والإزار قصير، وهذا شيء مطلوب وطيب، ولكن ادخل في قلبه، لا تجد أثراً من أثر الالتزام، ولهذا الله جل وعلا ما ينظر يوم القيامة إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ولكن ينظر إلى القلوب، ولهذا الله جل وعلا يقول: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] أي قلب هذا القلب السليم؟
قلب تجده إن جاء وكبر في الصلاة همه في الدنيا، هل هذا القلب سليماً؟!
قلب إن خلا بمحارم الله تلذذ وتعلق بها بل انتهكها، هل هذا القلب سليم؟!
قلب إن قرأ القرآن فهو لا يفكر إلا بالدنيا، وإن بكى في الصلاة فإنما يبكي على مصيبة أو على عزيز فقده ولا يبكي لتأثره بالقرآن، ولهذا فإن الله جل وعلا في أكثر الآيات يخاطب القلوب دون الأجساد، فيقول الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] القلب هو الذي يجعل الله عز وجل عليه الران، المعصية تلو المعصية، والنظرة، ثم أغنية، ثم غيبة، ثم نميمة، ثم عقوق حتى يجعل الله عز وجل على القلب ران، بل أشد من الران قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3] الطبع على القلب، بل القفل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].(29/2)
الهم الذي كان يحمله السلف
ولهذا نتكلم عن الهم الذي يشغل قلبك، أسألك بالله واسأل نفسك في هذا المجلس، بم تفكر؟ وما الذي يشغل همك من الصباح إلى المساء؟
ما الذي يطغى على تفكيرك وعلى قلبك؟
هل هي الدار الآخرة؟
هل هي سكرات الموت؟
ألا تفكر بهذه الأمور؟
أم أنك إن فكرت بها فتأخذ حيزاً قليلاً من همك، أما الغالب: المعاش، والدنيا، والقسيمة، والسيارة، والزوجة، والأولاد، والسفر، ومتاع الدنيا قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].(29/3)
هم الآخرة
يقول يوسف: قال لي سفيان الثوري: ائتني بالماء، يقول: فقربت إليه كوزاً من ماء، ليقوم في الليل، يقول: فاقترب من الماء، ووضع يده على خده، يقول: فتركته وذهبت ونمت، يقول: فاستيقظت لصلاة الفجر، فجئت إليه فإذا هو على الحال التي تركته عليها، فقلت له: يا أبا عبد الله ما زلت على الحال التي تركتك عليها؟
قال: نعم، على هذه الحال.
قال: ولم؟
قال: هم الآخرة، ولهذا من الناس من أخلصهم الله بهذا: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] ما هي الخالصة؟ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46].
كان بعضهم يصلي، فيبكي وتسيل دموعه وتهراق، ولا يشعر من بجنبه أنه يبكي، أين همه؟ همه في الآخرة.
وكان بعضهم كما تقول زوجة مسروق تقول: كان يصلي الليل، حتى تجلس خلفه وتبكي، تبكي رأفة على حاله، ورحمة به، تقول: فإذا أذن الفجر زحف كما يزحف البعير لم؟ همه الآخرة قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
حتى قال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها) إذا أراد أن ينام خوف النار يفزعه فيوقظه، وإذا أراد أن يتلذذ بالفراش حب الجنة يطيره، حتى قالت بنية لأبيها: يا أبتي! مالي أرى الناس ينامون وأنت ما تنام، نومك قليل؟ فقال هذا الرجل -اسمع لتلك الكلمات ثم انظر لحالنا وهمومنا-: يا بنية! خوف أبيك من النار أذهب عنه النوم.
عثمان بن عفان ثالث الخلفاء، يقول ابن عمر: أنزل فيه قول الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] في الليل ما ينام، حتى قيل: إنه كان يختم القرآن كله في ليلة.
دخل عليه الخوارج، وهو في غرفته، طلب الصحابة أن يقاتلوا دونه فأبى، قال: ما تقاتلون اتركوهم، فدى الأمة بدمه، دخلوا عليه واقتحموا الباب، ثم طعنوه تسع طعنات، أشقى القوم طعنه تسعاً قال: أما ثلاث فلله، وأما ست فلشيء وقر في الصدر.
وكذب، تسع كلها ليست لله، طعنه فسال الدم على المصحف فبكت زوجته وقالت: قتلتموه، وإنه ليحي الليل بالقرآن.
انظر الهموم، يمشي على الأرض وهمه في الآخرة، همه أن يدخل الجنة، همه أن ينجو من النار، حتى قال: [والله لو كنت بين الجنة والنار، وما أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أصير رماداً].
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] من الذي جعله ساجداً وقائماً في الليل والناس نيام؟
بل الناس أمام الملهيات، وفي المباحات، ويتلذذون بالفرش والنساء، أما من هو ساجد وقائم لم؟
ما الهم الذي يشغل قلبه؟ قال تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
هل يشغل قلبك هم الدار الآخرة أم أنك نسيت؟ حتى صرت من الذين يصلون ولم يصلوا، ينقرها ولا يدري ماذا صلى، وبم قرأ الإمام، ولم يتذكر يوماً خشع فيه من قراءة القرآن، من السلف من قتل ومات بآية، تعرف ما هذا الآية؟
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] أي قلوب هذه؟ قلوب ملأتها الدنيا، وفتن الدنيا، حتى أصبحت تكبر وكأنها ما كبرت، بل جاءني أحد الناس يشتكي يوماً من الأيام -ولن أنسى هذا السؤال- يقول: والله أفكر في المعصية حتى في السجود، حتى في السجود أقرب ما يكون العبد من ربه، أي قلب هذا؟ بل أي هم هذا؟
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16].
ألا يأتيك هم -أخي الكريم- أنك يوماً من الأيام سوف تكون طريح الفراش.
الحسن البصري يدخل يوماً من الأيام على البيت، فيقول له أهله: يا أبا سعيد! العشاء، فيقول: كلوا عشاءكم، فيقولون له: يا أبا سعيد! برد العشاء، فيقول لهم: كلوا عشاءكم، فقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه، رأيت رجلاً يحتضر: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
لا تقل أخي الكريم! أنا أصبحت أفضل من غيري، والحمد لله عندي بعض الأعمال الصالحة، عند الممات يتبين كل شيء، ويظهر ما في القلب، همك الذي يشغلك سوف تتلفظ به عند الموت، بل يخرج الله عز وجل السرائر: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9].
إن لم يكن في الموت، فعند اللقاء عند الله جل وعلا، رجل قلبه يتعلق بأمرد صبي، فلما حانت ساعة وفاته قال:
أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف في النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
فقالوا له: اتق الله، ماذا تقول؟ أخرج الله ما في قلبه، إن كان حب مردان، أو أموال، أو تجارات وعقارات، أو أثاث، أو فتن الدنيا، أو تعلق قلبه ببيت أو سيارة أو أولاد أو زوجات، فسوف يظهر الله ما في قلبه {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] عند الممات يقولها لكن هل تنفعه؟! ولتتخيل أخي الكريم تلك اللحظات التي فيها تنازع الموت، تخيل ولعلها تكون الليلة الأخيرة هذه، وسل نفسك هل أنت مستعد لهذه اللحظات؟ أم أن ملك الموت سوف يطرق عليك الباب، أو يستأذن منك قبل أن ينزع الروح منك؟ أم أنك يا عبد الله سوف يؤخرك الله حتى ترجع الأمانات إلى أهلها، وتتوب من بعض المعاصي التي بينك وبين الله، لا يعلم عنها إلا الله جل وعلا؟
ولهذا الإمام أحمد لما أشغله هذا الهم، وأقلقه ذلك الهم، يوم من الأيام جاءه رجل فقال له شعراً، فقام الإمام أحمد من مجلسه، وكان حوله التلاميذ والأصحاب، فدخل في غرفة وأغلق الباب، فانتظروه فتأخر، فاقترب أحدهم يستمع إلى الإمام أحمد خلف الباب، يردد الشعر نفسه وهو يبكي:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
لا تقل: ما في أحد، أغلقت الباب، ويفتح التلفزيون وينظر، ما في أحد؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
عمر بن الخطاب، انظر إلى الهم الذي أشغله، يقال: كان يُرى في وجهه خطان أسودان من البكاء.
أخي الكريم: كانوا لا ينامون الليل من الهم الذي يقلقهم، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل كله بآية، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] يرددها ويبكي، ليلة من الليالي تقوم عائشة فتسمع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يبكي، فتقترب فإذا هو في السجود، تعرف ماذا يقول؟
يقول: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي) انظر الهم الذي يقلقهم.(29/4)
هم الأمة
من الهموم أخي الكريم التي لا بد أن تشغلك، هم هذه الأمة، هم إصلاحها، ألا يقلقك؟ ألا يؤثر في قلبك؟
عندما تخرج من بيتك ولا يخرج أحد للصلاة غيرك ألا تضطرب أخي الكريم؟
عندما تقوم للفجر إن كنت من مصلي صلاة الفجر، أنك تمشي في الشارع لوحدك، ولا تسمع إلا قرع نعليك، ألا يحزنك؟
ألا يهمك هذا؟ ألا يصيبك بالحزن أن ترى في كل يوم تزداد بيوت الربا التي تحارب الله جهاراً نهاراً؟
ألا يحزنك ويقلقك لما ترى في الشارع هذه متبرجة، وهذه مع فلان، وهذه كاشفة عن رأسها، وتلك حاسرة عن ساعديها، ألا يحزنك يا عبد الله؟
إن هذا الهم قتل محمداً عليه الصلاة والسلام، حتى تقول عائشة: [كان يجلس -آخر عمره في الصلاة، تعرف لمَ؟ تقول-: مما حطمه الناس، مما حطمه الناس] ألا تحمل هذا الهم يا عبد الله؟
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
همه إن لم يكن في الموت وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة والنار فإنه في هموم الأمة، يحزن ويتألم، حتى قام من مجلسه وهاجر من مكة إلى الطائف، خرج إلى الطائف على قدميه الشريفتين، ودخل على رءوساء القوم وكبراءهم، حتى قال قائلهم قبحه الله: أما وجد الله غيرك ليرسله.
وقال الآخر: إن كنت صادقاً فلن أجيبك، وإن كنت كاذباً فأنا أكبر وأشرف وأعلم من أن أجيبك.
فتبعوه بالحجارة، يلحقهم الصبيان والعبيد والسفهاء، وهو يمشي حتى قال عليه الصلاة والسلام: (انطلقت -اسمع إلى الرواية- قال: هائماً على وجهي فلم استفق إلا بـ قرن الثعالب) تخيل من شدة الهم، ما يدري أين استفاق، مشى فلم يستفق إلا بـ قرن الثعالب، فجاءه ملك الجبال قال: (مرني أطبق عليهم الأخشبين -ترتاح، يزول الهم، يزول كل شيء- قال: لا.
أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) وكان لسان حاله، يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108].
أين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تعرف من هم؟
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الدعاة إلى الله هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هل هذا الهم الذي تحمله؟
ما الهم الذي تحمله يا عبد الله، هل تحمل هم الأمة؟
باخع نفسك، أي: قاتل نفسك على آثارهم: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
أيها الإخوة الكرام! إن القلب بعض الأحيان يكاد يتفطر إن كان في القلب إيمان، إن كان في القلب إسلام، لما ترى شباباً لا يصلون، بل بعضهم يضحك عليك لما تصلي، وجاءني أحدهم والله يقول لي بعد أن صلينا الظهر، قال: لا زلتم تصلون، الناس قد وصلوا القمر وأنتم لا زلتم تصلون، بل صارت الأسئلة الآن في حكم تارك الصلاة: هل يجوز أن يزوج أو لا يجوز أن يزوج؟
والله يا إخوة! يدمى القلب ويحزن القلب من حال هذه الأمة، قبل أيام خرجت من البيت حتى -أيها الأخ الكريم- يصيبك بعض الهم، لتنشغل على حال هذه الأمة، خرجت من البيت فإذا بزحام، والسيارات مجتمعة، وأصوات رنات السيارات والناس قد خرجت، فذهبت مسرعاً فإذا بالشوارع مغلقة، ما الخبر؟ وإذا الناس قد نزلوا من السيارات يرقصون، ما الذي جرى؟
وبعضهم يصور، وأغلقوا الشوارع، وكأن لسان حالي يقول: إن فلسطين لعلها حررت، الحمد لله، بل لعل مشكلة كشمير انتهت بفضل الله، أم لعله والحمد لله طبق شرع الله عندنا، يفرح الناس، يحق لهم أن يفرحوا بهذا، ولسان حالهم يرد، فيقولون: لا، بل فريقنا فاز في لعبة القدم.
أي سخف مدمر عن فساد الشعوب نم
وإلى أي خيبة هبطت هذه الأمم
ألف مليون أصبحوا كثغاء بشط يم
ومُصلى نبيهم بيد اللص يقتسم
أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم
وكسا ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم
إن قنعنا بسخفنا وركنا إلى النعم
فخطى الخصم ماضيات من القدس للحرم
عندها يندم الجميع يوم لا ينفع الندم
{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116] أولوا عقل، أولوا نهى، ألوا ألباب، هؤلاء هم صفوة الخلق، من هم يا رب؟
{أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] هم هؤلاء أهل العقل، بل ما يستحق غيرهم أن يكونوا ألو بقية، ألو نهى، وألوا ألباب.
جاءني قبل أيام ضابط في المباحث، يقول: يا شيخ! ما طلعت من المخفر إلا الساعة الرابعة صباحاً، قلت: ما الخبر؟ قال: قبضنا على مزرعة أو حوطة كلها ممتلئة بالشباب والشابات دعارة، يقول: وكلهم أو أغلبهم من أهل هذه البلد، إخواننا وأخواتنا، يقول: وجئت إلى فتاة ليست كبيرة -صغيرات أكثرهن- فقلت لها: كيف خرجت من البيت؟ أهلك أين هم؟
تقول: أهلي يظنون أنني من خيرة الفتيات، ويحسبون أنني من أشرف الفتيات، قلت: كيف إلى الفجر ما يدرون عنكِ؟
قالت: قلت لهم: إنني في عرس.
أين الرجال؟ أين أولو الغيرة؟ أين أصحاب الحمية؟
أين الدعاة إلى الله جل وعلا؟
صار هم بعضهم -للأسف- أنه يحضر هذا المجلس ثم يشرب شاهي وقهوة، ويقلب كف على كف ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لا حول ولا قوة إلا بالله تقولها بعد أن تبذل الأسباب، بعد أن يشغل قلبك فتسجد في الليل وأنت تبكي تقول: اللهم أمتي أمتي، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ولهذا ذلك الذي آمن من قوم إسرائيل من قوم فرعون ماذا قال؟
{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] ولهذا قال في خاتمة كلامه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44].
أيها الناس: تحركوا! وليشغلنا على الأقل الهم في البداية، لأنه إذا دخل هذا الهم في القلب وصلحت هذه المضغة، صلح الجسد كله، فتجده إما متكلماً أو كاتباً أو ناشراً أو موزعاً أو طارقاً للأبواب، أما إذا فسدت هذه المضغة، فتجده يصد، ويقول للداعية: ماذا تفعل؟ الفساد أكبر منك، يا أخي! ما تستطيع أن تفعل شيئاً، ويأتي المريض الثاني فيقول: الحمد لله نحن بخير، نحن أفضل من غيرنا، ولكن الخطأ باقٍ، والمنكر يبقى منكر، والربا من الموبقات، والزنا من المحرمات، والفواحش من أسباب هلاك الأمم، لابد أنك ترضى بهذا وتصدق هذا، ولهذا زينب لما قالت: {أنهلك وفينا الصالحون!؟} فينا صالحون الحمد لله، يتبجح بها بعض الناس، فينا الحمد لله أهل الصلاة، أهل المساجد، والصائمون والمتصدقون نعم، لا نشك بهذا، ولكن قال: {نعم إذا كثر الخبث} ما الهم الذي تحمله؟
أسألك بالله أيها الأخ الكريم! هل همك لا زال -بعد هذه الكلمات- في أثاث سوف تشتريه بعد أيام؟
أم لا زال همك في شهادة سوف تحصل عليها بعد أشهر؟
أم همك لا زال في سفر سوف تسافره بالصيف؟!
أم همك لا زال في سيارة سوف تركبها بعد أيام؟!
همك بم يا عبد الله؟!
ما الهم الذي تحمله؟
نعم.
لا تنسى نصيبك من الدنيا، ولكن لا تطغى عليك الدنيا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].(29/5)
حال الأمة اليوم
اسمع أخي الكريم! إلى حال أمتنا يصفها هذا الشاعر، هذه الأمة المريضة ولا نقول ميتة، اسمع إلى حالها، وأرجو أخي الكريم أن تفكر في كلمات هذه الأبيات، فكر واستشعر، ثم سل نفسك بعدها، هل دخل الهم في القلب؟ يقول:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدنا أضعناه
كان صغار الصحابة يواجهون صناديد الكفر - أبا جهل - وينقضون عليه كالصقر، وكلهم يفتخر يقول: أنا قتلته يا رسول الله! مجد حتى كان يعد عليه الصلاة والسلام سراقة بسواري كسرى، وأعطاه عمر لـ سراقة، اسمع ذلك المجد الذي ضاع:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده وكان لنا ماض نسيناه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه
هذي معالم خرسٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً فأخطأ دمع العين مجراه
لا در در امرئ يطري أوائله فخراً ويطرق إن سائلته ما هو
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
ما الهم الذي تحمله؟ هل في قلبك هم؟
تطرق يوماً من الأيام بيوت الجيران، تقول لهم: يا قوم! اتقوا الله، يا قوم! الأذان يؤذن ولا أحد منكم يخرج إلى الصلاة، هل هذا الهم يشغل قلبك؟
هل يشغل قلبك يوماً من الأيام أخي الكريم أنك ترى ولدك يحفظ القرآن، يدعو إلى الله، يطلب العلم، يجاهد في سبيل الله، هذه الأمنية التي ما حصلت أنت عليها، هل تتمناها لأولادك؟
هل تتمناها لجيلك يا عبد الله؟
هل يشغل قلبك هذا الهم أن ترى يوماً من الأيام الحدود تطبق وشرع الله يقام، وكتاب الله وسنة رسول الله يحكم بها في هذه الأرض هل هذا الهم يشغل قلبك؟
أم أنت ممن يقلب الجريدة، والصحف، يبحث عن بيت، ويبحث عن محل، أو يفكر في تجارته؟
ولا أحرم عليك هذا ولكن، سل نفسك يا عبد الله وكن صادقاً ما الهم الذي تحمله؟
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/6)
مخالفات نسائية في رمضان
كل الناس يفرحون بقدوم رمضان، لكن الفرحة تتفاوت من شخص لآخر، والمؤمن يجب أن يكون فرحه برمضان لأنه شهر التوبة والقرآن، ولأن فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم هذا ما تحدث عنه الشيخ في بداية محاضرته، ثم تكلم حول بعض المخالفات التي ترتكبها النساء في رمضان، فذكر سبعاً وعشرين مخالفة.(30/1)
فرح الناس بقدوم شهر رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
العنوان -أخواتي الكريمات- كما سمعتن: "مخالفات شرعية في رمضان".
رمضان يفرح بدخوله كثيرٌ من الناس، منهم من يكون من أهل الدنيا فيفرح بدخول رمضان، فهذا التاجر يفرح؛ لأن رمضان قد دخل، وبضاعته سوف تروج، وتجارته سوف تربح، فهو يفرح برمضان، لكن ليس لله جل وعلا.
وذاك يفرح بدخول رمضان لأجل اللعب واللهو، والسهر والمرح، وقضاء الأوقات في المباح، وإن لم يكن هذا في الحرام، فهو يفرح برمضان لكن ليس لله جل وعلا.
وهذا يفرح بدخول رمضان لأجل ما يعرض في التلفاز من مسلسلات ومسابقات، وأفلام وبرامج، وقضاء الأوقات فيما حرم الله، فهو يفرح بدخول رمضان لكن ليس لله جل وعلا.
ومن الناس من يفرح بدخول رمضان لأجل الدعاء والقرآن، والصلاة والذكر والعبادة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين، وفي رواية فيها زيادة: قال: وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة).
إن رمضان يفرح المؤمن بدخوله بل بقدومه، بل يفرح إذا اقترب هذا الشهر ويبكي لفراقه، لأن الله سبحانه وتعالى قد كتبه، فهو يفرح لأن الله كتبه عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لم يكتبه الله عز وجل لأجل المشقة، ولا لأجل التعب، ولا لأجل التكليف فقط، بل قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183](30/2)
رمضان شهر التوبة
ولماذا يفرح المؤمنون بقدوم هذا الشهر؟ لأنه شهر التوبة، فكل من زلت زلة، وكل من أخطأت خطأً، ومن وقعت في معصية تنتظر هذا الشهر بفارغ الصبر؛ لترفع يدها إلى الله جل وعلا، لعل الله يجعلها من عتقائه من النار (ولله سبحانه عتقاء من النار وذلك في كل ليلة).
مضى رجب فما أحسنت فيه وولى شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلاً بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قسراً ويخلي الموت كرهاً منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلصٍ واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيمٍ فخير ذوي الجرائم من تدارك
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] أي: ليست أي توبة، تستغل المؤمنة الصادقة هذا الشهر في التوبة إلى الله جل وعلا من الذنوب والخطايا والمعاصي، فهنيئاً لهذه المرأة، وهنيئاً لتلك التي ما خرج رمضان إلا وقد عتقها الله من النار، وهنيئاً لهذه التي ما مضى رمضان إلا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبها، تفرح بقدوم هذا الشهر؛ شهر المغفرة، شهر العتق من النار، شهر التوبة.(30/3)
رمضان شهر القرآن
وتفرح المرأة وتعد الأيام عداً لقدوم شهر رمضان؛ لأنه شهر القرآن الذي أنزله الله عز وجل فيه، والذي يتفرغ فيه المؤمن والطامع لله جل وعلا في كل شيءٍ إلا من قراءة القرآن، قال الله جل وعلا في وصف هذا الشهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] حُق لشهرٍ مثل هذا أن ينزل الله فيه القرآن، وحُق لشهرٍ مثل هذا أن نعتكف فيه على قراءة القرآن، هذا الشافعي عليه رحمة الله، أتعرفن يا إماء الله كم كان يختم القرآن في رمضان؟ كان يختمه ستين مرة، أما الإمام مالك، إمام دار الهجرة، كان إذا جاء رمضان أقفل الكتب وأغلقها، وترك المجالس إلا مجالس القرآن، يعتكف على قراءة القرآن، وعلى تلاوته، وعلى مراجعته، وعلى مدارسته، قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]
من النساء من يمر عليها رمضان وما ختمت القرآن ولا مرة واحدة، ولا مرة واحدة! سبحان الله! وليس الختم بواجب، ولا نقول: إن هذا الأمر واجب؛ ولكن أي تقصيرٍ في العبادة أعظم من هذا؟ الناس كلهم يعتكفون على كتاب الله، الصغير والكبير، الغني والفقير، الذي هجر القرآن أحد عشر شهراً يختمه في رمضان، وهذا تقصير، وهذا هجران، ولكن أي هجرٍ أعظم من امرأة يمر عليها الشهر كله ولم تختم القرآن مرة واحدة؟ هذا الشهر شهرٌ عظيمٌ، فيه ليلة يقول الله عز وجل عنها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3] هذه الليلة خير من ألف شهر.
أمة الله: كيف بكِ إذا وفقك الله لقيام تلك الليلة: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).(30/4)
مخالفات النساء في رمضان
أمة الله: يجب قبل الصيام أن نطلب العلم، وأنتن في هذا المكان، وفي هذه المجتمع غير معذورات لتقصيركن في طلب العلم نُسأل في كل أمر، كم من النساء من تجامع في نهار رمضان!
وكم من النساء من تفعل المحرمات في نهار رمضان؟
وكم من النساء من تفعل المعاصي في نهار رمضان وهي لا تدري! ترتكب المحرمات، وتقع في المحظورات، وتأتي المفطرات ثم بعد هذا تسأل: ما حكم صيامي؛ لقد فعلت كذا وكذا؟
يجب أن تتعلمي العلم قبله، والله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
والمخالفات التي سوف نذكرها بعضٌ من كثير، وغيضٌ من فيض، فإن مخالفات الناس في رمضان كثيرة جداً، وما سوف أذكره ليس كله حرام؛ فبعضه لا يجوز، وبعضه مكروه، وبعضه خلاف الأولى، والله جلَّ وعلا قسَّم الناس فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] أي: من الناس من يقع في المحرمات {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] لا يفعل المحرمات لكنه قليل الطاعات {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] أعلى الناس مرتبة، ليس فقط يترك الحرام، بل حتى المكروه يتجنبه، وتجدينها تحرص على المستحبات، تفعل المستحب والواجب، إذا كان الأمر يحبه الله جل وعلا، وإذا كان الأمر فيه شبهة بين الحرام والحلال تتركه وتتجنبه خوفاً أن تقع في الحرام.
هذه أعلى المراتب في الناس.(30/5)
ترك الصلاة
أول مخالفة من مخالفات الصيام: أن بعض النساء قد تصوم رمضان ولا تصلي، أو لا تصلي إلا في رمضان، والله جل وعلا قال عن الصلاة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وقال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فبعض النساء تنام عن صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، أو تنام عن الظهر حتى يدخل وقت العصر، أو تنام عن بعض الصلوات حتى يخرج وقتها، هي محافظة على الصيام، وهي مشكورة على هذا، لكنها تضيع ما هو أهم من الصيام، وهي الصلاة، والله جل وعلا يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].(30/6)
استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين
المخالفة الثانية: أن بعض النساء تصوم قبل رمضان بيوم أو يومين، وإذا سئلت: لماذا؟
تقول: احتياطاً، ولربما يدخل رمضان والناس لا يدرون، أو لربما طلع الهلال وما رآه الناس، فهي تصوم احتياطاً، نقول: إنها قد وقعت في المحظور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين إلا صومٌ كان يصومه أحدكم) أي: إذا كانت متعودة على صيام نذر، أو كان هذا اليوم يوم خميس مثلاً، أو إثنين، أو أحد الأيام التي اعتادت على صيامها؛ فإنها تصوم ولا ريب في هذا، لكنها إن قصدت الاحتياط والتقديم على رمضان لأجل الشك فإنها قد وقعت في معصية النبي صلى الله عليه وسلم.(30/7)
ارتكاب المعاصي
المخالفة الثالثة: أن بعض النساء- هداهن الله- في رمضان تقع في المعاصي، هي تعبد الله جل وعلا، ثم تحطم عبادتها، أو تضيع بعض أجورها، ولربما تصوم وليس لها من الصيام إلا الجوع والعطش، ومن المعاصي التي تكثر في رمضان: التلفاز؛ فبعض النساء -هداهن الله- تجلس من الصباح إلى المساء، أو من بعد الإفطار إلى طلوع الفجر، تقضي وقتها أمام التلفاز، ولا يخفى عليكن -أيتها الأخوات الكريمات- ما يكون من التلفاز في رمضان خصوصاً، وفي غير رمضان عموماً؛ من الأغاني والطرب والموسيقى، وبعض الأفلام والمسلسلات التي قد يدخلها بعض الأمور الخليعة أو الجنسية أو الأمور المحرمة؛ فهي تصوم عن المباح، ثم بعدها تقع في الحرام، فالطعام والشراب قد أحله الله وأباحه الله جل وعلا، تركت المباح لله جل وعلا، ولا تستطيع أن تترك الحرام لله جل وعلا!
ومن النساء من تقضي ليلها ونهارها في استماع اللهو والطرب، وفي أشرطة الأغاني، والموسيقى، والمعازف، وإذا سئلت، قالت: أقضي النهار أو أقضي الليل بهذا، وهي بهذا الفعل تذهب كثيراً من أجرها إن حصلت على أجر الصيام، بل قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) أيُّ حاجة وأي فائدة لك -يا أمة الله- أن تصومي عن الطعام وعن الشراب، وعن الجماع الذي هو مباحٌ، ولربما يكون واجباً بعض الأحيان، أي داعٍ لترك هذا كله ثم تقنعين في غيبة بعض النساء؟! تجلس بعض النساء في نهار رمضان، أو في ليالي رمضان تتكلم على فلان وعلى علان، وعلى هذا البيت، وعلى تلك الأسرة لقد صامت وأفطرت على لحوم البشر، قال الله جل وعلا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
وبعض النساء في نهار رمضان -ولا زلنا في المخالفة الثالثة- أو في ليالي رمضان، لا تحلو لها الأسواق ولا التجول في الأسواق إلا في ليالي رمضان، ولهذا نجد الأسواق في ليالي رمضان مكتظة بالناس، بل إن بعض الناس وبعض النساء لا تذهب إلى الأسواق لحاجة، إنما لأجل التجول، ولأجل التسكع في الأسواق، وفي الشوارع، وتقول لها: لماذا هذا؟ تقول: هي عادة تعودناها في ليالي رمضان أن نذهب إلى الأسواق.
ولربما تقع في الحرام، ولربما تتطيب فتذهب إلى الأسواق، ولربما تتبرج بعض الشيء، ولربما تخالط الرجال، وتتميع في الكلام مع بعض الباعة، لقد ضيعت أجرها وصيامها لأجل هذه المحرمات، تركت أحب البقاع إلى الله، لتذهب إلى أبغض البقاع إلى الله، وهي تقول: عادة تعودناها في رمضان! بل بعض النساء -وللأسف- في ليالي رمضان تخرج متبرجة متعطرة، وسوف نأتي إلى هذا -إن شاء الله- لاحقاً.(30/8)
عدم التسوك بعد الزوال
المخالفة الرابعة: بعض النساء تظن أن السواك بعد الزوال محرم في رمضان، وهذه مخالفات- إماء الله- بعضها يشترك فيها الرجال مع النساء، وبعضها يخص النساء دون الرجال بعض النساء تنكر على من تتسوك في رمضان بعد الزوال، أي: بعد الظهر، وتظن أن السواك بعد الظهر حرام، أما قبل الظهر فهو حلال، وتستدل بحديث: (استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) وهذا الحديث لا يثبت، وهو غير صحيح، فالسواك في نهار رمضان أوله وآخره مباح، بل مستحبٌ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) وكان يستحب عليه الصلاة والسلام السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، ولا دليل على تخصيص أول النهار دون آخره، ففي نهار رمضان السواك مستحب أوله وآخره، أما ما وجد هذه الأيام من السواك الذي هو بطعم النعناع، وبطعم الليمون، وغير ذلك؛ فإنه -كما أفتى بعض العلماء- لا يجوز أن يتسوك به في نهار رمضان، لأن فيه زيادة على السواك طعم، ولربما وصل إلى الجوف.(30/9)
الأكل والشرب بعد طلوع الفجر
المخالفة الخامسة: بعض النساء -هداهن الله- يؤذن الفجر فتأكل وتشرب، وتقولين لها: لماذا؟ فتقول: يجوز أن آكل وأشرب حتى يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم.
وبعضهن -والله- تأكل حتى الإقامة، وتقول: يجوز الأكل حتى تقام الصلاة! وهذا كله من الجهل بدين الله جل وعلا، فإذا كان المؤذن موثوقاً بأذانه، لا يتقدم بأذانه على طلوع الفجر فإنه يجب عليها أن تمسك عند قوله (الله أكبر) تمسك عن الطعام والشراب، إلاَّ لقمة بأيدينا، أو شراباً نتمه، أما أن نستمر في الأكل والشرب حتى يقول: الصلاة خير من النوم؛ فهذه مخالفة، قال عليه الصلاة والسلام: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) أما إن علمنا مؤذناً يؤذن قبل دخول الوقت فلا عبرة بأذانه؛ لأنه الله جل وعلا يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187].(30/10)
الإفراط في الأكل
المخالفة السادسة: الإفراط في الأكل، وكأن شهر رمضان شهر أكلٍ وشرب، فهؤلاء النساء وأولئك الرجال يذهبون قبل رمضان لشراء الطعام وتخزين المأكولات والمشروبات فهذا للإفطار، وهذا بعد الإفطار بساعة، وهذا بعد الإفطار بساعتين، وهذا بعد القيام، وهذا قبل القيام، وهذا بين الأربع ركعاتٍ والتي تليها، وهذا قبل الفجر بساعتين، وهذا للسحور! وكأن الليل كله لأجل الطعام والشراب، بل بعض النساء من الظهر إلى أذان المغرب وهي في المطبخ ماذا تفعلين؟
تطبخ عشرين صنفاً، وإذا كان صنف واحد قد نقص في الطعام فيا ويلها ثم يا ويلها! فالزوج يزمجر ويغضب، ويقلب المائدة على وجهها؛ لأن هذا الصنف غير موجود، وكأن شهر رمضان شهر أكل وشرب وليس شهراً للصيام، بل وكم نسمع من النساء بل حتى من الرجال من يصيبه مرض التخمة في رمضان، بل مرض السكر، وتجد المستشفيات يزدحم عليها النساء والرجال في شهر رمضان، لماذا؟ لكثرة الطعام والشراب، بل يجلس بعض الناس من أذان المغرب إلى أذان العشاء على المائدة يأكلون؛ ليس من الجوع، ولا من العطش، لا.
إلا لشيء واحد، لأجل الأكل فقط، بل يأكل طعام السحور وكأنه قادمٌ على مفازة وعلى معركة، وكأنه قادمٌ على مهلكة، يأكل في السحور أكلاً لا يتحمله بطنه؛ ولهذا بعضهم يأتي إلى الفجر ولا يتحمل الصلاة، أو يأتي إلى التراويح ولا يتحمل الصلاة؛ لأنه أكل أكلاً لا يستطيع أن يأكله قبل رمضان في وجبتين وثلاث، أكلها في رمضان في وجبة واحدة.
أمة الله: شهر رمضان شهر صوم، وشهر جوعٍ لله جل وعلا، نحس في هذا الشهر أننا جعنا لله جل وعلا، أما أن نأكل سحوراً ولا نجوع به حتى الإفطار؛ فهذا لا يصح، وعلينا أن نأكل كما قال عليه الصلاة والسلام: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) أما هذه فقد جعلت الثلاثة الأثلاث كلها للطعام والشراب، ولا شيء للنفس أبداً، لا تستطيع أن تتنفس بعد هذا، ثم إن قامت لصلاة التراويح أو القيام كأنها تقول: أرحنا منها يا إمام، وعجل علينا في الصلاة؛ فإنني لا أستطيع أن أتحمل! ثم على المرأة أن تعلم أنه من شبع في الدنيا جاع يوم القيامة.(30/11)
الفتور في العبادة
المخالفة السابعة: التحمس للعبادة أول الشهر، ثم لا يزال الحماس ينقص شيئاً فشيئاً، نرى مصليات النساء أول رمضان ممتلئة، ثم ينقص صفاً، ثم صفين، ثم يأتي آخر رمضان ولا نجد إلا نصف المصليات، أين هن؟ إن الأمر حماس فقط، يوماً أو يومين، والله جل وعلا يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] بل أنت مطالبة -يا أمة الله- بالصيام والقيام إلى أن تموتي، فإذا ذهب رمضان هناك صيام نفل، وصيام تطوع، وهناك قيام طوال ليالي السنة، وليست المرأة معذورة أن تترك القيام من رمضان إلى رمضان القادم، هذا يدل على ضعف إيمانها، وقلة حرصها على دين الله جل وعلا، وليس الأمر بواجب لكنه أمرٌ مستحب، ولا يغفل عنه إلا غافل؛ ولهذا نجد بعض النساء تتحمل أول الأمر يومين، وثالث يوم تقرأ القرآن ما شاء الله، وتقوم الليل، ثم تبدأ تضعف، فتصلي ركعتين، أو تحرص على الوتر والدعاء، ثم تأتي إلى القيام ليلة وتترك ليالي، ثم لا تذكر القيام إلا آخر ليلة أو ليلة القدر، حتى يأتي رمضان القادم، والله جل وعلا يصف شهر رمضان بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] هي أيام تأتي وتذهب مسرعة، بل لعله يأتي رجل أو تأتي امرأة تذكرك -يا أمة الله- بآخر ليلة، تذكرك بوداع رمضان، وماذا فعلنا في ليالي رمضان، وماذا فعلنا لله جل وعلا، وهل قبلنا الله جل وعلا، وهل أعتقنا من النار أياماً معدودات، تأتي وتذهب مسرعة، بل -والله يا أمة الله- ذهب رمضان السابق، وأتى رمضان القادم وما أحسسنا به، أحد عشر شهراً ذهبت مسرعة وما أحسسنا بذهابها؛ لأن العمر يذهب مسرعاً، فإياك ثم إياك والتكاسل عن العبادة والطاعة!(30/12)
المشقة على النفس بالصيام
المخالفة الثامنة: بعض النساء تشق على نفسها وهي مريضة لا تتحمل الصيام، لكنها تقول: كيف أترك الصيام ونحن في رمضان؟ تقوم فتهلك نفسها، والله جل وعلا يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار).
