ظاهرة الاختلاط وتفشي الخادمات والمربيات الكافرات
ومن مظاهر التحديات الاجتماعية: الدعوة إلى الاختلاط في العالم الإسلامي بهدف إلغاء القيم والمبادئ، ونجحت الدعوة في كل بلدٍ، في المدارس والجامعات والمؤسسات، وبقي هذا البلد الذي أسأل الله ألا يحل به ما حل بغيره.
ومن مظاهر التحدي: ظاهرة تفشي الخادمات والمربيات الكافرات كما هو الحال في بعض دول الخليج بل في كلها، ولا يكاد يخلو منزلٌ من خادمة أو مربية أو سائقٍ غير مسلم، وفي هذا تهديدٌ للقيم الإسلامية في تلك المجتمعات.
فيا عباد الله: اتقوا الله، هذه مسئوليتكم تجاه دينكم، قبل أن تصبحوا لقمة سائغة لكل جائع، وسلعة رخيصة لكل مشتري، وعندها تندموا ولات ساعة مندم.
ها هو رجل تضبط ابنته تمارس الفاحشة مع شابٍ -نعوذ بالله من الفواحش- فيستدعى أبوها الذي فرط فيها، ويخبر الخبر ويغمى عليه، ثم يصيح ويرفع يديه إلى السماء قائلاً: رباه ليتك لم تخلقني، رباه ليتك لم تخلقني، لسان حاله حال مريم يوم تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] وفي ذلك عبرة وعظة.
فعودة إلى الإسلام أيها المسلمون: ففي الإسلام سعادتكم لبناتكم؟! وعودة إلى الإسلام أيها المؤمنون، ففي الإسلام عزكم ونجاتكم وسعادتكم.
وستذكرون ما أقول: أعداء الله يريدون من عالمنا أن يكون مفككاً، دنيئاً، مدمراً، فاحشاً، متفحشاً: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فلننتبه ولنقم من سباتنا.
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تسترنا، وأن تستر نساءنا، وبناتنا وأخواتنا، اللهم لا ترنا فيهم فضيحة، اللهم لا ترنا فيهم مكشوفة، اللهم لا ترنا فيهم سخطك.
اللهم أرنا في دعاة السفور والاختلاط يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون، اللهم اشف قلوب المسلمين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بشرٍ فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره يا حي يا قيوم!
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وأصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاحٌ للإسلام والمسلمين برحمتك يا أرحم الرحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(28/11)
عقوق الوالدين
الوالدان لهم فضل عظيم في الإسلام، وهناك آيات كثيرة توجب بر الوالدين، وقد قرن الله حقهما بحقه جل وعلا، وفي هذه الخطبة تجد قصصاً في عقوق الوالدين تدمى لها القلوب، ويندى لها الجبين.(29/1)
انتشار العقوق في الأمة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: كان من المفروض في هذا اليوم أن نتكلم عن فضائل العشر الأولى من ذي الحجة، لكن مشاكل المسلمين كثيرة وأمراضهم خطيرة، وحلولها يجب أن تكون قبل أن يذهب الحاج إلى تلك المشاعر.
ومن تلك المشاكل مشكلة خطيرة انتشرت وفشت وأصبحنا نلاحظها صباح مساء، تسري الأكباد وتقطع نياط القلوب ألا وهي مشكلة العقوق.
إذا ظهرت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أربع عشرة خصلة؛ فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع في نظام قطع سلكه، ومن هذه الخصال: إذا أطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأبعد أباه، ولا إله إلا الله ما أكثر هذا في هذا العصر! يأتي رجل وزوجته، وأمه تحمل ولده؛ ليشتروا ذهباً من بائع ذهب في هذه المنطقة، وبائع الذهب هو الذي يروي هذه الحادثة، تدخل زوجة هذا الرجل وتأخذ ذهباً بما يساوي عشرين ألف ريال، وتقف الأم واجمة هناك تحمل ولده ثم تتقدم لتأخذ خاتماً يساوي ثمانين ريالاً، فيقوم الابن بتسديد قيمة ذهب زوجته فيقول البائع: بقي ثمانون ريالاً، قال: لماذا؟ قال: قيمة الذهب الذي أخذته أمك، فانفجر غاضباً وقال: كبار السن لا يحتاجون للذهب، أخذت الأم الخاتم وأعادته للبائع ولسان حالها يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] خرجت تحمل ولده تريد السيارة وكأن زوجته أنبته على هذا الفعل وقالت: من يمسك لنا ابننا، أعطيها الخاتم.
فأعطاها إياه فرمته وانفجرت تبكي قائلة: والله لا ألبس ذهباً في حياتي أبداً، حسبي الله ونعم الوكيل!
لا إله إلا الله آباء يئنون وأمهات يشتكين! ولا إله إلا الله يحز في النفس ويدمي القلب ويندي الجبين يوم نسمع بل نرى بعض الأبناء يعق والديه! يؤذيهما ويجاهرهما بالسوء وفاحش القول! يقهرهما وينهرهما! يرفع صوته عليهما، يتأفف منهما! يقول بعضهم: أراحنا الله منك وعجل بزوالك يا شيبة النحس ويا عجوز الشؤم، لا إله إلا الله قول يستحي إبليس أن يقوله وبعض شبابنا يردده ناسياً أو متناسياً قول الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] لا إله إلا الله!(29/2)
الإسلام ينهى عن عقوق الوالدين
توعد الله بالعذاب الأليم واللقاء الشديد من عصى والديه؛ لأن تلك معصية عظيمة فظيعة، وجريمة قبيحة شنيعة، يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وترعرع تغمط حق والديه يوم أذهبا زهرة العمر والشباب في تربيته، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبرا وضعفا ودنيا من القبر واحدودب ظهراهما، وقلَّت حيلتهما أنكر جميلهما، وقابلهما بالغلظة والجفاء، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.
لقد جعل الله عقوبة العاق عظيمة شديدة، وقد قرن الله حقه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية بر الوالدين وصلة الأرحام، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] قضاؤه وأمره ألا يعبد إلا هو ومع عبادته لا بد من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إليهم، وأوصى الله وصية خاصة بالوالدين فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة، وفي حضنه في حجرها، ثم إرضاعه {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
لقد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله، ففي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إنني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد حي؟ قال: نعم.
أمي.
قال صلى الله عليه وسلم: قابل الله ببرها فإن فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد}.
يا أيها المسلمون: لا يجدر بعاقل مؤمن يعلم فضل بر الوالدين، ويعلم آثاره الحميدة في الدنيا والآخرة، ثم يعرض عنه ولا يقوم به ويقابله بالعقوق والقطيعة، وهو يسمع نهي الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيه قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23] أنتم تعلمون أن الإنسان إذا كبر ضاقت نفسه، وكثرت مطالبه، وقل صبره، وربما صار ثقيلاً على من هو عنده، ومع ذلك فالله يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] في حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف قد تمكن منهما في البدن، وقد يكون -أيضاً- في العقل، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، في حال كهذه الحال ينهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر، وأمره أن يقول لهما قولاً كريماً، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، فيخاطبهما خطاباً يستصغر نفسه أمامهما، ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحساناً إليهما، ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في حالة صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا.
يا أيها الإنسان: اذكر حال أمك وأنت حملاً في بطنها وما تلقى من المشقة والتعب في جميع أحوالها ليلاً ونهارا، وتفكر في أمرها حال ولادتها، ثم بعد أن ولدتك لا تنام الليل، تسهر لسهرك وتتألم لتألمك، تجوع لتشبع، وتتعب لترتاح، وأنت لا تملك لنفسك ضراً ولا نفعا، أبعد هذا يكون جزاؤهم العقوق والقطيعة والشتم، أي قلوب هذه التي استمرأت العقوق؟! وأي أرواح هذه الأرواح التي ألفت القطيعة؟!(29/3)
أبناء عقوا آباءهم
لقد بكت العرب والله في جاهليتها قبل إسلامها العقوق، وتوجعت له، وتظلمت، وتبرمت، واشتكت إلى بارئها منه.
في السير أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة.
قال: وما ذاك؟ قال: ربيت ولدي، سهرت لينام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمط حقي، ثم بكى بكاء مراً وقال:
وربيته حتى إذا ما تركته أخ القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فبكى كل من في مجلس الخليفة، وحق لكل عين بكاها.
وفي السير في أسانيد فيها نظر ما معناه: {أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: ما بك؟ قال: مظلوم يا رسول الله، قال: من الذي ظلمك وأنت شيخ كبير فقير؟ قال: ابني ظلمني، قال: كيف ظلمك؟ قال: ربيته فلما كبر وضعف بصري ورق عظمي ودنا أجلي تغمط حقي وظلمني وقابلني بالغلظة والجفاء وأخذ كل مالي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم} وحق للقلوب اللينة وللعيون الرقراقة أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت قلوب الوالدين إلى بارئها هذا الظلم الفظيع، وهذا الجرم الشنيع، هل أظلم وأكبر وأشنع من أن تربي ابنك، فإذا قوي واشتد ساعده، صائلٌ أصبح في مصاف الرجال، عندما أعطيته شبابك وزهرة عمرك ولذة روحك وشجى نفسك رد عليك الجميل منكراً، وأتى فإذا صوته صائلٌ في البيت لا يجيب لك دعوة، ولا ينفذ لك أمراً، ولا يخفض لك جناحاً، يطيع زوجه ويعصيك، ويدني صديقه ويبعدك، إنها -والله- مأساة ما بعدها مأساة.(29/4)
منزلة بر الوالدين في الإسلام
لقد عد الإسلام بر الوالدين من أعظم الحقوق، يقول صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الأعمال الصالحة أيها أزكى وأعظم، فقال: {الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فلا إله إلا الله ما أعظم حقوق الوالدين!
العقوق مأساة انتشرت في البيوت وأصبحت وبالاً على الآباء والأمهات، في بعض الآثار: أنه في آخر الزمان يود المؤمن أن يربي كلباً ولا يربي ولداً.
وأرجو الله ألا يكون هذا الزمان، وجد هذا ورأينا عيون الآباء الذين طعنوا في السن وأصابتهم الشيخوخة وهم يتباكون ويتضرعون ويتوجعون من هذه الذرية الظالمة العاصية، فهل من عودة يا شباب الإسلام إلى الله؟! هل من لطف وحنان وخفض جناح؟! وهل من بر للآباء والأمهات؟! يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
الأم -يا عباد الله- لها ثلاثة أرباع الحق فهي التي تعبت وحملت وأرضعت وغسلت وألحفت وأدفأت:
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غضض منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك تمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حناناً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لما أسنت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآه لذي عقل ويتبع الهوى وآه لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
ذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع امرأته إلى قاضٍ في غلامهما أيهما أحق بحضانته؟ فقالت المرأة: أنا أحق به، حملته مشقة، وحملته تسعة أشهر، ثم وضعته، ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني وعلى حجري كما ترى أيها القاضي، فقال أبو الأسود: أيها القاضي! حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه فلي الحق كله أو جله، فقال القاضي: أجيبي أيتها المرأة، قالت: لئن حمله خفة فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرها، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها ودعنا من سجعك.
وهاهو رجل كان في بيت الله الحرام يطوف بالكعبة المشرفة وأمه على كتفيه، قد أركبها على ظهره من بلده حتى وصل مكة وهو يطوف بها، فشاهد ابن عمر فقال له: يـ ابن عمر! أتراني أوفيتها حقها؟ قال ابن عمر: [[والله ما أوفيتها طلقة من طلقات ولادتها]] إن هذا لا يساوي طلقة من طلقات الولادة التي كانت تعاني منها في تلك اللحظات العصيبة، لا إله إلا الله كيف يعق الوالدان؟ حق الوالد عظيم أيما عظم!
في الصحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: أتى رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال له: إني تزوجت ابنة عمي وهي أحب الناس إليَّ، أنا أحبها وأمي تكرهها وأمرتني بفراقها وطلاقها، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: لا آمرك بفراقها ولا آمرك بإمساكها، إنما أخبرك ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، لقد سمعته يقول: {الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فضيع ذلك الباب وإن شئت فاحفظه عليك} فلا إله إلا الله كم من شاب ضيع أوسط أبواب الجنة بعقوقه! فمن ضيعه فليعد وليبادر قبل غلق الباب وقبل قول: رب ارجعون.(29/5)
شباب يتبرءون من آبائهم وأمهاتهم
يا عبد الله: تأمل حال أبيك يجوب الأرض يميناً وشمالاً يطلب الرزق لك وأنت لا تشعر بذلك، إن هذا الأمر لأمر يجب على العاقل أبداً، وإن هناك من نسي ذلك مع الأسف، تبرأ من والديه، وخجل من وجودهما في بيته أمام زملائه، وربما سأل عن بعضهم؟ فقال لأبيه: هذا خادم عندنا لأنه يتوهم أن أباه لا يتناسب مع مركزه ووظيفته وأصحابه، إنما هذه صفاته، سخيف العقل، قليل الدين؛ لأن النفس الشريفة تعتز بأصلها ومنبتها، وإن هناك أيضاً من النساء -ومع الأسف- من إذا سئلت عن أمها، قالت: إنها خادمة أو طباخة، نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة.
واسمعوا إلى العقوق، واسمعوا إليه في الماضي وقد سمعتم صوراً منه في الحاضر، اسمعوا لشاب اسمه: منازل كان منكباً على اللهو لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما كان يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وجنونه وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، فكان إذا نصح هذا الابن العاق زاد في العقوق وجار على أبيه، ولما كان يوماً من الأيام ألح الأب عليه بالنصح كعادته فمد الولد يده على أبيه فضربه، ذهل الأب وتجرع غصصه، ثم حلف بالله ليأتين بيت الله فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على هذا الولد العاق، خرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة ثم أنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فما أن فرغ من دعائه حتى يبس شق ولده الأيمن، نعوذ بالله من العقوق وقساوة القلوب.
كل الذنوب يغفرها الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا العقوق فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات.(29/6)
الجزاء من جنس العمل
نرى العاق لوالديه في أبأس الحالات بعيداً عن القلوب عند من يعلم حاله، لا يعطف عليه صديق ولا شقيق ولا قريب، لا يأخذ بيده كريم في كربه، ولا يرغب أحد في مصاهرته خشية أن يأتي بأولاد فيكونوا مثله عاقين، ثم إن الله سبحانه وتعالى من عدله وكرمه يجازيه من جنس عمله؛ فكما عق أباه وأمه فيهيء الله له من يذيقه ذلك عاجلاً والآجل بيد لله عزَّ وجلَّ، وهاكم مثالاً على ذلك:
ذكر العلماء أن رجلاً كان عنده والد كبير امتدت به الحياة حتى تأفف من خدمته ومن القيام بأمره، فأخذه في يوم من الأيام على دابة، وخرج به إلى الصحراء فلما وصل به إلى صخرة هناك أنزله، فقال: يا بني! ماذا تريد أن تفعل بي هنا؟ قال الابن العاق: أريد أن أذبحك -لا إله إلا الله ابن يذبح أباه! - قال الأب: أهذا جزاء الإحسان يا بني؟ قال: أتعبتني ولا بد من ذبحك، قال الأب: إن أبيت إلا ذبحي فاذبحني عند تلك الصخرة.
قال: ولم يا أبتِ؟ ما ضرك لو ذبحتك عند هذه أو عند تلك الصخرة؟ قال: يا بني! لقد كنت عاقاً لوالدي وذبحته عند تلك الصخرة! فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة ولك -والله- يا بني مثلها، ولك والله يا بني مثلها.
إن امتدت بك الحياة سيأتي ولدك ويذبحك عند تلك الصخرة، ومن يعمل سوءاً يجز به ولا يظلم ربك أحد.
حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن(29/7)
شاب لم يوفق بسبب دعوة والده عليه
يا عباد الله: دعوة الوالد لاترد، إن بخير أو بغير ذلك، فإياكم ودعوة الشر من الوالدين، وعليكم بالأسباب التي تجلب لكم دعوة الخير منهما ليكون بها -بإذن الله- فلاحكم ونجاحكم، فوالله إن كثيراً ممن لم يوفقوا في حياتهم كان من أسباب ذلك دعوة والديهم عليهم بعقوقهم وقطيعتهم.
هاهو شاب في زمن ليس ببعيد وفي قرية ليست بالبعيدة، كان يرعى الغنم لأبيه، ورأى تهافت الشباب على السفر والانخراط في السلك العسكري، فطلب من أبيه أن يسمح له ليذهب معهم، فرفض الوالد ذلك، حاول مراراً فلم يأذن له، قال الشاب: سأذهب أذنت أم لم تأذن، قال: أما القوة فما لي عليك من قوة، لكن مالي عليك إلا سلاح أوجهه في وقت السحر، وجاء يوم من الأيام وترك هذا الشاب غنمه مع أحد أقرانه، وذهب إلى إحدى قريباته فزودته بما يحتاجه المسافر وذهب إلى سفره، وعلم الأب -وكان صالحاً تقياً- بسفره بدون إذنه، فرفع يديه إلى الحي القيوم وسأل الله عزَّ وجلَّ أن يريه فيه ما يكره، فعمي الولد وهو في الطريق، واستقبله بعض أفراد قبيلته في الطائف وسألوه: ماذا تريد؟ قال: كنت أريد الوظيفة أما الآن فأعمى لا يقبل مثلي في الوظيفة، أخذوه وجاءوا به إلى أبيه، وعندما دخل عليه البيت وهو في الليل -ووالده قليل البصر.
وهذا الشاب أعمى- فقال أبوه: أفلان أنت؟ قال: نعم.
قال: هل وجدت السهم؟ قال: نعم والله.
لكن الأب الحنون حزن حزناً عظيماً، وتأثر تأثراً كبيراً، وكان يود لو كانت في غير عينيه، وقام ليلته يبكي ويئن يركع ويسجد ويلحس بلسانه عين ولده ويدعو الله عزَّ وجلَّ، والله قريب مجيب، فما قام لصلاة الفجر حتى عاد لولده البصر، فحمد الله كثيراً، وهو معروف عند بعضكم أيها الجالسون، قد يكون هنا من يعلم الشخص الذي حصلت له الدعوة والذي كانت منه الدعوة.
لا إله إلا الله! دعوة الوالد مستجابة يا عباد الله، فاجعلوها في الدعوة إلى ما يسركم في الحياة وفي الممات.
يا أيها الآباء: لا تدعوا على أولادكم ولا على أنفسكم ولا على أموالكم فتصادف ساعة إجابة من الله فتندمون حين لا ينفع الندم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا، اللهم ارض عنا وعن والدينا وآباء وأمهات جميع المسلمين الأحياء منهم والميتين إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(29/8)
قصة ابن عياش مع والدته
الحمد لله رب العلمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
قدم رجل من اليمن مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبكى والديه بهجرته وفراقه لهما، فقال له صلى الله عليه وسلم: {ارجع فأضحك والديك كما أبكيتهما}.
وجاء آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: {أحي والدتك؟ قال: نعم.
قال: الزمها فإن الجنة عند رجليها} وكان هناك رجل يقبل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أصحابه، فسألوه فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة تحت أقدام أمي؛ فلقد بلغني أن الجنة تحت قدميها.
ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له: ما بك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما.
عباد الله: رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين، بر الوالدين يهدي به الله سواء السبيل، ويصلح لك ذريتك، ويمدك بعون منه، ويرزقك قبولاً في الناس، ويمتعك متاعاً حسناً بإذنه، ويسددك في أقوالك وأفعالك ويرضى عنك.
هاهو إبان بن عياش عليه رحمة الله يقول: خرجت من عند أنس بن مالك رضي الله عنه -عندما كان في البصرة بعد الظهر- قال: فرأيت جنازة يحملها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله! رجل مسلم يموت ويمر بسوق البصرة ولا يشهد جنازته إلا أربعة نفر، والله لأشهدن هذه الجنازة، يقول: فحملت معهم، ثم بعد ذلك لما دفنا الرجل قلت لهؤلاء الأربعة: ما شأنكم وما شأن هذه الجنازة؟ قالوا: استأجرتنا هذه المرأة لدفن هذا الرجل، يقول: فتبعتها حتى وصلت بيتها، فجئتها وقلت: لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شيء عنده بأجل مسمى، قالت: الحمد لله أولاً وآخراً، قلت لها: ما شأن هذا الرجل الذي دفنتموه؟ قالت: هو ولدي كان مسرفاً على نفسه بارتكاب الذنوب والمعاصي، وكان عاقاً لي، وقال لي وهو مريض وهو في سكرات الموت: يا أماه! إذا أنا مت فلقنيني كلمة التوحيد فإذا قلتها وقضيت حياتي وأردت لي السعادة فضعي قدمك على خدي وقولي: هذا جزاء من عصى الله، ولا تخبري أحداً بموتي فهم يعلمون عصياني فلن يشهدوا جنازتي، ثم إذا دفنت فارفعي يديك إلى الله إن كنتِ تردين لي السعادة وقولي: يا رب! إني راضية عن ولدي فارض عنه، قال ابن عياش: فما عملتي؟ قال: فضحكت، فقلت: ما يضحككِ يا أمة الله؟ قالت: والله بعد أن دفن رفعت يدي إلى الله وقلت: يا رب! إني راضية عنه فارض عنه، قالت: فوالله إني سمعته بأذناي ينادي: يا أماه! قدمت على رب كريم رحيم غير غضبان علي ولا ساخط.
لا إله إلا الله ما أعظم بر الوالدين! ما أحوجنا إلى الدعاء منهم، ما أحوجنا إلى رضاهم، ما أحوجنا إلى برهم وصلتهم، علَّ الله أن يكتب لنا بذلك الرضوان، لكننا مع عظيم الأسف نرى البعض كأنه ليس بحاجة لدعائهم.
إنا نرى الرجل له الولد والولدان والثلاثة يقف على قارعة الطريق صباح ومساء انتظاراً لمحسن محتسب يوصله في طريقه، وأولاده على طرقهم لم يريدوا قطع لذيذ نومهم لأجل والدهم، لم يريدوا قطع لذيذ مشاهدتهم للمباريات والمسلسلات، وكثيراً ما نرى العجائز يتلمسن من جيرانهم وممن حولهن مساعدة في الوصول إلى المستشفيات أو إلى قريب من أقاربهن لزيارته، وأولادهن كلٌّ يقول: اذهب بها، أما يخشى هؤلاء عقاب رب العالمين: {لا يدخل الجنة عاق}؟!
هاهو رجل عاق لوالديه يجر أباه برجله إلى الباب فهيأ الله له ولداً أعق منه كان يجره برجله إلى الشارع، فكان إذا جر أباه إلى الباب قال: حسبك حسبك ما كنت أجر أبي إلا إلى هذا المكان، فيقول له ولده: هذا جزاؤك، وما زاد فهو صدقة عليك.
هذا في الدنيا والآخرة علمها عند الله عزَّ وجلَّ.(29/9)
صورة لشابين: ناجح وخاسر
ألا أيها الأبناء: اتقوا الله وقوموا بما أوجب عليكم من بر الآباء والأمهات، ويا أيها الآباء: أعينوا أولادكم على بركم فإن من ضيع أوامر الله في أولاده فلم يأمرهم ولم ينههم وضيعهم صغاراً فالنتيجة ضياعه كبيراً، والشواهد قائمة من الواقع، ها نحن قد ودعنا الامتحان قبل أيام ونحن دائماً في امتحان، والناجح من زحزح عن النار وأدخل الجنة، ولقد -والله- رسب أناس ونجح آخرون، يوم ضيع الآباء أبناءهم كانت النتيجة ضياع الآباء، فهم في حال ما يكونون فيه أحوج إلى الأولاد، والعكس بالعكس ومن زرع حصد، سترون نموذجين لشابين، شاب ربي في بيت تجلجل فيه لا إله إلا الله، وشاب ربي في بيت تجلجل فيه الأغاني الماجنات.
أما الأول: فأفنى شبابه في طاعة الله، وحلت به سكرات الموت، وقد بر أباه وأمه، وعند موته جاء أحباؤه يذكرونه بالله ويلقنونه: لا إله إلا الله، فكان وهو في سكرات الموت يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
لتعلموا أن هذا هو النجاح، لتعلموا أن هذا هو الفوز الحقيقي، وسيجد الفوز هناك يوم يقال: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
أما الصورة المظلمة فلشاب آخر في المقابل، ذهب لبلاد الكفر والعهر، كما يفعل شبابنا عند انتهاء امتحاناتهم، ذهب ليموت مع السكارى في أحضان البغايا، كان هذا الشاب يسافر دائماً وينصح فلا ينتصح، وفي آخر سفر له بعد أن وصل إلى تلك البلاد ضرب موعداً له مع زانية في أحد الفنادق وتقابلا هناك، وهو يمارس معها الفاحشة يشب حريق في الفندق فيشتعل على من فيه ويموت جميع من فيه، لا إله إلا الله! نسألك اللهم حسن الختام.
هاتان صورتان لشابين أحدهما ناجح والآخر راسب، وللآباء -والله- في ذلك دور، بعض الآباء يعد ابنه إن نجح بقضاء أمتع الأوقات في أحضان العارية، وما دعاه ووعده بالحج إلى بيت الله الحرام، وما وعده باستغلال وقته في جمعيات تحفيظ القرآن المنتشرة في المساجد، والتي تشكو إلى الله ظلم الآباء، وما وعده بدخول المراكز الصيفية التي يقوم عليها الشباب الذين نحسبهم من الذين يخافون الله عزَّ وجلَّ، علمه ضياع الوقت، فكانت النتيجة رسوباً له ولولده.
يا أيها المسلمون: نحن في اختبار دائماً، والله يختبرنا في بر الوالدين منا من نجح ومنا من رسب، فيا من نجح! استمر في النجاح وسل الله الثبات، ويا من رسب! أعد حساباتك مع والديك لتفوز بدعوتهما ورضاهما، لا يخرجن أحدكم من هذا المسجد إلا وقد عاهد الله أن يذهب ليقبل رأس أبويه ويستسمحهما فإن لم يكونا موجودين فليدعو لهما، وليتصدق عليهما وليصل صديقهما فذلك من برهما.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا برهم وصلتهم ورضاهم وأن يحشرنا وإياهم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، اللهم اغفر للأحياء والميتين من المسلمين، اللهم اجعل على قبورهم نوراً واجعلها روضة من رياض الجنة، اللهم آمنا يوم الفزع الأكبر، اللهم آمنا يوم البعث والنشور، اللهم آنس وحشتنا في القبور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(29/10)
المواساة
إن الابتلاء سنة من سنن الله الربانية، ولقد أمر الله عباده المؤمنين بالصبر على البلاء والمصائب لما في ذلك من تكفير للسيئات وتحقيق للعبودية في السراء والضراء، ثم رتب الله على هذا الصبر جنات النعيم مواساة للعلماء والمصلحين والمصابين بالهم والغم والحزن والمرض والظلم، ومواساة لمن فقد ابناً أو صديقاً أو استشهد له شهيد أو أسر عليه أسير.(30/1)
المواساة لأهل المصائب(30/2)
حكم الابتلاء(30/3)
حقيقة المصيبة(30/4)
منزلة الصبر(30/5)
مواساة العلماء والمصلحين(30/6)
مواساة أهل الشهداء(30/7)
مواساة المصابين بالهم والغم والحزن والمرض(30/8)
مواساة من فقد عزيزاً أو صديقاً(30/9)
مواساة المظلوم(30/10)
مواساة الآباء بفقد الأبناء(30/11)
مواساة أهل الأسرى والمفقودين(30/12)
صفات الجنة وأهلها(30/13)
الخاتمة(30/14)
عمر بن عبد العزيز
إن هذه الأمة أمة مجيدة، اختارها الله لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، وهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد.
فمع علم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، لنرى سيرته في خلافته وبعض صور عدله وخوفه ومراقبته لربه سبحانه وتعالى.(31/1)
بعض مواقف عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يقول المولى سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
أمتكم أمة مجيدة عظيمة كريمة، اختارها الله؛ لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد، إنها أمة تمرض لكنها لا تموت، وقد تَغْفُو أحياناً لكنها لا تنام، وتُغْلَب لكنها لا تُسْحَق، أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر، ومشاعل للحضارة الحقَّة.
فمع عَلَم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، عَلَم يجب على الأمة أن تجعله وأمثاله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، ليكون حديث شيوخها في المنتديات، وقصصاً لأطفالها الذين لطالما أُشغلوا بالقصص الهابط والرسوم المتحركات، وحديثاً لبعض شبابها الذين لطالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات.
إنه من جعل كبيرَ المسلمين له أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقّر أباه، وأكرم أخاه، وعطف على ولده.
إنه القِيَم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المُثل رجالاً، والأخلاق واقعاً ملموساً!
إنه من العادلين إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه فتولى الخلافة فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.
أظنكم قد عرفتم من هو؟
إنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وما أدراكم ما عمر؟! رجل لا كالرجال، وسيرة لا كالسير، وعذراً لن نَفِيَه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض مواقفه؛ لنتفكر وننظر ونعتبر، والتاريخ نقرأ.
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] فحيهلا بكم -عباد الله- إلى بحر عمر لنبحر، ومن لآلئه لنَقْبُسَ ونذكر، ومن درره ننهل فنَرْوِي ونروى، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.(31/2)
من مواقفه حين تولى الخلافة
تولى الخلافة فكان مجدداً بحق -رضي الله عنه ورحمه- كانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف.
بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية.
وقف يتحدث للناس قائلا: لقد بُوْيِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك ورضينا بك.
فبكى وقال: الله المستعان.
ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ونزل عن المنبر.
وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه فأعرض عنها قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوْحُ كما يروحون.
عاد لبيته معلناً أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة، ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة -بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.
بنتُ الخليفة والخليفة جدها أختُ الخلائف والخليفة زوجها
قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبداً بعد اليوم.
قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى.
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء.
فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟!
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيم السماوات والأرضين.
ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تُملأ جوراً، هيه يا عمر!
قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر
أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر!
بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.
هو البحر من أي النواحي أَتَيْتَه فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله
ولو لم يَكُ في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله وهو يرجو الأمان من الله بإذنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
ففي الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن: إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة}.
دخل عليه أحد العباد: وهو كعب القرظي؛ فجعل ينظر في وجهه فإذا به: وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر! ما دهاك؟ ما أصابك؟ والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك -يا عمر - في غير هذا المكان ما عرفتك.
فينهد عمر باكياً ويقول: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجباً، وأعظم إنكاراً.
فبكى كعب، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء.
جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هَمُ الآخرة وكفى.
عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء.
يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعاً لما يقول، ولم يعطِه شيئاً فخرج، وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.
وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راضيا(31/3)
صور من محبته للصالحين وتقريبه لهم
أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني.
فكتب له سالم مولى أبي حذيفة: صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده.
وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟ فكيف بثلاثة؟ كيف بك وخصمك أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- كلهم؟!!
جمع سبعة من الصالحين، وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -يا ليتنا نشترط هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوها وبلغوها، فَرُب مُبَلَّغٍ أوعى-:
أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحداً.
وثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبداً.
فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون.
فلما قرأ ذلك انهد باكياً، قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون.
حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيراً، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم.
كان شديد المراقبة والخوف من الله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بك يا عمر؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فخفت خوفاً أورثني ما تَرَين.
فما حالنا مع القرآن؟
عمي عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه
مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
يقول: والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده.
استدعى مزاحماً يوم أن تولى الخلافة فقال: يا مزاحم! لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا بن عبد العزيز.
كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال: إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ.
والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لِصَْوِن العِرْضِ إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتة والكلب يُخزى لعمر الله نبَّاح
كان-رضي الله عنه- لا يرضى مظلمة.
دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟
قال: اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟! ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبداً بعد اليوم.
قطع أُعْطيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك فقال لابنه: قل لهم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]؟
وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام.
فيا لله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِي عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل، فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة وبالعدل قامت الدنيا.
كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه؛ فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحاً، وعاد إلى البيت وليس معه تفاحة واحدة، فقال لـ فاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ.
فيا لله! وربِّ عمر إن مشهداً كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.(31/4)
صور من خشيته وخوفه من الله
كان شديد الخوف من الله جل وعلا، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
كان يذكر الله في فراشه -كما تقول زوجه- ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم.
ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ المشرقين، والله ما رأينا سروراً مذ تولى الخلافة عمر.
تقول فاطمة زوجه: أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعاً رأسه على يديْه تسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائماً، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟ فأجابها -وقد نصب خوف الله أمام عينيْه- قائلاً: إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفاً دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً، ثم انْهدَّ باكياً رضي الله عنه ورحمه.
أواه! من لنا بمثل عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر!
بكت فاطمة زوجه بعد وفاته حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟ أجزعك على عمر؟ فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديْك وما أخذت منها خير مما تركت.
قالت: والله لا هذا ولا ذاك.
لكني رأيت من عمر ليلةً منظراً ما تذكرته إلا بكيت، رأيتُه ليلةً قائماً يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5]، فصاح: وا سوء صباحاه! ثم وثب ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت أن نَفْسَه ستخرج، ثم هدأ ثم نادى: وا سوء صباحاه! ثم قام، وهو يقول: وَيْلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان فقام.
تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4 - 5].
خاف الله في الدنيا ونسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.
هذه مواقف من حياة عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربياً ومعلماً وأباً وأخاً، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـ عمر: {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} {وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كـ عمر يردون الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(31/5)
وفاة عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: فلكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير وذكر وأنثى ومُقرٍّ وجاحد وزاهد وعابد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
وتنتهي حياة الأخيار بالنهاية الحميدة؛ فكأن الأخيار ما بَئِسُوا مع من بَئِسَ، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ.
وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا ولا تلذذوا، عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.
وتأتي وفاة عمر الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت.
اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم.
ثم استدعى خادماً له وقال: أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه! أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله.
قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار.
قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.
دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له: اُعْفُ عني عفا الله عنك.
قام وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم؛ إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي.
ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.
وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم فأوص بهم إليَّ.
فجلس وقال: والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ.
نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ: إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وليي فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
انصرفوا عصمكم الله.
فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت.
رباه! ما عندي ما أعدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وأسلمَ الروح إلى باريها-فرحمة الله عليه-:
جسد لُفِّفَ في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
كان يقول قبل وفاته: إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي.
يقول رجاء: فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا.
بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.
أسلم الروحَ عمر، فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله.
ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى لهم كافلاً، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيراً، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.
فاليومُ تنعمُ يا عمر بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفاتك وَابلاً مِن ماءِ غيثٍ منهمرْ
يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر! لقد ليَّنتَ قلوباً قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكراً.
ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيراً ما يقول ويردِّد: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن بالهِمَم والأعمال".
مات عمر وما مات ذِ كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحي الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله.
ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبك عليه وعمر على غير دينك؟ قال: يرحمه الله قد كان نوراً في الأرض فأُطفِئ.
هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك؟ إن أعجبتك فاقْتَدِ بها، اقْتَدِ بـ عمر وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.
إذا أعجبتك خِصال امرئٍ فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ إذا جِئتَها حاجباً يحْجِبُكْ
اللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلُّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت!
يا من أظهر الجميل! يا من ستر القبيح! يا من لا يهتِك الستر! يا حَسَنَ التجاوز! يا واسعَ المغفرة! يا باسطَ اليدين بالرحمة! يا عظيمَ المَنِّ! يا كريمَ الصَّفْح! يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى! يا دافع كل بلوى! اجعلنا من العادلين واغفر لآبائنا وأمهاتنا وسائر المؤمنين، واحشرنا مع المقسطين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.(31/6)
على الطريق [1، 2]
إن الإنسان المؤمن لابد أن يعرف قدره ومنزلته في هذه الحياة الدنيا، وما هو مصيره ولماذا خلق.
فإذا كانت هذه التساؤلات تحرك شعوره وإحساسه، فليعلم أن الله سبحانه وتعالى خلقه لغاية قصوى وعمل منشود وهو عبادته سبحانه، وأنه مسافر إليه، فليستعد للحساب حين اللقاء، وليأخذ أهبته للسفر، وليختر رفقته، ويتبين دليله ومنهاجه، ولابد له من إشارات وإرشادات وتوجيهات تعينه على الوصول إلى محطة النجاة والخلود.(32/1)
ما يحتاجه المسافر في طريق الحياة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، جعل الله الذُّل والصَّغار على من خالف أمره، وسدَّ إلى الجنة كل الطرق، فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، صلوات الله وسلامه على خاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستمسك بهديه وسنته.
اللهم إنا نسألك الثبات والهداية، ونعوذ بك من الخذْلان والغِوَاية، اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا.
اللهم من كان سببًا في هذا اللقاء فأجزل مثوبته، وارفع درجته، إنك سميع الدعاء: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] سلام لكم.
وسلام عليكم.
سلام لكم أهل العلى من أظنكم خليقين أن تحيوا كراماً وتنصروا
مضى زمن التَّنويم يا قوم وانقضى ففي الحي أيقاظٌ على الحي تَسهر
صَحَوتم وأدركتم وبانت نفوسكم من العيش إلا في ذُرَا العز تسخر
رجال العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى أذنٍ تُصْغِي وقلبٍ يبصَّر
شَباب العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى عالمٍ يدعو وداعٍ يذكر
كُهولَ العلى الميمون إنَّا بحاجةٍ إلى حكمةٍ تُمْلى وعقلٍ يُفكِرُ
أهالي العُلى الميمون إنّي وإنني أُناشدكم بالله أن تتذكروا
عليكم حقوقٌ للعباد أجلُّها تَعَهُدهم بالعلمِ فالرَّوض يقفر
ولا تيئسُوا ما خاب أصحاب ملةٍ إذا ما تواصوا بينهم ثم شمروا
وما ضاعَ حق لم ينم عنه أهله ولا ناله في العالمين مقصر
إذا الله أحيا أمةً لن يردها إلى الموت قهارُ ولا متجبر
قُصَارى مُنَى أمتكم أن ترى لكم يدًا تَجتني علمًا وتَنهى وتَأمرُ
دعوتموني فأجبت ملبيًا فرحًا، وما حالي إلا كذلك القائل يوم قال:
آهٍ لبرقٍ لمعا ماذا بقلبي صنعا
جِسمي معي لكن قلبي عند أَخيار العلى
أُشْهِد الله على حب الصالحين، ولا أحسبكم إلا أولئك الصالحين، حشرنا الله في زُمرَة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وهو ولي المؤمنين:
إنَّا على البعاد والتفرق لنلتقي بالذكر إن لم نلتق
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: أنفع الناس لك من مكَّنك من نفسه لتزرع فيها خيرًا.
فأَسْأل الله أن يجعلكم من أنفع الناس للناس، الذين هم أحب الخلق إلى الله، وأسأله أن يجعلني أهلاً لزرع الخير في قلوب الخلق ابتغاء مرضاة الله.
فما بقيت من اللذات إلا مذاكرة الرجال ذوي العقول
وإنْ كانوا إذا عُدُوا قليلاً فقد أَضْحوا أقلَّ من القليل
وإنَّي أرجو أن يُبارك الله في القليل.
أحبتي في الله: قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض؟ فقال:
حملت العصا لا الضَّعف أوجبَ حمْلَها عليَّ ولا أنَّي تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسيَ حمْلها لأعلمها أن المقيم على سفر
لا زلنا -إخوتي- على الطريق الذي سبق؛ هُتِف عليه من قبل أن: "اقصد البحر وخلِّ القنوات"، ثم هُمِس عليه من بعد ذلك أن: "تأمل".
واليوم مع "إشارات على ذاك الطريق"، تتراوح بين الإغراء والتحذير، جمعتها من كتب أهل العلم، ثم صغتها ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة، وحَدا حَادِيه كقول الحادي يوم قال:
أوانًا في بيوت البدو رحلي وآونة على قتب البعير
إنها كلمات في إشارات، هي جهد المقل المعترف بالتقصير دوماً وأبداً والحال معها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
ومن جهلت نفسه قدره، رأى غيره منه ما لا يرى، أرجو الله أن تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأن يُخَلِصها لقائلها ومُستمعها وسامعها، وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرًا به عملوا، وبالأجر للقائل دعوا، وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين، الذين إن رأوا هفوة صرخوا وصاحوا كشيطان العقبة، وطاروا بها وفرحوا.
وعلى الله وحده اعتمادي، وإليه وِجْهَتي واستنادي، فهو المستعان وعليه التُكْلان، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
يقول ابن القيم رحمه الله: لم يزل الناس مُذْ خُلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم.
والعاقل يعلم بطبعه أن السفر مَبْنِيٌّ على المشقة والأخطار، بل هو قطعة من العذاب واللأواء، ومن المحال عادة أن يُطلب في السفر النعيم والراحة، واللذة والهناء، فكلُّ وَطْأَةِ قدم أو أَنَّة من أنات المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة، والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المَفَاوِزِ والقِفَار، السفر مِضْمار السباق، وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في المضمار هذا بين فارس وبين راجل، وبين أصحاب حُمُرٍ معقرة:
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار؟
وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب
إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
هَلْكَى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى.
لا تعجب لهالك كيف هلك، ولكن اعجب لناج كيف نجا.
البعض في هذا السفر كإبلٍ سائِبَة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبلٍ نَجِيْبَة صابرة نادرة، وأَنْعِم بها من راحلة، النجائب في المقدمة، وحاملات الزاد في المُؤَخِرة.
رفعت لنا في السَّير أعلام السعا دة والهدى يا ذلة الحيران
فتسابق الأبطال وابتدروا لها كتسابق الفرسان يوم رهان
وأخو الهوينى في الديار مخلف مع شكله يا خيبة الكسلان
إلى كم ذا التخلف والتواني وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل النفس عن طلب المعالي ببيع الشِّعر في سُوق الكساد
لا بد للمسافر من رِفقةٍ ومن عُدةٍ وعتادٍ، ودليلٍ ومِنْهاجٍ واستعدادٍ بِزَاد، وهَدَفٍ وَوِجْهة، ومحطات استراحة ووسائل مثبِّتَة، وإشارات مرشدة.(32/2)
دليل المسافر ومنهاجه
أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه-: {تركت فيكم شيئيْن لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي} صلوات الله وسلامه عليه.
ومن سلك طريقًا بغير دليلٍ ضل، ومن تمسك بغير أصلٍ ذَل.
كن في أمورك كلها متمسِّكاً بالوحي لا بزخارف الهذيان
وتدبَّر القرآن إن رمت الهدى فالعلم تحت تدبُّر القرآن(32/3)
عدة المسافر وزاده
أما عُدَّةُ المُسَافِر وزاده فإيمان وعمل صالح: {إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف:30] {إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف:107] {إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].
أين النفوس ترامى غير هائبةٍ أين العزائم تمضي ما بها خور
العلم بالحقِّ والإيمان يصحبه أساس دينك فابن الدين مكتملا
لا تبن إلا إذا أسَّست راسخةً من القواعدِ واستكملتها عملا
لا يرفع السقف ما لم يبن حامله ولا بناء لمن لم يرس ما حملا
ومن الزاد إخلاص لله، وقصد بالعمل وجه الله لا سواه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين * {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3].
فالفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمان
والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسنه مع الإيمان
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك:2] وَحَسْب نفسِك إخلاصٌ يُزَكِيها.
ومن الزاد: متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قوله: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} ويقول الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
فيأيها المسافر: من عُمْدة عُدَّتك اتباعه، فلتذر مع قول الرسول وفِعْله نفيًا وإثباتًا بلا رَوَغَان، ورحم الله الحكمي يوم قال:
شرط قبول السعي أن يجتمعا فيه إصابة وإخلاص معا
لله رب العرش لا سواه موافق الشرع الذي ارتضاه
وكل ما خالف للوَحْيين فإنه ردٌ بغير مين
وجماعُ الزَّاد هذا كلِّه تقوى الله جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] إنها العز والنسب والسبب والفخر والكرم.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشركُ النَّسيب أبا لهب
فتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ!
فالزاد -إذًا- إيمان، وعمل صالح في إخلاص، ومتابعة في تقوى، فهي إذا اجتمعت في نفس حرة بلغت من العلياء كل مكان.(32/4)
رفقاء المسافر وصفاتهم
ولابد للمسافر من رِفْقَةٍ وصُحْبة: {فالراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
والمسافر مهما تكمن مواهبه، ومهما يكن عطاؤه، ومهما تكن قدراته؛ فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة، ما لم يكن له أعوان، َيشُدون أزره، ويُقَوُّون أمره، يُذَكِّرونه حين ينسى، ويعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ بنفسه قويٌ بإخوانه.
وما المرء إلا بإخوانه كما تقبض الكفُّ بالمعصمِ
ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خير في السَّاعد الأجْذَمِ
موسى صلوات الله وسلامه عليه، وهو المُلَقَّب بالقوي الأمين في كتاب الله، يوم كلَّفه الله بالرسالة احتاج إلى المعين والوزير، فقال: {وَاجْعَل لي وَزِيرًا منْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه فيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:29 - 35].
ماذا قال الله تعالى؟ قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وفي سورة القصص يقول الله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35].
فالصاحب ضرورة ولا بد، لكن له صفات تُحَدده وتُمَيِّزه، لعلنا نقف عندها باختصار منها:(32/5)
رفيق المسافر لابد أن يكون مؤمناً عاقلاً
أن يكون مؤمنًا: {فلا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
ولا يكفي أن يكون مؤمنًا؛ فلابد أن يكون عاقلاً؛ لأن الأحمق قد يثور عليك، فيغضب؛ فيَجْنِي عليك وعليه، ويقعد بك عن الهدف المرسوم، الذي رسمته لك، وصَدَق ونَصَح من قال:
احذر الأحمق أن تصحبه إنَّما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعته من جانب زعزعته الريح يوماً فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش هل ترى صدع زجاج يرتتق؟
كلا.(32/6)
رفيق المسافر لابد أن يكون عدلاً حسن الخلق
وأن يكون عدلاً غير فاسقٍ، أقول ذلك لئلا يَجُرَّك إلى فِسْقه، ودَّ صاحبُ الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعًا؛ لئلا يصبح نشازًا بينهم.
وأن يكون غير مبتدعٍ، لئلا يلقي عليك الشُّبه فيتشربها قلبك، والقلوب ضعيفة، والشُّبه خَطَّافة كما يقول العلماء.
وأن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا، وصدق من قال:
شَبِيهُ الشَّيءِ مُنْجَذب إليه
وخير الكلام كلام الله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} [النور:37].
إن لم يكن رِفْقَتك بهذه الأوصاف فإنِّي لأخشى ألا تبلغ وِجْهَتَك في سفرك، وأن تكون-أجارك الله- ممن يقول حين لا ينفع ذلك القول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلا} [الفرقان:28]
قد تفسد المرعى على أَخواتها شاةٌ تند عن القطيع وتمرق(32/7)
محطات المسافر وهدفه ووجهته
أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يَكل ويَنْصَب ويَتْعَبُ ويَمل، وراحته وأمنه وسكينته في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
من لا يعرفها فحاله كقول القائل:
إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خُلقِ(32/8)
هدف المسافر ووجهته
أما هدف المسافر وَوِجْهته: فللمسافر وِجْهَة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور -أكرمكم الله- يدور في الساقية ويدور ويدور ويلف، ثم ينتهي من حيث بدأ، أو كالسَّفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها.
فما وجهتنا عباد الله؟ إنها جنةٌ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
من رام وصل الشمس حاك خيوطها سببا إلى آماله وتعلقا
حُفَّت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقًّا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منُوطة بالمكاره، ومن تأمَّل نَيل الدر من البحر، وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمَّل دوام البقاء في نعيم الجنة، علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنًا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة، منها خمس عشرة سنة صَبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين -إن حصلت-عجز وضعف، والتوسط نوم، ونصف زمانك أكل وشرب وكَسب، وللعبادات منه زمن يسير.
عمرك محدود فأدرك به بعض الأماني وانتهز واعقل
أفلا يُشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟!
خاب -والله- وغُبِن وتَعِس وانتَكَس من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؛ غَبْن فاحش وخلل، وهوان، تالله ما العَيش إلا عَيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يُؤذِي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم.
والذل في دعة النفوس ولا أرى عز المعيشة دون أن يشقى لها
مَن جدَّ وَجَد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوَثْبة أسد، تالله ما هَزُلت فيَستَامها المفلسون، ولا كَسَدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.
لقد أقيمت للعرض في سوق (مَن يزيد؟) فلم يُرض لها بثمن دون بذل النفوس.
تأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنًا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعزَّةٍ على الكافرين.
عرفوا عظمة المُشترَى، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، فرأوا من الغَبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بَيعة الرضوان والتراضي، فربح البيع! لا إقالة ولا استقالة:
سعوا للمعالي وهم صبية وسادوا وجادوا وهم في المهود
إنها سلعة الله وكفى، سلعة الله غالية جِدُّ غالية، تحتاج إلى مثابرة، إلى جهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة.
ومن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟ فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمن
فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم(32/9)
الدعوة إلى الله وسيلة تثبيت واتزان
وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان؛ إنها الدعوة إلى الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق بالباطل، فإنْ لم تدعُهم إلى الحق الذي تحمله، دعوك إلى الباطل، إنْ لم تَغزُهم بالحق، غزوك بالباطل، إن لم تَعرض عليهم الحق، عَرضُوا عليك الباطل في صورة الحق، فارفع على الطريق: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ} [يوسف:108].
لا لدنيا أو هوى أو عصبة دون خزي أو نفاق أو خطل
إنها صدق وإخلاص لمن هو يجزي وحده عز وجل
فارفع على الطريق هذا الشعار، واعلم أن العمل الدَّعويَّ -كما هو معلوم- ميدان واسع، ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له، إطاره الأرض -مُطلق الأرض- وميدانه الإنسان، من غير حد للون ولا لجنس ولا للغة، إنَّها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل.
والعمل لهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة إلى دراسات متأنية إلى نَبذٍ للفَوضَوية ولو بحسن نية؛ فالارتجال والفوضى خلل ووهن وجهل واضطراب في التصور؛ لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ، يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، ويحتكم إلى حقائق الكتاب والسُّنّة، لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنَّه واقف على الأرض؛ فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البَر، ولا يحرُث في البحر، ولا يبذُر في الصخر، كما يقول صاحب: جيل النصر لا ينسج خيوطًا من الخيال، ولا يبني قصورًا في الرمال، ولا ييئس من رَوح الله، ولا يقنَط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يُقدِم على الأحداث.
ولسنا بِدعًا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة- لما هاجر إلى المدينة، خرج بطريقة مدروسة، منظمة، عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكِّلا على ربه.
ويظهر ذلك من خلال ما يلي:
أولاً: الاتصال بالأنصار الذي تمت من خلاله بيعة العقبة الأولى.
ثانيًا: َبعْث النبي صلى الله عليه وسلم لـ مصعب بن عمير إلى الأنصار، ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله.
ثالثًا: بيعة العقبة الثانية، التي هي شدٌّ للوثاق والعهد على النصرة في المَنشَط والمَكرَه والعُسر واليُسر، بعد أن استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك.
رابعًا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة، حتى لم يبق بـ مكة إلا محبوس أو مفتون.
خامسًا: استبقاء عليٍّ رضي الله عنه في مكة؛ لحاجته إليه في تأدية الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمهمَّة تأتي فيما بعد.
سادسًا: اتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
سابعًا: انتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه.
ثامنًا: إعداد الرواحل ودفعها إلى خريت من قِبل أبي بكر ومُواعدته الغَار بعد ثلاث ليال.
تاسعًا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه، وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده، ليخبره بإذن الخروج؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه قد أُذِن له بالهجرة.
عاشرًا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في فراشه صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوه تَعْمِية عليهم.
حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثهم في الغار ثلاثًا.
ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر لـ أسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها.
ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولاً بأول.
رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساءً على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس آثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد إلى الغار.
إنَّ الهجرة -أيها الأحبة- أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفىصلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرو، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}.
كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للانضباط في جميع شئون الحياة؛ من سفر وإقامة، مع نبذٍ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معه النية، والله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
بهداه أيها الداعي اقتده وابتغ الأخرى وأخلص في العمل
فأحزم الناس من لو مات من ظمأ لا يقرب الوِرد حتى يعرف الصدرا(32/10)
إرادة الخير
كأني بك بعد هذا كله، قد حددت وِجهتك، وعرفت طريقك، وأخذت عدَّتك وأُهبتك، واخترت رفقتك، وأخذت بكل أسباب نجاتك في سفرك؛ فدونك هذه الإشارات التي لابد منها، لعلها تغريك بالمسير في الطريق، وتحذرك العقبات التي تصد عن بلوغ الغاية في المسير.
انوِ الخير، واعمل بمقتضى هذه النية؛ فبالنية يتحدد السفر، وتتضح الوجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة، فهي أساس الأمر ورأسه وعموده وأصله، بل هي روح العمل وقائده وسائقه، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، يُستجلب التوفيق بها، ويحصَّل الخذلان بعدمها، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، وكل المناهل غير الصدق آسنة.
وسنة الله اقتضت أن من نوى الخير وعمل بمقتضى تلك النية، يوفق ويسدد ويؤيد، ويبلغ من الخير ما يريد، وفوق ما يريد بإذن ربه، يقول الله جل وعلا: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} [النساء:100] {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى:20] {وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مشْكُورًا} [الإسراء:19].
ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية، حُرِم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإنْ بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام، لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء:20] {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].
فانْوِ الخير واعمل بمقتضى تلك النية، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى}.
والقصد وجه الله بالأقوال والـ أعمال والطاعات والشكران
وبذاك ينجو العبد من إشراكه ويصير حقا عابد الرحمن(32/11)
الإخلاص
الثانية: وهي تابعة (خليج صاف أنفع من بحر كَدِر)؛ بمعنى آخر: النوع الثمين لا الكم المهين؛ بمعنى ثالث: من لا يخلص فلا يتعب؛ فهو كالذي يحشو جراب العمل رملاً يثقله ولا ينفعه.
إن من سلك الطريق بلا إخلاص، كالذي يريد كسر الجَوز بالعِهن، أو كمن يحدو وما له بعير، يمد القوس وما لها وتر، يتجشأ من غير شِبع، كالوحشيِّ بلا جبل، لا شك أنه لهدفه لن يصل.
العمل صورة والإخلاص روح، عمل المُرائي بصلة كلها قشور، لباس المرائي نظيف لكن قلبه نجس، الإخلاص مسك والرياء جِيفة.
فاحذر كمائن نفسك اللاتي متى خرجت عليك كسرت كسر مهان
لما أخذ دود القزِّ ينسج الحرير، أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج، ثم نسجت وقالت: يا دودة القز! لي نسج ولك نسج، فلا فرق بين النسيجين، قالت دودة القز: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق.
لَيسَ التَّكحُّلُ في العَينينِ كالكَحَلِ، ومَا كُلُّ دَامٍ جَبِينُهُ عَابِدُ، وفِي عُنُقِ الحسناء يُستَحسَنُ العِقْدُ، والنَّفيسُ نَفِيسٌ أينَما كَان.
ورب كئيب ليس تندى جفونه ورب كثير الدمع غير كئيب
إِذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
فأما من بكى فيذوب شوقا وينطق بالهوى من قد تباكى
جماع هذه الإشارة: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].(32/12)
طلب العلم والعمل به
الثالثة: العلم الشرعي والعمل به ضرورة للمسافر، به يعرف السهل من الطريق والوعر، به يميز إشارات الطريق وعوائقه، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد، به يعرف الحلال من الحرام، به توصل الأرحام؛ فهو أساس السفر ولابد، بل هو أشرف مطلوب، وأفضل مرغوب، وأنفع زاد يقتنى لمسافر مكدود: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] كلا!
لا يكونُ العَليُّ مثل الدَّنيِّ لا ولا ذو الذكاءِ مثل الغَبِيِّ
من تدرع بالعلم حفظ ومنع، وحاز قصب السبق، وارتفع وبرع، ولما كان المجاهد لا يَنْكأُ عدوًا إلا بسلاح وعُدة، فكذلك المعلم والمتعلم والعالم لا يصنع أمة، ولا يكشف غمة، ولا يزيل ظلمة إلا بعلم وعمل، من أثر أو سنة، لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.
ومن لا يربيه الرسول ويسقه لبانا له قد در من ثدي وحيه
فذاك لقيط ما له أي نسبة ولا يتعدى طور أبناء جنسه
العلم وسيلة، والعمل ثمرة، العلم أساس البناء، والعمل ثمرة الغراس، والبناء من غير أسس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى، فاعلم أخي ولا تنس:
فلا تنفع الخيل الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرام كرام(32/13)
العمل أبلغ من القول
العمل أبلغ من القول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] والناس أبناء ما يُحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحًا بليغًا مؤثرًا بارعًا؛ فإن كلامه وعلمه لا يتجاوز الآذان، ما لم يعمل به، حتى إذا ما عمل به دبت فيه الحياة، دبت في كل كلمةٍ ينطق بها، واتجهت كل جملةٍ كأنها قذيفة؛ ترهف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجًا عمليًا يتقبله الناس راضين به، عاملين مذعنين، فلا يغني العلم شيئاً لوحده؛ لأن العلم لا يعْلِّم وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه.
وعادة السيف أن يزهى بجوهره وليس يعمل إلا في يدي بطل
والذين يعلمون ثم لا يعملون، أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون، بئس ما يصنعون، إنما هم أوعيةٌ للعلم، يسيرون ثم لا ينفعون، بل قد يضرون.
جلسوا على باب الجنة -كما يقول ابن القيم - يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افْرَنْقعوا لا تسمعوا، لو كان حقًا ما يدعون إليه لكانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هُداة مُرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق، أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمْ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الجمعة:5].
ما يغني عن الأعمى نور الشمس لا يُبْصرها، وما يُغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنَّما هو كالسراج يُضيءُ البيت ويحرق نفسه، عليه بُوره، ولغيره نوره، يَحق عليه قول القائل:
فأَسعدت الكثير وأنت تشقى وأضحكت الأنام وأنت تبكي
خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله:
ومن العجائب والعجائب جمة قرب الوصول وما إليه سبيل
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66] أي: عملوا بمقتضى ما علموا: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُم من لدُنا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]
وكم من قدوات ظاهرًا لم تعمل بمقتضى ما علمت فسقطت، وتكشفت على الطريق، فيما بين غَمْضَة عينٍ وانْتِبَاهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله كان يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكونوا كالمُنْخل يخرج الدقيق الطيب، ويُمسك النُخَالة؛ تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يَخُوض النهر لابد أن يصيب ثوبه، وإن اجتهد ألا يصيبه؛ فويْحَكم ثم ويْحَكم ثم ويحكم.
أيها العالم إياك الزلل واحذر الهفوة فالخطب جلل
هفوة العالم مستعظمة إن هفا أصبح في الخلق مثل
إن تكن عندك مستحقرة فهي عند الله والناس جبل
أنت ملح الأرض ما يصلحه إن بدا فيه فساد وخلل(32/14)
الاهتمام بأجل العلوم
أيها المسافر على علم: لا تشغل نفسك بأدنى العلوم دون أسماها وأعلاها، وأنت قادر عليها، فإنِّي لأَرْبَأُ بك أن تكون كزارع الذُّرة في الأرض التي يجود فيها البُر، أو كغارس الشَعْراء حيث يَزُكو النخل والزيتون، فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ثم أَصِخْ سمعك للشوكاني رحمه الله وهو يخاطبك فيقول: اسْتَكثِر من العلم الشرعي زادًا لك ما شئت، وتبحَّر في الدقائق مخلصًا ما استطعت، وأجب من عَذلك أو خالفك بقول من صدقك.
أَتانا أن سهلا ذم -جهلا- علوما ليس يعرفهن سهل
علوما لو دراها ما قلاها ولكن الرضا بالجهل سهل(32/15)
الدعوة قرينة العلم والعمل
أما إذ قد عَلِمْت وعملت؛ فإنَّ من مُقْتضى العمل أن تدعو غيرك إلى الحق الذي عرفته بالحُجَة والبرهان وعلى بصيرة، وهدفك إخراج نفسك ومن تدعوهم من الظلمات إلى النور، من الانحراف إلى الاستقامة التي تنال رضا الله بها في الدنيا والآخرة.
إن الحاجة إلى الدعوة ماسة؛ لأن العقول لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها التي تَكْفل لها السعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنها لا تُهْدى وحدها إلى تمييز الخير من الشر، فكثيرًا ما يبدو لها الشر في لباس الخير فتقع فيه، وكثيرًا ما يظهر لها الخير في صورة الشر فتعرض عنه: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
فمهما توسعت آفاق الإنسان ومداركه ومعارفه؛ فإنه يبقى قاصرًا محدودًا، ومن ثَمَّ كان لابد من الدعوة على أيدي الرسل وأتباعهم، فإذا اتَّضح الهدف، سِرتَ في هذه الحياة على هُدًى، وعندها بادِر بعمل دءوب في طموح وجدية، وأقدم بقوة تستشعر قول الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة:93].
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ألا فاجعلنه ماضياً بالجوازم
في ثباتٍ ومسارعةٍ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
في تدرجٍ واعْتِدَال وأَنَاة ومُداومة: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:6 - 7]
في شجاعة وعدم تَهَيُّبٍ وتردُّد.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
في بصيرة وفرقان بإتقان: {أدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
في استشارة حازم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
في عزيمةٍ وتصميمٍ مع تَوَكُلٍ دون تسفيه رأي أو إنقاص قدر: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران:159].
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ فإن فساد الرأيِ أَن تترددا
إذا كنت ذا عزم فأَنفذه عاجلا فإن فساد العزم أن يتقيدا
إذا هَمَمْت فبادر، وإذا عزمت فثَابِر، واعلم أنه لا يُدرِك المفاخر من رضي بالصف الآخر.
ما كل من طلب المعالِي نافذا فيها ولا كل الرجال فحولا
وعلى الطريق نضع لك حادييْن مرغبيْن حافزيْن: أحدهما قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وثانيها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم -: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا}.
إن هدى الرحمن شخصاً واحداً بِك خير لك من حُمْر الذرى
وهو خير لك عندَ الله مما بدا للشمس أوقد نورا
{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْرِ النِّعم}
فإن لم ينفع الحاديان، فعلى الطريق وَعِيدان مُرَهِّبان مُحَذِّران علهما أن يثيرا في نَفْسك الإحساس بخطر الفُتُور والتهاون والكتمان؛ أحدهما: ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: [[لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئًا: {إِنَّ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160]]].
وثانيهما: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كتم علمًا يُنتفع به جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار}.
فهل يجوز سكوت أو يستساغ نمير
والخطب خطب عظيم والأمر أمر خطير
فإن لم يحرك فيك الوَعد ولا الوعيد، ولا التَّرغيبُ ولا التَّرهيب -إذ تبلد الإحساس- فلا مساس، فقف على أخبار أصحاب الأهداف علَّك أن تتشبه بهم، فيثور فيك الحماس على أساس.(32/16)
نماذج من الصحابة في علو الهمة تشحذ العزائم على العلم والعمل والدعوة
في مؤتة خرج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عن الجميع؛ هدفهم إنْ هي إلا إحدى الحسنييْن؛ إما النصر أو الشهادة في سبيل الله؛ فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقام عبد الله بن رواحة وقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذاتَ فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ولما رأى المسلمون جموع الروم جموعًا كبيرة نظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام ابن رواحة فقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا؛ إنْ هي إلا إحدى الحسنيين.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلَذُّ له الغرام
فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل، حتى شاط في رماح القوم، وخرَّ صريعًا رضي الله عنه وأرضاه.
أخذ الراية جعفر فقاتل بها، حتى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أَنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
فقُطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت، فاحتضن الراية، حتى قتل كالأسد؛ رحمة الله على ذاك الجسد.
ثم أخذها ابن رواحة كالليث، ونالته الجراح، وأي جراح؛ فحاله:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قام ثابتًا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديْه.
أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الاقتحام، وكانت الشهادة، وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنًا إلا الجنة.
الطريق شاق وتكاليفه عوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إرادته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه؛ فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته:
ومنْ تكن العلياءُ همَّة نفسهِ فكل الذي يلقاهُ فيها محبَّبُ
ولم يتأخرْ من أراد تقدُّمًا ولم يتقدم من أراد تأخُّرا
ويذكر الذهبي في سيره أن نور الدين الشهيد، لما نزل الصليبيون دمياط، بقي عشرين يوماً صائمًا لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما الْتقى العدو، وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش، ومرَّغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! من نور الدين؟! الدين دينك، والجند جندك، وافعل يا رب ما يليق بكرمك، فنصره الله نصرًا مؤزرًا.
كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب، قام في حلب بعمل منبر عظيم، لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه، وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك، فلم يلتفت إليهم، وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ سخروا منه، كان يريد بذلك المنبر بث الروح وبعث الهمم وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفُتح بيت المقدس ونُصب فيها منبره بعد وفاته، نصب على يديْ تلميذه صلاح الدين، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة.
والسيف يبلغُ ما لا تبلغ الكلمُ
هذي العزائم لا ما تدَّعي الخطب هذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطَبَتْ تعثرت خلفها الأشعار والخُطبُ
والصارم العضب الذي فتح الورى ما زال في يد أهله مسلولا(32/17)
خذ العبرة من همم أهل الدنيا
إن لم يحرك فيك الوقوف على سير أصحاب الأهداف السامية ساكناً -إذ صرت جلمودًا عمودًا صخرًا- فانظر إلى أهل الدنيا في دنياهم، وخذ منهم حافزًا لذلك، كيف يكدحون ليلهم ونهارهم في تعاملهم مع الدرهم والدينار؟
أفلا حياء من الله أن يكون هؤلاء أعظم تجلدًا منك، وأنت تتعامل مع الله الكبير المتعال، ثم تتقاعس؟!
إذا فقد الإنسان صدق انتمائه وأضحى بلا قلبٍ فليس بإنسان
أعمى أصمُّ عن الحقيقة أبكم بالنوم في الفرش الوثيرة تغرم
والصمت كهفك والظلام مخيِّم
تدعى ولكن الذي يدعى سها أمسى على ماء التخاذل يهرم
من أنت يا هذا أما لك في الورى عقل يفكر في الأمور فيحسم؟
إني لأرجو أن أراك مزمجرا أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلم
قد قمت أرقى في مدارج عزتي علمي دليلي والعزيمة سلم
ذهب الرقاد فحدثي يا همتي أن العقيدة قوة لا تهزم
لغة البطولة من خصائص أمتي عنا رواها الآخرون وترجموا
من ذلك الوقت الذي انتفضت به بطحاء مكة والحطيم وزمزم
منذ التقى جبريل فوق ربوعها بمحمد يتلو له ويعلم
صلى الله وسلم على نبينا محمد.
فلا تستشرْ غير العزيمةِ في العُلى فليس سواها ناصح ومشيع(32/18)
انظر إلى جد الكافرين واجتهادهم وهم على باطل
فإن لم يحرك فيك أهل الدنيا وكدحهم في دنياهم شيئًا، فانظر إلى الكفار، إلى حطب جهنم، كيف يلهثون وراء أهدافهم المؤقتة، ويتفانون لها مع أنه لا عقبى لها!
هاهو مخترع الكهرباء يترك المدرسة بعد أن وصفه معلمه بأنه ليس مؤهلاً للاستمرار في المدرسة، وتذهب أمه إلى المدرسة متألمة لمواجهة معلمه، لتقول له: إنك لا تعرف معنى ما تقول، وكل المشكلة أن ابني أذكى منك.
ثم أخذته وعلمته في بيتها، حتى أعطته من علوم الدنيا وعلوم المادة ما يستطيع أن يستمر به؛ فلم يُفَلَّ عزمه مع طرده من المدرسة؛ بل تراه يثابر ويكافح ويبدأ في تجاربه، ليخترع المصباح الكهربائي بعد تسعة آلاف تجربة، بعمل يتراوح ما بين ثمان عشرة ساعة وعشرين ساعة في اليوم، في جَلَد عجيب، ثم لم يتوقف بعدها؛ فالنجاح -دائماً- يجر إلى النجاح، فينطلق في عشر سنوات أخرى من البحث والجهد في تجارب بلغت خمسين ألف تجربة، بتكلفة ثلاثة ملايين دولار، ليخترع بطارية السيارات وأجهزة الإشارة في السكك الحديد والإضاءة في الغواصات، ويُسأل: متى الإجازة يا أديسون؟
قال: في اليوم الذي يسبق جنازتي.
فهل استفاد أديسون من إضاءة المصباح واختراع البطارية؟
هل استفاد فائدة؟
نعم.
إنه استفاد شهرة ومالاً، لكنها مؤقتة تزول وتنتهي، لا تنفعه عند الله؛ لأنه لم يقل يومًا من الأيام: (رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أفلا حياء من الله أن يكون كافر مثل هذا أشد تجلُّدًا لأهدافه المؤقتة الوضيعة من مؤمن يؤمن بالله والدار الآخرة؟! خيبة وخسارة وخذلان!
فأدنى الفوارس من يُغِيرُ لمغنمٍ فاجعل مغارك للمكارم تكرم
أيها المؤمنون لا تتوانوا فالتواني وسيلة للتباب
وإذا المصلحون في القوم ناموا نهضت بينهم جيوش الخراب
فإن كنت مع هذا كله لم تتحرك -إذ أنك زمن الهمة، مقعد العزيمة، بليد الذهن- فيحق عليك قول القائل:
يخبرني البواب أنك نائم وأنت إذا استيقظت أيضا فنائم(32/19)
لا تبرر قعودك
فإن لم يحرك فيك ما مضى ساكنًا، فلا تبرر قعودك، ولا تبرر ضعفك، ولا تبرر خَوَرَك؛ فإن ذلك أقبح من ضعفك، وأشنع من خورك وقعودك، لكن سلِ الله أن يرفع ما بك؛ فهو خير لك.
يجلس بعض المتخاذلين عن تبليغ دين الله ونَشْرِه شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه -ولو بكلمة- أو كُلِّف بأبسط مهمة لخدمة دينه، انبرى يتهرب من المسئولية، ويورد لك الأدلة الصحيحة التي تدل على أن واقع المسلمين سيكون ضعيفًا وسيئًا في المستقبل ولابد من العزلة، فيوقعها على حاله، فإذا به ينبري ويقول: في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن}، ويقول صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح البخاري -: {ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم}، وهكذا دواليك، يبرر قعوده ولا يعمل بمقتضى الحديث الذي لا ينطبق على زمانه حقًا، ولم يفهمه في ضوء النصوص الأخرى؛ فأول ما يجني عليه اجتهاده، تعود نقض العزائم فحيل بينه وبين الغنائم.
ويجلس الآخر شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما عاتبته في التخاذل عن تبليغ دين الله واستغراقه في اللهو والترف، انطلق كالقذيفة مرددًا: {يا حنظلة! ساعة وساعة} وكأنه لا يعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غير هذا:
ما لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن
إن الذين لا تغلي دماؤهم، ولا تلتهب نفوسهم، ولا تهتز مشاعرهم لخدمة هذا الدين، لا يُعقد عليهم أمل، ولا يُناط بهم رجاء: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21]، والميت لا يحس بالأوجاع: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21].
إن النائم يوقظ، والغافل يُذكَّر، ومن لم يُجْدِ فيه التذكير ولا التنبيه فهو ميْت، إنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ} [غافر:13].(32/20)
بذل الجهد واستفراغ الوسع
الرابعة: إنما عليك الجهد، افعل وسعك وطاقتك وما تستطيع الدوام عليه؛ لئلا تنقطع في الطريق: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وإذا صلحت المقاصد لم يخب القاصد.
على المرء أن يسعى إلى الخير جاهدا وليسَ عليه أن تتم المقاصد(32/21)
التعاون على الخير والاستفادة من الطاقات
الخامسة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقَوَى} [المائدة:2] المؤمنون جماعة واحدة، ويد واحدة، وجسم واحد، وبنيان واحد، والجميع مسئولون عن تبليغ دين الله على سبيل التعاون والتآزر والتضامن، مع السعي الجاد إلى تغيير واقع الأمة، ونقلها من مجرد الإحساس إلى الوعي بأسباب الواقع والطريق إلى إخراجها من ذلك الواقع.
التعاون من أجل تمكين منهج الله -عز وجل- في الأرض قاطبة مطلب وضرورة، تجعل كل فرد يضاف إلى الآخر، ثم تُستثمر كافة العقول والسواعد والدقائق: {والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا} وكل يستفيد من الآخر، وإذا عنَّ بحر لا يجوز التيمم، والخيط الواهي إذا انضم إليه مثله، أضحى حبلا متينًا يجر الأثقال.(32/22)
تعاون فريد بين أعمى ومشلول
ذكر صاحب مواقف إيمانية أنه في حج سنة خمسة وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة رأى آلاف الحجاج منظرًا يثير المشاعر، ويستجيش المدامع، شاهدوا حاجَّيْن؛ أحدهما أعمى قادر على المشي، والآخر مشلول بصير العين، أراد الأعمى أن يستفيد من بصر المشلول، وأراد المشلول أن يستفيد من حركة الأعمى، فاتفق الحاجَّان على أن يحمل الأعمى المشلول؛ فالحركة من الأعمى، والتوجيه من المشلول، وقاما بتأدية المناسك على مشقة وجهد يعلمه الله؛ فالأمر ليس هيِّنًا، وكلكم يعلم، عند الطواف زحام، وعند السعي زحام، وعند رمي الجمار زحام، وفي كل مكان زحام، لكن العزيمة الصادقة والثقة بالله العظيم ورجاء ما عنده ينسي المتاعب والمكاره والمشقة.
أدَّوا فريضتهم ضاربين أروع الأمثلة في التعاون والاستفادة من الطاقات، هذا كله في تعاون اثنين؛ فكيف لو تضافرت جهود أمة بطاقاتها ومواهبها وإمكاناتها في خدمة دينها؟! كيف يكون الأمر؟ لا شك أنه سيكون:
كالبحر يقذف للقريب جواهراً جوداً ويبعث للبعيد سحائبا(32/23)
التعاون سنة من سنن الله في خلقه
إن التعاون طريق إلى البناء والنجاح، ونظرة يلقيها المرء على خلق الله تؤكد هذا الأمر.
أمة النحل أمة عجيبة، طائفة من أمة النحل تبني البيوت، وطائفة تنظفها، وطائفة تحرسها وتحميها، وطائفة تدل على مواضع الأزهار، وطائفة تمتص الرحيق لتأتي به، وتخرج العسل اللذيذ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وِلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38].
والنمل تبني قُراها من تماسكها والنحلُ يجني رحيقَ الشهدِ أعوانَا
إن يدًا واحدة لا تصفق -كما قيل- حتى إذا لم يبقَ إلا تلك اليد، أدَّت ما عليها غير ملومة، وحالها:
إذا عزَّ في قومي المسعفون فإنك يا خالقي مُسعفِي
فما أنا بالمستسيغ القعودَ ولا أنا بالشارد المسبحِ(32/24)
تعاون الجم الغفير في صنع رغيف الخبز
يقول صاحب: " شخصية المسلم ": رغيف الخبز على الرغم من صغر حجمه، لا يصل إلى الإنسان إلا بعد عمل عشرات بل مئات من البشر، تعاونت على تجهيزه وإعداده وتقديمه، ومن كان في شك من ذلك، فليسأل نفسه: من حرث الأرض؟ ومن بذر الحَب؟ ومن سقاه بالماء؟ ومن نظف الحشائش عنه؟ ومن حرثه؟ ومن حصده؟ ومن نقله إلى الجرن؟ ومن طحنه؟ ومن خبزه؟ ومن بالنار سواه؟ ومن إلينا حمله؟ ومن قدمه؟ ومن ومن أسئلة كثيرة، هذا الجهد في أمر رغيف خبز؛ فكيف بالأمر في خدمة دين الله، والتمكين له في بناء النفوس، وفي صنع الرجال، في كشف الظلم، في إنارة البصائر؟
إنه يحتاج إلى تضافر طاقات وقدرات، مع صبر ومصابرة وثبات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} [التوبة:71] فهيا إلى التلاحم، وهيا إلى التعاون، وهيا إلى التآزر.
فالنصر لم ينزل على متخاذل والرزق لم يُبعث إلى متواكل
ولنترك اللوم والتوبيخ؛ فاللوم لا يحرك ولا يجمع، والتفتيش عن الثغرات التي يدخل منها الداء أولى، وعند كلٍ من الهموم ما يكفيه، وليس بحاجة إلى مُعكرٍ إضافي، فليحوِّل كل منا أخاه إلى داعية معه، يحمل هَمَّ الدعوة ويتبنى أفكارها، وحاله يهتف ويقول:
أمتي في كل أرضٍ أنتم خير الأمم
فاجمعوا أشتات أنها ركم في غمر يم
تنشروا الخير الأعم تبلغوا العمر الأشم
وتكونوا سادة الدنيا وفرسان القمم
وما ذلك على الله بعزيز.(32/25)
المداومة والاستمرار في العطاء
السادسة: إنما السيل اجتماع النقط؛ بمعنى داوِم ولو على القليل "قليل دائم خير من كثير منقطع"، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل -وإن كان ضئيلاً- أصيلاً مستطاعًا مذللاً، يُقام به في غير ما عَنَتٍ، ليس المهم قدر العمل بقدر الاستمرار في أدائه؛ فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.(32/26)
ثمرات المداومة على الأعمال
أما ترى الحبل بطولِ المدى على صليب الصخر قَد أثرا
والشيء بثمرته يقدر ثمنه ويعرف ثمنه، ومن ثمرات المداومة ما يلي:
1 - نيل محبة الله التي هي غاية منى المؤمنين، الذين هم أشد حبّاً لله.
من أين أخذت هذا؟
من الحديث القدسي الذي رواه البخاري: {وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه}، وإذا ما حصلت محبة الله فالنتيجة: {فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه} وفوق هذا ما رواه الشيخان: {إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض}.
أهيب بقومي إلى المكرمات ألا هل ملب ألا هل مجيب
2 - ترويض النفس على مكابدة الهوى، حتى تعتاد الخير؛ فالنفس من طبعها حب التفلت والانطلاق، لكنها إذا رُوِّضَت ذلَّتْ، واستجابت إلى ما تكره، فتمزق حُجب البَطالة، وتقفز على أسوار المكاره، وتستمر على ما رُوِّضَت عليه، وتداوم دون كلل ولا ملل حتى وإن استغرقت هذه المداومة العمر كله.
يقول أحد أهل السلف: عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي، ويقول: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أَقْدِر منه على ما أريد، وجاء عن التابعي الجليل ابن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي.
وما يردع النفس اللَّجوج عن الهوى من الناس إلا حازمُ الرَّأي كامِله
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أُطمعت تاقت وإلا تسلَّتِ
3 - الأمن من الحسرة عند المرض أو العجز أو الفتنة؛ فالمُداوم حين يُحال بينه وبين العمل يجري له ما كان يعمل، يعرف هذا مما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا} فلا حسرة ولا ندم.
4 - تربية النفس على أخذ معالي الأمور، وعدم الرضا بالدُّون، ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ}.
5 - إملال الشيطان وإضعافه، وقطع الطرق عليه، يقول الحسن رحمه الله -كما في الزهد لـ ابن المبارك: إذا نظر إليك الشيطان، فرآك مداومًا على طاعة الله، فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا ملَّكَ ورفضك، وإن كنت مرة هكذا، ومرة هكذا، تتقدم خطوة، وتتأخر خطوتيْن -كما يفعل البعض- طمع فيك.
هذه بعض ثمرات المداومة على العمل، ومن عرف للثمرة قدرها؛ بادر إلى الشجرة لقطفها.(32/27)
نماذج من السلف في المثابرة على الخير
يقال لـ ابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟
قال: حتى الممات إن شاء الله.
وقال له آخر: إلى متى تكتب العلم؟
قال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تكتب بعد.
والأعمش يروي عنه وكيع أنه لم تفُتْه تكبيرة الإحرام مع الإمام سبعين سنة، ويقول: اختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة.
من منا يلقى الله، وقد أدرك التكبيرة الأولى مع الإمام أربعين يومًا، مع أن له براءتين؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار؟! فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!
روى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتيْن إلا ووصيته مكتوبة عنده، يقول ابن عمر: والله ما مرت عليَّ ليلة مذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي}.
إذا فعلوا فخير الناس فعلاً وإن قالوا فأكرمهم مقالا
ترى جداً ولست ترى عليهم ولوعًا بالصغائر واشتغالا
ويُروى أن حمدون بن حماد بن مجاهد الكلبي رحمه الله كان يقول: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب، ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم يُكتب بعد.
لعل هذا مما يعين على المداومة على العمل، كلما عملت عملاً قلت: لعل هذا لا يبلغني الجنة؛ فإلى آخر وإلى آخر، حتى تلقى الله على ذلك، فربك أغفر وأرحم سبحانه! فجاهد نفسك وداوم على العمل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].(32/28)
الصبر واليقين
السابعة:
إنما الأخطار أثمان المعالي ربما الأجسام صحت بالهزال
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
والعبقرية حرمان وتضحية وليس ينبغ إلا كل صبار
إن حمل الدعوة إلى الناس وجعلهم يؤمنون بها ويثقون ويتأثرون عملية صعبة شاقة تحتاج إلى صبر وثبات، وإن المضي في طريق الدعوة ليس بأمر هيِّن، ولا طريق ميسور؛ بل لابد من عزم وقوة وصبر وثبات، لا يُؤْتَاه إلا من نذر نفسه لله غير مبالٍ بما سواه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
والصبر يوجد إن باء له كُسِرت لكنه بسكون الباء موضوع
والله عز وجل قد وجَّه نبيه صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية إلى الصبر والجلد وقوة التحمل، فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} [المزمل:10] وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُؤْقِنُونَ} [الروم:60].
الصبر تفاؤل دائم، حتى لو ضربت الجاهلية أطناب الأرض؛ فلا يسوغ بحال الانسحاب من الميدان؛ إذ يخلو الجو للشيطان، يَكِر الجراد على الحَرث فيلتَهمه، وقد تُغِير اللصوص عليه فينتهبونه؛ فلابد من صبر وصمود وثبات حتى ينبت ويثمر العود.
ولست بخالعٍ درعي وسيفي إلى أن يخلع الليل النهارا
كل لذة منقطعة عند أول غمسة في جهنم، وكل بؤس وشقاء ينقطع عند أول غمسة في الجنة، وللباطل جولة ثم يذهب هباءً، والحق له صولة وهو أنفع، وله البقاء.
فإذا ادلهم الخطب، واشتد الظلام، فارتقب بزوغ الفجر، وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ثم اصبر وصابر؛ فإن العاقبة للمتقين، وخاب المُبْطِلون، وبشِّر الصابرين، واصبر على ما يقولون.
لا يفزعنك هول خطب دامس فلعل في طياته ما يسعد
لو لم يمد الليل جنح ظلامه في الخافقين لما أضاء الفرقد(32/29)
التمهل وعدم العجلة
الثامنة: تمهَّل ولا تعجل في دعوةٍ أو حكم يوشك أن تصل، إن من سنن الله في النفس أنها لا تضحي ولا تبذل، إلا إذَا عُولِجت من داخلها، وتجردت من حظوظها، وأدركت فائدة التضحية والبذل، وذلك لا يتم إلا في وقت طويل وجهد
وتكاليف وكدح دائب في أناة ليس يعروها ملل
فليعلم.(32/30)
إغفال المرحلية مصادمة للسنن الإلهية
ومن سنن الله مع العصاة والمكذبين والمجرمين والكافرين الإمهال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].
إذا أغفل الداعية هذه السنن تعجل، ولربما فشل في دعوته وكبا.
إن من يريد تغيير الواقع في أقل من طرفة عين دون النظر إلى العواقب والسنن كمن يريد أن يزرع اليوم، ويحصد غدًا، بل يريد أن يغرس في الصباح ليجني الثمرة في المساء، وهذا محال؛ لابد من صبر وتروٍّ على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم يبادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سار على الطريق وصل.
إن شيوع المنكرات وإحاطتها بالمؤمن من كل جانب؛ مع العجز -أحيانًا- عن تحمل أعباء الطريق ومشاقِّه، مع واقع أعداء الله بالصد عن سبيل الله، مع الطاقة الضخمة التي يولدها الإيمان في النفس؛ قد يدفع هذا كله إلى العجلة، إذا لم تُضبط الأمور بضابط الشرع.
يرد يدي عن بطشها خوف ربها ويمنع نفسي أن تخادع دينها(32/31)
المرحلية والتدرج في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة قد بُعث والأصنام من حول الكعبة تحيط بها وتعلوها، ثم لم يقبل على إزالتها إلا يوم فتح مكة في السنة الثامنة؛ أي بعد بعثته بواحد وعشرين عامًا؛ لتقديره صلى الله عليه وسلم أنه لو قام بتحطيمها في أول يوم قبل أن تُحطَّم في داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أعظم وأشنع، وعندها يتفاقم الأمر، ويعظم الضرر، ولذا تركها صلى الله عليه وسلم وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب، حتى إذا ما تم له ذلك أقبل بتلك القلوب ليفتح بها مكة، ويزيل الأصنام، فكان ما أراد: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
لكل شيء في الحياة وقته وغاية المستعجلين فوته
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما ترويه عائشة أنه لولا أن قومها حديثو عهد بكفر لنقض الكعبة، وأعادها على قواعد إبراهيم، وهذا هو الثِّقب حقًّا؛ أعني: رفض المنكر بالقلب، ومقاطعته خوفًا من أن يؤدي إلى منكر أكبر، مع البحث عن سبل التغيير، والعزم على أنه حين تتاح الفرصة لتغييره، فلن يكون هناك تباطؤ أو توانٍ.
فكن أسداً في جسمه روح ضيغم وكم أسد أرواحهن كلاب
يمنع الليث حماه أن يرى فيه كلبًا عاديًا إن زأرا
ليعد الواحد منا نفسه ما دامت الظروف غير ملائمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات قاصرة، حتى إذا ما لاءم الظرف كان حاله كحال القائل يوم قال:
أنا أبو طلحة واسمي زيد وكل يوم في سلاحي صيد(32/32)
تعلم المرحلية من شجرة الصنوبر
ثم انظر وتأمل واعتبر، هاهي شجرة الصنوبر تثمر بعد ثلاثين سنة، وشجرة الدباء -القرع- تثمر في أسبوعين؛ تسخر الدباء من الصنوبر، وتقول: إن الطريق التي تقطعينها في ثلاثين سنة أقطعها في أسبوعين، ويقال لك: شجرة، ولي: شجرة، فتقول شجرة الصنوبر: مهلاً إلى أن تهب رياح الخريف، وعندها يعرف المضمار، ويعرف السابق والخوار.
فَتَصَبَّر لتصبر، وتحلَّم لتحلُم، ولا تعجل؛ فقد تُكفى بغيرك، ويُكتب لك بصدق نيتك ما لغيرك.
ورب عجلة أورثت ريثاً:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل(32/33)
كن متمهلاً كالأحنف
ليكن حالك -أحياناً- حال الأحنف بن قيس رحمه الله يوم جاءه رجل، فلطم وجهه، فقال: باسم الله يا بن أخي ما دعاك إلى هذا؟
قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم.
قال: فبِرّ بيمينك؛ فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة.
ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب
فذهب الرجل إلى حارثة، فلطمه، فقام إليه، واخترط السيف، وقطع يمينه، ولسان حاله:
وسيفي كان في الهيجا طبيبًا يداوي رأس من يشكو الصداعا
فلما بلغ الأحنف ما حصل لهذا الأحمق قال: أنا -والله- قطعتها.
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
العاقل لا يفعل أمرًا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصَّر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطى، ولا يستبق الأحداث، ولا يتسرع بالحكم على الأمور؛ بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، وينظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة والساعة الحاضرة، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متأنية تحسب كل حساب؛ فكن أفضل من أن تَخدع، وأعقل من أن تُخدع.
لا خب ولا الخب يخدعك:
ولترقَ شيئًا فشيئًا صاعدًا درجًا من البناء رصينًا واحذر العجلا
فكم عجول كبا من ضعف رؤيته وذي أناة أصاب الرشد والأملا(32/34)
كن أحزم من قرلى
التاسعة: كن أحزم من قرلى؛ والقرلى: طائر مائي ذو حزم لا يُرى إلا حذراً على وجه الماء؛ عين في الماء طمعًا، وعين في السماء حذرًا، ولذلك تقول العرب في المثل: كن أحزم من قرلى؛ إن رأى خيرًا تدلى، وإن رأى شرًا تولى.
ومن الحزم ترويض النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها وعدم الرضا بالدون دون علاها وما يزكيها؛ فإن في النفس -كما يقول ابن القيم - من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشَرَه الكلب، ورعونة الطاوس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجاهدة يُذهب ذلك كله بإذن ربه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد.
إن من يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، إنما هو سفيه لا يعرف الحزم، ولا الحزم يعرفه، عينه عين هوى، وعين الهوى عين عمياء.
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهَها تاقت إلى كل مطلب
بعضنا أكبر همه ومبلغ علمه لقمة وشربة ولباس ومركب؛ مطعم شهي، وملبس دفي، ومركب وطي، قد رفع راية:
إنما العيش سماع وندامى ومدام
فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
هوان لا يعرف الحزم، وذلة لا تعرف العز، عار ينكره الحر والأسد، ويألفه الحمار والوتد.
إن الهوان حمار البيت يألفه والحر ينكره والفيل والأسد
ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يُشج فما يأوي له أحد(32/35)
الحزم على قدر الاهتمامات
الحزم بقدر الاهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، والتجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والمنية خير من الدنية، ومن عزَّ بزَّ:
فثِبْ وثبة فيها المنايا أو المنى فكل محب للحياة ذليل
ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة؛ واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.(32/36)
أبو مسلم الخولاني والحزم مع النفس
كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازمًا مع نفسه، قد علق سوطًا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا إلى الله حتى يكون الكَلَل منك لا مني؛ فإذا فتر وكَلَّ وتعب تناول سوطه وضرب ساقه، ثم قال: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا! والله لنزاحمنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً.
هم الرجال وعيب أن يقال لمن لم يكن في زيهم رجل
حالهم:
عباس عباس إذا احتدم الوغى والفضل فضل والربيع ربيع(32/37)
ترك التحسر على الماضي والاستفادة من المستقبل
العاشرة: عَوِّض ما فاتك، من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله؛ فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيَّعه في الحزن والتحسر.
إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا باجترار أحزان الماضي؛ إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة، وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة.
ابن عقيل الحنبلي رحمه الله، وهو في الثمانين يقول:
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ولا ولائي ولاديني ولا كرمي
وإنما اعتاد شعري غير صبغته والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم
فإن كنت ترجو معالي الأمور فأعدد لها همة أكبرا
تلك النفوس الغالبات على العلا والحق يغلبها على شهواتها
ألا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له، وليعوض؛ فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإمهال فائدة؛ فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة:
فإن تك بالأمس اقترفت إساءةً فبادر بإحسان وأنت حميد
ولا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ لعل غدًا يأتي وأنت فقيد(32/38)
أنس بن النضر وموقفه في يوم أحد
غاب أنس بن النضر رضي الله عنه عن وقعة بدر، فأحس بألم غنيمة ضيعها، فقال -كما روى البخاري ومسلم: {يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين؛ لئن أشهدني الله مشهدًا آخر في قتال المشركين ليرين الله مني ما أصنع} فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، أقبل أنس يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون، ثم يتقدم ويكسر غمد سيفه، ويستقبله سعد بن معاذ، فيقول: الجنة ورب النضر! إني لأجد ريحها من دون أحد، يقول سعد: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، ولما انتهى من المعركة وجدوه قد قُتل ومثَّل به المشركون، به بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم؛ فما عرفه إلا أخته ببنانه:
إما فتى نال المنى فاشتفى أو بطل ذاق الردى فاستراح
إما إلى العز أو تقضي بساحته ذل الحياة وطعم الموت سيان
من تذكر في تفريطه أَنَّ، ولتعويض ما مضى حَنَّ.(32/39)
عكرمة وتعويض ما سلف
عكرمة رضي الله عنه أسلم عام الفتح، وشعر بما قد فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: {والذي نجَّاني يوم بدر -يا رسول الله- لا أدع نفقة أنفقتها بالصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتال قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله} ويبر بقسمه؛ فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان في طليعتهم، وفي يوم اليرموك، وما يوم اليرموك؟ أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادره خالد بن الوليد قائلاً: لا تفعل يا عكرمة! إن قتلك على المسلمين سيكون شديدًا، قال: إليك عني يا خالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي أبو جهل، فقد كنا أشد الناس عداوة على رسول الله، دعني أُكَفِّر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم؟! والله لا يكون أبدًا.
فلو بان عضدي ما تأسف منكبي ولو مات زندي ما بكته الأنامل
ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، ولقي الله عكرمة مُثخنًا بجراحه، ولسان حاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فرضي الله عنه وأرضاه:
بذل النفس فداءً ورضا وقضى العمر وأقصى السفرا
همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم؛ فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم، فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله على أنفسهم عقدًا؛ فما نكثوا، وما نقضوا؛ فبادر -أخي- قبل العوائق، واستدرك ما فات؛ فلعلك بالأخيار لاحق؛ إن كنت على طريقهم، فما أسرع اللحاق بهم!
إذا استدرك الإنسان ما فات من علا إلى الحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب(32/40)
العدل والإنصاف
الحادية عشرة والأخيرة: العدل العدل! فبه قامت السماوات والأرض، القلوب جُبلت على حب من يعدل فيها، ويحنو عليها، وتمنح ودَّها لكل من يعدل فيها، ويحسن إليها، ومن يحيف عليها، ثم يحاول إجبارها على حبه إنما يكلفها ضد طباعها.
ومكلف الأشياء ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
إعطاء كل ذي حق حقه عين العدل، مدح من يستحق المدح في غير ما خشية الفتنة عليه عدل، تأنيب من يستحق التأنيب عدل، الاعتراف بجهود الآخرين عدل، الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه عدل، قبول النصح عدل، إسداء النصح عدل، التربية على العدل عدل، والله -تعالى وتقدس وتبارك- يأمر بالعدل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].(32/41)
إنصاف عمر بن الخطاب
يذكر الطبري في رواية مرفوعة إلى إياس بن سلمة عن أبيه أنه قال: مرَّ عمر رضي الله عنه بالسوق، ومعه الدرة، فخفقني بها خفقة لم تُصب إلا طرف ثوبي، وقال: أَمِطْ عن الطريق؛ أي: لا تزحم الطريق، قال: فلما كان العام القادم لقيني عمر، فقال: يا سلمة! أتريد الحج؟ قلت: نعم، قال: فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى منزله، ثم أعطاني من ماله ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتكها بالعام الماضي، قلت: يا أمير المؤمنين! والله ما ذكرتها، قال: وأنا -والله- ما نسيتها.
للمعالي فليعلُ من قد تعالى هكذا هكذا وإلا فلا لا
من أراد العدل والإنصاف فليضع نفسه مكان أخيه، وليفعل ما يرضاه لنفسه.
ارض للناس جميعًا مثلما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعًا كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسِّك(32/42)
بين علي وعمر في مجلس القضاء
شكا رجل علياً رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه، فلما جلس عمر لينظر في الدعوى، قال لـ علي: ساوِ خصمك يا أبا الحسن، فتغير وجه علي رضي الله عنه، ثم قضى عمر في الدعوى، وذهب الخصم، فالْتفت عمر إلى علي، وقال له: أأغضبتك -يا أبا الحسن - إذ سويت بينك وبين خصمك؟
قال علي: كلا.
قد غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه يا أمير المؤمنين، لقد أكرمتني، ودعوتني بكنيتي -يا أبا الحسن - ولم تنادِ خصمي بكنيته؛ فذلك الذي أغضبني، فقبَّل عمر رأس علي، وقال: [[لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن]].
حكموا فكان العدل شرعة حكمهم ما الحكم ما السلطان إن لم يعدل
سارت مبادئهم وسارت خلفها أفعالهم في موكب مُتمثَّلِ
شادوا من التقوى أصح مواقف وبنوا من الحسنات خير قلاع
ونتجاوز بعض الإشارات وأحسب أني بذلت وسعي أن أخرج من هذا اللقاء بفائدة تنفع المسافر أو بإشارة توقظه، وقد تكاثرت الإشارات ولم نأتِ إلا على بعضها، وذا يؤكد أن الموضوع لا زال واسعاً قابلا للزيادة؛ يسَّرها الله بمنِّه وكرمه.
هذه كلمتي لقد قاسمتني بعض نفسي وفكرتي وشبابي
ما على العاجزين مثلي سوى القو ل فذي عدتي وهذا جرابي
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه الكلمات المسلمين والمسلمات، وأن يسلك بنا وبكم سبيل المؤمنين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همَّهم، اللهم نفِّس كربهم، اللهم ارفع درجتهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء! يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(32/43)
الإكثار من ذكر الله وفضائل ذلك
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، مقدر الأمور كما يشاء ويختار، مُكَوِّر الليل على النهار، خلق الشَّمس والقمر بحسبان ومقدار، وجعلهما مواقيت في هذه الدار، حكمة بالغة من عليم ذي اقتدار، أحمده وأشكره، وفضله على من شكره مِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقَدِّرُ الأقدار، شهادة تبوئ قائلها دار القرار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البدر جبينه إذا سُرَّ استنار, واليمُّ يمينه إذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، الحَنِيفيَّة دينه الدين القَيِّم المختار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرق بشرعته بين المتقين والفجار، حتى امتاز أهل اليمين عن أهل اليسار، فتح الله به القلوب فانشرحت بالعلم والوقار، والآذان فزال عنها ثقل الأوقار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأخيار
ما ناض برق وما هب النسيم وما مس الحجيج لبيت الله أركانا
أو قهقه الرعد في هدباء مدجنة أو ناح طير على الأغصان أزمانا
والآل والصحب ثم التابعين لهم على المحجة إيماناً وإحسانا
ما هبَّ نشر صباً واهتز نبت ربىً وفاح طيب شذاً في نسمة السحر
معشر المؤمنين: أحييكم بأسمى وأجلِّ وأجمل تحية، تحية هذا الدين؛ الذي نظم الله به عقد أمتنا بعد انفراط، ووحدها بعد فرقة، وجمعها بعد شتات، صقل به نفوسها، وهذَّب طباعها، وشحذ عزائمها، وشذَّب أخلاقها، حتى جعلها خير أمة أخرجت للناس، مُتآلفة القلوب، مُتآخية الأرواح: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63].
فسلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أهل وصحب وإخوان.
أنى التقينا التقى في كل مجتمع أهل بأهل وإخوان بإخوان
حسبت نفسي نزيلاً بينكم فإذا أهلي وصحبي وأحبابي وإخواني
من كل أبلج سامي الطرف مضطلع بالخطب مبتهج بالذكر جذلان
يمشي إلى الذكر بساماً ومنشرحاً كأنه حين يبدو عود مران
يا أهل ينبع قد طوقتم عنقي بمنةٍ خرجت عن طوق تبيان
قد قلتها غبطة لله دركم ليس الفلاح لوان غير يقظان
لي موطنٌ في رحاب البيت أعظمه ولي هنا في حماكم موطن ثانِ
لا أوحش الله ربعا من زيارتكم يا من أثاروا بقلبي جل أشجاني
إنَّ من سوابغ نعم الله عليَّ أن ألتقي بمثل هذه الوجوه التي لا أحسبها إلا بالإيمان مشرقة، والبصائر التي لا أظنُّها إلا باليقين متفتحة، والقلوب التي لا أحجوها إلا بالصدق عامرة، والآذان التي لا أُراها إلا للخير سامعة واعية، فلله الحمد في الأولى والآخرة.
كل من تلقاه أو يحدِّثُك يأخذ منك ويعطيك، ويترك في نفسك أثراً حسناً أو سيئاً مؤقتاً أو باقياً، ومن تلتقي بهم في دروب الحياة على أصناف ثلاثة -كما يقول الحكيم- فمنهم من يمر مرور السَّيل العَرَمْرَم الدَّفَّاع يدمر العمران، ويقتل الحيوان، ويؤذي الإنسان، ومنهم من يمر مرور ماء النهر على الصخر لا يترك أثراً، فلا يُنبت زهراً، ولا يُخرج ثمراً، ومنهم من يمر مرور الماء على الأرض البِكر تكون قبله قاحلات مُمْحلات، وتصير بعده جنات وبساتين مُمْرعات، مبارك أينما كان.
درة كيفما أديرت أضاءت ومشم من حيثما شم فاحا
أينما وَقَع نَفَع:
كالغيث من كبد السحاب هطوله يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كالبدر من حيث التفتَّ رأيته يُهدي إلى عينيكَ نوراً ثاقبا
فأرجو الله بمَنِّه وكرمه أن نكون من هذا الصنف المبارك.
مثل فرع بدوحة العز تأوي تحت أفنانه عفاة الديار
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس في هذه الدار على جناح سفر، وكلٌ مسافر ظَاعِن إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره، ونازل عليه عند القدوم عليه.
وللمسافر غايات يؤمِّلها لا شيء يشغله عنها فيحصيها
معاشر الإخوة! لا زلنا على الطريق، نغري ونحذر، نرغب ونرهب، نشير ونصرح، نوري ونلمح.
إن تردد العقل بين حق وباطل كانت دعوتنا على الطريق إلى الحق، إن تردد الطبع بين فضيلة ورذيلة كانت دعوتنا على الطريق إلى الفضيلة، إن ترددت النفس بين الشهوة والواجب كانت دعوتنا على الطريق إلى الواجب، إنه طريق شاق ولا شك؛ لِمَ؟
لأن الانحدار مع الهوى سهل، والصعود إلى المثل الأعلى صعب وحزن، الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، لكنه لا يصعد إلى الأعلى إلا بالمضخات والجهد العاتي.
من الناس من شغلتهم على الطريق توافه الحياة عن مقصد الحياة، وألهتهم مناظر الطريق عن غاية السفر، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، يعملون ليومهم وحده كالسوائم، لا يرون إلا ما بين أقدامهم، صفوف معوجة منشقة، وقلوب خاوية حائرة، سجدة خامدة لا حرارة ولا شوق فيها جامدة، انطفأت من القلب شعلته، وخمدت في الفؤاد جمرته؛ لذا كان لابد على الطريق من إشارات تحدو من سلك، وتغري من قعد وتسمو به، تدعو إلى مد البصر إلى الأمام، والنظر إلى البعيد والعمل لليوم والغد ولليوم الآخر، في صفوف موحدة وقلوب عامرة.
وقد سبق عرض إحدى عشرة إشارة في محاضرة سابقة، واليوم نعرض للجزء الثاني منها، والذي ما هو إلا حصيلة جهد مقل؛ لك غنمه أيها المستمع وعلى القائل غرمه، لك ثمرته وعليه عائده، فإن عدم منك حمداً وشكراً فلا يعدم منك عذراً، فإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، والله المسئول أن يجعلها لوجهه خالصة وأن ينفع بها قائلها وسامعها ومستمعها في الدنيا والآخرة، هو حسبنا ونعم الوكيل.
فسهل يا إلهي كل صعب فمن غير الرءوف لنا يسهل
وأهلا بالدليل إلى المعالي ألا سر يا دليل ونحن نسري
الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتاً بلا سقف.
بمعنى: لا يزال لسانك رطباً على الطريق بذِكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيتاً بلا سقف حَرِيٌّ أن يكون مَرتعاً للغُبَار والقاذورات، ومأوى للهوَامِّ والحشرات، كذلك إن بيتاً لا يُذْكر الله فيه لا سَقْف له، خراب بَلْقَع لا داعي به ولا مجيب، و {مَثَلُ البيت الذي يُذْكر الله فيه والبيت الذي لا يُذْكر الله فيه مثل الحي والميت} كما في صحيح مسلم رحمه الله، إن إنسانا لا يَذكر الله لا سقف له، حَيٌ بعَظْم مَيْت.
إذا ما الحي عاش بعظم ميت فذاك العظم حي وهو ميت
و {مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحيِّ والمَيْت} كما ثبت عند البخاري رحمه الله.
والناس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فلم أَر غير حكم الله حكماً ولم أر دون ذكر الله بابا
خذ ما يسر ودع شيئاً تضر به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
إنَّ جَمعًا لا يُذكر الله فيه لا سقف له، مضطرِب أَرِق قَلِق.
كريشة في مهب الريح ساقطة لا تستقر على حال من القلق
{والدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكر الله وما وَالاه، وعالِماً أو متعلِّماً}.
في الزهد لـ ابن المبارك رحمه الله: أنَّ أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجداً، فرأى فيه حلقة، ظنَّهم في ذِكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: سبحان الله! هل تدرون -يا هؤلاء- ما مثلي ومثلكم؟ مثلي ومثلكم كمثل رجل أصابه مطر غزير، فالتفَت فإذا هو بمِصرَاعين عظيمين، فقال: لو دخلتُ هذا البيت حتى يذهب عني المطر، فدخل فإذا هو ببيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذِكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا.
كم حديث يظنه المرء نفعا وبه لو درى يطول البلاء(32/44)
انتفاع القلوب بذكر الله
إنَّه ليس أنفع في جلاء القلوب واطمئنانها من ذكر الله ومناجاته، وليس هناك مَن هو أولى بملازمة ذِكر الله من الداعية إلى الله، وكلنا ذاك الرجل؛ الذي جعل مِحوَر حياته خدمة لدين الله، فهو أحرى بأن يذكر الله قائماً، وقاعداً، وعلى جَنب، وفي كل حين وآن، فذكر الله يُرَقّق المشاعر، ويُوقظ القلوب والضمائر، ويُرهِف الإحساس، ويشرح الصدور، ويسمو بالنفوس ويزكيها، ويترفع بها عن شهواتها، ويملك جِمَاحها، ويرفع الدرجات، ويكفِّر السيئات -ومع ذا- خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان، حبيب إلى الرحمن.
فمن الخطورة العظيمة- أيها الأحبة- أن نتحول إلى مُنظِّرِين مُخطِّطِين، ثم لا نكون الربانيِّين العابدين الأوَّابين المُفردين، الذاكرين الله كثيراً، المخبتين، فنصبح محرومين، أعوذ بالله رب العالمين.
المحروم من نعمة ملازمة ذِكر الله محروم من الإحساس المرهَف، والضمير اليقظ الحي، حياته جمود وعَطالة وبطالة وانحطاط، أنَّى له أن يصل إلى وجهته؟!(32/45)
إنما يذكِّر الناس ويؤثر فيهم الذاكرون
إنَّ المسلم بصفة عامة، وطالب العلم بصفة خاصة، جدير بأن يُذكِّر الناس بالله، حتى إذا ما رُئِي ذكر الله تعالى، فكيف به إن كان غافلاً؟! أيكون جديراً بالتذكير؟! كلا والله! إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه.
هل يطلب الماء ممن يشتكي عطشاً هل يطلب الثوب ممن جسمه عَاري
يا بانياً بالماء حائط بيته فوق العباب أَرى البناء مهيلا
أرأيت قبلك عارياً يبغي نزال الدارعين
كلا.
إنَّ بحر الحياة الدعوية ليست السباحة فيه بالخَطْب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة الغرق، ألا وهي سفينة الإيمان والاطمئنان بذكر الرحمن، كثير ممن يحسنون السباحة غرقوا في هذا البحر، وما رأينا سفينة الإيمان وذكر الرحمن تغرق فيه أبداً.
وعلى الطريق سبق المفرِّدون، إنَّ القلب بذِكر الرحمن بلد عامر مأمون، وحصن مُحكَم محصون، وروضة مباركة لا يكاد ينفد نعيمها، ولا ينضب معينها، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، الذِكر مِسك، والغَفلة رماد، الذكر جواد، والغَفلة حمار، فليكن لسان الحال على الطريق: ما كنتُ لأتخطى المسك إلى الرماد، ولا أمتطي الحمار بعد الجواد.
وإنما يتيمَّم من لم يجد الماء، ويرعى الهشيم من عَدِم الجَمِيم، ويركب الصعب من لا ذَلول له، أمَّا لسان المقال:
فالعزِّ داري وظهر العزم راحلتي والذكر أنسي ومن والاه إخواني
فيا قدمي لا سرت بي لمذلة ولم ترتقي إلا إلى العزِّ سلما(32/46)
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
الثالثة عشرة: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه:
قل خيراً تغنم، أو اسكتْ عن سوء تَسْلم، إنَّ من شأن الساعي إلى الكمال على الطريق أن يُقبِل على كل أمر ينفعه، وأن يسلك السُّبُل المُفضية إلى ما رامه وأمّله، ويجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبَّى بنفسه عن كل ما مِن شأنه أن يُنزِل قدره، ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، فتراه مترفِّعاً عن اللهو واللغو، قد شغل نفسه بما يفيدها في آخرتها ودنياها، في حدود ما أذن الله له به.
فإذا عَرَض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه، وأكرم نفسه عنه؛ إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو أو لهو مَهين.(32/47)
من آثار السلف في الاشتغال بما يعني
وإليك أخي المسافر العاقل على الطريق هذه اللفتة من ابن القيم رحمه الله يقول فيها:
اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاتَه ما يعنيه؛ فإيَّاك ثم إيَّاك أن تُمكِّن الشيطان من بيت أفكارك؛ فإنه يُفْسِدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويُلقي إليك الوساوس، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمِثَالُك معه كَمِثَال صاحب رحى يطحن فيها الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبَعْر وفحم وغثاء؛ ليطحنه في طاحونه، فإن طردته ولم تُمَكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون، فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون، أفسد عليك ما في الطاحون من الحَب، فخرج الطحين كلُّه فاسداً.
فيُتْرك ماؤكم من غير وِرد وذاك لكثرةِ الأخلاط فيه
فاللبيب يُفِكر فيما يعنيه، بل فوق ذلك قد علم أن كلامه من عَمَلِه، فَقل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه.
فإنَّ لسان المرء ما لم تَكن له حصاةٌ على عَوراته لَدَليلُ
لا خير في حشو الكلا م إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينه
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[لا تتكلم فيما لا يَعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك الزور، ولا تتكلم فيما يَعنيك حتى تجدَ له موضعاً، فَرُبَ مُتَكلم في أمر يَعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته]].
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
والأدبُ النافعُ حسنُ السمتِ وفي كثير القَولِ بعضُ المَقتِ
يقول عطاء بن رباح رحمه الله: "أما يستحي أحدكم لو نُشَرت صحيفته التي أَمْلَى في صدر نهاره، وليس فيها شيءٌ من أمر آخرته ينفعه".
واهاً ثم واهاً.
إن الشجاعة في القلوب كثيرةٌ وَوَجدتُ شُجعان العقولِ قليلا
دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض، فكان وجهه يتهلَّل، فقِيل له: ما لوجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: [[ما من عمل شيء أَوْثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليماً]] {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
ودخل رجل فضولي على داود الطائي رحمه الله زائراً، فقام يتفقد البيت، ثم قال: يا إمام! إن في سقف بيتك جِذعاً مكسوراً.
قال: يا بن أخي! إنَّ لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه، مالك وله رحمك الله؟! {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
فأولى لكم ثم أولى لكم مزيد من الصَّحْو واليقظة(32/48)
مقارنة بين حالنا وحال السلف في الكلام فيما لا ينفع
إن واقعنا حديثٌ بلا فائدة، وأسئلةٌ بلا نهاية، وتفصيل لا يفيد متحدثاً، ولا ينفع مستمعاً، ولا يُزَكِّي نَفْساً؛ تضيع الطاقات والأعمار سُدَى، وتلك داهيةٌ والله، وأدهى من ذلك من لا يكتفي بتضييع وقته في اللغو واللهو، حتى يشتريه بماله ويُضِل به ويَضِل، إنَّها الفاقرة، ونسأل الله العافية!
لقد خلق الله هذه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تقف أبداً ولا تسكن، فلابد لها من شيء تطحنه -كما يقول ابن القيم رحمه الله- فإِنْ وُضِعَ فيها حب طحنته، وإن وُضِع فيها تراب أو حصى طحنته، ولن تَبقى الرحى معطلة أبداً، بل لابد لها من شيء يُوضَع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتِبْناً، فإذا جاء وقت العجين والخبز تبين له حقيقة طحنه.
وكلُ ما يزرع الإنسان يَحصده فأَحْسِن الزرع يحسن حين يُحتصد
ورحم الله ابن بشار يوم قال -متحدثًا بنعمة الله عليه-: منذ ثلاثين سنة ما تكلمتُ بكلمة أحتاج أن أَعْتَذر عنها.
واسمع أخي لأحد السلف رحمه الله يوم أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له: ما يسوءك منها؟
قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك، فقيل له: لِمَ طلَّقتها؟ قال: ما لي وللكلام عن امرأة صارت أجنبية عني: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
مجالسهم مثل الرياض أنيقة لقد طاب منها اللون والريح والطعم
كيف لو خطر ببال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد؟!
إنه لا شك سيرى كمّاً هائلاً من الأوراق، ولو حاسب نفسه مُنْصفاً لوجد كثيراً من الزَّلات والسقطات، فنسأل الله الثبات والعفو والصفح عن الزلات.
إن نسيت فلا أنسى أن أنبه على أن مما يعنيك -بل يجب عليك- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -عز وجل- على بصيرة، ولو كَرِه ذلك الفُسَّاق والمجرمون، وقالوا: {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} فإن المقياس ليس هواهم، بل شرع ربنا ومولاهم.
وما على العنبر الفواح من حرج إن مات من شمه الزبال والجعل
دع أخي ما لا يعنيك ولو كان مباحاً؛ فإنه تضييع لزمانك، واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، وكم من كلمةٍ بُنِيَ بها قصر في الجنة، بل هي كنز من كنوز الجنة، وكم من أخرى باعدت بينك وبين السبل المفضية إلى الجنة، رزقنا الله وإياك الجنة بمنِّه.
لا يضع يومك في التيه كما ضيعت أمسك(32/49)
الحكمة في التربية الدعوية
الرابعة عشر: كُن طبيبًا رفيقًا يضع دواه حيث ينفع؛ بمعنى: لا تضع العلم عند غير أهله فتُجهَّل، ولا تمنع العلم أهله فتَأْثم؛ من الناس من يطلب العلم لشرٍ كامن، ومكرٍ باطن، فيستعمله في شُبَهٍ دينية، وتَلْبِيس دنيء، وحيلٍ فِقهية، فلا يعان على إمضاء مكره، وإكمال شره، بل مُهان غيْرُ مُكَرم يُحْرم، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفِطنة، فلا يُحمل عليه بكثير العلم فيُظْلَم، ولا يُمنع من اليسير فيُحرم، وإنما يَنفع سَمعُ الآذان إذا قَوِيَ فهم القلوب في الأبدان، وقد صَدَق القائلُ ونصح يوم قال:
لا تؤتين العلم إلا امرأ يعين باللب على درسه
ويُمنع من كثيره -أيضاً- السُّفهاء، الذين إنْ سكتَّ لم يسألوك، وإنْ تكلمت لم يَعُوا عنك، وإنْ رأوا حَسَناً دفنُوه، وإنْ رأوا سيِّئاً أذاعوه.
إنْ يعلموا الخير أخفوه وإنْ علموا شرّاً أذاعوا وإنْ لم يعلموا كذبوا
وإنْ حاورتهم شتموا، جاهلون كحمار السوق، إنْ أشبعته رَمَحَ الناس، وإنْ جاع نهَق.