نقول: يا أمة الله! إذا كان الصيام في نهار رمضان يضرك ضرراً بحيث ربما يقتلك أو يهلكك، أو يضرك ضرراً بالغاً؛ فإنه يجب عليك أن تفطري، والدليل الآية التي ذكرناها، والحديث السابق، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فلا يجوز لك أن تضري نفسك بالصيام، وكم من الناس علمنا أنه مات في رمضان لأنه صام، وقد نهاه الطبيب، وقد منعه الصالحون المخلصون، ولكنه لحرصه على العبادة، ونسأل الله أن يأجره، وأن يحفظ له عمله، وأن يحسن خاتمته، ولكن هناك أمور لا بد أن نتزن فيها، فإذا كان الصيام يضر فإنه لا يجوز أن نصوم.(30/13)
ترك الصيام بعد البلوغ
التاسعة من المخالفات: بعض النساء تبلغ وتصل إلى مرحلة البلوغ، سواءً بحيض، أو نزول الماء، أو نبت بعض الشعر في الأماكن المعلومة، أو تبلغ خمس عشرة سنة، ولكن تستحي أن تخبر أهلها، وهذه من عادة النساء؛ فيأتي بعض الآباء ويجبرون البنات الصغيرات، التي ربما عمرها عشر سنوات وقد بلغت، يجبرها على الإفطار، ويمنعها من الصيام، وهي تستحي أن تقول لوالدها: إنني قد بلغت، فهذه يجب عليها أن تخبر أمها، أو أختها، أو تأتي الأم فتتفقدها، أو تخبر البنت الصغيرة وتعلمها على علامات البلوغ، سواءً نزول الدم، أو الماء، أو نبت الشعر، أو بلوغ خمس عشرة سنة، فعلينا أن نعلم البنات الصغيرات، بل -يا أمة الله- يجب علينا أن نعود تلك التي لم تبلغ الحلم على الصيام، بل حتى الأولاد الذين بلغوا عشر سنوات أو أقل أو أكثر نعودهم على الصيام؛ لأنه من شب على شيء شاب عليه، وهذا هدي سلفنا الصالح.(30/14)
عدم معرفة حكم من أصبح جنباً في رمضان
العاشرة من المخالفات: أن بعض النساء يصيبها الحرج إذا أصبحت جنباً في رمضان ولم تغتسل، وتقول: لا يجوز لي أن أصوم وأتم الصوم.
تقول: عائشة وأم سلمة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً ثم يغتسل ويصوم) فإذا نمت على جنابة، وأذن الفجر ولا زلت على جنابة، جنابة سابقة قبل أذان الفجر؛ فيجوز لك أن تغتسلي وتكملي الصوم.(30/15)
التبكير بالسحور
الحادية عشرة: تبكير السحور، فإن بعض النساء تبكر بالسحور قبل الفجر بساعة، أو بساعتين، فمثلاً تتسحر الساعة الثالثة ويؤذن الفجر الخامسة والربع، ثم بعد السحور ينام أهل البيت، أو تنام المرأة أو الأب أو الأولاد ينامون، ثم لا يستيقظون لصلاة الفجر، والسنة كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) علق الخير على أمرين، الأمر الأول: تعجيل الفطور وسوف نأتيه، الأمر الثاني: تأخير السحور.(30/16)
تأخير الإفطار
الثانية عشر من المخالفات: تأخير الإفطار بعض النساء لأنها مشغولة بالطبخ، أو بتجهيز المائدة، أو بالدعاء، أو بالاستعداد للصلاة، تؤخر الفطور إلى ما بعد عشر دقائق أو ربع ساعة، والسنة كما ذكرنا: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور).(30/17)
عدم معرفة حكم من أكل أو شرب ناسياً
الثالثة عشرة: أن بعض النساء إذا أكلت أو شربت ناسية تظن أنها قد بطل صومها، أو لا بد عليها أن تقضي هذا اليوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن أكل أو شرب ناسياً: (فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) ونقول هذا في جميع المفطرات، فمن أكل، أو شرب، أو جامع -وهذا أمر قليل- ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه.(30/18)
عدم معرفة حكم الجماع في ليالي رمضان
الرابعة عشرة: بعض النساء تحرم على نفسها الجماع في ليالي رمضان، وتظن أن الجماع طوال الشهر حرام، ولا يجوز أن تجامع زوجها في جميع رمضان، وهذا خطأ، وإذا كانت تعتقد أن هذا دين فلربما تقع في البدعة، لأن الله جل وعلا يقول: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] أحل لكم في الليل، أي: من أذان المغرب إلى أذان الفجر يحل الجماع، فإذا كانت المرأة تجامع زوجها في ليلة الصيام وأذن الفجر فيجب عليه وعليها أن ينزعا، وأن يكفا عن الجماع، ولو أذن الفجر ولا زالا على جنابة فالصوم صحيح، فعلى المؤمن أن يكف عن الجماع قبل أذان الفجر، فإذا أذن نزعا، وإذا أذن واستمرا في الجماع فقد بطل صومهما، وعليهما القضاء والكفارة.(30/19)
المبالغة في المضمضة والاستنشاق
المخالفة الخامسة عشرة: بعض النساء في نهار رمضان تبالغ في المضمضة والاستنشاق في الوضوء أو في غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أي: احترز أثناء الصوم في المضمضة والاستنشاق أن تبالغ، فلربما يصل بعض الماء إلى الحلقوم وإلى الجوف، فتكون قد ارتكبت وأتيت مفطراً من المفطرات.(30/20)
ظن بعض النساء أنها تفطر بالاحتلام
السادسة عشرة من المخالفات: أن بعض النساء تظن أنها أفطرت إذا احتلمت وهي نائمة، وهذا الأمر يقع للرجال وكذا للنساء، وبعض الناس يظن أن هذا يقع للرجال فقط، بل أيضاً يقع للنساء، فإذا احتلمت أو احتلم الرجل أثناء النهار أثناء النوم، واستيقظ أو استيقظت ووجد بعض الماء فالصوم صحيح، ولا حرج، وتغتسل وتتم صومها.(30/21)
ظن بعض النساء أن القيء يفطر مطلقاً
السابعة عشرة: ظن بعض النساء أنه إذا نزل القيء من غير عمد أن صومها قد بطل، وأن عليها القضاء، وكم سئلنا من بعض الناس يظن أنه إذا نزل القيء رغماً عنه أن صومه قد بطل، وهذا خطأ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليصم) فمن تعمدت أن تخرج ما في بطنها؛ أن تستقيء، سواء بإصبعها، أو برائحة، أو بعود، أو بأي شيء تعمدت أن تخرج ما في بطنها؛ فإن عليها القضاء وقد بطل صومها، أما من خرج ما في بطنها رغماً عنها، فإن صومها صحيح وتتم صومها، ولا شيء عليها.(30/22)
خروج بعض النساء إلى المسجد وهن متزينات متعطرات
الثامنة عشرة: بعض النساء -هداهن الله- تخرج لصلاة التراويح، تريد أداء النوافل، وتريد أداء طاعة، فترتكب المحظور لأجل هذه النافلة، وأي محظور نقصد؟ تخرج متطيبة لأداء صلاة التراويح، أو متبخرة، أو متبرجة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن خروجهن للصلاة: (وليخرجن تفلات) أي: تخرج بملابس رثة، غير متزينة، ولا متطيبة ولا متبرجة، بل قال: (من أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء) أي: لا يجوز أن تذهب وتصلي وهي قد أصابت بخوراً، أي: طيباً، هذا لصلاة الفرض فكيف بصلاة النافلة!
بل -يا أمة الله- كم وكم من النساء من تخرج لصلاة التراويح وكأنها تخرج إلى عرس، وكأنها تخرج إلى حفلة، فتمر في بعض الطرق، ومن يمر في هذا الطريق بعدها بدقائق يشم رائحتها، وكأنها تقول للرجال: هيت لكم! بل قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (فهي كذا وكذا) أي: إن قصدت أن يشم الرجال رائحتها فهي كذا وكذا، وفي بعض الروايات (زانية) أجلكنَّ الله، وعافاكنَّ الله.
إذاً: لا يجوز -يا إماء الله- إذا أردتن أن تخرجن لصلاة التراويح أن تخرجن بطيب، ولا برائحة، ولا متبرجات، ولا متزينات، بل تخرجن تفلات، بملابس سوداء على الأقل، ولا نجبر بهذا اللون، ولكن هذا اللون على الأقل حتى لا يلفت الأنظار.(30/23)
الإتيان بالأولاد إلى المسجد
التاسعة عشرة: بعض النساء -هداهن الله- تصطحب معها لصلاة التراويح جميع الأولاد، الصغار والكبار، فيصبح المسجد من إزعاج الأطفال كأنه حضانة، فلا يستطيع الإمام أن يقرأ، ولا المصلون أن يخشعوا، ولا النساء أن يصلين؛ لأن فلانة قد جاءت بأولادها جميعاً وبناتها، رمتهم بالمصلى لتصلي، أرادت أن تفعل خيراً لكنها قد منعت الخير عن كثير من الناس ولا نحرم إتيان الأولاد إلى المسجد ولا إلى المصلى، فقد كان الصحابة يفعلون هذا، وقد كان عليه الصلاة والسلام يخفف الصلاة لأجل صياح بعض الأطفال، ولكن الأمر فيه قدر وفيه اتزان، أما أن نأتي بالأولاد جميعاً، ونرميهم بالمسجد، يبكون بكاءً شديداً، ولربما يمرض من هذا البكاء، ولربما يضيع في بعض المساجد، ولربما يتنازعون ويتشاجرون في المساجد؛ فلا يستطيع أحد أن يصلي نقول: يا إماء الله! جلوسكِ في بيتكِ وصلاتكِ فيه إذا كانت هذه حالك أفضل من إتيان المصلى وإزعاج الناس.(30/24)
رفع الصوت في المسجد
المخالفة العشرون: الحديث بصوتٍ مرتفعٍ في المسجد فكم من النساء من تأتي لصلاة التراويح، وتتكلم قبل الصلاة وبعدها، مع جارتها ومع زميلات، أو تقرأ القرآن قبل الصلاة، أو تتحدث مع فلانة، أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، والرجال في المسجد يستمعون إليها.
أمة الله: إذا أخطأ الرجل في الصلاة فلا يجوز لك أن تتكلمي، الرجل يقول: سبحان الله، والمرأة عليها أن تصفق وتضرب بيدها، لماذا؟ لأن الصوت ربما يفتن بعض الناس، ولربما يلهي بعض الناس ويشغلهم، والله جل وعلا يقول لنساء النبي: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] بل إن بعض الرجال يستحي في المسجد أن يرفع صوته، وبعض النساء لا تستحي أن ترفع صوتها! فإذا دخلت المسجد والمصلى فعليك بالسكينة والوقار، ولا ترفعي صوتك حتى لا يسمعك الرجال.(30/25)
ترك الأولاد في الشوارع والأسواق
المخالفة الحادية والعشرون: ترك الأولاد والبنات في الشوارع والأسواق، وتأتي الأم لصلاة التراويح أين أولادها؟ في الشوارع أين بناتها؟ مع السائق في الأسواق أين الأولاد؟ أمام التلفاز، أتت لتأتي بنافلة وتركت واجباً وهو تربية الأولاد.
أمة الله: لا بد أن تراعي تربية الأولاد، فغير صحيح أن تأتي المرأة الساعة والساعتين في بيت الله تصلي ولا تدري أين أولادها، على الأقل اعلمي أين يجلسون، ومع من يذهبون، وفي أي مجلسٍ يقضون أوقاتهم، وعلى الأقل تأتي بالبنات الكبيرات ليصلين معها، وتحث الأولاد على أن يذهبوا للصلاة معها، أما أن تترك الأولاد والبنات في الشوارع وفي الأسواق فلا يجوز، بل إن بعض الناس يذهب إلى بيت الله الحرام ليعتكف ويترك أولاده هي تصلي في الحرم مع زوجها ولكن أين الأولاد؟ في الشوارع، وفي الأسواق، بل إن بعضهم يتسكع ويلاحق النساء حتى في بيت الله الحرام!! أتت لتأتي بنافلة وتركت أمراً واجباً وهو تربية الأولاد ونحن لا نمنع من هذه النافلة، ولا نمنع من صلاة التراويح ولا القيام، ولكن احرصي على الأولاد وأنت تأتين إلى التراويح والقيام.(30/26)
الجهل بأحكام الصلاة
المخالفة الثانية والعشرون: بعض النساء -وهذا كثير- تجهل أحكام الصلاة، فتأتي -مثلاً- لصلاة العشاء وقد فاتتها ركعة أو ركعتان، فيسلم الإمام وتسلم معه لا بد أن تعلمي -يا أمة الله- أنك دخلتِ في الصلاة وقد فاتتك ركعة أو ركعتان أن تأتي بهذه الركعة أو الركعتين التي فاتتك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وهذا كثيرٌ في صف النساء، تأتي وتترك ركعة مع الإمام في صلاة العشاء وتسلم معه، وتظن أنها صلت العشاء! ما صلت، وما قبل منها هذه الصلاة.
وكيف تعلمين أنك قد أدركت هذه الركعة؟ تدركينها بالركوع، فإذا ركعت والإمام راكع لم يقل: سمع الله لمن حمده، فقد أدركت الركعة، وإذا أدركتِ الركعتين فائتي بعد الصلاة بركعتين، وإذا أدركتِ ركعة فائتي بعد الصلاة بثلاث ركعات.(30/27)
عدم معرفة أحكام الحيض
المخالفة الثالثة والعشرون: تظن بعض النساء أنها إذا طهرت قبل الفجر ولم تستطع أن تغتسل وأذن الفجر فإنها لا تتم صومها، نوضح الأمر: بعض النساء أتتها الدورة وما طهرت إلا قبل الفجر بدقائق، الآن ما تستطيع أن تغتسل، وأذن الفجر لكنها ما اغتسلت، فتقول في نفسها: لا أستطيع أن أصوم.
لم لا تستطيعين أن تصومي؟ تقول: لأني ما اغتسلت قبل أذان الفجر.
نقول لك يا أمة الله: الذي يحرم الصوم ويمنع الصوم هو الحيض وليس الغسل، فإذا طهرت قبل أذان الفجر فإنه يجب عليك أن تصومي، حتى لو اغتسلت بعد أذان الفجر، يجب عليك أن تصومي وتنوي الصيام حتى لو لم تغتسلي إلا بعد أذان الفجر.(30/28)
ظن بعض النساء أنه لا يجوز تذوق الطعام في نهار رمضان
المخالفة الرابعة والعشرون: تظن بعض النساء أنه لا يجوز لها أن تذوق الطعام، وتتحرج من هذا الفعل؛ تتحرج من أن تذوق الطعام في نهار رمضان نقول: هذا الأمر إذا كنتِ بغير حاجة إليه فلا تفعليه، أما إذا كنت بحاجة إليه -وهذا كثيرٌ في النساء اللواتي يطبخن الطعام، فهن بحاجة إلى أن تذوق الطعام، بطرف اللسان- فإنه لا حرج في هذا، وقد أفتى بجوازه ابن عباس، وقال الإمام أحمد: لا بأس بهذا لكن تركه أفضل.
فإن ذاقت الطعام ثم لفظت ما ذاقته وأخرجته من فمها فإنه لا بأس بهذا إن شاء الله.(30/29)
تحرج بعض النساء من وضع الحناء
الخامسة والعشرون: كثير من النساء تتحرج من وضع الحناء، وتظن أن الحناء يبطل الصيام، وأنه من المفطرات -ولا دخل للحناء في الصيام، فإنها إذا وضعته أثناء النهار- أو أثناء الليل فلا حرج عليها إن شاء الله.(30/30)
الخروج إلى المسجد مع السائق
السادسة والعشرون: بعض النساء تذهب لصلاة التراويح، أو لحضور بعض المحاضرات، وهذا خير، ولا بأس به، وتؤجر على هذا إن شاء الله، وهي حريصة على الأجر، لكنها -للأسف- تذهب مع السائق لوحدها، فتريد أن تأتي إلى الخير فترتكب الشر، تريد أن تطيع الله فتعصي الله جل وعلا ومن أباح لك أن تختلي بسائقك لوحدك في سيارة؟ وبعض الأماكن بعيدة، فتذهب مع سائقٍ لوحدها أقل القليل -يا أمة الله- تأتين مع محرم، أو مع مجموعة من النساء، وإن لم تستطيعي فصلاتك في بيتك خيرٌ لك من ذهابك مع سائقٍ لوحدك إلى صلاة التراويح أو لحضور المحاضرة.(30/31)
أخطاء في صرف الزكاة
السابعة والعشرون وهي الأخيرة: أن بعض النساء -ولعل هذا الأمر لا دخل له في الصيام، ولكن لأن كثيراً من النساء تؤدي زكاة مالها في رمضان؛ فإننا نتكلم عن الزكاة باختصار- بعض النساء تعطي الزكاة من لا يستحق، وتقول: هذه تعودنا أن أبي وجدي وجدتي كانوا يعطون الزكاة لهذه الأسرة، فنحن تعودنا أن نعطيهم ولو كانوا أغنياء، وهذا لا يجوز، والله قد حدد الزكاة لثمانية أصناف من الناس، ولا يجوز أن نعطي غيرهم، فإذا أغناهم الله فلا يجوز لنا أن نعطيهم شيئاً من الزكاة، أما الصدقات فأنتِ حرة فيها، وبعض النساء تعطي الزكاة لمن لا يصلي، وهذا لا يجوز، بل قال شيخ الإسلام: ولا يُعطى تارك الصلاة الزكاة ولو كان من أهلها -حتى ولو كان فقيراً- بل يشهر به حتى يعرف أي: حتى يترك هذا الأمر ويصلي ويصوم، ثم يعطى من الزكاة.
وبعض النساء تظن أن الذهب الملبوس لا يجب أن تخرج زكاته، وهذا فيه خلاف عند أهل العلم، لكن الصحيح -والله أعلم- أنه يجب عليها أن تخرج زكاة الذهب ولو كان من الذهب الملبوس، لقوله عليه الصلاة والسلام لما رأى بنتاً تلبس الذهب قال لأمها: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار يوم القيامة؟! قالت: لا.
يا رسول الله! فخلعتهما ورمتهما وقالت: هما لله ورسوله).
أمة الله: هذه بعض المخالفات، وهي كثيرة، ولعلك قد سمعت بعضها، لكن نحثك -يا أمة الله- قبل قدوم رمضان أن تستمعي لبعض الأشرطة التي ستدلك على سنن الصيام، وتقرئي بعض الكتب التي تعلمك شروط وجوب الصيام، وعلى أركان الصيام، وعلى مستحبات الصيام، وعلى المفطرات في نهار رمضان، وعلى مبطلات الصيام، فلا بد أن نتعلم قبل أن نقع في المحظورات، وقبل أن نفقد صومنا.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/32)
الأسئلة(30/33)
ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام
السؤال
هل يجوز ختم القرآن في رمضان كل يوم مرة، حيث أنه لا يعقل الإنسان في أقل من ثلاث؟
الجواب
السنة ألاَّ تقرأه في أقل من ثلاث، لكن قال بعض العلماء: إذا كان الزمان شريفاً مثل رمضان فإنه يقرأ في أقل من ثلاث، بل كان الإمام الشافعي وغيره يختمه في كل يوم مرتين، فيجوز لأجل هذا الشهر الشريف أن نختمه في أقل من ثلاثة أيام، لكن أنبه على أمر: بعض النساء تقرأ القرآن وأهم شيء عندها أن تختم، وأن تصل إلى هذا المكان الذي حددته لنفسها، فلا تعقل، ولا تتدبر، ولا تخشع، ولا تتفكر في هذه الآيات التي تقرؤها، فهذه لا تستفيد من هذه القراءة، والله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24] العبرة في القراءة هي التدبر.(30/34)
الإسراف في الطعام للضيوف
السؤال
إذا جاء ضيوف وأراد منهم أصنافاً من الطعام، فهل يجوز أن أضيفه كما يريد، أم أقتصر على وجبة واحدة؟
الجواب
الضيف يكرم، لكن نقول: لا بد من الاقتصاد في الطعام، لكن إذا كان هناك ضيف فلا نبالغ، نكرمه كما يكرمه الناس، كما هي عادة الناس، ولا نبالغ في رمضان عن غيره.(30/35)
حكم صلاة المرأة في المسجد
السؤال
أيهما أفضل للمرأة: أن تصلي في بيتها صلاة التراويح والقيام أم في المسجد؟
الجواب
إذا كانت تستطيع أن تصلي في بيتها بقراءة طويلة، وترتل وتخشع فالأفضل في بيتها، لكن إذا كانت لا تستطيع ولا تحفظ، ولا يصلي أحدٌ بها، فلا بأس في ذهابها إلى المسجد، فإن هذا فيه -إن شاء الله- أجور، وفيه قراءة للقرآن، فلعلها ما تستطيع أن تقرأ بنفسها أو يُقرأ لها.(30/36)
وقت إخراج الزكاة
السؤال
أود أن أخرج الزكاة الآن، فهل يجوز أم بعد رمضان؟
الجواب
الزكاة نوعان: زكاة مال، وزكاة فطر، وزكاة المال أربعة أصناف، أما زكاة الفطر فلا يجوز إلا في ليلة العيد، ويجوز تقديمها قبل يوم أو يومين، أما زكاة المال فإنها تكون في كل سنة مرة، فالذهب والفضة والأموال النقدية الآن، وعروض والتجارة، أما الزروع فوقت الحصاد، وما يخرج من الأرض فكذلك في وقت الحصاد، أما زكاة الأموال ففي كل حولٍ مرة، والحول المقصود الحول القمري، وليس الحول الشمسي، فنجعل لنا يوماً عربياً كل سنة ونخرج فيه الزكاة، ويجوز تقديمها على وقتها للحاجة.(30/37)
حكم زيارة النساء للمقابر
السؤال
هل يجوز للمرأة زيارة القبور مع عدم الإكثار وعدم فعل شيء من المعاصي؟
الجواب
اختلف أهل العلم في زيارة المرأة للقبور، والراجح والأحوط -والله أعلم- أن تجتنب المرأة زيارة المقابر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور، والزوارات يحتمل أنهن المكثرات من الزيارة، ويحتمل التي تزور مرة أو مرتين، لكن الأحوط للمرأة ألا تزور المقابر.(30/38)
حكم قضاء الصوم على من أفطرت وقد بلغت
السؤال
عندما بلغت لم أصم لأني لم أخبر أحداً لأني كنت صغيرة، فهل عليَّ أن أصوم ما أفطرت؟
الجواب
إذا كنتِ تعلمين وكم يوماً أفطرتِ وأنتِ كنت جاهلة فعليك أن تصومي وتقضي هذه الأيام، ولعل الله يعذرك بهذا.
وننبه مرة أخرى أن على الصغيرات إذا بلغت، ورأت علامات البلوغ؛ أنه يجب عليها أن تصوم.(30/39)
تعويد الأولاد على الصيام
السؤال
هل يجوز أن أعود ابنتي على الصيام وعمرها أحد عشر عاماً، وكذلك ابني وعمره تسعة أعوام؟
الجواب
نعم.
إذا كانت لم تبلغ وكان لم يبلغ ليس الصيام بواجب عليهما، لكن نعودهما، ونرغبهما، ولو كان هناك شيء من الإجبار لا بأس به، إذا كان لا يشق عليهم الصيام تجبرهم شيئاً ما، ونحبب إليهم الصيام قبل الإجبار، فالتحبيب والترغيب أفضل من الإجبار، وقد كان السلف والصحابة يلهون الأولاد باللعب وبغيرها حتى لا يجوعوا وحتى ينسوا الطعام.(30/40)
حكم الصلاة والصيام للأعمى والأصم
السؤال
ولد عمره ست عشرة سنة، وهو أعمى وأصم، ولكنه فطن ويفهم ولا يتكلم، ما حكم الصيام والصلاة بالنسبة له؟ وتخرج له الزكاة؟
الجواب
نعم.
يؤمر بالصيام إذا كان عنده عقل، فإن الصوم في رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع، فإذا كان عاقلاً وهو مسلم وبالغ، وكان خالياً من الموانع، مثل: الحائض والنفساء، ومقيم -غير مسافر- فإن الصوم يجب عليه ولو كان أعمى، ولو كان أصم.(30/41)
حكم بلع البلغم للصائم
السؤال
أشعر ببلغم كثير، هل يجوز بلع البلغم وأنا صائمة؟
الجواب
البلغم إذا لم يخرج إلى الفم فإنه يجوز ابتلاعه، أما إذا خرج إلى الفم فالأحوط إخراجه.(30/42)
حكم البخور والعطر في نهار رمضان
السؤال
هل البخور والعطر من المفطرات أم لا؟
الجواب
الأولى تركه، وقال بعض العلماء: إن استنشاق البخور مباشرة يفطر، لأنه جرم ومادة، ولو لم يكن جرماً لما رأيناه بالأعين، ولهذا فاجتنابه أولى، بل ربما يكون الواجب اجتنابه مباشرة، أما العطر إذا كانت رائحتة غير نافذة، ولا تدخل الفم والحلقوم أو الجوف؛ رائحة في الغرفة، أو بخور قد بخر في مكان وذهب الجرم وبقيت الرائحة فقط؛ فإنه لا بأس بهذا.(30/43)
حكم ابتلاع الدم الخارج من الأسنان حال التسوك
السؤال
التسوك -أحياناً- يخرج من الأسنان دماً فما الحكم؟
الجواب
نحاول ألا نتسوك بشدة وبغلظة حتى لا يخرج هذا الدم، فإذا خرج الدم فنحاول ألاَّ نبتلعه، فإن كان رغماً عنا فترك التسوك أفضل، وإلا لا بأس بهذا إن شاء الله.(30/44)
الصوم عن الميت
السؤال
توفي والدي منذ ثلاث سنوات، وكان -رحمه الله- لا يصوم، وذلك لأنه لا يستطيع الصبر عن شرب السجائر، ونحن حتى هذا اليوم لا نعلم هل يجوز لنا الصوم عنه، وما العمل جزاك الله كل خير؟
الجواب
إذا كان يفطر متعمداً ولا عذر له فلا يُصام عنه، ولكن يُدعى له بالمغفرة إذا كان من المصلين، ويُتصدق عنه، ويُستغفر له، لأنه لا عذر له كما قال العلماء وهو الصحيح: من أفطر عمداً متعمداً في نهار رمضان ولا عذر له، فإنه لا يجزئه ولو صام الدهر كله.(30/45)
صوم النذر
السؤال
نذرت أنه إذا خرج زوجي من الأسر أن أصوم شهرين، ولم أصم إلا عشرة أيام لظروف خاصة، وأخرجت نقوداً عن الأيام التي لم أصمها، فهل هذا يصح لي؟
الجواب
إذا كنت تستطيعين الصيام شهرين فيجب عليك صيام شهرين، كما قال الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] هذا نذر يجب أن تفعليه، وهذا النذر معلق، فإذا حصل الأمر وخرج زوجك من الأسر يجب عليك أن تصومي، وأنت التي أوجبت على نفسك هذا الأمر، وهذا النذر ثقيل، كان الأفضل لك ألا تنذري هذا النذر حتى لا تقعي في مثل هذا الحرج، فإن لم تستطيعي صيام شهرين فإن عليك كفارة اليمين، وكفارة اليمين معلومة؛ إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد وما استطاع أن يطعم عشرة مساكين، أو أن يعتق رقبة فإنه يصوم ثلاثة أيام.(30/46)
حكم من أكل أو شرب ناسياً في صوم النافلة
السؤال
صمت يوم نافلة، ونسيت فأكلت حتى شبعت من الأكل وشرب الماء، فتذكرت أني صائمة، علماً بأنني كانت لي نية في الصيام وتسحرت، فهل أكمل صيامي؟
الجواب
نعم؛ لأن الله عز وجل يكون قد أطعمك وسقاك، وتكملين الصيام ولا حرج إن شاء الله.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/47)
وبشر الصابرين
إن العبد المؤمن يبتلى بالمصائب والمحن؛ فتكون إما سبباً في تكفير سيئاته وذنوبه أو سبباً في ارتفاع درجته في الجنة، أو أنه ينال بصبره على البلاء محبة الله ورضاه عنه، ولذلك إذا أراد المسلم أن يكون من الصابرين والحامدين الله فلينظر إلى الأنبياء وكيف كانوا يبتلون، ويقتدي بالصحابة والصالحين، فإن هذا كله يذهب عن قلبه الألم والحزن، ويبعث مكانه الرضا بأقدار الله، والصبر والثبات على دين الله.(31/1)
الصبر عند أول صدمة
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الحديث أوجهه إلى كل مبتلى، إلى كل مَن أصيب بمصيبة، ونزلت عليه بلية، إلى كل مهمومٍ مغموم، إلى كل مكروبٍ منكوب، إلى كل مَن تعرضت له كارثة، وسَمِع بفاجعة، أوجه هذا الحديث: (وبشر الصابرين).
وهل منا إلا مكروبٌ، أو مهمومٌ، أو مغموم!
التفت إلى مَن حولك مِن الناس جميعاً؛ هل تجد فيهم إلا منكوباً، أو مكروباً، أو مهموماً، أو مغموماً؛ إما بفقد حبيب، أو بحصول مكروه، أو بنزول مرض، أو بسماع فاجعة، أو بغيرها من البلايا، أوجه هذا الحديث إلى كل مَن أوذي، إلى كل مَن ظُلم، إلى كل من قُهر، إلى كل من أصيب بمصيبة، أقول لهم: قال الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أي: أول ما تأتيه المصيبة؛ سَمِع بوفاة القريب، أو بفقد الحبيب، أخبره الطبيب بالمرض، يا لها من فاجعة! سوف تموت ولا بد، إن المرض قد استشرى في الجسد، سمع بالخبر، فأتته المصيبة، ماذا يقول؟
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
إلى هؤلاء جميعاً أوجه حديثي، وأرسل هذه الكلمات؛ من الروح إلى الروح، ومن القلب إلى القلب، أقول لكل واحد منهم: عظَّم الله أجرك، ورفع درجتك، وجبر كسرك، واسمع! فإنها الدنيا، ألم تعرفها إلى الآن؟! ألم تدر أنها كما قيل:
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
إنها الدنيا! ابن عباس كان في سفر، فجاءه خبر مفزع، ما الخبر؟ مات ابنه، ابن ابن عباس مات، ويأتيه الخبر وهو بعيد عنه، وهو ليس بجنبه، هو في السفر، ماذا فعل ابن عباس؟ هل شق جيباً؟ هل لطم خداً؟ هل نفش شعراً؟ هل صاح بأعلى صوته؟ تنحى عن الطريق، ثم كبر، ثم صلى ركعتين، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فعلنا كما أمرنا ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] صَبَر وصَلَّى ركعتين، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
هل عندما تأتيك المصيبة تكون هذه حالك؟!
أحد الشعراء يسمى: أبا الحسن التهامي، مات ابنه الصغير، والابن ليس كغيره، موت الابن يعرفه مَن مات له ابن، يعرف كيف الابن غالٍ! قطعة من الكبد قد ذهبت، يتمنى الأب أن لو مات ولم يرَ وفاة ابنه، عندما مات ابنه أنشد شعراً فقال:
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
وما هي إلا فترة من الزمن فيموت الشاعر، فيُرى في المنام، فيقال له: ماذا صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قالوا: وبم أدخلك الجنة؟ قال: بهذا البيت:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
لو كل من مات له حبيب، أو صاحب، أو ابن، أو قريب فكر بهذا، فنحن الآن في سجن، فإذا مات كأنه أطلق من هذا السجن، وكأنه خرج منها، أليست الدنيا سجن المؤمن؟
فكر! فكر يا من مات قريبه! يا من مات حبيبه! يا من مات صاحبه! أليست الدنيا سجن المؤمن؟ فإذا مات خرج من هذا السجن للحديث الصحيح: (ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلاَّ الجنة) لو احتسب هذا الحبيب، واحتسب ذلك القريب.
وفي الحديث الآخر: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم.
وهو أعلم، قال: ماذا قال؟ وهو أعلم، يقولون: يا رب حمدك واسترجع -مات ابنه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال- قالوا: حمدك واسترجع، فقال الله جل وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد) {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
مات ابن المصطفى صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فدَمَعَت عيناه، ثم قال: (إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون).
تقول: ماتت زوجتي وهي غالية، ماتت أمي لا أملك أغلى منها في الدنيا، ماذا أصنع؟
أقول لك: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] يا مَن دَفَنْت أمك وأباك، وشيَّعْت ابنك وابنتك، وودَّعْت زوجتك، هل سوف تبقى في هذه الدنيا؟ لا والله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وقالوا في الشعر:
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى لها فاذكر مصابك بالنبي محمد
مات ابنٌ لـ زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام، انظر ماذا قال يعزيها، وأنا أعزي كل مصاب، قال: (لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، مروها فلتصبر ولتحتسب) نعم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
أنت وأبناؤك وأحبابك وأقرباؤك كلنا لله عز وجل، إنما هي عارية أعطانا الله إياها، ثم أخذها منا، فهل تصبر؟
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].(31/2)
أشد الناس بلاء الأنبياء
اسمع يا أخي الكريم! يا من أصيب بالمرض! يا من فجعه المرض! يا من سقط على فراش المرض طريحاً لا يستطيع أن يتقلب يمنة أو يسرة! يا من أصابته الحمى فأنهكته وأهلكته وجلس على الفراش لا يدري هل هو حيٌ أم ميت؟ أوجه إليك هذا الحديث، فاسمع وانبته!
إن أيوب عليه السلام كان يملك مالاً عظيماً، وجاهاً، وأهلاً، وأولاداً، وأنعاماً، وصحةً، وبدناً قوياً، خسر كل هذا، ما الذي بقي له؟
بقي له لسانٌ يذكر الله به، وقلبٌ يعقل، هذا الرجل العظيم جلس على الفراش سبع عشرة سنة يقاوم المرض، ليس عنده إلا زوجته تطببه وتداويه، سبع عشرة سنة على فراش المرض، ماذا قال؟
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] * {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:84] مَن الذي مَرِض؟ مَن الذي ابتُلِي؟ (أشد الناس بلاءً الأنبياء) أبشر! إذا أحب الله عبداً ابتلاه، بل إن دليل الإيمان البلية وشدتها، مَن أشد الناس بلاءً؟ (الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل) ماذا سَمَّى الله عز وجل أيوباً؟ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] (إن الله عز وجل يُذْهِب عن العبد خطاياه كلها بحُمَّى ليلة واحدة) حمى وحرارة ليلة واحدة يُذْهِب الله ويكفر جميع الخطايا.
يا من أصيب بالمرض فجزع، ويا من أتاه خبر المرض فلم يصبر! اسمع إلى الحديث الصحيح: (إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فقال: انظرا ماذا يقول لعواده فإن هم إذ جاءوه حمد الله، وأثنى عليه) هل رأيت مريضاً لما يُسأل كيف حالك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على كل حال، الحمد لله أخذ مني شيئاً وأعطاني أشياءً، الحمد لله الذي لم يجعلني مثل فلان وفلان، الحمد لله إن كان قد ابتلى فقد أنعم: (فإذا هو قد حمد الله، وأثنى عليه يخبران الله عز وجل وهو أعلم، فيقول الله جل وعلا: لِعَبْدي -اسمع وعُد إلى الله- لِعَبْدي إن توفيته أن أدخله الجنة -إن مات بهذا المرض أدخله الجنة، يحمد الله على هذا المرض، ويصبر، ويحتسب الأجر، لو مات في هذا المرض يدخل الجنة- قال: وإن شفيته له علي أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته) هل لك بعد هذا الأجر من أجر؟!
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].(31/3)
كل شيء بقضاء الله وقدره
مما يسلي المبتلى والمصاب، أن يعلم أن كل شيء بقدر الله عز وجل: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رُفِعت الأقلام وجفت الصحف) قال الشافعي:
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
انظر القوة في الإيمان! يعرفون حقيقة الدنيا، إنها دار بلاء، دار محن، دار مصائب، دار كرب.
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرضٌ تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضا ضاق الفضاء
نعم، علموا حقيقة الدنيا.(31/4)
الرضا بالقدر
إلى كل معاق، إلى كل من أصيب بعاهة مستديمة، إلى كل من شُلَّ جسده، أو عمي بصره، ابن عباس في آخر عمره يُصاب بالعمى فيحمد الله، فيقولون: [علامَ تحمد الله؟ قال: الذي أبقى لساني ذاكراً، وقلبي مفكراً، وعقلي معتبراً] الحمد لله الذي أبقى هذا، ذهب البصر وبقي غيره.
عبد الله! تلفت يمنة ويسرة، إن أصبت بمرض انظر إلى غيرك، انظر إلى من حولك، انظر إلى من هو أشد منك مرضاً، وأقسى منك مصيبة.
رجل من الأعراب في البادية ليس هناك أفضل منه نعمة؛ عنده أموال، وأغنام، وأبقار، وإبل، وعنده بُنَيَّات وأولاد صغار، وزوجة ما أحسنها من زوجة! وفي بيته الصغير يعيش في تلك البادية.
في يوم من الأيام ضاعت إبله، فذهب يطلبها، تأخر ثلاثة أيام، ولما رجع أتعرف ما الذي حصل لأهله؟ كان الأهل في البيت، وفي آخر الليل اشتد المطر، وجاءهم سيلٌ عظيم يقتلع الصخور من الأرض، جاء هذا السيل فهدم البيت، وأوقعه على رأس أطفاله، فلم يبق في البيت حيٌ تطرف عينه، لا ابنٌ، ولا ابنة، ولا زوجه، هلكت الأموالُ، والشياه، والضياع.