فإذا حَمَلتَ إلى سفيه حِكمةً فلقد حَمَلتَ بضاعة لا تنفق
وهذا كله يحتاج إلى فِراسة ومُمارسة ومِران واختبار، من خلاله يُتوسَّم المتعلم حقاً من غيره، كفِراسة ابن عباس رضي الله عنهما يوم قال: [[ما سألني سائل إلا عرفت أفَقِيهٌ هو أم غير فَقِيه]].
أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدِّث قوماً يرى أنهم غير أهل للحديث، فقال: ويْحك يا شعبة! تُعَلِّقُ اللؤلؤ على الخنازير!
فإن عناء أن تفهم جاهلاً يظن اقتئاتاً أنَه منك أفهم
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فلا تحدِّث بالحكمة عند السُّفهاء فيكذبوك، ولا تحدِّث بالباطل عند الحكماء فيَمقتوك، إنَّ واضع العلم في غير أهله كمقلِّد الخنازير اللؤلؤ والجوهر، فلِكلِّ تربة غَرْس، ولِكلِّ بناء أُس.
فجرد السيف في وقتٍ يفيد به فإن للسيف يوماً ثم ينصرم(32/50)
تواصي العلماء بحرمان السفهاء من العلم
عرف ذلك العلماء حقاً، حتى قال قائلهم وهو عكرمة: [[إنَّ لهذا العلم ثمن، فاقدروه قدره، قيل: وما ثمنه؟ قال: أنْ تضعه عند من يحفظه ولا يضيِّعه]].
ورحم الله ابن حزم في حَزْمِه في ذلك، يوم قال: نَشْر العلم عند مَن ليس مِن أهله مُفسِد لهم، كإطعامك الحلوى مَن به احتراق وحُمَّى، أو كتشميمك المِسك والعنبر مَن به صُداع من احتدام الصَّفراء.
قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم ما طول صمتي من عي ولا خرس
أأنشر البز فيمن ليس يعرفه أم أنثر الدر بين العمي في الغلس
فمن حوى العلم ثم أودعه بجهله غير أهله ظلمه
وكان كالمبتني البناء إذا تم له ما أراده هدمه
وقد قالها الشافعي رحمه الله في مصر مدوية، عندما كلمه من لا يرى فقهه قال:
أأنثر درا بين راعية الغنم وأنشر منظوما لراغية النعم
لئن كنت قد ضيعت في شر بلدة فلست مضيعاً بينهم غرر الكلم
فإن فرج الله الكريم بلطفه وأدركت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم وإلا فمخزون لدي ومكتتم
ومن منح الجهَّال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وقد أحسن -أيضا- وحلق كما قال في الطبقات:
العلم جهل عند أهل الجهل كما الجهل جهل عند أهل العلم
ومنزلة الفقيه من السفيه كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه(32/51)
التعليم بحسب استعداد المتعلم
فعلى الطريق أخي: ضعْ العلم في أهله على تفاوت، فالذكي يحتاج إلى الزيادة، والبليد يكتفي بالقليل، والسفِيه يُمنع ويُزجر، وذو الشر يُذل ويُحرم، ولا يُعانُ ولا يُكرَّم، والجميع يُذكَّر ويُوعَظ، كِلْ على الطريق لكل سالك بمعيار عقله، وزِن له بميزان فهمه؛ حتى تَسلم منه وينتفع بك؛ وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، ولكل ثوب لابس، ولكل علم قابس.
فلا تكونوا كمن ألقى رِحَالته على الحمار وَخَلَّىصهوة الفرس
وقفة جانبيه على الطريق: عَرِّضْ ولا تُصرِّحْ، فالحال ناطقة:
أقول وستر الدجى مسبل كما قال حين شكا الضفدع
كلامي إن قلته ضائع وفي الصمت حتفي فما أصنع(32/52)
الحرص على الحكمة فهي ضالة المؤمن
الخامسة عشرة: كُلِ البَقْل، ولا تسَل عن المِبقَلة، بمعنى: خُذها مِن أي وعاء خرج: {الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها} فلا تَحقِر على الطريق أحداً أن تأخذ منه الحكمة؛ فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
.
والدر در ثمين أينما كانا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأُسوة والقُدوة قد أقرَّ أبا هريرة رضي الله عنه على أن يأخذ ما فيه نفعه من أخبث مخلوق؛ ألا وهو إبليس، الذي كان يسرق من التمر الموكل بحفظه أبو هريرة، ثم افتدى نفسه من أبي هريرة بتعليمه آية الكرسي كحافظ له من الشيطان حتى يصبح، فلما أَخبرَ أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: {صَدَقَكَ وهو كَذُوب} فالحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا يَنتفِعُ بها، وتُؤخذ عنه ويُنتفع بها، والكذَّاب قد يَصدُق، فَاعلمْ وَحَقِّقْ.
لا تحقرن الرأي وهو موافقٌ حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص(32/53)
احترام الحقيقة وتجنب المبالغة
السادسة عشرة: احترِم الحقيقة، وتجنَّب الإغراق في المبالغة؛ فهي قبيحة تشوِّه الحقيقة، تَقرِّب البعيد، وتُبعِد القريب، وتُظهِر غبشاً في الرؤية على الطريق، إنها سماجة واستخفاف بعقل السامع، وسخرية من وجدانه -كما يقول صاحب زغل الدعاة - تهويل وتزييف للواقع، شَطَطٌ وتفخيم وتضخيم ضد الحقيقة، بل عجز عن رؤية الواقع على ما هو عليه، وضَعف في النفس مشين؛ حتَّى يُرَى سيئاً مَا لَيس بالسوء ويرى حَسَناً مَا لَيس بِالحَسَنِ.
الإغراق في المبالغة سلبية في حياة عامة الناس، وهي ظاهرة في سلوك المجتمع والأسرة والفرد، وقد تُعالَج بمثلها؛ داءٌ بداء فأين الدواء؟!
في كتاب: السلوك المثالي للطفل المسلم ما فحواه: يقول: جاء طفل مسرعاً نحو أمه قائلاً: لقد وجدت في الحمام فأراً يا أمَّاه مثل الفيل، فردَّت عليه الأم مؤنِّبة له: قلت لك مليون مرة: لا تُبالغ.
فقل لي بالله: أيُّهم أكثر مبالغة؟ ألَيْس الطفل معذوراً فيما أخبر به أُمَّه؟! بلى، وحاله:
محضتني النصح لكن لست تعمله فأنت أولى بذا مني على خجل
هذا على مستوى الأسرة والعامة، وتلك -والله- فاقرة، وقبيحة، وقاصمة، لكنها في حق طلاب العلم والأخيار ثَغرة كبيرة في جدران بنيانهم التربوي لا تكاد تُسدُّ.
فكل كسوف في الدراري شنيعة ولكنه في الشمس والبدر أشنع
إنها تظهر جليَّة مَشينة بالحكم على الآخرين؛ قَدحاً ومدحاً، فهذا يمدح ممدوحه حتى يوصِلَهُ ذرى الجبال، فلا تزال تَسمعُ ما يلي: فلان ابن تيمية عصره، وابن حَجَر زمانه، وبُخارِي أوانه، ليس له مثال، عَلاَّمة فَهَّامَة، حتى إذا ما حصل أمر أيُّ أمرٍ تغيَّر، وتبدَّل، وصار الأنف ذَنَبَاً، نُصِبت له المجانيق، وأُرسِلت الصواعق، وسُلَّت السيوف، ورُفِعت المَعَاول، ومن قمم الجبال إلى حضيض الإهمال، فإذا هو مارِد خرج من قُمقُمِه، فإيَّاك وإيَّاك! لا تتَّبِع أقواله؛ إنه غَاوٍ، مُضِل، مَارِق، مُعانِد، خَائِن، فاسِد العقيدة، أشر على الإسلام من اليهود والنصارى.
حَيْفٌ، وظلم، وشَطَط، وجور، وعدم اتِّزَان، وتدمير جَنَان.
يا عين سحي يا قلوب تفطري يا نفس رقي يا مروءة نادي
إن دام هذا ولم يحدث له غير لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
رحم الله القائل-يوم قال-: والله إنَّ الأُمَّة لن تأخذ مَوضعها بين الأمم؛ حتى تضع الكلمة في موضعها.
كيف تحيا أمة قد ودعت كلمة العدل ولم تدكِرِ(32/54)
خطر المبالغة
فهيا أخي: أقبل بقلبك وقالَبك، واسمع إلى صاحب كيف تحاور وهو يخاطبك قائلاً: لتبتعد عن تهوين ما لا يعجبك، وتهويل ما يعجبك؛ فإنَّك إن اشتهرت بذلك، فسيضطر صاحبك لتفحُّص عينيك عند سماع جديد الأخبار منك.
إنَّ الحقيقة غالية عند أصحاب النفوس القويمة، والعقول المستقيمة، ولو كانت في غير صالحهم، فهي على مرارتها ثمينة، أمَّا غيرهم فيخدع نفسه، ويخدع غيره.
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفَي قصد الأمور ذميم
بالملح نصلح ما نخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير
صور العمى شتى وأقبحها إذا نظرت بغير عيونهن الهام
دواؤك منك ولا تشعر وداؤك فيك ولا تبصر(32/55)
الأصل في المسلم السلامة
السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة:
من المبادئ المهمة في التعامل على الطريق بين المسلمين: إحسان الظن بهم، وخَلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم، فكيف بنيَّاتهم، والحكم على سرائرهم، التي علمها عند من لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر وعلانية؟
الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة، لكن من الناس من مِنظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمة، ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيراً كذَّبه، وكلما ذُكر عنده أحد بخير طَعَنَ فيه وجَرحه.
هم الشوك والورد أقرانهم وليس لدى الشوك غير الإبر
فكنت كذئب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
مُبدع، لكنه إبداع سلبي، مُبدع في تحطيم ما بيْنه وبين الناس من جسور الثقة، والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس؛ ليكسَب القلوب، فيزرع فيها خوف وحب علاَّم الغيوب.(32/56)
العز بن عبد السلام وسلامة صدره
هاهو الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله لقي من صنوف الأذَى على يدي الأشرف موسى ما لقي، ثم رجع الأشرف إلى الحق بعد ما تبيَّن له، وأحبَّ الشيخ حُباً جَمّاً، وقدَّمه على غيره، وعمل بفتاواه، ولمَّا مرض الأشرف قال: يا عز؛ اجعلني في حِلٍّ، وَادْعُ لي، فقال الشيخ: أما مُحَالَلَتُك، فإنِّي كل ليلة أُحَالِلُ الخلق، وأَبِيتُ وليس عندي لأحد مَظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله، لا على عباد الله؛ عملاً بقول الله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].
صفوحٍ عن الإجرام حتى كأنه من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
ثم أوصاه الشيخ بالصلح مع أخيه فتمَّ له ذلك، ثم ذَكَّره بمنع المنكرات، وإبطال ما يمارس العُمَّال من المُوبِقات مِن إباحة الفُروج وإدمان الخمور وارتكاب الفُجور، وقال له: إنَّ أفضل ما تَلقى الله به أن تُبطل ذلك في مملكتك، فأَمَر بإبطال ذلك كله، وقال للشيخ: جزاك الله خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمَنِّه وكرمه، ولَقي الله، فرحمه الله!
هكذا أخي يجب أن نكون من حسن الظن بالمسلمين، حتى نَصِل بدعوتنا إلى سُوَيْدَاء قلوب المدعوين.
فمن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وعلنا أنْ نَطَّرِحَ سوء الظن واتباع الهوى، فاتباع الهوى يُفرِّق ويشتت ويمزق؛ لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رءوس الخلق، ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله؟!
تراه كدود القز ينسج دائماً ويهلك غماً وسط ما هو ناسجُ
فخير لك -إن أردت النجاة على الطريق- أنْ تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين؛ لأنَّ حُسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها، ويُلبِّس عليك مثالبها، فترى المساوِئ محاسن، والعيوب كمالاً.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
فلا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو أجهل الناس بنفسه.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقال
إذا رأيت الهوى في أمة حكماً فاحكم هنالك أن العقل قد ذهبا(32/57)
البشر عرضة للخطأ
الثامنة عشرة: من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟
ما مِنَّا أحد إلا وَلهُ زلَّة وخطأ وسَقطة، ورأي قد يكون فيه كَبوة، وزلَّة المسلم إمَّا أنْ تُعرف، وُتشاع، وتُذاع، فيستمرئها صاحبها وينسلخ عنه الحياء ويصعب عليه الرجوع -كما يقول صاحب ضوابط العمل - وإمَّا أنْ تكون زلته حبيسة في صدره، لا يعلمها إلا الله وحده، فهذا رجوعه أسرع بإذن الله وأقرب، فلا يكن أحدنا عوناً للشيطان على أخيه، فَلَيسَ الذِّئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئب.
ولا يجُوز الباب إلا عاقل مؤمن، يختار رضوان الله العلي الكبير، إنَّ العامل يتعرض لعَثرات، وقد يحصل منه هَفَوات، ثم ينبري له مَن سِلْمُه حَرْب، وذَلُولُه صعب، يشيع ويذيع، لا يَقرُّ له قرار، ولا ينعَم له بال، كأنما يتقلب على حَسَك السَّعْدَان، أو يَتَلَوَّى على جمر الغضا، ينحب وينبح ويلهث، يَنكَأ جروحاً، ويُثير أشجاناً، يرفع عقِيرته، لا يعجبه أحد، ولا يرتاح لبُرُوز أحد، إرضاؤه لا يُدرَك، أَطْيَش من ذُباب
لو وُزِنت أحلامه الخِفافا على الميزان ما وزنت ذبابا
جليد، بليد.
وما على الكلب أن يعتاده السعر
ومن العجا ئب أن مثل لسانه لم يبتر
فمطالب بإعادة، ومطالب بزيادة، ومهلل، ومصفق
كالكلب إن جاع لم يمنعك بصبصة وإن ينل شبعا ينبحك من أشر
.
فيا عجبا من زائر وهو ثعلبُ
يخال سكوت الليث وهنا فيعتدي غرورا وينسى بأسه حين يغضب
فالتعامل معه كالآتي: لا يُلتفت إلى ما في كلامه من طعن، ويُؤخذ ما فيه من حق -إنْ وُجد-فإنَّ الحق هو الحق، وللداعية خيرُه، وعلى الطَّاعِن شَرُّه.
فما الأسد الضرغام يوماً بعاكس صريمته إن أَن أو بصبص الكلب(32/58)
التغاضي عن هفوات الكرام
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بعض الناس لا تراه إلا مُنتَقداً، ينسى حسنات الطوائف والأجناس، ويذكر مَثَالبهم، فهو مثل الذباب؛ يترك موضع البُرْء والسلامة، ويقع على الجرح والأَذَى، وهذا من رَداءة النفوس، وفساد المِزاج؛ فَارْبَأ بنفسك أن تكون كصغار الكلب أو شر الطَّبْل على حد قول القائل:
صغار الكلب أكثرها عواءً وشر الطبل أكثرها دويا
صغير العقل بالأعراض يلهو وذو اللب الرجيح يراه غيا
ومن نظر الأمور بعين عقل جرى في هذه الدنيا أبيا
إنَّ الوقيعة -كاسمها- شر، وفساد، وفُرقة، وتمكين للعدو، وبهتان، نهايتها خصومة وتَدابُر، وقطيعة، وقعود، وقَرَارٌ لعين العدو، وهلاك على الطريق، وهكذا الذباب على الطعام يطير، والفراش على الشهاب يسّاقط.
كلام من كان مثل ذا ومنظره مما يشق على الآذان والحدق
فلا تُعره اهتماماً على الطريق، ولا تنتصر لنفسك، فإذا انتصرت لها فأنت كمن بغى طَفي الحريق بموقد النيران.(32/59)
لا ينبغي الطعن في الآخرين بمجرد الاختلاف معهم
واعجباً لمسلم قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، ثم يريد أن ينجح ويفلح، متى يفلح؟
متى يفلح مَن يطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من سنين؟
متى يفلح من يشفي صدور قوم كافرين بالوقوع في إخوانه المسلمين؟!
تعشى عيون في النهار فلا ترى وترى عيون في الظلام وترقب
ويسير ذو جهلٍ بحكمة غيره ويتيه ذو العقل السديد ويسلب
فيا معاشِر الموحدين! إنَّ أي إنسان يستطيع أن يرمي غيره بكل نقيصة، لكنه لا يستطيع أن يُثبت دعواه إلا إذا كان صادقاً!
وكم على الأرض أشجار مورقة وليس يرجم إلا من به ثمر
كل يصيد الليث وهو مقيد ويعز صيد الضيغم المفكوك
واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولو أنه كلما اختلف اثنان تهاجرا وتقاطعا ما بقي بين المسلمين أُخوَّة؛ فَلْيتَّقِ الله امرؤٌ في إخوانه، وليتسع صدره لوِجهات نظرهم، فلا تذهب معه المروءة والمحبة، والمؤمن يستر وينصح، لا يهتك ولا يفضح.
أمنا التقوى وقد أرضعتنا من هواها ونحن نأبى الفطاما
فاشرب من الماء القراح منعماً فلكم وردت الماء غير قراح
وهات حديثاً كقطر الندى يجدد في النفس ما بددا
فيضحي لآمالنا منعشاً ويمسي لآلامنا مرقدا
وقفة جانبية أخرى على الطريق: تقول: لا تسل لئيماً؛ فأذل من اللئيم سائله.
من كان يأمل أن يرى من ساقط نيلاً سنيا
فلقد رجا أن يجتني من عوسج رطباً جنيا(32/60)
الاعتناء بالحقائق وعدم الاغترار بالمظاهر
التاسعة عشرة: ما كل عُود ناضر بنُضار: ما كل مَن حَسُن منظره حسن مَخبَره، فلا تُغَلب المظاهر على الحقائق على الطريق: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وابلُه تَقْلِه أو تحببه.
فما الحسن في وجه الفتى شرف له إذا لم يكن في فعله والخلائق
إنَّ من عباد الله على الطريق من تشرئب إليه الأعناق، ويسترعي الانتباه، لكنه خائر بائر لا خير فيه، فلا يُغتَرُّ به.
لهم منظرٌ في العين أبيض ناصع ولكنه في القلب أسود أسفع
فمردودٌ بهاؤهم عليهم كما رد النكاح بلا ولي
ومِن عباد الله على الطريق من لا تشرئب إليه الأعناق، ولا يسترعي الانتباه، لكنْ يجري الله على يديه الخير الكثير.
متبذل في القوم وهو مبجل متواضع في الحي وهو مكرم
ثبت أنه مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: {ما رأيك في هذا؟ قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ -والله- إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا}.
وبعض الناس ماء رباب مزنٍ وبعض الناس من سبخ الملاح
والسيف ما لم يلف فيه صيقلٌ من طبعه لم ينتفع بصقال
والسيف ليس بضائرٍ إذا صح نصل السيف ما لقي الغمد
ولا ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النفس من باهلة
دخل أعرابي رث الهيئة في عباءة خَلِقَة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه فاقتحمته عينه، وغدا ينظر إلى عباءته الخَلِقَة، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده إذا كان عضباً حيث أنفذته يبري
فإن تكن الأيام أزرت ببزتي فكم من حسامٍ في غلافٍ مكسر
فأدناه وقربه، وعلم أن في العباءة ما فيها.
عجبت لمن ثوبه لامع ولكنما القلب كالفحمة
مظاهر براقة تحتها بحار من الزيف والظلمة
وتكلم آخر مُحتقر، عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، حتى خُلِب به لب عبد الملك وأُعجب به، فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي توصلتُ بها إليك، وأهلتني لأن أتكلم بين يديك فأَخْلِب لُبَّك، أبى الله أن أسمو بجد ولا أب.
فما أنا إلا السيفُ يأكل جفنه له حليةٌ من نفسه وهْو عاطلُ
وليست رغوتي من فوق مذق ولا جمري كَمِين في الرمادِ
قال: صدقت
فما الفخر بالعظم الرميم وإنما فخار الذي يبغي الفخار بنفسه(32/61)
التجمل أمر مشروع لكنه ليس مقياساً للتفاضل
إنَّ من أحوال المسلم أن يَحْتفي ويَنْتعل، ويمتشط ويدع ذلك، ويلبس اللباس الجميل والحذاء الحسن، ومع هذا لا تتحكم هذه المظهرية فيه، ولا يوزن بها، ولا تأسر شخصيته، فهو يحكمها ويأسرها، خلافاً لموازين معكوسة جعلت المظهرية هي الميزان.
قيمةُ المرءِ عندهم بين ثوبٍ باهرٍ لونُه وبين حذاءِ
ماذا لو خرج العالم حافيًا بين الناس؟ أينقص علمه وقدره؟ ماذا لو انتعل الغبي الجاهل أحسن النعال، أيصبح عالماً فقيهاً؟ ماذا لو لبس المعتوه أحسن الثياب وأجملها، أيغْدُو ذا لبٍ؟
إن كان في لبس الفتى شرف له فما السيف إلا غِمْده والحمائلُ
إنَّ الاكتفاء في المقاييس بارتداء الملابس والامتشاطات الساحرة والعطور المنعشة مع عدم النظر إلى التقوى والعلم، والرأي حَيف ونكسة.
رب ذي مظهرٍ جميلٍ توارى خلف أثوابه فؤاد خئون
إن اللباس الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة ومن زينة الحياة، لكن ليست هي الأصل، وليست هي المقياس في الحكم على الناس، إن التراب مكمن الذهب، فلا يغرنَّك حسن المظهر وحسن الهيئة وجمال الهندام والبزة، فكم ممَّن ارتداها وهو يحمل بينها نخاعاً ضامراً، وفكراً بائراً، وقلباً حائراً، فهل يقدم مثل هذا؟ كلا.
وهل تروق دفيناً جودة الكفن
{رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه} كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله.
لا يغرنك البهاء والصور تسعة أعشار من تراهم بقر
ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فالعبرة كل العبرة بصلاح القلوب والأعمال لا بالصور والأموال، ولا بالمظاهر والأشكال، وإنما تُنْصر الأمة بضعيفها، بصلاته ودعائه، فلا تَغرنَّك المظاهر؛ وابْلُ الرجال تحبهم أو تُبغضهم، ومن ثمارهم تعرفونهم.
وعلى الفتى لطباعه سِمة تَلُوح على جبينه
لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
يُصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
فإن كنت في شك من السيف فابله فإما تنفيه وإما تعده(32/62)
التحذير من العجب
العشرون: بقدر الصُعود يكون الهبوط؛ بمعنى: احذر العُجْب والتَّعالي والغرور؛ فهو دليل السَّفه، ونقص العقل، ودُنُوِّ النفس، لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار، فيقول له: أنت فعلت وفعلت، حتى يُلْقِي في روْعه أنَّه لا مثيل له ولا نظير، فيعجب بنفسه ويغتر، فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى؛ لأنَّ السعادة إنَّما تُدرك بالسعي والطلب، والمُعْجَب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي، فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه، لا يتقدم لِمَكْرُمةٍ، ولا يرْتَقِي لمنزلةٍ، ولولا السعي لم تكن المساعي.
فما خير برق لاح في غير وقته وواد غدا ملآن قبل أَوانه
عند ذلك يرفض الحق، ويحتقر الخَلْق، ويُدَاوم تَزْكية النَّفس أمام الخلق، ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق، ثم يَسْتعصي على النصح، ولا يعترف بجهود الآخرين، يُداوم الحديث عما ينجزه من أعمال، ويرفض الرجوع عن الخطأ، بل يُحاول تبرير الخطأ، يَسْتَبِد بِرأْيه؛ فرأيه صواب لا خطأ فيه، لا يستشير أهل التجارب العقلاء، ولا يستنير بآراء الأكياس الفُطَناء، يَهْتَم بشواذِّ المسائل وغريبها، ويُهمل العمل بأصول المسائل، ثم يرفض الجلوس للتَّعلم في حلقات العلم.
ألج لجاجاً من الخنفساء وأزهى إذا ما مشى من غراب
هو الغريق فما يخشى من البلل جذ السنام له وجذ الغارب
فحاله يا له من حال! كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح، تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة، أو كالبرغوث يحيا ما دام جائعاً، فإذا شبع مات، أو كراكب أراق ماءه لرؤية السَّراب، ثم ندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرة، أو كرجل في قمة جبل يرى الناس في السَّهل كالنمل، ويراه الناس في القمة كالذر وهو لا يشعر.
مثل المعجب في إعجابه مثل الواقف في رأس الجبل
يبصر الناس صغاراً وهو في أعين الناس صغيراً لم يزل
أو كالسُّنْبلة الفارغة من الحب بين السنابل المملوءة بالحب، تجدها رافعة رأسها تتعالى على صديقاتها وصُوَيْحباتها، مع أنها لا تصلح إلا علفاً للحيوان، والمملوءة حباً مثقلة بالخير، قد انحنت برأسها
ككريم الأصل كلما ازداد من خير تواضع وانحنى
العجب باختصار كلبٌ ينبح في قلب صاحبه، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة أو كلب.
فتنةٌ تضحك أَرْباب النُّهى من مخازيها وتُبْكي البشرا(32/63)
مآل العجب
والنتيجة مخزية، فنعوذ بالله من الخزي والبوار، يُحْرم المُعْجَب من توفيق الله، فالخذلان موافق له ومصاحب له: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] وتبعاً لذلك: ينال غضب الله ومقته، إن لم يتب.
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: {لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر}.
وثبت أيضاً: {من تعظم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان}.
ثم ينهار المُعْجَب وقت الشدة والمحنة؛ لأنه لم يحفظ الله في الرخاء، فجدير بأن يُخْذَل وقت المحنة: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
ثم إن المُعْجَب يخلق بينه وبين مَدْعُوِّيه جفوةً وفجوةً لا تكاد تُردم، فالقلوب جُبِلَت على بغض من يتعالى عليها، ومن ثَمَّ لا تُقبل دعوته، والمُعْجَب عُرْضَة لانتقام الله العاجل والآجل: {بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجِّل جُمَّتَه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة} كما روى البخاري رحمه الله.
أتت النوى دون الهوى فأتى الأسى دون الأُسى بحرارةٍ لم تبرد
خدعتهم الأحلام في سنة الكرى ما أكذب الأحلام والتأويلا(32/64)
أسباب العجب وبواعثه
له أسباب وبواعث، لعل منها ما يلي باختصار:
انحراف المُرَبّي في هذا الجانب إذ يلمس منه حب المحمدة، ودوام تزكية النفس بالحق أو الباطل، فيتأثر به من تحت يده.
ثم المدح من غير ضوابط شرعية؛ بأن يكون بالحق وغير مجاوز للحد، ومع من لم تخش عليه الفتنة.
ثُمَّ صُحبة المُعْجَبين، والمرء على دين خليله، والصاحب ساحب كما قيل.
ثم الصدارة قبل النُضُوج والتربية، فالتفقه في دين الله ضرورة قبل الصدارة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
وقد يكون السبب عراقة الأصل والنسب لبعض العاملين، تحمله على استحسان ما يعمله؛ مع أن النسب لا يُقَدم ولا يُؤَخر: {كلكم لآدم وآدم من تراب، لينتهين أقوام عن الفخر بآبائهم أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجُعْلان}.(32/65)
علاج العجب
علاج العجب: وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطاً عدة لعل فيها العلاج لمن أُصِيب بهذا الداء، عافاني الله وإياكم منه.
أولاً: العلم واليقين بأن المِنَة لله عز وجل فيما أُعْطِيت من مواهب وقدرات، والله قادر على أن يَسْلبها ما بين غَمْضَة عين وانْتِبَاهتها: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
ثانياً: دوام حضور مجالس العلم تلميذاً؛ فإن في ذلك تطهيراً للنفس من ذلك الداء وتعريفاً لها بقدرها؛ وذلك هو الدواء.
ثالثاً: خدمة من هم دونك مرتبةً وعلماً وقدراً، ومجالستهم ومؤاكلتهم، وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره.
رابعاً: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلةً وعملاً ورأياً وتفكيراً، إن أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أُعْجِبت برأيك، فتفكر في سقطاتك فاحفظها، ثم انظر إلى من هو أعلى منك رأياً، إن أعجبت بعلمك فاعلم أنه موهبة من الله، وانظر إلى من هو أعلم منك: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
خامساً: تأمل عيوب النفس، ثم جد في محاسبتها أولاً بأول، وأنت أعرف بنفسك، كلٌ منا يصف أواني بيته ومحتوياته، ورَبُّ البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بِشِعَابها، والصيرفي أعرف بنقد الدينار، فإن خفيت على المرء عيوبه حتى ظن أن لا عيب فيه؛ فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً، كما يقول ابن حزم: فالعاقل مَنْ ميَّز عيوب نفسه فجَاهَدَهَا، وَسَعى في قمعها، والأحمق من جهل عيوب نفسه، وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها.
من أنت إلا عبد مُكَلف موعود بالعذاب إن قَصَّر، مَرْجو بالثواب إن ائتمر، مُؤَلَّف من أقدار، مشحون بأوضار، سائر إلى جنة إن أطاع وإلا إلى نار، أجارك الله من سامع من النار.
كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه
وهو منه وإليه وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحش بصغر فيطيعه
لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر العجب شبان ولا شيب
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو ببضع من الآفات مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملعوب
يا بن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب
وأتم الناس أعرفهم بنقصه كما قيل.
سادساً: اجلس حيث ينتهي بك المجلس، فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها، واتباع للسنة، وأَنْعِم بها من خُلَّة.
إذا لم يكن صَدرُ المجالس سيداً فلا خير في مَنْ صَدَّرته المجالس
سابعاً: إنَّ التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب، يقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته}.
ثامناً: تعويد النفس على حب الفرار من الشرف حتى تعتاد، فمن فرَّ منه وهب له، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه.
يقول المدائني: رأيت رجلاً من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة في تيه وعجب، ثم رأيته سافراً راجلاً متعباً مُنْهكاً يحمل متاعه على ظهره، فقلت له: أراجل في هذا الموضع، وأنت من يطوف بالبغلة بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقاً على الله أن أمشي حيث يركب الناس، ومن تواضع لله رفعه.
تاسعاً: الاستعانة بالله، واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفات، ومن استعان بالله أعانه الله.
فسل العياذ من التكبر والهوى فهما لكل الشر جامعتان
وهما يصدان الفتى عن كل طر ق الخير إذ في قلبه يلجان
والله لو جردت نفسك منهما لأتت إليك وفود كل تهاني
عاشراً: المُجَاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
حادي عشر: إذا أُعْجِبت بمدح إخوانك، فَفَكِّر في ذَم أعدائك إيَّاك، فإن لم يكن لك عدو، فوالله لا خير فيك، فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يُحسد عليها، عافانا الله وإياكم كما يقول ابن حزم رحمه الله.
ثاني عشر: التدبُّر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم، ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وخير من دبَّ على الثرى، وهو الأسوة- أنَّه كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويَعْتَقِل الشَّاة، ويُجِيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، ويقول: {إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد} ويقف بين يديه رجل يرعد كما تَرْعَد السَّعفة فيقول: {هوِّن عليك؛ فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد} يمر بالصبيان فيسلم عليهم.
قُسِمَ التَّواضع في الأنام جميعهم فذهبت أنت فَقُدتَه بِزِمَامه
صلوات ربي وسلامه عليه، يقول أنس: {إن كانت الأَمَة من إِماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثُ شاءت}.
{كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة}.
{كان يَخِيطُ ثوبه، ويَخْصِفُ نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم}.
{إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده}.
لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضى له الحاجة.
وكان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم ويعود مرضاهم، يشهد جنائزهم، يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم.
فكلُّ فعلٍ كريم كان فاعله يحيي القُلوب ويحيي ميِّت الهِمَمِ
صلوات الله وسلامه عليه.
يلين لكل ذي ضعفٍ وعجز وكم لان لذي جهل فَلانا
رسول يحمل الأطفال لطفاً ويجعل عاتقيه لهم حصانا
ويختصر القراءة حين يبكي صبيٌّ والموفق من ألانا
يلاطف أهله أَكْرِم بزوجٍ يعفُّ الأهل يغمرهم حنانا
يقاسمهم متاعبهم معيناً.
فكم خصف النِّعال وخاط ثوباً وكم من شاته ملأ الجفانا
زعيم القوم خادمهم فطوبى لمن خدم الرعية أو أعانا
تشبه بالرسول تفز بدنيا وأخرى والشقي من استهانا
فأخلاق الرسول لنا كتاب وجدنا فيه أقصى مبتغانا
وعزتنا بغير الدين ذل وقدوتنا شمائل مصطفانا
صلوات الله وسلامه عليه.
ويأتي من بعده كوكبةٌ من أتباعه الذين رباهم صلى الله عليه وسلم، ليَنْهَجوا نهجه، ويَسْتَنُّوا بسنته، فإذا أنت بخير من دب على الثرى بعد الأنبياء والمرسلين؛ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضارباً بكل مثبط عرض الحائط، ليخرج في وداعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة: [[يا خليفة رسول الله؛ لتركبن أو لأنزلن.
فيقول: والله لا ركبتُ ولا نزلتَ، وما عليَّ أن أُغَبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة، وإن شئت أن تُعينني بـ ابن الخطاب فافعل]].
ثم يقولها أخرى: [[لو يعلم الناس ما أنا فيه لأهالوا عليَّ التراب]].
عَضْبُ العزيمة في المكارم لم يدع في يومه شرفاً يطالبه غدا
ورُوِى عن الفاروق: أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه، فقال له: [[يا أمير المؤمنين! أغناك الله وأرضاك، وخَوَّلَك الله وأعطاك، فما يَحْمِلُك على ما أنت فيه؟ قال: إن ما تقوله حق، لكن لما جاءت الوفود سامعة مطيعة، دخلتني نخوة، فأردتُ أن أَكْسِر تلك النخوة في قلبي، ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من الأنصار، فأفرغها في جرارها]].
فمن يباري أبا حفص وسيرته ومن يُحاول للفاروق تشبيها
ثم ينادي عمر يوماً: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا، وقالوا: الأمر خطب وعظيم، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: [[أيُّها الناس؛ لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر، أو قبضة من زبيب، فأظل يومي وأي يوم، وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر.
فقال ابن عوف رضي الله عنه: وَيْحَك يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية، فقال: ويحك يـ ابن عوف! لقد خلوت بنفسي فحدثتني فقالت: أنت أمير المؤمنين، من ذا أفضل منك، فأردت أن أُذِلَّها وأُعَرِّفَها قدرها]].
كذلك أخلاقه كانت وما عُهِدَت بعد أبي بكر أخلاقٌ تُحاكيها
لعل في أمة الإسلام نابتة تجلو لحاضرها مرآة ماضيها
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: [[رأيت عثمان رضي الله عنه نائماً في المسجد في ملحفةٍ له، ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين]].
ظهر الحيا وانهل ذاك البارق ونداك فياح ومجدك سابق
وتقسم الناس الحياء مجزءاً فذهبت أنت برأسه وسنامه
رضي الله عن عثمان، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُخْرِج ابن عساكر عن زادان أنَّ علياً رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضَّال، وينشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبيَّاع والبقَّال، فيفتح عليه القرآن.
ويرد في صفوة الأخبار: أنه اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفة، فقال له رجلٌ: أحمل عنك يا أمير المؤمنين.
قال: [[لا.
أبو العيال أحق أن يحمله]] ما تواضع أحد لله إلا رفعه.
فَرع سَما في سماء العز مُتخذاً أصلاً ثوى في قرار المجد مغروسا
وخالد ما خالد؟
أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ما هُزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في أوج انتصاراته، يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصلحة يراها أمير المؤمنين، فيقول خالد: [[والله لو وَلَّى علىَّ أمير المؤمنين عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت، ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم]].
لانت مَهزَّته فعز وإنما يشتد بأس الرمح حين يلين
وقيل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله لأَن أَلْقى الله بكل ذنبٍ غير الشرك أحبُ إليَّ من أن أراني أهلاً لتلك المنزلة، اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن يَنال رحمتك، لكن رحمتك أهلٌ أن تنال عمر ".
ينسى صنائعه والله يظهرها إن الكريم إذا أخفيته ظهرا
ويأتيك الإمام مالك يَبْرق في ثوب التواضع يَرْفُل عزاً، فيقول: ما رأيت مسلماً إلا وظننت أنه خير مني.
وكذا السحائب قلما تدعو إلى معروفها الرواد إن لم تبرق
واسمع إلى ابن القيم وهو يُحَدِّث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: كان كثيراً ما يردد: ما لي شيء، ما منى شيء ولا فِيَّ شيء.
أنا المُكَدِّي وابن المُكَدِّي وهكذا كان أبي وجدي
ويكتب بخط يده:
أنا الفقير إلى رب البَرِيَّات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظَلُوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعةٍ ولا عن النفس لي دفع المَضَرَّات
والفقر لي وصفُ ذات لازمٌ أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعِهم وكلهم عنده عبداً له آتي
يُثْنى عليه في وجهه فيقول: والله إني لإلى الآن أجدد إسلامي في كلِّ وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً.
رحمه الله! كأن القائل يعنيه يوم قال:
فَصَعَدت في دَرج العُلا حتى إذا جِئْت النُّجوم نزلت فوق الفَرْقَد
على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم، لم يتسلل العُجْب إلى نفوسهم، ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم، تواضعوا لله فرفعهم الله، وفي الدنيا والآخرة يكرمهم بإذنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
بتنا نعيش على كرام فعالهم هيهات ليس الحر كالمستعبدِ
أين الجبال من التلال أو الربى ين القوي من الضعيف القعددِ
لا القوم منا لا ولا أنا منهم إن لم أفقهم في العلا والسؤددِ
إن عد أهل التقى كانوا أئِمتهم أو قِيل من خير أهل الأرض قِيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزِمت والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
إلى من عَمِي في شمس نهاره، وعَثُر في ذيل اغتراره، وسقط سقوط الذُبَاب على الشَّراب، وتَهَافت تهافُت الفَراش على الشِّهاب، إن العُجْب أَكْذب، ومعرفة النفس أَصْوب، ولا شيء -والله- أنفع لها من الافتقار إلى بارئها.
بقدر الصُعود يكون الهُبُوط فإيَّاك والَّنفخة العاتية
وكن في مكان إذا ما وقعت تقوم ورجلاك في عافية(32/66)
الإيمان بأن المستقبل لهذا الدين
الحادية والعشرون: لا تكن يائساً.
فالمستقبل لدين الله، والعزة لأولياء الله، منا من رأى تَفَشِّي الشر والمُنْكر وانْتِشاره واستفحاله، رأى العدو تَبَجَّح وتَقَوَّى؛ وتحت ظِل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيئاً، ولن نَجْنِي سوى التعب والمشقة، فليس إذاً في السعي فائدة، فإذا بك تنظر إليه مُتَجَهِّم الوجه، عاقد الحاجبين، مُقَطِّب الجبين، رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر.
يحسب يوم الجمعة الخميس، مُردداً حين يُطْلب منه خدمة دينه ولو بكلمة: (أنت تُؤَذِّن في خرابة، لا أحد حولك، وتنفخ في قرب مقطوعة) وغيرها من العبارات.
تصدا بها الأفهام بعد صقالها وترد ذكران العقول إناثا
هَلَك النَّاس في نظره، وقد هلك.
وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه النفسية وصفاً دقيقاً في قوله ما ثبت عند مسلم: {إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم}.(32/67)
مبشرات بانتصار الدين
معاشر المؤمنين: ممَّا لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفاً أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوياً أبد الآبدين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
إننا نملك إيماناً بنصر الله لنا، وثقةً بتأييده لنا، ويقيناً بِسُنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولو كره المجرمون، واطمئناناً إلى وعده الذي وعد به المؤمنين: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55].
إنه وعد يَشْحَذُ الهِمَم، ويستثير العزائم، ويملأ الصدور ثقةً وإيماناً بأنَّ الدور لنا لا علينا، والتاريخ معنا لا علينا {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173] سُنَّة الله رب العالمين: {لا تزال طائفة من أمتي -أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على الحق منصورة لا يضرها من خالفها}، {وليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليل} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
فأنت -أيها المؤمن- أَجِير عند الله، كيفما أراد أن تعمل عملت، وقبضت الأجر، لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأَجِير، وحسبك أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، ومعه الرجلان، والثلاثة، ويأتي من ليس معه أحد: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48].
وآية الآيات في هذا الدين أنَّه أشد ما يكون قوة، وأَصْلَب ما يكونُ عُوداً، وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً، حين تنزل بساحته الأزمات، وتُحْدِق به الأَخْطار، ويَشْتَد على أهله الكُرَب، وتضيق بهم المَسَالك، وتُوْصَد عليهم المنافذ؛ حينئذٍ يحقق الإسلام مُعْجزته، يَنْبَعِث الجُثْمان الهامد، يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق، ينتفض، يقول فَيُسْمِع، ويمشي فَيُسْرِع، ويضرب في ذات الإله فَيُوْجِع، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق، وإذا الجبان يَتَشجَّع، وإذا الضعيفُ يَتقوى، وإذا الشَّتِيت يتجمع، وإذا بهذه القطرات المتتابعة والمتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً، لا يقف دونه حاجز ولا سدّ.
لا يزخر الوادي بغير شعاب
وهل شمس تكون بلا شعاع(32/68)
الأمة بين الانتصارات والهزائم
إن هذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرَّمِيم، دَمَّروا المُدن، وخَربَّوا العُمْران، وأسالوا الدِماء، وأسقطوا الخلافة، وعطَّلُوا الصلوات، وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حتى أصْبَحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة بهذا الغزو الوحشي، الذي لا يبقي ولا يذر، والذي يُذَكِّر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج، حتى أحجم بعض المعاصرين للحَدَث عن الكتابة فيه، ومنهم ابن الأثير يرحمه الله الذي يقول: ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً؛ مما رأى ومن هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين، ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِّسَت ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً، وأن أمة الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة، فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد.
ولم يمضِ سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام، فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام، فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين، تحت تأثير العقيدة الإسلامية، فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين، على خِلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب المنصور و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44].
لا تيئسوا أن تستردوا عزكم فلرب مغلوبٍ هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعز كل عظيمةٍ إني رأيت العز صعبٍ المرتقى
إنَّ قراءة متأنية في تاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير، فاسمع إلى ابن كثير، وغيره من أهل السير وهم يسردون لك ذلك الحدث.
في ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفاً، منهم الأئمة والعلماء والمُتَعبدون والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها، فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاسوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لـ بيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
كم طوى اليأسُ نفوساً لو رَعَت مَنْبِتاً خصباً لكانت جوهرا
ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم:
إن القوي بكل أرض يُتَّقى
وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تُعَجِّل له هذا الأمر، وهذه المَكْرُمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصُلبان نَكَّس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي أُنَجِّس
فانتخى وصاح: وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك، وسارع في الإعداد، ولم يُقارف بعدها ما يُوجب الغُسل.
من ذا يُغِير على الأُسود بِغَابها أو مَنْ يَعُوم بِمسْبَحِ التِّمساح
وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتصالح ملوك النصارى، وجاءوا بِحَدِّهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتَقَدَّم صلاح الدين إلى طبرية، ففتحها بـ لا إله إلا الله، فصارت البحيرة إلى حوزته، ثم استدرجهم إلى الموضع الذي يريده هو، ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان عشية يوم الجمعة، واستمرت إلى السبت، الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طْلعت عليهم الشمس، واشْتَدَّ الحر، وقوي العطش، وأُضْرِمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش التي كان تحت سنابك خيل الكفار؛ فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح، وحر رشق النبال، وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان، ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويؤسر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفاً، حتى قِيْل: لم يَبْقَ أحد، ويؤسر منهم ثلاثون ألفاً، حتى قيل: لم يُقْتل أحد.
فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رئي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في طُنب خيمته، وباع بعضهم أسيراً بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له غنمه.
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيئس؟
الرءوس لم تُرفع من سجودها، والدموع لم تُمْسح من خدودها، يوم عادت البِيَعُ مساجد، والمكان الذي يُقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، صار يُشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من جهته الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان، وَوَحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون، وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين.
ورقي الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
معاشر المؤمنين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجُمَع، ولم تعطل فيه الجماعة، ومع ذلك:
يَئِسَت أَنْفُس ونامت عيون فجراح تغدو وتأتي جراح
فأين النَّجم من شمسِ وبدرٍ وأين الثعلبان من الهزبر(32/69)
المؤمن واطمئنانه إلى نصر الله
المؤمن لا يعرف اليأس، ولا يفقد الرجاء؛ إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه، ثم واثق بوعد الله له، إن مرت به مِحْنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذى، وإنَّما يُضْرب ويُؤْذى المتحرك الحي، المُقَاوم كالحديد، يدخل النار فيستفيد، إذ يذهب خبثه، ويبقى طيبه.
يؤلف إيلام الحوادث بيننا ويجمعنا في الله دين ومذهب
إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات، ولسان حال كل واحد منا:
فيقصر دون باعي كل باع ويحصر دون خطبتي الخطيب
إني أبي أبي ذو مغالبة وابن أبي أبي من أبيينا
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم، لكن الأهم البقاء فيها، إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس -والله- الدواء في بكاء الأطلال، وندب الحظوظ، إنه في الترفع على الواقع بلا تجاهل له، الاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من أوهاقه ويأسه وخباله، بالإرادة الحرة القوية الأبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية.
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل؛ شُجَّ وجهه، وكُسِرت رباعيته، وانْخَذل عنه من انخذل، وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقاً منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين، ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين، وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته، بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة فذة من واقع إلى واقع، في تأبٍّ على اليأس، وترفعٍ على الهزيمة، وحاله:
فليس يجلي الكرب رأيُ مسددٍ إذا هو لم يؤنس برمحٍ مسددِ(32/70)
إنما يأتي النصر لمن يستحقه
إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، ووعد الله لن يتخلف، ولكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله.
فإذا حاولت في الأفق منى فاركب البرق ولا ترض الغمام
وما السيف إلا زبرة لو تركته على الخِلقة الأولى لما كان يقطع
ألا إنني لا أركب اليأس مركبا ولا أكبِر البأساء حين تغير
نفسي برغم الحادثات فتية عودِي على رغمِ الكوارثِ مورِق
أيها اليائس مت قبل الممات أو إذا شِئت حياة فالرجا
لا يضِق ذرعك عند الأزمات إن هي اشتدت وأمل فرجا
البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت والماء يأسن إن أقام طويلا
صانع السيف كمن يشهره في سبيل الله بين الجحفل
حقق الله لنا آمالنا وعلى الله بلوغ الأمل
هذا مجمل ما أردت قوله، وأرجو الله ألا أكون ممن تخدعه الشمس بطول ظله، أو تغره النفس بكثرة وقله، إن هي إلا إشارات؛ بعضها متمنى فات، وبعضها لا يزال في بطون المؤلفات، لم آت فيها على آخر فرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية في الإفادة، قد قلت بمقدار ما اجتهدت، وما شهدت إلا بما علمت، ومن جعل أنفه في قفاه؛ فإنما السوءة أن يفتح فاه، على أنني كنت قد عجزت، ووعدت بالكلام أكثر فما أنجزت، لكن لا ضير أن أصف النجم في سراه، وإن لم أستقر في ذراه، إن هي إلا لبنة على الطريق، وأرجو أن تكون بقدر الياقوت والعقيق، وما أُراني بعد قد شفيت غُلة النفس، وبلغت بها أمنيتها؛ فإنها تنظر إلى كثير وكثير، وأما أنا فإني أشد فقراً إلى عون الله وتثبيت وتوفيق.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفع بهذه الإشارات القليلة، وأن يتقبل منا ومنكم ويصلح السريرة، ويحسن الطوية؛ هو ولي ذلك والقادر عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(32/71)
كتاب (*) إشارات على الطريق
فضيلة الشيخ:
علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إشارات على الطريق
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ..
فإن العمل الدعوي ميدان رحب ومجال الحركة فيه بحر إطاره الأرض مطلق الأرض وميدانه الإنسان من غير حد للون أو الجنس أو اللغة وعمل بهذه الساعة يحتاج إلى تضافر الجهود وبذل المجهود لأقاض العقول الهاجعة ونفخ الروح بوحي الله في الجثث الهامدة وحداء هذه اليقظة الإسلامية الأصلية لتنطلق في وضوح لغايتها فتعرف ما لها وما عليها تتلمس الدواء لأدوائها وتطرح اليأس في خضم آمالها ببعث آمالها. لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ومن هذا المنطلق كانت هذه الخواطر المتواضعة المألوفة من شاردة هنا وواردة هناك.
عنونتها بـ (إشارات على الطريق) للدعاة وطلبة العلم.
معتذرا فيها عن التقصير والخطأ ابتداءً. جمعتها من أقوال أهل العلم محيلا إلى كتبهم وغير محيل أحيانا لبعد العهد ليس لي فيها سوى الجمع والتأليف، والصياغة، والفضل لله ثم لأهلها. ألقيتها في محاضرتين بالعلا وينبع قبل بضع سنين ولم يزل بعض اخوتي يلح عليّ في جمعها في ورقات لينتفع بها من يغلب القراءة على الاستماع.
ثم قام أحد الاخوة محتسبا -وفقه الله لما يرضيه- بنسخها وترتيبها وترقيم آياتها وتقديمها لي. فلم يكن عند ذاك بد من النظر العاجل فيها على خاطر كليل وقلم غير بليل وكان.
راجيا أن أكون أحسنت فيما استحسنت مما جمعت، وألا يكون ورما ما استسمنت على أنه لكل كاسد سوق ولكل ساقط لاقط - كما قيل - والحال:
لا خيل عنك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه قد نظر الشيخ - حفظه الله - في تفريغها، فهي تختلف عن المادة السابقة(33/1)
وما بقيت من اللذات إلا ... مخاطبة الرجال ذوي العقول
وإن كانوا إذا عدوا قليلا ... فقد أضحوا أقل من القليل
أرجو الله أن تأتي أكلها وأن يخلصها لكاتبها وقارئها وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرا عملوا به وبالأجر للقائل دعوا وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين الذين إن رأوا هفوة صرخوا وهتفوا كشيطان العقبة وطاروا بها وفرحوا وجاشوا واستجاشوا.
وهو ولي اللذين آمنوا… ..
على الله وحده اعتمادي وإليه وجهتي واستنادي، الصواب منه والخطأ من نفسي وتقصيري والخير أردت وإلى الله أنبت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإله أنيب.
والحمد لله رب العالمين.
علي بن عبد الخالق القرني
23/ 3/1421هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء ربنا من شيء بعد على أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لله عبد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله خيرته من خلقه وأمينه على وحيه جعل الله الذل والصغار على من خالف أمره وسد إلى الجنة كل الطرق فلم بفتحها لأحد إلا من طريقه صلوات الله وسلامه على خاتم رسله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستمسك بهديه وسنته.
اللهم إني أسألك الثبات والهداية وأعوذ بك من الخذلان والغواية.
اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورا أو أغشى فجورا أو أن أكون بك مغروراً.
إلهي
ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله
وما أوضح الحق عند من هديته سبيله
إليك وجهت يا مولاي آمالي ... فاسمع دعائي وارحم ضعف أحوالي
ولا تكلني إلى من ليس يَكْلَؤُني ... وكن كفيلي فأنت الكافل الكالي
.(33/2)
إلهي ارحم عبدك الذليل ذا اللسان الكليل والعمل القليل وامنن عليه في عمله بالتأثير والقبول واكنفه تحت ظلك الظليل يا كريم يا جليل.… فالطريق شاق طويل والزاد قليل والأمل والرجاء فيك يا جليل….
المقيم على سفر
قيل لأحد الحكماء: مالك تدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض فقال: لأذكر أني مسافر.
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ... عليّ ولا أني تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها ... لأعملها أن المقيم على سفر
الطرق كثيرة متشعبة أمام المسافر. وفي وسطها طريق واحد هو الموصل للغاية المنشودة لا غيره معلن عليه: أن المقيم على سفر فلا يركن وهذا هو الطريق الحق فلا يُتَنكَّبْ.
الحاجة فيه ماسة للزاد والعدة فمن أراد الخروج أعد العدة وحدا حادية عندها:
أوانا في بيوت البدو رحلي ... وآونة على قتد البعير
.لا تأذن الحكمة على هذا الطريق بالقفز وتجاوز التدرج بل جوهر تخطيطه مرحلة. مرحلة.
منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... أنا بطاءُ وفي إبطائنا سِرَعُ
(إنه طريق تعبيد النفس والناس لله رب العالمين وإخراجهم من الظلمات إلى النور)
ولا شك انه طريق شاق طويل ولكنه مضمون ثابت مأمون إن كنا نريد أن نصبح أمة مسافرة على هذا الطريق في قوة وعزة ورسوخ فلا بد أن نخلق في أنفسنا غاية إرضاء الله في منهج يؤدي إلى هذه الغاية وهو الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة مع عزيمة على مخطط طويل الأمد لا ننتظر فيه الوصول إلى الهدف النهائي بمجرد بدء الجهد ولكن لا نزال ماضين ومن سار وصل.
وعلى الله قصد السبيل.
* * * * *(33/3)
مسافرون
يقول ابن القيم رحمه الله: (لم يزل الناس مذ خلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم أو في النار دار الجحيم، والعاقل يعلم أن السفر بطبعه مبنيٌ على المشقة والأخطار بل هو قطعة من العذاب واللاواء، ومن المحال أن يطلب في السفر عادة النعيم والراحة واللذة والهناء، فكل وطأة قدم أو أنة من أناة المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة والمسافر غير واقف. فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المفاوز والقفار. وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في هذا المضمار بين فارس وبين راجل وبين أصحاب حمر معقرة.
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب
إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع
هلكى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى، لا تعجب لهالك كيف هلك ولكن أعجب لناج كيف نجا، الرواحل قليلة والبعض في هذا السفر كإبل سائبة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبل نجيبة صابرة نادرة وأنعم بها من راحلة، النجائب في المقدمة وحاملات الزاد في المؤخرة.
رفعت لنا في السير أعلام ... السعادة والهدى يا ذلة الحيران
فتسابق الأبطال وابتدروا لها ... كتسابق الفرسان يوم رهان
وأخو الهوينى في الديار مخلف ... مع شكله يا خيبة الكسلان
إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد
ولا سبيل إلى ركوب هذا الطريق إلا بأمرين:
أحدهما: ألا يصبوا في الحق إلى لوم لائم فإن اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه.
والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال فمتى خافت النفس تأخرت وأحجمت وإلى الأرض أخلدت.(33/4)
ما لابد منه:
لا بد من المسافر من رفقة، ومن عدة وعتاد، ودليل ومنهاج واستعداد بزاد، وهدف ووجهة، ومحطات استراحة، ووسائل مثبتة، وإشارات مرشدة. ومركب.
فمركبه:
صدق اللجأ إلى الله والانقطاع إليه بكليته وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المكلوم المكسور الفارغ الذي لا شيء عنده فهو يطلع إلى قيِّمه ووليّه أن يجده ويلم شعثه ويمده من فضله ويستره.
فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته ويكشف له ما خفي على غيره من الطريق.
دليله ومنهاجه:
أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه- ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)). ومن سلك طريقا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل ذل.
كن في أمورك كلها متمسكاً ... بالوحي لا بزخارف الهذيان
وتدبر القرآن إن رمت الهدى ... …فالعلم تحت تدبير القرآن
عدة المسافر وزاده:
أما عدة المسافر وزاده: فإيمان وعمل صالح:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96)
أين النفوس ترامى غير هائبة ... أين العزائم تمضي ما بها خور
العلم بالحق والإيمان يصحبه ... أساس دينك فابن الدين مكتملا
لا تبن إلا إذا أسست راسخة ... من القواعد واستكملتها عملا
لا يرفع السقف ما لم يبين حامله ... ولا بناء لمن لم يرس ما حملا
ومن الزاد:
إخلاص لله وقصد بالعمل وجه الله لا سواه:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة: من الآية5).(33/5)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (الزمر:2).
(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ... ) (الزمر: من الآية3)
فالفضل عند الله ليس بصورة ... الأعمال بل بحقائق الإيمان
والله لا يرضي بكثرة فعلنا ... لكن بأحسنه مع الإيمان
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: من الآية2)
وحسب نفسك إخلاصا يزكيها.
ومن الزاد:
متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قول ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن يأبى يا رسول الله، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) ويقول الله جل وعلا:
(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: من الآية7).
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: من لآية63). فيا أيها المسافر: من عمدة عدتك اتباعه.
فتدور مع قول الرسول وفعله ... نفيا وإثباتا بلا روغان
ورحم الله الحكمي يوم قال:
شرط قبول السعي أن يجتمعا ... فيه إصابة وإخلاص معا
لله رب العرش لاسواه ... موافق الشرع الذي ارتضاه
وكل ما خالف للوحيين ... فإنه رد بغير مين
جماع الزاد
وجماع الزاد هذا كله: تقوى الله جل وعلا: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: من الآية197)، إنها العز والنسب، والسبب والفخر والكرم.
إلا إنما التقوى هي العز والكرم ... فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
فـ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد:1). فالزاد إذا إيمان وعمل صالح في إخلاص ومتابعة في تقوى. فإذا هي اجتمعت لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان(33/6)
ولا بد للمسافر من رفقة وصحبة، فالراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب - كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -.
والمسافر مهما تكن مواهبه، ومهما يكن عطائه ومهما تكن قدراته، فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة ما لم يكن له أعوان يشدون أزره، ويقوون أمره، يذكرونه حين ينسى، يعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه، قوي بأخوانه.
وما المرء إلا باخوانه ... كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم
موسى - صلوات الله وسلامه عليه - وهو الملقب بالقوي الأمين في كتاب الله، يوم كلفه الله بالرسالة احتاج إلى المعين والوزير فقال - كما أخبر اله في كتابه-:
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً) (طه:29 - 35)
ماذا قال الله؟ قال:) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه:36)
وفي القصص يقول الله: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ).
فالصاحب ضرورة ولا بد، لكن له صفات تحدده وتميزه، لعلنا نقف عندها باختصار، منها:
*أن يكون مؤمنا:
((فلا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي أن يكون مؤمنا، فلا بد:
*أن يكون عاقلا:
لأن الأحمق قد يثور عليك فيغضب فيجني عليك وعلى نفسه ويقعد بك عن الهدف المرسوم الذي رسمته لنفسك، وصدق ونصح من قال:
أحذر الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعته من جانب ... زعزنه الريح يوما فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يرتتق ... كلا
*أن يكون عدلا غير فاسق:(33/7)
أقول ذلك لئلا يجرك فسقه، ود صاحب الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعا، لئلا يكون نشازا بينهم
*أن يكون غير مبتدع:
لئلا يلقى عليك الشبه فيتشربها قلبك والقلوب ضعيفة والشبه خطافة كما يقول العلماء.
*أن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا:
وصدق من قال: شبيه الشيء منجذب إليه، وخير الكلام كلام الله يوم قال: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:37).
وإن لم يكن رفقتك بهذه الأوصاف فإني أخشى أن لا تبلغ وجهتك في سفرك، وأن تكون - أجارك الله - ممن يقول حين لا نفع: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (الفرقان:28).
قد تفسد المرعى على أخواتها ... شاة تند عن القطيع وتمرق
*محطات الاستراحة:
أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يكل، وينصب، ويتعب، ويمل، وراحته وأمنه وسكينته (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (النور:36)
ومن لا يعرفها فحاله كقول القائل:
إن مات مات بلا فقد ولا أسف ... أو عاش عاش بلا خلق ولا خُلق
هدف المسافر ووجهته:
أما هدف المساغر ووجهته: فللمسافر وجهة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور يدور في السياقة ويدور ويدور ثم ينتهي من حيث بدأ. أو كالسفينة التي تسير في البحر بلا مقصد تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها.
فما وجهتنا - عباد الله -؟ إنها (َجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: من الآية133).
من رام وصل الشمس حاك خيوطها ... سببا إلى آماله وتعلقا(33/8)
حفت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منوطة بالمكاره، ومن تأمل نيل الدر من البحر وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمل دوام البقاء في نعيم الجنة علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمس عشرة صبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين إن حصلت عجز وضعف، والتوسط نوم ونصف زمانك أكل وشرب وكسب وللعبادات منه زمن يسير.
عمرك محدود فأدرك به ... بعض الأماني وانتهز واعقل
أفلا يشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟! خاب والله وغبن وتعس وانتكس من باع الجنة وما فيها بشهوة ساعة، غبن، فاحش، خلل، وهوان، تالله ما العيش إلا عيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يوؤذي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم.
والذل في دعة النفوس ولا أرى ... عز المعيشة دون أن يشقى لها
من جد وجد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوثبة أسد.
(تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرضى لها بثمن دون بذل النفوس، تأخر البطالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين. عرفوا عظمة المشتري، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع فرأوا من الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الراضون أو التراضي، فربح البيع لا إقالة ولا إستقالة).
سعوا للمعالي وهم صبية ... وسادوا وجادوا ومهم في المهود
إنها سلعة الله وكفى؛ سلعة الله غالية جد غالية، تحتاج إلى مثابرة، وجهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة.
ومن هجر اللذات نال المنى ومن ... أكب على اللذات عض على اليد
يا سلعة الرحمن ليست رخيصة ... بل أنت غالية على الكسلان(33/9)
يا سلعة الرحمن ليس ينالها ... في الألف إلا واحد لا إثنان
يا سلعة الرحمن أين المشتري ... فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب ... فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن لولا أنها ... حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف ... وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ... ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى ... رب العلا بمشيئة الرحمن
فاتعب ليوم معادك الأدنى ... تجد راحته يوم المعاد الثاني
فحى على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضتها وخيامها ... وحي على عيش بها ليس يسأم
وسيلة تثبيت واتزان:
وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان: إنها الدعوة اإلى الله الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق، فإن لم تدعهم إلى الحق الذي تحمله دعوك إلى الباطل، إن لم تغزهم بالحق غزوك بالباطل، إن لم تعرض عليهم الحق عرضوا عليك الباطل في صور الحق، فارفع على الطريق: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف:108)
لا لدنيا أو هوى أو عصبة ... دون خزي أو نفاق أو خطل
إنها صدق وإخلاص لمن ... هو يجزي وحده عز وجل(33/10)
فارفع على الطريق هذا الشعار، وأعلم: (أن العمل لا نهاية له، إطاره الأرض- مطلق الأرض- وميدانه الإنسان من غير حد للون ولا لجنس ولا لغة)، إنها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل. وعمل بهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة، إلى دراسات متأنية، على نبذ للفوضوية ولو بحسن نية، فالارتجال والفوضى خلل ووهن واضطراب في التصور، لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، (جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، يحتكم إلى حقائق الكتاب والسنة لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقف على الأرض، فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البر، ولا يحرث في البحر، ولا يبذر في الصخر، لا ينسج خيوطا من الخيال، ولا يبني قصورا في الرمال)، ولا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يقدم على الأهداف.
ولسنا بدعا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الأسوة والقدوة - لما هاجر إلى المدينة خرج بطريقة مدروسة منظمة عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكلا على ربه ويظهر من خلال ما يلي:
أولا: الاتصال بالأنصار الذي تم من خلاله بيعة العقبة الأولى.
ثانيا: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير إلى الأنصار ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله.
ثالثا: بيعة العقبة الثانية التي هي شد للوثاق والعهد على النصرة في المنشط والمكره والعسر واليسر، بعد ان استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك.
رابعا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة حتى لم يبق بمكة إلا محبوس أو مفتون.(33/11)
خامسا: استبقاء علي رضي الله عنه بمكة لحاجته إليه في أداء الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولمهمة تأتي.
سادساً: إتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
سابعا: إنتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه.
ثامنا: إعداد الرواحل، ودفعها إلى هاد خريت من قبل أبي بكر، ومواعدته الغار بعد ثلاثة ليال.
تاسعا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه. وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده ليخبره بإذن الخروج، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: (إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بانه قد أذن له في الهجرة).
عاشرا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في سريره صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوم؛ تعمية عليهم.
حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثه في الغار ثلاثا.
ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر رضي الله عنه أسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها.
ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولا بأول.
رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساء على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس أثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد على الغار.(33/12)
إن الهجرة أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم بكل الأشباب متوكلا على ربه، قبل أن يعلن النفير، وتدق ساعة الصفر - كما يقال- ولا غرور فهو القائل: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))، كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للإنضباط في جميع شؤون الحياة من سفر وإقامة مع نبذ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معها النية والله عز وجل يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
بهداه أيها الداعي اقتده ... وابتغ الأخرى وأخلص في العمل
فأحزم الناس من لو مات في ظمأ ... لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا
كأني بك بعد هذا كله قد حددت وجهتك.
وعرفت طريقك.
وأخذت عدتك وأهبتك.
واخترت رفقتك.
وأخذت بجميع أسباب نجاتك في سفرك.
فدونك هذه الإشارات التي لا بد منها لعلها تغريك بالمسير في الطريق، وتحذرك من العقبات التي تصد عن بلوغ الغاية في الميسر.
* * * * *
الإشارة الأولى: أنو الخير واعمل بمقتضى هذه النية
بالنية يتحدد السفر، وتتضح الواجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة، فهي أساس الأمر ورأسه وعموده وأصله، بل هي روح العمل وقائده وسائقه يصح بصحتها ويفسد بفسادها، يستجلب التوفيق بها ويحصل الخذلان بعدمها، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، وكل المناهل غير الصدق آسنة. (وسنة الله أن من نوى الخير وعمل بمقتضى تلك النية أن يوفق ويسدد ويؤيد ويبلغ من الخير ما يريد).
وفوق ما يريد بإذن ربه، يقول الله جل وعلا: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء: من الآية100).(33/13)
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) (الشورى: من الآية20).
(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية حرم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإن بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (الاسراء:18).
ويقول (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ... ) (هود:15 - 16).
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: من الآية145)، فانو الخير واعمل بمقتضى تلك النية فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، (وإنما الأعمال بالنيات ولكل إمرئ ما نوى) رواه البخاري ومسلم.
القصد وجه الله بالأقوال ... والأعمال والطاعات والشكران
وبذاك ينجو العبد من إشراكه ... ويصير حقا عابد الرحمن
* * * * *(33/14)
الإشارة الثانية: خليج صاف أطيب من بحر كدر
بمعنى آخر: النوع الثمين لا الكم المهين، بمعنى ثالث: (من لا يخلص لا يتعب، فهو كالذي يحشو جراب العمل رمل يثقله ولا ينفعه، إن من سلك الطريق بلا إخلاص كالذي يريد كسر الجوز بالعهن، أو كمن يحدو وماله بعير، يمد القوس وما لها وتر، يتجشأ من غير شبع، كالوحش بلا جبل)، لا شك انه لهدفه لا يصل، العمل صورة والإخلاص روح العمل، عمل المرائى بصلة كلها قشور، لباس المرائي نظيف لكن قلبه نجس، الإخلاص مسك والريا جيفة.
فاحذر كمائن نفسك اللاتي متى ... خرجت عليك كُسرت كسر مهان
(لما أخذ دود القز ينسج الحرير أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج، ثم نسجت وقالت: يا دودة القزة لي نسج وتلك نسج ولا فرق بين النسيجين، قالة دودة القزة: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق).
ليس التكحل في العنين كالكَحَلِ وما كل دام جبينه عابد، وفي عنق الحسناء يستحسن العقد، والنفيس نفيس أينما كان.
ورب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
فأما من بكى فيذوب شوقا ... وينطق بالهوى من قد تباكى
جماع هذه الإشارة: ( ... وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: من الآية110)
* * * * *
الإشارة الثالثة: العلم الشرعي والعمل به ضرورة للمسافر
به يعرف السهل من الطريق الوعر، به يميز إشارات الطريق وعوائقه، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد، به يعرف الحلال من الحرام، به توصل الأرحام، فهو أساس السفر ولا بد، بل هو أشرف مطلوب، وأفضل مرغوب، وأنفع زاد يقتني لمسافر مكدود، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: من الآية9).
لا يكون العلا مثل الدنا ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي(33/15)
ومن تدرع بالعلم حفظ ومنع، وحاز قصب السبق وارتفع وبرع (ولما كان المجاهد لا ينكأ عدوا إلا بسلاح وعدة فكذلك المتعلم والمعلم لا يصنع أمة ولا يكشف غمة ولا يزيل ظلمة إلا إلا بعلم وعمل من أثر أو سنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: من الآية21.
ومن لا يربيه الرسول ويسقه ... لبنا له قدر من ثدي وحيه
فذاك لقيط ما له نسبة الولا ... ولا يتعدى طور أبناء جنسه
العلم وسيلة، والعمل ثمرة، العلم أساس البناء، والعمل ثمرة الغرس، والبناء من غير أس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى، فاعلم أخي ولا تنس.
فما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
العلم أبلغ من القول (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: من الآية43)، والناس أبناء ما يحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، (ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحا بليغا مؤثرا بارعا فإن كلامه لا يتجاوز الآذان ما لم يعمل به، حتى إذا عمل به دبت فيه الحياة؛ دبت بكل كلمة ينطق بها، واتجهت كل جملة كأنها قذيفة ترههف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجا عمليا يتقبله الناس راضين به عاملين مذعنين) لا يغني العلم شيئا لوحده، لأن العلم لا يعمل وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه.
يقول السيد قطب رحمه الله: (إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق ... عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق .. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة لآنها منبثقة من حياة).
وعادة السيف أين يزهي بجوهره ... وليس يعمل إلا في يد بطل(33/16)
والذين يعلمون ثم لا يعملون أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون بئس ما يصنعون، إنما هي أوعية للعلم يسيرون ثم لا ينفعون بل قد يضرون، جلسوا على باب الجنة - كما يقول ابن القيم رحمه الله -: (يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افرنقعوا لا تسمعوا لو كان حقا ما يدعون إليه كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصور هداة مرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق). أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون. (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة:5). ما يغني الأعمى معه نور الشمسي لا يبصرها، وما يغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنما هو كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه، عليه بوره ولغيره نوره، يحق عليه قول القائل:
فأسعدت الكثير وأنت تشقى ... وأضحكت الأنام وأنت تبكي
خير من القول فاعله وخير من الصواب قائله:
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب السبيل وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ ... والماء فوق ظهورها محمول(33/17)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ)، قول الله في سورة النساء، عملوا بمقتظى ما عملوا (لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66 - 68)، كم وكم؟ من قدوات ظاهرا لم تعمل بمفتضى ما عملت فسقطت وتكشفت على الطريق فيما بين غمصة عين وانتباهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكون كالمنخل يخرج الدقيق الطيب ويمسك النخالة، تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه وإن إجتهد ألا يصيبه، فويحكم ثم ويحكم ثم ويحكم.
أيها العالم أياك الزلل ... واحذر الهفوة فالخطب جلل
هفوة العالم مستعظمة ... إن هفا أصبح في الناس مثل
إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
انت ملح الأرض ما يصلحه ... إن بدا فيه فساد وخلل
أيها المسافر على علم: (لا تشغل نفسك بأدنى العلوم دون اعلاها وأسماها وأنت قادر عليه، فإني لأربأ بك أن تكون كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر أو كغارس الشعراء حيث يزكو النخل والتين والزيتون)، فتسبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. ثم أصغ سمعك للشوكاني رحمه الله وهو يخاطبك فيقول: (استكثر من العلم الشرعي زادا لك ما شئت، وتبحر في الدقائق مخلصا ما استطعت، واجب من عذلك أو خالفك بقول من صدقك.
أتانا أن سهلا ذم جهلا علوما ... ليس يدركهن سهل
علوما لو دراها ما قلاها ولكن ... الرضا بالجهل سهل
أما قد علمت وعملت فإن من مفتضى العلم أن تدعو غيرك إلى العلم الذي عرفته بالحجة والبرهان على بصيرة وهدفك إخراج من تدعوه ونفسك من الظلمات إلى النور من الانحراف إلى الاستقامة التي تنال رضى الله بها في الدنيا وفي الآخرة.(33/18)
هذا شيخ الإشلام ابن تيمية رحمه الله يفسر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)، فيقول: (فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعال: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122). والجن لما سمعوا القرآن (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الاحقاف: 29).
وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله يقول: (وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، واما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفائهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه).
وليسيت هذه المنزلة العليا في الدنيا إلا منزلة الدعوة إلى الله، ووراثة وظائف النبوة، التي ليس أشرف منها إلا منزلة النبوة نفسها وهذا الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى يناديك: (ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم) و (هل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر).
وها هو رحمه الله يقارن بين الشجعان يخالطون الناس لدعوتهم، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى، فيقول: (الزاهد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض، إلا أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات النبياء عليهم السلام).(33/19)
إن الحاجة إلى الدعوة ماسة، لأن العقول لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها التي تكفل لها في الدنيا الآخرة، لأنها لا تُهدى وحدها إلى تمييز الخير من الشر، فكثيرا ما يبدو لها الشر في لباس الخير فتقع فيه، وكثير ما يظهر لها الخير في صور الشر فتعرض عنه (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216) فمهما توسعت أفهام الإنسان ومداركه ومعارفه فإنه يبقى قاصرا محدودا ومن ثم كان لا بد من الدعوة على أيدي الرسل وأتباعهم.
فإذا اتضح الهدف سرت في هذه الحياة على هدى وعندها بادر بعمل دؤوب في طموح وجدية وأخذ بقوة تستشعر قوله الله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ً) (مريم:12)، وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة:63).
((خذوا ما أتيناكم بقوة)).
إذا كان ما تنويه فعلا مضارعاً ... ألا فاجعله ماضيا بالجوازم
في ثبات ومسارعة (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه:42)، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الانبياء:90)، في تدرج وأناة واعتدال ومداومة (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7 - 8)، في شجاعة وعدم تهيب وتردد.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
في بصيرة وفرقان بإتقان (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف:108)، في استشارة حازم (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، في عزيمة وتصميم مع وتوكل دون تسفيه رأي أو إنقاص قدر (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران:159)
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا(33/20)
إذا كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا ... فإن فساد العزم أن يتقيدا
إذا هممت فبادر، وإذا عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر. ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحول
وعلى الطريق تضع لك حاديين مرعبين حافزين.
أحدهما: قول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33).
وثانيهما: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)).
إن هدى الرحمن شخصا واحد ... بك خير لك من بحر درر
وهو خير لك عند الله من ... ما بدا للشمس أو نور القمر
((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) متفق عليه.
فإن لم ينفع الحاديان، فعلى الطريق وعيدان محذران لها أن تثير في نفسك الشعور بخطر الفتوروالتهاون والكتمان.
أحدهما: ما اخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن ابي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا. ثم تلا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، وتلا {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}» [البقرة: 159 - 160]
وثانيهما: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كتم علما ينتفع به جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار)). ورواه أبو داود في كتاب العلم والترميذي بلفظ: ((من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)) قال الترمذي حديث حسن صحيح.(33/21)
فهل يجوز سكوت ... أو يستساغ النمير
الخطب خطب عظيم ... والأمر أمر خطير
فإن لم يحرك فيك الوعد ولا الوعيد، ولا الترغيب ولا الترهيب، إذ تبلد الإحساس فلا مساس، فقف على أخبار أهل الأهداف، علك أن تشتبه بهم، فيثور فيك الحماس على أساس.
(في مؤتة خؤج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عن الجميع، هدفهم: (إن هي إلا إحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة في سبيل الله) فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقام عبد الله بن رواحة وقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيد حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبد
حتى يقال إذا مراوا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ولما رأى المسلمون جموع الروم - الجموع الكبيرة - نظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام إبن رواحة فقال: والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما الشهادة.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم وخر صريعا رضي الله عنه وأرضاه. أخذ الراية جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذا لاقيتها ضرابها
فقطعت يمينة، فأخذ الراية بيساره، فقطعت فاحتضن الراية حتى قتل كالأسد. رحمة الله على ذاك الجسد. ثم أخذهاإبن رواحة كالليث، ونالته الجراح -وأي جراح- فحاله:(33/22)
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس أإلا تقتلي تموتي ... هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
(ثم قاتل ثابتا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديه).
أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الإقتحام، وكانت الشهادة وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنا إلا الجنة، الطريق شاق وتكاليف وعوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إدارته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته.
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب
ولم يتأخر من أراد تقدما ... ولم يتقدم من أراد تأخرا
ويذكر الذهبي في سيريه: (أن نور الدين الشهيد لما نزل دمياط بقي عشرين يوما صائما لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما التقى العدو وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش ومرغ وجهه في التراب وقال يا رب، من نور الدين؟ الدين دينك والجند جندك وافعل يا رب ما يليق بكرمك فنصره الله نصرا مؤزورا).
كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب. قام في حلب بعمل منبر عظيم لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك فلم يلتفت إليهم وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا (هود:38)، كان يريد بذلك المنبر بث الروح، وبعث الهمم، وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفتح بيت المقدس، ونصب له منبره بعد وفاته، نصب على يدي تلميذه صلاح الدين وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة. والسيف يبلغ ما لا يبلغ الكلم.(33/23)
هذي الغرائز لا ما تدعي القضب ... هذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
والصارم الغضب الذي فتح الورى ... ما زال في يد أهله مسلولا
إن لم يحرك فيك الوقوف على سير أصحاب الهمم السامية ساكنا، إذا قد صرت جلمودا ساكنا، فانظر إلى أهل الدنيا في دنياهم، وخذ منهم حافزا لذلك، كيف يكدحون ليلهم ونهارهم في تعاملهم مع الدرهم والدينار؟ أفلا حياء من الله أن يكون هؤلاء أعظم تجلدا منك وانت تتعامل مع الله الكبير المتعال ثم تتقاعس.
إذا فقد الإنسان صدق انتمائه ... وأضحى بلا قلب فليس بإنسان
أعمى أصم عن الحقيقة أبكم ... بالنوم في الفرش الوثيرة تغرم
والصمت كهفك والظلام مخيم
تدعى ولكن الذي يدعى سها ... أمسى على ماء التخاذل يهرم
من أنت يا هذا أمالك في الورى ... عقل يفكر في الأمور فيحسم
إني لأرجوا أن أراك مزمجرا ... انا مؤمن بمبادئي أنا مسلم
قد قمت أرقى في مدارج عزتي ... علمي دليلي والعزيمة سلم
ذهب الرقاد فحدثي يا همتي ... إن العقيدة قوة لا تهزم
لغة البطولة من خصائص أمتي ... عنا رواها الآخرون وترجموا
من ذلك الوقت الذي انتفضت به ... بطحاء مكة والحطيم وزمزم
منذ التقى جبريل فوق ربوعها ... بمحمد يتلو له ويعلم
فلا تستشر غير العزيمة في العلا ... فليس سواها ناصح ومشير
فإن لم يحرك فيك أهل الدنيا وكدحهم في دنياهم شيء فانظر إلى الكفار، إلى حطب جهنم كيف يلهثون وراء أهدافهم المؤقتة، ويتفانون لها مع أنه لا عقبى لها،:(33/24)
هاهو مخترع الكهرباء يترك المدرسة بعد أن وصفه معلمه بأنه ليس مؤهل للاستمرار في المدرسة، وتذهب أمه إلى المدرسة متألمة لمواجهة معلمه لتقول له: إنك لا تعرف معنى ما تقول، وكل المشكلة أن إبني أذكى منك، ثم أخذته وعلمته في بيتها حتى أعطته من علوم الدنيا وعلوم المادة ما يستطيع أن يستمر به، فلم يفل عزمه مع طرده من المدرسة بل تراه يثابر ويكافح ويبدأ في تجاربه (ليخترع المصباح الكهربائي بعد تسعة ألاف تجربة)، بعمل يتراوح بين ثمان عشر ساعة وعشرين ساعة في اليوم، في جلد عجيب، ثم لم يتوقف بعدها بل أن النجاح - كما قيل- يجر إلى النجاح فينطلق بعد عشر سنوات في البحث والجهد في تجارب بلغت خمسين ألف تجربة، بتكلفة ثلاثة ملايين دولار ليخترع بطارية السيارات وأجهزة الإشارة في سكك الحديد وإضاءة الغواصات، ويسأل متى الإجازة يا أديسون؟ قال: في اليوم الذي يسبق جنازتي.
هل استفاد أديسون من إضاءة المصابيح واختراع البطارية؟ هل استفاد فائدة؟ نعم! استفاد شهرة واستفاد مالا، لكنها مؤقتة تزول وتنتهي، لا تنفعه عند الله، لأنه لم يقل يوم من الأيام: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:82)، (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23)، أفلا حياء من الله أن يكون كافر مثل هذا أشد تجلدا لأهدافه المؤقتة الوضيعة من مؤمن يؤمن بالله والدار الآخرة؟ خيبة وخسارة وخذلان.
أدنى الفوارس من يغير لمغنم ... فاجعل مغارك لمكارم تكرم
أيها المؤمنون لا تتوانوا ... فالتواني وسيلة للتباب
فإذا المصلحون في القوم ناموا ... نهضت بينهم جيوش الخراب
فإن كنت مع هذا كله لم تتحرك، إذ أنك ثمل الهمة، مقعد العزيمة، بليد الذهن، يحق عليك قول القائل: يخبرني البواب أنك نائم ... وأنت إذا استيقظت أيضا فنائم(33/25)
لم يحرك فيك ما مضى ساكنا، فلا تبرر قعودك، ولا تبرر ضعفك، ولا تبرر خورك، فإن ذلك أقبح من ضعفك وأشنع من خورك وقعودك، ولكن سل الله أن يرفع ما بك فهو خير لك.
يجلس بعض المتخاذلين عن تبليغ دين الله ونشره شبعان ريان متكئا على أريكته حتى إذا ما طلب منه نصرة دينة ولو بكلمة أو كلف بأبسط مهمة لخدمة دينه انبرى يتهرب من المسؤولية ويورد لك الأدلة الصحيحة على أن واقع المسلمين سيكون ضعيفا وسيئا في المستقبل ولا بد من العزلة، فيوقعها على حاله فإذا به ينبري ويقول: إن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: ((يوشك ان يكون خير مال المرء المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفر بدينة من الفتن)). ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم)).
وهكذا دواليك. يبرر قعوده ولا يعمل بمقتضى الحديث الذي لا ينطبق على زمانه حقا، ولم يفهمه في ضوء النصوص الأخرى، فاول ما يجنى عليه اجتهاده. تعود نقض العزائم فحيل بينهم وبين الغنائم ويجلس الآخر شبعان ريان متكئا على أريكته حتى إذا ما عاتبته في التخاذل عن تبليغ دين الله واستغراقه في اللهو والترف، انطلق في القذيفة مردداً: ((ياحنظلة ساعة وساعة)) وكأنه لا يعرف من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم غير هذا.
إن لم تقم بالعبء أنت ... فمن يقوم به إذن
إن الذين لا تغلي دمائهم ولا تلتهب نفوسهم ولا تهتز مشاعرهم لخدمة هذا الدين لا يعقد عليهم أمل، ولا يناط بهم رجاء أموات غير احياء والميت لا يحس بالأوجاع وما يشعرون أيان يبعثون. إن النائم يوقظ، والغافل يذّكر، والذي لا يجدي فيه التذكير ولا التنبيه فهو ميت وإنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبله (ً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (غافر:13)
* * * * *(33/26)
الإشارة الرابعة: إنما عليك الجهد
افعل وسعك وطاقتك، وما تستطيع الدوام عليه لئلا تنقطع في الطريق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإذا صلحت المقاصد لم يخب القاصد.
على المرء أن يسعى إلى الخير جاهدا ... وليس عليه أن تتم المقاصد
* * * * *
الإشارة الخامسة: وتعاونوا على البر والتقوى
المؤمنون جماعة واحدة، ويد واحدة، وجسم واحد، وبنيان واحد، والجميع مسؤولون عن تبليغ دين الله على سبيل التعاون والتآزر والتضامن مع السعي الجاد إلى تغيير واقع الأمة ونقلها من مجرد الإحساس إلى الوعي بأسباب الواقع والطريق إلى إخراجها من ذلك الواقع، التعاون من اجل تمكين منهج الله جل وعلا في الأرض قاطبة مطلب وضرورة، تجعل كل فرد يضاف إلى الآخر ثم تستثمر كافة العقول والسواعد والدقائق، ((والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) وكل يستفيد من الآخر، إذا عن بحر لا يجوز التيمم، والخيط الواهي إذا انضم إليه مثله أصبح حبلا متينا يجر الأثقال.(33/27)
ذكر صاحب (مواقف إيمانية) أنه في حج 1395هـ رأى آلاف الحجاج منظرا يثير المشاعر ويستجيش المدامع، شاهدوا حاجين أحدهما أعمى قادر على المشي، والثاني مشلول بصير العنين، أراد الأعمى ان يستفيد من بصر المشلول، وأراد المشلول أن يستفيد من حركة الأعمى، فاتفق الحاجان على أن يحمل الأعمى المشلول فالحركة من الأعمى والتوجيه من المشلول، وقاما بتأدية المناسك على مشقة وجهد يعلمها الله فالأمر ليس هينا وكلكم يعلم؛ عند الطواف زحام، وعند السعي زحام، وعند رمي الجمار زحام، وفي كل مكان زحام، لكن العزيمة الصادقة، والثقة بالله عظيمة، ورجاء ما عنده ينسى المتاعب والمكاره والمشقة)، أدوا فريضتهم ضاربين أروع المثلة في التعاون والإستفادة من الطاقات، هذا كله في تعاون اثنين فكيف لو تظافرت جهود امة بطاقاتها ومواهبها، وإمكاناتها في خدمة دينها، كيف يكون الأمر لا شك انه سيكون: كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... جوداً ويبعث للبعيد سحائبا
إن التعاون طريق إلى البناء والنجاح، ونظرة يلقيها المرء على خلق الله تؤكد هذا الأمر (أمة النحل أمة عجيبة، طائفة من أمة تبني البيوت، وطائفة تنظفها، وطائفة تحرسها وتحميها، وطائفة تدل على مواضع الأزهار، وطائفة تمتص الرحيق لتأتي به وتخرج العسل اللذيذ () وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأنعام:38)
والنمل تبني قراها من تماسكها ... والنحل يجني رحيق الزهر أعوانا
إن يدا واحدة لا تصفق -كماقيل- حتى إذا لم يبق إلا تلك اليد أدت ما عليها غير ملومة وحالها:
إذا عز في قومي المسعفون ... فإنك يا خالقي مسعفي
فما أنا بالمستسيغ القعود ... ولا أنا بالشارد المسرف(33/28)
يقول السيد محمد نوح: (رغيف الخبز على صغر حجمه لا يصل إلى الإنسان إلا بعد عمل عشرات بل مئات من البشر تعاونت على تجهيزه وإعداده وتقديمه، ومن كان في شك من ذلك فليسأل نفسه: من حرث الأرض؟ ومن بذر الحب؟ ومن سقاه بالماء؟ ومن نظف الحشائش عنه؟ ومن حرسه؟ ومن حصده ومن نقله إلى الجرن؟ ومن داسه؟ ومن طحنه؟ ومن خبزه؟ ومن بالنار سواه؟ ومن إلينا حمله؟ ومن قدمه؟ ومن؟ ومن؟ ومن؟ ...
هناك أسئلة كثيرة. هذا الجهد في رغيف الخبز، فكيف بالأمر في خدمة دين الله) والتمكين له، في بناء النفوس، في صنع الرجال، في كشف الظلم وإنارة البصائر، إنه يحتاج إلى تظافر طاقات وقدرات، مع صبر ومصابرة وثبات، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة:71)، فهيا إلى التلاحم وهيا إلى التعاون وهيا إلى التآزر.
فالنصر لم ينزل على متخاذل ... والرزق لم يبعث إلى متواكل
ولنترك اللوم والتوبيخ، فاللوم لا يحرك ولا يجمع، والتفتيش عن الثغرات التي يدخل منها الداء أولى. وعند كل من الهموم ما يكفيه، وليس بحاجة إلى معكر إضافي، فليحول كل منا أخاه إلى داعية معه يحمل هم الدعوة، ويتبنى أفكارها، وحاله يهتف ويقول:
أمتي انتم في كل أرض ... أنتم خير الأمم
فأجمعوا أشتات أنها ... ركم في غمر يم
تنشروا الخير الأعم ... تبلغوا العز الأشم
وتكونوا سادة الدنيا… ... وفرسان القمم
وما ذلك على الله بعزيز.
* * * * *
الإشارة السادسة: إنما السيل إجتماع النقط
بمعنى دوام ولو على القليل، قليل دائم خير من كثير منقطع، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل وإن كان ضئيلا أصيلاً مستطاعا مذللاً يقام به في عير ما عناء، ليس المهم قدر العمل بل الاستمرار في أدائه، فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.(33/29)
أما ترى الحبل بطول المدى ... على صليب الصخر قد أثر
والشيء بثمرته يقدر ثمنه، ويعرف ثمنه، ومن ثمرات المداومة ما يلي:
نيل محبة الله:
أولاً: نيل محبة الله التي هي غاية منى المؤمنين الذين هم أشد حبا لله، ومن أين أخذت هذا؟ من الحديث القدسي الذي رواه البخاري:
((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه))، يستمر ويداوم حتى يحبه الله فإذا حصلت محبة الله فالنتيجة: ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولإن استعاذني لأعيذنه)).
وفوق هذا مارواه الشيخان: ((إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السما، ثم يوضع له القبول في الأرض)).
أهيب بقومي إلى المكرمات ... ألا هل ملب ألا هل مجيب
ترويض النفس:
ثانيا: ترويض النفس على مكابد الهوى حتى تعتاد الخير، فالنفس من طبعها حب التفلت والانطلاق، ولكلنها إذا روضت ذلت، واستجابت إلى ما تكره، فتمزق حجب البطالة، وتقفز على أسوار المكاره، وتستمر على ما روضت عليه، وتداوم دون كلل ولا ملل حتى وإن استغرقت هذه المداومة العمر كله، يقول أحد السلف: عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي، ويقول عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد. وجاء عن التابعي الجليل إبن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي.
وما يردع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا حازم الرأي كامله
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت(33/30)
الأمن والحسرة عند المرض:
ثالثا: الأمن من الحسرة عند المرض أو العجز والفتنة، فالمداوم حين يحال بينه وبين العمل يجري له ما كان يعمله، يستشعر هذا مما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما)) فلا حسرة ولا ندم.
تربية النفس على أخذ أعلى الأمور:
رابعا: تربية النفس على أخذ أعلى الأمور، وعدم الرضا بالدون، ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).
إملال الشيطان وإضعافه:
خامسا: إملال الشيطان وإضعافه وقطع الطريق عليه. يقول الحسن رحمه الله -كما في الزهد لابن المبارك-: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك مداوما ملك ورفضك، وإن كنت مرة هكذا ومرة هكذا - تتقدم خطوة وتتأخر خطوتين كما يفعل البعض- طمع فيك.
هذه بعض ثمرات المداومة على العمل، ومن عرف الثمرة قدرها، فبادر إلى الشجرة لقطفها.
يقال لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال:
حتى الممات إن شاء الله، وقال له آخر: إلى متى تكتب العلم؟
قال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تكتب بعد. والأعمش يروى عنه وكيع أنه لم تفته تكبرة الإحرام مع الإمام سبعين سنة، ويقول: اختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة.
من منا يلقي الله وقد أدرك التكبيرة الأولى مع الإمام أربعين يوماً، مع انه له براءتين: براءة من النفاق وبراءة من النار فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وروى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق إمرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) يقول ابن عمر: فوالله ما مرت علي ليلة مذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي.
إذا فعلوا فخير الناس فعلاً ... وإن قالوا فأكرمهم مقالا(33/31)
ترى جدا ولست ترى عليهم ... ولوعاً بالصغائر واشتغالا
ويروى أن حمدون بن حماد بن مجاهد الكلبي رحمه الله كان يقول: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم يكتب بعد، لعل هذا مما يعين على المداومة، كلما عملت عملا قلت لعل هذا لا يبلغني الجنة، فإلى آخر وإلى آخر حتى تلقى الله على ذلك فربك أغفر وأرحم سبحانه. فجاهد نفسك وداوم على العمل (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)
* * * * *
الإشارة السابعة: إنما الأخطار أثمان المعاني
إنما الأخطار أثمان المعالي ... ربما الأجسام صحت بالهزال
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)
والعبقرية حرمان وتضحية ... وليس ينبغ إلا كل صبار
إن حمل الدعوة إلى الناس، وجعلهم يؤمنونن بها ويثقون ويتأثرون عملية صعبة شاقة تحتاج إلى صبر وثبات، وأن المضي في طريق الدعوة ليس بأمر هين ولا طريق ميسور، ولا بد من عزم وقوة وصبر وثبات لا يؤتاه إلا من نذر نفسه لله، غير مبال بما سواه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
والصبر يوجد إن باء له كسرت ... لكنه بسكون الباء موضوع(33/32)
والله عز وجل قد وجه نبيه صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية إلى الصبر والجلد وقوة التحمل فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل:10)، وقال (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60)، الصبر تفائل دائم حتى لو ضربت الجاهلية أطناب الأرض، فلا يسوغ بحال الإنسحاب من الميدان، إذا يخلو الجو للشيطان، ويكر الجراد على الحرث فيلتهمه، وقد تغير اللصوص عليه فينتهبونه، فلا بد من صبر وصمود حتى يثبت ويثمر العود.
ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليل والنهار
كل لذة منقطعة عند كل غمسة في جهنم، وكل بؤس وشقاء ينقطع عند أول غمسة في الجنة، وللباطل جولة ثم يذهب هباء، والحق له صولة وهو أنفع وله البقاء، فإذا أدلهم الخطب، واشتد الظلام، فارتقب بزوغ الفجر، وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ثم أصبر وصابر فإن العاقبة للمتقين. وخاب المبطلون، وبشر الصابرين، واصبر على ما يقولون:
لا يفزعنك هول خطب دامس ... فلعل في طياته ما يسعد
لو لم يمد الليل جنح ظلامه ... في الخافقين لما أضاء الفرقد
* * * * * *
الإشارة الثامنة: تمهل
لا تعجل في دعوة أو حكم يوشك أن تصل، (إن من سنن الله في النفس أنها لا تضحى ولا تبذل إلا إذا عولجت من داخلها، وتجردت من حظوظها، وأدركت فائدة التضحية والبذل). وذلك لا يتم إلا في وقت طويل وجهد وتكاليف وكدح دائب في اناة ليس يعروها ملل، فليعلم.(33/33)
ومن سنن الله مع العصاة والمذنبين والمجرمين والكافرين: الإمهال (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (لأعراف:183)، (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف:58)، إذا أغفل الداعية هذه السنن تعجل وربما فشل في دعوته وكبا، إن من يريد تغير الواقع في أقل من طرفة عين دون النظر إلى العواقب والسنن، كمن يريد أن يزرع اليوم ويحصد غدا، بل يريد ان يغرس في الصباح ويجني الثمرة في المساء وهذا محال، لا بد من صبر وترو على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم يبادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة ميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سار على الطريق وصل، إن شيوع المنكرات، وإحاطتها بالمؤمن من كل جانب، مع العجز - أحياناً- عن تحمل أعباء الطريق ومشاقه، مع واقع أعداء الله في الصد عن سبيل الله، مع الطاقة الضخمة التي يولدها الإيمان في النفس، قد يدفع هذا كله إلى العجلة إذا لم تضبط الأمور بضابط الشرع.
يرد يدي عن خوفها بطش ربها ... ويمنع نفسي أن تخادع ديني(33/34)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة قد بعث والأصنام من حول الكعبة تحيط بها وتعلوها، ثم لم يقبل على إزالتها إلا يوم فتح مكة في السنة الثامنة، أي بعد بعثته بواحد وعشرين عاماً، لتقديره صلى الله عليه وسلم أنه لو قام بتحطيمها في أول يوم قبل أن تحطم في داخل النفوس، لأقبلوا على تشيدها وزخرفتها بصورة أعظم وأشنع، وعندها يتفاقم الأمر ويعظم الضرر، ولذا تركها صلى الله عليه وسلم، وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب، حتى إذا ما تم له ذلك أقبل بتلك القلوب ليفتح بها مكة ويزيل الأصنام فكان له ما أراد (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الاسراء:81).
لكل شيء في الحياة وقته ... وغاية المستعجلين فوته
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم - فيما ترويه عائشة كما في صحيح البخاري-: أنه لولا أن قومها حديثوا عهد بكفر لنقض الكعبة وأعادها على قواعد إبراهيم، وهذا هو الفقه حقا، أعني رفض المنكر بالقلب، ومقاطعته خوفا من أن يؤدي إلى منكر أكبر، مع البحث عن سبيل التغيير، والعزم على أنه حين تتاح الفرصة لتغيره فلن يكون هناك تباطؤ أو توان.
فكن أسدا في جسمه روح ضغيم ... وكم أُسد أرواحهن كلاب
يمنع الليث حماه ان يرى ... …فيه كلبا عاديا إن زأرا
ليعد الواحد منا نفسه ما دامت الظروف غير ملا ئمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات قاصرة، حتى إذا ما لاءم الظرف كان حاله كحال القائل يوم قال:
أنا أبو طلحة وإسمي زيد ... وكل يوم في سلاحي صيد
ثم أنظر وتأمل واعتبر: (ها هي شجرة الصنوبر تثمر بعد ثلاثين سنة، وشجرة الدباء (القرع) تثمر في أسبوعين تسخر الدباء من الصنوبر وتقول: إن الطريق التي تقطعينها في ثلاثين سنة أقطعها في أسبوعين ويقال لي شجرة ولك شجرة. فتقول شجرة الصنوبر: مهلا إلى أن تهب الرياح الخريف.(33/35)
وعندها يعرف المضمار ... ويعرف السابق والخوار
فتصبّر لتصبر، وتحلّم لتحلم، ولا تعجل فقد تكفى بغيرك ويكتب لك بصدق نيتك ما لغيرك، ورُب عجلة أورث ريثاً، وقد يكون مع المستعجل الزلل. ليكن حالك أحيانا حال الحنف بن قيس رحمه الله يوم جاءه رجل فلطم وجهه، فقال بسم الله يابن أخي، ما دعاك إلى هذا؟ قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم، قال فبرَّ بيمينك فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة.
ليست الأحلام في حال الرضى ... إنما الأحلام في حال الغضب
فذهب الرجل إلى حارثة فلطمه، فقام عليه واخترط السيف وقطع يمينه، ولسان حاله:
وسيفي كان في الهيجاء طبيباً ... يداوي رأس من يشكوا الصداعا
فلما بلغ الأحنف ما حصل لهذا الأحمق، قال أنا والله قطعتها.
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
نعم، العاقل لا يفعل أمرا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطا، ولا يستبق الأحداث ولا يشرع في الحكم على الأمور، بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متانية تحسب كل حساب. فكن أفضل من أن تخدع، وأعقل من أن تخدع، لا خب ولا الخب يخدعك.
ولترقَّ شيئاً فشيئاً صاعداً درجاً ... من البناء رصينا واحذر العجلا
فكم عجول كبا من ضعف رؤيته ... وذي أناة أصاب الرشد والأملا(33/36)
الإشارة التاسعة: كن أحزم من قرلّى
القرلى طائر ما ئي ذو حزم، لا يرى إلا حذرا، على وجهه الماء، عين في الماء طمعاً، وعين في السماء حذراً، ولذلك تقول العرب في المثل: (كن احزم من قرلى، إن رأى خيرا تدلى وإن رأى شرا تولى). ومن الحزم تعويد النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها، وعدم الرضا بالدون، دون علاها (فإن في النفس كما يقول ابن القيم: كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل ابي جهل.
ومن أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة العجل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجابهة يذهب ذلك كله) بإذن ربه، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعات:40)،ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد، إن من يشتري الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير إنما هو سفيه. لا يعرف الحزم ولا الحزم يعرفه، عينُه عينُ هوى، وعين الهوى عينٌ عمياء.
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب
بعضنا أكبر همه ومبلغ علمه لقمةٌ ولباسٌ ومركبٌ، مطعمٌ شهي، وملبسٌ دفي، ومركبٌ مطي، قد رفع راية:
إنما العيش سماع ومدام وندام ... فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
هوان لا يعرف الحزم، وذلة لا تعرف العز، عار ينكره الحر والأسد، ويألفه الحمار والوتد.
إن الهوان حمار البيت يألفه ... والحر ينكره والفيل والأسد
ولا يقيم بدار الذل يألفها ... إلا الذليلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يُشج فما ياوي له أحد(33/37)
الحزم بقدر الإهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، (والجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والمنية خير من الدنية، وعزَّ بزَّ.
فثب وثبة فيها المنايا أو المنى ... فكل محب للحياة ذليل
(ومن أراد المنزلة القصوى من الجنة فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة، واحدة بواحدة ولكل سلعة ثمن).
كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازما مع نفسه قد علق سوطا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي، فوالله لأزحفن بك زحفا إلى الله حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا فتر وكل وتعب تناول سوطه وضرب رجله ثم قال: أيضن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا، كلا والله لنزاحمنهم عليه زحاماً، حتى يعلموا انهم خلفوا وراءهم رجالاً).
هم الرجال وعيب أن يقال ... لمن لم يكن في زيهم رجل
حالهم:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
* * * * *
الإشارة العاشرة: عوض ما فاتك
من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصير، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله، فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيعه في الحزن والتحسر.
إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا يكون باجترار أحزان الماضي، إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة.
ابن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو في الثمانين يقول:
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ... ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاض شعري غير صبغته ... والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم
****
فإن كنت ترجوا معالي الأمور ... فأعدد لها همة أكبرا
تلك النفوس الغالبات على العلا ... والحق يغلبها على شهواتها(33/38)
أفلا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له وليعوض، فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإهمال فائدة، فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة.
فإن تك بالأمس اقترفت اساءة ... فبادر بإحسان وأنت حميد
ولا تبقي فعل الصالحات إلى غد ... لعل غدا يأتي وأنت فقيد
غاب أنس بن النضر رضي الله عنه وقعة بدر فأحس بألم غنيمة ضيعها، فقال -كماروى البخاري ومسلم-: يارسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لأن أشهدني الله مشهدا ً آخر في قتال المشركين، ليرين الله مني ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون أقبل أنس يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون، يتقدم ويكسر غمد سيفه ويستقبله سعد بن معاذ فيقول: الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، يقول سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع، ولما انتهت المعركة وجدوه قد قتل، ومثل به المشركون، ووجد به بعض وثمانون ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية بسهم فما عرفته إلا أخته ببنانه.
إما فتى نال المنى فاشتفى ... أو بطل ذاق الردى فاستراح
إما إلى العز وتقضي بساحته ... ذل الحياة وطعم الموت سيان
من تفكر في تفريطه أن ... ولتعويض ما مضى حن:(33/39)
عكرمة رضي الله عنه يسلم عام الفتح، وشعر بما فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: والذي نجاني يوم بدر يا رسول الله لا أدع نفقة أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله ولا قتالا قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله، ويبر بقسمه فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان معهم، وفي يوم اليرموك وما يوم اليرموك؟! (أقبل عركمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في في اليوم القائظ، اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، واغل في صفوف الروم، فبادر خالد بن الوليد قائلا: لا تفعل يا عكرمة، إن قتلك على المسلمين سيكون شديدا، قال: إليك عني ياخالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة أما أنا وأبي أبو جهل فقد كنا أشد الناس على رسول صلى الله عليه وسلم دعني اكفر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم، والله لا يكون أبدا.
لو بان عضدي لما تأسف منكبي ... لو مات زندي ما بكته الأنامل
ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرا مؤزرا، ولقى الله عكرمة مثخنا بجراحه)، ولسان حاله (قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه:84). فرضى الله عنه وأرضاه.
بذل النفس فداء ورضى ... وقضى العمر وأقصى السفرا
همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله عقدا مع أنفسهم فما نكثوا وما نقضوا.
فبادر أخي قبل العوائق، واستدرك ما فات فلعلك بالأخيار لا حق، إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم.
إذا استدرك الإنسان ما فات من علا ... فللحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب(33/40)
ومكلف الأشياء ضد طباعها …………متطلب في الماء جذوة نار
* * * * *
الإشارة الحادية عشرة: العدل - فبه قامت السموات والأرض
* إعطاء كل ذي حق حقه عين العدل.
* مدح من يستحق المدح في عير ما خشبة الفتنة عليه عدل.
* تأنيب من يستحق التأنيب عدل.
* الإعتراف بالجهود الأخرين عدل.
* الإعتراف بالخطأ والرجوع عنه عدل.
* قبول النصح عدل.
* إسداء النصح عدل
* التربية على العدل عدل.
*والله تعالى يامر بالعدل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
يذكر الطبري في رواية مرفوعة إلى إياس بن سلمة عن أبيه أنه قال: مر عمر رضي الله عنه في السوق ومعه الدرة، فخفقني بخفقة لم تصب إلا طرف ثوبي، وقال: أمط عن الطريق - أي لا تزحم الطريق- قال: فلما كان العام المقبل لقيني عمر فقال: يا سلمى أتريد الحج؟ قلت: نعم قال: فأخذ بيدي وانطلق بي إلى منزله ثم أعطاني من ماله ستمائة درهم وقال: استعن بها على حجك واعلم أنها بالخفقة التي خفقتكها في العام الماضي، قلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها قال: والله وأنا ما نسيتها.
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
من أراد العدل والإنصاف فليضع نفسه مكان أخيه، وليفعل ما يرضاه لنفسه.
أرض للناس جميعا مثلما ترضى لنفسك ... إنما الناس جميعا كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك(33/41)
شكا رجل عليا رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه فلما جلس عمر لينظر في الدعوى قال لعلي: ساو خصمك يا أبا لحسن فتغير وجه علي رضي الله عنه. ثم قضى عمر في الدعوى وذهب الخصم فالتفت عمر إلى علي وقال أأغضبتك يا أبا الحسن إذ سويت بينك وبين خصمك؟ قال عليّ: كلا بل لأنك لم تسوي بيني وبينه يا أمير المؤمنين لقد أكرمتني ودعوتني بكنيتي يا أبا الحسن ولم تناد خصمي بكنيته فذلك الذي أغضبني، فقبل عمر رأس علي وقال: لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن.
حكموا فكان العدل شرعة حكمهم ... ما الحكم ما السلطان إن لم يعدل
سارت مبادؤهم وسارت خلفها ... أفعالهم في موكب متمثل
شادوا من التقوى أصح مواقف ... وبنوا من الحسنات خير قلاع
* * * * *
الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتا بلا سقف
بمعنى لا يزال لسانك رطبا رطبا على الطريق بذكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيت بلا سقف حري أن يكون مرتعا للغبار والقاذورات ومأوى للهوام والحشارت، كذلك أن بيت لا يذكر الله فيه لا سقف له، خراب بلقع لا داع به ولا مجيب ((مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله مثل الحي والميت)) - كما في صحيح مسلم رحمه الله-.
إن إنسان لا يذكر الله لا سقف له، حي بعظم ميت:
إذا ما الحي عاش بعظم ميت ... فذاك العظم حي وهو ميت
((ومثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت)) - كما ثبت عند البخاري رحمه الله -.
والناس صنفان: موتى في حياتهم ... وآخرون ببطن الأرض أحياء
فأكثر ذكره في الأرض دأبا ... لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فلم أرى غير حكم الله حكماً ... ولم أر دون ذكر الله بابا
خذ ما يسرك دع شيئا تضربه ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
إن جمعا لا يذكر الله فيه لا سقف له مضطرب أرق قلق:
كريشة في مهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق(33/42)
((والدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما))، في الزهد لإبن المبارك رحمه الله. إن أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجدا رأى فيه حلقة ظنهم في ذكر فجلس إليهم فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال سبحان الله هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير فالتفت فإذا هو بمصارعين عظيمين فقال لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني هذا المطر فدخل فإذا هو بيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذكر فإذا أنتم أصحاب دنيا.
كم حديث يظنه المرء نافعا ... وبه لو درى يكون البلاء
إنه ليس في جلاء القلوب واطمئنانها من ذكر الله ومناجاته، وليس هناك من هو أولى بملازمة ذكر الله من الداعية إلى الله، وكلنا ذلك الرجل الذي جعل محور حياته خدمة ليدن الله فهو أحرى أن يذكر الله قائما وقاعدا وعلى جنب في كل حين وآن، فذكر الله له يرقق المشاعر ويوقظ القلوب والضمائر ويرهف الإحساس ويشرح الصدور ويسمو بالنفوس ويزكيها، ويترفع بها عن شهواتها ويملك جماحها، ويرفع الدرجات، ويكفر السيئات ومع ذا خفيف على اللسان ثقيل في الميزان حبيب إلى الرحمن فمن الخطورة العظيمة أيها الأحبة أن نتحول على منظرين وخططين ثم لا نكون الربانيين العابدين الأوابين المفردين الذاكرين الله كثيرا والمخبتين فنصبح من المحرومين - نعوذ بالله رب العالمين- المحروم من نعمة ملازمة ذكر الله محروم من الإحساس المرهف، والضمير اليقظ الحي، حياته جمود وعطالة وبطالة وانحطاط، أنى له أن يصل إلى وجهته؟ إن المسلم بصفة عامة وطالب العلم بصفة خاصة جدير بان يذكر الناس بالله حتى إذا ما رؤي ذكر الله تعالى فكيف به إن كان غافلا؟ أيكون جديرا بالتذكير؟! كلا والله، إن فاقد الشيء لا يعطيه.
هل يطلب الماء ممن يشتكي عطشا ... هل يطلب الثوب ممن جسمه عار
يا بانيا بالماء حائط بيته ... فوق العباب أرى البناء مهيلا(33/43)
أرأيت قبلك عاريا ... يبغى نزال الدارعين
كلا. إن بحر الحياة الدعوية ليست السباحة فيه بالخطب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة الغرق، ألا وهي سفينة الإيمان والاطمئنان بذكر الرحمن، كثير ممن يحسنون السباحة غرقوا في هذا البحر وما رأينا سفينة الإيمان وذكر الرحمن تغرق فيه أبدا، وعلى الطريق. (سبق المفردون) إن القلب بذكر الرحمن بلد عامر وحصن محكم مصون، وروضة مباركة لا يكان ينفد نعيمها ولا ينضب معينها، (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (ابراهيم:25).
* الذكر مسك والغفلة رماد.
* الذكر جواد والغفلة حمار.
* فليكن لسان الحال على الطريق ما كنت لأتخطى المسك إلى الرماد.
* ولا أمتطي الحمار بعد الجواد
* وإنما يتيمم من لم يجد الماء.
* ويرعى الهشيم من عدم الجميم.
* ويركب الصعب من لا ذلول له (قد قاله ابن زيدون).
أما لسان المقال:
فالعز داري وبحر العزم راحلتي ... والذكر أنسي ومن والاه إخواني
فيا قدمي لا سرت بي لمذلة ... ولم ترتقي إلا إلى العز سلما(33/44)
الإشارة الثالثة عشرة: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
قل خيرا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم، إن من شأن الساعي على الطريق أن يقبل على كل أمر ينفعه، وأن يسلك السبل المفضية إلى ما رامه وأمله ويجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبى بنفسه عن كل ما من شأنه أن ينزل قدره ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، تراه مترفعا هن اللهو واللغو قد شغل نفسه بما يفيدها في آخرتها ودنياها في حدود ما أذن الله له به فإذا عرض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه وأكرم نفسه عنه، إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو ولا لهو مهين، فإليك أخي المسافر العاقل على الطريق هذه اللفتة لابن القيم رحمه الله يقول فيها: (اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك فالفكر في ما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فأياك ثم أياك أن تمكن الشيطان من أفكارك فإنه يفسدها عليك إفسادا يصعب تداركه ويلقي إليك الوسواس ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، أياك ان تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك. فمثالك معه كمثال صاحب رحى يطحن فيها الحبوب فأته شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونك فإن طردته ولم تمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون أفسد عليك ما في الطاحون من الحب فخرج الطحين كله فاسدا).
فيترك ماؤكم من غير ورد ... وذاك لكثرة الأخلاط فيه
فاللبيب يفكر فيما يعنيه بل فوق ذلك قد علم أن كلامه من عمله فقل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه.
وان لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل
لا خير في حشو الكلام ... إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
يقول إبن عباس رضي الله عنهما: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الزور ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته.(33/45)
ووضع الندى في موضع السيف ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
والأدب النافع حسن السمت ... وفي كثير القول بعض المقت
يقول عطاء بن رباح رحمه الله: أما يستحي احدكم لو نشرت صحيفته التي أملى في صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته ينفعه واهاً ثم واهاً ..
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ... ووجدت شجعان العقول قليلا
دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من إثنين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وكان قلبي للمسلمين سليما (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35).
ودخل رجل فضولي على داود الطائي رحمه الله زائرا فقام يتفقد البيت فقال: يا إمام إن في سقف بيتك جذعا مكسوراً، قال: يا ابن اخي إن لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه مالك وله رحمك الله، من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه.
فأولى لكم ثم أولى لكم ... مزيد من الصحو واليقظة
هذا واقعنا؛ حديث بلا فائدة، وأسئلة بلا نهاية، وتفصيل لا يفيد متحدثا، ولا ينفع مستمعا، ولا يزكي نفساً، تضييع للطاقات والعمار سدى، وتلك داهية والله، وأدهى من ذلك من لا يكتفي بتضييع وقته في اللهو واللغو حتى يشتريه بماله فيَضِل به ويُضل إنها الفاقرة ونسأل الله العافية، لقد خلق الله هذه النفس شبيهة بالرحي الدائرة التي لا تقف أبدا ولا تسكن فلا بد لها من شيء تطحنه - كما يقول ابن القيم رحمه الله- فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته ولن تبقى الرحى معطلة أبدا بل لا بد لها من شيء يوضع فيها فمن الناس من تطحن رخاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا، فإذا جاء وقت العجين والخبز تبين له حقيقة طحنه.
وكل ما يزرع الإنسان يحصده ... فأحسن الزرع يحسن حين يحتصد(33/46)
ورحم الله ابن بشار يوم قال متحدثا بنعمة الله عليه: منذ ثلاثين سنة ما تكلمة بكلمة أحتاج أن أعتذر عنها. وانظر أخي لأحد السلف يوم أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له ما يسوؤك منها؟ قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك. فقيل له: لما طلقتها؟ قال: مالي ولكلام عن إمرأة أجنبية عني، من حسن اسلام المرء ترك ما لا يعنيه.
مجالسهم مثل الرياض أنيقة ... لقد طاب منها اللون والريح والطعم
كيف لو خطر ببال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد، إنه بلا شك سيرى كما هائلاً من الأوراق، ولو حاسب نفسه منصفا لوجد كثير من الزلات والسقطات فنسال الله الثبات والعفو والصفح عن الزلات. إن نسيت فلا أنسى أن أنبه أن مما يعنيك بل مما يجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة ولو كره ذلك الفساق والمجرمون وقالوا لك: من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإن المقياس ليس هواهم بل شرع ربنا ومولاهم.
وما على العنبر الفواح من حرج ... أن مات من شمه الزبال والجعل
دع اخي ما لا يعنيك ولو كان مباحا، فإنه تضييع لزمانك، واستبدال للذي هو ادنى بالذي هو خير، وكم من كلمة بُني بها قصر في الحنة بل هي كنز من كنوز الجنة، وكم من اخرى باعدت بينك وبين السبل المفضية إلى الجنة، رزقنا الله وإياك الجنة بمنه.