رجع فوجد الأرض قاعاً صفصفاً، لم يجد أهلاًَ، ولا ولداًَ، ولا مالاً، ولا مسكناً، ذهبت الدنيا بلمح بصر، وهل أدرك الإبل؟ رجع حتى الإبل لم يدركها، خسر الدنيا بلحظة وبلمح البصر.
فإذا به من بعيد يرى ناقة من الإبل قد شردت فتبعها لعله يدرك ناقة من أمواله، تبعها، فإذا به يمسك ذيلها فلما مسكها رفسته برجلها على وجهه، سقط على الأرض فإذا هو قد عمي، ذهب بصره، ما الذي بقي له من الدنيا؟ أخذ يمشي في الصحراء يصيح وينادي علَّ من يجيبه، علَّ من ينقذه.
فإذا أعرابيٌ آخر أخذ بيده، أخبره الخبر، فجع الأعرابي من قصته، فذهب به إلى الخليفة، أخبره بالخبر، فقال له الخليفة: وكيف تجدك الآن؟ من يتحمل هذه المصيبة ومن يطيقها، قال: كيف بك الآن؟ قال: أما أنا الآن فقد رضيت عن الله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
إن بعض الناس لا يطيق مصيبة أن يفقد واحداً من أهله، أو يخسر سيارة، أو يفقد جزءاً من ماله، فإذا به لا يتحمل، ويجزع، ويتسخط، وللأسف لم يذق إلى الآن حلاوة الصبر، نعم، إنه مرٌ في ظاهره، لكن عاقبته أحلى من العسل.(31/5)
أقوال وقصص في فضل البلاء(31/6)
يبتلي الله العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه
اسمع يا عبد الله إلى بعض الأقوال المأثورة في فضل البلاء، تقول: لم يبتليني الرب جل وعلا؟ ولم يُنزل علي هذه المصيبة؟ ولم يعاقبني الرب جل وعلا؟
اسمع ماذا يقول بعض العلماء! يقولون: إن الله يبتلي العبد وهو يحبه -أتعرف لِمَه؟ - ليسمع تضرعه، يحب الله جل وعلا أن يسمع تضرع العبد إليه سبحانه وتعالى.
هل فكرت قبل أن تطرق الأبواب، وقبل أن تستغيث بالناس، وقبل أن تلجأ إليهم أن تفر إلى الرب الغفور الرحيم، أن تلجأ إلى ذي الجلال والإكرام، قيل: البلاء يَسْتَخْرِج الدعاء، تجد الرجل لا يذكر ربه، لا يدعو الله، لا يقوم الليل، لا يقرأ القرآن، لا يتصدق، لا يفعل شيئاً، فإذا نزل البلاء اسْتُخْرِجَ هذا كله، فدمعت عينه، ورفع يديه، خشع قلبه، سكنت نفسه، وتاب إلى الله.(31/7)
قصة رجل شل جسمه
قيل لأحد العُبَّاد: كيف كانت توبتك؟ -وهو لبيد العابد- قيل له: كيف كانت توبتك؟ -اسمع كيف تاب إلى الله جل وعلا هذا الرجل! - يقول: لدغتني حية -ثعبان- فلم أحس بالألم وبعد فترة لم أشعر بيدي -شُلَّت يده اليمنى- يقول: وبعد أيام شُلَّت يدي الأخرى، وأنا ما أدري ما الذي أصنع وما الذي أفعل، يقول: ومرت الأيام فشُلَّت إحدى رجلَي ثم الأخرى، فطُرِحْت على الفراش، لا أستطيع أن أحرك جسمي كله، يقول: ومرت الأيام فعمي بصري، وطال علي الأمر، فتوقف لساني عن الكلام -هل بقي فيه شيء؟ - يقول: لم يبقِ الله عز وجل إلا سمعي، أسمع ما يسوءني وأنا على الفراش، عندي زوجة، يسقوني وأنا غير عطشان، وأعطش فلا أرتوي، وآكل وأنا شبعان، وأجوع فلا أُطْعَم، وأُكْسَى وأنا كذا، يقول: وهكذا، أذوق الويل والمر والألم، يقول: حتى جاء يومٌ من الأيام فجاءت جارة لنا -يسمع كل كلام حوله، ولا يرى، ولا يستطيع أن ينطق ولا يتحرك- يقول: جاءت جارة لنا، فسألت زوجتي: كيف حال زوجك؟ فقالت الزوجة قالت: لا حيٌ فيُرجى، ولا ميتٌ فيُنسى، يقول: فتألمت من هذه الكلمات حتى انهمرت دموعي وأنا أبكي على الفراش، يقول: فلما جاء آخر الليل دعوت الله جل وعلا، واجتهدت بالدعاء وأنا أبكي وأستغيث بالله، وأتوسل إلى الله، فجاءني ألم شديد في جسمي فأنهكني الألم، حتى أغمي علي، يقول: وبعد ساعات استيقظت من النوم فوجدت يدي على صدري، يقول: فحركتها، فإذا هي تتحرك، ويدي الأخرى تتحرك، ورجلاي يقول: فقمت على جسدي، وأنا أتكلم، ففتحت الباب فنظرت إلى النجوم، وأنا أقول: يا قديم الإحسان لك الحمد، يا قديم الإحسان لك الحمد، وأنا ألتفت إلى مَن حولي وأقول: لربي الحمد، لربي الحمد: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] الكافر إذا اضطر استجاب الله له، الكافر إذا ضاقت عليه الأمور، وأخلص الدعاء، استجاب الله له، كيف بالمؤمن! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
يقول لي المسكين: قال لي الطبيب: مرضك لا شفاء له، قلت له: كذب الطبيب، فما من داء إلا أنزل الله له دواء، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه؛ ولكن هل طرقْتَ باب الله؟ وهل استغثت بالله؟ وهل جربت الدعاء من القلب؟(31/8)
قصة المرأة التي كانت تصرع وتتكشف
امرأة أصيبت بالصرع، فتأتي إلى الرسول فتقول له: (يا رسول الله! ادعُ الله لي، قال: إن شئتِ دعوتُ الله لك، وإن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، قالت: بل أصبر) إذا كان الأمر فيه جنة سأصبر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].(31/9)
النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى الطائف
أوجه هذا الحديث إلى كل من خسر ماله، إلى كل من فقد الدنيا، إلى كل من أصيب بمصيبة، إلى الدعاة إلى الله، إلى الصالحين المصلحين، إلى من أوذي في الله، إلى من أوذي لأنه متمسكٌ بسنة رسول الله، إلى كل محجبة يُستهزأ بها، ولأنها ملتزمة يُفتَرى عليها، أوجه هذا الحديث.
أقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام هو أشد من أوذي، وأكثر من أصيب.
يَخْرج من مكة إلى الطائف.
ولِمَ خرج من مكة مهاجراً إلى الطائف؟
لأنه في مكة ضُرب، وشتم، واتُّهم بعقله حتى قيل: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52].
في مكة كان يسجد فيُؤتى بسلى الجزور فيوضع على ظهره.
في مكة خُنِق حتى كاد يُقتل عليه الصلاة والسلام.
في مكة أصيب بالجوع حتى تمر عليه الثلاثون ليلة لا يجد ما يأكل إلا ما يواريه بلال تحت إبطه.
هكذا أصيب عليه الصلاة والسلام.
خرج إلى الطائف ما الذي حصل له؟
رمي بالحجارة، وتُبِع بالعبيد، والصبيان، والأطفال، والسفهاء، يركضون خلف خير مَن وطئت قدمُه الثرى، خلف خير إنسانٍ على وجه الأرض، يرمونه بالحجارة، دَمَعَت عينه، انطلق وهو مهمومٌ على وجهه، رفع يديه إلى الله وهو يقول ولسان حال كل داعية إلى الله مهموم، كل داعية إلى الله مكلوم، كل داعية إلى الله مبتلى، لسان حاله يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين، يا رب المستضعفين، إلى مَن تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي؛ لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
يا أخي الكريم! يا أخي العزيز! يا من ابتُلي! يا من ظُلم! يا من قُهر! يا من استهزئ به! اسمع يا أخي الكريم إلى هذا الشاعر ماذا يقول وهو يرى حال المسلمين! وكأنه يصف حالنا، المسلمون في الدنيا إما حروبٌ قاتلة، أو جوعٌ طاحن، أو مرضٌ متفشٍ، أو جهلٌ قابع، هذه حال المسلمين إلا مَن رحم الله، اسمع ماذا يقول!
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دولاً من سره زمن ساءته أزمان
وتلك دار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
أما سمعت أن زكريا قُتِل، ويحيى ذُبِح، ويوسف سُجِن، وسار على هذا الطريق الأولون، فهل أنت بعيدٌ عنهم؟! لقد حفت الجنة بالمكاره.
سُب الرسول حتى قيل له: ساحرٌ مجنون، عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] أخْرِجْ لي رسولاً ما قيل له: ساحرٌ أو مجنون، وهم أعقل الناس، وأفضلهم، وأشرفهم مكانة، قال الله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] هل يوصي بعضهم بعضاً؟ بل السب والشتم والطعن، حتى الطعن في العرض وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تُكِلِّم في عرضه، والإفك العظيم والإفك الكبير يفنده الله في القرآن إلى قيام الساعة، وكأنها سنة كونية أن يرسلوا الكذب حول المصلحين، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقف صامداً ثابتاً وكأن الله عز وجل يقول له: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] بل موعد هؤلاء وهؤلاء يوم اللقاء، يوم يجمعهم الله جميعاً، المؤمنون الصالحون الدعاة مع المنافقين، يجمعهم الله جل وعلا يوم القيامة، فإذا بالرب جل وعلا يقول لهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} [المؤمنون:109 - 110] أتذكرون لما كنتم تسخرون منهم، ومن أعمالهم، ودعوتهم، وسنة نبيهم، بل من مصحفهم؟! أتذكرون؟! {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون:110 - 111].
الصبر الصبر أيها الداعية: {لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] اصبر كن حكيماً، كن حليماً، فإن هذا الطريق لا يَثْبُت عليه إلا الصابرون.(31/10)
إلى كل من له أسير
أوجه حديثي لكل من أُسِر له حبيب، لكل من أُسِر له صديق، إلى أم الأسير، إلى ابن الأسير، إلى أخ الأسير في أنحاء الأرض جميعاً، أينما كان أسراهم، في سجون طواغيت الأرض، أوجه هذا الحديث، لعله يكون به تسلية.
إن يعقوب عليه السلام أُخِذ منه ابنه وهو طفلٌ صغير، ولم يكن قلبه متعلقاً بأحد أكثر من هذا الولد، يوسف الذي أوتي شطر الجمال، أُخذ من بين يديه وهو أقرب الناس إليه، أتعرف كم فقده؟ فقده منذ الطفولة إلى أن بلغ أشده، ثم أُدْخِل السجن قيل: تسع سنين، ثم صار عزيزاً في مصر سنوات طوال، لكن يعقوب عليه السلام هل يئس؟ هل قنط من رحمة الله؟ قال لبنيه: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] قالوا له: إلى الآن ما مللت الدعاء؟! ما مللت الذكرى؟! ما مللت الأسف؟! ذهب الأسير، انقطعت الأخبار، ماذا قال يعقوب؟
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] أنا لا أطلب منكم، لا أرجوكم، ولا أشتكي إليكم، إنما أشتكي لله.
إلى كل قريبٍ لأسير، طرقْتَ كل الأبواب وولَجْتَ كل السبل، وناديتَ مَن ناديتَ، لكن اعلم أن الأمر بيد مصرف الأمور، بيد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، إن كان هو أسير وأنت طليق فإن شاء الله تنقلب الأمور فتفرج الكرب ويفك الأسير، إن الأمر بيد الله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] لم ييأس يعقوب، فإذا به بعد سنين طوال، يأتيه الخبر فإذا الله يَرُد عليه يوسفَ وأخاه، ويَرُّد عليه بصرَه، ويشكر الله على هذا.
الحجاج بن يوسف الثقفي -اسْمَعِي! - أوجه الحديث خاصة إلى أم الأسير، وإلى زوجة الأسير، وإلى ابن الأسير، اسمعوا هذه القصة، والقصة حقيقية!
الحجاج أحد الطغاة، الذي قتل ما يزيد على مائة وعشرين ألفاً من المسلمين، يداه تسيل بالدماء، يوماً من الأيام أسر شاباً من شباب المسلمين، أخذه أسيراً في سجنٍ من السجون، سمع عمه ابن محيريز، وهذا عابد زاهد، عالم ورع، سمع أن ابن أخيه قد سجن، من الذي سجنه؟ ومن الذي أسره؟
إن الذي أسره هو الحجاج بعينه، حاكم العراق في ذلك الوقت، فإذا بـ ابن محيريز يطرق الأبواب، ويذهب للوجهاء، وللعظماء وللكبراء علَّ أحداً أن يشفع له، ابن أخيه كابنه؛ لكنه لم يجد مجيباً، كل الناس خافوا، كل الناس أمَّلوه ولكن لم يستطع أحد، ولم يجرؤ أن يطرق باب الحجاج أحد.
ذهب إلى البيت حزيناً كئيباً، نام، غَلَبَتْه عيناه فنام، فجيء له في المنام فقال له قائل في المنام: يا ابن محيريز! قصدت الأمر من غير بابه -لم تحسن ولوج الأمر في الباب الصحيح- فقام فزعاً، فإذا به يتوضأ، ثم يصلي آخر الليل، ويلجأ لله جل وعلا، يقول الثقاة المحدِّثون: "إن الحجاج فَزِع من نومه واستيقظ، ونادى الحرس، والجيش، فقال لهم: أين فلان السجين، قالوا: لا زال حياً، قال: أخرجوه طليقاً الآن، فأُخرج من سجنه، يقول الثقاة المحدِّثون: لا ندري ما الذي جعل الحجاج يُخرج ذلك الشاب" أتدري ما الذي أخرجه؟
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
المهم: أن لا نيأس.(31/11)
لا تحزن إن الله مع كل مؤمن
أخي الكريم! أختي الكريمة! قبل أن نختم حديثنا، لا تحزن لا تحزن كلمات أطلقها المصطفى عليه الصلاة والسلام لصحابه في الغار قال: (لو أبصر أحدٌ قدمَه لرآنا يا رسول الله! -أتعرف ماذا قال له؟ - {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]).
نعم.
إن كان الحزن أمراً طبيعياً جِبِلِّياً في البشر فاغلبه يا عبد الله، وانطلق بحياتك، ماذا يعني أنك أصبت بمرض، أو فقدت حبيباً، أو خسرت أموالك؟
ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
ابدأ حياتك من جديد، ابدأ طريقك من جديد، الدنيا أحقر من أن تغتم بها، أو تهتم بها، أو تأسى على ما فات: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].
(عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خير له) عجباً لأمر المؤمن.
في الحديث: (من أصابه هَمٌّ أو غمٌ فقال: الله ربي لا شريك له، أذهب الله غَمَّه).
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك؛ سَمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(31/12)
وسائل تقوية الإيمان
قبل أن يبدأ الشيخ في الدرس تحدث عن احتقار الناس وحذر من ذلك، ثم بدأ بذكر الأسباب التي تقوي الإيمان، مبيناً أن من أعظم الأسباب التي تقوي الإيمان قراءة القرآن الكريم، وهناك قصص توضح ذلك، منها إسلام جبير بن مطعم لسماعه آية أو آيتين من القرآن، وكذلك بعض الشباب عادوا إلى الله لمجرد سماعهم آيات من القرآن.
ثم انتقل الشيخ إلى السبب الثاني وهو الصحبة، فحذر من صحبة قرناء السوء، ونصح الآباء نصائح من أجل الحفاظ على أسرهم وأبنائهم.
كما أن الشيخ أجاب على أسئلة تهتم بالأمور الاجتماعية والدعوية.(32/1)
إياك واحتقار غيرك من المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أرحب بكم في بيت من بيوت الله عز وجل، وأرجو قبل أن نبدأ أن نستشعر المكان الذي نحن فيه، وأن نستشعر الليلة التي نحن فيها، وأن نستشعر الكلام الذي نسمعه، كم من الناس الآن في هذه اللحظة التي تستمعون فيها إلي الآن؛ ربما يسهر على أفلام ومسلسلات!
كم من الناس الآن في المقاهي يدخن!
كم من الناس الآن من يتجول في الأسواق!
كم من الناس الآن من يعاكس الفتيات، وربما يسهر على الغناء وربما يفعل ويفعل!
الناس شتى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] وانظر إلى اصطفاء الله عز وجل لك من بين الناس أن جاء بك إلى هذا المسجد لتسمع ذكره جل وعلا، وهذا يحتاج إلى شكرٍ وإلى استغفار، من أنا حتى يختارني الله عز وجل من بين الناس، أتعرف كم إنسان يعيش في الأرض؟
اليوم يعيش أكثر من خمسة مليارات إنسان على وجه الأرض، أكثر من خمسة آلاف مليون لا يعرفون الله جل وعلا.
ومليار ومائتا مليون مسلم؛ منهم من يعبد حجراً منهم من يعبد قبراً منهم من يعبد خيطاً منهم من يعبد رجلاً منهم من يشرك مع الله غيره، انظر إلى اصطفاء الله لك حين جعلك من الموحدين: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] الله هو الذي هداك.
أول قضية قبل أن نبدأ في وسائل تقوية الإيمان ألا تحتقر الناس، لا تقل: أنا أصلي وأصوم وأتصدق، والناس لا يفعلون شيئاً من ذلك، إياك من احتقار الناس، لا تنظر إلى أهل المعاصي فتقول: أنا خير منهم، احتقر المعصية لكن لا تحتقر الناس، ربما هو يندم ويستغفر ويكون أقرب إلى الله منك، وربما نحن نعجب بأعمالنا وصلاتنا وصيامنا فيرد الله علينا العمل، لا تحتقر الناس، قل دوماً: أنا أضعف منهم، أنا أقل منهم منزلة، أنا أقل الناس ديناً وإيماناً، احتقر نفسك دوماً.(32/2)
قصة رجل من بني إسرائيل اغتر بعمله
اسمع للقصة في بني إسرائيل يقصها النبي عليه الصلاة والسلام، قصة رجل عابد داعية؛ لكن اغتر بنفسه، كان يرى كل يوم رجلاً صاحب معصية فيقول له: يا فلان! اتق الله ودع ما أنت فيه.
تخيل لو أنك تمر على رجل -والعياذ بالله- وهو يشرب خمراً أو رجل -والعياذ بالله- فاحش، أو امرأة منظرها قبيح، كان يقول له: اتق الله ودع ما أنت فيه فيرد العاصي على الداعي إلى الله، يقول له: إليك عني، أجعلت علي رقيباً؟
أي: هل أحد سلطك علي؟
ردٌّ غير حسن، وكل يوم يدعوه؛ لكن الخطورة أن الشيطان استطاع إغواء الداعية، فإذا بالداعية يغتر بنفسه وهنا الخطورة؛ أن ترى لنفسك فضلاً على الناس، وأن ترى أنك أفضل من غيرك، وأن تحتقر الناس؛ فإذا به يقول: والله لا يغفر الله لك، من قال لك: أن الله لا يغفر له؟
قال: والله لا يغفر الله لك، فإذا بربنا جل وعلا يرد عليه يقول: (من ذا الذي يتألى علي؟) من الذي نصب نفسه رباً وحكماً وإلهاً على الناس قال: (قد غفرت له -يعني: للعاصي- وأحبطت عملك) أبو هريرة يعلق على هذا الحديث بقوله: [قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته] إياك أن تحتقر الناس، وقل دائماً: يا رب! حبب إلي الإيمان وزينه في قلبي.(32/3)
القرآن وتقويته للإيمان
أهل الإيمان الكامل ما هي صفاتهم؟
الله عز وجل يقول عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] القلب يوجل إذا ذكر الرب.
أبو حنيفة قال له طفل: يا إمام! اتق الله، فاصفر لونه، وتغير وجهه لأنه ذكره بالله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] أول صفة من صفات أهل الإيمان الكامل أن إذا سمع القرآن أو الأذان أو الذكر؛ اضطرب القلب، واضطربت الجوارح واهتزت.(32/4)
قصة علي بن الفضيل مع القرآن
علي بن الفضيل بن عياض؛ هذا رجل عابد، وأبوه رجل عابد يسمى: عابد الحرمين وهو الفضيل بن عياض، كنيته أبو علي عنده ولد اسمه علي صار علي أشد عبادة من أبيه.
في يوم من الأيام يقول: دخلت في البيت فوجدته يجول في الغرفة ويبكي ويبكي فقلت له: يا بني! لمَ تبكي؟
قال: يا أبي تفكرت في النار وكيف الخلاص منها فبكيت.
بكى لأنه تذكر النار, ثم قال: يا أبي! سل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبني إياك في الآخرة في الجنة، ادع الله إذا دخلت الجنة أن يحلقني لك.
كان الفضيل إذا صلى الصلاة وعلم أن ابنه يصلي وراءه لا يرتل، ويقرأ قراءة عادية؛ لماذا؟
يعرف أن ابنه لا يتحمل ترتيل القرآن، بكاؤه شديد، ينقطع قلبه ويضطرب، في يوم من الأيام كبر وابنه لم يكن وراءه، فدخل في الصلاة وأبوه يصلي ما علم أن ابنه دخل، والأمر الآخر أنه قرأ آية تتفطر منها القلوب، وتتكسر منها الصخور، وتتصدع منها الجبال، فأيُّ آية تلك؟
إنها قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فسمع صوت ابنه يبكي فخفف الصلاة وأتمها فوجدوا ابنه قد أغمي عليه من شدة البكاء، لكن نحن لا نصل إلى هذا المستوى؛ لكن نقول: أين التأثر؟
أين التدبر؟
أين دمعة العين؟
لوحدك ليس أمام الناس والأمر كالسر، كانوا يصلون فيبكي الواحد منهم ولا يدري من بجانبه، وينام مع زوجته على وسادة واحدة يبكي ما تدري عنه زوجته، إخلاص دمعة تنزل؛ لكن لله لا شهرة ولا سمعة حتى يقال: فلان بكاء وفلان خاشع، لا لا يبالون بالناس أصلاً.(32/5)
ابن المنكدر وقصته مع القرآن
محمد بن المنكدر هل سمعتم به؟
أبو عبد الله العابد الزاهد؛ دخل البيت يوماً فأخذ يبكي، ومن أول أسباب تقوية الإيمان: أن تتأثر بالذكر وبالقرآن: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2].
ابن المنكدر بكى في البيت فقالت زوجته: يا أبا عبد الله! هون على نفسك لِمَ كل هذا البكاء؟
قال: إليكِ عني، أنت لا تعلمين ما الذي أصابني، فخرجت زوجته وخافت على زوجها، فذهبت إلى صاحبه أبي حازم فقالت: يا أبا حازم! تعال إلى صاحبك فقد قطع البكاء قلبه، فجاء أبو حازم وقال: يا أبا عبد الله! ما الذي جرى؟
قال: يا أبا حازم! آية مرت علي من القرآن، توقفت عندها ما تحملتها قال: أي آية؟ {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] تعرف ما معنى الآية؟
بعض الناس يظن أنه قد أصاب الفردوس وأنه يدخل الجنة وأنه من المتقين المؤمنين الصادقين، فإذا جاء يوم القيامة وجد الأمر على غير ما كان يظن، وجد الأمر ضد ما كان يظن، جاء يوم القيامة فإذا به يرى الحسنات سيئات، يرى الجنة ناراً، أعماله الصالحة صارت هباءً منثوراً: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فإذا به يبكي فبكى أبو حازم واشتد بكاؤهما: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2].(32/6)
القرآن يثبت القلب ويزيد في الإيمان
أعظم أسباب تقوية الإيمان القرآن: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] يثبت القلب، ويزيد الإيمان، كم كان النبي بحاجة للقرآن في حياته؟
ما نزل القرآن جملة واحدة؛ لماذا؟
حتى يثبت النبي عليه الصلاة والسلام، سورة بعد سورة، آية بعد آية، حتى يثبت القلب ويطمئن، تأتيه امرأة عجوز حقيرة تقول: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد هجرك -تقصد: الوحي تستهزئ بالنبي عليه الصلاة والسلام- فحزن وضاق صدره فأنزل الله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5] يأتون ليستهزئوا به فينزل الله عز وجل آيات تصبره وتثبته.
في يوم من الأيام جاءه رجل، يقول له: اعدل يا محمد، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وذلك بعد حنين - قال: (ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟).
هذا من رءوس الخوارج، ومن الذين كانوا يُكَفّرون بالمعصية، واعتدوا حتى على مقام النبوة، يتهم النبي عليه الصلاة والسلام بالظلم، من يعدل إذا ما عدل النبي صلى الله عليه وسلم؟
لكنها السفاهة والسفالة، سفهاء أحلام حدثاء أسنان، فقال خالد: دعني أضرب عنقه -أي: أقتل هذا المرتد الذي يتهم النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقتله؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ثم قال: رحم الله موسى أوذي أكثر من هذا فصبر) موسى عليه السلام يذهب يكلم ربه، فيرجع، فيجد قومه يعبدون العجل، موسى عليه السلام لما كلمه الرب جل وعلا وسمع بعض العباد -عباد بني إسرائيل الذين ذهبوا يستغفرون الله لبني إسرائيل- قالوا لموسى عليه السلام: لن نؤمن لك، وهم أعبد بني إسرائيل، قال: لِمَ لا تؤمنون لي؟
قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، أخذ الله أرواحهم وماتوا، ثم بعثهم الرب جل وعلا، فقد كان بنو إسرائيل معاندين لما قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] ماذا قالوا لموسى عليه السلام في نهاية الأمر؟ قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] انظروا أذى بني إسرائيل لموسى عليه السلام.
أعظم ما يقوي إيمانك يا عبد الله! القرآن، اقرأ القرآن قصص الأنبياء توحيد الله وآياته المعجزات في القرآن، عندما تقرأها يزداد إيمانك، كل ليلة يسهر الرجل على الأفلام الخليعة إلى آخر الليل، والرب يقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟).
وآخر يقيم على الأفلام الخليعة يقول لي صاحبه: والله إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر ضاق صدره، واشمأز، وأغلق النافذة، ورفع صوت التلفاز حتى لا يسمع الأذان؛ يكره حتى صوت الأذان: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:45] مطرب أو مطربة {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] ما عنده مانع من أن يحضر حفلة غنائية ثلاث ساعات؛ لكن خطبة الجمعة ثقيلة، ما عنده مانع أن يقف أربع ساعات أمام التلفاز؛ لكن نصف ساعة يصلي التراويح صعبة فيقول: أطال علينا الإمام.
لا يرتاح إذا سمع ذكر الله، أما إذا سمع من دونه أهل الغناء والطرب يبشر ويفرح، هل سمعتم بالمشركين كيف تأثروا بالقرآن؟ هل تعلم أن أبا جهل فرعون هذه الأمة كان يذهب أحياناً في الليل خفية يستمع إلى قراءة النبي للقرآن، ورآه بعض المشركين، وإذا به يعتذر أنه فقط يسمع هكذا، ولكنه كان يتلذذ بقراءة القرآن، فلماذا لم يؤمن؟
عناد وكبر؛ حتى لا يقال: إن الإمارة والسيادة صارت لغيره، فقط لهذا ما آمن ولكنهم كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأنه كلام الله، يسمعونه رطباً من النبي عليه الصلاة والسلام.(32/7)
إسلام جبير بن مطعم عند سماع القرآن
جبير بن مطعم يقول: كان أبغض رجل لدي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: فذهبت إلى المدينة -ربما يريد قتله- فجئت في صلاة المغرب.
تخيل المدينة في صلاة المغرب كيف حالها؟
هل هناك أحد فاتح محله ليبيع أو يتمشى في شوارع المدينة؟ رجالهم، نساؤهم، حتى أطفالهم في المسجد؛ لأن جميع الناس في المسجد، مَنْ إمامهم؟
محمد عليه الصلاة والسلام يقرأ فيهم في ذلك اليوم في صلاة المغرب سورة الطور، والحديث في البخاري يقول جبير قبل إسلامه: سمعت القرآن.
الكل في هدوء وإنصات وخشوع فإذا النبي يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] وكانت قراءته هادئة آية آية، السؤال موجه للمشركين؛ الله يقول لهم: هل أنتم خلقتم من غير شيء؟
هل خلقتم من عدم؟
طبعاً لا.
إذاً من خلقكم؟
اسمع الآية الثانية: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] أنت خلقت نفسك يا جبير؟
طبعاً لا.
الآن بدأ يناقش نفسه، إذاً هناك خالق وأنا لم أخلق نفسي؛ إذاً من الذي خلقنا؟
يا جبير! انظر للسموات السبع للأرض للجبال أكبر من خلق الناس؛ مَنْ خلقها؟
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] يقول جبير: وقر الإيمان في قلبي -سمع آيتين أو ثلاث آيات- وانتهت الصلاة، يقول: جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم وسأله بعض الأسئلة، فإذا بـ جبير يقول أمام الناس: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقول: فصار أحب إنسان في قلبي محمد عليه الصلاة والسلام.
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].(32/8)
شاب يتوب بعد سماعة آية واحدة
يقول أحد العسكريين: كنت حارساً في معسكر وما صليت لله منذ سنين يقول: صادف ذلك اليوم عند المعسكر مسجد، وجاءنا شيخ يتحدث في المسجد، والسماعات الخارجية مفتوحة، فكنت أسمع وأنا حارس في الخارج، يقول: أخذت أسمع والشيخ يتحدث عن آية واحدة يشرحها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ماذا قدمت؟
يقول: فأخذت أسمع ثم -والله- بدأ الدمع ينزل من عيني؛ بدأ يبكي؛ أول مرة يسمع هذه الآية، موت، قبر، جنة، نار، ماذا قدمت لغد؟ هل استعد كل واحد منا وجهز لذلك اليوم؟ والشيخ يتحدث فقال لي أصحابي: ما الذي جرى؟
فاستأذنت منهم وخرجت، فذهبت إلى المسجد، فدخلت إحدى دروات المياه -أجلكم الله- وكان فيها مسبح فاغتسلت، يقول: لم أغتسل من جنابة منذ سنين، ولهذا ظل في نجاسته سنوات يقول: ثم خرجت ودخلت المسجد ولا زال الشيخ يحدث، فصليت ركعتين، وأخذت أستمع والدموع تنهمر، وأنا أبكي طوال الحديث يقول: والله ما أن انتهى الشيخ من حديثه إلا وقررت أن أبدأ حياة جديدة.
وانشرح صدري وأنار الله قلبي: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] انشراح الصدر بالطاعة بالذكر بالصلاة، يقول فجلست مع الشيخ بعد الحديث دقائق معدودة يكتب قصته وهو يقول: أنا الآن -بفضل الله- أحد الدعاة إلى الله عز وجل، لم يصلح فحسب بل بدأ يصلح غيره، آية يا عبد الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} [الحشر:21].(32/9)
شاب يسمع آية في المنام فيهتدي
أحياناً: يسمع الإنسان الآية قدَرَاً، فيمر في طريقٍ ويسمع إماماً من إذاعة أو من شريط، اسمعوا لهذا الشاب متى سمع الآية وأين سمعها؟
يقول: كنت مولعاً بالغناء، لا أسمع القرآن ولا أصلي ولا أعرف الدين، أمي عجوز تنصحني وكنت لا أستمع لحديثها يقول: وعندي جار داعية كلما رآني نصحني فأقول له: إن شاء الله، وأذهب أخدعه، يقول: في ذلك اليوم أغلظ عليَّ في النصيحة، فقلت: إن شاء الله أعدك أني سوف أصلي، لكن بعد أن ذهب لم أصل وما استقمت، يقول: فنمت تلك الليلة فرأيت في المنام رؤيا؛ رأيت أنني أمشي على شاطئ البحر، فسمعت صوت أحسن مغنية عندي، أُحِبُّ صوتها وعندي أشرطتها، فسمعت صوتها في المنام فاتجهت باتجاه الصوت حتى أخذ بكتفي رجل في المنام، فالتفت فإذا هو رجل ذو لحية بيضاء ووجه مضيء فقلت له: دعني دعني! قال: لن أدعك، قلت له: دعني سوف أذهب للصوت قال: والله لن أدعك، قلت له: ماذا تريد؟
قال: اسمعني أكلمك ثم تذهب قلت: تفضل قال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: بدأت أقرأ القرآن معه في المنام هو يقرأ وأنا معه نرتل الآية يقول: حتى استيقظت من نومي وأنا أبكي، لماذا أبكي؟
لا أدري، يقول: فوجدت نفسي أبكي وأردد الآية، فدخلت علي أمي فقالت: يا بني! ما الذي أصابك؟
فقلت: يا أماه! رأيت في المنام رؤيا، وقصصت عليها الرؤيا وأخذت أقرأ الآية وأنا أبكي وأمي تبكي: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].(32/10)
المكوث في المسجد سبب لتقوية الإيمان
من أسباب تقوية الإيمان: المكوث في المسجد، بعض المرات ليس لك عمل، فلماذا تخرج من المسجد؟
بين الظهر والعصر أحياناً ما عندك دوام، إذاً: اجلس في المسجد، فانتظار الصلاة إلى الصلاة رباط مثل الجهاد في سبيل الله، أفطر أحياناً في المسجد، صل قيام الليل، بعض الناس كلما انتهى من الصلاة هرب، لماذا تهرب؟
أين قلبك؛ معلق في البيت، أو في الأسواق، أو في الملاعب أو في المساجد؟ (ورجل قلبه معلق بالمساج) يا عبد الله! أين قلبك؟
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36].
والغدو بعد الفجر، ولكن سل أكثر مساجد المسلمين بعد الفجر هل فيها أحد؟
أغلب المساجد تغلق بعد العصر، قلَّ من تجده في المسجد، لا يكثر من الجلوس في المساجد إلا الرجال، كما قال الله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37].(32/11)
الصحابة وجلوسهم في المسجد
صلى النبي صلاة العصر فخرج، فجاء إلى الصحابة فوجدهم في المغرب جالسين -من العصر إلى المغرب جالسين- قال (ما الذي أجلسكم؟
قالوا: صلينا، وننتظر الصلاة الثانية قال: آلله ما أجلسكم إلا هذا؟
قالوا: آلله ما أجلسنا إلا هذا، قال: آلله ما أجلسكم إلا هذا؟
قالوا: آلله ما أجلسنا إلا هذا، وسألهم المرة الثالثة فأقسموا- قال: أشهدكم أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) أي: يفتخر بكم عند الملائكة، الآن بعض أناس يتجولون في الأسواق بغير داعٍ، إلا بحجة قطع الأوقات، والأسواق أبغض البلاد إلى الله، لا تذهب إليها إلا لحاجة.
وأنت الآن تجلس في بيت الله، يطلع الله إلى الأرض فينظر الناس في بيت الله فليسوا إلا القلة القليلة وأنت منهم: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] أنت الآن تذكر الله، الله ينزل علينا السكينة وتغشانا الرحمة بإذنه، وتحف الملائكة وتنادى بعضها: هلموا هلموا إلى حاجتكم.
أذكر في يوم من الأيام أنّا كنا في إحدى البيوت، وفي حوش هذا البيت قفص فيه ديك، وكان عندنا شيخ فاضل فقلنا: يا شيخ! تفضل بموعظة -كنا جالسين والوقت يذهب ونحن نريد ذكر الله عز وجل- فبدأ الشيخ يتكلم، والله يا إخوة ما إن قال: إن الحمد لله وكان الديك خلفه في القفص إلا وبدأ الديك يصيح ويصيح، وقد كنا نتكلم قبل ذلك وما صاح الديك، بدأ بالصياح حقاً عندما بدأ الشيخ يتكلم، وما تركنا نسمع الذكر لكثرة صياحه؛ إلى أن قال الشيخ: والحمد لله رب العالمين، فأُقسِمُ بالله أنه توقف الديك! تعرف لِمَ؟
لأن الديك يرى الملائكة، يحس بها وأنت لا تشعر؛ لكن لو كشف الغطاء، ولو رفع الستار لرأيت الملائكة تنزل، أرأيت الرجل في السيارة وهو يمشي (ما خلا راكب بالله وذكره -يقرأ القرآن يسبح يستغفر، يسمع شريط محاضرة المهم أنه منشغل بذكر الله- إلا كان ردفه ملك -أي: يركب معه ملك- وما خلا راكب بالغناء إلا كان ردفه شيطان) قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] أي: من يبتعد عن الذكر.
اسمع يا عبد الله! اسمع إلى ما يحدث في الأولين والآخرين لتعرف أسباب تقوية الإيمان.(32/12)
الصحبة الصالحة سبب لتقوية الإيمان
من أعظم أسباب تقوية الإيمان: الصحبة، قل لي من تصاحب أقول لك من أنت.