لا يضيع يومك في التيه ... كما قد ضاع امسك
االإشارة كن طبيبا رفيقا يضع دواءه حيث ينفع 14(33/47)
بمعنى لا تضع العلم عند غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، من الناس من يطلب العلم لشر كامن ومكر باطن فيستعمله في شبه دينية، وتلبيس دنيء وحيل فقهية فلا يعان على إمضاء مكره وإكمال شره بل مهان غير مكرم يُحرمه، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفطنة، فلا يحمل عليه بكثير العلم فيظلم، ولايمنع من اليسير فيحرم، وإنما ينفع سمع الآذان إذا قوي فهم القلوب في الأبدان، وقد صدق القائل ونصح يوم قال:
لا تؤتين العلم إلى إمرءا ... يعين باللب على درسه
ويمنع من كثيره أيضا السفهاء الذين إن سكت لم يسألوك وإن تكلمت لم يعوا عنك وإن رأوا حسنا دفنوه، وإن رأوا سيئا أذاعوه، وإن يعلموا الخير أخفوه، وإن علموا شرا أذاعوا، وإن لم يعلموا كذبوا، وإن حاورتهم شتموا، وعليك جهلوا.
كحمار السوء إن أشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق
فإذا حملت إلى سفيه حكمة ... فلقد حملت بضاعة لا تنفق
هذا كله يحتاج إلى فراسة وممارسة ومران واختبار يتوسم من خلاله المتعلم حقا من غيره، كفراسة ابن عباس رضي الله عنه يوم قال: ما سألني سائل إلا عرفت أفقيه هو أم غير فقيه. أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدث قوما يرى أنهم غير أهل للحديث فقال: ويحك يا شعبة تعلق اللؤلؤ على الخنازير.
فإن عناء أن تفهم جاهلا ... فيحسب جهلاً أنه منك أفهم
متى يبلغ البنان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فلا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك، إن وضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير اللؤلؤ والجوهر فلكل تربة غرس ولكل بناء أس.
فجرد السيف في يوم يفيد به ... فإن للسيف يوما ثم ينصرم(33/48)
عرف ذلك العلماء حقا حتى قال قائلهم وهو عكرمة: إن لهذا العلم ثمناً فقدروا له قدره، قيل وما ثمنه؟ قال: أن تضعه عند من يحفظه ولا يضيعه. ورحم الله ابن حزم في ذلك حين قال: (نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم. كإطعامك الحلوى من به احتراق وحمى، أو كتشميمك المسك والعنبر من به صداع من احتدام الصفرا).
قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس
أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ... أم أنشر الدر بين العمى في الغلس
فمن حوى العلم ثم أودعه ... بجهله غير أهله ظلمه
وكان كالمبتني البناء إذا ... تم له ما أراده هدمه
وقد قالها الشافعي رحمه الله في مصر مدوية عندما كلمة من لا يرى فقه فقال:
أأنثر در بين راعية الغنم ... وأنشر منظوما لراعية النعم
لئن كنت قد ضُيعت في شر بلدة ... فلست مضيعا بينهم غرر الكلم
فإن فرج الله الكريم بلطفه ... وأدركت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لديّ ومكتتم
ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وقد أحسن أيضا وحلق يوم قال:
العلم جهل عند أهل الجهل ... كما الجهل جهل عند أهل العلم
ومنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه
فعلى الطريقِ أخي ضع العلم في أهله على تفاوت فالذكي يحتاج إلى الزيادة والبليد يكتفي بالقليل والسفيه يمنع ويزجر وذو الشر يذل ويحرم ولا يعان ويكرم والجميع يذكر ويعظ، (كِل على الطريق لكل سالك بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار) ولكل ثواب لابس ولكل علم قابس.
فلا تكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلى صهوة الفرس
وقفة جانبية على الطريق: عرض ولا تصرح فالحال ناطقة.(33/49)
أقول وستر الدجى مسبل ... كما قال حين شكا الضفدع
كلامي إن قلته ضائع ... وفي الصمت حتفي فما أصنع
* * * * *
الإشارة الخامسة عشرة: كل البقل ولا تسل عن المبقلة
بمعنى خذها من أي وعاء خرجت، الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها، فلا تحقر على الطريق أحداً أن تأخذ منه الحكمة، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، والدر در ثمين أينما كانا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة قد أقر أبا هريرة رضي الله عنه على أن يأخذ ما فيه نفعه من أخبث مخلوق وهو إبليس الذي كان يسرق من التمر الموكل بحفظه أبو هريرة ثم افتدى نفسه من أبي هريرة بتعليمه آية الكرسي كحافظ له من الشيطان حتى يصبح، فلما أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ((صدقك وهو كذوب)).
فالحكمة قد يتلقاها الفاجر وهو لا ينتفع بها وتؤخذ عنه وينتفع بها، والكذاب قد يصدق فاعلم وحقق.
لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ... ما حط قيمته هوان الغائص
* * * * *
الإشارة السادسة عشرة: احترام الحقيقة
وتجنب الاغراق في المبالغة فهي قبيحة تشوه الحقيقة تقرب البعيد وتبعد القريب وتظهر غبشا في الرؤية على الطريق، إنها سماجة واستخفاف بعقل السامع وسخرية من وجدانه (تهويل وتزييف للواقع شطط وتفخيم وتضخيم ضد الحقيقة بل عجز عن رؤية الواقع كما هو عليه).وضعف في مشين.
حتى يرى سيئا ما ليس بالسوأى ... وكي يرى حسناً ما ليس بالحسن(33/50)
الإغراق في المبالغة سلبية في حياة عامة الناس وهي ظاهرة في سلوك المجتمع والأسرة والفرد وقد تعالج بمثلها، داء بداء فأين الدواء؟ وهاك المثال: (جاء طفل مسرع نحو أمه قائلاً: لقد وجدت في الحمام فأرا ياماه مثل الفيل، فردت عليه الأم مؤنبة له: قلت لك مليون مرة لا تبالغ. فقل لي بالله أيهما أكثر مبالغة، أليس الطفل معذورا فيما اخبر به عن أمه؟ بلى) وحالة:
محضتني النصح لكن لست تعمله ... فأنت أولى بذا مني على خجل
هذا على مستوى الأسرة والعامة وتلك والله فاقرة وقبيحة وقاصمة ولكنها في حق طلاب العلم والأخيار ثغرة كبيرة في جدار بنيانهم التربوي لا تكاد تسد.
فكل كسوف في الدراري شنيعة ... ولكنه في الشمس والبدر أشنع
إنها تظهر جلية مشينة في الحكم على الآخرين قدحا ومدحا فهذا يمدح ممدوحه حتى يوصله ذرى الجبال فلا تزال تسمع ما يلي: فلا إبن تيمية عصره وابن حجر زمانه وبخاري أوانه .. ليس له مثال .. علامة فهامة .. حتى إذا ما حصل أمر - أي أمر- تغير وتبدل وصار الأنف ذنباً ونصبت له المجانيق وأرسلت الصواعق وسلت السيوف ورفعت المعاول ومن قمم الجبال إلى حضيض الإهمال فإذا هو مارد خرج من قمقمه فإياك وإياه لا تتبع أقواله .. إنه غاو ومضل ما رق معاند خائن فاسد العقيدة أشر على الإسلام من اليهود والنصارى، حيف وظلم وشطط وجور وعدم اتزان وتدمير جنان.
يا عين سحي يا قلوب تفطري ... يا نفس رقي يا مروءة نادي
إن دام هذا ولم يحدث له غير ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
يا معشر القراء يا ملح البد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد
ورحم الله القائل يوم قال: والله إن الأمة لن تأخذ موضعها بين الأمم حتى تضع الكلمة في موضعها.
كيف تحيا أمة قد ودعت ... كلمة العدل ولم تدكر(33/51)
فهيا أخي ... أقبل بقلبك وقالبك واسمع إلى صاحب (كيف تحاور) وهو يخاطبك قائلا: (لتبتعد عن تهوين ما لا يعجبك وتهويل ما يعجبك، فإنك إن اشتهرت بذلك فسنضطر لتفحص عينيك عند سماع جديد الأخبار منك). نعم! إن الحقيقة غالية عند أصحاب النفوس القويمة والعقول المستقيمة ولو كانت في غير صالحهم فهي على مرارتها ثمينة. أما غيرهم فيخدع نفسه ويخدع غيره.
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
بالملح نصلح ما نخشى تغيره ... فكيف بالملح إن حلت به الغير
صور العمى شتى وأقبحها إذا ... نظرت بغير عيونهن الهام
دواؤك منك ولا تشعر ... ودواؤك فيك ولا تبصر
* * * * *
الإشارة السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة
من المبادئ المهمة في التعامل على الطريق بين المسلمين إحسان الظن بهم، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم فكيف بنياتهم، والحكم على سرائرهم التي علمها عند من لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه سر ولا علانية، الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة لكن من الناس من منظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمه ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيرا كذبه، وكلما ذكر عنده احد بخير طعن فيه وجرحه.
هم الشوك والورد أقرانهم ... وليس لدى الشوك غير الإبر
فكنت كذئب السوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
مبدع؛ لكنه إبداع سلبي، مبدع في تحطيم ما بينه وما بين الناس من جسور الثقة والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس ليكسب القلوب ليزرع فيها خوف وحب علام الغيوب.(33/52)
هاهو الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله لقي في صنوف الأذى على يدي الأشرف موسى ما لقي ثم رجع الأشرف إلى الحق بعد ما تبين له وأحب الشيخ حباً جماً وقدمه على غيره وعمل بفتاواه ولما مرض الأشرف قال: ياعز اجعلني في حل وادع لي فقال الشيخ: أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس عندي لأحد مظلمة وأرى أن يكون أجري على الله لا على عباد الله عملا بقول الله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40)
صفوح عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغشى بالكره مسلما
ثم أوصاه الشيخ بالصلح مع أخيه فتم له ذلك ثم ذكره بمنع المنكرات وإبطال ما يمارس العمال من الموبقات من إباحة الفروج وإدمان الخمور وارتكاب الفجور وقال له إن أفضل ما تلقى الله به أن تبطل ذلك في مملكتك فأمر بإبطال ذلك لكه وقال للشيخ: جزاك الله خيرا وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه ولقي الله فرحمه الله. هكذا -أخي- يجب أن نكون من حسن الظن بالمسلمين حتى نصل بدعوتنا إلى سويداء قلوب المدعوين. فمن وجد الإحسان قيدا تقيدا، وعلينا أن نطرح سوء الظن واتباع الهوى فاتباع الهوى يفرق ويشتت ويمزق لأن الحق واحد والأهواء بعدد قلوب الخلق (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50)
كدودٌ كدودِ القز ينسج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسج
فخير لك إن أردت النجاة على الطريق أن تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين لأن حسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها ويلبس عليك مثالها فترى المساوئ محاسنا والعيوب كمالا.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا(33/53)
فلا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن الظن بنفسه فهو أجعل الناس بنفسه.
لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
فكن أخي مع الناس كالنحل يقع على أحسن الزهور والرياحين فيجتني منها ما يفيده ويخدم به غيره ولا يكن همك تتبع السقطات والعثرات والتغافل عن الحسنات.
صوب نظرك على عنصر الخير في الناس وتعامل معهم على أساسه تَّسعَدْ وتُسعد.
ولا تكن كالذباب يقع على القذر وينشره تَشق وتُشق.
إذا أنت لم تعصي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
إذا رأيت الهوى في أمة حكماً ... فاحكم هنالك أن العقل قد ذهبا
* * * * *
الإشارة الثامنة عشرة: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها
ما منا أحد إلا وله زلة وخطأ وسقطة ورأي قد يكون فيه كبوة، وزلة المسلم إما أن تعرف وتشاع وتذاع فيستمرؤها صاحبها وينسلخ عنه الحياء فيصعب عليه الرجوع، وإما أن تكون زلته حبيسة في صدره لا يعلمها إلا الله وحده فهذا رجوعه أسرع بإذن الله وأقرب، فلا يكن أحدنا عونا للشيطان على أخيه وليس الذئب يأكل لحم ذئب، ولا يجوز الباب إلا مؤمن عاقل يختار رضوان الله العلي القدير، إن العامل يتعرض لعثرات وقد يحصل منه هفوات ثم ينبري له من سلمه حرب وذلوله صعب يشيع ويذيع لا يقر له قرار ولا ينعم له بال كأنما يتقلب على حسك السعدان أو يتلوى على جمر الغضا ينحب وينبح ويلهث، ينكر جروحا ويثير أشجاناً يرفع عقيرته لا يعجبه أحد، ولا يرتاح لبروز أحد، إرضاءه لا يدرك، أطيش من ذباب.
لو وزنت أحلامه الخفافا ... على الميزان ما وزنت ذبابا
جليد بليد:
وما على الكلب أن يعتاده السعر ... ومن العجائب أن مثل لسانه لم يبتر
فمطالب بإعادة ومطالب ... بزيادة ومهلل ومصفق
كالكلب إن جاع لم يمنعك بصبصة ... وإن ينل شبعاً ينبحك من أشر
فيا عجبا من زائر وهو ثعلب ... يخال سكوت الليث وهنا فيعتدي(33/54)
غرورا وينسى بأسه حين يغضب
فالتعامل معه كالآتي: لا يلتفت إلى ما في كلامه من طعن ويؤخذ ما فيه من حق إن وجد فإن الحق هو الحق وللداعية خيره وعلى الطاعن شره.
فما الأسد الضرغام يوماً بعاكس ... صريمته إن أنَّ أو بصبص الكلب
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله: بعض الناس لا تراه إلا منتقداً ينسي حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج، فاربأ بنفسك أن تكون كصغار الكلب أو شر الطبل على حد قول القائل:
صغار الكلب أكثرها عواءً ... وشر الطبل أكثرها دوياً
صغير العقل بالأعرض يلهو ... …وذو اللب الرجيح يراه غيا
ومن نظر الأمور بعين عقل ... جرى في هذه الدنيا أبيا
إن الوقيع كإسمها شر وفساد وفرقة وتمكين للعدو وبهتان نهايتها خصومة وقطيعة وقعود وقرار لعين العدو وهلاك على الطريق وهكذا الذباب على الطعام يطير والفراش على الشهاب يساقط.
كلام من كان على ذا ومنظره ... مما يشق على الأذان والحدق
فلا تعره اهتماما على الطريق ولا تنتصر لنفسك.
فإن انتصرت لها فأنت كمن بغى ... طفي الحريق بموقد النيران
واعجباً لمسلم قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين ثم يريد أن ينجح ويفلح ومتى يفلح؟ متى يفلح من يطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من سنين، متى يفلح من يشفي صدور قوم كافرين بالوقوع في إخوانه المسلمين.
تغشى عيون في النهار فلا ترى ... وترى عيون في الظلام وترقب
ويسير ذو جهل بحكمة غيره ... ويتيه ذو العقل السديد ويسلب
فيا طالب العلم: إن الوقيعة في الناس بضاعة الجبناء وكف اللسان عن الناس سمت العلماء وكل إلى جنسه يحن.
فليكن حنينك إلى العلماء وأخلاق العلماء تكن كالعلماء.(33/55)
وأنظر وقف: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كان ممن لا يغتاب ولا يسمع في مجلسه بغيبة وكذلك العلماء.
يقول: لقتل الأولاد ونهب الأموال أهون عندي من أخذ الحسنات من رجل كبير مثلي، وفي رحلة الحج يسجل هذا الموقف العظيم فيقول:
ثم جئنا آخر النهار بعد الثالثة للقرية المسماة (آتيه)، فالتمسنا عربيا نبيت عنده، فدعانا رجل عربي - والله ما سألت عن إسمه ولا إسم أبيه خوفا من الغيبة -فانزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فذكرتني تلك الليلة ليلة النابغة التي قال فيها:
كليني لهمِّ يا أميمة ناصب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
وليلة المهلهل التي قال فيها:
أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنتِ أنقضيتِ فلا تحوري
قد وصف طولها بقوله:
كأن كواكبَ الجوزاء عودُ ... معطفةًُ على رُبع كسيرِ
كأن الجدي في مثناهُ ربقُ ... أسيرُ أو بمنزلةِ الأسيرِ
كواكبُها زواحفُ لاغِباتُ ... كأن سماءها بِيدي مديرِ
إلى أن قال:
وأنقذني بياضُ الصبح منها ... وقد أُنقِذتُ من شيءٍ كبير
وتمثلت قول إمرء القيس:
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
وكان صبح تلك الليلة أحب غائب إلينا
فيا معشر طلاب العلم: هذا ديدن العلماء الربانيين ومن تشبه تشبث.
كيف الوقوف أمام خلاق الملا ... والعلم ظن والحديث مرَّجمُ
إن أي إنسان يستطيع أن يرمي غيره بأي نقيصة لكنه لا يستطيع أن يثبت دعواه إلا إذا كان صادقاً.
وكم على الأرض أشجار مورقة ... وليس يرجم إلا ما به ثمر
كلًٌ يصيد الليث وهو مقيد ... ويعز صيد الضغيم المفكوك
واختلاف الرأي لا يفسد للود لقضية ولو أنه كلما اختلف إثنان تهاجرا وتقاطها لما بقي بين المسلمين أخوة فليتق الله مؤمن في إخوانه، وليتسع صدره لوجهات نظرهم فلا تذهب معه المروءة والمحبة والمؤمن يستر وينصح لا يهتك ولا يفضح.(33/56)
أمنا التقوى وقد أرضعتنا ... من هواها ونحن نأبى الفطاما
فاشرب من الماء القراح منعماً ... فلكم وردت الماء غير قراح
وهات حديثا كقطر الندى ... يجدد في النفس ما بددا
فيضحي لآمالنا منعشا ... ويمسي لآلامنا مرقدا
وقفة جانبية أخرى على الطريق:
لا تسل لئيما:
لا تسل لئيما فأذل من اللئيم سائله
من كان يأمل أن يرى من ساقط نيلا دنيا ... فلقد رجى أن يرتجي من عوسج رطباً جنياً
* * * * *
الإشارة التاسعة عشرة: ما كل عود ناضر بنضار
ما كل من حَسُن منظره حسن مخبره فلا تغلب المظاهر على الحقائق على الطريق (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
فما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
إن من عباد الله على الطريق من تشرئب إليه الأعناق ويسترعى الانتباه لكنه خائر بائر لا خير فيه ولا يغتر به.
لهم منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القبل أسود أسفعُ
فمردود بهاؤهم عليهم ... كما رد النكاح بلا ولي
ومن عباد الله على الطريق من لا تشرئب إليه الأعناق ولا يسترعي الانتباه لكن يُجري الله على يديه الخير الكثير.
متبذل في القوم وهو مبجل ... متواضع في الحي وهو مكرم
((ثبت انه مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس حري والله إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله هذا الرجل من فقراء المسلمين، حري إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألاّ يشفع وإن قال ألاّ يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)).
وبعض الناس ماء رباب مزن ... وبعض الناس من سبخ ملاح(33/57)
والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من طبعه لم ينتفع بصقال
وليس بضائر إذا صح نصل ... السيف ما لقي الغمد
ولا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس في هاوية
((دخل أعرابي رث الهيئة في عباءة خلقة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه فاقتحمته عنيه وغدى ينظر على عباءته الخلقة فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك إنما يكلمك من فيها)).
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان غضبا حيث أنفذته برى
فإن تكن الأيام أزرت ببزتي ... فكم من حسام في غلاف مكسرا
فقربه وأدناه وعلم أن في العباءة ما فيها.
عجبت لمن ثوبه لامع ... ولكنما القلب كالفحمة
مظاهر براقة تحتها ... بحار من الزيف والظلمة
وتكلم آخر محتقر عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب حتى خلب لب عبد الملك وأعجب به فقال له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي توصلت بها إليك وأهلتني لأن أتكلم بين يديك أخلب لبك، أبى الله أن أسمو بجد ولا أب.
فما أنا إلا السيف يأكل جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل
وليست رعوتي من فوق مذق ... ولا جمري كمين في الرماد
قال: صدقت:
فما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار من يبغي الفخار بنفسه
إن من أحوال المسلم أن يحتفي وينتعل ويمتشط ويدع ذلك ويلبس اللباس الجميل والحذاء الحسن، ومع هذا لا تتحكم هذه المظهارية فيه ولا يوزن بها ولا تأسر شخصيته، فهو يحكمها ويأسرها خلافا لموازين معكوسة جعلت المظهرية هي الميزان.
قيمة المرء عندهم بين ثوب ... باهر لونه وبين حذاء
ماذا لو خرج العالم حافيا بين الناس أينقص علمه وقدره؟ ماذا لو انتعل الغبي الجاهل أحسن النعال أيصبح فقيها؟ ماذا لو لبس المعتوه أحسن الثياب وأجملها أيغدو ذا لب .. ؟
إذا كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل(33/58)
إن الإكتفاء في المقاييس بارتداء الملابس والامتشاطات الساحرة والعطور المنعشة مع عدم النظر إلى التقوى والعلم والرأي حيف ونكسة.
رب ذي مظهر جميل توارى ... خلف أثوابه فؤاد خؤون
إن المظهر الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة وليست هي المقياس في الحكم على الناس، إن التراب مكمن الذهب فلا يغرنك حسن المظهر وحسن الهيئة وجمال الهندام والبزة فكم من ارتداها وهو يحمل بينها نخاعاً ضامراً بائراً وقلباً حائراً فهل يقدم مثل هذا؟ كلا ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن، ((رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره)) كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله.
لا يغرنك البها والصور ... ستة أعشار من تراهم بقر
ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فالعبرة كل العبرة بصلاح القلوب والأعمال لا بالصور والأموال ولا بالمظاهر والأشكال (إنما تنصر الأمة بضعيفها بصلاته ودعائه) فلا تغرنك المظاهر وابل الرجال تحبهم أو تبغضهم ومن ثمارهم تعرفونهم.
وعلى الفتى لطباعه ... سمة تلوح على جبينه
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغنى بالعظم البعير
يصرفه الصغير بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غِيَر لديه ولا نكير
فإن كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفِّيه وإما تعده
* * * * *
الإشارة العشرون: بقدر الصعود يكون الهبوط
بمعنى: أحذر العجب والتعالي والغرور فهو دليل السفه ونقص العقل ودنو النفس لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار فيقول له: أنت فعلت وفعلت حتى يلقي في روعه أنه لا مثيل له ولا نظير له فيعجب بنفسه فيغتر فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى، لأن السعادة إنما تدرك بالسعي والطلب والمعجب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه لا يتقدم لمكرمة ولا يرتقي لمنزلة.(33/59)
ولولا السعي لم تكن المساعي
فما خير برق لاح في غير وقته ... وواد غدا ملآن قبل أوانه
عند ذلك يرفض الحق ويحتقر الخلق ويداوم تزكية النفس أمام الخلق ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق ثم يستعصي على النصح ولا يعترف بجهود الآخرين يداوم الحديث عما ينجزه من أعمال ويرفض الرجوع عن الخطأ ويحاول تبرير الخطأ ويستبد برأيه فرأيه صواب لا خطأ فيه لا يستشير أهل التجارب العقلاء ولا يستنير بآراء الأكياس الفطناء يهتم بشواذ المسائل وغريبها ويهمل العمل بأصول المسائل ثم يرفض الجلوس للتعلم في حلقات العلم.
ألجّ لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
هو الغريق فما يخشى من البلل ... جذ السنام له وجذ الغارب
فحاله ياله من حال: كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة.
* أو كالبرغوث يحيا ما دام جائعا فإذا شبع مات.
* أو كراكب أراق ماءه لرؤية السراب ثم ندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرة.
* أو كرجل في قمة جبل يرى الناس في السهل كالنمل ويراه الناس في القمة كالذر وهو لايشعر.
مثل المعجب في إعجابه ... مثل الواقف في رأس الجبل
يبصر الناس صغار وهوفي ... أعين الناس صغيراً لم يزل
أو هو (كالسنبلة الفارغة من الحب بين السنابل المملوءة بالحب تجدها رافعة رأسها تتعالى على صديقاتها وصويحباتها مع أنها لا تصلح إلا علفا للحيوان)، والمملوءة حبا مثقلة بالخير قد انحنت برؤوسها.
إن كريم الأصل كالغصن كلما ... ازداد من خير تواضع وانحنى
العجب بإختصار كلب ينبح في قلب صاحبه والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صور أو كلب.
فتنة تضحك أرباب النهى ... من مخازيها وتبكي البشرا(33/60)
والنتيجة مخزية فنعوذ بالله من الخزي والبوار يحرم المعجب من توفيق الله فالخذلان موافق له ومصاحب له: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146). وتبعا لذلك ينال غضب الله ومقته. ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة كبر))، وثبت أيضا: ((من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان)) ثم ينهار المعجب وقت المحنة والشدة لأنه لم يحفظ الله في الرخاء فجدير بأن يخذل وقت المحنة ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة))، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ثم إن المعجب يخلق بينه وبين مدعويه جفوة وفجوة لا تكاد تردم فالقلوب جبلت على بغض من يتعالى عليها ومن ثم لا تقبل دعوته والمعجب عرضة لإنتقام الله العاجل والآجل ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذا خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) كما روي البخاري ومسلم رحمهما الله.
أتت النوى دون الهوى فأتى الأسى ... دون الأُسى بحرارة لم تبرد
خدعتهم الأحلام في سنة الكرى ... ما أكذب الأحلام والتأويلا
له أسباب وبواعث لعل منها ما يلي: - باختصار-
1 - انحراف المربي في هذا الجانب إذ يلمس منه حب المحمدة ودوام تزكية النفس بالحق أو بالباطل فيتأثر به تحت يده.
2 - ثم المدح في غير ضوابطه الشرعية بأن يكون بالحق وغير مجاوز للحد ومع من لا تخشى عليه الفتنة.
3 - ثم صحبة المعجبين والمرء على دين خليله والصاحب ساحب - كما قيل-.(33/61)
4 - ثم الصدارة قبل النضج والتربية فالتفقه في دين الله ضرورة قبل الصدارة (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122). وقد يكون السبب عراقة الأصل والنسب لبعض العاملين فتحمله على استحسان ما يعمله مع أن النسب لا يقدم ولا يؤخر (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59). ((لينتهين أقوتم يفتخرون بآبابئهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من العجلان)) (أبو داود). وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطا عدة لعل فيها العلاج لمن أصيب بهذا الداء عافانا الله وإياكم منه.
أولاً: العلم واليقين بأن المنة لله عز وجل فيما أعطيته من مواهب وقدرات والله قادر أن يسلبكها ما بين غمضة عين وانتباهتها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (ابراهيم:7). (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ َ) (النحل:53).
ثانيا: دوام حضور مجالس العلم والعلماء تلميذاً فإن في ذلك تطهير للنفس من ذلك الداء وتعريفا لها بقدرها وذلك هو الدواء.(33/62)
يقول أحمد ابن يوسف الشيرازي في "أربعين البلدان" له: (لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي، بعد الله عليك، قد كتبت ما وقع إلىَّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة علمك، وأحضى بعلو إسنادك، فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، ولو كنت عرفتني حق معرفتي، لما سلمت عليَّ، ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلا، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا).
مجالسة العلماء طيب، ولو كنت تاجرا ما اخترت غير الطيب، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه، فاعلم وعِ:
ثالثا: خدمة من هم دونك علما ومرتبة وقدرا ومجالستهم ومؤاكلتهم وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره.
رابعا: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلة وعملا ورأياً وتفكيرا (إن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أعجبت برأيك فتفكر في سقطاتك فاحفظها ثم أنظر إلى من هو أعلى منك رأيا، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه هبة من الله وانظر إلى من هو أعلى منك علماً وفوق ذي كل علم عليم.
خامسا: تأمل عيوب نفسكم ثم جد في محاسبتها أولاً بأول وأنت أعرف بنفسك، (كل منا يصف أواني بيته ومحتوياته ورب البيت أدرى بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بنقد الدينار)، (إن خفيت على المرء عيوبه حتى ضن ألا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصا وأعظمهم عيوبا وأضعفهم تميزا -كما يقول ابن حزم- فالعاقل من ميز عيوب نفسه وجاهدها وسعى في قمعها والأحمق من جهل عيوب نفسه).(33/63)
وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها. من أنت؟ هل أنت إلا عبد مكلف موعود بالعذاب إن قصر مرجو بالثواب إن ائتمر مؤلف من أقذار مشحون بأوضار سائر إلى جنة إن أطاع وإلا نار - أجارك الله من النار -.
كيف يزهو من رجيعه ... أبد الدهر ضجيعه
وهو منه وإليه ... وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه ... إلىالحش بصغر فيطيعه
لو فكر الناس فيما في بطونهم ... ما استشعر العجب شبان ولا شيب
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة ... وهو ببضع من الآفات مضروب
انف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين ممرضة والثغر ملعوب
يابن التراب ومأكول التراب غدا ... أقصر فإنك مأكول ومشروب
وأتم الناس أعرفهم بنفسه كما قيل:
سادسا: اجلس دائما حيث ينتهي بك المجلس فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها واتباع للسنة وأنعم بها خلة.
إذا لم يكن صدر المجالس سيدا ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
سابعا: إن التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري: ((لن ينجى أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ثامنا: تعويد النفس علىالفرار من الشرف حتى تعتاده فمن فر منه وهب له ومن تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه.
يقول المدائني: رأيت رجل من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة في تيه وعجب ثم رأيته في سفر يمشي راجلا متعبا منهكاً يحمل متاعه على ظهره فقلت له: أراجل في هذا الموضع وأنت من يطوف بالبغلة بين الصفا والمروة! قال: نعم ركبت حيث يمشي الناس فكان حقا على الله أن أمشي حيث يركب الناس ومن تواضع لله رفعه.
تاسعا: الاستعانة بالله واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفة ومن استعان بالله أعانه الله.
فسل العياذ من التكبر والهوى ... فهما لكل الشر جامعتان
وهما يصدان الفتى عن كل طرق ... الخير إذ في قلبه يلجان(33/64)
والله لو جردت نفسك منهما لأتت ... إليك كل وفود كل تهاني
ومن استعان بالله أعانه الله.
عاشرا: المجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
حادي عشر: أحذر أنا، لي، عندي.
يقول ابن القيم: (وليحذر كل الحذر من طغيان أنا ولي وعندي فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلى بها إبليس، وفرعون، وقارون، فأنا خير منه لإبليس، ولي ملك مصر لفرعون، وإنما أوتيته على علم عندي لقارون، وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر ونحوه، ولي في قوله لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل وعندي في قوله: أغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي.
ثاني عشر: إذا أعجبت بمدح إخوانك ففكر في ذم أعدائك إياك، فإن لم يكن لك عدو فوالله لا خير فيك فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله اياكم - كما يقول ابن حزم رحمه الله-.
ثالث عشر: التدبر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعدهم ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم وخير من دب على الثرى وهو الأسوة أنه كان يجلس على الأرض. ويأكل على الأرض. ويعتقل الشاة. ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار. ويقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، ويقف بين يديه رجل يرعد كما ترعد السعفة فيقول: هون عليك فإنما انا إبن إمرأة من قريش كانت تأكل القديد. يمر بالصبيان ويسلم عليهم.
قسم التواضع في الأنام جميعهم ... فذهبت أنت فقدته بزمامه(33/65)
صلوات الله وسلامه عليه، يقول أنس: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. كان يكون في مهنة أهله فإذا حضر وقت الصلاة خرج إلى الصلاة. كان يخيط ثوبه ويخصف نعله. ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وإذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده. لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة، وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم. ويعود مرضاهم. ويشهد جنائزهم يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم كما ثبت ذلك كله عنه.
فكل فعل كريم كان فاعله ... يحي القلوب ويحي ميت الهمم
صلوات الله وسلامه عليه:
يلين لكل ذي ضعف وعجز ... وكم لان لذي جهل فلانا
رسول يحمل الأطفال لطفا ... ويجعل عاتقيه لهم حصانا
ويختصر القراءة حين يبكي ... …صبي والموفق من ألانا
يلاطف أهله أكرم بزوج ... يعف الأهل يغمرهم حنانا
يقاسمهم متاعبهم معينا ... ويخدمهم فكم وضع الجفانا
فكم خصف النعال وخاط ثوبا ... وكم من شأنه ملأ الجفانا
زعيم القوم خادمهم فطوبى ... لمن خدم الرعية أو أعانا
تشبه بالرسول تفز بدنيا ... وأخرى والشقي من استهانا
فأخلاق الرسول لنا كتاب ... وجدنا فيه أقصى مبتغانا
وعزتنا بغير الدين ذل ... وقدوتنا شمائل مصطفانا
صلوات الله وسلامه عليه:(33/66)
ويأتي من بعده كوكبة من أتباعه الذين رباهم صلوات الله وسلامه عليه لينهجوا نهجه ويستنوا بسنته فإذا أنت بخير من دب على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين: أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضاربا بكل مثبط عرض الحائط ليخرج في وداعه ما شيا وأسامة راكب يقول أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن فيقول: والله لا ركبت ولا نزلت وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة فإن شئت أن تعينني بعمر بن الخطاب فافعل ثم يقولها أخرى: لو يعلم الناس ما أنا فيه أهالوا عليَّ التراب.
عضب العزيمة في المكارم لم يدع ... في يومه شرفا يطالبه غدا
وروى الفاروق:
(أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه فقال له يا أمير المؤمنين أغناك الله وأرضاك وخولك وأعطاك فما يحملك على ما أنت فيه قال: إن ما تقوله حق لكن لما جائتني الوفود سامعة مطيعة دخلتني نخوة فأردت أن أكسر تلك النخوة في قلبي ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من النصار فأفرغها في جرارها.
فمن يباري أبا حفص وسيرته ... ومن يحاول لفاروق تشبيها
ثم ينادي عمر يوماً: الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس وكثروا قالوا: الأمر خطب عظيم. صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أيها الناس لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر أو قبضة من زبيب فأظل يومي وأي يوم وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر فقال ابن عوف رضي الله عنه: ويحك يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية فقال: ويحك يابن عوف لقد خلوت بنفسي فحدثتني وقالت: أنت أمير المؤمنين من ذا أفضل منك فأردت أن أذلها وأعرفها قدرها).
كذلك أخلاقه كانت وما عهدت ... بعد أبي بكر أخلاق تحاكيها
لعل في أمة الإسلام نابتة ... تجلو لحاضرها مرآة ما ضيها(33/67)
وأخرج أبو نعيم في الحيلة عن الحسن قال: رأيت عثمان رضي الله عنه نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين.
ظهر الحيا وانهل ذاك البارق ... ونداك فياح ومجدك سابق
وتقسم الناس الحياء مجزءاً ... فذهبت أنت برأسه وسنامه
رضي الله عن عثمان وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويخرج ابن عساكر عن زاذان أن عليا رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة يرشد الضال وينشد الضال ويعين الضعيف ويمر البياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويرد في (صفوة الأخبار) أنه اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفة فقال له رجل أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال: لا أبو العيال أحق أن يحمله، (ما تواضع أحد الله إلا رفعه).
فرعا سما في سماء العز متخذا ... أصلا ثوى في قرار المجد مغروسا
وخالد ... ما خالد؟! أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ما هزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في اوج انتصاراته (يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصحة رآها أمير المؤمنين فيقول خالد: والله لو ولىّ عليَّ أمير المؤمنين عمر عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم).
لانت مهزَّته فعزّ وإنما ... يشتد بأس الرمح حين يلين
وقيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إليَّ من أن أرى نفسي أهلا لتلك المنزلة، (اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن ينال رحمتك لكن رحمتك أهل أن تنال عمر).
ينسى صنائعه والله يظهرها ... إن الكريم إذا أخفيته ظهرا
ويأتيك الإمام مالك يبرق بثوب التواضع يرفل عزا فيقول: ما رأيت مسلما إلا ظننت أنه خير مني.
وكذا السحائب قلما تدعو إلى ... معروفها الرواد إن لم تبرق(33/68)
واسمع إلى ابن القيم وهو يحدث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: كان كثير ما يردد مالي شيء ما مني شيء ولا في شيء أنا المكدّي وابن المكدّي وهكذا كان أبي وجدي ويكتب بخط يده:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن ياتينا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي دفع المضرات
والفقر لي وصف ذات لا زم أبداً ... كما الغني أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي
يثني عليه في وجهه فيقول: والله إني لإلى الآن أجدد إسلامي في كل وقت وما أسلمت بعد إسلاماً جيدا رحمه الله.
كأن القائل يعنيه حين قال:
فصعدت في درج العلا حتى إذا ... جئت النجوم صعدت فوق الفرقد
على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم لم يتسلل العجب إلى نفوسهم ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم تواضعوا لله فرفعهم الله في الدنيا وفي الآخرة يكرمهم بإذن الله (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90)
بتنا نعيش على كرام فعالهم ... هيهات ليس الحر كالمستعبد
اين الجبال من التلال أوالرَُبا ... أين القوي من الضعيف المقعد
لا القوم منا لا ولا أنا منهم ... إن لم أفقهم في العلا والسؤدد
إن عد قوم في التقى كانوا أئمة ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بُعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم(33/69)
إلى من عمى في شمس نهاره، وعثر في ذيل اغتراره، وسقط سقوط الذباب على الشراب، وتهاتف تهاتف الفراش على الشهاب إن العجب أكذب ومعرفة النفس أصوب- كما قيل- ولا شيء والله أنفع لها من الافتقار إلى باريها.
بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والنفخة العاتية
وكن في مكان إذا ما وقعت ... تقوم ورجلاك في عافية
* * * * *
الإشارة الحادية والعشرون: لا تكن يائساً
فالمستقبل لدين الله والعزة لأولياء الله. منا من رأى تفشي الشر والمنكر وانتشاره واستفحاله رأى العدو تبجح وتقوى وتحت ظل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيء ولن نجني سوى التعب والمشقة فليس إذا في السعي فائدة. فإذا بك تنظر إليه متهجم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر يحسب يوم الجمعة الخميسا مردداً حين يطلب منه خدمة دينه -ولو بالكلمة-: أنت تؤذن في خرابة لا أحد حولك تنفخ في قربة مقطوعة وغيرها من عبارات:
تصدا بها الأفهام بعد صقالها ... وترد ذكران العقول إناثاً
هلك الناس ... هلك الناس في نظره وقد هلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا كما في صحيح مسلم: ((إن قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)).
معاشر المؤمنين: مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس. وأحلام اليوم هي حقائق الغد. والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين. والقوي لا يظل قوي أبد الآبدين. (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5 - 6).(33/70)
إننا نملك إيمانا بنصر الله لنا وثقة بتأييديه لنا ويقينا بسنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به عباده المؤمنين (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور:55).
إنه وعد يشحذ الهمم ويستثير العزائم ويملأ الصدور ثقة واطمئنانا إن الدور لنا لا علينا والتاريخ معنا (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (الصافات:172). سنة الله رب العالمين قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))، ((وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتا مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. فانت أيها المؤمن أجير عند الله كيفما أراد ان تعمل عملت وقبضت الأجر لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من ياتي يوم القيامة ومعه الرجل ومعه الرجلان والثلاثة ويأتي من ليس معه أحد (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48).
(وآية الآيات في هذا الدين أنه أشد ما يكون ٌقوة وأصلب ما يكون عودا وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين ننزل بساحته الأزمات وتوصد عليهم المنافذ حينئذ يحقق الإسلام معجزته ينبعث الجثمان الهامد يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق ينتفض).
يقول فيسمع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجعُ(33/71)
فإذا النائم يصحوا وإذا الغافل يفيق وإذا الجبان يتشجع وإذا الضعيف يتقوى وإذا الشتيت يتجمع وإذا بهذه القطرات المتابعة المتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجز ولا سد).
لا يزخر الوادي بغير شعاب ... وهل شمس تكون بلا شعاع
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت وتغفو لكنها لا تنام وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم دمروا المدن وخربوا العمران وأسالوا الدماء وأسقطوا الخلافة وعطلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه من كثر ما سال من مداد الكتب حتى أصبحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة من هذا الغزو الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر والذي يذكر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج حتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول ليت أمي لم تلدني ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. مما رأى. من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين. ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نكست ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً وأن أمة الفتح والنصر قد حقت عليها الهزيمة فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد، ولم يمض سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين تحت تأثير العقيدة الإسلامية فإذا بهم يدخلون بهم في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4). (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:26). (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر:44)(33/72)
لا تيأسوا إن تستردّوا عزكم ... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعز كل عظيمة ... إني رأيت العز صعب المرتقى
إن قراءة متأنية لتاريخ الصلبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بان الواقع سوف يتغير فاسمع إلى ابن كثير (في البداية والنهاية) وغيره من أهل السير وهم يسردون لك هذا الحدث: (وفي ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب وارتكبوا ما لاترتكب أكثر منه الشياطين لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح جاسوا فيها خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدنانير ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيه الخنازير ونودي من على مآذن لطالما أذن بالتوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة- جل اله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.
كم طوى اليأس نفوسا لو رأت ... منبتا خصبا لكانت جوهرا
ويمضي الزمن ويعد الرجال وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لإسترداد بيت المقدس وتأديب الصلبيين على مبداهم هم: إن القوي بكل أرض يتقي وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تقول:
يا أيها الملك اذي ... لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى ... من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا ... على شرفي أنجس
فانتخى وصاح وا إسلاماه وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل.(33/73)
من ذا يغير على الأسود بغبها ... أو من يعوم بمسبح التمساح
وعندها علم الصلبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم فتصالح ملوك النصارى وجاؤا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألف فتقدم صلاح الدين إلى طبريا ففتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته استدرجهم إلى الموعد الذي يريده هو ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان وأغبر وجه الظلم والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان عشية الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كانت تحت سنابك خيل الكفار فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ثم هجموا كالسيل الدفاع لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً حتى قيل لم يبق أحد ويؤسر منهم ثلاثون ألفا حتى قيل لم يقتل أحد، فلم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذكر ان بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس غنمه.(33/74)
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الإستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس؟: الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً، والمكان الذي قال فيه: إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتح من الجهة الشرقية ويخرجهم منه فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم –ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4).
معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا:
يئست أنفس ونامت عيون ... فجراح تغدو وتأتي جراح
فأين النجم من شمس وبدر ... وأين الثعلبان من الهزبر(33/75)
المؤمن لا يعر ف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه ثم هو واثق بحق نفسه ثم هو واثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم- كما قيل – كالذهب والحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى بهاؤه.
يؤلف إيلام الحوادث بيننا ... ويجمعنا في الله دين ومذهب
إن علينا –معشر المسلمين- أن نكون بحجم التحديات بصبر وثبات ولسان حال كل واحد منا:
فيقصر دون باعي كل باع ... ويحصر دون خطبتي الخطيب
إني أبيٌَ أبيُ ذو مغالبة ... وابن أبيّ أبيّ من أبيين
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم لكن الأهم البقاء فيها، إن الإنحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، فالاستعلاء النفسي عليه في تحرر للفكر من إرهاقه ويأسه وخباله، بإرادة قوية حرة أبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى القوة باذن رب البرية (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقا منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين وهذا يدل على حكمة الرسول الأمين عليه صلوات الله رب العالمين، وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة من واقع إلى واقع بتأب عن اليأس وترفع على الهزيمة وحاله:
فليس يجلي الكرب رأي مسدد ... إذا هو لم يؤنس برمح مسدد(33/76)
إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة (ووعد الله لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدا على يد أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله).
فإذا حاولت في الأفق منىً ... فاركب البرق ولا ترضى الغماما
وما السيف إلا زبرة لو تركته ... على الخلقة الأولى لما كان يقطع
ألا أنني لا أركب اليأس مركبا ... ولا أكبر البأساء حين تغير
نفسي برغم الحادثات فتية ... عودي على رغم الحوادث مورق
أيها اليائس مت قبل الممات ... فإذا شئت حياة فالرجا
لا يذيق ذرعك عند الأزمات ... إن هي اشتدت فأمل فرجا
البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت ... والماء يأسن إن أقام طويلاً
صانع السيف كمن يشهره ... في سبيل الله بين الجحفل
حقق الله لنا آمالنا ... وعلى الله بلوغ الأمل
الإشارة الثانية والعشرون: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث
أو (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام:152). ما أحوجنا إلى العدل على الطريق وحاجتنا أشد له في النقد ومعالجة الخطأ.
ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله عز وجل بأن تكون لنا أسوة حسنة فيه صلى الله عليه وسلم، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته صلى الله عليه وسلم، بل أن سيرته صلى الله عليه وسلم كلها عدل، ونكتفي هنا بمثال واحد ألا وهو موقفه صلى الله عليه وسلم من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها؛ ليتضح لنا ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذا الخطأ، رغم شناعته وخطورته.(33/77)
روي الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير- وكلنا فارس- قال: انطرقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها إمراة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت ما معي من كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب وإلا لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجرتها –وهي محتجزة بكساء – فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا وهناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق ولا تقولوا إلا خيرا. فقال عمر إنه قد خان الله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه، فقال أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو فقد غفرت لكم-، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
من هذه الحادثة نستطيع ان نحدد ثلاثة مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما كانت ضخامته:
المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ:
في هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي، حيث أوحى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة، وأين هي المرأة.
المرحلة الثانية: مرحلة التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ:(33/78)
وهذا الأمر متمثل في قوله صلى الله عليه وسلم لحاطب: ما حملك على ما صنعت؟ وهذه المرحلة مهمة؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرا شرعيا في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد، فإذا لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مقنعا لكنه طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق حاطب، وأنه لا زال مسلما، نقول: إذ لم يكن العذر مقنعا من الناحية الشرعية، فإنه يصار إلى:
المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطا وحشدها إلى جانب خطأه، فقد ينغمز هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته: وهذا هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع حاطب رضي الله عنه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمر عندما استأذن في مقتل حاطب: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو فقد غفرت لكم-.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاما جيدا حول هذا الموضوع؛ حيث قال في رده على من قال: إن الله يعافي الجهال ما لا يعافي العلماء:
فالواجب: أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضا من كثرة حسناته، وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى منه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث.
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: أعملوا ما شئتهم فقد غفرت لكم.وقد ارتكب مثل هذا الذنب العظيم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدرا، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم؛ فقوعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.(33/79)
ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال: ما ضر عثمان ما عمل بعدها، وقال لطلحة لما تطأطا للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة: (أوجب طلحة).
هذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي صلى الله عليه وسلم، وقال شاب بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه ولا تخفى منزلته.
وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات؛ فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوهما، حتى أنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه؛ فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللآئي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات - الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي طبعهم أحياناً - من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم.
* * * * *(33/80)
الإشارة الثالثة والعشرون: رفقاً بهم
إن عند الناس من الهموم ما يكفيهم، وهم بحاجة إلى من يواسيهم لا من يعنفهم، وعلينا ألا ننسى أن البشر مخلوقات عاطفية تجذبهم الكلمة الطيبة وينفرهم التوبيخ والتقريع، وعند كل واحد منهم من الاعتداد بنفسه ومواهبه وإمكاناته ما يجعله يرى في الكلمة القاسية عدواناً على كرامته ومجاله الخاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ساق ما يحتاجه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، العلم قبل الأمر والنهي والرفق ومعه الصبر بعده .. وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف، ورووه مرفوعا: (لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهي عنه؛ رفيقا فيما يأمر به؛ رفيقا فيما ينهي عنه؛ حليما فيما يأمر به؛ حليما فيما ينهي عنه).
والداعية إلى جانب إيثار الكلمة الرقيقة والأسلوب العذب يؤثر أيضا التشبيهات الجميلة، ويبتعد عن الأمثال والتشبيهات القبيحة أو المنفرة؛ وقد سمعت آخر يشبه لا قطات (التلفاز) على أسطح المنازل بالرايات التي كانت تنصبها المومسات على بيوتهم في الجاهلية!! - قلت كيف لو رأى الأطباق اليوم - وهذا كلام الصمت خير منه بكثير!
إن قولنا: هذا خلاف الواقع يؤدي عين المعنى الذي يؤديه قولنا: هذا كذب، لكنه أرفق وألطف. وإن قولنا: ما رأيكم لو علمنا كذا ألطف من قولنا اعملوا كذا، وكفوا عن كذا ...
إن صيغة الأمر والنهي لم تعد مقبولة في كل موضوع؛ فالحضارة الحديثة وسعت دائرة الخصوصيات والحرية الشخصية إلى أبعد حد ممكن، وإن من واجبنا أن نشعر المخاطب أننا لا نتعدى على أي منهما.
فالرفق الرفق ((من يحرم الرفق يُحرم الخير كله)) صحيح مسلم.
ويقول الله تعالى: ( ... وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159).
(قال السيد قطب رحمه الله حول ظلال هذه الآية)(33/81)
(فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ... في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى العطاء، ويحمل همومهم، ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الإهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا ...
وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس؛ ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة.
هذه هي صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله عز وجل بالتأسي به، واقتفاء أثر، وهي نموذج لكل داعية يريد دعوة الناس إلى الخير، ويحببهم فيه، ولكن مع ذلك بعضنا يفرط في هذه الصفات، ويصدر منه من المواقف والتصرفات ما ينم عن الغلظة، والفظاظة، وعدم الحلم، وسعة الصدر، متمثلا في تقطيب الوجه، وانقباض النفس، على الأخطاء، وفقدان الرفق والأناة، ومعلوم ما ينتج عن ذلك من نفرة الناس وكرههم لمن هذه أخلاقه، فوق ما في ذلك من الإثم وحرمان الأجر.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
وثمة شيء آخر يتعلق بهذا الموضوع ألا وهو ما درج عليه بعض المربين والموجهين من الدعاة في القسوة على من معهم، وتربيتهم على التقليد الأعمى، وعدم السماح لهم بإبداء آرائهم، ومعارضتهم، وقفل باب التشاور معهم.
وهذه الطريقة الخاطئة من التربية، تفرز لنا دعاة مقلدين متعصبين منفذين لما يقال لهم بدون بصيرة، وهذه هي الحقيقة تربية عبيد لا تربية قادة، وهذا يخالف قوله تعالى:(33/82)
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
* * * * *
الإشارة الرابعة والعشرون: لا تضخم قضية على حساب أخرى
بمعنى أحذر الحَوَل على الطريق فعلى المستوى الجماعي ترى من يقول:
* أهم شيء أن نعرف واقع المسلمين وواقع أعدائهم يعني أهم شيء القضايا السياسية لأننا نعيش الآن زمانا، ما هو بزمن الدراويش!
وهكذا تجد أصحاب هذا التيار يحفظون كل شيء عن الشيوعية والعلمانية والماسونية، والبهائية، والقديانية .. ثم تسأل عن الإسلام .. فلا يعرف منهم عن الإسلام شيئاً!!
* وعلى العكس من ذلك فقد تضخم جماعة قضية العبادات فيقولون: أهم شيء صلتك بالله أهم شيء النية الطيبة، أهم شيء الصلاة، أن تكون زاهداً، تقياً، والخطأ هنا ليس في الإهتمام بها لكن أن تُلغى القضايا الأخرى كلها على حساب هذا الجانب فهذا هو الخطأ.
* وقد يأتي آخرون - وهذا موجود في الساحة الإسلامية- يقولون: أهم شيء وحدة الصف، يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103). فيجعلون هذه أهم قضية ولو كانت على حساب العقائد! يتحدون مع اناس تختلف عقائدهم عن عقائدنا، مدعين أن أهم شيء أن نلتقي، نحن الآن في زمان تكالب فيه أعداؤنا علينا! والصحيح ... أن نلتقي على أسس، نلتقي على دين، لا أن نلتقي على فوضى وعلى خلاف في العقائد.
* فلا بد إذا من التوازن في هذه القضايا وغيرها. فمدخل الشيطان عموماً هو أن يضخم جانبا على حساب جانب آخر!!
* * * * *
الإشارة الخامسة والعشرون: ما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا
(فرع خاطرك للهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك، فإن الرزق والأجل قرنينان مضمونان، فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا. وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه فتح لك برحمته طريقا لك منه.(33/83)
فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه، وهو الدم، من طريق واحد وهو السرة، فلما خرج من بطن الأم انقطعت تلك الطريق وفتح له طريقين إثنين وأجري له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول لبنا خالصا سائغاً، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقاً أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان. فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ.
فإذا ما انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، لكنه سبحانه فتح له - إن كان سعيداً - طرقا ثمانية وهي أبواب الجنة يدخل من أيها شاء. فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير المؤمن. فإن يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ولا يرضى له به ليعطيه الحظ العلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وما ذخر له.
بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا. وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً. ولو أنصف العبد ربه وأنى له بذلك، لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه. ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه فـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان:62) ... والله المستعان.
* * * * *(33/84)
الإشارة السادسة والعشرون: تحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك
(إذا كان الله ورسوله في جانب فأحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يقضى إلى المشاقة والمحادة، وهذا أصلها ومنه اشتقاقها، فإن المشاقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق، والمحادة أن يكون في حد وهو في حد، ولا تستسهل هذا فإن مبادئه تجر إلى غايته، وقليله يدعوا إلى كثيره.
وكن في الجانب الذي يكون فيه الله ورسوله وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عوقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته، وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، ولا سيما إذا قويت الرغبة والرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحد في الجانب الذي فيه الله ورسوله، بل يعده الناس ناقص العقل سيء الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرسل فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر.
ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينا له لا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومة من لامه، ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وليس شيء أصعب على الإنسان من ذلك في مبادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا، وذلك الألم لذة، فإن الرب شكور، فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه إلى الله وإلى رسوله ويريه كرامة ذلك فيشتد به سرورا وغبطة ويبتهج ويبقى من كان محارب له - على ذلك- بين هائب له ومسالم ومساعد وتارك، ويقوى جنده ويضعف جند العدو.(33/85)
ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك. وأعظم الأعوان على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز لله ورسوله، وكنت دائما في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر ولا تحث نفسك به، فإن قلت: فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع والفزع؟
قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا ياتي بالحسنات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء.
(مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:56). ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف.
فليكن حالك على الطريق إلهي:
إليك وإلا لآ تشد الركائب ... ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالكلام مضيع ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب
أخيرا خذها من ابن القيم:(33/86)
إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن انت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فأفرح انت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة، قال بعض الزهاد ما علمت أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان فقال له رجل إني أكثر البكاء فقال إنك وإن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك وأن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه فقال أوصني فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه.
وخذها أخرى من ابن القيم رحمه الله يوم يقول:
أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا أو تصنع إليه معروفا فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.
وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فإنه عون لك على مضرتك ونقصك.
الخاتمة
هذا مجمل ما أردت قوله وأرجو الله ألا أكون ممن تخدعه الشمس بطول ظله أو تغره النفس بكثره وقله، إن هي إلا إشارات من إشارات بعضها متمنى فات وبعضها لا يزال في بطون المؤلفات لم آت فيها على آخر الإرادة ولا أزعم أني أوفيت على الغاية في الإفادة.
قد قلت بمقدار ما اجتهدت وما شهدت إلا بما علمت ومن جعل أنفه في قفاه فالسوأة ان يفتح فاه.
علىأنني كنت قد عجزت ووعدت بالكلام أكثر فيما أنجزت لكن لا ضير أن أصف النجم في سراه وإن لم أستقر في ذراه.
إن هي إلا لبنة على الطريق وأرجوا أن تكون بقدر الياقوت والعقيق وما أراني بعد قد شفيت غلة النفس فإنها تنظر إلى كثير وكثير.(33/87)
وأنا أشد فقرا إلى عون من الله وتثبيت وتوفيق أسأل الله أن يجعل هذه الإشارات من الباقيات الصالحات ويصلح السريرة ويحسن الطوية.
ويا أيها القارئ (ما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله ولا تلتفت إلى قائلة، بل أنظر إلى ما قال لا إلى من قال ... وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم يأل جهد الإصابة ويأبى الله ألا يتفرد بالكمال.
والنقص من أصل الطبيعة كامن
وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوما جهولا ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته)
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين محمد وآله أجمعين.
فرغ منه يوم الأحد 23/ 3/1421هـ مكة حرسها الله.
علي بن عبد الخالق القرني(33/88)
هكذا علمتني الحياة [1]
كل الناس يحيا ويعيش في الدنيا ليتعلم، ولكن ليس كلهم يتعلم ما ينفعه، فمنهم من يتعلم ما يودي به إلى النار، ومنهم من يتعلم ما يؤدي به إلى الجنة، وهذا الأخير هو الفائز ليس في الدنيا فحسب بل وفي الآخرة أيضاً.
وقد عقد الشيخ هذا الدرس ليظهر أن الحياة الحقيقية هي التي تحت ظل الإسلام، لأنها هي التي تعلم وتربي.(34/1)
الحياة في ظل العقيدة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عما في النفس:
والنفس تعرف في عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها
عيناك قد دلتا عيني منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها
اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك.
اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك.
اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك.
اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظر إلى وجهك برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحسن الظن إخوتي بي إذ دعوني؛ فأجبت الدعوة وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة أو كبائع التمر على أهل المدينة أوكبائع السمك على أهل جدة؛ لكني أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يأخذني بما تقولون.
يا منزل الآيات والقرآن بيني وبينك حرمة الفرقان
اشرح به صدري لمعرفة الهدى واعصم به قلبي من الشيطان
يسر به أمري واقض مآربي وأجر به جسدي من النيران
واحطط به وزرى وأخلص نيتى واشدد به أزري وأصلح شانى
واقطع به طمعي وشرَّف همتي كثر به ورعي وأحي جناني
أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يد ولا دكان
أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني
هكذا علمتني الحياة.
أي حياة تعلم؟ وأي حياة تدرس؟ وأي حياة تربي أيها الأحبة؟
أهي حياة اللهو واللعب؟ أهي حياة العبث واللعب؟ أهي حياة الضياع والتيه؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد!
إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية.
إنها الحياة التي تجعلك متفاعلاً مع هذا الكون، تتدبر فيه وتتفكر:
حياة على الحق نعم الحياة وبئس الحياة إذا لم نحق
إنها الحياة الحقيقية؛ حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس.
حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور، ومات على نور، ولقي الله بنور، وعبر الصراط ومعه النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى، سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:13 - 15].
في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12] فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: أو من كان ميتا {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] هل يستويان مثلاً؟ كلا وألف كلا {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22].
لا يستوي عاقل كلا وذو سفه لا والذي علم الإنسان بالقلم
هل يستوي من على حق تصرفه ومن مشى تائهاً في حالك الظلم
لا يستوون أبدا.
أحبتي في الله: الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة! عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإليكم هذه الليلة أزف بعض دروس علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت.(34/2)
توحيد الله هو محور الرسالات
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية: أن توحيد الله هو محور الرسالات السماوية، ومحور حياة الإنسان الحق.
فقيمة الإنسان تظهر عندما يجعل ربه محور حياته فيستعبد كل ذرة من ذرات جسده وكل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته ونفسه؛ لله رب العالمين.
فصلاته لله ونسكه لله وحياته لله وموته لله، شعاره: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وبذلك تتفق وجهة الإنسان مع هذا الكون الذي يعيش فيه، فالكون -يا أيها الأحبة- كله مطيع لله جل وعلا، خاضع لسلطان الله، مسبح بحمد الله.
فإذا تمرد هذا العبد أصبح شاذا في هذا الكون الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخشوع والخضوع، فالكون كله في اتجاه وهو في اتجاه مضاد: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم:44].
خلق الله سوانا كثير وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وطاعتك -أيها العبد- لك ومعصيتك -أيها العبد- عليك ولن تضر الله شيئاً.
في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب(34/3)
التوحيد نقطة البداية
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن توحيد الله هو نقطة البداية في حياة المسلم والأمة، وأن التوحيد هو كذلك نقطة النهاية في حياة المسلم والأمة.
من ضل عنه خسر الدنيا والآخرة، فهو أضل من حمار أهله، قلبه لا يفقه، وعينه لا تبصر، وأذنه لا تسمع، بهيمة في مسلاخ بشر، حياته ضنك، وسعيه مردود، وذنبه غير مغفور: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] نعوذ بالله من النار.
وفي المقابل من ظفر بتوحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة وسعد في الدنيا والآخرة.
فسعيه مشكور، وذنبه مغفور، وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107].
العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله(34/4)
بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر، وعجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه.
رضي فرضي الله عنه وسعد في حياته وأخراه واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم.
في الموقف العظيم يوم يقول الله -والناس في عرصات القيامة- لأناس من بين الخلائق جميعهم: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: ياربنا ويامولانا! قد حاسبت الناس وتركتنا؟ فيقول: قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين، ادخلوا الجنة.
فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.
وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: {ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ويا له من جزاء! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وفي الصحيح أن الله عز وجل -كما في الحديث القدسي- يقول لملائكته: {قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم ثمرة فؤاده؟ -وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة: نعم.
فيقول: وماذا قال؟ -وهو أعلم جل وعلا- قالوا: حمدك واسترجع.
فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد} {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء
مروا بـ يزيد بن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي: ما فعلت العينان الجميلتان يا بن هارون؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار، وإني لأحتسبهما عند الله الواحد الغفار.
فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر، وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضا، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته:
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
{فاحرص على ما ينفعك -وارض بما قسم الله لك- واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل}.
ولست بمدرك ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو أني
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً:
حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
إن زرعت خيراً حصدت خيراً وإن زرعت شراً حصدت مثله
وإن لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذر
ها هو رجل كان له عبد يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: ازرع هذه القطعة براً، وذهب وتركه وكان هذا العبد لبيباً عاقلاً، فما كان منه إلا أن زرع القطعة شعيراً بدل البر، ولم يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده، فجاء فإذا هي قد زرعت شعيراً، فما كان منه إلا أن قال: أنا قلت لك ازرعها براً لم زرعتها شعيراً؟! قال: رجوت من الشعير أن ينتج براً.
قال: يا أحمق! أو ترجو من الشعير أن ينتج براً؟! قال: يا سيدي! أفتعصي الله وترجو رحمته؟! أفتعصي الله وترجو جنته؟! فذعر وخاف واندهش وتذكر أنه إلى الله قادم، فقال: تبت إلى الله وأبت إلى الله، أنت حر لوجه الله.
كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحداً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ها هو رجل كان له أب قد بلغ من الكبر عتياً وقد قام على خدمته زمناً طويلاً ثم مله وسئمه، فما كان منه إلا أن أخذه في يوم من الأيام على ظهر دابة وخرج به إلى الصحراء، ويوم وصل إلى الصحراء قال الأب لابنه: يا بني! ماذا تريد مني هنا.
قال: أريد أن أذبحك.
لا إله إلا الله! ابن يذبح أباه! قال: أهكذا جزاء الإحسان يا بني؟! قال: لابد من ذبحك فقد أسأمتني وأمللتني، قال: إن كان ولابد يا بني فاذبحني عند تلك الصخرة.
قال: أبتاه! ما ضرك أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك؟! قال: إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة فلقد ذبحت أبي هناك، ولك يا بني مثلها والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان ولا يظلم ربك أحداً.(34/5)
العقيدة قوة عظمى
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن العقيدة قوة عظمى، لا تعدلها قوة مادية بشرية أرضية أياً كانت هذه القوة.
والأمثلة على ذلك كثيرة وبالمثال يتضح المقال.
ها هي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤتة تقابل مائتي ألف بقلوب ملؤها العقيدة، يقول قائل المسلمين: والله! ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين، فسل خالداً كم سيف اندق في يمينه؟ يجبك خالد: اندق في يميني تسعة أسياف.
وسل خالداً: ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين؟ يجبك: إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.
انظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف ليهجموا عليهم هجمة واحدة، يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لـ خالد: يا خالد! إلى أين الملجأ؟ أإلى سلمى وأجا؟ فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول: لا إلى سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجى؛ فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.
بربك هل هذه قوة جسدية في خالد بن الوليد؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! إنها العقيدة وكفى:
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند
وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر -عليه رحمة الله- تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وقد كان أسيراً في يد الصليبيين يوم ذاك، تقول الرسالة:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس
فينتخي صلاح الدين ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، ويشحذ الهمم قبل ذلك، فيمنع المزاح في جيشه، ويمنع الضحك في جيشه، ويهيء الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك، ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر، فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بإذن الله إلى حظيرة المسلمين.
ثم ماذا بعد صلاح الدين يا أيها الأحبة؟
عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى مَنْ تخلى عن مبادئ صلاح الدين، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين! ها قد عدنا يا صلاح الدين! وهم ينشدون: محمد مات.
خلف بنات.
فما الحال الآن يا أيها الأحبة؟
إن ما يجري هناك لتتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى -بلسان حاله- ليصيح بالأمة المسلمة: هل من صلاح؟ هل من عمر؟ هل من صلاح؟ هل من عمر؟ فلا أذن تسمع، ولا قلوب تجيب:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه
إنا مشينا وراء الغرب نقبس من ضيائه فأصابتنا شظاياه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه
هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
لا در امرئ يطري أوائله فخراً ويطرق إن ساءلته ماه
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
وها هو ألب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله، كان عائداً من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمته خراسان، فسمع به إمبراطور القسطنطينية رومانوس فجهز جيشاً قوامه ستمائة ألف مقاتل، والله! ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملؤها الخور والضعف والهون.
جاء الخبر لـ أرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله، وانظروا ووازنوا بين الجيشين: ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعين.
هل هذه قوى جسدية؟
إنها قوى العقيدة وكفى يا أيها الأحبة.
نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال، ما بين مصاب وجريح، قد أنهكه السير الطويل، فكر وقدر ونظر في جيشه، أيترك هذا الجيش القادم ليدخل بلاده ويعيث فيها الفساد أم يجازف بهذا الجيش؟ خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف.
فكر قليلاً ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلاً: إن الإسلام اليوم في خطر وإن المسلمين كذلك، وإني لأخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود، ثم صاح: وا إسلاماه! وا إسلاماه! هأنذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله:
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف تقيم ظباه أخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل
وما هي إلا ساعة، ويتكفن الجيش الإسلامي كله، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماء بصيحات: الله أكبر! يا خيل الله! اثبتي، يا خيل الله! اركبي.
لا إله إلا الله! هل سمعتم بجيش مكفن؟
هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة؟
هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد؟
هل تخيلتم صورة جيش كامل يسير إلى معركة يثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور؟
التقى الجمعان واصطدمت الفئتان: فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوَّت صيحات: الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] تطايرت رءوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشراً: انهزم الرومان وأسر قائدهم رومانوس.
الله أكبر! لا إله إلا الله! صدق وعده ونصر جنده: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
ذهب من جند الله كثير وكثير -نحسبهم شهداء- وبقي الباقون يبكون، فهل يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله.
أما القائد المسلم فبكى طويلاً وحمد الله حمداً كثيراً وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه آه! آمال لم تنل، وحوائج لم تقض، وأنفس تموت بحسراتها.
كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف، ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش:
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند
فاعرف يا بن أمي في العقيدة يا أخا الإسلام في الأرض المديدة
ما حياة المرء من غير عقيدة وجهاد وصراعات عنيدة
فهي طوبى واختبارات مجيدة
فانطلق وامض بإيمان وثيق
وإذا ما مسك الضر صديقي فلأنَّا قد مشينا في الطريق(34/6)
من حفظ الله حفظه الله
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن من حفظ الله حفظه الله، ومن وقف عند أوامر الله بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز؛ حفظه الله.
من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى حفظه الله.
من حفظ ما بين فكيه وما بين فخذيه حفظه الله.
من حفظ الله في وقت الرخاء حفظه الله في وقت الشدة.
من حفظ الله في صباه حفظه الله عند ضعفه وقوته: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
ها هو الإمام الأوزاعي ذلكم الإمام العابد المحدث الورع الفقيه عندما يدخل عبد الله بن علي ذلكم الحاكم العباسي دمشق في يوم من الأيام فيقتل فيها ثمانية وثلاثين ألف مسلم، ثم يُدخل الخيول مسجد بني أمية، ثم يتبجح ويقول: من ينكر علي فيما أفعل؟ قالوا: لا نعلم أحداً غير الإمام الأوزاعي.
فيستدعيه، فيذهب من يذهب ليستدعيه؛ فعلم أنه الامتحان؛ وعلم أنه الابتلاء؛ وعلم أنه إماأن ينجح ونجاح ما بعده رسوب، وإما أن يرسب ورسوب ما بعده نجاح.
فماذا كان من هذا الرجل؟ قام واغتسل وتحنط وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه ثم أخذ عصاه في يده واتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزة التي لا تضام! والركن الذي لا يرام! يا من لا يهزم جنده! ولا يغلب أولياؤه! أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم ينطلق وقد اتصل بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذاك، وذاك قد صف وزراءه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها، قال: فدخلت -ويوم دخلت- وإذا السيوف مسلطة، وإذا السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع، قال: فدخلت، ووالله! ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزاً، والمنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير.
فوالله! ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله! ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا.
قال: فانعقد جبين هذا الرجل من الغضب ثم قال: أأنت الأوزاعي؟ قال: يقول الناس: أني الأوزاعي.
قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جدك ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أبي هريرة وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة}.
قال: فتلمظ كما تتلمظ الحية، قال: وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لئلا يصيبهم دمي، قال: ورفعت عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذا به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموال التي أخذنا، قال: سوف يجردك الله عرياناً كما خلقك، ثم يسألك عن الصغير والكبير والنقير والقطمير؛ فإن كانت حلالاً فحساب وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: فانعقد جبينه مرة أخرى من الغضب، قال: وقام الوزراء يرفعون ثيابهم، قال: وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول: اخرج.
قال: فخرجت، فوالله! ما زادني ربي إلا عزة.
ذهب وما كان منه إلا أن سار في طريقه إلى الله عز وجل حتى لقي الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى.
ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي، فوقف عليه وقال: والله! ما كنت أخاف أحداً على وجه الأرض كخوفي من هذا المدفون في هذا القبر، والله! إني كنت إذا رأيته رأيت الأسد بارزاً.
اعتصم بالله، وحفظ الله في الرخاء فحفظه الله في الشدة: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
ويا أيها الأحبة: ما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء، يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله عز وجل وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة ولابد من الابتلاء: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ها هو الأسود العنسي ذلكم الساحر القبيح الظالم، الذي ادعى النبوة بـ اليمن، يجتمع حوله اللصوص وقطاع الطرق ليكونوا فرقة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله جل وعلا؛ ليذبح الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرق منهم من أحرق، وطرد منهم من طرد، وهتك أعراض بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، حاول أن يثنيه عن دعوته قال: كلا والذي فطرني! لن أقف: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها، وقال لهم: إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، وإن كان على غير ذلك فسترون.
ثم أمر بنار عظيمة فأضرمت، ثم جاء بـ أبي مسلم الخولاني -عليه رحمة الله- فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم رموه في لهيب النار ولظاها.
إن هذه النار -كما يقولون- كان يمر الطير من فوقها فتسقط الطيور في وسطها من عظم ألسنة لهبها، وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا، فكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل؛ ليسقط فى وسط النار وكادت قلوب الموحدين أن تنخلع وكادت أن تنفطر وانتظروا والنار تخبو شيئاً فشيئاً وإذا بـ أبي مسلم قد فكت النار وثاقه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهددهم ويتوعدهم، أما هذا الرجل فانطلق إلى المدينة النبوية إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر ويصل إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمع عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا الرجل، فينطلق ويأتي إليه، ويقول: أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم.
قال: أأنت الذي قذفت في النار وأنقذك الله منها؟ قال: نعم.
فيعتنقه ويبكي ويقول: الحمد لله الذي أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم عليه السلام، من حفظ أبا مسلم؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظه الله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
وها هو ابن طولون وال من ولاة مصر -وما زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، ونسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان.
هذا الوالي يا أيها الأحبة- ما كان منه إلا أن قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقد قتلهم بقتلة هي من أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعاً وعطشاً، فسمع أبو الحسن الزاهد -عليه رحمة الله- فأقض مضجعه أن يسمع بإخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر} فذهب إليه وقال له: اتق الله في دماء المسلمين.
وخوفه بالله، فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن فى سجن، وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام، ثم جاء فجمع الناس جميعهم، ثم ما كان منه إلا أن جاء بهذا الرجل وجاء بذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام، فقام هذا الرجل متصلاً بالله الذي لا إله إلا هو، وقام يصلي.
أما الأسد فقد أطلقوه عليه فانطلق الأسد حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها، فما كان من الناس إلا أن ذهلوا، وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام.
من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء، فما كان من طلاب الشيخ إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا: يا أبا الحسن! فيم كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد؟ قال: والله! ما فكرت فيما فيه تفكرون ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي: ألعاب الأسد نجس أم طاهر لكيلا يفسد وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو.
حفظوا الله فحفظهم الله، وما اعتصم عبد بالله فكادته السماوات والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجاً.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.(34/7)
الظلم مرتعه وخيم
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلاميه: أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الظلم يفضي إلى الندم، وأنه ظلمات يوم القيامة، وأن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون؛ لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
في الحديث القدسي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {قال الله: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم فاجتمعوا وعقدواً مؤتمراً لهم، وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا ونعوذ بالله منه، فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه؛ يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة، وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر.
ما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل، والراضي كالفاعل، فما كانت النتيجة؟ أي ظلم -يا أيها الأحبة- وأي ظلمات أن يقع الأب على ابنته، أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه؟ إنه -والله- الظلم والظلمات.
فيرسل الله عز وجل جندياً من جنوده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فيخرج عليهم النمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الآخر، فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت، فسرق من أموالهم ما سرق، وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين، ثم حفر له تحت صخرة من الصخرات، ثم ما كان منه إلا أن علمه بهذه الصخرة، وذهب هارباً إلى مكة، وبقي في مكة ردحاً من الزمن، قيل: إنها عشرون سنة أو أكثر من ذلك، ثم تذكر ذلك الذي حصل ولم يبق في تلك القرية إلا النساء، فماذا كان يا أيها الأحبة؟
ما كان من هذا الرجل بعد عشرين سنة إلا أن أرسل واحداً من أهل مكة -وما استطاع هو بنفسه أن يرجع إلى هناك- وقال: اذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا، خذه وائتنا به ولك كذا وكذا، فذهب الرجل على وصفه وسأل عن المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة، ويوم وصل به إلى مكة جاء الرجل ليفتحه، وكان ذلك الرجل أميناً لم يغير فيه ولم يبدل، أخذه كما هو، وعندما فتحه وإذا بنملة على ظهره إذ بها تأتي فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
وها هو المعتمد حاكم بعض ولايات الأندلس ذلكم الشجاع القوي المترف، يستعين به حاكم ولاية مجاورة، غزاها أحد أعدائه فيسرع المعتمد لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحوراً لما رأى جيوش المعتمد.
وهنا انتهت مهمة المعتمد، لكنه في ظلام الليل يقوم ليبث جنوده في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتل المدينة ويا له من مجير:
والمستجير بعمر عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
أصيب ذلك الحاكم -لأنه دعاه- بصدمة عنيفة شُلَّ منها، قبض عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع السجن، وسبيت زوجاته وبناته ثم أخرج من ولايته مهاناً ذليلاً، يقول أبوه: والله! إن هذا بسبب دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس.
ثم يرفع يديه إلى من لا يغفل عما يعمل الظالمون، قائلا: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا فانتقم لنا من الظالمين.
وتصعد الدعوة إلى من ينصر المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة، ينام والمظلوم يدعو عليه وعين الله لم تنم، وتجتاحه دولة المرابطين في ليلة من الليالي وتأسره في آخر الليل:
يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
ويقضي حياته في أغمات في بلاد المغرب أسيراً حسيراً كسيراً، وأصبحن بناته المترفات اللائي كن يخلط لهن التراب بالمسك ليمشين عليه؛ حسيرات يغزلن للناس الصوف ما عندهن ما يسترن به سوآتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجن يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعراً:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسوراً
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا
كم من دعوة مظلوم قصمت ظهر طاغية، والعدل أساس الملك: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
ها هو حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا -وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله- يقول لهم متبجحاً: أين إلهكم الذي تستغيثون؛ لأضعنه معكم في الحديد.
جل الله وتبارك سبحانه وبحمده.
ويخرج ويركب سيارته وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنة ليدخل الحديد في جسده فما يخرجونه منه إلا قطعة قطعة.
{إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ولما أهين الإمام أحمد بن حنبل من قبل ابن أبي دؤاد رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال: اللهم إنه ظلمني وما لي من ناصر إلا أنت؛ اللهم احبسه في جلده وعذبه، فما مات هذا حتى أصابه الفالج فيبس نصف جسمه وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وإذا به يخور كما يخور الثور، ويقول: أصابتني دعوة الإمام أحمد ما لي وللإمام أحمد؟! ما لي وللإمام أحمد؟!
ثم يقول: والله لو وقع ذباب على نصف جسمي لكأن جبال الدنيا وقعت علي، أما النصف الآخر فلو قرض بالمقاريض ما أحسست به.
فإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وفي الأثر أن الله عز وجل يقول: {وعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم}.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم(34/8)
البناء صعب والهدم سهل
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن البناء صعب جد صعب، والهدم سهل جد سهل؛ فما يبنى في مئات الأعوام من المدن والقرى والقصور والدور يمكن هدمه في لحظات.
وما يبنى من الأخلاق والقيم والمثل في قرون يمكن هدمه في أيام وليال.
ما رأيكم -يا أيها الأحبة- إن كان هناك ألف بان ووراءهم هادم واحد هل يقوم البناء؟ كلا لا يمكن أن يقوم.
فما رأيكم إن كان الباني واحداً والهادم ألفاً.
أرى ألف بان لا يقوموا لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم
وسائل في غالبها تهدم، ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين؛ لكن الحق يعلو والباطل يسفل، فهل يستقيم الظل والعود أعوج:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه(34/9)
عدم اليأس
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أيئس وألا أقنط وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج، وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه: فلا ييئس {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].
لو تأملت -أخي الحبيب- قصة نوح عليه السلام، الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، لم يزدهم دعاؤه إلا فراراً: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:7] والدعوة لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، قيل: اثني عشر، وغاية ما قيل أنهم ثمانون، بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحداً أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحداً، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.
ها هو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: {يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه شيء} ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وها هم أصحاب القرية -قرية أنطاكية - يرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما فعزز بثالث فكذبوه، ثلاثة رسل إلى قرية واحدة، ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة؟ {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
يا أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومن مخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، تحاول صعود الجدار فتسقط، ثم تحاول أخرى وتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تصعد الجدار، أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة يا أيها الأحبة؟
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
إن الله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:18 - 20] ثم ماذا قال بعدها: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] كأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله أن يأخذوا: صبر الإبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.
ها هو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاماً ولا شراباً، ويئس من الحياة فقام ينشد ويقول:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
لا يمكن أن يكون القار كاللبن ولا يمكن أن يشيب الغراب، معنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت، وإذا بهاتف يهتف ويقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
وبينما هو يسمع هذا النداء وإذا بسفينة تمر فَيُلوح لها، فتأتي فتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا.
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر
إذا لاح عسر فارج يسرا فإنه قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
ولن يغلب عسر يسرين، فاعمل أخي! لا تيئس وابذر الحب.
فعليك بذر الحب لا قطف الجنى والله للساعين خير معين
ستسير فلك الحق تحمل جنده وستنتهي للشاطئ المأمون
بالله مجراها ومرساها فهل تخشى الردى والله خير ضمين
ولنا بيوسف أسوة في صبره وقد ارتمى في السجن بضع سنين
لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى وطغى فإن يقين قلبي أكبر
في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر(34/10)
النظر في أمور الدنيا لمن هو أدنى وفي أمور الدين لمن هو أعلى
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أنظر في أمور دنياي إلى من هو تحتي، فذلك جدير ألا أزدري نعمة الله علي.
وأن أنظر في أمور آخرتي إلى من هو فوقي فأجتهد اجتهاده لعلي ألحق به وبالصالحين، فلا أحقد على أحد ما استطعت ولا أحسد أحداً ما استطعت.
يقول أحدهم عن ابن تيمية -عليه رحمة الله- وددت -والله- أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.
ويقول: والله! ما رأيته يدعو على أحد من خصومه بل كان يدعو لهم، جئته يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، قال: فنهرني واسترجع وحوقل وذهب إلى بيت الميت فعزاهم وقال: إني لكم مكان أبيكم فسلوا ما شئتم.
فسروا به كثيراً ودعواً له كثيراً وعظموا حاله ولسان حالهم: والله! ما رأينا مثلك:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما ملك الإنسان إحسان
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلى من طبعه الغضب
ماذا استفاد الحاقدون؟ ماذا استفاد الحاسدون؟ ما استفادوا إلا النصب، وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات، ووالله! لن يردوا نعمة أنعمها الله على عبد أياً كان، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله:
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله(34/11)
من عرف الحق هانت عنده التضحيات
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن من عرف الحق هانت عنده التضحيات، فيتعالى على متع الحياة وعلى زخارفها؛ لأنه ينتظر متعة أبدية سرمدية في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر: فيقدم مراد الله على شهواته ولذائذه، ويقدم مراد الله على كل ما يلذ لعينه وما يلذ لقلبه، فيسعد في دنياه ويسعد في أخراه، وفي الأثر أن الله جل وعلا يقول: {وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على لذائذ نفسه- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}.
هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دميم الخلقة لكنه رجل أعطاه الله من الإيمان ما أعطاه، وما ضره أنه دميم الخلقة، تقدم ليتزوج من أحد البيوت، فكان كلما تقدم إلى بنت رفضته؛ لأنه دميم الخلقة ولأنه قصير لا ترغب فيه النساء.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أصحابه ويقول: {يا رسول الله! أليس من آمن بالله وصدق بك يدخل الجنة ويزوج من الحور العين؟ -أو كما قال- قال: بلى.
قال: فما بال أصحابك لا يزوجونني؟! قال: اذهب إلى بيت فلان وقل لهم: رسول الله يطلب ابنتكم.
فذهب إلى بيت رجل من الأنصار وطرق الباب عليه فخرج صاحب البيت فسلم عليه وقال: رسول الله يطلب ابنتكم.
قالوا: نعم ونعمة عين! من لنا بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! -أي نسب نريد غير هذا النسب- قال: لكنه يطلبها لي أنا.
قال: الله المستعان! -أو كما قال- ثم ذهب ليستشير زوجه فأخبرها بذلك فقالت: رسول الله يطلب ابنتنا؟! نعم ونعمة عين! قال: ولكنه يطلبها لفلان -وسماه باسمه- فما كان منها إلا أن ترددت وقالت: أما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان؟ ألم يجد رسول الله غير هذا؟ وكانت البنت -التقية العابدة الزاهدة التي تقدم مراد الله على لذائذ وشهوات النفس- تسمع ذلك، فخرجت إليهم وقالت: ما بكم؟ قالوا: إن رسول الله يطلبك لفلان.
قالت: وما تقولان؟ قالوا: نستشير ونرى.
قالت: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أين تذهبان من قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] ادفعوني إليه، فإن الله لا يضيعني} ويسمع الرجل وينتقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فتبرق أسارير وجهه صلى الله عليه وسلم ويفرح بها ويدعو لهذه المرأة، ففازت بدعوته صلى الله عليه وسلم.
قيل: إن المال كان يأتيها لا تعلم من أين يأتيها.
وفي ليلة الزفاف -ليلة الدخول- إذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي.
وهنا يقف موقفاً أيدخل على زوجته في أول ليلة في كامل زينتها أم يجيب داعي الله جل وعلا؟ فما كان منه إلا أن ترك هذه البنت وانطلق يطلب الحور العين، وذهب وانتهت المعركة وقام النبي يتفقد أصحابه فيقول: {هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً وما فقدوا هذا الرجل -خفي تقي- فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: لكني أفقد أخي جليبيباً قوموا معي لنطلبه في القتلى، ذهب يبحث عنه صلى الله عليه وسلم، ووجده قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم على ذراعيه ومسح التراب عن وجهه، وقال: قتل سبعة من المشركين وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه}.
ماذا قدم هذا الرجل؟ قدم قليلاً وأخذ كثيراً وكثيراً وكثيراً.
وهاهو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثني على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له: كيف أولاده وزوجته؟ قال: لقد تحولت زوجته وأولاده إلى منزل آخر، والله! ما رأيتها خلال اثني عشر عاماً وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام.
تعيش معه ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الحمو الموت} ولقد آثر أن يكون خطيب جامع على أن يكون رئيساً للقضاة في عهده فرحمه الله.
وهاهو صحابي اسمه أبو لبابة يختلف مع يتيم على نخلة كانت بين بستانين لهما، يدّعي اليتيم الصغير أن هذه النخلة له، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليعاين المكان، فإذا النخلة في بستان الصحابي أبي لبابة، فيحكم بها لهذا الصحابي، فتذرف دموع اليتيم.
ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير حكمه أبداً؛ لأنه العدل الحق، لكنه أعلن عن مسابقة، قال لـ أبي لبابة: {أتعطيه النخلة ولك بها عذق في الجنة} لكنه كان مغضباً، إذ كيف يشكوه والحق له، وكان في المجلس رجل يبحث عن مثل هذه الأمنية، وهو أبو الدحداح عليه رضوان الله، قال: {يا رسول الله! ألي العذق في الجنة إن اشتريت نخلته بحديقتي وأعطيتها هذا اليتيم؟ قال: لك العذق} فما كان من أبي الدحداح إلا أن لحق بـ أبي لبابة رضي الله عنه فقال: أتبيعني نخلتك ببستاني كله؟ قال: بعتكها لا خير في نخلة شُكيت فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فباعه إياها، فذهب أبو الدحداح إلى بستانه ودخل ونادى أم الدحداح وأولاد أبي الدحداح: أن اخرجوا فقد بعناها من الله بعذق في الجنة.
حتى قيل: إن بعض أطفاله كان في أيديهم بعض الرطب فكان يقول: قد بعناه من الله ويرميه في البستان.
فخرج ولم يكتف بذلك ولم يرض ثمناً للجنة إلا أن يقدم دمه وروحه لتزهق في سبيل الله عز وجل، وتأتي موقعة أحد ويشارك الجيش ويكون النبي صلى الله عليه وسلم في حالة تعلمونها في آخر المعركة، قد شج وجهه وكسرت رباعيته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ولم ينس أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر بهم فإذا هو بـ أبي الدحداح فيمسح التراب عن وجهه ويقول: {يرحمك الله! كم من عذق مذلل الآن لـ أبي الدحداح في الجنة} ماذا خسر أبو الدحداح؛ خسر تراباً وشجيرات ونخيلات؛ لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات، وذلك هو الفوز العظيم.
ومن عرف الحق هانت عنده التضحيات.(34/12)
عدم احتقار الأشياء
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أحقر شيئاً مهما قل، بل أتعلم وأعمل وأدأب وأداوم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأحب العمل أدومه وإن قل، والقليل إلى القليل كثير، وإنما السيل اجتماع النقط:
اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط(34/13)
حسن الظن بالمؤمنين
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أحسن الظن بالمؤمنين وأن أحملهم على خير المحامل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ ذلك الخلق الذي لا يتصف به حقاً إلا المؤمنون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
هاهو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب قبل أن تنزل البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب! أرأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله! قال: فوالله! لـ عائشة خير منك وخير من نساء العالمين.
فقالت هي: يا أبا أيوب! أرأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل ما رمي به صفوان؟ قال: لا والله! قالت: فـ صفوان والله خير منك.
إحسان ظن بالمؤمنين، وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والتي بقيت وقتاً من الزمن لا يرقأ لها دمع، وقلبها يتفطر تسمع رجلاً يسب حسان؛ لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول: دعوه أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وهكذا علمتني الحياة.(34/14)
أعدى الأعداء من يغدر بك
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أعدى الأعداء من لا يواجهك وإنما يغدر بك ويقتلك ويتقمص شخصك ويتقمص عملك أحياناً لينقض عليك وهو يتبسم، هذا هو أشرس الأعداء وهو أقوى الأعداء ظاهرياً وإلا ففي باطنه هو على شفا جرف هار:
إذا رأيت نيوب الضبع بارزة فلا تظنن أن الضبع يبتسم
إنه النفاق والمنافقون:
إن النفاق لآفة فتاكة إن أهملت أدت إلى الأسقام
وقضت على آمالنا في أمة راياتها في البحر كالأعلام
المنافقون: ذلكم السوس الذي ينخر في جسد الأمة المسلمة منذ عهد النبوة إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يريدون أن يتكلم داعية، لا يريدون أن يؤمر بمعروف ولا ينهى عن فاحشة فقبحهم الله وأرداهم في الحافرة: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].
لهم ألف وجه بعدما ضاع وجههم فلم تدر فيها أي وجه تصدق
{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب:61] فهم في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً.
إن المنافقين جراثيم تسمم، وبكتيريا عفونة يتربصون بالمؤمنين الدوائر، خذلوا المؤمنين في أحد وتبوك وما زالوا يخذلونهم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لسان حالهم:
لن تستريح قلوبنا إلا إذا لم يبق في الأرض الفسيحة مسلم
يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون، قائدهم وكبيرهم ومنظرهم الذي علمهم الخبث ابن سبأ، الذي ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، واندس في الصفوف على أنه مسلم وكم من مندس في الصفوف على أنه مسلم:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث
يدير رحاها ألف كسرى وقيصر وألف مدير للمدير مدير
قد تقولون: من هم؟ فنقول: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ظهر هذا الرجل في عهد عثمان وقام يجوب البلدان ليجمع قطاع الطرق والمفسدين ليكون عصابة من المنافقين وبعض المغفلين؛ ليفسد نفوسهم على عثمان وقد نجح إلى حد ما؛ ونجاحهم دائما مؤقت، وهو خسارة وإنما تسميته بالنجاح من باب تسمية اللديغ بالسليم؛ حتى إنه ليأتي في يوم من الأيام مع عصابته ليدفعهم ليحاصروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته، لينفردوا به ليضربه الغافقي بحديدة معه ثم يضرب المصحف برجله وهو يقرأ منه رضي الله عنه، ليستدير المصحف ويستقر أخرى بين يدي عثمان ويتخضب بالدماء ويغشى عليه ويُجر برجله رضي الله عنه وأرضاه.
ويأتي أحدهم بسيفه يريد وضعه في بطنه فتقيه إحدى النساء بيدها فيقطع يدها قطع الله دابره، ثم يتكأ بالسيف على صدر عثمان وبينما هو كذلك إذ وثب شقي آخر على صدره وبه رمق رضي الله عنه فطعنه تسع طعنات قائلاً: أما ثلاث منها فلله وأما ست فلشيء كان في صدري عليه، ثم يثب آخر عليه فيكسر ضلعاً من أضلاعه.
فلا إله إلا الله! إنها مجزرة دموية يدبرها السبئيون في كل مكان وفي كل زمان يريدون قطع رأس هذا الدين وكسر أضلاع معتنقيه والمبرر أنها لله، ولو صدقوا لقالوا: ست منها لما في الصدور: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] وبصيحة (لله) الصادرة من المنافقين في كل زمان ضاع كثير من شباب المسلمين وثبط شباب آخرون وكشفت أسرار وملئت سجون، وكلها لله كما يزعمون ولو صدقوا وأنصفوا لقالوا: ست منها لما في الصدور.
ووالله! إنها لكلها لما في الصدور حتى وعثمان يذهب به ليدفن يرجم سريره ويحاول أن يمنع من الدفن في البقيع ويقتل معه عبدان كانا يدافعان عنه ويرمى بهما لتأكلهما الكلاب ولما تدفن جثثهما بعد.
فانظر -أخي الكريم- كيف وصلت الأمور بالمنافقين إلى أن يقدموا جثثاً أعزها الله طعاماً للكلاب، لهم أشد على المؤمنين من اليهود والنصارى: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4].
ولا إله إلا الله! يقول الحسن: [[لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا أن نمشي في الطرقات]] وهو يقول هذا على عهده رضي الله عنه وأرضاه، فما نقول نحن الآن؟! لكن نقول: كل سيلقى الله بسريرته وعلانيته وعندها يتبين من بكى ممن تباكى.
ويذكر أئمتنا أن رجلاً تاب من عمل كان يقوم به، وهو من أرذل الأعمال، كان يأتي على قبر الميت في أول ليلة من لياليه فيفتح القبر ويسرق الكفن ويذهب ليبيعه، هذه حالته لفترة طويلة ثم ترك هذا العمل، فلما قيل له: لم تركت هذا العمل؟ قال: والله! لقد فتحت ألف قبر من قبور أهل القبلة فما وجدت واحداً منهم موجهاً إلى القبلة، وأنا أفتحه في أول ليلة من ليالي الدفن، فما الذي حوله عن القبلة؟! الذي حوله عن ذلك ما كان يظهر هنا ويسر، ما كان يخادع به هنا ظهر هناك.
بيننا وبينهم يوم تبلى فيه السرائر، بيننا وبينهم يوم يبعثر من في القبور ويحصل ما في الصدور وأقول مع ذلك:
فتنبهوا يا معشر الإسلام من أحلامكم فالضعف في الأحلام
لا تغفلوا عن حاقد يقظان يرقب نومكم كالوحش في الآجام
حرب المعاصي والنفاق صراحة ليست سوى حرب على الإسلام
لا تقل زال عصر النفاق فلكل عصر رجاله:
ما زال فينا ألوف من بني سبأ يؤذون أهل التقى بغياً وعدوانا
ما زال لـ ابن سلول شيعة كثروا أضحى النفاق لهم وسماً وعنوانا
لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه رب إذا قال كن في أمره كانا
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون.
لو مر واحدهم على فرعون يجتز الرءوس لأراك في الإفصاح هارون وفي الإقدام موسى.
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].(34/15)
لن تنجح الدعوة بفضول الأوقات
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه لا نجاح للدعوة ولا ثمرة لها إن نحن أعطيناها فضول أوقاتنا، إذا لم ننس معها طعامنا وشرابنا وراحتنا، إذا لم نجند كل طاقتنا فلن نفلح في إيصال الأمانة التي كلفنا الله بها.
يقول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} لم يدع فرصة لكسول ولا لخامل ولا لتنبل ولا لبطال: {بلغوا عني ولو آية} ألا فليكن الوجود للإسلام، والرسالة الإسلام، والهوية الإسلام، له نحيا وبه نحيا وعليه نموت، حزننا لله وغضبنا لله ورضانا لله حياتنا لله ومماتنا لله، لسان حال الواحد منا:
قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته
ها هو نوح يدعو ويسعى -كما سمعتم قبل قليل- لا يفتر ولا ييئس بالليل والنهار لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ماذا بقي في حياة نوح لم يسخر للدعوة إلى الله جل وعلا؟ وما النتيجة؟ لم يؤمن معه كما سمعتم إلا قليل.
وهاهو صلى الله عليه وسلم يحمل هم هذا الدين ويثقل الهم به حتى يواسيه ربه سبحانه وتعالى بقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
يريد حياتهم ويريدون موته.
يريد نجاتهم ويريدون غرقه.
يأخذ بحجزهم وهم يتهافتون كالفراش على النار.
ثم انظر من بعده إلى صحابته رضوان الله عليهم تجد حياتهم قد أوقفت لله رب العالمين، في اليقظة يعملون لهذا الدين، وفي الليل يعملون لهذا الدين، أمانيهم حتى لخدمة هذا الدين، لم تكن حول قضايا شخصية ولا هموم أرضية، يجمع عمر أصحابه يوماً من الأيام ويقول: تمنوا.
فيقول أحدهم: أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت جواهر فأنفقها في سبيل الله.
فيقول الآخر: أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت ذهباً أنفقه في سبيل الله.
فيقول عمر: لكني أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت رجالاً أستعملهم في طاعة الله.
حملوا هم هذا الدين:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
فهل أعجبتك خصالهم:
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
ليسأل كل واحد منا نفسه: كم جعل من وقته للدعوة إلى الله؟ ماذا قدم لدين الله عز وجل؟ ماذا قدم لنفسه؟ كم اهتدى على يديه؟
إن الإجابات واضحة ومخجلة، لم نعط للدعوة سوى فضول أوقاتنا وسوى فضول جهودنا إلا عند من رحم الله، لكن الفرصة لا زالت قائمة، فجد واجتهد عبد الله وسارع فستبقى طائفة على الحق منصورة، فجند نفسك أن تكون في ركاب هذه الطائفة.
فإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج
وإنا لندعو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع(34/16)
صوت الحق لا يخمد أبداً
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن صوت الحق لا يخمد أبداً إذ هو أبلج، والباطل زبد لجج.
الباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة:
والحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يسأل
وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدل
هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في صف لوحده في بداية دعوته والبشرية كلها ضده، تريد إطفاء النور الذي جاء به، ومع ذلك خسئوا: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] ولو كره المنافقون ولو كره الفاسقون.
ويأتي صحابته من بعده صلى الله عليه وسلم فيصدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ومن بعدهم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تزال هناك طائفة فيها خير عظيم قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئلا نيئس ولئلا نقنط؛ نأت بهذه الحادثة: ها هو الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله كما ورد في تاريخ الجزائر: ورد أن المندوب الفرنسي أيام الاستعمار كان يقول بكل صراحة: جئنا لطمس معالم الإسلام، واستدعى الشيخ عبد الحميد وقال له: إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت الجنود لقفل المسجد وإخماد أصواتكم المنكرة.
فقال الشيخ بثبات المؤمن: إنك لن تستطيع.
فاستشاط غضباً وأرغى وأزبد.
وقال: كيف؟ قال: إن كنت في حفل عرس علمت المحتفلين، وإن كنت في اجتماع علمت المجتمعين، وإن ركبت سيارة علمت الراكبين، وإن ركبت قطاراً علمت المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني ألهبتم مشاعر المسلمين، وخير لكم ثم خير لكم ثم خير لكم ألا تتعرضوا للأمة في دينها، فوالله! ما نقاتلكم إلا بهذا الدين، ووالله! ما نقاتلكم إلا لهذا الدين:
إذا الله أحيا أمة لن يردها إلى الموت جبار ولا متكبر
ديننا الحق والكفر ذا دينهم كل دين سوى ديننا باطل(34/17)
الأذى لا يهزم دعوة أبداً
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الأذى لا يهزم دعوة أبداً، ولن يصل الطغاة إلى قلب مؤمن مهما فعلوا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
هاهو أبو بكر النابلسي -عليه رحمة الله- ذلك الزاهد الورع العالم يوم ملك الفاطميون الروافض بلاد مصر، فعطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وذبحوا من علماء السنة الكثير، واستدعى المعز أبا بكر النابلسي -عليه رحمة الله- فقال له: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت الفاطميين بسهم.
قال: لا.
فظن أنه رجع عن قوله، قال: كيف؟ قال: قلت: ينبغي رميكم -أيها الفاطميون- بتسعة ورمي الروم بالعاشر.
فأرغى وأزبد وأمر بضربه في اليوم الأول، ثم أمر بإشهاره في اليوم التالي، ثم أمر في اليوم الثالث بسلخه حياً، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن حتى أشفق عليه اليهودي، فلما وصل في سلخه إلى قلبه طعنه بالسكين ليلقى ربه فكان يسمى بالشهيد:
علو في الحياة وفي الممات
فهل انتهت دعوة أبي بكر بقتل أبي بكر؟ هل خلف أبو بكر أحداً؟ نعم.
خلف أبو بكر ألف أبي بكر من أهل السنة وأهل السنة يقوم بذمتهم أدناهم:
إذا سيد منا مضى قام سيد قئول بما قال الكرام فعول
وهكذا فكم عالم سقط على الطريق وعاشت كلمة الحق! وكم عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عالية وبقيت كلمة الحق! وكم من عالم حرم جميع حقوقه من أجل أن يحفظ حق الله وبقيت كلمة الحق: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
تا لله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو كبح إيماني ورد يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني(34/18)
سهام الليل لا تخطئ
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن سهام الليل لا تخطئ، ولكن لها أمد وللأمد انقضاء، فإذا ادلهمت الخطوب وضاقت عليك الأرض وعز الصديق وقل الناصر وزمجر الباطل وأهله، ودعم الفساد وأهله، وكبت الحق وأهله، ونطق الرويبضة، وغدا القرد ليثاً، وأفلتت الغنم؛ فارفع يديك إلى من يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
يا من أجبت دعاء نوح فانتصر وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله روحاً وريحاناً بقولك كوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يونساً وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثله في كربة فارحم عباداً كلهم ذو النون
تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلى والجود
وعلى النبي محمد صلواته ما ناح قمري وأورق عود
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وبحمده.(34/19)
هكذا علمتني الحياة [2]
العقيدة مدرسة تخرج منها أجيال، ترعرعوا في رياضها، وتربوا في محاضنها.
وهناك أناس عاشوا تحت رايتها لكنهم لم يقتبسوا من نورها، ولم ينهلوا من معينها.
وفي المقابل هناك رجال أفذاذ علموا بحقيقتها، فتنافسوا في الاستفادة من عظاتها.
فهاك نبذ من فوائدها، ووقفات مع بعض دروسها.(35/1)
منزلة الكلمة الطيبة
الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً.
اللهم اجزِه عنا أفضل ما جزيت نبياً عن أمته، وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته، وأوردنا حوضه في الآخرة.
اللهم لا تجعل لقلوبنا -الآن- حوضاً تَرِدُه إلا كتابك وسُنة نبيك صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقاً، والباطل باطلاً، ووفقنا لاتباع الحق والعمل به، والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، ابتغاء وجهك وطلباً لمرضاتك: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:193 - 194].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار:
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة: هكذا علمتني الحياة.
لكم غُنْم هذه المحاضرة، وعليَّ غُرْمها، لكم صفْوُها، وعلي كدرُها، هذه بضاعتي -وإن كنت قليل البضاعة- تُعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تُزفُّ إليكم؛ فإن صادفت قبولاً فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان، والله المستعان.
ما كان من صواب فمن الله الواحد المنَّان، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله -والله المستعان- وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان.
نُبَذٌ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة، أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخراً في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار.
رباه رباه!
يظنُّ النَّاسُ بي خيراً وإنِّي لشرُّ النَّاسِ إنْ لم تعفُ عني
ومالي حيلةٌ إلا رجائي وعفوك إن عفوتَ وحُسْن ظَنِي
اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون.
وهكذا علمتني الحياة.
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه لا خير ولا أفضل ولا أجمل ولا أحسن من كلمة طيبة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25].
أُخيَّ إنَّ البرَ شيءٌ هينُ وجهٌ طليقٌ وكلامٌ لينُ(35/2)
أمثلة توضح أهمية الكلمة الطيبة
هاهو أعرابي -كما يُروى- يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيمسكه بتلابيبه، ويهزُّه ويقول: {أعطني من مال الله الذي أعطاك، لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فيقوم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخص محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: على رِسلكم، المال مال الله}.
أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ هذا الأعرابي ويداعبه، ويلاطفه، ويذهب به إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فيقول: {خذ ما شئت ودع ما شئت} لكن ماذا يأخذ من بيت محمد صلى الله عليه وسلم، بيت لا توقد فيه النار شهرين ولا ثلاثة أشهر، بيت لم يشبع أهله من خبز الشعير، ولم يشبعوا من دَقَل التمر ورديء التمر، بيت يأتي السائل يسأل فلا يوجد -يوماً من الأيام- فيه سوى عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته صلى الله عليه وسلم سوى تمرة واحدة، لكنه خير بيت وجد على وجه الأرض، بأبي وأمي صاحب ذاك البيت صلى الله عليه وسلم، ما ملك الأعرابي إلا أن قال: {أحسنت وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
قال: إن أصحابي قد وجدوا عليك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاخرج إليهم، وقل لهم ما قلت لي الآن، فخرج، وجاء إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: هل أحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: نعم وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشد أنك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: إنما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة فنفرت منه، فذهب يُطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون؛ فما ازدادت الدابة إلا نفاراً وشراداً، فقال: دعوني أنا ودابتي، أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوَّح به لهذه الدابة؛ فما كان منها إلا أن انساقت إليه، وجاءت إليه، فأمسك بها.
أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه، فأوجعتموه؛ فذهب من عندكم على كفره، فمات، فدخل النار}.
أرأيتم الكلمة الطيبة يا أيها الأحبة؟
فلا إله إلا الله! لا أفضل من دفع السيئة بالحسنة، إنها آسرة القلوب والأرواح، إنها مُسْتلة الأضغان والأحقاد والسخائم من القلوب: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
المؤمن الحق -يا أيها الأحبة- كالشجرة المثمرة، كلما رُجمت بالحجارة أسقطت ثمراً طيباً؛ فيا له من قمة! ويا لها من مُثل!
هاهو يهودي معه كلب -واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شَرَكِهم- يمر على إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله ذلكم المؤمن، فيقول له: ألحيتك -يا إبراهيم - أطهر من ذنب هذا الكلب، أم ذنب الكلب أطهر من لحيتك؟
فما كان منه إلا أن قال -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل-: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار لذنب كلبك أطهر منها.
فما ملك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
أقول هذا لعموم الناس، أما نحن -الدعاة وطلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم- ليس لنا أن ننزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشق برديء الكلام، ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور، ولو حاول غيرنا جرَّنا إلى هذه الأمور، ليكن تحركنا ذاتياً، فلا يحركنا غيرنا؛ لئلا نُجرَّ إلى معارك وهمية خاسرة -ولا شك- ثم علينا ألا نغضب لأنفسنا، بل علينا أن نسمو بأنفسنا، عن كل بذيء، وعن كل ساقط.
لَو كلُ كلبٍ عَوى أَلقَمته حجراً لأَصبحَ الصخرُ مثقالاً بِدِينار
ومنْ عاتبَ الجُهَال أتعب نفسه ومنْ لام مَنْ لا يعرف اللوم أفسدَا(35/3)
توضيح لحقيقة الكلمة الطيبة
وليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحياناً -يا أيها الأحبة- تكون بالسكوت، والمدافعة أحياناً تكون بالاختفاء، والمدافعة أحياناً تكون بالإعراض عن الجاهلين.
في يوم أحد -وما أدراكم ما يوم أحد - يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان -وكان لا زال مشركاً- رضي الله عنه وأرضاه: هل فيكم محمد؟ فلم يرد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أحداً بالرد.
هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ فلم يُجبه أحد.
مع أن الجواب قد كان أغيظَ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:
إذا نطقَ السَّفيه فلا تُجْبهُ فَخَير من إجابته السكوتُ
فإنْ كلمْتَه فرَّجت عنهُ وإنْ خَلَّيته كمداً يموتُ
ومن باب قول الآخر:
والصَّمتُ عنْ جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لصونِ العِرضِ إصلاحُ
أما تَرى الأُسْد تُخْشى وهي صامتةٌ والكَلْبُ يُخْزى لعَمر الله نبَّاحُ
هاهو الإمام أحمد عليه رحمة الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيه من السفهاء فيسبُّه ويشتمه ويقرعه بالسب والشتم، فيقول طلابه وتلاميذه: يا أبا عبد الله! رُدّ على هذا السفيه.
قال: لا والله! فأين القرآن إذاً؟ (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً) [الفرقان:63]
إذا سبني نَذلٌ تزايدتُ رفعةً وما العيبُ إلا أن أكونَ مُساببه
ولو لم تكن نَفْسِي عليَّ عزيزةً لمكنْتُها من كلِ نذل تُحاربه(35/4)
استخدام الكلمة الطيبة في الدعوة إلى الله
هاهو مصعب بن عمير -سفير الدعوة الأول إلى المدينة النبوية - يأتيه أسيد بن حضير بحربته -وهو ما زال مشركاً- فيقول لـ مصعب: ما الذي جاء بك إلينا؟ تسفه أحلامنا، وتشتم آلهتنا، وتُضيع ضعفاءنا، اعتزلنا إن كنت في حاجة إلى نفسك، وإلا فاعتبر نفسك مقتولاً.
فما كان من مصعب -بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله وبنصر الله لهذه الدعوة- إلا أن قال له -في كلمات هادئة-: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ قال: لقد أنصفت -وكان عاقلا لبيباً- فكلمه مصعب رضي الله عنه عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فتهلَّل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، واستهل وجهه، وقال: كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في هذا الدين؟ -جاء ليقتله، والآن يريد أن ينهل مما نهل منه مصعب! - قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية.
يقول: إن وراءي رجلاً إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه -هو سعد بن معاذ - وذهب إلى هذا الرجل، واستفزه بكلمات معينة، فجاء هذا يركض إلى مصعب، ويقول: إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك، قال: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن لم ترضَه كففنا عنك ما تكره؟ فجلس، فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين، فما كان منه إلا أن استهل وجهه، وبرقت أسارير وجهه، وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟ قال: اغتسل وتطهر، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، ثم خرج من توِّه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل، وقال: يا بني عبد الأشهل -وهم قومه-! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً، وخيرنا، وأيمننا.
قال: فإن كلامكم عليَّ حرام رجالكم والنساء حتى تؤمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتُصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: فلم يبق رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.
فلا إله إلا الله! الكلمة الطيبة الكلمة الطيبة! الإحسان الإحسان، والله يحب المحسنين.
أَحسنْ إلى النَّاسٍ تَستعبدْ قلوبَهمُ لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ(35/5)
ضرورة الاجتماع والألفة بين المؤمنين
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الاجتماع والألفة بين المؤمنين قوة، وأن التفرق والتشتت ضعف؛ فإن الإنسان قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
وما المرءُ إلا بإخوانه كما تقبضُ الكفُ بالمِعْصمِ
ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خيرَ في السَّاعد الأَجذمِ
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أُعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح يذكره بالله؛ فإذا رأى أحدكم من أخيه ودّاً فليتمسك به]].
تمسَّك به مَسْكَ البخيلِ بماله وعضَّ عليه بالنواجذِ تَغْنم
ويقول الحسن عليه رحمة الله: [[إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة، ويُعينوننا على الشدائد في العاجلة]].
إنْ يختلفْ نسبٌ يؤلفْ بيننا دينٌ أقمناه مقامَ الوالدِ
أو يختلفْ ماءُ الوِصَالِ فماؤنا عذبٌ تحدَّر منْ غمامٍ واحدِ
يقول عمر رضى الله عنه: [[والله! لولا أن أجالس إخوة لي ينتقون أطايب القول كما يُلتقط أطايب الثمر، لأحببت أن ألْحق بالله الآن]].
وهاهي جماعة من النمل تصادف بعيراً، فيقول بعضها: تفرقن عنه لا يحطمكنَّ بخفه، فقالت حكيمة منهن: اجتمعن عليه تقتلنه.
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً وإذا انفردت تكسرت آحادا
بنيان واحد جسد واحد أمة واحدة:
لو كبَّرت في جموع الصينِ مِئذنةٌ سمعت في الغربِ تهليلَ المصلينَ
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} [آل عمرن:103].(35/6)
أهمية اغتنام الفرص في الطاعات
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا تضيع فرصة في طاعة، فإن لكل متحرك سكوناً، ولكل إقبال إدباراً، ورحم الله أبا بكر ورضي الله عنه وأرضاه يوم يقول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا.
من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
من تصدق اليوم على مسكين؟ قال أبو بكر: أنا.
قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة}.
من لي بمثلِ مشيك المعتدلِ تمشى الهُوينا وتجي في الأولِ(35/7)
صور من مبادرة أبي بكر في الطاعات
خرج أبو بكر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عمره في الإسلام بضعة أيام، وعاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة، وهم في صحيفة حسناته، وبعضنا يعيش عشرين عاماً وثلاثين عاماً وستين عاماً ومائة عام، وما هدى الله على يديْه رجلاً واحداً! إلى الله نشكو ضعفنا وتقصيرنا.
ليس هذا فحسب؛ بل يمر يوماً من الأيام على بلال رضى الله عنه وأرضاه وهو يُعذب في رمضاء مكة، وبه من الجَهد ما به، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ.
فيقول: ينجيك الله الواحد الأحد.
ويرى أنها فرصة لا تتعوَّض لإنقاذ هؤلاء الضعفاء؛ لئلا يُفتنوا في دينهم فيصفي تجاراته، ويصفي أمواله، ويأتي إلى أمية بن خلف، ويقول: أتبيعني بلالاً؟ قال: أبيعكه فلا خير فيه، فيعطيه خمس أواقٍ ذهباً، فيأخذ هذه الخمس، ويقول: والله لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً.
قال: ووالله لو أبيت -يا أمية - إلا مائة أوقية لأخذته منك؛ لأن لـ أبي بكر موازين ومقاييس ليست لهذا ولا لغيره من البشر، فرضي الله عنه وأرضاه.
يقول أبوه: إن كنت ولابد منفقاً أموالك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقت الشدائد، فيقول: أبتاه! إنما أريد ما أريد.
ماذا يريد أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟
إنه يريد ما عند الله ويريد وجه الله والدار الآخرة، يقول أناس: ما أعتق بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال؛ يعني: لمعروف أسداه بلال إليه، فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى الله سبحانه وتعالى الرد من فوق سبع سماوات: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:19 - 21] رضي الله عنه وأرضاه، لقد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.
وهاهو خيثمة بن الحارث كان له ابن يسمى سعد بن خيثمة بن الحارث، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، وأرادوا الجهاد في سبيل الله؛ فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لابنه: يا بني! تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن.
ورأى هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض للجهاد في سبيل الله، قال: والله يا أبتاه! لا أجلس مع هؤلاء النساء.
للنساء رب يحميهن، والله! ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله! لو كان غير الجنة -يا أبتاه- لآثرتك به، ولكنها الجنة، والله لا أوثر بها أحداً.
ثم ذهب الشاب، وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فاستشهد في سبيل الله -بإذن الله نحسبه شهيداً، ولا نزكي على الله أحداً- يقول أبوه بعد ذلك: والله! لقد كان سعد أعقل مني، أواه أواه! لقد فاز بها دوني، والله! لقد رأيته البارحة في المنام: يسرح في أنهار الجنة وثمارها، ويقول: أبتاه! الْحقْ بنا فإنَّا قد وجدنا ما وعد ربنا حقَّا.(35/8)
موقف أبي خيثمة في غزوة تبوك
وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوماً فوجد كل واحدة منهما قد رشَّت عريشها بالماء، وبردت له الماء، ووضعت له الطعام؛ فلما رأى ذلك بكى وقال: أواه أواه! يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد؟! والله! ما هذا بالنصف.
ورأى أنها فرصة لو فاتته لعُدَّ من المنافقين، قال: والله! لا أذوق شيئاً حتى ألْحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهيَّأ زاده، وهيأ راحلته، وانطلق وحيداً في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.
ولَحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأدركه قرب تبوك، ورآه الناس فقالوا: راكب مقبل يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: {كن أبا خيثمة! كن أبا خيثمة! قال الصحابة: هو أبو خيثمة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم} ففاز بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويا له من فوز!(35/9)
مسارعة الحسن البصري في الدعوة إلى الله
وهاهو الحسن عليه رحمة الله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى} [يوسف:111] كانوا سباقين إلى الخير، لا يضيعون فرصة لطاعة الله عز وجل.
والٍ من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه، وأكثر فيه من الزخرفة، ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له.
فما كان من الحسن يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تُعوَّض أن يعظ الناس، ويذكرهم بالله، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم فيما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق، ثم وقف بجانبهم هناك، فحمد الله وأثنى عليه، فاتجهت إليه القلوب والأبصار، ثم كان مما قال: لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلى مما بنى، وشيَّد أعلى مما شيَّد، أليس هو القائل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه؟
ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه واندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه بعض السامعين من هذا الوالي، فقالوا: حسبك يا أبا سعيد! حسبك.