كم من الناس من قرر التوبة والهداية، وقرر أن يلتزم لكن عنده أصحاب -والعياذ بالله- لا يتركونه؛ يا فلان! تعال عندنا الليلة فيلم جديد، وعندنا سهرة إلى الصباح، أما سمعت آخر أغنية؟
رأيت آخر المجلة؟
هل عملت أين سافر فلان؟
تعال نسافر، كلمات وإغراءات؛ لأنهم لا يريدون لأحد من الناس أن يهتدي، الواحد منا إذا تحسر يعض مرات على إصبعه لا شعورياً، هل رأيت واحداً في يومٍ من الأيام يدخل يديه الاثنتين داخل فمه يعض عليهما؟
هذا يحصل يوم القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يدخل يديه فيعض عليهما: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يا ليتني ما عرفته، ياليتني ما صادقته، ما زاملته، ولا رأيته، يطلب رؤيته عند الله يوم القيامة، يا رب! أريد أن أرى فلان بن فلان.
لماذا يريد رؤيته؟
الله يسأله لماذا تريد أن ترى فلان بن فلان؛ الذي أضله وضحك عليه، وأعطاه الأشرطة والأفلام، والصور والمجلات، وعلمه طريق الحرام والمنكر.
قال تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْس} [فصلت:29] شيطاني من الجن وشيطاني من الإنس، أريد أن أرى الاثنين يا رب! الذي ضحك علي من شياطين الجن، والذي ضحك علي من شياطين الإنس، هل تظن أنه يريد رؤية صاحبه لكي يعانقه أو يودعه أو يسلم عليه؟
انظر لماذا يريد أن يرى صاحبه وزميله وحبيبه {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] لكن هل ينفع الندم؟
الآن تريد أن تطأ قدمك على رقبته، أين كنت في الدنيا؟
كلما قررت التوبة تضل لأجله، كلما عزمت على الهداية تركتها لأجله.(32/13)
(80%) يدمنون المخدرات بسبب الصحبة
أكثر من (80%) من الذين وقعوا في المخدرات وهذه إحصائية في الكويت وقعوا بسبب صحبة السوء، والتقيت بكثير من المدمنين والله ما أرادوا الإدمان ما فكروا في حياتهم بالمخدرات، كانوا يخافون من شيء اسمه مخدرات، وكان أسوء شيء عندهم المخدرات، والآن صاروا مدمنين لها ومروجين والسبب الصحبة، فبعضهم كانوا يدخلون له المخدرات بأن يركب السيارة، ويضعون له البودرة في مكيف السيارة، أو في علب العصير، كراتين مغلقة غير مفتوحة ولكن فيها مخدرات، فكيف أدخلوا المخدرات في كرتون العصير؟
بإبرة يدخلون (هروين) خالصاً بحيث يصير مدمناً بشربة واحدة، ثم لا يمكن أن يتخلص من الإدمان إلا ربما يموت أو يهتدي بصعوبة.
رجل كان يعطي امرأة وردة، وتفرح هذه المسكينة، ولا تدري أنه عشيق وصاحب، وما تدري أنه يوقعها في المخدرات، يضع البودرة في الوردة وهي تشم الوردة وتشم المخدر، وكذلك في البيبسي.
وجاءني شاب إلى المسجد وعمره اثنان وعشرون سنة بوجه مظلم، قبيح، كريه، مخيف، وأعطاني صورة جميلة، قلت: من هذا؟
قال: هذا أنا، قلت: مستحيل! قال: والله يا شيخ هذا أنا قبل أن أدمن المخدرات، قلت له: كيف؟
يقول: بشرب الشاي، كان عندنا ديون كنت أشرب الشاي فيه معهم يومياً، ويضعون لي البودرة وأنا لا أدري، حتى إذا أدمنت ونفدت أموالي، بدأت أروج، قلت له: تب إلى الله! واهجر صحبة السوء، قال: فكرت في التوبة فهددوني بالسلاح، وذلك لأن عنده أسراراً فإنه يعرف التجار، قلت له: والله لو قتلوك فأنت في سبيل الله، ومع هذا لن يستطيعوا قتلك (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) إياكم وصحبة السوء.(32/14)
توجيه للآباء ليحرصوا على أبنائهم
احرصوا على أولادكم، فبعض الكبار في السن لا يستطيع أن يضمن ولده أو بنته، يجده ذاهباً إلى المدرسة وراجعاً منها فيحمد الله، والأمر أخطر وأكبر، فكم من الناس من تعلم الإدمان في المدارس، ولا يعني أن نغلق عليهم الباب، ولكن يذهب إلي المدرسة وأنت تعرف من أصحابه، يدعو أصحابه يوماً عندك إلى البيت فتعرف من يخالط، ولا بد للأم أن تعرف صاحبات البنت، أما أن نترك الحبل على الغارب فلا.
أخوك الصغير تداركه، الحقه -يا عبد الله- قل أن يقع الفأس في الرأس، ثم تندم ولات ساعة مندم، إي والله ولات ساعة مندم!(32/15)
قصة فتاة أهملها أبوها
في يوم من الأيام اتصلوا على الأب وهو تاجر: أنت فلان قال: نعم.
قالوا له: تعال إلى قسم الشرطة.
هذا الرجل عنده سمعة مشهورة في إحدى دول الخليج، والرجل معروف، قال: ماذا هل هناك شكوى في شيك؟
عنده معاملات تجارية، وأحياناً يضطرون للشكوى والمحاكم، قال: أرسل المندوب قالوا: لا.
تعال أنت، قال: عندي وكيل قالوا: لا تعال أنت الآن بسرعة، ذهب التاجر، ودخل قسم الشرطة، لأول مرة دخل على الضابط قال: استرح، فجلس، قال: عندك بنت اسمها فلانة قال: نعم.
فزع الرجل، أدخلت البنت وهي تبكي، قال: ما الذي جرى؟
ما الذي حدث؟
قالوا: هذه ابنتك؟
قال: نعم.
يا بنية! ما الذي جرى ما الذي حدث؟
قال الضابط: قبضنا على ابنتك في إحدى شقق الدعارة، بنتي طالبة الجامعة! بنتي المجتهدة الخلوقة، البريئة الناصعة! بنتي التي عمرها ما عرفت الحرام، ولا دخل في بيتنا الحرام! كيف وصلت إلى هذا؟!!
فنظرت البنت إلى أبيها فقالت: يا أبي! لا تبك علي الآن فأنت السبب.
قال: أنا؟! -أمام الضابط- قالت: إي والله أنت السبب! في حياتك كلها ما جلست معي تنصحني، في حياتك ما دخلت إلى غرفتي لتعرف ماذا أقرأ وماذا أسمع، أبي! من جاءنا بمئات القنوات الفضائية ووضعها في بيتنا؟
-تقول إحدى الأخوات: والله (500) قناة عندنا- من الذي جاءنا بهذه القنوات يا أبي؟
من الذي كان يضع السائق تحت يدي يذهب بي أين أشاء؟
من يا أبي أليس أنت أليس أنت؟
أنت المجرم يا أبي.
نعم ليست معذورة؛ لكنها صادقة! فقد أعطاه الله ابنة وابناً على الفطرة سليمان (100%)، فمن الذي لوث هذه الفطرة؟
من الذي نجسها؟
من الذي جعلها تنحرف؟ (أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
في المثل: في يوم من الأيام كان، الطاووس يمشي بكبر واختيال، فرئي أولاده وراءه يمشون نفس المشية، فقال أحد الشعراء فيهم:
مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد شكل مشيته بنوه
قال: علام تختالون قالوا سبقت به ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه(32/16)
وقفة مع الداعية عمرو خالد
أخي العزيز: أنت في البيت مسئول، لا تقل: أنا لست أباً، أنا حالي حال الإخوة في البيوت؛ فحتى ولو لم تكن مسئولاً فاعمل، انشر الخير في البيت، انشر الرحمة.
انظروا -يا إخوة- إلى هذا الرجل الذي يعظ الناس كان يقول: ماذا أعمل الآن في هذه الأمة التي ذهبت وذهبت البيوت؟
هذا الرجل كان في يوم من الأيام يصلي صلاة التراويح في مصر التي أخرجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وكان الإمام في صلاة التراويح يقيم درساً كل يوم بين أربع ركعات، وفي يوم غاب الشيخ، فبحثوا من يقوم، فرأوا رجلاً ببدلة قالوا: أتصلي بنا؟
وفي موعد الدرس بعد الصلاة أحرج حيث قالوا له: يا شيخ! وهو إنسان عادي لا شيخ ولا داعية، قالوا: حدثنا فكل يوم يحدثنا الشيخ، فحدِثنا بما فتح الله عليك، فتحدث؛ فإذا به يفوق الشيخ، تكلم لكن ألهمه الله فأمتعهم بحديثه، لأول مرة قدر الله له أن يتكلم، ما كان عنده نية أن يتكلم أصلاً، فأخذ يتحدث كل يوم، فانتشر صيته، وبدأ يعمل بعض المحاضرات وبعض الدروس، واليوم ملايين المسلمين يستمعون إليه، وتغيرت ملايين البيوت بسببه، إنه الداعية عمرو خالد، أرأيت إلى هذا الرجل كم بكى من إنسان لسماع حديثه! أنا أعرف شخصياً أتجول في دول أوروبا، ودول عربية، والله يا إخوة ما رأيت إنساناً أثر في المسلمين مثل هذا الرجل، ولعله لصدقه ولإخلاصه، فلا تقل أنا ماذا أعمل؟
كلنا مسئولون عن هذا الدين، يوجد أناس اليوم يحاربون ديننا وإسلامنا، ويحاربون حتى أولادنا في فطرهم، إذاً أنت ماذا فعلت؟
أنا أقول لك: لا يوجد شيء اسمه (مطاوعة وغير مطاوعة) انسوا هذه الكلمات، الغوا هذه الكلمات من القاموس؛ كلنا مسلمون، وكلنا نحب الله ونحب الدين، فقم واعمل بمقالة أو بشريط توزعه، أو بغير ذلك.(32/17)
هداية فتاة بسبب سماع شريط موعظة
فتاة تقول: في يوم من الأيام وأنا ذاهبة إلى البيت وطئت برجلي على شريط، تقول: أنا أحب الأغاني، طالبة بالثانوية تقول: أنا حياتي كلها أغاني، وعندي مدرسة تنصحني بالحجاب؛ بالهداية فلا أستمع لها، تقول: في يوم من الأيام وطئت بقدمي على شريط، فأخذته لأسمعه ربما تكون أغنية ما استمعت إليها، تقول: أخذت الشريط وجلست في البيت، ووضعته في المسجل، وبقيت أنتظر من المغني أو المغنية، فإذا برجل يتكلم عن الموت، تقول: توقفت، سمعت حتى انتهى الشريط؛ أعدته مرة ومرتين وثلاثاً، ما أدري لماذا بكيت تقول: في اليوم الثاني ذهبت إلى المدرِّسة التي عندنا، فجلست عندها وقلت لها: يا فلانة! أريد أن أتحجب، فقالت: ما الذي حصل؟
قلت: شريطاً وطئته برجلي فسمعته، فإذا هو يتحدث عن الموت والقبر، تقول: منذ ذلك اليوم تحجبت والتزمت واستقمت، تقول عن نفسها: أنا اليوم أوزع الأشرطة على الناس، ربما وصل الشريط لإنسان فما أعجبه فرماه من السيارة لكن: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] * {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] لا تحتقر نفسك، ابذل أي شيء، الإيمان يضعف ويزيد، إذا قمت بالدعوة إلى الله يزداد الإيمان، إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر يزداد الإيمان، إذا أصلحت من حولك يزداد الإيمان، إذا أصلحنا بيوتنا يزداد الإيمان، إذا قرأنا القرآن، إذا صلينا، كل عمل صالح يزيد الإيمان، وكل معصية -والعياذ بالله- تنقص الإيمان.(32/18)
الأسئلة(32/19)
نصيحة للإخوة الملتزمين
السؤال
كلمة لإخواننا الملتحين أرجو أن توجه كلمة لإخواننا الملتحين.
أنا أولكم، ويسمح لي إخواننا الملتحون حيث أنهم واجهة الإسلام الآن، وجميع الناس ينظرون إليهم، فنرى البعض منهم لا يلقي التحية على الناس، وأنا أقول: هذا خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (ألا أعلمكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) فهذا لعله غير ملتحٍ؛ لكن ينصح إخوانه الملتحين: أفشوا السلام بينكم، ولنقبل نصيحته؟
الجواب
صحيح! أن بعض الناس يتضايق إذ كيف بك تمر عليه أحياناً فتسلم فلا يرد السلام، لماذا؟
ما أدري، وأنا جلست أحياناً كثيرة مع غير الملتحين، أجلس معهم وأقول لهم: يا أخي! أنت ابدأ ولا تنتظر حتى يسلم، أنت قم إليه واجلس معه، وقل له: السلام لله ما هو لي ولا لك، ولن تدفع شيئاً على السلام، والملتحي ليس بملك، الملتحي بشر، وأنت ادعُ الله أن تطبق هذه السنة، لكن لا تجلس في البيت تنتظره يسلم عليك، اذهب وسلم عليه فربما عنده هم أو مشكلة أو ضائقة، أحياناً بعض الناس يمشي ولا يدري أين يمشي من الهموم التي فيه، فاذهب وسلم عليه وصافحه (وخيرهم الذي يبدأ بالسلام).
أيضاً بعضهم ما يتبسم وهذا صحيح، قد يكون بعض الناس دائماً عابس الوجه، وهذا ليس من السنة، السنة أن تكثر من الابتسامة؛ لكن في مكانها طبعاً وفي وقتها (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) تصدق دون أن تدفع شيئاً من جيبك، يقول جابر بن عبد الله: [والله ما رآني رسول الله إلا متبسماً] وكان عليه الصلاة والسلام بشوشاً، وكان أحياناً يتهلل وجهه كأنه فلقة قمر، ويقول: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) يعني: هذا أقل معروف تعمله، كلمة طيبة ووجه جميل، الابتسامة صدقة، من كان ليس عنده مال فليتصدق بالابتسامة، وجزاك الله خيراً.
وننصح الإخوة الملتزمين بالنسبة لقيادة السيارات فنقول لهم: مطبوعات عبد الملك القاسم جميلة جداً كلها، هذه إحدى مطبوعاتهم في قيادة السيارات؛ آداب قيادة السيارة لأن المسلم حرام كله دمه وماله وعرضه، ولو قتلت إنساناً بالسيارة فهذا قتل نفس محرمة، وجريمة عظيمة بعد الشرك بالله، فالإنسان يتقي الله في الناس، بل وفي نفسه وإلا فمن سمح لك أن تقتل نفسك بقيادة مسرعة وجنونية، هذا كله لا يجوز، وكم حطمت هذه السيارة من أسر! قرأت في النشرة إحصائية عن المملكة العربية السعودية في سنة واحدة -إذا ما خانتني الذاكرة- في سنة واحدة أربعة آلاف وثمان مائة قتيل بسبب حوادث السيارت، الحرب ما فيها بهذا القدر، فلنتق الله في الأنفس والأموال والأعراض، وهذا كله منكر، السلام عليكم ورحمة الله.(32/20)
كيف أتخلص من الشهوة
السؤال
يقول أنا رجل محافظ على الصلوات الخمس في جماعة، لكن فيَّ شهوة غزيرة، كل شيء أحافظ عليه إلا الشهوة لا أستطيع أن أتخلص منها؟
الجواب
نقول أولاً: إذا كنت شاباً أعزب والأمر مثير تزوج، لماذا تنتظر (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) وإذا قلت: يا شيخ! المهر غالي فأقول: هناك البعض لا تريد مهراً مرتفعاً، ابحث عن الرخيصة التي تطلب مهراً رخيصاً، هذه بركتها أعظم عند الله، من كان مهرها أقل ومؤنتها أقل كانت أعظم عند الله، ابحث عنها، ليس شرطاً -يا أخي- أن تكون أجمل النساء وأفتن، لا يا أخي العزيز شيء مقبول بالجمال تزوجها (واظفر بذات الدين تربت يداك) إذا كنت لا تستطيع على الزواج أكثِر من الصوم، صم ما يكفيك واشغل الوقت بالطاعة وبطلب العلم والدعوة إلى الله، يعني: بدد الفراغ؛ لأن أكثر أصحاب الشهوات لو تسألهم: عندك فراغ؟
يقول: الفراغ كثير، ولهذا يسهر على التلفاز، يقلب المجلات، مواقع الإنترنت؛ لأنه لو كان مشغولاً لما دخل هذه الأمور، ولما رأى هذه الصور أقول: اشغل وقت الفراغ، واللجان الخيرية في مملكة البحرين -أدامها الله وحفظ الله من فيها- أكثر من أن تحصى، يعني: ما شاء الله كل سنة تأتي مراكز جديدة وجمعيات جديدة كلها تطوعية وأهلية؛ فيها توزيع الخيرات وإغاثة المسلمين، وحفظ القرآن، ونشر السنة، طيب لماذا لا تشاركهم يقول: يا شيخ! ما يقبلون، والله يقبلوك! اذهب معهم يومياً وأعط ما عندك، بعض الناس يذهب ويقول: أنا خبرتي يا شيخ في الكمبيوتر، أقول: يحتاجون إليك، أنا عندي سيارة؛ فإنهم يحتاجون إليك.(32/21)
واجبنا نحو إخواننا في فلسطين
السؤال
كلمة لإخواننا في فلسطين؟
الجواب
ماذا نقول يا إخوة؟
هم شبعوا من الكلام، إخواننا في فلسطين ما أكثر الكلام الذي قيل لهم وعنهم، شبعوا والله لا يحتاجون لا إلى كلامنا وخطبنا، ولا إلى شجبنا واستنكارنا، كل هذا سمعوه مراراً وتكراراً، يحتاجون إلى عمل، تقول: ماذا نعمل؟
نقول: تدعو لهم، إذا كانت صادقاً فاصدق الدعاء لهم، اختر أوقات الإجابة، انفق المال يعني: عشر دنانير أنفقناها للجمعية، دينار نجعله لـ فلسطين (10%) من مصروفاتنا، على الأقل شيء بسيط نخرجه، أنت الآن تستعد لشراء كسوة العيد لأولادك، أكثر الناس الآن يجهز ملابس العيد وهدايا العيد، إذاً اعتبر أن عندك ولد زائد أين هذا الولد؟
في فلسطين اعتبره ولدك مات أبوه، ماتت أمه، تيتم، من له الآن يفرحه في العيد؟ قل: هذا لأحد أولادي في فلسطين، كسوة العيد، سترة العيد أخرجها يا أخي العزيز، إنهم يحتاجون للمال، يحتاجون أن تسري عنهم، هم الآن يحملون عنا الإثم في الدفاع عن المسجد الأقصى، وإلا فكلنا مسئولون عن المسجد الأقصى، فعلينا أن نعينهم إن شاء الله بما نستطيع.(32/22)
تحذير من الفرقة والاختلاف
السؤال
يقول: أصاب الأمة الوهن، وغلبة الدنيا وحبها على المسلمين واختلفوا، بل بدأت كل فئة تقذف الأخرى، بل بدأ بعضهم يقفل دور بعضهم على بعض، يتكلم على من يثير الغل والبغضاء بين المسلمين بين بعضهم البعض؟
فالأمة اليوم تحتاج إلى الإصلاح الاجتماعي، فهل لكم كلمة في ذلك؟
الجواب
نحن اليوم أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وإلى الاجتماع، وللأسف بعض المسلمين يريد أن يفرق الصف كأنه من جنود إبليس، رضي بالتحريش بينهم، هذا الرجل ما له عمل إلا التحريش بينهم كأنه من الشياطين والعياذ بالله، الآن أوروبا على اختلاف أديانها ومذاهبها تتحد، واليهود على اختلاف أجناسهم يتحدون، وكل العالم الآن يتحد ويتحد إلا المسلمين يتفرقون لماذا؟
والله عز وجل يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] يعني: لا يوجد في الأرض اليوم دين كامل محفوظ مثل دين الإسلام، النصارى عندهم أربعة أناجيل، وكل واحد هم مختلفون فيه، لا يوجد دين مجتمع مثل الإسلام، يا إخوان! كتاب وسنة وعبادات وشعائر كلها واحدة، وانظر بعض أهل الإسلام في زماننا يمكن يقاتلك على مسألة اجتهادية لماذا يا أخي؟
الصحابة اختلفوا الصحابة في عهد عثمان بن عفان كم بين عثمان والرسول سنوات قليلة حكم أبو بكر ثلاث، وعمر عشر سنوات عثمان حكم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قبل سنين قليلة، الصحابة كلهم متواجدون فصلى فيهم في منى كم كان يصلي النبي في الحج الصلاة الرباعية كم كان يصليها؟
ركعتان تقصر الرباعية في منى هذا الشيء للرسول والصحابة كلهم يشهدون، عثمان قال: أنا أجتهد وأرى أن نصلي أربع ركعات، قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا نسك كلنا نشهد أن رسول صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين كيف تصلي أربع؟
اجتهد عثمان ورأى أن الصواب أربع فكبر وصلى أربعاً، الذين لم يروا أنها أربع ركعات بل ركعتين هل خرجوا من الصلاة؟
هل أنكروا على عثمان وابتعدوا وفرقوا الصف؟
تعرف ماذا عملوا؟
كل الصحابة صلوا وراء عثمان أربع ركعات بالإجماع كلهم، واحد بعد الصلاة يريد أن يسأل لماذا؟
أنتم ترون أن هذا خلاف السنة وصليتم أربع، لماذا فعلتم هذا الفعل؟ تعرف ماذا قال الصحابة، قالوا: يا فلان! الخلاف شر، نحن لا نقبل بالخلاف، قد نختلف بيننا وبين بعضنا، ونتناقش ونتحاور، وقد تقتنع وقد لا تقتنع؛ لكن نبقى يداً واحدة، عندما كنا أطفالاً علمونا (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد) هل نحن اليوم جسد أم تفرقنا إلى جنسيات وألوان ولغات ومذاهب، حتى تجد داخل أهل السنة -يعني ما في فرق بينهم نفس العقيدة- لكن يختلفون.
في مرة من المرات أحد الإخوة كان يحذر من إمام لا تجوز الصلاة خلفه فقلت: لماذا لا تجوز الصلاة خلفه؟
قال: هذا إذا وضع يده يضع يده تحت السرة في الصلاة قلت: الله أكبر إلى هذه الدرجة ضيقتم الدين وضيقتم الفهم! يقول لي: يكبر يحط يده تحت السرة قلت له: والله لو أنزل يده، ولم يضع يده أصلاً لكانت صلاته كاملة وصحيحة، أصل وضع اليد سنة ليس بواجب، كيف أنتم أخرجتم الناس وضللتم الناس! -طبعاً هذا فهم والحمد لله، قليل من العلماء وأهل العلم والدعاة من يعي خطورة تفريق المسلمين وضرب بعضهم ببعض، هذا خطر خاصة نحن في هذه الأيام، فلندع إلى توحيد المسلمين وإلى جمع كلمتهم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(32/23)
تحذير من الغيبة
السؤال
نرجو منك حث الناس على ترك غيبة الآخرين؟
الجواب
نعم صدقت: اقطع لسانك عن ذكر أخيك بالسوء: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] هذا قرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] إلا إذا رأيت أخاك أنه ليس من المؤمنين فهذه مصيبة، أما إذا كان مؤمناً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} [الحجرات:10].(32/24)
التلفاز وكيفية الخلاص منه
السؤال
ماذا نفعل بالمربي الأول في البيوت يقول وهو التلفاز؟
الجواب
إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع، مهما تعمل من خطب ومن دروس صعب أن أحداً سوف يذهب ليخرج التلفاز من البيت، إذاً ما الحل؟
الحل نقوي ونوجه ونختار من التلفاز ما هو جيد وما هو نافع، ونلغي ما هو سيئ؛ لأننا أحياناً نعيش في مجتمع يقول لي أحد الإخوة: منعت أبنائي عن التلفاز، أخذته من البيت نهائياً، حرمت شيئاً اسمه تلفزيون في البيت، يقول: فعندما نزور عيال عمهم ونزور بيوت الأقارب أصبح أولادي لا يأكلون الطعام مثل وقوفهم أمام التلفاز، صارت القلوب معلقة بالتلفاز أكثر، لأنك الآن لا تعيش لوحدك، أنت الآن في مجتمع، ونصيحتي إذا ابتليت بهذا التلفاز وجه وقل: يا أولادي! هذا ما يجوز، وهذا يجوز، هذا حلال حتى الأخبار لما يطلع فيها موسيقى نقفل عند الأولاد، الأولاد يتعلمون ويبغضون هذا الصوت، وهذه برامج نافعة، وبعض القنوات تحذفها نهائياً، يوجد قنوات -والعياذ بالله- شرها طفح وخبثها واضح، ليس فيها إلا تعري الأجساد، فهذه نلغيها نهائياً، اقتصر على قناة قناتين تختار أيضاً من هذه القنوات ما أحل شرعاً وما أبيح، وائت بأفلام طيبة، والحمد لله الآن في الساحة الإسلامية أفلام فيديو تستطيع أن تملأ بيتك، يحدثني الشيخ القطان ويقول: أنا وأحد زملائي قررنا أن نصلح أولادنا بالتلفاز يقول: زميلي أزال التلفاز نهائياً من البيت يقول: أنا قلت له: لا أقدر اشتريت فيديو واشتريت أفلاماً بلغت (500) فيلماً، يقول: اشتركت في السعودية كلها، كل فيلم جديد؛ ثقافي، علمي، رسوم متحركة، كل شيء أتيت به إلى البيت، يقول لأولاده: اشبعوا، من فيلم إلى فيلم، من رسوم متحركة إلى أفلام حيوانات، إلى أفلام ثقافية، إلى أفلام علمية؛ لأنهم كرهوا حتى الجهاز لأن عندهم أشياء أخرى بديلة في البيت، عندهم ألعاب، وبعض الأمور الترفيهية يقول: أولادي بفضل الله -وأنا أعرف أولاد الشيخ بارك الله فيه وفي أولاده- كلهم صالحون والحمد لله، يقول: زميلي للأسف أولاده -وأنا أعرف زميله للأسف من أسوأ الناس أخلاقاً في الحي- صحيح أنه أخرج التلفاز لكنه لم يأت بالبديل، ائت بالبديل، يا أخي! بعض الناس يظن أنه ما دام وأن المرأة محبوسة في البيت فقد عمل اللازم، وبعضهم ملتزمون، والله سمعته يقول: المرأة لا تخرج من البيت ولو خرجت لقبرتها؛ أو بمعنى هذا الكلام، قلت: من أخبرك بهذا؟
وهذه ليست السنة ولا من القرآن، والصحابيات كن يخرجن من البيت قال لي: صحيح؟ قلت له: نعم أول شيء الخمس صلوات كن يخرجن لأدائها، وكانت المرأة تذهب تحلب الشياه، وتجلب الماء، وأحياناً تذهب إلى الأسواق، وتخرج وتزور، من قال لك إن الصحابيات في البيت مقفول عليهن الباب؟
هذا ظلم؛ هذا لا يجوز أصلاً، مثلما تريد أنت الخروج هي تريد الخروج؛ لكن بشرط بإذن الزوج، هنا نساء يستمعن إلي بحشمة وحجاب وأدب شرعي، لكن نقول والله نحبس الأولاد لا تلفاز، ما أدعو للتلفاز هذا، أنا أقول لكن لو أخرجته أو أقفلته فائت بالبديل، الآن في ألعاب ترفيهية كثيرة بفضل الله ظهرت في برامج نافعة، في دورات ترفيهية، لكن أنا أقول: كن يا أخي العزيز حكيماً في معالجة هذا الجهاز لأن القلوب تعلقت به.(32/25)
تقوية الإيمان في قلوب الناشئة
السؤال
يقول: ما نصيحتكم في تعزيز وتقوية الإيمان في قلوب الناشئة؟
الجواب
هذا ما ذكرناه الآن، الدرس؛ حث الناس على عمل الخير في شهر رمضان، إن شاء الله هذه الكلمات كلها تدعوكم لفعل الخير، استعد في العشر الأواخر إذا عندك أوقات أن تعتكف، تقول: يا شيخ! أنا عندي دراسة.
أقول: لا بأس اعتكف واذهب إلى المدرسة وارجع فإنه -إن شاء الله- يحسب لك اعتكافاً، أنت مضطر، ماذا تعمل؟
عندي دوام يا شيخ، اعتكف واذهب داوم وارجع، ويسمى -إن شاء الله- اعتكافاً ويحسب لك إن شاء الله.(32/26)
مسألة في دعوة النساء
السؤال
كثير من وسائل الدعوة يا شيخ كتيبات تؤدي أحياناً إلى كلام بين الرجال والنساء، وربما تتطور؟
الجواب
هذا بحسب الشخص، بعض الناس لو يدعو الرجال أيضاً يفتن؛ نقول: بحسب الشخص؛ إن كان والله يستطيع أن يدعو مثلاً من عنده مدير مكتب، أو عنده موظفات يريد أن يدعوهن بالشريط وهو يأمن على نفسه فلا بأس ما الحرج؟
لكن لا يختلي بها ولا يتحدث ويتسامر معها؛ تفضلي الشريط ومع السلامة، كم من النساء من هداهن الله بشريط، وبكتيب، وبنصيحة.(32/27)
سؤال يخص الداعية عمرو خالد
السؤال
يقول: الداعية المعروف عمرو خالد لماذا يحلق اللحية؟
الجواب
اسألوه لا تسألوني أنا، لكن لعله معذور وأخطأ، أنا سمعته أكثر من مرة يقول: أنا مقصر لكن عندي ظروف، يا إخوة! هذا خطأ، هل نهدم كل حسناته؟
لقد هدى الله على يديه -وأنا أجزم- ملايين، لأني تجولت في العالم وأنا أرى الذي صار بالناس، والله كثيرون يقولون: تحجبت بناتي بسببه، تقول: صلَّى أولادي بسببه، أسر كاملة تابت من شرب الخمور وترك الصلاة، واتجهت إلى قيام الليل بسببه يقول: والله ما بكينا إلا لما سمعناه، كل هذا تريد أن تهدمه لأجل خطأ واحد؛ هذا ظلم.
نعم.
هو يعترف أنه مقصر لكن ادع الله له، قل: يا رب! اهده بهذه، ثم هو رجل خدم الدين هذه الخدمة لا يجوز لنا أن نتكلم عليه ونحاربه، بل ندعو له أن يثبته الله، وأن ينشر الخير على يديه، وأن يحسن إليه، رجل -يا إخوان- ينفع الأمة ونحن نحاربه، لا.
بل ندعو له بالثبات وبالنصر، ومع هذا أنا لم ألتقِ به في حياتي، حتى لا تقولون بينه وبينك مصلحة، عمري ما التقيت به؛ لكن أحب كل من يدعو إلى الله، كل من يخدم دين الله -والله- أحبه وأدعو له بظهر الغيب.(32/28)
أريد أن أتوب
السؤال
يقول: لي صديق يريد أن يتوب لأنه فعل فاحشة مع أعدائه؛ لكن لا يعرف كيف يتوب؟
الجواب
التوبة لها ثلاثة شروط: الندم على ما مضى، الإقلاع عن الذنب الذي هو فيه، العزم على ألا يرجع إليه، فإن تحققت الشروط الثلاثة -بإذن الله عز وجل- تقبل توبته.(32/29)
عمي لا يصلي فكيف أنصحه
السؤال
يقول: لدي عم لا يصلي كيف أنصحه، وإذا نصحناه يعرض ويسب ويشتم؟
الجواب
انصحه بالتي هي أحسن، بالحكمة، هذا عمك والعم مثل الأب، والأب لا يجوز لك أن تأمره وتنهاه كأنه أخوك، بعض الناس يقول: أمرت أبي فلم يستجب؛ من أنت حتى تأمر أباك؟ أبوك كلمه بالتي هي أحسن، بأسلوب لطيف، بقصة بموعظة بشريط بهدية، أو رجل بعمره ينصحه بأدب، أما أنك تأمره كأنه زميل لك في الدراسة، قد تقول لي: يا شيخ! هذا لا يصلي، أقول لك: حتى لو لم يكن يصلي، بل لو كان يعبد صنماً قال الله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ولو كان يأمرك بالشرك.(32/30)
نصيحة لشارب الدخان
السؤال
مارأيك ببعض الشباب الذين يدخنون، ويقول: كيف أترك الدخان؟
الجواب
اترك الدخان، والله ولا توجد -يا إخوان- أي خطورة، اعزم وكن صادقاً مع نفسك، لا تقل لي: بالتدرج يا شيخ أنا أشرب باكتين اليوم باكت فقط، وغداً ثلاثة أرباع، وباكت ونصف بعد غدٍ، فتظل شهراً وما خلصت، لا تضمن أن الله لا يقبض روحك غداً، أنا أعرف رجلاً التزم والتحى وصار من الشباب الملتزمين والمصلين، يحضر مجالس الذكر، كل شيء تركه إلا التدخين كل يوم باكتين، يقول لي: يا شيخ! أترك كل شيء إلا التدخين لا أقدر، في يوم من الأيام وأنا جالس معه على وجبة عشاء قلت له: يا فلان! أنت ضعيف -أنا بيني وبينه صحبة- قلت له: أنت ضعيف صراحة ما أراك قوياً، قال: لماذا؟
قلت له: صراحة هذه السجارة لست قادراً عليها هذا أنت بكبرك لست قادراً عليها، قال لي: أقدر قلت: مجرد كلام، قال: أقدر قلت له: ما أظن أنت أضعف من أنك تقطع السجارة، وقام يتحدى وأنا أتحدى، أخرج الباكيت من جيبه وكسره قال: انظر لا أدخل في فمي سجارة بعد اليوم، الآن مضى على هذا الكلام خمس عشرة سنة، ولم يدخن بفضل الله.
يا أخي! تستطيع لكن أحياناً شهوة أو عادة.(32/31)
مشاهدة المذيعات في التلفاز
السؤال
يقول: بسبب متابعتنا للبرامج الإخبارية في الفضائيات؛ نشاهد المذيعات الفاتنات ما هي توجيهاتكم؟
الجواب
لا ترى الأخبار التي فيها فاتنات، لا تطالع، من أباح لك أن تنظر إليهن؟ هناك أخبار فيها رجال في الإنترنت، الآن مواقع أخبارية قبل التلفاز أول بأول، ترى الأخبار من مواقع إسلامية تظهر لك الأخبار بنقاء وصفاء بالتفصيل إذا كنت فعلاً متابعاً للأخبار، فلا تنظر للنساء.(32/32)
نصيحة لمن يتتبع عورات الدعاة
السؤال
يقول: ما نصيحتك لمن ليس لهم إلا تبديع وتشريح إخوانهم؟
الجواب
ذكرنا قبل قليل يقول: على جماعات في الدعوة، وكذا نقول إنما المؤمنون إخوة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] كما اختلف الشافعي والإمام أحمد والإمام مالك كما اختلفوا في المذهب هل سمعتم يوماً من الأيام واحداً يتكلم على الآخر؟
مالك يجلس عند الشافعي الصفحات يتصحفها بهدوء احتراماً لشيخه، انظر الأدب! انظر المحبة! الشافعي اختلف مع رجل يسمى يونس بن عبيد -أحد زملائه- في مسألة هذا راح وهذا راح، اختلفوا في مسألة ما أحد اقتنع بكلام الآخر، الشافعي لقيه في اليوم الثاني فذهب يمسك يديه قال: تعال يا يونس! ألا يستقيم أن نكون إخوة متحابين وإن لم نتفق في مسألة، هذا الشافعي، ولا عليك من تشدق بعض الناس وقولهم: لا بد أن نحذر منهم، لا بد أن نحاربهم، لا بد أن نكشفهم إلخ والله، الذي يسمع الكلام يقول: هؤلاء شيوعيون يا أخي العزيز! إذا رأيت من أخيك في أي جماعة خطأً لا تتركه تعال إليه بينك وبينه، ادعه عندك في البيت، اذهب له بهدية، قل له: يا أخي العزيز! رأيتك تقصر في هذه السنة، وتفضل هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام بأدب وحسن كلام، الناس تقبل النصيحة؛ لكن لا تقبل الفضيحة، الناس تحب الإخوة لكن لا تحب العداوة، أخي العزيز! اختر أحسن الكلمات وأظهر له النصيحة.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء!) ألا تعتقد أننا أصبحنا غرباء؟
الغربة تختلف من بلدٍ إلى بلد ومن زمنٍ إلى زمن، والإنسان يتقي الله عز وجل ويتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع المبارك أن يجمعنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات؛ إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً وسامحوني على الإطالة.(32/33)
الأسئلة الأخيرة
ساعة السؤال التي تكون في القبر هي أول الحساب والنقاش، ولقد أورد الشيخ في هذه المحاضرة حديثاً عظيماً بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن والفاجر في القبر.(33/1)
حال الإنسان في القبر
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
أيها الأخ الكريم: هذه كلمة وليست محاضرة، وسوف أقوم بالحديث فيها قدر المستطاع، وعنوانها الأسئلة الأخيرة، فما المقصود بالأسئلة الأخيرة؟ وما هي؟ وهل حقاً هي الأخيرة أم أنه سوف تتلوها أسئلة؟
المقصود بالأسئلة الأخيرة -أخي الكريم- هي الأسئلة التي سوف تكون في قبرك، بل ولو كان العنوان: الأسئلة الأولى لكان أدق؛ لأنها أول الأسئلة، وأول الحساب، وأول النقاش، فاسمعني وأرع إلي انتباهك، سوف أورد عليك حديثاً واحداً يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن حال كل إنسان، فاجراً أو صالحاً، مؤمناً كان أو كافراً، سوف أورد عليك هذا الحديث فاسمعه وانتبه له، واعلم أخي الكريم أن هذا الحديث لا بد أنك سوف تمر فيه، وهذه الحال إما الحال الأولى أو الثانية إنك ملاقيها يوماً من الأيام، فاسمع وتفكر وتخيل أنك الذي يتحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم.(33/2)
حال المؤمن في القبر
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً القبلة وجلسنا حوله) انظر للأدب، الموقف فظيع، والأمر جلل، وبين يديهم قبرٌ يحفر، وجنازة ينتظرونها، وبعد أيام أو سنوات كل واحد من الجلوس سوف يقدم على هذه الحال.
يقول: (وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عودٌ ينكت في الأرض -أي النبي صلى الله عليه وسلم- وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً -يرفع بصره إلى السماء ثم ينزل، ثم يرفع ثم ينزل، ثلاث مرات- ثم قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر).
واسمع وأنا أتلو عليك هذا الحديث، فإنه ليس بالقول الهزل، وليس قصة نتسلى بها، وليست -أخي الكريم- أساطير الأولين أحدثها عليك، لا.
أخي الكريم: إنها حقيقة سوف تقدم عليها الليلة أو غداً، ولعلك في الأيام القادمة المقبلة، فاسمع وأرع انتباهك، وتخيل نفسك يا عبد الله وأنت تمر في هاتين الحالتين.(33/3)
بشارات المؤمن في قبره
قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ على الآخرة) يعني على فراش الموت، لعل ابنته عنده تبكي، وولده يبكي، ولعله في حادث سيارة، ولعله في فراش المرض، أو لعله ساجد أو راكع، أو لعله يقرأ القرآن أو يستمع إليه، انقطع من الدنيا وبدأ يقبل على الآخرة.
(نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه) مؤمن، صالح، تقي، قارئ للقرآن، داعية إلى الله، مجاهد، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، طالبٌ للعلم، بارٌ بوالديه، واصلٌ لأرحامه، اسمع: (نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة) قماش من الجنة، كفن من الجنة.
يا عبد الله: تخيل منظره، تخيل رائحته، تخيل منظر هذا الكفن، بل منظر من يحمله: (وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر) أي يجلسون أمامه إلى أن يذهب آخرهم على مد البصر يا عبد الله: هذه بشارة ولعل من حوله يبكون وهو فرح، ولعل زوجته عنده تنوح وهو مستبشر، ولعل أمه تبكي وهو يطرب فرحاً بلقاء الله جل وعلا، ورؤية الملائكة البيض بشارة في الدنيا قبل دخول القبر: (ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه) وأنت لا تراه، أنت لا تحس به، هو موجود عنده في الغرفة، ولعله يقبض روحه وبعد قليل يأتي إلى أحد الجالسين، ولعله بعد أيام ينتظر أحد الذين يبكون، هو جالسٌ عند رأسه وأنت لا تدري ويقول: (أيتها النفس الطيبة المطمئنة) اطمأنت بم؟
اطمأنت -يا عبد الله- بالقرآن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] اطمأنت ببر الوالدين، اطمأنت بصلاة الفجر، وبالسجود والركوع، اطمأنت بذكر الله جل وعلا: (يا أيتها النفس الطيبة المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) الله أكبر! يبشر بالمغفرة، يبشر بالرضوان: (فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء) تخيل قطرة تخرج من فيّ السقاء، لو ينزل الماء فتبقى قطرة تنزل، هل تحس بالصعوبة؟ هل تحس بشقاء؟ هل تحس بألم؟ تخرج كما تسيل القطرة، بنعومة وسهولة! (حتى إذا خرجت روحه صلَّى عليه كل ملكٍ بين السماء والأرض) يصلون عليها ويدعون لها، ويستغفرون لها.
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبرٍ إلا عليه ملك راكع أو ساجد) بين السماء والأرض كل الملائكة يستغفرون لك، ويصلون عليك.
عبد الله: ليست القضية أن يصلي عليه عشرون أو ثلاثون من الناس خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً لا.
كل الملائكة في السماء والأرض يصلون عليه، اسمع: (صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء) حتى ملائكة السماء يصلون عليه، فيأخذها ملك الموت: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط) الله أكبر! وضع في كفن الجنة، وفي حنوط من الجنة، فيصلي عليه ملائكة الأرض والسماء، واسمع الآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقرأ بعض الآيات، منها هذه الآية، قال الله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
لعل أهله يبكون، ولعلهم ينوحون، ولعلهم يحزنون، وهو في طربٍ وفي شغفٍ، وفي حب للقاء الله جل وعلا.
اسمع يا عبد الله: وضع في كفن من أكفان الجنة، وحنط من حنوط الجنة (ويخرج منها -أي من جسده- كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا) لحظات فقط، أهله لعلهم لا زالوا يغسلونه، بل لا زالوا يحاولون إخراجه من المستشفى، أو إخراج الجثة من الحادث، أو إزالة الحريق عنها، أو لربما لم يجده أحد بعد، ولم يعثر على جثته أحد، أما روحه وصلت إلى السماء الدنيا، لعله تقطع جسده في معركة من المعارك، بل لربما تقطع الجسد إرباً إرباً، وهو في الجهاد في سبيل الله، أما الروح طيبة طاهرة وصلت إلى السماء الدنيا: (فيقولون: لمن هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأحسن اسمٍ كان ينادى به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح له) الله أكبر! السماء الدنيا تفتح له، سماء عظيمة تفتح له، كرامة له (فيشيعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها) جنازة تمر في السماء، تعرف من يمر بالجنازة ومن يشيعها؟ أفضل ملائكة في السماء، وأقرب الملائكة إلى الله، يمشون خلف هذه الجنازة، من سماء إلى سماء، تستقبله ملائكة أخرى، أفضل الملائكة في كل سماء تستقبل هذه الروح لتصعد بها إلى السماء التي تليها: (حتى يؤتى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز جل: اكتبوا عبدي في عليين) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض).
تخيل الروح من السماء السابعة تنزل إلى الأرض، لربما لا زالوا لم يدفنوه، ولربما دفنوه ولا زالوا لم يكملوا دفنه، بل لربما يسلم بعضهم على بعض ويعزي بعضهم بعضاً، فيقال: فلاناً توفي، رحمه الله، لقد كان صالحاً، كانت لا تفوته صلاة الفجر رحمه الله، لم يسمح لابنه بفسادٍ ولا لبنته بمنكر رحمه الله، ما أدخل التلفاز قط في حياته إلى البيت، رحم الله فلان توفي لقد مات في الجهاد في سبيل الله، لقد مات وقد صلى الفجر في جماعة الله، أكبر!(33/4)
حال المؤمن مع منكرٍ ونكير
(ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم: منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان -وبدأت الأسئلة، إنه الاختبار، إنها الفتنة العظيمة -شديدا الانتهار- ليس أي ملكين، إنهما ملكان شديدا الانتهار، إذا نهرك يا عبد الله تنسى اسمك من اسم غيرك- شديدا الانتهار فينتهرانه) يغلظان له في الكلام، نعم صالح لكنه اختبار، نعم مصلٍ لكنه اختبار، قارئ للقرآن، قائم لليل، يصوم النهار؛ لكنه اختبار وفتنة؛ ليتبين الصادق من الكاذب، يتبين قوي الإيمان من هش الإيمان.
(فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ -أول سؤال، وأول اختبار، من ربك؟ - فيقول: ربي الله) بكل ثبات ويقين، وبكل شجاعة يقول: ربي الله، لا يتلعثم فيها، ولا يتردد بها، ولا ينساها؛ لأنه ملأ قلبه بحب الله جل وعلا، كان يقوم لله، وينام لله، ويذكر الله جل وعلا صباح مساء، الله عز وجل أحب إليه من كل شيء، من نفسه وماله وولده والناس جميعاً، يحب الله عز جل حباً عظيماً: (من ربك؟ ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) نعم.
كان يتبعه في سنته حذو القذة بالقذة، يسأل كيف صلى فيصلي مثله، كيف حج ليحج مثله، يسأل كيف صام فيصوم مثله، يسأل كيف كان يدعو، كيف كان يلبس، كيف كان يأكل، يحب اتباعه في كل شيء، فيتبعه عليه الصلاة والسلام في كل مستحب وواجب ويحبه، فإذا به يقول: (هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت) العلم هو الذي دله على هذا، علم الكتاب والسنة، علم الشرع يا عبد الله، ما كان يسمع أحاديث الناس، ما كان في دينه يصلي لفلان وفلان، كان أول ما يبحث وأول ما يسأل عن آية من كتاب الله، أو عن حديث من أحاديث رسول الله، لهذا قال: (قرأت كتاب الله تعالى، فآمنت به وصدقت).
ثم يعاد الاختبار مرة ثانية: (فيقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فذلك حين يقول عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]-اسمع الإجابة- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -الآن النتيجة- فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره) ولعل أهله يبكون، ولعلهم يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أعينهم تدمع، ومنهم من يقول: مسكين فارق الدنيا، أنتم المساكين! لقد فرش له من الجنة، لقد ألبس من الجنة، ولما يغادر أهله المقبرة، ولما يكملوا بعضهم تعزية بعض، وقد ألبس من الجنة وفرش له من الجنة.
اسمع تتمة البشارة: (قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيمٌ مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد).
هذه يومك يا من تصلي الفجر! هذا يومك يا من تعتكف في المساجد! هذا يومك يا من غضضت البصر وكففت عن الحرام! كان الناس يخوضون في الربا وكنت تصبر وتتحمل وتكتفي بالحلال، كان الناس يفعلون المنكرات وأنت تصبر عن الحرام (هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له: وأنت بشرك الله بالخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح) أنا قراءة القرآن، أنا الدعوة إلى الله، أنا قيام الليل، أنا بر الوالدين، أنا الحج، أنا العمرة: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً) نعم، قد يعصي الصالح ربه، وقد يقع في الذنب: (كل بني آدم خطاء) لكنه بطيء، لكنه يندم ولا يصر، أما في الطاعات فإنه سريع، يقوم نشطاً للصلاة، يقوم مسرعاً للنفقة، أول إنسان يأتي إلى المسجد، إذا أخبر عن مجال الدعوة إلى الله كان في المقدمة، إذا أخبر بالجهاد كان الأول، إن دعي للتصدق كان الأول، إن أمر بالصلاة يقف نشيطاً سريعاً في الطاعة، أما في المعصية يندم، ويتأخر ويقدم قدماً ويؤخر أخرى، فإن وقع في الذنب رجع وأناب واستغفر: (ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، وبابٌ إلى النار يرى منزله في النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة) يرى القصور والأنهار، يرى الجنان، ومكانه فيها يا عبد الله! وقبل يوم أو قبل ساعات كان في الدنيا معذباً، كان في الدنيا متعباً، ينصب في طاعة الله، بعد ساعات رأى منزله في الجنة.
يا عبد الله: لعلك في بعض الأحيان إن مات أحد الصالحين قلت: مسكين كان ينوي أن يفعل كذا وكذا لكنه سبقته المنية، بل لعلنا نحن المساكين، لعله رأى منزله في الجنة وأنت لا تدري: (فيقول: فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن) فينام نومة لا يستيقظ إلا على قيام الساعة، نومة خفيفة، نومة لا يحس فيها إلا بالنعيم والراحة.(33/5)
حال الفاجر في القبر
أما الآخر، أما صاحب الفجور، أما صاحب المعاصي، أما الذي لا يعرف عن الصلاة إلا الجمعة إلى الجمعة، أما أهل الفساد والمنكرات، أما أهل الخمور والمخدرات، أما الذين يتبعون النساء يمنة ويسرة ولا هم لهم في الدنيا إلا تتبع النساء والعورات، اسمع إلى مصيرهم وحالهم:
(وإن العبد الكافر أو الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبالٍ على الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم مسوح من النار) تعرف ما هي المسوح؟ لباس من شعر خشن، يأتون به من وسط جهنم، لباس أهل النار، يأتون به ليلبس أول ما يؤخذ من جسده، تتعجب بعض الأحيان، ترى بعض الناس على فراش الموت يصيح، ويسود وجهه ويزرق ويخاف، ويصيح صياحاً وليس به شيء، ما الخبر؟ يرى أمراً لا تراه أنت، وبدأ ملك الموت يندفع والروح تتفرق: (معهم مسوح من النار، فيجلسون مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ويقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده) يعني الروح تهرب، تتوزع في الجسد؛ لأنها لا تريد الخروج إلى غضب الله وسخطه.(33/6)
بشارات السوء للفاجر في القبر
عبد الله: في تلك اللحظات لا تنفع التوبة، تلك اللحظات لو يدفع الملايين لا ينفعه عند الله، لو يقطع جسده لله جل وعلا والله لا ينفعه كل هذا: (أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب وهو الشوك من الصوف المبلول) حديد فيه شعب كثيرة، عليه الصوف ينتزع الثوب من هذا الحديد، أتعرف ما الذي يحصل؟ يتقطع ذلك الصوف ولا يخرج، ينتزع الروح وتتقطع الروح في الجسد من شدة نزعه: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2].
(تتقطع معها العروق والعصب؛ فيلعنه كل ملكٍ بين السماء والأرض، وكل ملكٍ في السماء) كل ملك في السماء، بل بين السماء والأرض.
كم ملك يا عبد الله؟ أول ما تخرج الروح يلعنونه، اللهم العنه، اللهم العنه، اللهم العنه، يا عبد الله إنه دعاء الملائكة! يا عبد الله فكر إلى أين تسير! لكل أمرٍ نهاية! يا عبد الله والله مهما طال بك العمر فإن الموت يأتي بغتة! ولا مقدمات لخروج الروح، وسل كبار السن؛ كم عشتم في الدنيا، يقولون لك: أياماً معدودة، مرت كلمح البصر، كأنه حلم ثم ذهب، كأنها نومة استيقظت منها: (فيلعنه كل ملكٍ بين السماء والأرض، وكل ملكٍ في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل بابٍ إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذه -يعني ملك الموت، الآن نزع الروح، اسمع وقارن بين الأول والثاني- فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة، فيقولون: فلان بن فلان).
لا إله إلا الله! كان في الدنيا يحرص على رائحته الطيبة، كان يحرص على ثيابٍ زكية، كان يحرص على تسريحة شعره، يقف أمام المرآة الساعات الطوال، كان يحرص دوماً ألا يخرج إلا بأنظف الملابس وأطيب الروائح، ما بال الروح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، ما الذي جرى؟
نعم.
دنسها بالمعاصي، نعم نجسها بالخبائث والمنكرات.
(ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يؤتى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يُفتح له -مصيبة يا عبد الله! نسأل الله العافية، إن كان الواحد منا ما فتحت له أبواب السماء فليبشر بهذه النتيجة- ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين -في الأرض السفلى- ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض).
لعله مات وهو يعاقر امرأة بالحرام، قبحه الله ما صلى منذ شهر، ومات اليوم؛ أعوذ بالله، أما الصالحون فنفروا عنه، ولم يصل عليه أحدٌ من الصالحين، وما صلى عليه إلا كل مغرور لا يدري عن حاله، قبحه الله؛ مات وهو يشرب الخمر، أو انتحر بالمخدرات، قبحها الله من ميتة، اسمع: (فيقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحاً حتى تقع في جسده) تلقى من السماء الدنيا إلى الأرض، تطرح يا عبد الله، انظر إلى المسافة هذه كلها، أما المؤمن فينزل، أما هو فإنه يطرح وترمى نفسه، والملائكة لا تنزله إلى الأرض؛ لأنه لا يستحق، إنما يطرح على الأرض طرحاً، اسمع إلى قول الله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} [الحج:31] ومن المشركين الذين لا يصلون يا عبد الله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].(33/7)
موقف الفاجر مع منكر ونكير في القبر
ثم قال: (فتعاد روحه في جسده وإنه ليسمع خبط نعال أصحابه إذا ولوا عنه) يسمعهم يمشون على القبر، يسمع قرع نعال أبيه، وقرع نعال أخيه، وقرع نعال جيرانه، وقرع نعال أصحابه إن صلى عليه أحد، يسمع قرع نعالهم: (ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: من؟ فيقال: محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون ذلك، فيقال: لا دريت ولا تليت) كيف يدري وكان قدوته من الدنيا كافراً مطرباً نصرانياً، قدوته من الدنيا في لباسه ومظهره؟
كيف يدري وكان في الدنيا يستهزئ بسنته عليه الصلاة والسلام؟
كيف يدري وكان ينام على عشقها وحبها ويتغزل بالتفكير فيها؟
كيف يدري وكان لا يعرف القرآن سنين طويلة؟
كيف يدري وكان يسمع الأذان ويولي؟
كيف يدري -يا عبد الله- وكان ينام على الفجور ويقوم على الفجور؟
فيقال: (لا دريت ولا تليت، فينادى من السماء؛ أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار) أنت لم تر شيئاً، حفرة فقط، فرش له من النار في قبره، نعوذ بالله! نار تلظى يا عبد الله! نار تحرق، ولعله قبل ساعات كان في بيته منعماً، كان في قصره مكرماً، أما الآن فرش له من النار.
(فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه) إن أضلاعه تتداخل بين بعضها البعض، يضيق القبر حتى يدخل الضلع في الآخر: (ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت بشرك الله بالشر من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث) أنا عملك الخبيث، إن كانت امرأة، أنا التبرج، أنا السفور، أنا مخالطة الرجال، أنا استماع الأغاني، أنا أكل الربا، أنا ترك الصلاة، أنا السب والشتم واللعن والاستهزاء بالصالحين، أنا عملك الخبيث، إلى الآن ما جاء إلى الله جل وعلا، إلى الآن ما جاء يوم الحساب، إلى الآن ما جاء اليوم الآخر، اسمع إنه أول منازل الآخرة: (أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله -في الطاعة والخير يتثاقل، يجر نفسه وكأنه يحمل جبلاً، إن جاء إلى مجلس ذكر، أو إلى الصلاة، وقراءة القرآن، لعله يأتي ولكن بكسل وبتثاقل، ويكره العمل لكنه يفعله رياءً أو استحياء- سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة -مطرقة من حديد- لو ضُرِبَ بها جبلٌ لصار تراباً، ويضربه ضربة حتى يصير بها تراباً).
اسمع وانظر وتخيل يا عبد الله! {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] الأمر ليس بالجدل، وليس بالضحك، وليس بالهزل، إنها حقيقة أخبر بها الله، إنها أول منازل الآخرة يا عبد الله، لعلك تقدم عليها الليلة أو بعد لحظات، أو بعد ساعات، فاستعد لها يا أخي الكريم.
(حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين -إلا الجن والإنس- ثم يفتح له بابٌ من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول: -وهو في هذا الحر، وهذا الضيق، وهذا التعب والنصب والعذاب، تظنه ماذا يقول؟ - يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة) تعرف لم يا عبد الله؟ لأنه يدري أن الساعة أدهى وأمر.
إنها الأسئلة؛ إن قارنتها في الدنيا فهي الأخيرة، وإن قارنتها بالنسبة للآخرة فهي الأسئلة الأولى يا عبد الله، فليس هناك دور ثانٍ، وليست هناك فرصة أخرى، والقضية قوة إيمان وضعف إيمان.
إن كنت من المؤمنين الصالحين، وممن آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، إيماناً ليس باللسان فقط، بل إيمانٌ باللسان والقلب والأركان، قولٌ وعملٌ يا عبد الله، فإنك سوف تجيب على هذه الأسئلة، وإن كنت ممن يقول الناس كلاماً فتقول مثلهم فقط؛ هكذا رياءً وسمعة، حياءً واستحياءً من الناس، لربما يجيب على هذه الأسئلة، ولربما يكون ممن يقول: هاه هاه لا أدري، وستسمع النتيجة الأولى: أن كذب عبدي، ووقتها لا ينفع الندم، ولا ينفع العويل، ولا ينفع البكاء.
فالله الله أيها الإخوة الكرام، أن نستعد للإجابة على هذه الأسئلة، وأن نتأهب لها.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(33/8)
الأسئلة(33/9)
الانتكاسة بعد الالتزام
السؤال
هناك شاب كان يحافظ على الصلاة، ويحفظ من كتاب الله شيئاً يسيراً، وفي يومٍ وليلة انتكس على عقبيه فترك الالتزام، حتى أصبح أهله يتضايقون منه، فما نصيحتك له؟
الجواب
غالبهم لم ينتكس في يوم وليلة، غالبهم بدأ الإيمان عنده يضعف والظاهر لم يتغير، بدأ الإيمان يفتر في قلبه شيئاً فشيئاً، أما الظاهر من لحية وثوبٍ وصلوات الفرائض وغيرها لا زالت ظاهرة سوية، ولكن الباطن اختلف وضعف.
التقوى هاهنا، التقوى هاهنا يا عبد الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكِر الله} [الرعد:28] الإيمان بدأ يضعف في القلب، بدأ يفتر شيئاً فشيئاً، لم يظهر عليه شيء لكنه إذا فتح الجريدة والمجلة الخليعة نظر فيها، وإن جلس في مجلسٍ استساغ الغيبة والنميمة، بل يتكلم في أعراض الناس، بل يتأخر عن الصلاة، كان في الصف الأول ثم الثاني ثم الأخير، ثم بدأ يلحق ركعة أو ركعتين، ثم لا يدرك إلا الركعة الأخيرة، ثم السلام ثم الجماعة الأخرى، ثم بدأ يصلي في البيت، شيئاً فشيئاً، الإيمان بدأ يخمد وبدأ يذهب، ولكنه تمادى، واستهان بالأمر، وتساهل فيه حتى انتكس: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
اسمع يا عبد الله إلى هذا الرجل الذي وصفه الله جل وعلا في هذا الوصف، أقبح وصفٍ في القرآن: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] من اهتمامه والتزامه صار عالماً، بل أعلم بني إسرائيل: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] علم الشريعة: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ارتد وانتكس، تعرف ما الذي جرى؟ {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] نعم.
هذا مستواه، وهذا وصفه، يدخل في دين الله، ويعرف القرآن، ولذة الإيمان، ويصلي مع الصالحين، ثم بعد أيام مع الفجرة الفاسقين، ويترك الصلاة وراءه، ويترك القرآن ويهجره، ويترك الصالحين إلى الفسقة والفجرة، أتعرف بم شبهه الله؟ قال الله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] أي لا فائدة منه فهو يلهث إن كان قد حمل عليه أو لم يحمل عليه: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] أنت إن رضيت بهذا المثل فاقنع بحالك يا عبد الله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] افعل ما بدا لك؛ لكن {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
نعم.
افعل ما بدا لك في هذه الدنيا، فإنك تجازى به عند الله جل وعلا.
أقول: السؤال لعله قد يكون غير دقيق عند حال كثير من الناس، يصعب أن يكون في يومٍ وليلة إلا ما ندر، وإلا غالبهم بدأ الإيمان ينقص ويتساهل، ضعف الإيمان وتمادى، بدأ يقع في الصغائر ويتمادى، صغيرة تلو صغيرة حتى صارت الصغائر كالجبل، فأهلكت قلبه، ودمرت دينه وحياته، حتى كان كما قال الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].(33/10)
أمور تعين على الالتزام
السؤال
أنا شاب من أصحاب سود الوجوه، أصحاب المعاصي والذنوب، فأريد أن أصبح من الصنف الثاني فما السبيل؟
الجواب
المؤمن الصادق يقوم الليل، ويصوم النهار، ويقرأ القرآن، ويدعو إلى الله، ويفعل جميع الطاعات، ويخاف أن الله لا يتقبل منه، هذا المؤمن الصادق: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] المؤمن الصادق يخاف على نفسه، يخاف على نفسه ألا يقبل الله منه حسنة، ابن عمر تصدق بصدقة فقال ابنه له: [[يا أبت تقبل الله منك، قال: يا بني لو علمت أن الله تقبل مني حسنة؛ ما كان غائباً أحب إلي من الموت، لكن {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]] يقولها وهو أحد كبار الصحابة وصناديدهم، وأحد العلماء والفقهاء وحملة الشريعة إلى الآن، يقول: [لو علمت أن الله قبل مني حسنة، ما كان غائباً أحب إلي من الموت].
عبد الله: هذا هو المؤمن الصادق، يخاف ألا يتقبل الله منه، وهو في نفس الوقت يصلي ويركع ويعبد الله جل وعلا، يعيش بين الخوف والرجاء، نعم يخاف لكن لا يغلب خوفه على رجاؤه، ولا رجائه على خوفه، أما الفجرة والفسقة تجد أحدهم لا يصلي لله ركعة، ولا يسجد لله سجدة، ويهجر القرآن، وينظر لعورات المسلمين، ويأتي إلى المحرمات، وإذا سألته: قال: إن ربي غفور رحيم، مغرور ومسكين وغره الشيطان بعمله!
عبد الله: هذا السائل لعل حاله إن شاء الله حال الصالحين، فلعله إن شاء الله يصلي ويذكر الله، ويسجد، ويصلي الفجر، ومع هذا يخاف أن يكون من أصحاب الشمال.
عمر بن الخطاب يقول: [[والله لو نادى منادٍ من السماء: يا أهل الأرض كلكم في الجنة إلا واحداً لظننت أنه أنا] انظر! يقول لـ حذيفة: يا حذيفة: أسماني رسول الله من المنافقين؟! يا حذيفة! أجبني أكنت في سجل المنافقين؟! يا حذيفة هل كنت ممن سماه رسول الله منافقاً؟! فيقول حذيفة: لا يا عمر ولا أزكي أحداً بعدك.
وكان يخاف على نفسه من النفاق.
وعثمان كان يبكي إذا ذكر له القبر، يخافون يا عباد الله.
أما الفجرة والفسقة الذين لا يصلون ولا يدعون الله ولا يرجونه سبحان الله! أما المؤمن الذي يعيش بين الخوف والرجاء فأبشر وأكثر من الطاعات ومن الصالحات، ولما سأل الرجل قال: (سلني يا ربيعة بن كعب! فقال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الفردوس الأعلى) ما قال الجنة، قال الفردوس وأعظم مكان في الفردوس، مرافقتك في الفردوس الأعلى، انظر إلى رجائه، وهمته العالية، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، هل قال له المصطفى أبشر، هل قال له المصطفى: نم وارتاح، أدعو لك وانتهى الأمر؟ لا.
قال: (أعِنّي على نفسك بكثرة السجود) الأمر يحتاج إلى صلاة، يحتاج إلى سجود، يحتاج إلى ظمأ الهواجر، يحتاج إلى قراءة قرآن، يحتاج إلى اعتكاف في المساجد، يحتاج إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، يحتاج إلى أمر بالرسالة، وإلى صبر حتى تسمعها عند الله جل وعلا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(33/11)
التربية العبادية للنفس
تربية النفس قضية مهمة جداً، وقد أقسم الله على فضلها، وهي ترتكز على محورين:
1 - تربية النفس في معاملتها مع الله.
2 - تربية النفس في معاملتها مع الخلق.
وفي هذين المحورين مقامات ترتقي فيها النفس حتى تبلغ أعلى الدرجات.(34/1)
كيفية تربية النفس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
التربية العبادية هي: أن يربي الإنسان نفسه، وهي قضية مهمة، فقد أقسم الله عز وجل على فضلها فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8] واسمع للمقسم عليه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] قد أفلح من طهر هذه النفس ورباها، وكانت من غايات بعثته عليه الصلاة والسلام أن يربي الناس ويزكيهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] والتزكية هي بمعنى التربية.
وقضية التربية -أخي الكريم- ليست سنوات التزام، لو سألت بعض الناس: كم سنة أنت ملتزم؟
قال: ست أو سبع أو عشر سنوات.
فليست القضية في العمر أو في السنوات، لكن هل ربيت نفسك على عبادة الله جل وعلا؟ هل طهرت هذه النفس؟ هل زكيتها؟
ألهم الله عز وجل هذه النفس الفجور والتقوى، ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: من زكى هذه النفس وطهرها عن الأدناس والأنجاس، ولهذا سوف نتكلم -يا عبد الله- في هذه الكلمات عن كيفية تربية النفس تربية عبادية، وسوف أقسم الموضوع إلى قسمين:
أن تربى النفس على أن تكون هذه النفس عابدة لله جل وعلا في أمرين:
أولاً: في معاملتها مع الله تعالى.
ثانياً: في معاملتها مع الناس.
أنت عبد لله جل وعلا أنت عندما تبيع وتشتري عبد لله، وعندما تتعامل مع الأم أو الأب أو الإخوة أو مع أي أحد من الناس جميعاً أنت عبد لله جل وعلا، فتربي نفسك حتى في معاملتك مع الناس، ولهذا سوف نقسم الموضوع -كما قلت- إلى قسمين: بينك وبين الله، ثم بينك وبين الناس.(34/2)
تربية النفس في معاملتها مع الله عز وجل(34/3)
تربية النفس على استشعار عظمة الله جل وعلا
أولاً: يا عبد الله! اسمع إلى هذه المقامات بينك وبين الله، إذا أردت أن تكون عبداً وتذل لله عز وجل بالعبودية فلا بد أن تستشعر عظمة الله جل وعلا من هو الله؟ قدَّر عظمته، ولن تستشعر عظمة الله جل وعلا إلا بعد أن تعلم صفاته جل وعلا، قال الله تعالى عن نفسه وعن صفاته: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
أرأيت إلى الأرض بجبالها وأنهارها وبحارها وبما فيها! كلها يقبضها الله عز وجل يوم القيامة، بل أرأيت إلى هذه السماء! أتعرف كم بينها وبين السماء التي تليها؟ خمسمائة عام، ثم السماء التي تليها خمسمائة عام، وهكذا سبع سماوات يطويها الله كطي السجل للكتب بيده جل وعلا، بل يقبض السماوات والأرضين ويهزهن ويقول: (أنا الملك أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟).
انظر إلى عظمة الله عندما تكون لوحدك في البيت، وتدعوك نفسك للنظر لامرأة، أو استماع أغنية، أو تقوم لأذان الفجر ثم ترجع وتنام، أتعرف من تعصي يا عبد الله؟
قال بعض السلف: "لا تنظر لصغر المعصية لكن انظر إلى عظمة من عصيت" تعصي الرب الجليل جل وعلا، اسمع إلى عظمته وهو يخاطب موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] يا رب! أريد أن أنظر إليك، اشتاق لرؤية الله جل وعلا، والله عز وجل لا يرى في الدنيا لكنه يراه المؤمنون في الجنة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: يا موسى! في الدنيا لن تراني: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] وكان في ذلك المكان جبل عظيم جداً، قال: انظر إلى الجبل يا موسى! {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] قال: سوف أتجلى -يا موسى- للجبل، فإذا تحمل الجبل فسوف أتجلى لك يا موسى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: نزه الله سبحانه عن كل شيء لما رأى الجبل صار دكاً على الأرض، يقول عليه الصلاة والسلام: (تجلى الله للجبل قدر هكذا وأشار برأس إصبعه) فصار الجبل دكاً أرأيت عظمة الله!
انظر -يا عبد الله- إلى السماوات السبع العظيمات أتعرف كم قدر هذه السماوات السبع بالنسبة للكرسي؟! أتعرف ما هو الكرسي؟ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255] يقول ابن عباس: [هو موضع قدمي الرب جل وعلا] ولله جل وعلا صفات حقيقية ثابتة نثبتها كما أثبتها عليه الصلاة والسلام، صفات حقيقية نعقل معناها لكن لا نعقل، كيفيتها قال ابن عباس: [الكرسي موضع قدمي الرب] أريد منك -أخي الكريم- أن تتصور هذا الأمر، هذه السماوات السبع العظيمة بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في صحراء، هذه الحلقة هي السماوات السبع وهذه الصحراء هي الكرسي، أرأيت المقارنة والفرق!!
ثم يا عبد الله! هل تعلم نسبة الكرسي بالنسبة للعرش، الآن تصور الأمر هذا الكرسي بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة في صحراء، هذه الحلقة هي الكرسي، والصحراء هي العرش: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] سبحانه وتعالى على العرش استوى استواءً حقيقياً يليق بجلاله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] يعلم ما توسوس به كل نفس، بل ما تسقط من ورقة إلا ويعلمها جل وعلا، أعلمت الآن عظمة الله جل وعلا؟!
هل تصورت -يا عبد الله- هذه العظمة ثم بعدها تسأل نفسك: الواحد منا يعصي الله فإذا دخل أحد الناس ترك! أمام الناس لا يعصي لكن إذا خلا بينه وبين نفسه بدأ يعصي الله جل وعلا أتعرف من تعصي؟
إنك تعصي الرب العظيم الجليل القهار الملك.(34/4)
تربية النفس على مراقبة الله جل وعلا
المقام الثاني من مقامات العبودية: مقام المراقبة: اسمع إلى الإمام أحمد أتاه رجل فقال له: يا إمام! سمعت أحد الناس يقول شعراً، قال: ما هو؟ فأخبره بالشعر، فأغلق الإمام أحمد الكتاب، ثم دخل الغرفة وأغلق على نفسه الباب، فانتظره الناس فاستبطئوه، ثم جاءوا عند باب الغرفة، واستمعوا ماذا يقول فسمعوه يردد الشعر وهو يبكي أتعرف ما هو هذا الشعر؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
وأخذ يبكي الإمام أحمد ويردد تلك الأبيات، فإذا جئت في الليل، وأغلقت الباب، وأطفأت الأضواء، وبدأت تعصي الله؛ لا تقل: خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألا تعلم -يا عبد الله- أن الله يراك؟! يطلع عليك وأنت في هذه الحال!
هذا عمر بن الخطاب يمر على بيوت الناس، فإذا به يستمع إلى صوت يخرج من بيت صوت من؟ صوت امرأة في بيتٍ لوحدها أتعرف ما قصة هذه المرأة؟ هذه المرأة خرج زوجها للجهاد أشهراً عديدة ومديدة ولم يرجع، ونحن نعلم -يا عباد الله- أن المرأة تشتهي، ولا يرد هذه المرأة شيء ما الذي يردها عن الحرام؟ لكن أتعرف ما الذي ردها؟ أخذت هذه المرأة تقول شعراً وعمر بن الخطاب يستمع إليها، تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
لِمَ يا عبد الله؟ لأن هذه المرأة في قلبها إيمان بأن الله عز وجل يراقبها ويطلع عليها: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] الله يعلم المستخفي في الظلمات وهو ينظر لها ويكلمها ويداعبها ويضاحكها؛ بل لعله يزني بها -أجلكم الله- فهو في علم الله ولو كان مستخفياً في الليل أو سارب بالنهار، أي: مجاهر بالنهار.
عبد الله: راقب الله جل وعلا، ولا تظن أنك عندما تختلي أنه لا أحد يراك، أبو جهل حارب النبي عليه الصلاة والسلام وصد عن سبيل الله، أتعرف بم رد الله عز وجل عليه؟!
قال لـ أبي جهل ولأمثاله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألا يعلم هذا الكافر الفاجر أن الله يراه؟! والله لو علم حق العلم أن الله يراه ومطلع عليه ما تجرأ على هذه المعصية، ولما تجرأ على أن ينتهك حرمات الله جل وعلا!
عبد الله: إذا أردت أن تربي هذه النفس على العبادات؛ فأكثر من العبادات، واستمع إلى سلفنا كيف كانوا يعبدون الله جل وعلا، كان الواحد يقضي وقته بالعبادة من قيام وصيام وقرآن وذكر وعبادة مطلقة، اسمع لهذه المواقف:
صعدت جاريتان -بنتان صغيرتان- على سطح المنزل، وكانتا لا تصعدان إلا في الليل تعرف لِمَ؟ لأن الليل يستر الناس، وكان من حياء الجاريتين أنهما لا تصعدان إلا وقت الليل، فصعدتا على سطح المنزل، فنظرتا إلى بيت الجيران، ثم نزلتا فقالتا لأمهما: أين العمود -عمود الخشب- الذي كان في بيت جارنا؟ قالت الأم: ليس ذلك بعمود، إنما هو منصور بن المعتمر كان يقوم الليل فمات، كانتا تظنان أنه عمود واقف في بيت الجيران تعرف لِمَ يا عبد الله؟ من طول قنوته وقيامه، تعال إلى كثير من المسلمين بل حتى الصالحين منهم متى قمت الليل متى كان آخر مرة؟ يقول لك: منذ رمضان!
عبد الله! رجل صالح، عابد لله، لكنه لا يقوم الليل ولا مرة في الأسبوع أو الشهر، فكيف يريد أن يربي نفسه على عبادة الله جل وعلا؟ كيف يريد أن يذلل نفسه لله جل وعلا؟
انظر إلى الله عز وجل ماذا يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] قم الليل كله، ثم قال: إلا قليلاً {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4] نعم! بماذا يقوم؟ {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] لِمَ يا رب هذا القيام؟ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وننصح الدعاة إلى الله جل وعلا بقيام الليل لأنك سوف تجد أمراً ثقيلاً، فاستعين بالعبادة على الأمر الثقيل: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].