قال: لا والله! لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننَّه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}.
ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجُلاسه يتميز من الغيظ، ويدخل عليهم، ويقول: تباً لكم، وسحقاً، وهلاكاً لكم وبعداً، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء! ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله.
فجاء الحسن، ويوم رأى السيف ورأى الجلاد، تمتم بكلمات لم يعرف الحجاب والحُراس ماذا يقول؟
ويوم دخل، وقد خاف الله؛ خوَّف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي فما كان منه إلا أن قال: أهلاً بك أيها الإمام! وقام يرحب به، ويقول: هاهنا هاهنا يا أبا سعيد! حتى أجلسه على مجلسه، وعلى كرسيه، وجلس بجانبه، يسأله بعض الأسئلة ويقول له بعد ذلك: أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد! انصرف راشداً.
وهذا بعد أن طيَّب لحيته، فخرج من عنده فلَحِق به أحد الحجاب، وقال له: والله! لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول؟ قال: دعني ونفسي.
قال: أسألك بالله! ماذا كنت تقول وأنت داخل؟ قال: كنت أقول: يا وليّ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه، فأنجاه وأنقذه وحفظه: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
فالحياة -يا أيها الأحبة- فرص من اغتنمها فاز، ومن ضيَّعها خسر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
إذا هَبت رياحُك فاغْتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون
ولا تغفل عن الإحسانِ فيها فلا تدري السكون متى يكونُ
وإن درَّت نياقُك فاحتلبها فلا تدري الفَصيل لمن يكونُ
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ
لقد خدعتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب(35/10)
الاشتغال بإصلاح عيوب النفس
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أعيب أحداً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأن أشتغل بإصلاح عيوبي، وإنها لكبيرة جِد كبيرة، أما يستحي من يعيب الناس وهو معيب؟!
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلُّها كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد مبرأً لا عيب فيه وهل نارٌ تَفوح بلا دُخَان
هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه، يختار جلاسه اختياراً، ويشترط عليهم شروطاً، فكان من شروطه: ألا تغتابوا، ولا تعيبوا أحداً في مجلسي حتى تنصرفوا.
السَّهل أسهلُ مسلكاً فدع الطريق الأوعَرا
واحفظ لسانك تسترح فلقد كفى ما قد جرى
هاهو ابن سيرين عليه رحمة الله كان إذا ذُكر في مجلسه رجل بسيئة بادر فذكره بأحسن ما يعلم من أمره، فيذب عن عرضه.
فيذب الله عز وجل عن عرضه، سمع يوماً أحد جلاسه يسبّ الحجاج بعد وفاته، فأقبل مغضباً، وقال: صهٍ يا بن أخي! فقد مضى الحجاج إلى ربه، وإنك حين تقدم على الله ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج، ولكل منكما -يومئذ- شأن يغنيه، واعلم يا بن أخي! أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بعيب أحد، ولا تتبع عثرات أحد:
ومن يتبع جاهداً كل عثرةٍ يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحبُ
يا عائب الناس وهو معيب! اتق الله، أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وخواص المسلمين هم العلماء، والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسب بلاه الله قبل موته بموت القلب:
وكم من عائبٍ قولا صحيحاً وآفته من الفَهم السقيمِ
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ يجدْ مُراً به الماءَ الزلالا
فإن عبت قوماً بالذي فيك مثْلُه فكيف يعيبُ الناسُ من هو أعورُ؟
وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهمُ فذلك عند اللهِ والناس أكبرُ
من طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضا.
فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة ولكن عين السخطِ تُبْدي المساويا
وكيف ترى في عين صاحبك القذى ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ
بعض الإخوة ظلمة بعض الإخوة غير منصفين، يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، فحالهم كقول القائل:
إن يسمعوا سُبّةً طاروا بها فرحاً مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به وإنْ ذُكرت بسوءٍ عندهم أَذِنوا
إن يعلموا الخيرَ أخفوه وإن يَعلموا شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وكان حاله:
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها لنفسي عن نفسي من الناسِ شاغلُ
{والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانيّ}.(35/11)
أهمية اختيار الأصحاب
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الصاحب ساحب، وأن القرين بالقرين، وأن الناس أشكال كأشكال الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والدجاج مع الدجاج، والنسور مع النسور، والصقور مع الصقور، وكل مع شكله.
والطيور على أشكالها تقع.
والخليل على دين خليله.
فَفِرّ من خليل السوء فرارك من الأسد؛ فهو أجرب مُعدٍ، يقودك إلى جهنم، إن أجبته قذفك فيها، وسيكون لك عدواً بين يديْ الواحد الأحد: (الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
هاهو عقبة بن أبي معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ولا يؤذيه وكان كافراً، وليس كبقية قريش إذا جلسوا معه صلى الله عليه وسلم يؤذونه، وكان لـ ابن أبي معيط صديق كافر غائب بـ الشام، وقد ظنت قريش أن عقبة قد أسلم لما يعامل النبي صلى الله عليه وسلم من معاملة حسنة، فلما قدم خليله من الشام، قالت قريش: هاهو خليلك ابن أبي معيط قد أسلم.
فغضب خليله وقرينه غضباً شديداً، وأبى أن يكلم عقبة، وأبى أن يسلم عليه، حتى يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستجاب عقبة له وآذى النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه خنقه بتلابيبه ذات مرة، وحتى إنه بصق في وجهه الشريف مرة أخرى، فاستأثر بكل حقارة ولؤم على وجه الأرض في تلك الساعة، وكان عاقبته أن مات يوم بدر كافراً، فأنزل الله فيه وفي أمثاله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً) [الفرقان:27 - 29].
فإياك وصديق السوء؛ فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ.
إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارَهم ولا تصحب الأرْدَى فتردى مع الردِي
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينِه فكلُّ قرينٍ بالمُقَارن يقتدي
من جالس الجُرب يوماً في أماكِنها لو كان ذا صحةٍ لا يأمن الجربا
أنت في الناس تقاسُ بالذي اخترتَ خليلاً
فاصحبْ الأَخْيار تعلُ وتنلْ ذكراً جميلاً(35/12)
ضرورة موافقة الأعمال الأقوال
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أعمل بما أقول ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ومن لم يعمل بما يقول، ويدعو له؛ فإنما يسخر من نفسه أولاً.
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
كحاملٍ لثياب الناسِ يغسلُها وثوبُه غارق في الرجسِ والنجسِ
ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالِكها إن السفينةَ لا تجري على اليبس
ركوبك النَّعش ينْسيك الركوب على ما كنت تركب من بغلٍ ومن فرسِ
يوم القيامة لا مالٌ ولا ولدٌ وضمة القبرِ تُنْسِي ليلةَ العُرُسِ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك ينفع ما تقول ويُشتفى بالوعظ منك وينفع التعليمُ
لا تنْهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثله عار عليك إذا فعلتَ عظيمُ
فاحرص على ما ينفعك، واعمل بما تقول ما استطعت: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف:3].(35/13)
إرضاء الناس غاية لا تدرك
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن إرضاء الناس غاية لا تدرك؛ فإرضاء البشر ليس في الإمكان أبداً؛ لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتَوِرُهم الهوى، ويعتَوِرُهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم.
فمَن تُرضي إذاً؟ أرض الله جل وعلا وكفى.
هاهو رجل يبني له بيتاً، فيضع الباب جهة الشرق، فيمر عليه قوم، فقالوا: هلا وضعته جهة الغرب لكان أنسب.
فيمر آخرون ويقولون: هلا وضعته جهة الشمال لكان أجمل.
ويمر آخرون، فيقولون: هلا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب.
وكلٌ له نظر، ولن ترضيهم جميعاً، فأرض الله وكفى.
هاهو رجل وابنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم، فقالوا: يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة، يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشى وراءه! فما كان منه إلا أن نزل، وأركب هذا الطفل، ومشى، فمر على قوم آخرين، فقالوا: يا له من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة!، فركب الاثنان على الدابة، ومروا على قوم آخرين، فقالوا: يا لهم من فجرة حمَّلوها فوق طاقتها! فنزل الاثنان ومشيَا وراء الدابة، فمروا على قوم، فقالوا: حمقى مغفلون يُسخر الله لهم هذه الدابة، ثم يتركونها تمشي ويمشون وراءها!
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [المؤمنون:71].
من ترضي أخي في الله؟ أرض الله وكفى، من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عنه الناس.
ومن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أما إرضاء رب الناس فهو الممكن بل هو الواجب؛ لأن سبيل الله واحد؛ ولأن دينه واحد: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام:153].
يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه: مواقف حدثاً يناسب هذه النقطة: يذكر أن طفلة صغيرة تعود لأمها من المدرسة ذات يوم، وعليها سحابة حزن وكآبة وهمٍّ وغمٍّ، فتسألها أمها عن سبب ذلك؟ فتقول -وهي من بيت محافظ-: إن مُدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة، فتقول الأم: ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا، فتقول الطفلة: لكن المُدرسة لا تريدها.
قالت الأم: المُدرسة لا تريد والله يريد، فمن تُطيعين إذاً، الذي خلقك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوق لا يملك ضراً ولا نفعاً؟ فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: لا.
بل أطيع الله، وليكن ما يكون.
وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس، وتذهب بها إلى المدرسة، ولما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، وأكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت، ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة، فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أَلِيم، أذهل المعلمة ثم كفْكفتْ دموعها، وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، فتقول: والله! لا أدري من أطيع؟ أنت أم هو؟ قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت: الله رب العالمين، الذي خلقني وخلقك وصوَّرني وصوَّرك، أو أطيعك، فألبس ما تريدين، وأغضبه هو.
أم أطيعه وأعصيك أنت؟، لا.
لا.
سأطيعه، وليكن ما يكون.
إذا لم يكن إلا الأسنةُ مركباً فما حيلةُ المضَّطر إلا ركوبُها
ذهلت المعلمة، وشُدِهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة؟ ووقعت منها الكلمات موقعاً عظيماً بليغاً، وسكتت عنها المعلمة.
وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أمَّ البنت، وتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله، وأُبت إلى الله، فقد جعلت نفسي نداً لله حتى عرفتني ابنتك من أنا.
فجزاكِ الله من أم مربية خيراً.
وهنا أقول: يا أيها الأحبة! ما أحوجَنا إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تؤثر في السامعين أبداً؛ ألا فأرضِ الله جل وعلا وكفى.
فلست بناجٍ من مقالةِ طاعنٍ ولو كنتَ في غارٍ على جبلٍ وعرِ
ومن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً ولو غاب عنهم بين خافقتي نسر
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103].(35/14)
ضرورة اتباع الحق
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أحب الحق وفلاناً ما اجتمعا، فإذا افترقا كان الحق أحب من فلان ومن نفسي ومالي وأهلي وولدي والناس أجمعين:
لأنَّني مولعٌ بالحقِ لستُ إلى سواه أنحو ولا في نصره أَهِنُ
دعهم يعضوا على صمِّ الحصى كمداً مَنْ مات منهم له كفنُ
هاهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يستجيب لدعوة الهدى والحق، فيكون ثالث ثلاثة أسلموا، لكن إسلامه لم يمر هيناً سهلاً، وإنما تعرض الفتى لتجربة من أقسى التجارب، أنزل الله في شأنها قرآناً يُتلى.
لما سمعت أمه بخبر إسلامه ثارت ثائرتها، يقول: وكنت فتى باراً محباً لها، فأقبلت تقول: يا سعد! ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين آبائك وأجدادك؟ لتتركن هذا الدين أو لأمتنعن عن الطعام والشراب حتى أموت، فيتفطر قلبك حزناً عليَّ، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت، ويعيرك الناس بها أبد الدهر، قال: قلت: يا أماه! لا تفعلي فأنا لا أدع ديني لشيء.
لكنها نفذت وعيدها وامتنعت عن الطعام والشراب أياماً، كان يأتيها ويسألها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفض ذلك، فما كان منه ذلك اليوم إلا أن جاءها وقال: يا أماه! إني لعلى شديد حبي لك أشد حباً لله ورسوله، والله! لو كانت لك ألف نفس فخرجت منك نفساً بعد نفس ما ارتددت عن ديني، فكلي أو دعي.
فلما وضعها أمام هذا الأمر ما كان منها إلا أن أكلت على كره منها، فأنزل الله عز وجل فيه وفيها: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) [لقمان:15].
وهاهو الإمام مالك، يأتيه رجل يستفتيه، وهو في حلقة العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل هذا الرجل إليه، ويقول: يا إمام! قد قلت لزوجتي: أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر، ففكر الإمام قليلاً، ثم قال: ليس هناك أحلى من القمر، فهذه طلقة، ولا تعد لذلك.
وكان تلميذه الشافعي يجلس إلى سارية من السواري، ولم يدرِ ما الذي حدث بينهما، وكان حريصاً على طلب العلم، فلحق بهذا الأعرابي، وقال له: ما السؤال؟ وما الإجابة؟ -يريد أن يستفيد فائدة- قال: قلت للإمام كذا وكذا، فقال: القمر أحلى من زوجتك، فزوجتك قد طلقت طلقة.
فقال الإمام الشافعي له: بل زوجتك أحلى من قمر.
قال: أوقد رأيتها؟! وكانوا ذوو غَيْرة؛ فاغتاظ منه، قال: لا.
ألم تسمع قول الله جل وعلا: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1 - 4] فخَلْقُ الإنسان أحسن خلق، وأقوم خلق، وأعدل خلق.
قال: إذاً نرجع إلى الإمام مالك.
قال: نرجع إليه.
فرجعوا إلى الإمام مالك.
فأخبروه بالخبر، فقال: الحق أحق أن يُتبع، أخطأ مالك وأصاب الشافعي.
فما أحوجنا إلى معرفة الرجال بالحق، لا العكس.
والحقُّ يعلو والأَباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يُسألُ
وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدلُ(35/15)
أهمية الرجال الذين يحملون الحق بقوة
علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا نفرح في صفوفنا بالهازلين، المضيعين لأوقاتهم المفرطين في المزاح، المنغمسين في المُلْهيات، نريد رجالاً أشداء لا ينثنون للريح، يشقون الطريق بعزم وجد، لا تلهيهم كرة، ولا يضيعهم تلفاز ولا هراء، وقتهم أعظم وأثمن من أن يضيع في مثل هذه الترهات.
نريد من يأخذ الحياة بجد؛ فالحياة الحقيقية للشجعان الأقوياء العاملين، لا مكان فيها للكُسالى والتنابلة والبطالين والمتخاذلين، نريد من يشق طريقه معتمداً على الله بعيداً عن التفكير الهامشي السافل التفكير في الشهوات التفكير في الملهيات، والركض وراءها، والتفكير المادي المنحط.
نريد شباباً يتربى على معالي الأمور، ويترفع عن سفاسف الأمور ليكونوا ممن قيل فيهم:
شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً يدكون المعاقلَ والحصونا
وإن جن المساءُ فلا تراهم من الإشفاقِ إلا ساجدينا
شباب لم تُحطمه الليالي ولم يُسلم إلى الخصم العرينا
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ ولكن العلى صيغت لحونا
ولم يتشدقوا بقشورِ علمٍ ولم يتقلبوا في الملحدينا
ولم يتبجحوا في كل أمرٍ خطيرٍ كي يُقال مثقفونا
كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مخلصاً حُراً أمينا
وعلمه الكرامةَ كيف تُبْنَى فيأبى أن يذل وأن يهونا
أين نجد هؤلاء الشباب؟
أنجد هؤلاء في المسارح؟ أعلى المدرجات؟ أعلى الأرصفة؟ لا.
إنما نجدهم في حلقات العلم والتعلم، في بيوت الله، في الأمر والنهي، فلتأخذ الحياة بجد، ولتُعد الأنفس ليوم الشدائد، فما ندري ما المرحلة القادمة:
يا راقدَ الليلِ مسروراً بأوله إن الحوادثَ قد يطرقن أسحارا
كيف يرجو من به كسلُ نيلَ ما قدْ ناله الرَّجلُ؟
من يريد العزَّ يطلبهُ في دروبٍ ما بها سهلُ(35/16)
حقيقة النفس البشرية
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن النفس البشرية كالطفل تماماً.
إن أدبتها وهذَّبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدَّت وندَّت وشردَت.
النَّفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات واللذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، إذا لم يقيدها وازع ديني عظيم؛ تنقاد إلى السقوط والهلاك:
والنَّفْسُ كالطفل إن تُهمله شبَّ على حبِ الرَّضَاعِ وإن تفطمه ينفطمِ
فخالف النفسَ والشيطانَ واعصهما وإن هما محضاكَ النصحَ فاتهمِ
وإصلاح نفسك بمَّ يكون يا أيها الحبيب؟
بالمجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]
يقول ثابت البناني عليه رحمة الله: تعذبت بالصلاة عشرين سنة -يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله- قال: ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني أدخل في الصلاة فأحمل هَمَّ خروجي منها.
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات: {فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) [الكهف:110].
يقول أحد السلف: ما من فعلة صغرت أو كبرت إلا ويُنشَر لها ديوانان: لِم؟ وكيف؟
لم فعلت؟ ما علة الفعل؟ وما باعث هذا الفعل؟ هل لحظ دنيوي؟ لجلب نفع؟ لدفع ضر؟ أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده؟ هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظِّك وهواك؟
وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل العمل مما شرعه الله ورسوله؟ أم ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية.
يقول سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي.
يا نفس! أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعةٍ نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز.
طوبى لمن صحت له خطوة يُراد بها وجه الله تعالى.
هاهو ابن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته تحلُ به سكرات الموت، فيشتد بكاؤه ونحيبه، فيقول جُلاسه: يا إمام! أحسن الظن بالله، ألست من فعلت، ومن فعلت؟ قال: والله ما أخشى إلا قول الله: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) [الزمر:47 - 48] أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت، فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت، وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر: لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتيْ ألف، وأسلم على يديْ أكثر من مائتيْ نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل!
ويحق لمن تلمَّح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي بنظري إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوماً واعظاً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما منهم من أحد إلا رقَّ قلبه، أو دمعت عينُه، قال: فقلت في نفسي: كيف بك يا بن الجوزي! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ كيف بك يا بن الجوزي! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ ثم صاح: إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غداً فلا تخبرهم بعذابي، لئلا يُقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه، إلهي -وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين- لا تخيب من علق أمله ورجاءه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبادك إلى دينك ولم يكن أهلاً لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك، أنت أهل الجود والكرم.
فأخلصوا تتخلصوا.
طوبى لمن صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.(35/17)
مكانة المرأة المسلمة وبعض مواقفها
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن كثيراً من النساء مَحَاضن خالدة لتربية الأجيال، ولبعضهن مواقف مشرفة، تصلح نبراساً وأُنموذجاً لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا، في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة، وهي الأسوة، إلا عند من رحمهن الله سبحانه فإليكم بعض النماذج:
هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها يتوفى عنها زوجها، ويترك لها ابناً هو الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فنشأته نشأة الخشونة، وربَّته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل خطر، فإذا أحجم ضربته ضرباً مبرحاً، حتى إنها عوتبت من بعض أعمامه، حيث قال لها: إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم.
فقالت مرتجزة:
من قالَ قد أبغضتُه فقد كذبْ وإنما أضربُه لكي يلبْ
ويهزم الجيشَ ويأتي بالسلبْ
آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجرت مع من هاجر، وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحد جاهدت مع ابن أخيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه: {ذُرِّيَّة بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران:34] فلما انكشف المسلمون في أحد -كما تعلمون- هبَّت هذه المرأة كاللبؤة، وانتزعت رمحاً من أحد المنهزمين، وانقضَّت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد، وتقول: ويحكم أتفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ويراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لابنها الزبير: {ردها فإن أخاها حمزة قد مَثَّل به المشركون، فقال لها ابنها: إليك يا أماه! إليك يا أماه! قالت: تنحَّ عني لا أم لك، أتفِرُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي.
فقالت -وقد كانوا وقَّافين عند أمر الله وأمر رسوله-: الأمر أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتوقفت، وقالت: ولم يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه قد بلغني أنه قد مُثِّل بأخي وذلك في ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله، فقال صلى الله عليه وسلم لابنها: خَلِّ سبيلها، خلِّ سبيلها} فخاضت المعركة حتى انتهت، ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفة العظماء، قد بُقر بطنه، وأُخرجت كبده، وجُدع أنفه، وُقطعت أُذناه، وشُوِّه وجهه، فاستغفرت له، وجعلت تقول: إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله، وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب:
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيلُ فتقطرُ
تقول: لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله.
لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله.
هذا موقف من مواقف صفية.
وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي صلى الله عليه وسلم مع نساء المسلمين في حصن حسان، وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود، فأرسلوا واحداً؛ ليرى هل أبقى الرسول صلى الله عليه وسلم حُماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يُبقِ أحداً؟ فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعمود، فضربته أولى وثانية وثالثة، وقتلته، ثم احتزت رأسه، ثم طلعت به إلى أعلى الحصن، ثم رمت برأسه؛ فإذا هو يتدحرج بين أيدي اليهود، فقال قائل اليهود: قد علمنا أن محمداً لن يترك النساء من غير حُماة.
فرحم الله صفية رحمة واسعة، قد كانت مثلا فذّاً للأم المربية المسلمة، ربَّت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام، فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالاً كـ صفية.
وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظَ به امرأة قبلها ولا بعدها، وهي خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة بالغار.
ثم انظر لتلك المرأة في أواخر سني عمرها في أحلك المواقف، وقد بلغت السابعة والتسعين، ابنها يُحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف.
ماذا يفعل؟ فقالت تلكم المؤمنة الصابرة: أنت أعلم بنفسك.
إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى الحق فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك!
قال: يا أماه! والله ما أردت الدنيا، وما جُرت في حكم، وما ظلمت، وما غدرت، والله يعلم سريرتي وما في قلبي.
فقالت: الحمد لله، وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسناً، إن سبقتني إلى الله جل وعلا.
تعانقا عناق الوداع، ثم قالت: يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك، فأكبَّ على يديها، ورجليها، ووجهها، يلثمها ويقبلها، دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس ابنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها، وهي تقول: ما هذا الذي تلبسه؟ قال: درعي.
قالت: يا بني! ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله؟ انزعه عنك؛ فهو أقوى لوثبتك، وأخف لحركتك، والبس بدلاً منه سراويل مضاعفة، حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك، فنزع درعه وشدَّ سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال، وهو يقول: لا تفتري عن الدعاء يا أماه! فرفعت كفها قائلة:
اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام.
اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر مكة والمدينة، وهو صائم.
اللهم إني قد أسلمته لك، ورضيت بما قضيت فيه فأثبني فيه ثواب الصابرين.
ويذهب ابنها، وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ، تلقى ابنها عبد الله ضربة الموت، ليلقى الله عز وجل.
ليس هذا فحسب؛ بل يُصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون.
علوٌ في الحياةِ وفي المماتِ لحقٍ أنت إحدى المَكرُمات
كأنَّك واقفٌ فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاةِ
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة، العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس الطريق حتى تصل، فتأتي فإذا هو كالطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة، ويقول: يا أماه! إن الخليفة أوصاني بك خيراً، فتصيح به: لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم.
ويتقدم ابن عمر رضي الله عنه معزياً لها، ومواسياً لها، فيقول: اتقي الله واصبري، فتقول -له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله-: يا بن عمر! وماذا يمنعني أن أصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟
أرأيتم ما أعظم الأم! وما أعظم الابن! وما أعظم الأب!
سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، والسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين.
النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف، ناهيك عن النساء.
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تتزوج علياً رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تؤثر الرحى في يدها، وتستقي بالقربة حتى أثَّرت في نحرها، وتقُمُّ البيت، وتوقد النار، وتربي أبناءها؛ فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة:
هي بنت من هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنامِ عُلاها
أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ جبريلُ بالتَّوحيد قد رَباها
وعليٌ زوجٌ لا تسل عنهُ سوى سيفِ غدا بيمينه تيَّاهاً
فلو كان النساءُ كمن ذكرنا لفضلت النساءِ على الرجالِ
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكيرُ فخرُ للهلالِ
آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة؛ بـ صفية وأسماء وعائشة وفاطمة.
فالأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيبَ الأَعْراق(35/18)
حال الدهر والأيام
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن الدهر دول، والأيام قُلَّب لا تدوم على حال: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140] الدنيا غرَّارة خداعة، إذا حلَت أوْحلت، وإذا كسَت أوْكست، وإذا جلت أوْجلت.
وكم من ملكٍ رُفعت له علاماتٌ؛ فلما عَلا مات.
هي الأقدارُ لا تُبقي عزيزاً وساعات السرورِ بها قليله
إذا نشر الضِّياءُ عليك نجمٌ وأشرق فارتقبْ يوماً أفوله
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساءُ ويوم نُسَّر
الأمر جدُ وهو غيرُ مِزَاحِ فاعملْ لنفسك صالحاً يا صاحِ
كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ وكرور ليلٍ دائمٍ وصباحِ
تجري بنا الدُنيا على خطرٍ كما تجري عليه سفينةُ المَلاحِ
تجري بنا في لُجِ بحرٍ مالهُ من ساحلٍ أبداً ولا ضحضاح
فاقضوا مَآربكم عجَالي إنَّما أعمارُكم سفر من الأسفارِ
وتراكضوا خيل الشبابِ وبادرُوا أن تُستردَ فإنهنَّ عوارِ
الدهرُ يومان ذا أمن وذا خطرٌ والعيشُ عيشان ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيفُ وتستقرُ بأقصى قاعه الدُرَرُ؟
وفي السَّماء نجومٌ لا عِداد لها وليسَ يكسفُ إلا الشَّمسُ والقمرُ(35/19)
حقيقة ميت الأحياء
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن ميت الأحياء، من لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78 - 79] ويقول صلى الله عليه وسلم: {لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد السفيه، ولتأطرنَّه على الحق أطراً؛ أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم} {لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر؛ أو ليُسلطنَّ الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم} {لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم}.
كم من ميت هو حي بأعماله؛ بأمره ونهيه، بعلمه وعمله! وكم حي ميت يرى المنكر فلا يهزه!
يا رب حيٍ رخامُ القبرِ مسكنُه وربَّ ميت على أقدامِه انْتصبا(35/20)
علاقة العصا بالتربية والإصلاح
علمتني الحياة: أن العصا أداة للتقويم والتربية والإصلاح، إذا صاحبتها يد حانية، ولسان هادئ، وقلب رحيم.
العصا أداة نافعة متى ما وجدت من يستخدمها بحكمة ولُطف، متى ما وضعت في موضعها أفادت، كالدواء تماماً.
إننا نريد العصا عندما نستنفذ كل سبيل للعلاج، وآخر الدواء الكيُّ، ومن الكير يخرج الذهب:
وقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم
وهي كذلك أداة للتوكؤ والهش على الغنم، وفيها مآرب أخرى، وإن للخير سبلاً، وكم من مريد للخير لا يدركه!: {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.(35/21)
لكل بداية في الدنيا نهاية
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن لكل بداية في الدنيا نهاية، ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع.
إذا تم شيء بدا نقصه ترقبْ زوالاً إذا قيل تمَّ
بينما المولود يولد ويُفرح به، ويؤذن في أذنه؛ إذ به بعد وقت ليس بالطويل، يُحمل ليُصلى عليه، ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين أذان وصلاة، ولا إله إلا الله، ما أقصرها من حياة!.
أذان المرءِ حين الطفلُ يأتي وتأخيرُ الصلاةِ إلى المماتِ
دليلُ أن مَحْياه يسيرٌ كما بين الأذانِ إلى الصلاةِ
بينما الإنسان في أهله في ليلة آمناً مطمئناً فرحاً يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيداً فريداً، لا مال، ولا ولد، ولا أنيس، ولا صاحب سوى العمل، وإذ به خبر يخبر به.
بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخبراً فإذا به خبرٌ من الأخبارِ
بينما الطبيب يعالج من مرض إذا به يصاب بنفس المرض، فلا طبُّه ينفعه، ولا دواؤه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقيه غيره على يديْه، وحال الناس:
ما لِلطبيب يموتُ بالداءِ الذي قد كان يُبْرِئ مثله فيما مَضى
مات المُداوِي والمداوَى والذِي جلب الدواءَ وباعه ومَنْ اشترى
ما أنت -والله- إلا كقطعة ثلج، تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى، وكأن لم تكن.
سيصير المرءُ يوماً جسداً ما فيه رُوح
نُحْ على نفسك يا مِسـ كينُ إن كنتَ تَنوح
لست بالباقي وإنْ عُمرت ما عُمر نوح
فانتبه من رقدةِ الغفلةِ فالعمرُ قصيرُ
واطرحْ سوف وحتى فهما داء دخيل
واتَّقِ الَله وقَصر أملا ليس في الدنيا خلوُد للملا
الموت لنا بالمرصدِ إن لم يُفاجئ اليومَ فاجأَ في غدِ
الموتُ بابٌ، وكل الناسِ سيدخلون من هذا الباب، وما من باب إلا وبعده دار.
لا دار للمرءِ بعدَ الموتِ يسكنُها إلا التي كان قبلَ الموتِ يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُه وإنْ بناها بشرٍ خابَ بانيها
كُتبَ الموتُ على الخلقِ فكم فلَّ من جيشٍ وأفنى من دُول
أين نمرود وكنعان ومن ملكَ الأَرضَ وولَّى وعَزَل؟
أين من سادُوا وشادُوا وبنَوا؟ هلكَ الكلُّ ولمْ تُغْنِ الحِيْل
أين أربابُ الحجا أهلُ التُّقى؟ أين أهلُ العلمِ والقَوم الأول؟
سيُعِيد الله كلاً مِنهم وسيجزِي فاعلاً ما قد فعل(35/22)
نهاية الإنسان في هذه الدنيا
هل شاهدت محتضراً في شدة سكراته ونزعاته؟ هل تأملت صورته بعد مماته؟ هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته، فاستعددت لتلك اللحظات العصيبة؛ فزدت في عملك، وزدت في إجهاد نفسك واجتهادك؟
هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على مريض يعوده، فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به، فيرجع إلى أهله حزيناً كئيباً بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: يا إمام! الطعام يرحمك الله! فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم؛ فوالذي نفسي بيده! لقد لقيت مصرعاً ما أزال أعمل له حتى ألقاه.
فمثِّلْ لنفسك -يا عبد الله- وقد حلَّت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكي كالأسيرة، وتتضرع وتقول: من لِيُتْمِي بعدك؟ وابنك ينظر إليك وينظر ما يتعجل من اليتم بعدك، ويقول: من لحاجتي أبتاه؟ وأنت تسمع فلا ترد الجواب.
هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتُوارى في التراب؟ ثم تساءلت عن حالها؛ ما حالها؟
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: {إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم؛ إن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق} تصرخ صرخات تقض المضاجع.
هل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ والله لصُعقنا ولما حملنا جنازة أبداً، وهذا ما خشيه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال -كما في صحيح مسلم -: {لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع} فخيِّل لنفسك يا بن آدم إذا أُخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك، فغسلك الغاسل وأُلبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والإخوان، فما ينفع البكاء، وما ينفع العويل، وما ينفع إلا ما قدمته من صالح الأعمال.
هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابداً قد حضرته الوفاة، وحوله أهله يبكون، فقال لوالده: أيها الشيخ ما الذي يبكيك؟ قال: أبكي فقدك، وما أرى من جهدك.
فبكت أمه، قال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيكِ؟ قالت: أبكي فراقك، وما أتعجل من الوحشة بعدك.
فبكى صبيانه وأهله وزوجه، قال: يا معشر اليتامى! ما الذي يبكيكم؟ قالوا: نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.
فما كان منه إلا أن صرخ، وقال: كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهى؟ أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يديْ الله ربي؟ ثم صرخ صرخة عظيمة، شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.
يا أيها المسلم: هل نظرت إلى القبور؟ ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رقَّ قلبه، وذرفت عينه؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات والأصحاب والأحباب والإخوان والأخوات، يرى منازلهم، ويتذكر أنه -قريباً- سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم، قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:54].
قد يتدانى القبران، وبينهما ما بين السماء والأرض؛ نعيماً وجحيماً.
ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رقَّ قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفوراً، فهيَّأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر، فرأى صاحبه يُدلى فيه، فسأل نفسه: على ماذا أُغلق؛ على نعيم أم على جحيم؛ على مطيع أم على عاصٍ إلا رقَّ قلبه.
فلا إله إلا الله! هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.
ألا فتذكر هاذم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات، ليهتز قلبك خشية من الله؛ فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.
هاهو ابن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع اختلس يده من يدي، وكنت قابضاً على يده، ثم وضع نفسه على قبر، فبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك يا أمير المؤمنين؟! قال: يا ليت أم عمر لم تلِد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا بن عوف هذه الحفرة؟ قال: فأبكاني والله!
فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.
هاهو صلى الله عليه وسلم، كما في المسند من حديث البراء: أنه رأى أُناساً مجتمعين، فسأل عن سبب اجتماعهم؟ فقيل: على قبر يحفرونه، ففزع -صلى الله عليه وسلم- وذهب مسرعاً، حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبتيْه، وبكى طويلا، ثم أقبل على الناس، وهو يقول: {يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا.
يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا}.
فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر: {إني أرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون؛ أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملَكٌ واضع جبهته ساجد أو راكع، والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعُدات، تجأرون إلى الله} وفي رواية المنذري: {ولحثَوْتم على رءوسكم التراب} والله! لو علمنا حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صُلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته.
الأمر خطير جد خطير:
يا نفسُ قد أزفَ الرَّحيل وأظَّلك الخَطْبُ الجليلُ
فتأهبي يا نفسُ لا يلعبْ بك الأملُ الطويلُ
لتنزلنَّ بموضعٍ ينسى الخليلُ به الخليل
وليركبنَّ عليك من الثرى حملٌ ثقيل
قُرن الفناءُ بنا فما يبقى العزيزُ ولا الذليل
خالف هواكَ إذا دعاكَ لريبةٍ فلربَّ خيرٍ في مخالفةِ الهَوى
حتى متى لا تَرْعَوِي يا صاحبي حتى متى لا تَرْعَوِي حتى متى؟(35/23)
دروس علمتنيها الحياة في ظل العقيدة
وأسرد لكم بعض دروس علمتنيها الحياة في ظل العقيدة سرداً بلا توسع فيها:
علمتني الحياة: أن من خدم المحابر خدمته المنابر.
وكم من سراج أطفأته الريح، وكم من عِبادة أفسدها العُجب.
وأن: فوَضْع النَّدى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأن من أراد أميراً كـ أبي بكر؛ فليكن كـ خالد وسعد، وأن سوف جندي من جنود إبليس.
وأن معظم النار من مستصغر الشرر.
وأن الحق لابد أن تحرسه قوة.
وأنه بالشكر تدوم النعم.
وأن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
وأن النارَ بالعودين تُذكى وأنَّ الحربَ مبدؤُها كلامُ
وأن ثمن العزة قد يكون قطرة دم.
وأن الجواد قد يكبو، وأن الصارم قد ينبو، وأن النار قد تخبو.
وأن الإنسان محل النسيان، و: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيْئَاتِ ذَلِكَ ذِكَرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].(35/24)
أعظم سلاح في أيدي المؤمنين
وأخيراً علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أعظم سلاح بأيدي المؤمنين هو الدعاء.
سهامُ الليل لا تخطئ ولكن لها أمدٌ وللأمدُ انقضاءُ
لا تسألن بُنَي آدم حاجةً وسل الذي أبوابُه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤالَه وبُنَي آدم حين يُسأل يغضبُ
سلاح عظيم، غفل عنه المؤمنون، لن يهلك معه أحد بإذن الله، إنه الدعاء والالتجاء إلى رب الأرض والسماء:
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
يقول ابن كثير عليه رحمة الله: كان بقي بن مخلد -أحد الصالحين الأخيار- عابداً قانتاً خاشعاً، أتته امرأة صالحة، فقالت: يا بقي! إن ابني أسره الأعداء في أرض الأندلس، وليس لي من معين بعد الله إلا ابني هذا، فسل الله أن يردّ عليّ ابني، وأن يطلقه من أسره.
فقام وتوضأ، ورفع يديْه إلى الحييِّ الكريم الذي يستحيي أن يرد يدي العبد صفراً خائبتيْن سبحانه وبحمده، فدعا الله عز وجل أن يفكَّ أسر ابنها، وأن يجمع شملها بابنها، وأن يفك قيده، وبعد أيام وإذا بابنها يأتي من أرض الأندلس، فتسأله أمه: ما الذي حدث؟ قال: في يوم كذا في ساعة كذا- وهي ساعة دعاء بقي - سقط قيدي من رجلي، أعادوه فسقط، ألحموه فسقط، فذُعروا ودُهشوا وخافوا، وقالوا: أطلقوه.
قالت: فعلمت أن ذلك بدعاء صالح من عبد صالح: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] {الدعاء هو العبادة}.
هاهو صلة بن أشيم كان في غزوة فمات فرسه، فتلفت يميناً وشمالاً، ثم قال: اللهم لا تجعل لمخلوق عليَّ منَّة، فإني أستحيي من سؤال غيرك، وعلم الله صدقه في سرائه وضرائه، فأحيا الله عز وجل له فرسه، فركبه حتى إذا وصل أهله، قال لغلامه: فك السرج فإن الفرس عارية، فنزع السرج، فهبط الفرس ميتاً.
ولا عجب؛ فمن توكل على الله، ومن التجأ إلى الله أجاب دعاءه وحفظه، ولو كادته السماوات والأرض، لجعل الله له من ذلك فرجاً ومخرجاً.
فمرة أخرى إذا ادلَهمَّت الخطوب، وضاقت عليك الأرض، وقلَّ الناصر، وزمجر الفساد، ودُعم الباطل، وكُبت الحق، وعيَّر البخيلُ الكريمَ، وعيَّر العييُّ الفصيح، وعيَّر الظلام الشمس:
وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهبَ الحصا والجنادل
وتمنَطق كل جبان، وتخلى الأمناء، ورُفع السفهاء، وتظاهر بالوفا كل خوّان، ونطق الرويبضة، وغدا القرد ليثاً، وأفلتت الغنم، فارفع يديْك إلى من يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
يا من أجبت دعاءَ نوحٍ فانتصر وحملته في فُلْكِكَ المشحونِ
يا من أحال النارَ حول خليلِه روحاً وريحاناً بقولك كوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسَ وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مِثْله في كربةٍ فارحم عباداً كلهم ذو النونِ
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المباركة، باسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرَّجت؛ أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا ألسنة ذاكرة، وقلوباً خاشعة، وأعيناً مدرارة، وإيماناً نجد حلاوته إلى أن نلقاك.
رباه! إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك، وبنو عبيدك، وحملة كتابك وأتباع رسولك، يرجون رحمتك، ويخشون عذابك.
اللهم الْطف بنا.
اللهم ارحمنا.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا مغيثاً لمن لاذ بحماه! يا قريباً لمن دعاه! يا معيذاً من استعاذ به! أجِرْنا من النار، ومن دار الخزي والبوار.
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفانا مسلمين، وأن يُلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين.
اللهم واجعل ما قلناه خالصاً لوجهك الكريم، بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
تم الكلامُ وربُنا محمود وله المكارمُ والعلى والجودُ
وعلى النبي محمدٍ صلواته ما ناحَ قُمريٌّ وأَوْرَق عودُ(35/25)
الأسئلة
ونقف مع بعض الأسئلة قليلاً ولعلنا لا نُطيل في ذلك، وهي أسئلة من المحاضرة الماضية، ولذلك نعتذر عن الإجابة على هذه الأسئلة -أسئلة هذه المحاضرة أعني-.(35/26)
الأسباب المعينة على قيام الليل
السؤال
فضيلة الشيخ! إني أحبك في الله.
يقول العلماء: إن قيام الليل من أعظم وسائل التثبيت، وكم جاهدت نفسي لقيام الليل، ولكن لم أستطع المداومة على ذلك؛ فما هي الأسباب المعينة على ذلك وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول يا أيها الأحبة: قيام الليل لذة، وحلاوة، وسعادة، ونعمة، وحبور، وسرور، والله! لا يعلمها إلا من صفَّ قدميْه في ظلمات الليل؛ ليرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه، يطلب جنته، ويستجير من ناره، سبحانه وبحمده! أهله المتقون: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:15 - 18] أهله من: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
إني أقول لك -يا أيها الحبيب! الذي لا تستطيع قيام الليل، والذي قال لك العلماء: إنه من عوامل التثبيت- أقول: إن هذا صحيح، وإليك بعض الأسباب -أسأل الله أن ينفع السامع، وأن ينفع المتكلم بهذه الأسباب-:
أولاً: أن تعلم أن لله عز وجل نفحات متى ما تعرّض لها العبد سَعِد في دنياه وأخراه، وتلك هي السعادة الأخروية التي نطلبها.
ومن هذه النفحات: التعرض لها في الثلث الأخير من الليل، وذلك لا يكون إلا لمن يقوم الليل، إن الله سبحانه وتعالى يتنزل -نزولاً يليق بجلاله- في ثلث الليل الآخر، فيقول: {هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟} إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة} فضلاً من الله ونعمة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -كما روى الطبراني بإسناد حسن-: {إن في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال -في آخر الحديث-: لمن بات قائماً، والناس نيام} أن تعلم هذا أولاً.
الثاني أيها الحبيب: إذا أتيت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للبراء.
الأمر الثالث: أن تقرأ آية الكرسي؛ فلا يقربك شيطان، وما يزال عليك حافظ من الله عز وجل حتى تصبح.
اقرأ الآيتيْن الأخيرتيْن من سورة البقرة؛ فمن قرأهما في ليلة كفتاه.
سبح ثلاثاً وثلاثين، واحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر أربعاً وثلاثين، اذكر الله عز وجل حتى يغلبك النوم؛ فإنك إذا جئت إلى فراشك ابتدرك شيطان وملك، فيقول الشيطان: اختم بِشَرٍّ، ويقول الملك: اختم بخير فإذا بقيت تذكر الله حتى تنام بقي الملك يحرسك، وطُرد الشيطان من فراشك.
كما أني أوصيك بأن تضع يدك اليمنى تحت خدِّك الأيمن على جنبك الأيمن، ثم تقول وتدعو بالدعاء: {باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن توفيت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين}.
{اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت}.
واذكر من الأذكار ما تعرفه وكتب الأذكار موجودة لديك.
أيضاً احرص في النهار على أن تنام نوم القيلولة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {قيلوا فإن الشياطين لا تقيل} كما في السلسلة الصحيحة.
أيضاً: لا تُتعب نفسك في النهار كثيراً؛ لأن من تعب في النهار لا يستطيع أن يقوم في الليل.
والأمر ما قبل الأخير: يجب عليك -يا أيها الحبيب- أن تقلل من الطعام في الليل؛ لأن من كثر أكله، كثر نومه، ويروى أن يحيى بن زكريا قال للشيطان: هل قدرت مني في حياتي على شيء؟ قال: مرة واحدة قُدم لك طعام فقمت أُشهِّيه لك، وأُشَهِّيه لك، فشبعت، ثم لم تقم تلك الليلة.
قال: لا جرم لا شبعت بعدها أبداً، فقال الشيطان: لا جرم لا نصحت آدمياً بعدك.
ثم الزم الاستغفار، وأكثر من الاستغفار؛ فمن أكثر من الاستغفار يسَّر الله عز وجل أموره، وكان له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً.
أكثر من ذكر الله عز وجل.
أقلل من فضول الكلام، ولا تكثر من فضول النظر، ومتِّع عينيْك بالنظر في كتاب الله عز وجل، ثم عليك بالدعاء أن يوفقك لخيريْ الدنيا والآخرة.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.(35/27)
ضرورة التدبر في ملكوت الله
السؤال
إن في الحياة لعبراً ودروساً وتجارب، فما رأي فضيلة الشيخ فيمن يخوض غمار هذه الحياة، ويخرج منها كما دخلها، لم تؤثر فيه ولم يُؤَثِر -أو بهذا المعنى-؟
الجواب
نقول: يا أيها الحبيب: إن الله عز وجل يدعونا إلى التدبر في ملكوته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190] {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس:101] الله عز وجل يدعونا إلى التدبر، وأن الإنسان الذي يعيش هذه الحياة ليأكل ويشرب ويتمتع ولا يفكر فيم خُلق، وما الحكمة من خلقه، ولماذا انتدبه الله عز وجل، إن هذا بهيمة في مسلاخ بشر بنص قول الله عز وجل: {أَمْ تَحْسبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان:44].
وفي الآية الأخرى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلًّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يتدبر في ملكوته، وممن يتدبر قرآنه، فيقوده إلى الله سبحانه وتعالى.(35/28)
آخر أخبار الشيخ عائض القرني
السؤال
يا شيخ! ما هي آخر أخبار الشيخ عائض القرني، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
الشيخ عائض -ولله الحمد- في نعمة ومَنّ من الله سبحانه وتعالى، قد أدى جُلَّ ما عليه، وأعذر إلى الله عز وجل، ونسأل الله أن يثبته، وأن يسدده، وأن يؤيده.
ومما يزيده سروراً وغبطة وخيراً ونعمة؛ أن يقوم كل واحد منا بدوره في تبليغ الدعوة إلى الله عز وجل، إن كنت تريد سروره؛ فقم بالدور، وليكن لسان الحال منك والمقال:
إذا سيدٌ منا مضى قام سيدٌ قئول بما قال الكرامُ فعولُ
ثم اعلم -يا أيها الحبيب- أن الابتلاء لازم من لوازم الدعوة الصحيحة: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2] (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
فالابتلاء لازم من لوازم الدعوة الصحيحة.
يقول ابن القيم عليه رحمة الله: دعي الناس إلى الهدى فأقبلوا، ووضع البلاء؛ فثبت الصادقون، وفرَّ الكاذبون: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ) [الرعد:17].
فيزيده سروراً -كما قلت- أن تعلموا هذا العلم، وأن تعلموا أن الابتلاء لازم من لوازم الدعوة، فتوطنوا أنفسكم على ذلك، وتربوا أنفسكم؛ لأن الدلائل والبراهين تُشير إلى أن المرحلة القادمة مرحلة ابتلاء وامتحان، نسأل الله عز وجل إن أراد بعباده فتنة أن يقبضنا إليه غير مفرطين ولا مفتونين، ونسأله أن يحفظ علماءنا، وأن يحفظ طلبة العلم، وأن يحفظنا سبحانه وبحمده، هو ولي ذلك والقادر عليه.(35/29)
أبيات شعرية للشيخ علي القرني
السؤال
فضيلة الشيخ! متعنا الله بعلمك، نود أن تسمعنا إحدى قصائدك، وهل لكم ديوان؟
الجواب
أولاً: يا أيها الأحبة: إني لست بشاعر، وإنما أحاول نظم الشعر، والذي يحاول نظم الشعر اتركوه واستغنوا بالشعراء الفحول الذين خدموا الدعوة، والذين قدَّموا لها ما قدموا، ولكن ما دمت أنك طلبت؛ فسأذكر لك ثلاثة أبيات أختم بها هذا المجلس:
الله أسأل أن يباركَ جمعكم ويمدكم بالفضلِ والخيرِ الأعمْ
والحمدُ للهِ على آلائه ما شع ضوءٌ فوقَ ساحاتِ الحرمْ
ثم الصلاةُ على النبيِ المصطفى ما رفَّ طيرُ في الخمائلِ والحُجُمْ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(35/30)
الجهاد في سبيل الله تعالى
إن الجهاد في سبيل الله هو سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، وإن أعداء الإسلام اليوم من داخل الصفوف وخارجها يتخطفون الأمة من كل جانب، فلا سبيل إلى النجاة ولا مخرج إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
فهذا خالد نازل الكفار في أكثر من معركة فما هزم في واحدة منها لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
أما نحن فقد قست قلوبنا بالشهوات، وأصابتنا العطالة والبطالة والتهور والكسل عن أفرض فرائض الإسلام وأكبر أركان الإسلام، وكذا عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.(36/1)
الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عُمياً، وآذناً صُماً، وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! في زمن الفتن والمحن، إن أردنا أن ندفع عنا غائلة أعدائنا فالشرط قائم شرط وحيد واضعه رب العالمين: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] خطاب للأمة في مجموعها، لا بد أن يكون نصر الله في ثنايا حياتنا في سياستنا، واقتصادنا، وتعليمنا، وإعلامنا في معاهدنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، ومساجدنا، ومنتدياتنا، وأسواقنا؛ ننصر الله بالاستجابة لأوامر الله ننصر الله بالاستجابة لداعي الجهاد على كافة الأصعدة جهاد النفس عن نوازع الهوى، وجهاد أعداء الله، وأصحاب الهوى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
الخفض والرفع بيد الله العز والذل بيد الله، والنصر والهزيمة بيد الله، وقد جعل الله لذلك طريقاً جعل الله للنصر طريقاً، وجعل الله للخلاص طريقاً، فما هو؟
إنه الجهاد في سبيل الله الجهاد طريق إلى الخلاص والحياة بعز.
لا إله إلا الله! كيف صوَّرَه المولى على هيئة مبايعة حقيقتها أن الله اشترى أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، والثمن هو الجنة، والطريق هو الجهاد، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، وسنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها، لا بد للحق أن يكافح، ولا بد لكلمة الله أن تعلو، ولا بد للمقدسات أن تُحفظ وتُصان، مادام في الأرض أعداء للحق وأنصار للشيطان، الجهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن: {من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق}.
أمتي! في زمن الفتنة يجب أن يكون حديث الشباب، والشيوخ، والنساء، والأطفال، عن الجهاد، وعن العدة والاستعداد.
يا أمتي وجب الجهاد فدعي التشدق والصياحْ
ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراحْ
ما عاد يجدينا البكاء على الأقارب والنواحْ
لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماحْ
إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيدٍ فصاحْ(36/2)
واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة
يا عباد الله! يا مسلمون! كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به، ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، لا يفكرون فيما وراء ذلك من عزة نفس، أو علو همة، فكأنهم لا يعقلون.
أولئك الصنف من الناس عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، إذا ما دعا الداعي للجهاد -ومواقف الجهاد تقتضي أن يتنازل الإنسان على رفاهيته، وأن يتخلى عن كثير من ضرورات حياته- إذا ما دعا الداعي هؤلاء نكص كل منهم على عقبيه، ورضي بأن يكون مع الخوالف، وحق عليه قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
ولا إله إلا الله! ما أكثر هذا الصنف بين المسلمين! وهو سبب الذل، والمهانة، والهزيمة، والعار، والهوان.
لكنَّ هناك صنفاً آخر -وإن عزَّ وقلَّ- لا يرضى إلا بالحياة العزيزة الكريمة يرفض العيش في ظل الاستعباد يرفض انتقاص الكرامة.
هذا الصنف إذا ما أذن مؤذن الجهاد: يا خيل الله اركبي! جعل الدنيا بما فيها من زينة وبهجة خلف ظهره، وحمل السلاح، وضحى في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، إنه يُضحي بأسرته؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ويُضحي بأمواله؛ والمال عند الكثير شقيق الروح، ويُضحي بالمسكن؛ والمسكن على القلوب عزيز، كل ذلك في سبيل من فراغ؟
في سبيل الله جل وعلا.
يحمل الإيمان في قلبه كالجبال، قبل أن يحمل السلاح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.(36/3)
خالد بن الوليد مواقف وبطولات
أيها المسلمون: حيرتنا الأحداث المتلاحقة، ولا ندري عم نتكلم وبم نتكلم، وقد تكلمنا ثم تكلمنا، لكن حسبنا أن نقف قليلاً مع سيرة فارس الإسلام مع سيرة ليث المشاهد وسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ليكون لنا نموذجاً في المحن والحوادث، وقدوة في زمن الحيرة، وأسوة في زمن رخص دماء المسلمين، في زمن لم يعد فيه لدم المسلم ثمن، بل قيمته شهوة حاكم، أو جرة قلم قيمته حلم طاغية بالامبراطوريات قيمته رغبة في التسلط وتلذذ بمناظر دماء المسلمين وهي تراق، مأساةٌ أن تذهب الشعوب الإسلامية ضحية أطماع المغامرين.
ما أحرانا أن نرجع إلى سيرة خالد، فنعم القدوة خالد، فهو من اقتدى بقائدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
يأيها الشاب من هذه الأمة في هذا الزمن! بمثل خالد فتأسَّ، وبصحبه فاقتدِ، وعلى سيرته فاعكف؛ فإنها النور والسرور في حوالك الظلام وزمن الحيرة وانطفاء النور.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ
عبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
إنه خالد بن الوليد، مَن أبوه؟
أبوه كافر، صنم من الأصنام، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها.
أخرج الله من صلب الوليد المجرم الكافر خالداً الذي طبع على كل جسده بطابع الشهداء، ومات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء!
إنه أبو سليمان، الذي نازل في أكثر من مائة معركة، فما هزم في واحدة منها، لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
إنه شارب السم إنه المتوكل على الله، يُعرض عليه سم في قارورة كما ذكر ذلك الذهبي في سيره، يقول له مشرك وثني: إن كنتم أيها المسلمون تزعمون أنكم تتوكلون على الله فيكرمكم، فاشرب هذا السم يا خالد ولا تمت أو كما قال، فقال خالد بلسان الواثق من ربه: باسم الله توكلت على الله، ثم شرب القارورة كلها، فلم يصبه إلا العافية، وما زاده ذلك إلا عزة وكرامة.
من هو خالد؟
إنه من احتبس كل شيء في حياته لله دروعه وعتاده وماله في سبيل الله.
فيا من جعل الدنيا أكبر همه، قد جعلها خالد تحت قدميه، فرفع الله ذكره في العالمين.(36/4)
ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خالد
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: {أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله} فكيف يزكي مالاً احتبسه كله في سبيل الله؟!
كيف يزكي دروعاً وسلاحاً وسيوفاً قد جعلها وقفاً في سبيل الله؟!
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله جلَّ وعلا}.
ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون، وهتلر، ولينين، واستالين، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين.
سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلت حيياً خجلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني.
عانقه صلى الله عليه وسلم معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفاً في يده صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك اللحظة أعطاه صلى الله عليه وسلم حقه في الإسلام احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حياً من ظهر ميت كافر عنيد.(36/5)
بطولات خالد يوم معركة مؤتة
وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريباً من معان في أرض الأردن، ويحضرها خالد مع جنود الله مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة؛ زيد، وجعفر، وابن رواحة، فنادى المسلمون بعضُهم بعضاً: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عدداً كثيراً من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله صلى الله عليه وسلم وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.(36/6)
موقف خالد يوم فتح مكة
ويأتي فتح مكة، يوم فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، يوم قال الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] دخل صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهراً، يقول: أقتل به محمداً -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئاً -تشحذه بالسم شهراً فما أغنى عنك- قال لها مرتجزاً:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ
إذ فر صفوان وفر عكرمة
والمسلمون خلفنا في غمغمةْ
يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ
ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.(36/7)
بطولات خالد في قتال المرتدين
ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبو بكر الصديق، فيعرف أن خالداً سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم.
كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بـ أبي سليمان خالد بن الوليد، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض.
وخرج في جيش من أهل بدر، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفاً جداً، كالجبال يمور موراً، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[لا إلى سلمى وإلى أجا، ولكن إلى الله الملتجا]].
لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ.
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وحاز الكنز والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
لما رأى بنو حنيفة خالداً أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، وقتل الله مسيلمة الكذاب، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(36/8)
خالد يوم اليرموك
وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفاً يقاتلون مائتين وأربعين ألفاً، قال بعض المسلمين: [[يا خالد! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه]].
الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي.
لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة: يا خالد! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قال له جرجة: فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد: رحمك الله! عَمِلت قليلاً وأجرت كثيراً.
ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل: يا خالد لماذا جئتم؟
قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لـ عكرمة، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئاً بالماء البارد، وقال: [[يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك]].
وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعده عمر رضي الله عنه، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، ويأتي الأمر أبا عبيدة، فيُخفي كتاب عمر، ولا يخبر خالداً، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالداً، فقال خالد: [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لـ عمر، ولن أقاتل اليوم لـ عمر، ولكني أقاتل لله رب العالمين]] يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق.
ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات أقوياء في الدنيا شجعان للدرهم والريال أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله.
يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ
إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم.
يا أحفاد خالد! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم:
سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا
أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم.
فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة.
اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(36/9)
خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يجاهد خالد لإعلاء كلمة الله، حتى استقرت في غالب أصقاع المعمورة، ويأتي خالد رضي الله عنه بعد أن تنتهي المعارك، بعد أن يسمع (الله أكبر) تدوي في غالب أنحاء المعمورة، يأخذ رضي الله عنه فرسه، ويأتي إلى حمص في أرض الشام، ليعود إلى أهله بعد رحلة الجهاد الطويل، يقبل الناس بعدها على الغنائم وعلى رفع الدور والقصور، ويقبل خالد على آيات الله وكلام الله وذكره كان إذا صلى الفجر أخذ مصحفاً فينشره بين يديه ويقرأ حتى يقترب وقت الظهر.
يقول أهل العلم: كان إذا قرأ يبكي، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن يتحسر على حياته، ووالله ما ضاعت، إنها لحياة محفوظة عند الله، ما شغله عن القرآن إلا الجهاد؟!
فماذا نقول نحن ونحن في زمن الفتن؟! هل شغلنا الجهاد عن القرآن لنعتذر به عند الله يوم القيامة؟! لا والله، بل شغلتنا شهواتنا، ومعاصينا، ولهونا، ولعبنا شغلنا طلب الأماني والسهر على الأغاني، ما شغلنا الجهاد ولا شغلنا القرآن!