سفيان -عليه رحمة الله- أتعرف كيف كان يقوم الليل، وكيف كان يتعبد الله جل وعلا؟
أيها الإخوة! الواحد فينا يضحك ويحتقر نفسه أنه يصلي الصلوات الخمس، ويتنفل باثنتي عشرة ركعة، ويوتر قبل أن ينام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن أحدكم يجر على وجهه في سبيل الله) هل أحد منا يجر على وجهه في سبيل الله؟ يقول: (منذ أن ولد إلى أن يموت) تخيل إنسان هذه عبادته منذ ولادته يجر على وجهه إلى أن يموت، كل هذا في سبيل الله، قال: (لحقره يوم القيامة) لأتى يوم القيامة واحتقر عمله كله.
أخي الكريم! انظر لعبادتك كم هي؟ حتى إن الواحد ينسى منذ متى قام الليل أو صام التطوع، بل متى ختم القرآن، بل منذ متى هلل مائة مرة بعد صلاة الفجر؟
عبد الله! لنعرف أنفسنا ولنقدر أنفسنا حقها.
كان سفيان -عليه رحمة الله- يقوم الليل، فإذا أذن الفجر وضع رجليه على الحائط لماذا؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه لليل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] وهذه الآية نزلت في عثمان، يقول ابن عمر: [والله إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه] تعرف كيف كان فعله؟ {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] وهو يقود أمة، خليفة من خلفاء المسلمين حينما وقعت الفتنة وحوصر جاءه الصحابة فقالوا له: ندفع عنك الثوار؟ قال: لا.
وفدى بنفسه لهذه الأمة؛ قال: اتركوهم.
قالوا: نقاتل معك؟ قال: لا تقتلوا أحدا، ً وكان في البيت يقرأ القرآن حتى يروى أنه كان يختم القرآن في ليلة، فكان يقرأ القرآن وزوجته عنده، فكسر الثوار الباب، ثم دخلوا عليه في البيت، ثم طعنوه تسع طعنات بخنجر، وتطاير الدم على المصحف، حتى قال هذا الشقي: أما ثلاث فلله -ثلاث طعنات- وأما الست فلشيء في نفسي! وكذب والله؛ فإن التسع كلها ليست لله جل وعلا، بل كلها لشيء في نفسه، فبكت زوجته ثم قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] لِمَ كل هذا يا عثمان؟! لِمَ يا أبا بكر؟ لِمَ هذا يا عمر؟ ما الذي تفعله بنفسك يا علي لِمَ كل هذا؟ {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
عبد الله: سل نفسك: هل يسمع القرآن في بيتك؟
هل إذا جاء الليل توقظ الزوجة لقيام الليل؟
سلي نفسك يا أمة الله: هل تقومين في الليل وتوقظين الزوج؟ (رحم الله رجلاً قام يصلي فأيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) هل نرى بيوتاً مثل هذه البيوت؟ تمر في الليل فتسمع الزوج يقرأ والزوجة تصلي وراءه قيام الليل؟ هل هذه البيوت موجودة؟ هل بيتك هكذا؟ حتى إن بعض بيوت السلف كان لا يمر عليهم دقيقة في الليل إلا وأحدهم يصلي.
كما يذكرون أن بيتاً كان فيه أم وابنيها، وكانوا صالحين، وكانوا يجزئون الليل ثلاثة أجزاء، ثلث يقوم هذا، وثلث يقوم هذا، وثلث تقوم الأم، فلما ماتت الأم جزءوا الليل نصفين كل واحد يقوم نصف الليل، فلما مات أحدهما كان الآخر يقوم الليل كله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] هذا هو العلم ليس العلم أن نحفظ مسائل فقط، ليس العلم أن ندرس كتباً فقط ثم لا نقوم الليل، ولا نصوم النهار، ولا تدمع العين، ولا نرفع اليد ندعو الله جل وعلا.
اسمع إلى مسروق -عليه رحمة الله- هذا الرجل كان يقوم الليل وتجلس زوجته خلفه تبكي رأفة لحاله من شدة قيامه لليل، تقول: فإذا أذن الفجر يزحف كما يزحف الصبي:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا عبد الله! الذي يخذل في قيام الليل، وفي صلاة الفجر، يخذل في الجهاد في سبيل الله.
اسمع لـ ابن المبارك، أحد المجاهدين، تعال إليه في الليل! إذا نام الناس قام إلى الفجر يصلي، فإذا أصبح الصباح رفع السلاح مجاهداً في سبيل الله، هذه هي العبادة يا عباد الله! ليس أننا أمام الناس صالحين، وأمام الناس ساجدين راكعين، فإذا جئنا في البيت، وإذا جن الظلام، وإذا نزل الرب إلى السماء الدنيا لا تجد من يقوم لله جل وعلا، ولا تجد عبادة السر، ولا تجد صيام نافلة ولا قرآن ولا تدمع العين!
عبد الله: اسمع إلى زوجة رياح، وكان رجلاً صالحاً، فتزوج امرأة فكانت أصلح منه، فأراد أن يختبرها في ليلة العرس -ليلة الزواج- فنام الرجل، فلما نام قليلاً قامت الزوجة لتصلي في الليل، كانوا متعودين على القيام، قالت له: قم يا رياح وصلِّ؟ فقام فقال: لا زال في الوقت متسع، ثم نام وهي تصلي، ثم لما صلت شيئاً قليلاً، قالت له: قم يا رياح! فقام ثم قال: لا زال في الوقت متسع، وهو يختبرها، وهو أحد القائمين، الراكعين الساجدين، لكن أراد أن يختبر المرأة، ثم نام قليلاً حتى اقترب الفجر، قالت له: قم يا رياح فقال: لا زال في الوقت متسع، فلما أذن الفجر، قالت: قم يا رياح! فلما قام، قالت: ما الذي غرني بك يا رياح؟ ما الذي غرني برجل لا يقوم الليل إلا لصلاة الفجر.
عباد الله: هل هذه هي أحوالنا لا نقوم إلا لصلاة الفجر؟
هذا رجل قام لصلاة الفجر، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! فلان نام حتى الفجر- قام يصلي الفجر لكنه ما قام يصلي الليل -قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه).
لو جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظر إلى أحوال المسلمين حتى الفجر إلا من رحم الله ماذا سوف يقول؟! هل هي فقط قضية بال الشيطان في أذنه أم أن الأمر أخطر وأكبر؟(34/5)
تربية النفس على الورع
أيضاً من مقامات العبودية بينك وبين الله: أن تربي النفس على مقام يسمى الورع، وهو مقام عظيم لا يصله إلا قليل من الناس، وهو أن تترك المكروه خشية أن تقع في الحرام، وتفعل المستحبات خشية أن تترك الواجبات، حتى قيل عن بعض الصالحين: إنهم تركوا كثيراً من المباح خشية أن يقعوا في الحرام، وشق الواحد على نفسه خشية أن يقع في يوم من الأيام في الحرام، اسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر في الطريق فيرى تمرة، فتركها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون هذه التمرة من تمر الصدقة؛ لأنهم معشر آل النبي صلى الله عليه وسلم حرم الله عليهم هذه القاذورات والصدقات، فرماها النبي صلى الله عليه وسلم تورعاً.
اسمع لـ أبي بكر -رضي الله عنه- وهو يأكل طعاماً صنعه له غلامه، ثم قال أبو بكر بعد أن أكل الطعام: من أين لك هذا الطعام؟ قال: جئت به من مال؟ قال أبو بكر: من أين حصلت على هذا المال؟ قال هذا الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية.
ونحن نعرف أن الكهانة والشعوذة والعرافة كلها شرك بالله جل وعلا، يقول: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، فأعطاني مالاً، واشتريت به طعاماً وأعطيتك، الآن أبو بكر معذور لأنه أكل الطعام وهو لا يعلم، فكان يكفيه أن يستغفر الله جل وعلا وينتهي الأمر، لكن انظروا إلى ورع أبي بكر أتعرف ماذا فعل؟
وضع إصبعه في حلقه حتى أخرج كل الطعام الذي في باطنه، قال: [والله لو لم تخرج إلا مع خروج روحي لأخرجتها] تعرف لِمَ يا عبد الله؟ إنه الورع!
الواحد منا الآن يسأل: هل هذه المعصية صغيرة أو كبيرة؟ تعرف لِمَ؟ لأنه إذا كانت صغيرة يقول: ليس فيها بأس، وإذا كانت كبيرة يكف عنها، ولم يعلم أن الإصرار على المعصية كبيرة، وقد قال السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظم من عصيت".
الإمام أحمد واسمع لهذه القصة العجيبة التي تتحدث عن امرأة بلغت القمة في الورع، هذه المرأة جاءت تسأل الإمام أحمد، فتقول له: يا إمام! نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: حرس الإمام أو الحاكم يمرون بجوار البيت وعندهم مشاعل أو سرج- فيقع الشعاع علينا، قالت: فهل يجوز الغزل في ضوئها؟ أي: هل يجوز أن ننسج الثياب بهذه الأضواء، لأن هذه الأضواء لعلها جاءت من حرام، ولعل هذا الضوء لا يحل لنا أن نستفيد منه هل سمعت بهذا الورع؟! إنسان يخاف أن يستخدم الضوء الذي يأتيه لعله من حرام!
تقول: هل يجوز لنا أن نغزل في هذا الضوء؟
فقال الإمام أحمد: من أنتِ؟ فقالت هذه المرأة: أنا أخت بشر الحافي - وهو أحد الورعين والصالحين الزاهدين، زهدوا في الدنيا، فبكى الإمام أحمد ثم قال: من بيتكم يخرج الورع، ورع وأي ورع يا عباد الله؟!
الآن المرأة تقول لزوجها: ادخل في هذه التجارة أو ساهم في هذه الشركة، يقول الرجل: والله كأن فيها ربا، فتقول: كل الناس يفعلونه، ليس هناك بأس أن ندخل في هذه التجارة، لعلنا نكسب بعض المال انظروا -يا عباد الله- إلى ضعف الإيمان، وقلة الورع، وضعف اليقين بالله جل وعلا.(34/6)
تربية النفس على التقلب بين الصبر والشكر
أيضاً من المقامات -يا عبد الله- بينك وبين الله جل وعلا أن تتقلب بين الصبر والشكر، وإياك والثالث، فأنت إما أن تكون صابراً وإما أن تكون شاكراً: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
اسمع يا -عبد الله- إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في مكة أتعرف ما الذي جرى بهم؟ حاصرهم المشركون في شعبٍ حتى إنهم كانوا يتضورن من الجوع، والأطفال يبكون، والمشركون أمامهم يأكلون من اللحوم والأطعمة، حتى إن الصحابة من شدة الجوع أكلوا أوراق الشجر! انظر يا عبد الله إلى هذه الحالة التي كانت عند الصحابة، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
ماشطة ابنة فرعون، كانت تمشط شعر بنت فرعون؛ فإذا بالمشط يسقط من يدها، فقالت هذه الماشطة: باسم الله! وأخذت المشط، فقالت البنت: من؟ أتعنين أبي؟ فقالت الماشطة المؤمنة: بل ربك ورب أبيك الله رب العالمين! فقالت البنت: سوف أخبر أبي؟ فقالت الماشطة: أخبريه وليكن ما يكون انظروا يا عباد الله! على الثبات، فاستدعاها فرعون، وتعرفون من هو فرعون! الذي قتل الرجال، واستحيا النساء، واستعبد الناس، الطاغية الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى! وهل تعرف من وقفت أمامه؟ إنها امرأة خادمة، كانت ماشطة لبنت فرعون! هذا الموقف الذي لا يستطيع أن يقفه الرجال الأشداء ووقفته تلك المرأة.
فقال فرعون لها: يا ماشطة! ألك رباً غيري؟ فقالت الماشطة: نعم! ربي وربك الله رب العالمين، انظر للجرأة وللقوة، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، قال: يا ماشطة! توبي وارجعي، قالت: ربي وربك الله رب العالمين، فجاء فرعون بأطفالها الصغار -والأم لا تصبر على أذية أولادها حتى لو كان في ذلك موتها- فجاء بقدر فيه زيت، ثم أحماه حتى أصبح يغلي، ثم جاء بأولادها واحداً تلو الآخر، ورماهم في القدر أمام أمهم وهم يبكون، واللحم ينفصل عن العظم!
انظر يا عبد الله إلى هذا الموقف! هل تتحمله أنت أيها الرجل؟! والمرأة صابرة رابطة الجأش، فقالت له: أطلب منك طلباً، فظن فرعون أنها سوف ترجع، فقال: ما هو؟ قالت: أطلب منك أنك إذا قتلتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفننا في قبر واحد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214].
يا عبد الله: لا تظن أن النعمة تدوم، ولا تظن أن الأمر ميسر إلى أبد الدهر لعلك تبتلى، حتى قال عليه الصلاة والسلام لـ حذيفة: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: لِمَ) هذا أول إحصاء في الدولة الإسلامية، قال: (أحصني كم يلفظ الإسلام؟ قال: ولِمَ؟ قال: أربعمائة نفس، قال عليه الصلاة والسلام لا تدري لعلكم أن تبتلوا) يقول حذيفة: مرت علينا أيام لا يستطيع أحدنا أن يقضي حاجته.
اسمع لـ أبي ذر رضي الله عنه، لما أسلم قام في الناس، وهو ينطق الشهادتين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فجاءه المشركون يضربونه من كل جهة، حتى أدموه فصار كتمثال من الدم، حتى جاء العباس يفكهم عنه وكان مشركاً في تلك الأيام، ثم جاء في اليوم الثاني هل أيس؟ وهل تراجع؟ وجاء في اليوم الثاني وقام بين المشركين وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهم يضربونه حتى صار كتمثال من الدم، وجاء في اليوم الثالث يعلنها صريحة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صبروا يا عبد الله!
أسمعت بلالاً كيف كان يجر على الرمضاء؟ أما سمعت ببعضهم كان يحمى الحديد حتى يحمر، ثم يطفأ في ظهره، وبعضهم كان ينام على الجمر، وكان أحدهم يقول: أحد أحد، صابر على دينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
المقام الثاني: الشكر: اشكر النعمة التي أنت فيها، وأخص النساء ممن لا يشكرن نعمة الله جل وعلا عليهن، واسمع يا عبد الله! إلى هذا الموقف الذي يذكره أحد المشايخ، وقد نقلته تقريباً بالنص، ولعلك تقول لي: هذا من نسج الخيال، لكن أقول لك: إن هذا الموقف حال كثير من الناس، ممن لا يشكرون نعمة الله جل وعلا، ممن يرزقهم الله عز وجل رزقاً حلالاً، ينامون في بيت واسع، ورزقهم الله عز وجل زوجة صالحة، ورزقها الله عز وجل زوجاً صالحاً وأولاداً وذرية ولكن لا يشكرون نعمة الله، يريدون أكثر من هذا بالحرام، اسمع إلى هذه المرأة تقص حالها، وحال كثير من النساء، ولعلك تعتبر بهذه القصة، ثم انظر حال كثير من الناس.
تقول هذه المرأة واصفةً نفسها مع زوجها وكيف أنها كفرت نعمة الله، تقول: كنا معاً في أطيب حال، وأهنئ بال، زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، عندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكتها تفتق الزهور، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة، قمت مع زوجي نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، نعمة وأي نعمة، لا يحصل على هذه النعمة كثير من الناس، يتمنونها فلا يحصلون عليها، وتصلي معنا الدموع، في سكينة وخشوع، كأني أسمعها وهي تفيض قائلة: إنا إيمان فلان وفلانة، وذات يوم -اسمع لكفر النعمة- أردنا أن تكثر عندنا الفلوس، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهم ربوية -انظر الإغراء- لتكثر عندنا الأموال وندخرها للعيال-انظروا الحجة- ووضعنا فيها كل ما نملك، حتى حلي الشبْكة، تقول: ثم انخفضت أسهم السوق، وأحسسنا بالهلكة، فشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، فعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خلت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنت طالق، أنت طالق، فبكيت وبكت الصغيرة وعبر الدموع الجارية تذكرت جيداً يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
عبد الله: لا تنظر إلى من هو أقوى منك وأكثر منك، وأفضل منك نعمة، لكن انظر إلى من هو دونك، ولا تزدري نعمة الله جل وعلا.
عبد الله! هذا هو القسم الأول الذي أردت أن أتحدث عنه.(34/7)
تربية النفس في معاملتها مع الخلق
القسم الثاني -وهو أمر مهم-: أن يربي الإنسان نفسه في تعامله مع الناس، مع إخوانه في الله جل وعلا، اسمع يا عبد الله إلى هذه المقامات التي لا بد أن نتحلى بها، في تعاملنا مع البشر، ربِّ نفسك عليها، ولا تظن أن هذه الأوراق صفراء وقديمة، وهذه الأمثلة من نسج الخيال ولا يمكن أن توجد في صفحاتنا اليوم، لا يا عبد الله! يمكنك أن تعمل بها وأنت تربي نفسك على هذه الأخلاق وتلك المقامات، فاسمعها يا عبد الله وعشها ثم حاسب نفسك هل أنت تتعامل بهذه الأمور أم لا؟(34/8)
تربية النفس على التواضع مع الخلق
أول ما تربي نفسك على التواضع، أن تذل نفسك بين الناس، هل جربت أن تمشي بين الناس وتعتبر نفسك أذلهم وأحقرهم وأدناهم منزلة؟ هذا رجل يسمى: بكر بن عبد الله المزني أحد الصالحين الزاهدين، رجل سطره التاريخ في زهده وعبادته، يوماً من الأيام كان واقفاً في عرفة، تعرف ما الذي يحصل في عرفة؟ الناس بين باكٍ وخاشع وساجد وراكع وداعٍ لله جل وعلا، في عرفة تكثر الدموع والبكاء، وبكر بن عبد الله المزني جالس في عرفة -لعل هذا الرجل أفضلهم- قال: لا إله إلا الله، لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، قال: المصيبة أني موجود بينهم، لو كنت خارجاً عنهم لجزمت أن الله قد غفر لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] على إخوانهم في الله، على عباد الله الصالحين ذليل، أما شدته وقسوته على من؟ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] كم تجد من الناس مع النصارى واليهود ذليل؟ متواضع لين هين ومع إخوانه في الله قاس كم ترى من الناس أمثال هؤلاء؟
موقف آخر في هذا المقام: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، هذا التابعي أبوه وجده صحابيان، وهو من أشرف التابعين في علمه وعبادته، هذا الرجل كان في منى، وأظن من حج منكم يعرف كيف يكون الناس في منى، زحام وكل واحد يدفع الثاني في زحام منى، هذا الرجل كان يمشي في منى فإذا برجل يدفعه، فالتفت إليه سالم، تظنه ماذا يقول؟ ولِمَ التفت سالم إليه؟
قال الرجل لـ سالم بن عبد الله: إني لأظنك رجل سوء، سبحان الله! أولاً دفعه ثم شتمه، والآن ماذا تظن سالم يرد عليه، تخيل يا عبد الله! تمشي في الطريق فيدفعك رجل، فتلتفت إليه فلا يتأسف، ويسبك، ويقول: أنت رجل سوء، كيف ترد عليه يا عبد الله؟! تعرف ماذا قال سالم؟ قال: والله ما عرفني إلا أنت: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] قلوب متواضعة لينة، الواحد يحقر نفسه، حتى قال بعضهم في تعريف التواضع: ألا ترى لنفسك حقاً أو فضلاً على أحد، فتظن أن الناس كلهم خير منك.(34/9)
تربية النفس على نقاء النفس مع المسلمين
المقام الثاني: تربي نفسك على هذه المقامات، فالقضية ليست آيات نحفظها، أو دروس نحضرها ثم نصلي بعض الصلوات ثم ماذا؟ النفس-نسأل الله العافية- لا يتحملها إنسان، واسمع إلى المقام الثاني وهو مقام عظيم، بل سوف نعرف أن هذا المقام لا يصل إليه إلا قلة من الناس ممن اصطفاهم الله جل وعلا، سلامة الصدر والقلب للناس.
هل جربت يوماً من الأيام، أن تنام وليس في قلبك على أحد من المسلمين غل، هل جربت يوماً من الأيام أن تنام وليس في قلبك على أحد حقد.
اسمع إلى هذا الحديث، يقول عليه الصلاة والسلام: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) يقول الصحابة: فخرج رجل، وهذا الرجل غير معروف، نعلاه تحت إبطه، ولحيته يقطر منها أثر الوضوء، فعجبنا من أمره وهو يمشي على الأرض وهو مبشر بالجنة، ثم قال في اليوم الثاني: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة) فخرج نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل: (يطلع عليكم رجل من أهل الجنة).
عبد الله! تخيل أنك مبشر بالجنة وتمشي على الأرض، تتمنى أن تموت اليوم قبل الغد، من أهل الجنة! يقول عبد الله بن عمرو فتبعته وطرقت الباب عليه، فقلت: يا فلان! إني قد لاحيت أبي -صارت بيني وبين أبي خصومة- وأقسمت ألا أرجع إليه ثلاثة أيام، فإن شئت أن تضيفني، فقال: تفضل، يقول ابن عمرو: جلست عنده ثلاثة أيام، فما رأيته كثير عبادة ولا كثير صوم ولا شيء -أي: يقوم الليل لكنه قليل والصحابة أكثر منه في قيام الليل وصيام النهار- يقول: فجئته في اليوم الثالث فأخبرته الخبر، فقلت: يا فلان سمعت رسول الله يقول عنك كذا وكذا، فأخبرني عن حالك؟ قال: يا فلان! ليس إلا ما رأيت- أي: ما عندي عبادة أكثر من هذه التي رأيتها - فذهب عبد الله ثم ناداه، فقال: يا بن أخي! تعال ارجع، قال: فرجعت، فقال لي: تذكرت أمراً، قال: إنني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد مسلماً على خير آتاه الله إياه، فقال الصحابي: هذه التي بلغت بك.
نعم! هذه التي أدخلتك الجنة، ثم قال: وهي التي لا تطاق، يقول الصحابي: هذه المنزلة لا تطاق.
وهذه المنزلة عظيمة يا عبد الله! ولا تخدع نفسك فتقول: أنا لا أحمل في نفسي أبداً، فتش وفتش، فسوف تجد في نفسك على فلان غلاً، وعلى فلان حقداً، وعلى فلان حسداً، ولفلان غش، ولفلان كره، وعلى فلان إساءة ظن.
يا عبد الله! هلا سلمت صدرك، يقول الله جل وعلا عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] اسمع للدعاء: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] (هل يستطيع أحدكم كـ أبي ضمضم؟ من أبو ضمضم يا رسول الله؟! قال: هذا رجل كان إذا أصبح يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه) كل يوم يقول: يا رب! كل من تكلم فيَّ فقد حللته، هلا جربتها لتسلم صدرك وتدعو لإخوانك بالعفو، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
بعض الصالحين وللأسف -وهذا إذا كان في بعض الصالحين كيف لك بغيرهم- تجده يتذكر لأخيه موقفاً قبل عشر سنوات! وإلى اليوم لم ينسه وما عفا عنه، إلى اليوم يقول: لا أعفو عنه حتى يأتيني ويعتذر لي.
سبحان الله! أين هذه المقامات التي بلغها أولئك؟
سامح أخاك إذا خلط ممن أصابك بالغلط
وتجاف عن تعنيفه إن زاغ يوماً أو قسط
واعلم بأنك إن طلبت مهذباً رمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد يا عبد الله من إخوانك ألا يخطئوا لن تجد أحداً من الناس مبرأ من الزلل والخطأ.(34/10)
تربية النفس على إحسان الظن بالناس
اسمع يا عبد الله إلى المقام الثالث! وهو مقام عظيم جداً، وأيضاً أقول لك: من الصعب أن تجد من الناس من يقوم بهذا المقام؛ وهو مقام إحسان الظن، أن يخطأ عليك إنسان أو يتكلم بكلمات فتحسن الظن به كم وكم من الناس -والله يا إخوة- لا يتحمل الكلام، بل يحمله على أشد محمل، فتجده يقول: ما تكلم إلا وهو يقصدني، وما تكلم إلا وهو يريد كذا وكذا، وما قال هذه الكلمات إلا وهو يريد كذا وكذا، وما أدراك؟ أشققت عن قلبه؟ هل فتشت فيه؟ هلا جئت وسألته!
اسمع يا عبد الله! إلى أولئك السلف الذين سلمت صدورهم وقلوبهم لإخوانهم، يقول ابن معين: إنا لنطعن على أقوام -أتعرف من هو ابن معين؟ إنه جراج ليس في الطب، بل جراح، أي يقول: فلان ثقة فلان كذاب فلان وضاع وعلمه هذا واجب وخدمة لدين الإسلام، يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم حطوا رحالهم في الجنة، يقول: أنا أتكلم في أناس يمكن أنهم دخلوا الجنة ونتكلم فيهم، انظر إلى الورع وإلى إحسان الظن في إخوانهم، واسمع إلى المقامات:
من المقامات التي ذكرناها قبل قليل العفو والصفح، واسمع للإمام أحمد مع المعتصم، الإمام أحمد جلد جلداً لو جلد هذا الجلد بعير لمات، حتى كان بعضهم يجلده فإذا تعب أتاه آخر فيجلده حتى يسقط على الأرض ويستمرون في الجلد.
وهذا الإمام عندما أطلق سراحه، جاءه طبيب يعوده، فلما نظر إلى ظهره قال: يا إمام! لقد مات الجلد -أي: اللحم- ولا بد أن يستأصل ونقطع اللحم، قال: وإلا استشرى في الجسد، فتموت وتهلك، وما عندهم بنج ولا مخدر، فاستلقى الإمام أحمد على بطنه، وجاء الطبيب بالمشرط، أتعرف من السبب في هذا كله؟ إنه المعتصم الذي أمر بجلد الإمام أحمد، وهو السبب في هذا كله، وهل الإمام أحمد مخطئ أو ظالم؟ لا والله، إنه يحمي عقيدة المسلمين، عقيدة أهل السنة.
فجاء الطبيب وأخذ يقطع لحمه، فلما بدأ بالقطع وضع الإمام أحمد يده على رأسه، فلما بدأ بالقطع قال الإمام أحمد: اللهم اغفر للمعتصم، اللهم اغفر للمعتصم: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
بكى في ليلة من الليالي بكاء شديد، فقال أهله وتلاميذه، بكيت الليلة بكاء ليس ككل ليلة، ما الذي جرى؟ قال: مر علي في الدرس آية أتعرف ما هي هذه الآية؟ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم، فقمت الليل وبكيت في السجود ودعوت الله أن يحله.
أيها الإخوة: هذه مقامات عظيمة، وهذه النفس إذا لم تترب على هذه المقامات ولم تذل لله جل وعلا، وتذل نفسها لإخوانها -والله يا إخوة- فلن ينصرنا الله جل وعلا، ولذلك تجد هذه الدعوة دائماً تتقدم ثم تتأخر، ومع هذه الأعمال والجهود المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يقتلون لِمَ هذا يا عبد الله؟ النفوس ضعيفة، ولهذا من قال: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم.
ونختم بهذه القصة حتى نعلم أيها الأخ الكريم أن هذه النفس تحتاج إلى تربية، ونتيقن أنها مراحل عظيمة حتى نصل إلى هذه المستويات، فاسمع يا عبد الله! إلى هذه القصة الأخيرة، وهي قصة الحسن بن الحسن رضي الله عنه، فقد دخل على علي زين العابدين -وقد سمي بـ زين العابدين من شدة عبادته- وهو جالس بين تلاميذه فدخل عليه الحسن، فأغلظ له في الكلام وكان بينهم خصومة وخلاف، فشتمه وسبه وتكلم فيه، ولم يرد عليه زين العابدين بكلمة واحدة حتى انتهى من سبه وشتمه ثم ذهب، فجاءه في الليل، وطرق الباب عليه، ففتح الحسن بن الحسن الباب، وتعجب من زين العابدين هل جاء الآن يأخذ حقه؟ هل جاءه يسبه الآن ويشتمه؟ أتعرف ماذا قال؟ سلم ثم قال: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام.
ثم ولى وتركه، فجاء الحسن بن الحسن في الطريق وأمسكه وعانقه، ثم بكى وطلب منه أن يحله، ثم قال: والله لا أعود إلى أمر تكرهه أبداً ما حييت: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(34/11)
الشباب والتحديات المعاصرة
إن شباب الأمة الإسلامية يواجهون اليوم تحديات كبيرة من اليهود والنصارى، تحديات الشبهات والشهوات الواردة من حضارتهم الزائفة، فيجب على شباب الإسلام العودة إلى كتاب ربهم، فلقد قص علينا قصص الشباب والفتيان في الأمم الماضية، وفي عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلتكن لنا بهم أسوة.(35/1)
قصة أصحاب الكهف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
الشباب المسلم أمام التحديات المعاصرة، الشباب، الفتيان، الرجال، كلمات متقاربة في العصور الأولى، حمل دين الإسلام الرجال والشباب، وبداية الدعوة حمل هذا الدين الشباب، وسوف يحمل هذا الدين الشباب، قال الله جل وعلا حاكياً قصة فتيانٍ سماهم أهل الكهف، كانوا يعيشون بين الملوك، وكانوا من أبناء الملوك، يعيشون في القصور على الحرير والديباج، يأكلون أفضل المأكولات ويلبسون أفضل اللباس، ويسكنون القصور، هؤلاء الشباب وأولئك الفتيان علموا أنهم لا يعبدون الإله الحق، ماذا قال الله جل وعلا عن حالهم؟: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] فتية، انظر كل كلمة في القرآن لها حكمة، الله عز وجل يريد أن يميزهم قال: فتية: فتيان صغار، لكن انظر كيف كان شأنهم؟ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:13 - 14] هربوا من قومهم وتوجهوا إلى الكهف فكان من شأنهم ما كان.(35/2)
قصة الغلام المؤمن والراهب
قصة أخرى:
غلام يعيش في قصر الملك، والقرآن والسنة يحدثانا بأنباء الشباب والفتيان الذين كان لهم شأن عظيم، اسمع إلى قصة هذا الغلام: أجبره الملك أن يذهب يتعلم السحر من ساحر كافر، وهذا الساحر وذلك الشعب لا يؤمن بالله، والساحر يعلمه السحر ليكون خليفة له في السحر، وكان الغلام الشاب الصغير يمر في طريقه على راهب يتعلم منه الإيمان والتوحيد، وكل يوم هذا حاله، يمر على راهب يعلمه الدين، وساحر يعلمه الكفر برب العالمين، لكن الغلام مؤمن، صادق الإيمان، انفضح أمره، وانكشف سره، فهدده الملك، أقتلك أو ترجع عن دينك؟
والقصة تعلمها، لكن أرجو منك أن تتخيلها: غلام صغير شاب أمام ملك طاغية جبار، قتل أمامه أناس، فقال الملك للغلام: ترجع عن دينك وإلا أقتلك؟
قال: لا أرجع عن ديني.
فأرسله مع الجنود ليرمى به في البحر فيغرق، فلما توسط البحر، -تخيل الموقف- فلما وصلوا به إلى البحر وأرادوا أن يرموه في البحر ليغرق، رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت يا رب! أنت حسبي أتوكل عليك أن تكفيني هؤلاء الجنود، فاهتز المركب بالجنود وسقطوا وغرقوا جميعاً ولم يبق إلا الغلام.
من الذي نجاه؟ من الذي نصره مع أنه غلام صغير مربوط أمام جنود؟!
إنها سنة الله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
هل تظنه هرب؟ لكنه رجع إلى الملك ولو كان أحدنا مكانه الآن فأقل شيء يفكر فيه الهرب، ولكن الغلام قضيته أكبر، قضيته أن يدعو إلى الله، أن يؤمن الناس برب العالمين وإن مات، رجع يمشي على رجليه إلى الملك مرة أخرى، فخاف الملك منه، وقال: ما الذي جاء بك؟ أين الجنود؟ كيف لم تمت؟ فأخبره بالخبر.
قال: الآن أقتلك حقيقة، وأرسله مع جنود آخرين يرفعونه إلى أعلى جبل ليرموه من هناك إلى الأرض فيهلك، والغلام مربوط مقيد، غلام صغير يكفي أن يقتله رجل واحد، ولكنه يرسل معه الجنود خوفاً ورعباً ووجلاً؛ لأن الكلمات التي يقولها تقذف في أنفسهم الرعب، فلما صعدوا به إلى أعلى الجبل -انظر إلى الغلام، انظر إلى الصفاء والنقاء، انظر إلى التوكل- قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فما هي إلا ثلاث كلمات وإذا بالجبل يهتز، فيسقط الجنود ويبقى الغلام.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنها جنود من جنود الله، هذه الجبال، وتلك الرياح، وهذه البحار، كلها جنود لله جل في علاه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] سقط الجنود، ورجع الغلام يمشي على قدميه إلى الملك، أنا أريد أن أخبرك أن هذا غلام ليس رجلاً كبيراً هذا غلام صغير.
فلما دخل على الملك المرة الثالثة، خاف الملك منه واقتنع الملك أن في الأمر شيء غريب، فقال له الغلام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم.
قال: إذا أردت قتلي فاسمع ما أقوله لك.
قال: إذا أردت أن تقتلني فأنا أدلك، الغلام يريد أن يدعو إلى الله، وأن يدخل الناس في الدين لو على حساب موته.
قال: اجمع الناس على صعيد واحد وعلى أرض واحدة، كل الناس النساء والرجال -هو الآن يريد أن يعرف الناس التوحيد، يقيم عليهم الحجة أو يهتدوا- ثم اربطني في جذع شجرة، ثم خذ سهماً من كنانتي، لا تأخذ أي سهم، وإنما سهم من كنانتي أنا، ثم أنت الذي ترميني ليس غيرك، وقبل أن ترميني ترفع صوتك أمام الناس وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني بالسهم وإنك بهذا قاتلي، وليس هناك طريقة أخرى لقتلي إلا هذه.
الملك الآن نسي كل شيء أهم شيء عنده أن يموت الغلام وأصبح تفكيره أقتل الغلام ثم أفعل بعد هذا ما أفعل، فجمع المك الناس في صعيد واحد، ويا له من منظر، الغلام يدل الملك على قتله، ويمكن البعض منا وقف أمام المقصلة أو المشنقة يريد أن يقتل إعداماً يسقط على الأرض ويغمى عليه قبل الموت وقبل الإعدام، وأناس يصرخون، وبعضهم من شدة خوفهم قد انتفخت بطنه ورأي هذا، وبعضهم مات قبل أن يعدم من الخوف، وهذا الشاب الصغير بكل ثقة وهدوء يربط على تلك الشجرة، والناس كلهم مجتمعون ينظرون، النساء والرجال والأطفال والجنود، والملك يأخذ سهماً من كنانة الغلام، ويريد أن يرمي بالسهم ثم يقول قبل أن يرمي بالسهم: بسم الله رب الغلام، ثم يرمي بالسهم فيأتي السهم على صدر الغلام ويسيل الدم ثم يموت الغلام.
فلما مات الغلام بدأ الناس كلهم يهللون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله رب الغلام، لا إله إلا الله رب الغلام، فالتفت الملك ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ انفجرت المدينة بالإيمان، انطلق التوحيد، الملك استغرب من الأمر، هذا الذي كان يخشاه، بدل الغلام صار الآن أمة كاملة، أراد أن يقضى على مؤمن صغير، فما علم أن أولئك الناس كلهم سيؤمنون، انطلق الناس بالإيمان.
قال لجنوده: مروهم بالكفر والردة، فما استطاعوا، قال: احفروا لهم الأخاديد والحفر، حُفروا لهم الحفر وأشعلوا فيها النيران، أخذوا الناس واحداً واحداً: ترتد عن دينك أو نرميك في النار؟ هو يرمي بنفسه في النار، كلما جاءوا لواحد يرمونه في النار وهو يقول: لا إله إلا الله رب الغلام، لا إله إلا الله رب الغلام، آمنت بالله رب الغلام، ويرمى الناس في تلك النيران، والملك يشاهد ويتعجب، شعبه كله يحترق، أي إيمان هذا؟ أي دين هذا؟ أي عقيدة تلك؟
حتى جاءوا بامرأة تحمل رضيعاً صغيراً، قالوا لها: ترتدين عن دينك وإلا رميناك في النار؟ قالت: ارموني في النار ولكن اتركوا الغلام يعيش، قالوا: بل نرميه معك، فترددت المرأة، هذا الغلام ترمونه معي في النار، ما ذنبه؟ ما جريمته؟
تخيل طفل صغير ترددت المرأة وكأنها أرادت الرجوع، ولكن الله أنطق الغلام في المهد فقال: يا أماه أثبتي فإنك على الحق، فرمت بنفسها ورضيعها في النار: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:8 - 7] كلهم شهود ينظرون إلى الناس يحترقون: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] هذه القصة العظيمة التي نقرؤها إلى قيام الساعة من بطلها؟ إنه غلام صغير، إنه شاب أيها الرجال! غلام صغير آمنت أمة كاملة بسببه!(35/3)
صور من حياة شباب الصحابة
محمد عليه الصلاة والسلام يبعث لهذه الأمة بشيراً ونذيراً، يأتي إلى خديجة، تأخذ بيده إلى من؟ إلى ورقة بن نوفل، فيقول له: يا بن أخي! أخبرني بالذي جرى لك؟ فيخبره بالقصة، فيقول له: هذا الناموس الذي أنزل على موسى وقال: يا ليتني كنت جذعاً -يعني شاباً قوياً لأنه كان شيخاً كبيراً- إذ يخرجك قومك، فتعجب النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أومخرجي هم؟ -ما الذي فعلته لهم- قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي.
بداية البلاء، فانطلقت الدعوة، ونشر الدين.
ومن أكثر الذين بدءوا الدخول في الإسلام الشباب.
هذا علي بن أبي طالب وذاك طلحة وهذا سعد، والأرقم ذلك الشاب القوي المؤمن الذي فتح بيته لتكون مقراً للدعوة، قال: بيتي لكم.
شباب آمنوا بالله جل وعلا، وأخذوا ينشرون هذا الدين.
لـ علي وحده قصص وحكايات في الدعوة إلى الله جل وعلا: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].
انطلق عليه الصلاة والسلام في الدعوة، وبدأ يعلم الصحابة القرآن، فجاء الفتيان الصغار والشباب يحفظون كتاب الله جل وعلا.
سمعتم بالقراء الأربعة الذين تلقوا القرآن من محمد عليه الصلاة والسلام؟ ثلاثة من الأربعة من الشباب من الفتيان: معاذ بن جبل شاب، عبد الله بن مسعود شاب، سالم مولى أبي حذيفة شاب، ثلاثة شباب يحفظون كلام الله جل وعلا، ليكونوا نبراساً للأمة بعده.(35/4)
ترجمان القرآن
فتىً صغير لا يتجاوز السابعة من العمر يتعلم الدين، ويحفظ القرآن، بل ويقرأ المفصل، بل ويسأل عن التفاسير، يموت عليه الصلاة والسلام وعمره عشر سنوات ويصير ترجمان القرآن، من هو؟
إنه ابن عباس رضي الله عنه، ترجمان القرآن، ما من آية إلا وتجد له فيها قول، إذا قال ابن عباس فكفى، مات أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام وعمره عشر سنين، إنهم الشباب، انطلقوا للجهاد معه عليه الصلاة والسلام فمن الذي كان يحمل الرايات؟ ومن الذي كان يقاتل، الشيوخ؟ لا.
ولكن الشباب هم من حملوا هذا الدين على أعناقهم وعلى أكتافهم.(35/5)
عبد الله بن عمر
ابن عمر في غزوة أحد: عبد الله بن عمر بن الخطاب أراد أن يقاتل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أريد القتال، قال: أنت لا تقاتل، قال: أنا أستطيع حمل السلاح، قال: أنت لا تقاتل، وكان عمره ثلاثة عشر سنة، وكان يجادل النبي صلى الله عليه وسلم على القتال، فجاء الخندق قال: الآن تجيزيني يا رسول الله! وعمره خمسة عشر سنة، فأجازه صلى الله عليه وسلم القتال.
كان شباب وفتيان الصحابة يقفون على أصابعهم ليرتفعوا؛ حتى يجيزهم عليه الصلاة والسلام بالقتال، فإذا ردهم عن الموت والقتال بكوا: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} للجهاد، للموت، للسيوف، للدماء تتطاير: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].
شبابهم يبكون على الموت في سبيل الله، وشباب هذا الزمن إلا من رحم الله يبكي لأن عشيقته لم تتصل به، يبكي لأنها فارقته، لا ينام أياماً وليالي ويصفَرُّ لونه ويضعف جسمه لما يا فلان؟ هل لأن فلسطين احتلت؟! هل لأن الشيشان تدمر؟! هل لأن المصحف يدنس؟! لا.
لأن عشيقته تركته، لأن حبيبته لم تلتفت له، لأنه لم يحصل على تلك الحبوب أو لم يحصل على ذلك الشراب، يبكي أياماً وليالي.(35/6)
عمير بن أبي وقاص
عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص: في يوم من الأيام أراد الجهاد وأراد القتال فرده عليه الصلاة والسلام فبكى، حتى رق النبي صلى الله عليه وسلم له فأجازه.
يقول سعد: كنت أعقد له خمائل السيف، يعني: كان صغيراً فأربط السيف حتى يحمله، السيف قد ينزل على الأرض وهو يمشي من صغر، عمره ستة عشر سنة، يقول: فدخل المعركة فأصيب فقتل، وعمره ستة عشر سنة، أرأيت إلى الشباب؟ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].(35/7)
علي بن أبي طالب
شاب من الشباب اسمه علي بن أبي طالب: كل مسلم يعلم من علي، علي الأسد الشجاع، هذا الشاب في معركة خيبر اصطف الصحابة في صف واليهود في صف ثانٍ، خرج من بين المسلمين، وكان من عادة القتال في السابق، أن يخرج المبارزين من هذا الصف ومن هذا الصف يتبارزون قبل المعركة؛ ليحمى الوطيس ولتشتعل المعركة، يخرج أحد الأبطال من المسلمين وخرج من جانب اليهود رجلٌ يقال له مرحب؛ وهو من أشجع الأبطال ويعرف عند العرب كلهم، لو يقف أمامه عشرة لا يقدرون عليه، ومدجج بالدروع والأسلحة، سيف، ورمح، كل شيء عنده، ورجل كبير صاحب جسم ضخم، مدرب على السلاح لا يجابهه أحد، خرج من بين الصفوف، قائلاً:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
يعني: كلهم يعرفون من هو مرحب، ويعرفون شجاعة مرحب، ويعرفون بطولة مرحب
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
من الذي خرج لـ مرحب؟ من الذي ظهر ليبارزه؟ إنه الشاب الشجاع القوي، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتخيل شاب أمام رجل، هذا ليس عنده من الأسلحة الشيء الكثير وذاك مدجج بالأسلحة، هذا معروف بخبرته في القتال وهذا شاب صغير، خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يرد عليه شعراً بشعر، فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
وخرج المتبارزان وبدأت المبارزة والناس كلهم يتوجسون من الذي ينتصر؟ ضربة بضربة، وما هي إلا ضربة من علي يقسم به عدوه نصفين أمام الناس، فكبر الصحابة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنها الشجاعة، وإنه الإيمان إذا دخل في القلوب.
انظر أيها الأخ العزيز! إلى الشباب كيف كانوا يتحملون الأذى.(35/8)
خباب بن الأرت
خباب بن الأرت: هذا شاب في مكة، من شدة الأذى لو تكشف عن ظهره لا يعرف هل هو لحم أو بدون لحم؟ ضرب هذا الرجل ضرباً حتى كانوا يختلفون من عذب أكثر هو أم بلال من شدة الأذى الذي أصابه رضي الله عنه، أتى يوماً من الأيام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردة عند الكعبة، فقال: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا، ألا ترى ما نحن فيه -لا يقول هذا جزعاً ولا يأساً لكنه يريد نصر الله، يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا فإن نصر الله قادم- فقام عليه الصلاة والسلام مغضباً وقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة ويوضع فيها، ويؤتى بالمنشار على مفرق رأسه فينشر فلقتين فلا يرده ذلك عن دينه، لكنكم قوم تستعجلون، لكنكم قوم تستعجلون).(35/9)
الحقد الصليبي على الإسلام
إن هذه التحديات المعاصرة هي واقعنا وعالمنا، وهذا الكلام أوجهه للشباب وللكبار وللشيوخ، كل منا متحدى بهذه التحديات، بل للرجال والنساء، بل حتى للأطفال.
نحن نعيش في عالم يسيطر عليه اليهود والنصارى، ولا ريب في هذا
يقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستشهدون وهم شهود
نحن الآن لا نتصرف حتى في أمورنا الخاصة، أذكركم حتى لا تنسون وحتى يسجل التاريخ هذا، وحتى لا يوصف المسلمون بأنهم متخلفون أو بأنهم إراهبيون رجعيون، نذكركم بالواقع الذي نعيشه، قبل بضعة قرون دخل النصارى بيت المقدس، وأول من استحله النصارى قبل اليهود، فذبحوا ما يقارب سبعين ألف مسلم، نحروهم مثل الشياه، وهم يستبيحون تلك الأرض المقدسة.
يقول أحد النصارى المستشرقين: كانوا يُكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعلى الأبراج.
تخيل! يأتون بهم من فوق أعلى بناية وأعلى عمارة ويدفعونهم وهم أحياء، نساء، أطفال، رجال، تخيل هذا المنظر، يعني: يتفننون في قتل المسلمين، يقول: ويجعلونهم طعاماً للنار.
يشعلون الحفر فيحرقون فيها المسلمين، بل يقتلون الجثث فوق الجثث.
ويقول الآخر وهو من المستشرقين: كان دم المقهورين -أي: المسلمين- يجري في الشوارع، حتى -انظر الوصف الدقيق البليغ- كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون.
فارس على دابته وحصانه يمشي فإذا وطأت قدمه دم المسلمين يصيبه من دم المسلمين.
أرأيت كيف حقدهم! أرأيت ماذا يريدون منا! وما البوسنة والهرسك عنا ببعيد، وما الذي حصل في الشيشان ببعيد، وما المحرقة التي يحرقون بها لبنان ببعيد، حقد في القلوب: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] من ظن أنهم سوف يرضون عنا فإنه يخالف كتاب الله.
انتبه يا أخي العزيز فإن كلام الله حق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ما كانوا يميزون بين طفل وشاب أو امرأة وشيخ، يقتلون الجميع.
أسمعت بـ الأندلس، وعرفت ما الذي حصل فيها؟
أمة أبيدت من على الأرض، هذه أسبانيا الآن كانت في حضارة إسلامية، بل أكثر العلماء تخرجوا من الأندلس، ولو تذهب الآن إلى الأندلس لا تجد رائحة للإسلام، حولوا تلك المساجد إلى متاحف، كانوا يضعون الرجل في تابوت مخرق بالخناجر ويغلقونه بقوة، حتى يتعذب شيئاً فشيئاً فيموت.
كيف كانوا يعرفون المسلمين؟ المسلمين تنكروا لدينهم خوفاً على أنفسهم، فكان النصارى يأتون إلى الأطفال فيكشفون عن عوراتهم فإذا رأوه قد ختن علموا أن عائلته مسلمة فقتلوهم جميعاً: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] حقد على المؤمنين من اليهود والنصارى، ثم بعد هذا يقولون: المسلمون إرهابيون، المسلمون يقتلون.
قتل امرئٍ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
انظروا إلى قضية الشيشان الآن، كم ألف قتل، وكم ألف فُجِّر، ومازالت المسألة فيها نظر، ومباحثات، وجولات، المسألة فيها زيارات، ثم لما أجلوا إلى تلك المخيمات وإلى تلك المعسكرات لم يسلموا، فرجالهم يعذبون صباح مساء، ونساءهم تغتصب على مرأى ومسمع من العالم كله، ولا يحرك أحد ساكناً.
أين الشباب؟
أيحق لنا بعد هذا أن ننام نومة هنيئة؟!
أيحق لنا بعد هذا أن ينادي ربنا للصلاة فنتولى؟!
أيحق لنا أن نهجر المصاحف بعد أن علمنا أن اليهود والنصارى الحاقدون يريدون القضاء على هذه الأمة؟!
أيحق لنا بعد هذا أن نرضى عنهم ونحبهم ونودهم؟!(35/10)
حال الأمة الإسلامية في هذا الزمن
إن النصر عند المسلمين في هذا الزمن ليس نصر الحروب والمجد، بل أصبح في بعض الأمور التافهة، مثل: لعب الكرة، والرياضة ليست بحرام، وأنا لا أحرم الرياضة، ولا لعب الكرة إذا كانت بقدر مباح، ولكن إذا تجاوز الأمر حتى صارت انتصارات المسلمين في ملاعب الكرة، وصار المسلمون يكرهون بعضهم بعضاً لأجل الكرة ولأجل الملاعب فحرام، أيها الأخ العزيز! ما الذي يحدث في ملاعبنا؟! وما الذي يجري في مبارياتنا؟! المسلمون يريدون الانتصار لكن ليس في المعارك بل في الكرة، وأخبرك أن اللعب ليس بحرام ولكنه بقدر، اسمع الشاعر كيف يصف أحوال المسلمين.
للأسف:
عربات تدفقت تشبه الهائج الخضم
وعليها تكومت زمرٌ طيشها احتدم
ماجت الأرض بالورود وداء الضجيج عم
فتساءلت والأسى ينبض القلب بالألم
هل فلسطين حررت وقطاف العناء تم
أم بـ كشمير دمرت قوة الغاصب الأذم
قيل لا بل فريقنا فاز في لعبة القدم
أي سخف مدمر عن فساد الشعوب نم
وإلى أي خيبة هبطت هذه الأمم
ألف مليون أصبحوا كغثاء بشط يم
ومصلى نبيهم بيد اللص يقتسم
أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم
وكسا ثوب عزة كل من بالهدى اعتصم
إن ركنا لعزنا وقنعنا بالنعم
فخطى الخصم ماضيات من القدس للحرم
عندها يندم الجميع يوم لا ينفع الندم
صار عزنا اليوم في المباريات، يقولون: نجم، على أي شيء صار نجماً أو صار بطلاً؟ لأنه غنى أغنية، أو لأنه مثل في مسلسل، حتى صار القدوات اليوم للشباب ليس صلاح الدين، صار القدوات في هذا الزمن إما ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة، أو مغني أو مغنية، أين صلاح الدين؟ أين سعد بن أبي وقاص أول رامٍ في الإسلام؟ أين علي بن أبي طالب أول فدائيٍ في الإسلام؟ أين الشيخان أبو بكر وعمر، أين أولئك الأبطال؟ نسوا إلا ممن رحم الله جل وعلا، صار الشاب الصغير منذ صغره يعلق على فنيلته وعلى ملابسه بعض صور أعداء الله، صور أناس عرفوا بأنهم يتعاطون المخدرات أو ماتوا بتعاطي المخدرات.(35/11)
العقبة الكئود أمام الغرب النصراني
اسمع أيها الأخ العزيز! إلى أحد كبار الوزراء في دولة غريبة نصرانية يقول: إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد الإسلام شيئان.
شيئان هما العقبة الكئود، اللذان يمنعاننا عن الاستقرار في هذه المستعمرات، ما هما؟ هل تظن أنها أعدادنا؟ ألف مليون، هل تظن أنها أموالنا التي تغطي العالم كله؟ هل تظن أنها مناصبنا أو وجاهتنا؟ كل هذا لا يسوى عندهم شيء، انظر ما الذي يصعب الأمر عليهم.
قال: شيئان لا بد من القضاء عليهما: أولهما هذا الكتاب وأشار إلى القرآن، ثم سكت واتجه نحو القبلة وقال: الكعبة، هذان الأمران هما اللذان يمنعاننا من الاستقرار في بلادنا.
بثوا الشبهة، أثاروا الشكوك، صار الشاب المسلم في حيرة من أمره هل صحيح ما يقال: إن الإسلام دين إرهاب، دين تخلف، دين رجعية؟ صار بعض الشباب يتساءل: هل صحيح أنه في يوم من الأيام كان لنا عز؟ هل صحيح أن الإسلام مصدر عزنا؟
بدأ بعض الشباب يتساءلون: هل يصلح القرآن لهذا الزمان؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!
بدأت فتيات يتكلمن ويقلن: إن القرآن لم ينصفنا، والدين قد بخسنا حقنا، فلابد من التحرر، ولابد من نزع الحجاب، وإلقائه، ولابد من تكسير تلك القيود، وهؤلاء مساكين، خرجوا من الحرية إلى العبودية، خرجوا من عبادة رب الأرباب إلى عبادة البشر والدنيا والشهوات، انظر إلى وسائلهم، اتهموا المصلحين والدعاة إلى الله، والعلماء، والمشايخ، قالوا: متطرفين متنطعين، رجعيين، قالوا وقالوا وقالوا: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:52 - 53] سبحان الله، كأن واحداً يوصي الآخر، كأن أمة توصي التي بعدها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.(35/12)
خطورة العلمانية
جاء فرعون إلى موسى عليه السلام قال له: ترجع؟ قال: لا أرجع، قال: أنت مجنون، قال: إن كنتم تعقلون، قال: ماذا تقول؟ قال: قال: أسجنك، قال: اسجني، أتى بالسحرة فإذا بموسى عليه السلام يواجه السحرة، فنصره الله تعالى عليهم.
تشكيك في الدين، بدءوا يزرعون أناس في بلاد المسلمين يكتبون كل شيء باسم الإسلام، أسماءهم: عبد الله وأحمد ومحمد وأسماء الأنبياء والصالحين، كأن الحديث الصحيح بدأ يتمثل الآن: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها) يقولون: نحن نصلي لكن {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] يستهزئ، فإذا جلس قال: أنا أخاف الله، نحن مسلمون ومؤمنون: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205] بل عقدوا مؤتمرات يناقشون فيها هل يصح أن تكون العصمة بيد الرجل؟ لماذا لا تطلق المرأة الرجل؟ هل هذا عدل أن الذكر يأخذ حظ الأنثيين؟ لابد أن نعيد النظر في هذا، قالوا: لا بد أن نعيد النظر في الأسرة، هل يجب أن تكون من رجل وامرأة؟ لمَ لا تكون الأسرة من رجلين؟ أو من امرأتين؟ مؤتمرات تعقد وتنشر في بلاد المسلمين، حتى يشككوا المسلمين في دينهم.
يوم من الأيام كنت أصلي وبعد الصلاة ذهبت فاستقبلني شاب صغير، قال: أين كنت؟ قلت: في الصلاة، وكان يتكلم صادقاً، قال: إلى متى تصلون؟ قلت: له ماذا تقصد؟ قال: يا أخي الناس تطورت، والناس وصلوا الآن القمر، وأنتم إلى الآن تصلون، وكان صريحاً، أراد الخير، أراد أن يخبرني عما وصل إليه في قلبه، قلت: تتكلم بحق؟ قال: نعم، الناس تطورت، وصلت القمر، اكتشفت الذرة، وأنتم لا زلتم تصلون، قلت له: إنا لله وإنا إليه راجعون! كيف أجيبه؟ إذا وصلوا إلى القمر نحن نريد أن نصل إلى الفردوس الأعلى، إذا كانوا فعلوا ما فعلوا فإنهم لم يعلموا حقيقة خلقهم وحياتهم.
وإيليا أبو ماضي، اسمعوا ماذا يقول؟
جئت من أين لا أدري ولكني أتيت
ثم أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت
لست أدري لست أدري لست أدري
لا يدري لماذا يعيش، ولا يدري لما يحيا.
يُسب الرسول ويشتم الدين ويطعن في القرآن، يطعن في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يشكك في الدين، ووصل الأمر إلى بعض جرائد المسلمين، حتى يسهلوا على المسلمين الطعن في دينهم.
هنا رجل يعاقب ويلاحق، ثم الآخر، ثم الثالث، ثم الرابع، حتى يقول المسلمون:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراشٍ ما يصيد(35/13)
حال صغار الصحابة
عبد الرحمن بن عوف في غزوة بدر يقول: وأنا واقف قبل المعركة غمزني شاب فالتفت عن يميني فإذا شاب صغير، قلت له: ماذا تريد؟ قال: يا عم! أين أبو جهل؟ -يريد من؟ يريد أبو جهل، يريد قائد المعركة، يريد سيد القوم، لا يريد أي أحد- قال: وما شأنك وشأنه يا بني؟ قال: يا عم سمعت أنه سب رسول الله، قال: والله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يعني: يا إما أن أموت أنا أو هو يموت، يقول: فعجبت من أمره، فغمزني شاب عن شمالي، فنظرت فإذا هو شاب آخر يقول لي نفس الكلام -اثنين يبحثون عن أبي جهل - يقول: بعد قليل حمي الوطيس واشتدت المعركة، وقلت لهما، وكانا بجانبي، هذا صاحبكما، يقول: والله انقضا عليه كالصقر يضربانه من كل جهة.
أبو جهل الذي عادى الدعوة، فرعون هذه الأمة شابان صغيران ينقضا عليه كل واحد يضربه من جهة، يقول: وما هي إلا لحظات وسقط على الأرض وقتلاه وهرعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هو في الحقيقة لم يمت، وأجهز عليه شاب ثالث هو ابن مسعود كان ينتظر تلك اللحظة المثيرة حتى ارتقى على صدره ابن مسعود فقال له أبو جهل وهو في الرمق الأخير: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم، انظر العزة بالإثم، انظر الكبر حتى عند الموت، قال لمن الدائرة اليوم، انظر حرصهم على نصر باطلهم حتى في الرمق الأخير، من الذي ينتصر الآن؟ قال: لله ورسوله يا عدو الله، فحز رأسه، وجاء الشابان إلى محمد عليه الصلاة والسلام كل واحد يقول: يا رسول الله! أنا قتلته، أنا قتلته، فقال عليه الصلاة والسلام: هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر إلى السيف ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أبشرا أبشرا كلاكما قتله).
الآن لا نريد هذا، نريد أقل من هذا، نريد من يكتب في نصرة دين الله مقالة في جريدة، نريد من يقوم في مسجد يتكلم، نريد أدنى من هذا، نريد من يشتري عشرة أشرطة إيمانية تتحدث عن الصلاة يوزعها في عمله، أو في مدرسته، أو عند جيرانه، نريد شاباً يتبرع بطباعة مصاحف تنشر في أفريقيا، نريد شاباً شجاعاً إذا قام لصلاة الفجر أيقظ إخوانه وأخواته وأمه وأباه، بل طرق الباب على الجيران.
أذكر شاباً صغيراً كان يستيقظ كل يوم قبل أذان الفجر يتجول على البيوت يطرق الأبواب يوقظهم لصلاة الفجر، وربما إلى الآن يفعل هذا الفعل: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13].(35/14)
الشهوات عقبة أمام الشباب
تحديات العصر أكبر وأكبر من هذه الشبهات فقط، تحديات العصر في الشهوات:
الشهوات التي دخلت في كل بيت، النساء، الأغاني، الطرب، الحفلات، الفضائيات وصلت إلى بيوتنا، بالله عليكم هل خلا بيت منها؟ هل خلا بيت من هذه الشهوات، وهذه الملهيات؟ هل خلا شاب من التعرض لها؟
اسمع أيها الأخ الكريم إلى الرب جل في علاه كيف يربينا ويوجهنا! يقول الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] في البيت لوحدك لا يوجد أحد وعندك الجهاز، إنترنت يفتح لك العالم كله، صفحة واحدة بين يديك تتجول على العالم كله في بضع ثوانٍ، ثم بعد هذا ما الذي يمنعك أن تضع تلك الكلمة فتدخل على هذا الباب؟
إنه الخوف من الله، إنها مراقبة الله لا غير، مهما منعت، مهما روقبت، فإنه ليس أعظم من مراقبتك لله جل وعلا، ما الفاصل الذي يجعلك تدخل على برامج القرآن والإسلام، والمقالات الإسلامية وأخبار الإسلام، والأخبار المفيدة والمعلومات النافعة، وبين أن تدخل على الجانب الآخر، ما الذي يمنعك؟ إن لم يكن الخوف من الله جل وعلا.
يقول الله جل وعلا عن يوم القيامة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف:49] يوم القيامة تتطاير الصحف، ووقت تتطاير الصحف تسود وجوه وتبيض وجوه، تخيل الصحيفة تأتيك فيُسهل الله لك مسك الصحيفة باليمين، ومن الناس من يريد أن يأخذها باليمين فتلتف يده وراء ظهره، فإذا التفت وراء ظهره قبض صحيفته بشماله، لا إله إلا الله، يسود الوجه بعد هذا، ويبدأ بالصياح فيفتح صحيفته: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] ترى ذاك اليوم لا يوجد أحد، فتح ذلك الإنترنت ودخل على كل حرام وكل صورة خليعة، مسكين، قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] لا يدري أن الله يراه، يفتح صحيفته يوم القيامة: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} [الكهف:49] كل نظرة، وكل كلمة، وكل لحظة مكتوبة: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
شباب المسلمين الآن مستهدفين بهذه الأجهزة وتلك الفضائيات، ولا يدرون أن الله مطلع عليهم، يفتح قنوات فضائية على صور خليعة، أفلام ماجنة، رقص، طرب، وإذا قلَّب القناة وجد إذاعة قرآن، أو درس ديني، أو برنامج مفيد، تركه ولم يأبه به، سبحان الله! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
بل أكثر من هذا، الآن المسلمون مستقصدون حتى بالمخدرات، انظر إلى مناطقنا التي بفضل الله تتمسك لا زالت بالدين وبالعادات الحسنة، تغرق الآن بالمخدرات، ترسل إليها المخدرات من جميع الدنيا، حتى صار بعض شباب المسلمين أسارى وأي أسارى لتلك الحبوب وهذه الإبر، كم واحد منهم يموت بسوء الخاتمة؟ سلوا المسئولين، سلوا المتخصصين، هل حقاً هناك من يموت بالمخدرات؟ إحصائيات عجيبة في بلاد المسلمين.
رأيت بعيني صوراً لشباب ماتوا بالمخدرات وقد تجمع النمل على أجسادهم؛ وتخيل منظره، وسوء الخاتمة.
بل رأيت أخطر وأكبر من هذا، شاب عندما مات في المخدرات على هيئة سجود، لا ندري سجد لمن؟ الله المستعان، لا ندري هل سجد لشيطانه؟ أو لشهوته أو لغير هذا؟
ثلاثة شباب يسافرون إلى بلاد الكفر، يذهبون إلى المراقص، يشربون الخمر، يعاشرون النساء، لحظة من اللحظات وهم في مرقصهم في لهوهم في الثلث الأخير من الليل سقط أحد الثلاثة على الأرض وهو سكران، جاءه أصحابه يهزونه فإذا هو يحتضر، يا فلان ما الذي يحدث؟ وأحدهم كان في وعيه، قال له: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله، قال: زدني كأس الخمرة، زدني كأس الخمرة، يا فلان يا فلان، ثم مات، رجع اثنان إلى بلدهم ومعهم الثالث في تابوت، إنا لله وإنا إليه راجعون، شهوات يغرق بها المسلمون.
أما تخاف يا أخي الكريم، أما تخاف أن تقول في اللحظة الأخيرة، مرة أفعلها وأتوب إلى الله، ما يدريك لعل خاتمتك تكون في هذه اللحظة.
الله جل وعلا يأتي بالناس في يوم القيامة فيأتي بالعبد فيقول له: عبدي ماذا فعلت؟ يقول: يا رب لم أفعل شيئاً في الدنيا؛ أصلي وأصوم وأذكرك، ولا يذكر السيئات ويذكر الحسنات، فتأتي الملائكة تشهد عليه؛ لأن معك ملائكة لا يفارقونك، تأتي الملائكة تشهد، ويأتي الصالحون يشهدون: يا رب نصحناه لكنه لم ينصح، يا رب علمناه فلم يتعلم.
فيقول بعد هذا: ربي لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، فيقول الرب جل وعلا: لك ذاك، فيختم الله على فمه ويبدأ الجلد فيتكلم، واليدان فيتكلمان والرجلان يتكلمان: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [يس:65].
في أمريكا طائفة يسمونها المورمن يخبرني أحد الدكاترة، يقول: إن هذه الطائفة إذا بلغ الشاب سن الرشد، لزم إلزاماً دينياً أن يؤخذ من أهله سنتين، يذهب فيها إلى معسكرات للتربية، يربونه، يترك كل شهوات الدنيا وملذات الدنيا، سنتين كاملتين، لا يحق له أن يتصل بأهله إلا في كل بضعة أيام مرة وزمن محدد، لا وأكبر من هذا أن هذين السنتين كلها على حساب أهله، سفر، وإقامة، وأكل وشرب كله على حساب الأهل، هذا واجب ديني عندهم، سنتين لأجل دينهم فأين شباب المسلمين؟ أين رجال المسلمين؟ الواحد بعض المرات ولده يقول: أريد أن أذهب إلى العمرة؟
أما الفضائيات وما أدراك ما الذي تحدثه في هذا الزمن؟ إنها تنخر الدين نخراً، حتى يصبح الرجل ليس له من الدين إلا الظاهر، بل أعلم عن أناس بسببها انتكسوا وتركوا حتى الصلاة، الفضائيات فيها خير وشر كثير، ولكن من الذي ينتقي الخير ويترك الشر؟! كن صادقاً مع نفسك، وكن مراقباً لله جل وعلا.(35/15)
هذا حال السلف مع ذكر الله
الإمام أحمد جالس في درس، دخل عليه أحد الشعراء فأخبره بشعر، ثم ذهب، فقام الإمام أحمد من المجلس وأغلق على نفسه الباب، والطلبة ينتظرون فلم يخرج الإمام أحمد، فذهبوا إلى الغرفة فإذا الإمام أحمد يبكي لما ورد في الشعر، وأخذ يردده ويبكي، ما هو هذا الشعر؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
هذا حال الإمام أحمد، فكيف بالذي يجلس أمام النساء ويكلمهن، ووقته مع الفضائيات، والأفلام الخليعة، ويفعل ويفعل، وسيارته امتلأت بأشرطة الأغاني والطرب، وإن سألته من أحب الناس إليك؟ قال: الممثلة الفلانية، والمطربة الفلانية، ولا يدري المسكين أن المرء يحشر مع من أحب، تريد أن تحشر مع من؟ مع محمد عليه الصلاة والسلام، مع إبراهيم وموسى وعيسى، مع أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة بن عبيد الله وبلال، أم مع تلك المغنية الساقطة، أو الراقصة الفاجرة، أو الممثلة الخليعة، تريد أن تحشر مع من؟ أجب على نفسك بهذا السؤال، أجب وكن صادقاً مع نفسك: (يحشر المرء مع من أحب).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) حديث صحيح، وأكثر ما يدخل الناس النار هو الفم والفرج، إذاً اتق الله وانتبه.
يقول أحد اليهود، وكان صادقاً في هذه الكلمات: نحن اليهود لسنا إلا سادت العالم ومفسديه ومحركي الفتن فيه وجلّابيه.
هل كذب في هذا العصر؟ والله صدق، هم يسوسون العالم طبعاً بأمر الله، نعم كتبت عليهم الذلة إلا بحبل من الله وحبل من الناس، هم الذين تركوهم يفعلون هذا الأمر، قال: ومحركي الفتن.
تظنون هذه أكثر الفضائيات الخليعة، ووسائل الدمار في الإنترنت، وبعض المخدرات التي تبث في العالم، تظنون من وراء هذا كله؟ لو رجعت لوجدت الأمر أو المصدر الأساسي اليهود في العالم كله، يغرقون المسلمين بهذا.
وأسامة بن زيد هذا الشاب عمره سبعة عشر عاماً يقود جيشاً فيه أبو بكر وعمر، أين شباب المسلمين في هذا الزمن؟ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
رأيت في أفلام عن البوسنة شباباً أعمارهم أقل من العشرين سنة والله رأيت أحدهم في الفيلم المصور مقتول يدفن وهو مبتسم، ووالله أنت لمّا ترى هذا المشهد تدمع عينك وتأسف على حالك، وتقول: والله فازوا.
هذا عبد الله بن حرام يطعن، ثم أخذ الدم ومسح به على وجهه، وقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ثم يموت.
انظروا إلى الأوائل وانظروا إلينا، أولئك يموتون لنصر دين الله، وهؤلاء يموتون في إبرة مخدر، قال الله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
من وسائل الحرب على الشباب والشابات في هذا الزمن: أن يؤثر الناس على المسلمين في الحضارات الغربية، حتى صوروا الحضارة الغربية ألا عيب فيها، ولا شيء سيئ في هذه الحضارات، حتى صار الشباب اليوم يتأثرون بالملابس وباللغة، يتكلمون كلمات ليست إسلامية، سلامهم وتحيتهم ليست إسلامية، ملابسهم تغيرت، شعورهم تغيرت، أحاديثهم تغيرت، مجالسهم تغيرت، ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ تأثروا بالحضارات الغربية: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51].
بعضهم يفتخر: أنا ولدي يدرس في مدرسة إنجليزية، يفتخر ويعرف أنه اختلاط، وتضييع هوية الولد، ويحتفلون بأعياد النصارى وبرأس السنة، بل يضعون الصليب على بعض احتفالاتهم، يفتخر: أنا ولدي يدرس في مدرسة إنجليزية، أو يفتخر لأنه يقيم في بلاد الكفر، يفتخر لأن لهجته الآن ليست عربية، يفتخر أنه يتعلم لغات ليست لغات عربية وإسلامية.(35/16)
قصة الغلام مع أبي قدامة
آخر قصة: قصة غلام سمع رجلاً يحث على الجهاد في سبيل الله، فلما انتهى من الخطبة قال: يا شيخ! أريد الجهاد، قال: أنت صغير، قال: والله لتحملني معك، أقسم بالله لتأخذني للجهاد معك، فأجابه وأردفه على دابته وسار، وقبل أن يسير جاءته امرأة وقالت: يا شيخ ليس عندي شيء أتبرع فيه إلا هذا الظرف، فلما فتح الظرف وجد فيه ظفيرة المرأة؛ شعرها، لا تملك من الدنيا إلا شعرها، وليس عندها مال، تقول: وكتبت له رسالة، أسألك أن تجعل ظفيرتيَّ رباطاً لفرسك.
هل عند المرأة شيء أغلى من شعرها، قطعت الشعر ليجعل رباطاً للفرس، ذهب الشيخ ومعه الغلام الصغير، أثناء المعركة بدأت المعركة وبداءوا يترامون بالسهام والنبال، قال الغلام للشيخ: يا شيخ! أعطني السهام، قال: أنت صغير، قال: أعطني، فأعطاه ثلاثة أسهم، فرمى بالسهم الأول وقال: بسم الله فرمى نصرانياً وقتله، وكذا الثاني والثالث، ولما اشتدت المعركة رمي الغلام بسهم فأصيب، وسقط من أعلى الدابة، ونزل الشيخ ينظر إلى الغلام، وهو الآن يحتضر والدم يسيل منه، فقال له: أتريد شيئاً؟ قال: نعم، أبلغ سلامي على أمي وأخبرها بخبري، قال الشيخ للغلام: يا غلام وما أدراني من هي أمك؟ قال: أمي صاحبة الظفيرتين -أرأيت إلى أمهات ذلك الزمن، ابنها وشعرها- قال الشيخ للغلام: يا غلام أذكرك العهد الذي بيني وبينك، ومات الغلام، فلما رجع الشيخ إلى البلد، طرق الباب، وفتحت أخت الغلام، قالت: أتبشرنا، قال: نعم أبشركم بموت ولدكم، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! مات أبي فاحتسبناه عند الله، وقتل أخي الكبير فاحتسبناه عند الله، والآن يموت أخي الصغير ونحتسبه عند الله.
دين الله جل وعلا يحتاج إلى أولئك الذين يتنبهون لدينهم، ويحفظون دينهم وينشرونه في الآفاق، فماذا صنعنا لهذا الدين؟
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما تكلمنا وذكرناه في هذا الدرس، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأشكر في النهاية النادي العلمي القطري على هذا المجهود الكبير الذي أرجو من الله عز وجل أن تحذو جميع النوادي حذوهم وجزاهم الله كل خير.(35/17)
اليوم الآخر وأقوال الكافرين
الموت هو الحد الفاصل بين الدنيا والآخرة، يأتي بغتة فيدرك الإنسان على أحد حالين: إما طائع لربه منهمك في هذه الطاعة، أو على معصية وسهو وغفلة، وحين تبدأ مشاهد الآخرة لا يستوي هذا وذاك، فشتان بين المسلمين والمجرمين.
وهنا عرضٌ لمصير الروح الخبيثة، ورحلتها من الدنيا ومعاصيها، مروراً بالقبر والبرزخ، حتى الوقوف بين يدي الله، ولكل مرحلة عذابها الخاص.
وتختتم هذه المادة -بعد بيان بعض أوصاف النار- بدعوة إلى التوبة وبيان لشروطها.(36/1)
اليوم الآخر وكيف يستعد الناس له
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
اليوم الآخر كلمة طويلة عريضة، من اسمه يتبين أنه لا يوم بعده، وتبدأ أول مشاهد هذا اليوم بحادثة مثل هذه الحوادث، فاستمع إليها يرحمك الله.
قد يبدأ هذا الرجل يومه وهو على الفراش طريحاً، وقد أحس بالروح تخرج، ولعله بدأ يحس بالنزع، وهذا هو النزع الأخير، ولربما تكون زوجته بجنبه وأولاده عنده، ولربما بكت البنت وسقطت على حضنه فقالت: أبي! ما لك لا تجيب؟!
ولعل زوجته تنوح! وأبوه ينادي بالطبيب! وأخوه يناديه! ولعل الطبيب قد جاء وحاول أن يرجع الروح إلى صاحبها؛ ولكن، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:26 - 28] أي: تيقن أنه الفراق، فراق المنصب، فراق الدنيا، فراق السيارة، فراق الزوجة، فراق الأهل، فراق الأولاد والأحباب، فراق البيت والأثاث، فراق الأصحاب، فراق الدنيا بمن فيها.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] ثم لما مات وخرجت الروح من صاحبها ومن الجسد حُمِل على الأكتاف ولُفَّ في الكفن: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] هنا تبدأ أول مشاهد اليوم الآخر، ولعل هذه ميتة حسنة.(36/2)
نموذج للخاتمة السيئة
اسمع إلى تلك الميتة التي بدأ فيها ذلك الإنسان يومه الآخر بأسوأ ما يكون، واسمع إليها وما ندري كيف تكون نهايتنا!
هذا رجل أجلكم الله كان في هذه البلاد لا يحصل على ما يريد، سافر إلى دولة إباحية تعطيه كل ما يشتهي؛ فذهب إلى أحد الفنادق، فحجز له غرفة، ثم طلب زجاجات الخمر أم الخبائث والفواحش، الخمر الرجس النجس، ذلك المشروب الذي حرمه الله جل وعلا.
فطلب تلك الزجاجات فأخذ يشرب ثم يشرب ثم يشرب بعد حرمان طويل، حتى جاء غرفة دورة المياه -أجلكم الله- ليخرج ما شربه بعد أن أحس بالغثيان والإعياء، وبعد يومين أو ثلاثة طرقوا عليه الباب فلم يفتح، كسروا عليه الباب وفتحوا، فإذا رأسه -أجلكم الله- في مصرف المجاري، وقد زهقت نفسه قبل ثلاثة أيام، وأنتن جسده، ورأسه في مصرف المجاري، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت} [المؤمنون:100] يا رب، يا رب ساعة فقط، يا رب ساعتين فقط، أصلي جميع الصلوات التي فاتت، أُرْجِع الأموال التي أخذتها من الناس ظلماً إلى أهلها، أتوب من جميع الذنوب والمعاصي، يا رب ساعة واحدة فقط، فيرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] يعني: كلمة يقولها دائماً طول عمره؛ لكنه كاذب فيها، يذكر هذا الرجل لما أصيب بمصيبة بكى فقال: يا رب لئن كشفت هذه المصيبة لأتوبن ولأصلين ولألتزمن بدينك، لكن لما انكشفت المصيبة رجع كما كان، أراد أن يُفْضَح، رجع إلى ربه وتوسل إليه: يا رب يا رب! لئن سترت علي لأفعلن وأفعلن، ستر الله عليه فرجع إلى حاله السابق، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(36/3)
نموذج للخاتمة الحسنة
رجل أصيب بمرض شديد، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا له: يا أبتاه! أنت رجل مريض وقد عذرك الله، صلِّ في البيت، قال: لا إله إلا الله، أسمع حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح ولا أجيب! احملوني إلى المسجد، فحملوه إلى بيت الله جل وعلا وهو رجل كبير في السن، وأوقف في الصف، فلما كان في السجدة الأخيرة قاموا من الصلاة فِإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، وقد ختم الله له جل وعلا بسجود بين يديه، هل يستوي هذا وذاك {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154] هل يجعل الله ذلك الذي يُبعث وهو ساجد، وذلك الذي يُبعث وهو مُلَبٍّ، وذلك الذي يُبعث وهو صائم، وذلك الذي يُبعث وهو يطيع ربه يقرأ القرآن، هو والذي يُبعث هو بين يديها، أو عند فرجها أجلكم الله، أو يُبعث وهو سكران يشرب الخمر، أو يُبعث وهو تارك للصلاة، هل يستوي هذا وذاك؟!
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] نعم.
هم في الدنيا سواء؛ هذا على كرسي بجنب هذا، ويحصل على المال مثل هذا، نعم: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ولكن اليوم الآخر هو الفصل هو الموعد وهو الذي يفرق الله فيه بين الناس.(36/4)
مصير الروح الخبيثة
يبدأ ذلك اليوم كما أخبرناكم بذلك المشهد الكئيب، ولعله يكون ما يتدارك نفسه بحادث سيارة، ولعله يكون وهو نائم مسكين ولا يشعر، ينام فإذا هي النومة الأخيرة لا يستيقظ بعدها، ما أدرك نفسه وما تداركها، وكان دائماً يقال له: تب يا فلان! استقم يا فلان! صل، الصلاة عمود الإسلام، يقول: إن شاء الله من الغد، إن شاء الله من رمضان القادم بعد رمضان، إن شاء الله من الحج، بعد الحج إن شاء الله، بعد الزواج إن شاء الله، لما أفعل وأفعل، فإذا به لا يتدارك نفسه إلا وملك الموت عند رأسه، فيقول لها والناس من حولها يبكون: يا أيتها النفس الخبيثة؛ اخرجي إلى سخط من الله وغضب.
كيف تخرج؟! الروح تتفرق في الجسد ولا تستطيع الخروج، لا تتحمل الخروج، كيف تخرج إلى سخط من الله وغضب؟! فيبدأ ملك الموت ينزع: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2] تنشط الروح وتتوزع في الجسد، وملك الموت ينزع كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، تعرف كيف ينزع الروح؟ ينزعها بقوة حتى تتقطع العروق والمفاصل، ألم ترَ رجلاً يحتضر؟ ألم تر بعضهم كيف يصرخ؟ ألم تسمع بهم كيف ينوحون؟ إن بعضهم يتغير لون وجهه، يزرقُّ وتزرقُّ عينه من شدة الألم والتعب، لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات لا يشعر الإنسان عندها بمن حوله.
ينزع تلك الروح؛ فإذا نزعت كانت كأنتن ريح وجدت على وجه هذه الأرض، رائحة والله لو شمها من حوله لما استطاع أن يقف بجانبه، كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، أين ذلك الوجه الجميل؟! أين تلك الرائحة العطرة؟! أين ذلك الشكل الحسن؟! كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، يحملها ملك الموت، أتعرف أخي الكريم أن هذا الرجل وهو على الفراش يرى ملائكةً مد البصر؟ يرى وجوه ملائكة العذاب مد بصره قبل أن تخرج الروح، عرف المصير، وعرف أين هو المستقر، يأخذ الملائكة الروح كل ملك يدفعها إلى مَن بعده؛ لا يريد أحدهم أن يوصلها إلى السماء، فلما تأتي إلى السماء الدنيا، تسألهم ملائكة السماء: روحُ مَن هذه الخبيثة فيقولون: روح فلان بن فلان بأقبح اسم له على وجه الأرض، ثم لا تفتح لهم أبواب السماء: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] نعوذ بالله.
أخي الكريم! سل الله العافية، إذا لم تفتح لك أبواب السماء فإنه لا جنة بعدها {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] أين يذهب بها؟ تقذف من السماء إلى الأرض، والأمر حقيقة لا جدال فيها {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] لا تتحمل أن تسقط من أعلى بناية، فكيف لو تسقط من السماء الدنيا، تطرح روحه إلى الأرض طرحاً تقذف من السماء.
عبد الله أتعرف أين تأتي هذه الروح؟ تأتي وقد حملت على الأكتاف وهي تصيح وتقول لمن يحملها على الأكتاف: يا ويلها! أين تذهبون بها؟! {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32] ماذا يتذكر في الدنيا؟! لياليه أين قضاها؟! أيامه هل كان يستيقظ على صلاة الفجر أم على ذكرها وحبها؟! هل كان يذكر بلسانه الله جل وعلا؟! أم كان في الأغاني وكان في الأفلام والمطربين والمطربات؟! ماذا كان يقرأ؟! هل كتاب الله أم المجلات الخليعة الماجنة؟! ماذا كان يسمع؟! هل ذكر الله والكلام العطر والطيب النزيه، أم كان يسمع ويتكلم في أعراض الناس وكان يتكلم بالفحش والبذاءة؟!(36/5)
فتنة القبر والسؤال فيه
عبد الله! هو على الأكتاف الآن محمول، فما أن توضع روحه في تلك الحفرة المظلمة الضيقة التي لا يستطيع أحدنا أن يتحمل منظرها إلا وعينه قد فتحت، وزال القطن من على عينيه، وأصبح يسمع الناس فوق القبر، قد دفنوه ولربما يرشون الماء الآن على قبره، ولربما الآن كل واحد منهم يعزي جاره وأخاه، يستمع إليهم والأقدام تمشي على القبر، يستمع إلى قرع نعالهم، فيُجلس في قبره، أتعرف من يجلسه؟ ملكان أسودان أزرقان، ينتهرانه، يدفعانه ويجلسانه في تلك الحفرة الضيقة، كيف؟
إن المؤمن الذي يؤمن بالغيب يؤمن بكل هذا، ولو حفرنا ما وجدنا هذا كله، ولكنه غيب في علم الله جل وعلا يحدث حقيقة، يُجلس فيقال له: مَن ربك؟ من شدة الخوف يقول: هاه هاه لا أدري، كان يعرفه في الدنيا لكن نسي.
ما دينك؟ هاه هاه لا أدري.
ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ هاه هاه لا أدري.
ما كان يعرف شيئاً عن الإسلام، ما كان يلتزم بحدوده ولا يأتمر بأوامره، سنته عليه الصلاة والسلام كان يستهزئ بها، كيف يجيب؟! أم كيف يقول أنه هو محمد رسول الله وهو كان لا يدري عنه شيئاً؟!
يقول: هاه هاه لا أدري.
فيقول الملك له: هو محمد رسول الله فأجب بها فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، كنت أسمع أهل المساجد، كنت أسمع أهل الدين، كنت أسمع الصالحين الذين يلتزمون على الأقل بالصلوات الخمس يقولون: هو محمد رسول الله، كنت أقول مثلهم، أما في قلبي فلا شيء، فإذا به يسمع صوت مناد ينادي: أن كذب عبدي، -نتيجة الاختبار الأول- أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيؤتى بمطرقة
عبد الله! الأمر حقيقة، وما ندري لعلها لحظات ويبدأ هذا اليوم، وما ندري لعلنا لا نرى الشمس تغرب علينا.
عبد الله! فيؤتى بمطرقة يضرب بها رأسه، لو ضرب بهذه المطرقة جبل لصار تراباً، ثم يعاد الجسد مرة أخرى، ثم يضرب بالمطرقة مرة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا، حتى جاء في الحديث: (أن حماراً أو بغلة مرت على قبر فإذا بها تحيد وتفر من القبر فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أنها تسمع أهل القبر يعذبون) ولو سمعها الجن والإنس لما دفنوا موتاهم.
عبد الله! يصيح صيحة يسمعه كل من حول القبر، ثم بعدها يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى قصرك انظر إلى الأنهار انظر إلى الحور العين انظر إلى هذه الأشجار والثمار انظر إلى هذا النعيم هذا لك لو أطعت الله لو قضيت هذه الخمسين سنة أو الستين سنة القليلة التي لا تساوي شيئاً في طاعة الله لكان هذا لك، فيُغلق الباب، ثم يُفتح له باب إلى نار تلظى {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أتعرف ماذا يحدث للإنسان؟! الحر يفصل اللحم عن العظم عن الجلد فكيف بنارها؟! {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:16 - 17] تدعو من يذكر بالله فيُدبر، ومن يجمع المال فيتولى، تدعوه وتناديه وتقول: هل من مزيد؟ فإذا بريح النار وإذا بسموم النار وإذا بعذاب النار يأتيه وهو في القبر.
ثم بعدها يرى رجلاً قبيح المنظر، منتن الريح، قبيح الثياب فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، أنا ترك الصلاة، أنا فلانة التي كنت تتصل بها، أنا ذلك المنكر الذي تشربه، أنا تلك الليالي الحمراء، أنا تلك السفرات الفاضحة، أنا تلك الليالي الفاسدة، أنا هذه المعاصي التي كنت تفعلها، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً لطاعة الله
فلان عندنا درس بطيء!
يا فلان! تعال صلِّ، يصلي لكن ببطء، فلان نقرأ القرآن، يأتي ولكن بثقل.
سريعاً في معصية الله.
سمع بسفرة، بسهرة، بأغنية، بطرب، بممثلة، بداعرة يأتي بسرعة ولا يتأخر، سريعاً في معصية الله.
إذا به ينظر إليه فيقول: رب لا تقم الساعة، رب أكون في هذا المكان في الحفرة الضيقة المظلمة مع هذا الذي هو منتن الريح والوجه، أكون معه ولا تُقِم الساعة، أتعرف لمه؟ لأن الساعة أدهى وأمر.(36/6)
حال صاحب الروح الخبيثة عند البعث
وبعد سنين طويلة يسمع بصيحة ما هذه الصيحة؟ كأنه قد سمع بها من قبل، وكأنه قد وُعِد بها، إذا به يرى القبر يُفتح فوقه، ويرى الناس يخرجون من تحته فيخرج ينفُض الغبار عن جسده، أتعرف إلى أين؟ يرى السماء تنفطر، والأرض تتزلزل، والجبال تدك والبحر يحترق، والوحوش تحشر، و {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم الصالحون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج فإذا الناس يخرجون من تحته، من عهد آدم إلى آخر إنسان تخيل كم عددهم، بل ما شكلهم؟ كالجراد المنتشر، أما الجبال {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل:88] البحار من عظمها تُفجر وتحترق والأرض من تحته تزلزل، إلى أين يذهب؟ {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:11 - 13] يقفون على أرض بيضاء عفراء -يعني: تميل إلى الحمرة- كقرطاس نقي، مستوية مستقيمة، ليس فيها علم لأحد، لا يوجد أحد مرتفع على الثاني، أتعرف ما أشكالهم؟ حفاة عراة، غرلاً غير مختونين، بل كما خلقهم الله، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] كلهم على أرض واحدة ينتظرون الحساب، وطالت المدة والشمس على الرءوس قدر ميل، ثلاثة أيام؟ أسبوع؟ مللنا الانتظار شهر؟ شهران؟ سنة؟ سنتان؟ {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] خمسون ألف سنة والناس وقوف، يا مسكين! أراد الله منك خمسين أو ستين سنة، فأبيت إلا أن تقف تحت الشمس خمسين ألف سنة، عبد الله! الأمر ليس بالهزل والله ليمل الناس من أول سنة بل من أول يوم ولكنهم يقفون على الأقدام حفاة، والرءوس تصطلي بحر نار الشمس، ومع هذا يقفون خمسين ألف سنة لا مراء في هذا ولا شك، والعرق يتصبب، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق، تعرف ما معنى يلجمه؟ يصل عرقه إلى فمه إلى موضع اللجام من الفرس، ولا مغيث ولا نصير.
أما الصالحون فهل تظنهم تحت الشمس؟ لا والله، الصالحون تحت ظل عرش الرحمن يقفون، ولكن كما بين صلاة الظهر والعصر فقط، ويأتيهم من الهواء البارد الكريم، يكفيك أنهم تحت ظل عرش الرحمن جل وعلا؛ في كنفه يقفون، وهؤلاء الضُّلاَّل الفسقة الفجرة الذين ما سجدت وجوههم لله جل وعلا، وما استقاموا على أمره جل وعلا تحت حر الشمس خمسين ألف سنة؟
ثم ماذا؟ أيموتون؟
لو كان الموت لكان خيراً لهم، يأتي الرب جل وعلا لفصل القضاء بعد خمسين ألف سنة، فيسمعون صوتاً، ما هذا الصوت؟ إنه صوت السلاسل وصوت الأحزمة، وصوت الملائكة، بل إنه صوت جهنم تُجَر، لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك واضرب: (70.000 × 70.000) لتعرف عدد الملائكة التي تجر جهنم، يرونها من مكان بعيد بعيد جداً يرون جهنماً، إذا رأوها خر الناس كلهم، ومنهم الصالحون والأنبياء يجثون على الركب {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] حتى الأنبياء يجثون على الركب يقولون: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم سلِّم سلِّم، يقول الله للناس: انظروا أبصروا هل هذه النار التي كنتم تظنونها هزلاً؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] هل هذا سحر؟ هل هذا هزل؟ هل هذا ضحك كما كنتم تضحكون في الدنيا وتلعبون؟ انظروا! الناس كلهم يجثون على الركب.
في فانتبه -عبد الله- وتذكر هذا الكلام {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44] وسوف يأتي الأمر حقاً، وسوف تذكر هذا المجلس في تلك اللحظة حين يمر عليك شريط الحياة؛ تتذكر الدنيا كلها، تتذكر فلانة، وفلاناً، وتلك الليلة وذلك الفيلم، وذلك الشريط، وتتذكر يوم كنت تنام عن الصلاة، وتتذكر يوم كان يأتيك ذلك الرجل الصالح يذكرك وكنت تأبى، وينصحك وكنت تضحك، ويناديك وكنت تدبر، تتذكر هذه الأيام وتلك الليالي لحظة لحظة {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ماذا تنفعه الذكرى؟ يبكي وينادي: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني قدمت لهذا اليوم! يا ليتني عملت لهذا اليوم! يا ليتني صليت على الأقل خمس صلوات في بيت الله، أنجو بها من النار! يا ليتني! ويا ليتني! ولكن {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] هذا هو يوم الحسرة يُبكَى فيه، حتى الصالحون يبكون على ساعة ما قضوها في طاعة الله، حتى الأنبياء والرسل يتحسرون على لحظة ما قضوها في طاعة الله.(36/7)
ساعة الفصل والحساب
ثم يبدأ الفصل والحساب: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202] يحاسب الناس جميعاً في لحظة واحدة من آدم إلى آخر البشر {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] فينادي باسمك أين فلان بن فلان؟ وارتعدت الفرائص واضطربت الجوارح، وما عادت الرجل تحمل صاحبها، وإذا به يبكي! وإذا به يريد الفرار! وإذا به يريد النجاة! والملائكة تسوقه إلى الرب جل وعلا سوقاً، لا يستطيع أن يمشي على قدميه، فيوقف بين يدي الرب جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] تخرج وتُفضح ذلك يوم الخزي، فيقول له الرب جل وعلا؛ وتخيل أخي الكريم أنك أنت في هذا الموقف، يقول لك الرب: عبدي عبدي! ألَمْ أصَحِّ لك الجسد، ألم أسقك من الماء البارد، ألم أنعم عليك بكذا وبكذا وبكذا وبكذا يعدِّد لك النعم طوال الحياة، فتقر، ثم يقول لك الرب جل وعلا: عبدي عبدي! ما الذي جرأك علي؟ أتذكر هذا الذنب؟ أتذكر هذه الجريمة؟ عبدي تظن أني لا أرى؟ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ثم يقول له: يا رب ما فعلت؟ يكذب على ربه جل وعلا، مسكين مسكين لا زال في جرأته وعناده وكبره، يقول: يا رب ما فعلت شيئاً، يا رب هذا كله كذب يا رب ما فعلت، فتأتي الشهود، الملائكة تشهد، والصالحون يشهدون، إنه في اليوم الفلاني أعطيته هذا الشريط لكنه رماه، رب في اليوم الفلاني طرقت عليه الباب ونصحته لكنه ضحك عليّ، رب في اليوم الفلاني عملتُ له محاضرة وذكرته ونصحته ولكنه استمر على حاله، كل الناس يشهدون عليه، والملائكة تشهد، فيقول: رب لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، يا رب أنت العدل كيف تأتي بشهود وأنا لا أقبل إلا شاهداً من نفسي! فيقول له الرب جل وعلا: لك ذلك، لا يشهد عليك أحد إلا نفسك، فإذا بالفم يُختم عليه وإذا باليد تنطق والجلود تتكلم والفخذ تنطق والخدان ينطقان وإذا به {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:65] تتكلم: يا رب في اليوم الفلاني لامس فلانة بالحرام، وفتح ذلك الفيلم على الحرام، وكتب تلك الرسالة، وفتح هذه المجلة، وقبض هذه الرشوة، وضرب فلاناً، وبطش، وفعل.
نعم.
تتكلم اليد، والرِّجل: يا رب ذهب إلى المكان الفلاني والفلاني ينظر إلى الجلود تنطق: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].
ثم بعد هذا يعلم أنه لا نجاة ولا محيص ولا فرار من الله جل وعلا فينادي الرب جل وعلا الملائكة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: اربطوه بالسلاسل {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] يؤتى بسلسلة أتعرف ما حجم هذه السلسلة؟ كل حديدة بقدر حديد الدنيا كله، سبعون ذراعاً، ليس من أذرع الناس، من أذرع الملائكة، يُدخل من منخره، فيخرُج من دبره ثم يلف بالسلاسل ويسحب على وجهه إلى جهنم {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14] إذا به أول ما يأتيها تفتَّح أبوابُها أتعرف ماذا يرى فيها؟ يرى أصحابه في الدنيا قد سبقوه، يرى فلاناً الذي كان يدعوه إلى تلك الأماكن الفاسدة، يرى صاحبه الذي كان يصده عن الصلاة كلما أراد التوبة ويقول له: أتريد أن تتعقد؟ أتريد أن تتزمت؟ يا فلان عندنا فلانة، عندنا سهرة، عندنا فيلم، عندنا سَفْرة، عندنا كذا وكذا، يا فلان لا يضحكوا عليك، كلما أراد التوبة صده ورده فيراه قد سبقه إلى النار {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38].(36/8)
بعض أوصاف النار
عبد الله! لا أريد في هذه الدقائق أن أبخس وصف النار، النار وصفها لا نتحمله، بل كان بعض السلف إذا سمع وصفاً واحداً من النار بكى وخر على الأرض صريعاً.
عبد الله! يكفي أن تعلم أن النار قبل أن يدخلها أهل النار أعاذنا الله وإياكم منها الشرارة الواحدة التي تتطاير منها بحجم القصر، شرارة نار الدنيا لو تقع عليك فلن تؤثر فيك إحراقاً، أما شرارة نار جهنم فبحجم القصر الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33].
عبد الله! نار جهنم إذا علمت عن بعض أوصافها لا تنام الليل: [عجبتُ للنار كيف نام هاربها! وعجبت للجنة كيف نام طالبها!].
عبد الله! أهل النار يجوعون حتى أنهم من شدة الجوع الذي يعادل عذاب النار في جهنم، يأكلون الضريع؛ أتعرف ما هو الضريع؟ شوك ينبت في جهنم يأكله أهلها، فإذا أكلوا هذا الشوك وقف في حلوقهم، لا يبتلعونه ولا يخرجونه، فتغص الحلوق، يريدون أن يشربوا الماء فيستغيثون ربهم جل وعلا: يا رب الماء! يا رب الماء، يا رب الماء، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ} [الكهف:29] انظر رحمة الله! يعطون الماء يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش وتلك الغصة، فتسقط فروة الرأس من شدة حر الماء، {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشوي وجهه قبل أن يشربه، أتعرف إذا شربه ماذا يحصل له؟ تتقطع الأمعاء وتخرج من الدبر من شدة حره: {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] لا يطاق من شدة حره، بل لا يستطيع أحدهم أن يشربه؛ لكن يشربه من شدة الجوع والعطش.
يرون الزواني في النار يخرج من فروجهن صديد وقيح ونتن -أجلكم الله- فإذا خرج من فروجهن تسابق أهل النار إليه ليأكلوه من شدة الجوع: {كَلا إنَّها لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] تتشقق الجلود فيخرج منها الصديد {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] نار من فوقهم ونار من تحتهم، يلتحفون النار ويفترشون النار، بل يأكلون في بطونهم النار: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174].
عبد الله! في ذلك العذاب والحميم ينادون فيقال لهم: يا أهل النار! يرفعون الرءوس ويفرحون، ويظنون أنهم سوف يخرجون منها، أتعرفون من هذا؟ فإذا بكبش أملح يقولون: نعم، إنه الموت نعرفه، مررنا عليه ورأيناه فيذبح بين الجنة والنار، فيقال لأهل النار: خلود فلا موت، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، عبد الله! أتعرف ما معنى خلود فلا موت؟ مليون سنة؟ مليونان؟ عشرة ملايين؟ مائة مليون سنة في هذه النار؟ خلود فلا موت: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
عبد الله! والله لو كان مصيرهم الموت لكان أعظم نعيم، لكن ينادُون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يجيبهم بعد آلاف السنين: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] قرئ عليكم القرآن وذُكِّرتم ووُعِظتم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].
عبد الله! أتعرف مصير مَن هذا الخلود في جهنم؟ مصير الكفرة الملاحدة، ومِن بينهم تاركو الصلاة (إن بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة)، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أول جريمة أوردتهم سقر {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43].
عبد الله! هذا مصير صنف من الناس، ولعله إن شاء الله سوف يكون بيننا وبينكم في يوم من الأيام القادمة بإذنه جل وعلا حديث عن مصير الصالحين، وأهل الذكر والطهر والعفاف، الذين هم في الدنيا من أهل السعادة وفي الآخرة من أهل النعيم، سوف يكون إن شاء الله بيننا وبينكم لقاء، حتى يتشوق الإنسان إلى مصيرهم وإلى حياتهم الكريمة السرمدية الأبدية.(36/9)
دعوة إلى التوبة
عبد الله! في الختام أدعوك لأمر واحد: أن تبكي هذه العين على تلك الذنوب والمعاصي، أن تفكر ماذا أسلفت وماذا قدمت {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
واعلم يا عبد الله أن الموت يأتي بغتة، وأن شروط التوبة ثلاثة:-
أولا: ً الندم على ما مضى.
ثانيها: العزم على ألا تعود إلى تلك الذنوب والمعاصي.
ثالثها: أن تقطع الصور، وأن تحرق تلك الأفلام الخليعة، وتفارق تلك المجالس النتنة، وتبتعد عن أهل السوء، وأهل الفسق والفجور، وتلتحق بركب الصالحين.
واعلم يا عبد الله أن الله جل وعلا يعينك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن تاب تاب الله عليه، لعلها دمعة يمسح الله بها جميع الذنوب والمعاصي، وتبدأ بينك وبين الله صفحة جديدة.
أسال الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ويثبت أقدامنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/10)
الأسئلة(36/11)
سجن بولس
السؤال
يسأل سائل ويقول: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، يا شيخ هناك في جهنم سجن -وقد أوردت اسم هذا السجن ولكن للأسف ليست الكلمة واضحةٌ- وقد رواه الإمام أحمد في كتاب الفتن والملاحم لـ ابن كثير؟
الجواب
هذا السجن يسمى سجن بولس، وهو حديث صحيح، رواه الإمام أحمد، وذكره الألباني في الصحيحة، وهو أحد السجون في جهنم، ولجهنم أوصاف لم تذكر، وأمور فوق الخيال وفوق التصور، ومهما وصفنا وتخيلنا فهو أعظم بكثير جداً، بل لا تستطيع أن تتخيل: نار أشد من نار الدنيا بسبعين مرة، بل لا تستطيع أن تتخيل هذه النار التي يجرها سبعون ألف ملك مع كل زمام، ولها سبعون ألف زمام.(36/12)
مراتب الذكر وكيفياته
السؤال
وصف الله تعالى المؤمنين بالذاكرين، فكيف يكون الذكر؟
الجواب
{ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] فالذكر أيها الإخوة ثلاثة أصناف أو ثلاثة أنواع:
ذكر باللسان: بعض الناس يذكر بلسانه لكنه لا يستشعر، مثل بعض الناس يذكر الله هو يمشي: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا إله إلا الله، لكن لا يستشعرها بقلبه؛ هذه أقل درجات الذكر، يؤجر لكنها أقل درجات الذكر.
الذكر الثاني: ذكر القلب: لا يذكر بلسانه؛ لكن يتذكر ربه دائماً، قلبه حينئذٍ يخاف من الله، يرجو الله، يستعين بالله، لكن لسانه لا يذكر ربه.
الثالث وهو أعلى الدرجات: ما واطأ اللسان القلب: يذكر ربه بلسانه وبقلبه، إذا قال: استغفر الله، فهي من اللسان ومن القلب.
والذكر يا عبد الله ليس باللسان فقط بل حتى بالجوارح؛ الصلاة ذكر، والصيام ذكر، والزكاة ذكر، والأمر بالمعروف وطلب العلم ذكر، كل هذا ذكر يا عبد الله، كل ما فعلت من طاعة فهو ذكر لله جل وعلا.
أما الذكر فهناك أذكار مقيدة وأذكار مطلقة:
من الأذكار المقيدة: أذكار مثلاً تكون عند مناسبات مثل: عند دخول البيت، والخروج من البيت، قبل أيام سمعت عن شاب، جاءني والده، يقول: دخل أجلكم الله الحمام يقول: سقط انزلق في الحمام ووقع، يقول: من ذلك اليوم من وقوعه يبكي ويفزع، أخذ يبكي ويصيح من ذلك اليوم الذي دخل أجلكم الله فيه الحمام وسقط؛ فلعله يكون التفسير فيه شيء من الوضوح، سألت هذا الشاب قلت: لما دخلت أجلك الله إلى الحمام ذكرت الله أم لا؟ يقول: نسيت، رجل صالح لكن نسي، تلك اللحظة نسي أن يذكر الله: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
الحشوس -الحمامات- ممتلئة بالشياطين وبعض الشياطين خبيث يترصد لبعض الناس الذين يريد أن يصدهم عن الذكر وعن الصلاة وعن الطاعة، فإذا غفل مرة عن ذكر الله أصابه، وهذا يحدث كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] يعني: بعض الناس يتخبطه الشيطان من المس وهذا لعله يراه بعض الناس، الحصن من ذلك ذكر الله، إذا دخلت البيت وقلت: باسم الله، انحبس خارج البيت ولا يدخل، فإذا قلت عند العشاء: باسم الله منع من العشاء والطعام، وهذا الأمر حقيقة، بل بعض الناس كما قال الله جل وعلا: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] يجامع زوجته معه نعوذ بالله! ألا تغار على زوجتك؟ بعض الناس الشيطان يجامع زوجته معه وهذا في القرآن موجود، إذاً ما الحصن؟ تذكر الله جل وعلا، تقول: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، هذا عند الجماع.
إذاً ذكر الله عند مناسبات يحصنك من الشيطان.
وهناك ذكر مطلق: في جميع الأحيان (سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله) (كلمتان خفيفتان على اللسان) يا أخي تنتظر الدوام وأنت في السيارة ذاهب إلى العمل وأنت راجع إلى البيت تنتظر دورك عند مستوصف عند جمعية في أي مكان تنتظر حرك لسانك بالذكر (خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) إذا قلتها مرة غرست لك نخلة في الجنة، وما من شجرة في الجنة إلا ساقها ذهب، أتريد كنزاً من كنوز الجنة؟
لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
(من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
فضل عظيم وأجر كبير لكن من منا يحسن هذا الأجر؟! (من كان خالياً بالله وذكره) أي: من يذكر الله؛ سواء بشريط قرآن، أو درس، أو محاضرة، أو هو يذكر الله في السيارة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا كان رَدِفُه ملَك، ومن اختلى بالشيطان وذكره) وذلك مثل الغناء، والموسيقى، والفجور، والمعازف في السيارة- قال: (إلا كان رَدِفُه شيطان) أعاذنا الله وإياكم منه، هذا لو أصيب بحادث هل يذكره الشيطان بـ (لا إله إلا الله)؟ وصاحب الذكر إذا أصيب بحادث ذكره الملك بالشهادتين، أما ذاك فيذكره بالفساد والمنكر.
إذاً يا إخوة على الواحد منا أن يكون لسانه رطباً بذكر الله حتى إذا جاءته منيته يكون أول ما يتذكر (لا إله إلا الله) (ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة).(36/13)
عذاب آل فرعون في البرزخ
السائل: يقول السائل: ما معنى قوله تعالى في سورة غافر: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]؟
الجواب
هذه الآية استدل بها أهل السنة والجماعة على ثبوت عذاب القبر، قبل اليوم الآخر، وذكرنا القبر في هذا الدرس من باب أنه بدايات لليوم الآخر، وهو أول منازل اليوم الآخر، والله عز وجل ذكر عن آل فرعون، أنه جاء رجل مؤمن من آل فرعون يدعوهم إلى الله، هذا الرجل علم أن فرعون وحاشيته ووزراءه سوف يقتلون موسى، وموسى رجل ضعيف ليس له جيش ولا عنده شيء، جاء يدعو فرعون إلى الله، ذكره بالله، فأبى فرعون، وتجبر وطغى، وجمع الحاشية واستشارهم قالوا: اقتله، وهذا الرجل من الحاشية؛ لكن فيه خير، آمن وكتم إيمانه، ولكن لما سمع أنهم سوف يقتلون موسى ما رضي، إنكار المنكر يصل إلى حد معين، فذهب بسرعة إلى موسى يخبره وينذره، وجاء إلى فرعون ومن معه، جاء يخبرهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الله قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهٌ} [غافر:28] أي أنه ما ضركم بشيء، إنما يدعو إلى الله، قال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] يعني: إذا كان كاذباً فما ضر إلا نفسه {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم} [غافر:28] يصبكم بهذا العذاب الذي يتوعدكم به، اتركوه، {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْض} [غافر:29] اليوم لكم القصور والنعيم، وهذه القوة والعسكر والجيش؛ لكن من ينصركم من بأس الله إن جاءكم؟ {مَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] دعاهم إلى الله فأبوا، ذكرهم بالله فقتلوه أو طردوه، فنجاه الله جل وعلا، أتعرف ما الذي حصل لآل فرعون؟ أغرقهم الله عز وجل في اليم، كان فرعون يوماً من الأيام يقول: هذه الأنهار تجري من تحتي، فأجرى الله الأنهار من فوقه! تجري من تحتك يا فرعون؟ اليوم تجني هذه الثمرة وتجري الأنهار من فوقك، أغرقه الله في اليم، نبذه في اليم وهو مليم.
فرعون كان يوماً من الأيام يقول لشعبه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54].
جاء إلى موسى؛ أتعرف ماذا قال في موسى؟ قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] يا ناس، يا شعب، أخاف أن يضيع دينكم {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] أخاف أن يفسد في الأرض، يثير الفتن في الأرض، سبحان الله! يقول ابن كثير: سبحان الله! صار فرعون خطيباً، صار فرعون يخاف على دين الناس، ويخاف على الصلاح، ويخاف الفساد في الأرض قال: {أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
قال الله عن فرعون وحاشيته: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً} [غافر:46] يعني: في بداية النهار ونهايته في قبورهم إلى إن تقوم الساعة، يحترقون بالنار إلى أن تقوم الساعة، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فرعون والحاشية والجنود والعسكر والزمرة الطاغية كلها، التي كفرت بالله وعاندت شرع الله، وحاربت الأنبياء والرسل كلها معه في نار جهنم {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] هذا هو تفسير الآية والله أعلم.(36/14)
الأدلة على وجود عذاب القبر
السؤال
يسأل سؤالاً ويقول: رجل يقول: أريد دليلاً على عذاب القبر من الكتاب وإذا قيل له: ذكر في السنة المطهرة لا يقبل إلا بالدليل من الكتاب فكيف يرد عليه؟
الجواب
هذه الآية التي ذكرناها قبل قليل.
وقوله جل وعلا {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون:100] البرزخ هو: عذاب القبر أو نعيمه، الحاجز الذي بين الحياة الدنيا واليوم الآخر؛ قال الله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] أي: قبل البعث هناك برزخ؛ ما هو البرزخ؟ هي حياة بين الدنيا وبين الآخرة، فمن أهل الإيمان من يعذب في قبره؛ حتى يتصفى من الذنوب؛ لأنه ما تاب منها، فهو مصلٍّ وراكع وساجد لكن عنده ذنوب ومعاصٍ يتعذب في قبره حتى يصفيه الله عز وجل وينقيه قبل اليوم الآخر.
إذاً هو موجود في هاتين الآيتين في كتاب الله.
وهناك آيات أخرى كما قال الله جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] هذا أيضاً من أدلة عذاب القبر.
وهناك من السنة الأدلة الكثيرة المتواترة الصحيحة، كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عذاب القبر.
وهذا لعله يكون فيه من الأدلة واليقين ما تطمئن به قلوب المؤمنين وتتيقن بصحته والله أعلم.(36/15)
حقيقة المغفرة وضرورة التوبة والندم
السؤال
يقول السائل: كيف يتوب الإنسان من المعاصي؟ وإذا كان لا يصلي أو يتهاون بالصلاة، وإذا سئل عن ذلك قال: إن الله غفور رحيم؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله! إن الله غفور رحيم، لعباده الصالحين.
أخي الكريم! لعلك تقول: الصالحون لا يحتاجون مغفرة، فأقول: أفضل الخلق غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو يحتاج إلى المغفرة عليه الصلاة والسلام، الله عز وجل غفور رحيم لأهل صلاة الفجر، لأهل الذكر، لأهل الدعوة إلى الله، لأهل الصلاح، هؤلاء يحتاجون مغفرة الله، أما للفجار الفساق فهو شديد العقاب، وهو عزيز ذو انتقام، ولا تخفى عليه خافية، فهو يستدرج عباده، فاعقل وتدبر قال الله عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183].
عبد الله! إن الصالحين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قالت عائشة: (يا رسول الله! ألزناة، شاربو الخمور، السراق، هم الذين يخافون، قلوبهم وجلة؟ قال: لا يا ابنة الصديق هم المصلون، هم الصائمون، هم الصالحون الذين يعملون ويخافون أن لا يُتَقَبل منهم) أرأيت الصالح! يخاف أن الله لا يقبل عمله، والعجيب من الفاجر الذي يأمن مكر الله، قال عبد الله بن مسعود: [المؤمن يرى ذنبه كأصل جبل يوشك أن يقع على رأسه، والفاجر يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا] ربما يشرب خمراً، ربما يترك صلاة، ربما يفعل معاصي كبيرة، وكأنها ذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا، وكأنه لا يبالي، وهذه علامة المنافق وتلك علامة المؤمن.
عبد الله! هذه نتكلم فيها عن الفسقة، أما عن الذين لا يصلون فحدث ولا حرج، حديثهم حديث الكفار نسأل الله العافية، كيف تكون التوبة؟ بالندم والعزم والإقلاع عن هذه الذنوب والمعاصي.(36/16)