أوَّاهُ! في الليلة البهيمة في منتصفها، ما تسمع إلا أصوات الأغاني تفوح -والله- من بيوت المسلمين، لتفري كبد المسلم الغيور.
أوَّاهُ أوَّاهُ الأولى بنا في هذا الوقت أن نعكف على كلام الله نقرؤه ونتدبره.
يا أمة القرآن! اعمروا لياليكم بالقرآن اعمروا لياليكم بذكر الله اعمروا لياليكم بالقيام اتركوا أصوات الشياطين، فالذي لا يحتسب عمره من اليوم، والذي لا يفكر في ثوانيه ودقائقه من الآن فليبكِ على عمره، والله لَيُسْلَبَنَّ عمرُه من بين يديه وهو ينظر، والله لَيَهْلِكَنَّ مالُه وولدُه، فلا يغني ولا يدفع، والله ليُسْأَلَنَّ عن كل شيء يوم القيامة على مرأىً ومسمع.
هاهو خالد! يقف ليُنْهي حياته بالقرآن، أما ليله فقيام وبكاء، وأما نهاره فتدبر لآيات الله، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.(36/10)
خالد أثناء مرض الموت
طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: {من تمنى الشهادة صادقاً من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه}.
قال عند موته: [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] وتفيض روحه إلى الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون!
أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ
ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي(36/11)
حال عمر عند سماعه خبر موت خالد
ويأتي الخبر عمر رضي الله عنه وأرضاه بـ المدينة، وهو الذي يعرف قيمة خالد، فيظل واقفاً يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان، لقد عشتَ سعيداً، ومتَّ حميداً، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي رضي الله عنه ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي]].
فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بـ خالد.
ويأتي رجل إلى عمر، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالداً، قال: [[ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي]] لكن لا صراخ ولا قلقلة.
إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وتأتي وصية خالد لـ عمر: [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي]] فرضي الله عنهم أجمعين.
نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بـ خالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].(36/12)
الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى قيام الساعة
يمضي المسلمون في تاريخهم الطويل، يؤكدون سنة الله في الأرض، فكان لهم النصر عاشوا لعقيدتهم يستعذبون الصعاب في سبيلها، أما إذا تخلوا عن طريق الجهاد فسوف يحيون مستضعفين في الأرض يتخطفهم الناس في كل مكان.
نعم! حين كانوا يخرجون لله يثبت الله أقدامهم وينصرهم على أعدائهم كانوا يخرجون وفي أذهانهم قول محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده! ما من كَلِيْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِمَ، لونه لون دم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل}.
لا إله إلا الله! الجهاد سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، والأمة اليوم يتخطفها الأعداء من كل جانب أعداء من خارجها، وأعداء من داخل صفوفها، ولا مخرج ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
إن الأعداء لا يخشون إلا الأقوياء، فعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، فليكُن بأيدينا مثل السلاح الذي بأيديهم، والسلاح في يد المؤمن يزداد بإيمانه قوة.
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاحْ
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاحْ
شعب بغير عقيدة ورقٌ تذر به الرياحْ
أيها الأخيار! اجمعوا صفوفكم، ووحدوا كلمتكم، وثقوا بربكم، وارغبوا فيما عنده، واستعلوا على متعكم، وعيشوا واقعكم بمعرفة لا بغيبوبة، وتدربوا على فنون الرماية، واخدموا دينكم ما استطعتم، فالله سوف ينصر دينه على أيديكم أو على أيدي غيركم.
اغتنموا الفرصة وادخلوا في الركب، وكونوا من أنصار الله، وأعلوا كلمة الله، وسيروا في موكب الله، وأعِدوا أنفسكم للدفاع عن مقدساتكم، وللذوذ عن كراماتكم، يكتب لكم ربكم النصر والتوفيق.
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة أمثال: خالد، وسعد، وزيد، وجعفر.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم أرنا في الظَّلَمَة يوماً أسود كيوم فرعون، وهامان، وقارون.
اللهم أرنا في صدام ومَن شايعه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع له راية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية.
اللهم آمِنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق علماءنا.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجاءنا.
اللهم لا تسلط علينا البعثيين والملحدين والكافرين.
ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين، ولا مفتونين.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(36/13)
السماء والسماوة
إن سر سمو الجيل الفريد (الصحابة) هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، فهم يعدلون بعدل الله، ويوالون الله ويعادون أعداء الله، ويزنون بميزان الله، وليس عندهم إلا الطمع في رضا الله، والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر.
أما حاضرنا فتجد عموم الأمة -إلا من رحم الله- يتخبطون في داجية لا صباح لها، وأنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمة من الحرائر.
فلابد من الأخذ بمقومات النصر، والاستقاء من نبع الوحي، وتطبيق الكتاب والسنة، والتميز والمفاصلة، والتضحية بالدنيا الزائلة من أجل الآخرة الباقية.(37/1)
سمو ماضينا وسماوة حاضرنا
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافق ونافح في كل وقت وحين.
معشر الإخوة والأخوات والبنين: حياكم الله وأحياكم، وأطال أعماركم، وأحسن أعمالكم، وذخراً للأمة أعدَّكم، تُعْلُون صروحها، وتضمدون جروحها، وتداوون قرُوحها، وللمِلَّة تسْمُون في سماها، وتحمون حماها، وترمون من رماها.
تحية أنفاس الرياض وشى بها نسيمُ هدوء والنواضر هُجَّعُ
فجاءت كأن المسك خالط نفحها لها في أنوف الناشقين تَضُوُّعُ
السماء والسماوة: رمزان لا خفاء.
أيها السُّماة للسماء: السماء رمز الرفعة والسمو والعلاء، والسماوة رمز الشُّقَّة والسَّموم والهلكة والتيه والبيداء، على حد قول ابن الصحراء:
وجشمها بطن السماوة قائظاً وقد أوقدت نار السموم الهواجر
فضرباً معي الليلة في بيداء السماوة بحثاً عن مراقي الشمم والإباء، وكشفاً عن أسرار ومعارج ومدارج السمو للسماء، بعون الله رب الأرض والسماء.
بيد أنه قد يطول الحديث ذلك أن المريض الذي يئن يأرِزُ إلى تسلية نفسه بالحديث، والطبيب مهما كان بارعاً فإن وصفه علمي، والمريض أدرى منه بمرضه وألََمِه، فلعلي أن أقف بكم على الأسباب، وأرتقي السحاب، وأصفي الحساب، وأميز القشر عن اللباب، بدليل الكتاب، وفعل النبي والأصحاب، وذوي الألباب.
فإن وفَيت فحق ذاك في عنقي وإن أقصِّر لأنتم أهل إعذار
وشتان بين السماوة والسما!
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.(37/2)
حقيقة سماوة حاضرنا
معشر الإخوة: إن تفكيراً بعمق وحق، وإرجاعاً للبصر والبصيرة كرَّة بعد أخرى في سماوة واقعنا بعد سمو وسماء ماضينا العريق المنير؛ يجعل البصر يرتد خاسئاً وهو حسير، إذ يرى عموم الأمة دون آحادها اليوم في داجية لا صباح لها يتخبطون {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] لا ينقُلون إلى الأمام قدماً مقبِلين إلا رجعوا إلى الوراء أقداماً مدبِرين، أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأَمَة من الحرائر؛ عجزت أن تتسامى لعُلاهن، أو تتحلى بحُلاهُن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لخدمة ضرة نكاية في ضرة، أشربوا في قلوبهم الذل فرضوا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بفتاتها في إسفاف وسفالة، نزل الشرف من قلوبهم بدار غريبة فلم يُقِم، ونزل الهوان من نفوسهم بدار إقامة فلم يضعن ولم يرم، يحسبون كل صيحة عليهم، ويتوهمون كل حركة من عدوهم شبحاً من الموت يهجم عليهم.
فلو أن برغوثاً على ظهر قملة يكر على الصفين منهم لولَّتِ
اتخذوا الدين قشوراً بلا لباب، وألفاظاً بلا معانٍ، وهيكلاً بلا روح عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى وعيده وزواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته فموهوها بالتضليل، وإلى وحدته فمزقوها بالطرق والنِّحَل والشيع والتحزب والأباطيل، وإلى البراء من عدو الله فميَّعوه باسم التسامح والتقريب، نصَبوا من الأموات هياكل بها يفتتنون، وحولها يقتتلون، ولأجلها يتعادَون.
كعمل الكفار بالأصنامِ قد لعب الشيطان بالأحلامِ
ذُهلوا عن أنفسهم، فلم يحفلوا بحاضرهم، ولم يفكروا في مستقبلهم؛ لأنهم زعموا الغيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، ما كانت أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاضر فحسب، وما غرس شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، بل زرعها للأولين والآخرين.
ولما بلغت الأمة هذه المرتبة الدنية طوقهم عدوهم بأطواق الحديد، فسامهم العذاب الشديد، وأخرجهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، فأصبحوا غرباء، في ديارهم تعساء، حظهم من الريادة والسيادة والسعادة الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس، غطَّاها سحاب الذلة؛ لأنهم أخطئوا طريق العزة، ظنوها في التقدم المادي والتقني فحسب، فذهبوا وراءها:
فإذا السفينة غارقة في أوحالها ودار ابن لقمان على حالها
نسوا أن سبيلهم للعزة عودتهم إلى الدين، كيف وقد قال رسولهم صلوات الله وسلامه عليه: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم} ففعلوا موجبات ذلهم وخذلانهم:
ما هم بأمة أحمد لا والذي فطر السماء
ما هم بأمة خير خلـ ـق الله بدءاً وانتهاء
إن يزرعوا فحصادهم يا حسرتاه كان الهواء
إن يقتلوا فقتيلهم كان المودة والإخاء
ولو استرسل المرء مع خواطره لخشي أن يُفضي به التفكير إلى أن ييأس فيضل في بيداء السماوة، فيهلك أو يُجَن فيرفع عنه القلم فيستريح، وما كلاهما مريح، وما عانٍ كمستريح:
بي منكِ ما لو غدا بالشمس ما طَلَعَتْ من الكآبة أو بالبرق ما ومضا(37/3)
سمو ماضينا وأسرار السمو
ولخشية ذلك كله فإني أنقل نفسي وإياكم إلى سماء القرن الأول؛ لنقف على أسرار سموه للسماء لنقول: هذه هي المراقي فارتقِ هذا هو النموذج لا غيره والمثال فصلاحه ضُرِبَت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التواريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولَهَج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء، فلو نَطَقَت الأرض لأخبرت أنها لم تشهد مذْ دحاها الله وطحاها وبراها أمةً أصلب على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد فئةً اتحدت سرائرُها وظواهرُها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد مذ مهَّدها الله أمةً وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة، فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرح هذه الشهادةَ الواقعُ، ويفسرُها العيان التي لم تحجبه بضعة عشر قرناً من الزمان.
إنها حقائق تاريخية ناطقة ينبغي الوقوف أمامها في كل مكان وزمان.
فقد تنطق الأشياء وهي صوامتٌ وما كل نطق المخبرين كلامُ
لقد خرَّجَتْ تلك الدعوة جيلاً في ذلك القرن فريداً مميزاً في تاريخ الإسلام؛ بل في تاريخ البشرية جميعه جيلاً فريداً في تصوره وشعوره وانتمائه ووضوحه جيلاً اختاره الله لحمل رسالته، ولصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم جيلاً جاءه الوحي على وعي، فتأسس على توحيد، وانطلق بعقيدة، وسار على منهج صحيح.
حمل فكراً سامياً لغاية أسمى زاده التقوى، وشعاره الجهاد، وحصنه الإيمان، وعدته الصبر، وخلقه القرآن، وقدوته سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
أمنيته الشهادة في سبيل الله؛ ليكون الدين كله لله، وغايته تلك مع الجنة ورضوان الله، والذي لا إله إلا هو لولا النقل الصحيح المتواتر القطعي لقيل:
ذاك طيف من خيال
بل هو الشيء المحال
قد تقولون: مُحال!
ذاك ضرب من خيال
قد تقولون ولكني أقول:
إنها تربية السبع الطوال!
لا محال
إنه هدي الكتاب
لا محال
فعلى وقع التلاوات تخضَرُّ التلال
لا محال
إنهم جيل المصاحف
لا محال
إنه جيل المحاريب وأساد النبال
إنهم شم الجبال
لا محال
و
السؤال
لِمَ لَمْ تعُد الأمة تخرِّج مثل ذلك الطراز؟!
أما إنه قد يوجد أفراد وفئة من ذلك الطراز على مدى التاريخ؛ لكنه لا يحدث أن تَجمَّع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في القرن الأول، هذه ظاهرة واضحة ذات مدلول؛ تستحق أن نقف أمامها لعلنا نهتدي إلى السر، كما يقول سيد.
معشر الإخوة: إن قرآن تلك الدعوة في ذلك الجيل لم يزل بين يدينا محفوظاً، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه العملي وسيرته الكريمة بين أيدينا كذلك، لم يغِب سوى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا هو السر؟!
أما إنه لو كان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتمياً لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها ما جعلها الله دعوة للعالمين، وما جعلها آخر رسالة لأهل الأرض أجمعين.
إن الله قد تكفل بحفظ الذكر، وبيَّن أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تؤتي ثمارها، فاختاره الله سبحانه وتعالى إلى جواره، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان؛ وعلى هذا فإن غَيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسر تلك الظاهرة، فما السر إذاً مرة أخرى؟!
هل تغير النبع؟!
هل تغير المنهج الذي تربوا عليه؟!
مهما تقادم جوهر في عتقه فهو الثمين وليس يبرح جوهرا
إن السر يكمن في أمور:
خذها إليك درة من الدرر من كاتب راز الأمور وخبر(37/4)
توحيد مصدر التلقي عند الجيل الأول
إن الصحابة رضوان الله عليهم جعلوا القرآن والسنة النبع الوحيد الذي منه يستقون وينهلون، وبه يتكيفون، وفي رياضه يتربون، وعليه يتخرجون، ما نظروا مجرد النظر إلى رواسب الثقافات العالمية التي كانت في ذلك العصر وما قبله، رغم أن بعض هذه الثقافات كانت محيطة بـ الجزيرة؛ بل كان بعضها يعيش داخل الجزيرة، بل لم ينظروا إلى الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وإنما اقتصروا على كتاب الله وحده، فخلُصت نفوسهم لله وحده، واستقام عودهم على منهجه وحده.
مرادهم الإله فلا رياءُ ونهجهم الكتاب فلا ارتيابُ
ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت فيهم هذا القول، ويأطرهم عليه، ويحذرهم من مصادر التلقي الأخرى، وحاله:
فيا قلب اعص كل هوى سواها ويا نفس سواها لا تطيعي(37/5)
مصدر التلقي عند عمر بن الخطاب
روى الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه -رحمهما الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: {أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عمر يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعر ويتغير، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: ثكلتك الثواكل يا بن الخطاب! ألا ترى ما لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! -وفي رواية- أن عبد الله بن زيد قال: أمسخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فقال صلى الله عليه وسلم: أمُتَهَوِّكون فيها يا بن الخطاب؟! ألَمْ آتِكم بها بيضاء نقية؟ والذي نفسي بيده! لو بدا لكم موسى فتبعتموه وتركتموني لضللتم سواء السبيل، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني}.
لقد كان درساً عظيماً بليغاً للصحابة ومن بعدهم، فحواه:
عُد إلى الروضة إن الغيث يهمي في روابيها ويكسوها جمالا(37/6)
تربية النبي صلى الله عليه وسلم للجيل الأول
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يربي جيلاً خالص القلب والعقل والتطور والشعور خالص التكوين من أي مؤثر غير المنهج الإلهي الذي تضمنه القرآن الكريم، كيف وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: {تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي}.
ولما اختلطت الينابيع، وشيبت -معشر الإخوة- والتفت الجيل إلى غير ذلك النبع الصافي، انحط وسقط وخار وبار، وصار كالحيوان الأعجم يقع على الجواهر فيدوسها برجله، لا يعلم إلا أنها من جنس ما يُداس؛ لأنها لا تؤكل، فظهرت فئة مزورة لا صلة لها بذلك النبع إلا بما لا كف لها في اسمها ولقبها، فئة ترى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالالتفات عن ذلك، والانغماس في ثقافة الكافر من غير قيد ولا تحفظ
تعمل لهذا جاهدة، يُسِرُّ المسر منهم كيداً، ويُعْلِن المعلن منهم ذلك وقاحةً يتهارشون على وأد ذلك النبع الصافي وتجفيفه، مُجْلِبين بألسنتهم وأقلامهم، أُتْخِموا من تلك الينابيع، ثم شرعوا يتقيئونها في أذهان الجيل؛ بحجة التطوير والرقي والسمو زعموا! تعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظهر العمل، وفي إدارة الكلام، يتخلل أحدُهم تخلل الباقرة، تعرفهم في اللفتات العامة، تلمحهم في أسباب معيشتهم الشخصية؛ لكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتُهم أصحاب الينابيع المختلطة النتنة.
سادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأن القشور إنما يُلْتَفَت إليها بعد تحصيل اللباب، وأن الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأن الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير ما ينفع؛ لكن هذه الفئة البائسة تفعل عكس ذلك كله، وتختصر الطريق إلى اللهو لتُرْضِي شهواتها، وإلى الكماليات؛ لأن لها بريقاً هو حظ العين، وإن لم يكن للعقل منه شيء.
عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تُتَرْجم في جملة واحدة هي: أن النجاة في الغرق!
فئة تلبس باسم الإسلام، وتأكل الخبز باسمه؛ لكنها لا تعمل ما يرضيه، ولا تبني ما يعليه ترفع العقيرة باسمه فتفضحها رطانة الأنباط، وتربط نفسها معه بمثل خيط العنكبوت فينحل الرباط، فجاءت أفكارهم فاسدة كأنتن من جيفة هدهد ميت كُفِّن في جورب مسافر أبخر في شدة القيظ لم يمسه الماء أشهراً، بل أنتن من حلتيت، وأثقل من كبريت، وأهدى إلى الضلال من دليل خِرِّيت.
يجرون الذيول على المخازي وقد ملئت من الغش الجيوب
انسلخوا من هويتهم، ولم يندمجوا في حضارة سادتهم المادية، فصاروا كالمرأة المعلقة، لا مزوجة ولا مطلقة!
فتَبَّاً وسُحقاً وهلاكاً وبُعداً في بيداء السماوة، أجمعوا أمركم ثم ائتوا صفاً، فما أنتم ببالغين من الحق إلا ما يبلغه مَن يريد أن يغطي على الشمس بكُمِّه، وهو لا يعلم أن مِن وراء كمه أرض الله الواسعة.(37/7)
سماوة الجيل الحاضر ومصدر التلقي
معشر الإخوة والبنين: ولما التفتت وسائل التوجيه والتربية في الأمة إلى غير ذلك النبع الصافي ضاعت هويتها، فصارت كمن ينقش شوكة بشوكة، فتنكسر الشوكة التي استخدمت لإزالة تلك الشوكة، فتجتمع شوكة بشوكة -كما قيل-
إنك لتسمع من يقول ببلاهة وغباء وبلادة لمن يدعو إلى العودة إلى ذلك النبع الصافي إلى الوحي: أنتم خياليون، تعتمدون على الماضي، وتتكلون على الموتى، يستهزئ في معرض النصح، ولا ندري متى صار إبليس مذكراً!!
ومن الرزية عاهرٌ مُتَوَهَّم في الناسكين وناسكٌ في العهر
يريد أن ننسى ماضينا، حتى إذا استيقظنا من تنويمه لم نجد ماضياً نبني عليه حاضرنا، فاندمجنا في حاضره المرير، خاب وخَسِر وعُرِّي وهُرِّي، وقُطِّع وفُرِّي، وأُحْرِقَ وذُرِّي، تطوع لهذا العمل أم كُرِّي.
يا هر لو قال ليث الغاب قولكمُ لاستنكف الفار إن قالوا له أسدُ
...
فقبح وفدهم من وفد قوم ولا لُقُوا التحية والسلاما
أفرزت هذه لنا جيلاً على درجة من الضعف الخُلُقي والعقلي، يعتقد في قرارة نفسه أنه خلق خلقة الأرنب، وخلق عدوه المفتون به خلقة الأسد، وجف القلم، ولا تبديل لخلق الله:
إذا صوَّت العصفور طار فؤادُهُ وليث حديد الناب عند السرائد
يبيع دينه بعرض من الدنيا طلوع الشمس عنده ليل يلعن الشيطان ويتبع خطواته
أقواله ألفاظ زور مالها معنى وصوت كالطبول مجوفه
ما عنده إلا البلادة والقماءة والسفاهة والخنا والعجرفه
ولا عجب! فقد جاءته وسائل التوجيه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضت عليه النوائح في موكب الفرح، وأرادت علاجه من الفقر فعالجته بالفقر والجهل ومعه الذل، وحاولت علاجه من الحمى فداوته بالطاعون قيدته بحديد بعد أن قصت ريشه، ثم قالت له: انشد وغرد وأنى له؟!
ما حيلة العصفور قصُّوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غردِ!
...
إنما تطرب أذن حرة إنما يسعد قلب مطمئنْ
معشر الإخوة: ذلك الجيل استقى من النبع الصافي وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد إنه السماء.
وهذا الجيل استقى من ينابيع مختلطة آسنة، فهلك في بيداء السماوة، وكلٌّ يجني عواقب ما زرع.
وشتان ما بين السماء والسماوة!
هذه هي الحقيقة، فلا تلبسها ثوب زور، فلا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه.
صرح أبن فالخير في التصريحِ قد تبرأ العلة بالتشريحِ(37/8)
العمل بالكتاب والسنة عند الجيل الأول
ثانياً: أن ذلكم الجيل قد جعل القرآن الكريم والسنة منهج تلقٍ للتنفيذ والعمل والتطبيق، لا منهج دراسة ومتعة، كما هو حال كثير من الأجيال التي خلفت ذلك الجيل الفريد.
وما السيف من غير أبطاله! وما العين من غير إنسانها!
إن أولئك لم يكونوا يقرءون القرآن لقصد الثقافة والاطلاع وزيادة الحصيلة الفقهية فحسب! بل كان الواحد منهم يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن المجتمع الذي يعيش فيه وشأن الحياة التي يحياها يتلقى ذلك كله ليعمل به فور سماعه وحاله:
أنا بالله عزيز لا بعزى أو مناة
معي القرآن أتلو هـ فيحيي لي مواتي
استبانت غايتي من آية في الذارياتِ
فتح هذا الشعورُ لهم من القرآن آفاقاً لم تكن لتُفْتَح لهم بغيره، ويسر لهم العمل، وخفف عنهم ثقل الأعباء والتكاليف، حوَّل مسار حياتهم إلى الاتجاه الصحيح، فحالهم:
دوى القران أيا نفوس فأوِّبي شوقاً إلى خُضُر الجنان ورددي
ولو أنهم قصدوا القرآن بشعور البحث والدراسة والاطلاع والثقافة ما كان لهم ما كان:
إن المخالب في يدَي ليث الوغى قضب وفي يد غيره أظفارُ(37/9)
تطبيق الكتاب والسنة عند السعدين
لما تحزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح قادة المشركين على ثلث ثمار المدينة ويرجعوا، كل ذلك رفقاً بأصحابه، فاستشار السعدَين رضي الله عنهما، فقالا في غاية الاستسلام لله، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أأمر أمرك الله لا بد من العمل به فسمعاً وطاعة لله؟ أم أمر تحبه يا رسول الله! فما تحبه مقدم على كل شيء؟ أم شيء تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم؛ لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! لقد كنا وهؤلاء على الشرك بالله، والله ما يطمعون ثمرة من ثمار المدينة إلا قِرَىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا؟! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين} {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
هذا البيان فقل لمن قد ضل دون نقيضِهِ
صمتاً فذا أسد الكلا م فما طنينُ بعوضِهِ!(37/10)
العمل بالكتاب والسنة عند الصديق
وها هو الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت من أمره شيئاً أن أزيغ]] {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إنه الصدِّيق اتخذ الله معبوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دليله وإمامه، فرجح إيمانه.
فحفت به العلياء من كل جانبٍ كما حف أرجاءَ العيون المحاجرُ
لما أشار بعض المسلمين على أبي بكر رضي الله عنه بألا يبعث جيش أسامة لاحتياجه إليه، قال: [[والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصيه ميتاً!]] فأنفذه.
فانقاد كُرهاً من أبى واستكبرا
ثم أعلنها حرباً على المرتدين، فقيل له: [[إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَناقاً أو عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه]] فنصر الله به دين الله:
قاد السفينَ بجرأة ومهارة كالطَّود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ
وارتدت العرب الغلاظ فأشفقتْ همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟
والله لو منعوا عِقال نويقةٍ أدَّوه نحو المصطفى لن يَسلَموا
ومضى أبو بكر لغايته إلى أن أخضع المرتد وهو مرغمُ
هذا هو الإسلام في عليائه مُثُلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ
ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وتلك سهلة بالدعوى واللسان؛ لكنها صعبة عند التحقيق والامتحان.
الرضا -معشر الإخوة-: كمال الانقياد والاستسلام لأوامر الله ونواهيه، ولو خالف المرء شيخه وطائفته ومذهبه وهوى نفسه.
مستمسكاً بعرى العقيدة تابعاً ولغير شرع الله لا يستسلمُ
لا يوقف تنفيذ قول الأوامر على قول شيخه أو طائفته؛ فإن أذنوا نفذ وقَبِل وإلا أعرض ولم ينفذ، وفوض الأمر لهم، والله لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بهذه الحال.
كما قال ابن القيم رحمه الله.
والحق مثل الشمس يجمل ضوؤه للمبصرين ولا يروق لأرمدِ
...
ووالله ما الأبصار تنفع أهلَها إذا لم يكن للمبصرين بصائرُ
معشر الإخوة: ذلك الجيل أسلم واستسلم وانقاد لحكم الله بلا خيار: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
وبلا تنطع في البحث عن الحكمة والعلة؛ لأن ذلك ينافي التسليم والانقياد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
وبلا حرج في النفس عند تطبيق النص الشرعي: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
شعارهم: (بِمَ أمر ربنا؟) لا (لِمَ أمر ربنا؟) فكانوا السماء، فاسلك طريقهم، فلئن سلكتَها لقد سبقت سبقاً بعيداً إلى السمو والسماء، ولئن أخذت يميناً أو شمالاً لقد ضللت ضلالاً بعيداً، وهلكت في البيداء، وشتان ما بين السماوة والسماء!(37/11)
تطبيق الكتاب والسنة عند نساء الصحابة
تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أبو داود رحمه الله: {إن لنساء قريش فضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل منهن، لما نزل قول الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] انقلب رجالُهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فما منهن امرأة إلا قامت إلى مُرْطها فاعتجرت به وغطَّت رأسها؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتاب}.
فمن لم يكن حسنها في الحجابِ فسخريةٌ عَدُّها في الحسانِ
...
يا رُب أنثى لها دين لها أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدبِ
ويختلط الرجال والنساء في الطرق عند الخروج من المسجد، فيقول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في سنن أبي داوُد: {استأخرن عليكن بِحافَات الطريق} فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
معشر الإخوة والأخوات: هذه شامة تهدى لمن بهرتهم مدنية الغرب، فصنعت لهم الصنم، وألهتم عن جلال الحرم، فلم يبق عندهم قيس يحن لليلى بين الشعاب، بل صار يتمنى أن يراها بلا حجاب، بل يشهد جمالها عارية بلا ثياب، لتصبح وتمسي في تباب، واشتبهت عندها الحمائم والصقور، والغراب بالقراب، واليافع بالكعاب.
كأنه زَبَدٌ والبحر يقذفه والشط يأنفه والحل والحرمُ
إنها -يا فتاة الإسلام- ليست مسألة حجاب فقط، إنها عقيدة وشريعة إنها استسلام وتعظيم وحب لله إنها مسألة واحدة: أن تكوني أو لا تكوني.
هو الخبر اليقين وما سواه أحاديث المنى والترهات(37/12)
تطبيق السنة عند ابن رواحة
يُقبل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يوجه الأمر للواقفين: {اجلسوا، فجلس مكانه خارج المسجد، مستسلماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم حكمة ذلك الأمر، حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خُطبته وعلم بذلك، فقال: زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله}.
إن للإيمان ناس كالأسُدْ فتشبه إن من يؤمن يَسُدْ
لما وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، صلى معه العصر رجلٌ، ثم مر على قوم من الأنصار يصلون إلى بيت المقدس، فقال: [[أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وُجِّه نحو الكعبة]] وهم ركوعٌ فانحرفوا، ما راجعوا وما ترددوا، وما رءوسَهم رفعوا حتى امتثلوا، على مثلهم ينطبق قول الله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
وما يستوي الفِتْن فيه الغبار وإن أشبه الكحل الأكحلُُ(37/13)
أبو طلحة وتطبيقه لكتاب الله
وفي صحيح البخاري: أنه لما نزل قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قام أبو طلحة رضي الله عنه، فقال: {يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ ذاك مال رابح ذاك مال رابح! قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله} وحاله:
نفسي الفداء ثم أمي وأبي لصاحب المعراج أحمد النبي
تعودوا هاك، ولم يتعودوا هات، ولكل امرئ ما تعود.
عزفت أنفسهم عن قول: لا فهي لا تعرف إلا هي لك
يا حي يا قيوم فاجمعنا بهم في الخلد إنا لم تحد عن حبهم
في أواخر حياته عكف على القرآن، وبينا هو يقرأ في (براءة) قول الله: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] قال لأبنائه: [[جهزوني! قالوا: نحن نغزو عنك قد عذرك الله، قال: أي بني! والله ما أرى إلا أن الله استنفرنا شيوخاً وشباناً فجهزوني]].
يشبه الرعدَ إذا الرعدُ رجفْ يشبه البرقَ إذا البرقُ خطفْ
جهزوه وغزا في البحر ومات فيه، فلم يجدوا له جزيرة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام أو تسعة، لم يتغير رضي الله عنه وأرضاه.
لو كان هذا الدهر شخصاً ناطقاً أثنى عليه بنثره وقصيدهِ
أو كان ليلاً كان ليلة قدرهِ أو كان يوماً كان يومي عيدهِ
...
إيهٍ إيه!
علِّم القوم نهوضاً للسما فشعار القوم كل واشرب ونَمْ
إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سواهما حُلُم.
يا مفني العمر في التفتيش عن حلم لو كان يُدرَكُ ما كان اسمه الحلما
معشر الإخوة! خير الناس ذلك القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم.
هم الرجال وقد جاءوا على قدر هم الذين إذا ما عاهدوا صدقوا(37/14)
تطبيق السنة عند الشافعي وأحمد
سأل الإمامَ الشافعي وهو بـ مصر رجلٌ عن مسألة، فأفتاه بقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ فارتَعَدَ الإمام الشافعي، واصفر لونه، وقال: أرأيت في وسطي زناراً؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟! ويحك! أيُّ أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم أقل به؟! نعم! أقول به وعلى الرأس والعينين، متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأشهدكم -أيها الناس- أن عقلي قد ذهب حاله: والله يميناً براً لو تبرجت الآراء في بقللها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى رأي غيره لما رأيت لي عنه عديلاً، ولا اتخذت به بديلاً.
إذا رأيتَ الهوى في أمه حكما فحكم هنالك أن العقل قد ذهبا
أخي:
وما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو وإن حذوت على مثالي
يختفي شيخ أهل السنة وإمام هذه الأمة أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- في المحنة عند ابن هانئ ثلاثة أيام -أيام الواثق - ثم قال لـ ابن هانئ بعد ثلاثة أيام: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه، فقال ابن هانئ: لا آمن عليك يا أبا عبد الله، قال: افعل إن فعلت أفَدْتُك، قال ابن هانئ: فطلبت له موضعاً، فلما خرج قلت له: الفائدة يا إمام، قال: لقد اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، وليس ينبغي أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ويترك في الشدة:
فيرحم الرحمن ذلك العلمْ الزاهد العابد قمة القممْ
وفارس المعقول والمنقولِ المقتفي لسنة الرسولِ
ونشهد الله على محبتهْ جَمَعنا الله معاً في جنتهْ
هذا هو النهج الذي سما بأولئك إنه التلقي للتنفيذ والعمل(37/15)
تطبيق الوحي عند الأجيال المتأخرة
ولما أخذت الأجيال المتأخرة الوحي للدارسة والمتعة خرج لنا هذا الجيل الهالك في بيداء السماوة في مجمله:
لكل جماعة فيهم إمامٌ ولكن الجميع بلا إمامِ
...
ليسوا بأحياء ولكنهم تسمعُ من أفواههم أحرفُ
وشتان ما بين السماوة والسما!
أيها الجيل: ليس بعد نبينا نبي، ولا بعد كتابنا كتاب، ولا بعد أمتنا أمة، الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماً {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] فاقصد البحر وخلِّ القنوات.
وإذا أتى نهر الله بطل نهر معقِلِ
وفي طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ
...
فاستذكرن آثارك الخوالدا ومجدك الفذ الصريح التالدا
واقتبس الأصول منه والسننْ ولتسمون بها الهضاب والفُننْ
وكن أخي في الرأي والإعدادِ من عصبة الزبير والمقدادِ
وشتان ما بين السماوة والسما!(37/16)
صدق التميز والمفاصلة مع الكفر وأهله عند الجيل الأول
فإن عبودية الله لا تسمح بموالاة أي عدو لله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22].
لقد تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم عن المجتمع الجاهلي تميزاً واضحاً في كل شيء؛ ظاهراً وباطناً كما يقول سيد.
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويبدأ عهداً جديداً منفصلاً كل الانفصال عن حياته الجاهلية، ويقف من كل ما عهده في جاهليته موقف الحذِر المتخوف الهائب المستريب.
متيقظاً في كل جارحة له مخصوصة قلبٌ وعينٌ تنظرُ
قد عاش عزلة شعورية كاملة بين ماضيه في جاهليته وغوايته، وحاضره في إسلامه وهدايته عزلة شعورية في صِلاته وروابطه الاجتماعية، حتى وهو يتعامل معهم في عالم التجارة اليومي انخلاع من البيئة الجاهلية وعرفها وتصوراتها، وعاداتها وتقاليدها، وانضمامه إلى المجتمع الإسلامي في ولائه وطاعته وتبعيته، في تخفف وانسلاخ من ضغط العادة والتقليد والتصور والقيم السائدة البائدة، فكان ذلك الجيل المتميز، حاله:
من كان منا فإنا منه ومن شذ رُدَّا
ليس الفتى من توارى إن الفتى مَن تصدَّى
ومن تسربل عزاً لم يستر الذل بُرْدا(37/17)
مفاصلة عمر الفاروق للكفر وأهله
لما أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه قال المشركون: [[صبأت، فقال عمر: كذبتم! ولكني أسلمت وصدَّقت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيى من التعب فقعد، فقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم! أحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا]]، وحاله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55].
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنا لا نحبكمُ ولا نلومكمُ ألا تحبونا
كلٌ له نية في بغض صاحبه بالله نبغضكم دوماً وتقلونا
الله أكبر! ما كان بين إسلامه رضي الله عنه وبين أن قاتلهم وقاتلوه، وقال: [[افعلوا ما بدا لكم]] إلا سويعات عديدة، وحاله:
إذا كان قلبي لا يغار لدينه فما هو لي قلب ولا أنا صاحبه
إنه التميز والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله، ورفض الالتقاء في منتصف الطريق.
إنه الفاروق الذي جاءه أبو سفيان من أشراف قومه ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شد عقد الحديبية، فقال له ببراء من أعداء الله: [[أنا أشفع لكم؟! والله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به]] حاله: كان العيش معهم والشفاعة لهم ممكنة.
ولكنهم ركبوا مسلكاً يحيد عن الجسد المشرقِ
وقد ولي الأمر منهم رجالٌ يخالف منطقهم منطقي
نأوا عن هدى الله في نهجهم وساروا وسرتُ فلم نلتقِ
إنه على بصيرة من دينه واثق بمنهجه موقن برسالته لو شك الناس -جميعًا- في الحق ما شك فيه؛ لأنه يفترض أنه خلق وحده، وكلف بالحق وحده، وسيحاسب عليه وحده.
وعلى مقادير الرجال فعالهم قطع المهند تابعٌ لحديدهِ(37/18)
ثمامة بن أثال ومفاصلته للكفر وأهله
أخرج الشيخان {أن ثمامة سيد أهل اليمامة وقع في الأسر ورُبط في سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم إساره، ثم قال: أطلقوا ثمامة، فرغب في الإسلام، وتغيرت الصورة القاتمة التي كان يحملها عن الإسلام إلى صورة مشرقة استنارت بها بصيرته، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد وشهد الشهادتين، ثم قال: يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه ولا دين ولا بلد أبغض عندي من وجهك ودينك وبلدك، فقد أصبحت أحب الوجوه كلها، والدين كله، والبلاد كلها إلي، يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر}.
انجلت الرغوة عن اللبن الصريح ولا يصح إلا الصحيح، محيت ألوان الغشاوة التي كانت مهيمنة على قلبه، فأعلن بدء تاريخ جديد يمحو به آثار ما سلف، ويتميز به ويفاصل في عزة وأنف.
رُوي أنه قدم مكة فلبى، فأخذته قريش، وقالوا: [[لقد اجترأت علينا والله لولا ما بيننا وبينك لقتلناك، أصبوت؟! قال: ما صبوت ولكني أسلمت لله، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
حاله:
ولقد وجدت ولاء قوم سُبةً فاجعل ولاءك للعزيز الأكرم
لم يكن بائع كلام، ولا مكثر أوهام، قام بتنفيذ التهديد، ومنع عنهم الحنطة حتى اضطروا خاضعين إلى أن يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ متوسلين قائلين: [[إنك تأمر بصلة الرحم، وقد قطعت أرحامنا قتلت آباءنا بالسيف وأبناءنا بالجوع]] فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهم بحمل الحنطة إلى مكة، فامتثل وفعل، كيف ورسول الله قد أمر.
ولو تقطع جذع عن منابته ماتت على غصنها تلك العناقيدُ
مفاصلة حاسمة، وفكر نزيه، وتميز صريح، وهدىً صحيح، خاب من قال فلم يفعل، فما يفلح القائل حتى يفعل.
إنه التميز الذي جعل من ذلك الشاعر الذي كان يستعدي على المسلمين، ويسمهم بالسفه وسوء الاختيار قبل إسلامه، يستعلي على تلك الكلمات والموروثات التي كان يفاخر بها؛ قيل له بعد إسلامه: [[أنشدنا من شعرك؟ فقال: لقد أبدلني الله من الشعر الزهراوين: البقرة وآل عمران، لا أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير]] تميز محسوس، وتحول ملموس، ولا يكابر في المحسوس إلا ممسوس
قد فاته أن الهداية بلسمٌ ومذاق طعم الشهد لن يتغيرا(37/19)
التميز والمفاصلة عند الجيل الحاضر
معشر الإخوة! ولما حاد هذا الجيل عن تلك المفاصلة والعزلة، والتميز والترفع على مبادئ ومظاهر الجاهلية، تلوث وتأثر بقدر حيدته عن ذلك النهج، فمستقل ومستكثر، فلو نظرت إلى مدن الجيل وقراه من مرقب عال، وسَبَرت حاله في مجمله؛ لم تميز بينه وبين مجتمع المغضوب عليهم والضالين إلا في بعض المظاهر والشعارات والآثار واللوحات لهث وراء المادة في غير اقتصاد اكتساب من غير احتساب سهر في غير طاعة عمل بغير نية تجارة في لهو عن ذكر الله ولاء لعدو الله حرفة في جهل بدين الله وظيفة في الإخلاص لغير الله أحكام في مشاقة الله شغلٌ في ضلالة قعود في بطالة حياة في غفلة وجهالة وشتات وفرقة.
أمة لمن تتميز.
فهي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوى الطربا
أمة قد فت في ساعدها بغضُها الأهلَ وحبُّ الغُرَبا
...
أمتي من بعد طول الـ ـنوم صارت غفلويه
صدَّقت كل خِداعٍ من غوي وغوية
واستكانت لخداع الذْ ئب من غير رويه
نزلت من حصنها العا لي إلى أرض دنيه
لترى ما لدى النا صح من دنيا هنيه
ثم جاء الذئب فانقـ ضَ بأنياب قوية
كيف ينقض عليها؟ كيف يرميها ضحيه؟
وكتاب الله يهديـ ـها ألا هيا إِلَيَّه
كيف تمسي بخبيث الـ ـمكر لقمات هنيه
فرأى تقسيم أوصا لٍ لها في الجاهليه
ورمى أقوامها الكُثْـ ـر بداء الفوضويه
وبأفكار زُيوفٍ محدثات زخرفيه
بقي الحصن ولا حرْ اس يحمون الرعيه
ضحك الباغي عليها بأخاديع ذكيه
فاستجابت بغباء عمل الشاة الضحيه
ساقها الجزار للذ بح إلى أرض قصيه
وقف الباغي ينادي الـ ـقوم هل ثم بقيه؟
سوف لا أترككم إلْا شقياً أو شقيه
هذه روح القضية هل سنصحوا للبليه؟
بِمَ نصحو؟
بكتاب الله والسنْـ ـنَة والأيدي القويه
بولاءٍ وبراءٍ ومبادٍ عقديه
وجيوش تهزم البا غي وتسقيه المنيه
وعلى هذا! فلن تستقيم قيم الإسلام إلا بتميز ومفاصلة وبراءة، واستعلاء على القيم المنحرفة واعتزال لها، وعدم تعديل قيمنا وتصوراتنا لتلتقي معها على أي حال كان، وما يلقاها إلا الصابرون
إنه الوقوف والصمود بوجه المجتمع المخالف، والمنطق السائد، والأفكار والتصورات، والانحرافات والنزوات، والواقف قد يشعر بالوهن ما لم يأوِ إلى ربه ومولاه
واللهُ لن يترك المؤمن وحيداً حين يعلم صدقه يواجه الضغط، وينوء بالثقل، ويهزه الوهن: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
إن أعداء الله ومبادئهم كذوات السموم؛ نحن معها على افتراق وبراء وعداء حتى يدخلوا في ديننا.
هل لمحتم طيبة من حيةٍ؟! أو لمستم رقة من عقربِ؟!
إنَّا حين نسايرها ولو خطوة واحدة فإنا نفقد الطريق إلى العلياء، ونتيه في بيداء السماوة أذلاء، وحين نتميز ونفاصل ولا نلتقي إلا على نبع الوحي الصافي نكون بحق أجلاء الرفعة والعلاء، وأهل العطاء والسمو للسماء.
وشتان ما بين السماوة والسما!(37/20)
معرفة المنهج الصحيح لمنزلة الدنيا من الآخرة عند الجيل الأول
علموا أن لذة الآخرة أعظم وأدوم وألَمَها كذلك، ولذة الدنيا أصغر وأحقر وألَمَها كذلك، فتركوا أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتملوا أيسر الألمين لدفع أعلاهما حسموا في قلوبهم كل أرجحة ولجلجة بين قيم الدنيا والآخرة خلَّصوا قلوبهم من وشيجة غريبة تحول بينهم وبين التجرد لله، والخلوص له وحده دون ما سواه، وحال أحدهم:
بما في فؤادي يبوح الفمُ ويجهل غير الذي أعلمُ(37/21)
حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم هن من البشر، ولهن مشاعر البشر على فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة لما رأين السعة والرخاء بما أفاء الله على رسوله وعلى المؤمنين؛ راجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة، فلم يستقبل هذا الأمر بالرضا؛ لأنه كان يريد أن تظل حياته وحياة من يتصلون به على أفق سامٍ وضيءٍ، مبرئاً من كل ظل للدنيا وأوشابها، لا لحرمة السعة؛ ولكن للاستعلاء على جواذب الأرض الرخيصة.
يشقى الحريص أبداً بحرصه لو شرب الأنهار طراً ما ارتوى
لو ابتنى فوق الثريا سكناً هوى به الحرص إلى جوف الثرى
احتجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: طلق نساءه حين اعتزلهن، وأنزل الله آية التخيير، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:28 - 29] بدأ صلوات الله وسلامه عليه بأحب نسائه إليه عائشة ليُعْلَم أن محبة الله فوق كل محبة، فتلا عليها الآية، وقال: {لا تعجلي حتى تستأمري أبويكِ، فقالت: أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة} فما عرض على امرأة غيرها من نسائه إلا اختارت الله ورسوله والدار الآخرة.
تالله ما عقل امرؤٌ قد با ع ما يبقى بما هو مضمحل فانِ
...
ليس من يجعل العقيدة نهجاً كالذي ينتمي إليها شعارا
هذا هو الميزان الدقيق في نفوس الأصحاب، استمدوه من كتاب الله وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشوه في واقع حياتهم، فحُقَّ لهم أن يسودوا ويقودوا.
فيوماً على نجد وغارات أهله ويوماً بأرض ذات شَت وعرعرٍ
صح عند مسلم عن جابر رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس حوله، فوجد جدياً أسك ميتاً، فتناوله بأصل أذنه، ثم قال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم}.
هكذا يا معشر الإخوة! رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا والرغبة في الأخرى، فتركهم من بعده جبالاً شُمَّاً، كلٌّ يسير مفرداً كأمة.
هادر كالأسد الزائر مرغٍ مزبدُ لهب ملتهم محتدم متقدُ
والله لأن تؤخذ المدية، فتوضع في حلق أحدهم لتنفذ من الجانب الآخر؛ أهون عنده من أن تكون الدنيا مقدَّمة على الآخرة، وهي عند الله أهون من جناح بعوضة.
وحاله:
لا أشرئب إلى ما لم يكن طمعاً ولا أبيت على ما فات حسرانا
...
ليس الوقوف على الأبواب من خلقي ولا التمسح بالأعتاب من عملي(37/22)
أبو عقيل الأنصاري وإيثاره الآخرة على الدنيا
لما كان يوم اليمامة، واصطف الناس، وبدأ القتال، رُمِي أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأُخْرِج السهم ووهن له شقه الأيسر، وجُرَّ إلى الرَّحْل، ولما حمي القتال وانهزم المسلمون في أول المعركة، وهو واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: [[يا للأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، يقول ابن عمر رضي الله عنهم: فنهض أبو عقيل يريد قومة، فقلت: ما تريد ما فيك قتال؟! قال: قد نوَّه المنادي باسمي يا ابن عمر، فقال ابن عمر: إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني: الجرحى، فقال أبو عقيل: لقد نوَّه المنادي باسمي وأنا من الأنصار، ولا والله الذي لا إله إلا هو لأجيبنه ولو حبواً]].
إن الطيور وإن قصصت جناحهاتسمو بفطرتها إلى الطيرانِ
يقول ابن عمر: [[فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف باليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرة كيوم حنين كرة كيوم حنين، يا خيل الله اثبتي، وبالجنة أبشري]].
يتقدم الصفوف محرضاً والحرب تقذف تياراً بتيارِ
...
كالماء أعذب ما يكون وإنه لأشد ما يصبو على النيرانِ
يقول ابن عمر: [[فنظرت إليه وقد قطعت يده المجروحة من المنكب ووقعت على الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها خلصت إلى مقتل، وهو صريع في آخر رمق، وقد هزم الله عدوه ونصر جنده، فوقفتُ عليه، وقلت: أبا عقيل فقال بلسانٍ ملتاث: لبيك! لمن العاقبة؟ قلت: أبشر قد قُتِل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ثم لقي الله]].
صامتاً ليس يطيل الكَلِمَا وهو بالصمت يربي الأمما
...
فلولا احتقار الأسد شبهتها به ولكنها معدودة في البهائمِ
...
ما كان للزهرات لولا أنها هتكت حجاب الكُم أن تتوردا
قد قيدوك فما أطقت قيودهم والحر يأبى أن يعيش مقيدا
علم أن الدنيا بأسرها قليلة، وبقاءها من أولها إلى آخرها قليل، ونصيبه من هذا القليل قليل، ورأى غيره يبذل روحه ليظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، فبذل أعز ما يبذله نفسَه، وحالُه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
لم يدخر نفساً ولا مالاً وقد باعهما لله والله اشترى
ما ضره ما أصابه يوم يجبر الله مصيبته بالجنة بمنِّه!
فبعد هذا الظل يا بلبل ماء وهوا
وجنة أخرى يطيـ ـب في رياضها الحيا
بهذه الموازين خرجوا من الجزيرة ليبلغوا رسالة الله، وليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام -على حد قول ربعي رضي الله عنه- فواجَهوا حضارات مادية رقت حواشيها، وطالت ذيولها، وبلغت في البذخ درجة الخيال.
كان أحدهم إذا انتطق بمنطقة قيمتها دون مائة ألف درهم يعير ويزدرى ويحتقر، وتتفاداه العيون، ويتوارى من القوم، كما يقول الندوي.
واجه الصحابة هذا كله فركلوه بأقدامهم، ما هو عندهم بشيء، إذْ هم في سجن الدنيا لما ينتظرونه عند الله من الكرامة، رأوا خبزاً رقاقاً لم يروا مثله في الرقة، فحسبوه مناديلاً، فأخذوه في أيديهم فإذا هي أرغفة، ما كانوا يظنون أن الخبز يكون في هذه الدرجة من الرقة والأناقة.
لا يشتهي أحدهم ما لا يجد، وإذا وجده لا يجعله غاية الجد والكد، يتسامون على المظاهر الجوفاء، ويترفعون عن الأخلاق الشوهاء، واعتزازهم بالله رب الأرض والسماء.
ركبوا العزائم واعتلوا بظهورها وسروا فما حنوا إلى نعمان
ساروا رويداً ثم جاءوا أولاً سير الدليل يؤم بالركبان(37/23)
حقارة الدنيا عند عبادة بن الصامت
معشر الإخوة: إليكم صورة للمواجهة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة؛ حُسمت فيها النتيجة لحزب الله أهل الآخرة قبل المواجهة المسلحة.
فلكل راضٍ بالهوان قرارة يحتلها ولكل راق سُلَّمُ
لما وصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر، بعث إلى المقوقس حاكم مصر عشرة رجال على رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وجعله متكلم الوفد، وكان عبادة شديد السواد، مفرط الطول مهاباً، فلما دخلت رسل المسلمين على المقوقس هابهم، وقال: [[نحوا عني ذلك الأسود وقدموا غيره ليكلمني، فقال الوفد: إن هذا أفضلنا رأياً وعلماً، مقدَّمٌ علينا، نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، أمَّره الأمير علينا وأمرنا ألا نخالفه، وإن الأسود والأبيض عندنا سواء، لا يفضُل أحدٌ أحداً إلا بدينه وتقواه، فأومأ إلى عبادة أن يتكلم في رفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة: إن فيمن خلفتُ من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي، وأشد وأفظع سواداً مني، لو رأيتهم كنتَ أهيبَ لهم مني، ولقد ولَّيتُ وأدبر شبابي وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وأصحابي همُ هم، رغبتنا وهمتنا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والله ما يبالي أحدنا أكان له قناطير الذهب أم كان لا يملك إلا الدرهم، نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ما هو برخاء، بذلك أمرنا الله وعهد إلينا نبينا، تقضَّى زمن الحل وهذا زمن العقد]].
بعض المواقف يا رجال حرائرٌ والبعض يا بن الأكرمين إماءُ
وقع الكلام منه موقعاً عظيما، فقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا قط؟! لقد هبتُ منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وما أظن ملكهم إلا سيغلب الأرض كلها.
نعم:
كلماتهم قُضُبٌ وهن فواصلُ كل الضرائب تحتهن مفاصلُ
إنما الألفاظ نطقٌ ورسومْ والمعاني روح هاتيك الجسومْ
ثم أقبل على عبادة ليسلك معه طريق الإرهاب في قالب النصح، فيقول: قد سمعتُ مقالتك، ولَعَمْري إنكم ما ظهرتم على من ظهرتم إلا بحب الدنيا، ولقد توجه لقتالكم ما لا يحصى عدده من الروم ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، فنفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة، ولخليفتكم ألفاً، خذوها وانقلبوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.
عجباً له من أسلوب شفقة الضرة على الضرة، إنه ليعلم أنهم ليسوا بطلاب دنيا، ولكنها محاولة رجل يائس أراد أن يصنع شيئاً يُعْذَر به أمام قومه.
يحاول الأقزام دائماً -معشر الإخوة- أن يستنزلوا العظماء من عليائهم ليشاركوهم تدني أفكارهم إنه يعرض هذه المساومة وهو يدرك ويعترف أن المسلمين بلغوا منزلة تخولهم لملك الأرض كلها، ومع ذا يعرض عروضه المتدنية على قوم حالهم:
اشترانا منا فقلنا ربحنا لا نقيل يا رب ولا نستقيلُ
لكن:
ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ
تعجب عبادة من هذه العقلية التي لا تعرف رباً غير المال، وقال بصوت كله ثقة وإيمان: [[يا هذا! لا يغرنك مَن حولَك لا تغرنك نفسُك لا يغرنك أصحابُك، لعمر الله! ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا والله ما هذا بالذي يردنا عما نحن فيه، ولئن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوان الله وجنته، والله ما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من أن نقتل لتعلو كلمة الله، والله ما منا رجل إلا وهو يدعو الله صباح مساء أن يرزقه الشهادة في سبيله، وألا يرده إلى أرضه ولا إلى أهله إلا بنصر المسلمين، فانظر فليست إلا خصلة من ثلاث، اختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في باطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قبلُ إلينا، هذا ديننا الذي ندين الله به، فانظروا لأنفسكم]].
فليس الليث من جوع يقادُ إلى جيف تحيط بها كلابُ
أنبقى في الحياة بلا لسان وقد نطقت بحاجتها الحميرُ
قال المقوقس: أفلا تجيبون إلى خصلة غير هؤلاء الثلاث؟ فوقع قول المقوقس على آذان صماء من عبادة، ورفع يديه يشير إلى السماء مرة ويخفضها إلى الأرض أخرى.
ويبعثها حرة لا تضيقُ بكيد العواذل واللوم
يقول: [[لا ورب هذه السماء، لا ورب هذه الأرض، لا ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم]].
نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً وسوانا يبعث النار ضراما
كل نمرود إذا أوقد ناراً عادت النيران برداً وسلاما
عندها أذعن وبدأ يشاور أصحابه، فامتنعوا عن الإسلام، ثم امتنعوا عن الجزية، وقالوا: لئن دفعناها لم نَعدُ أن نكون لهم عبيداً، وللموت خير من هذا، فقال المقوقس: أجيبوني وأطيعوا القول، والله ما لكم بهم من طاقة، وإن لم تجيبوهم طائعين لتجيبُنَّهم إلى ما هو أعظم منها مكرهين، فأبوا وامتنعوا، فاقتحم المسلمون عليهم أحد حصونهم في هيمنة تكبير ارتجت لها الأرض معلنة: ألا كبرياء في الأرض إلا وكسرت شوكتها، وقلبت ظهراً لبطن، ولم يبق إلا كبرياء الله.
أدت رسالتَها المنابرُ وانبرى حد السلاح بدوره ليقولا
آن الأوان لأن نخاطر بالدمِ مَن لم يخاطر بالدما لم يسلمِ
ففتح حصنهم، وكسرت شوكتهم، وذَلوا، فلام المقوقس قومه، وقال: ألم أخبركم؟! أما والذي يُحْلَف به لتجيبنهم إلى ما أرادوا، فلو أن هؤلاء القوم استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتالهم أحد، أطيعوني
فأذعنوا وذَلوا وخنعوا ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فيا ناشد الحق في مجامع المبطلين! لا رد الله ضالتك، أتطلب الفَص من اللص، وتقيس في مورد النص.
يا قوم كفوا عن الشكوى لذي صمم لا يُسمع الصم إلا الصارم الذكرُ
لقد كان ذلك الجيل محتفظاً بشخصيته المتميزة القوية إزاء تلك الحضارات المادية الدنيوية في تلك المعارك السقيطة، ما فقدوا شيئاً من مبادئهم وقيمهم، عبروا دجلة المادة، وفرات البهرج، فلم تبتل ذيولهم فيها؛ لأنهم عبروها بإيمان بالله عميق، وموازين دقيقة، وقيم أهلتهم للعزة والقيادة، والسمو والريادة، فانتزعوا عجلة القيادة من القيم الهابطة، والمفاهيم والعقائد الفاسدة، والمثل المفترئة؛ لأن المواجهة كانت بين القيم والمفاهيم، والمألوف أن تسري سنة الله أن البقاء للأصلح: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].(37/24)
الجيل الحاضر واغتراره بالدنيا
معشر الإخوة: ولما التفتت الأمة إلى غير تلك القيم ولم تزن الدنيا بميزانها الحق؛ رفعت الطين، ووضعت الدين، فقدت وهي على البر هويتها ومقوماتها، فإذا عموم أبنائها دون آحادهم عقولٌ في طلب الدنيا، بُلْه عما خلقوا له، طلاب أمانٍ، دين أحدهم لعقة على لسانه، عن الباقي مصروف، وبالفاني مشغوف، بالخوف من كل شيء إلا من مولاه معروف بالخزي محفوف، محب للدنيا كاره للموت، من خوف الموت بالموت وأشد من الموت يعتبر الدنيا رأس ماله، ومنتهى آماله، يود لو يعمر ألف سنة حتى إذا جاءه الموت خرج من الدنيا وهو حزين متلهف على ما يفارقه، كاره مستبشع ما يستقبله غثاء هباء، لا ينفع ولا يدفع ولا يرفع ولا يصفع ولا يشفع.
إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجَدْ
وعندها:
تشابهت البهائم والعِبِدَّا علينا والموالي والصميمُ
أولئك الجيل فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، فساروا بمفتاح السمو يفتحون المشارق والمغارب، لا يستعصي عليهم قُطر، ولا يستعصي عليهم مِصر الحصون تُفْتَح، والقلوب تُفْتَح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تُصَحَّح، فكانوا السماء.
ولما تخلفت هذه المفاهيم عند مَن بعدهم أصيبوا بمركَّب النقص، فكانوا السماوة.
وشتان ما بين السماوة والسماء.
ألا إن من السخافة أن يقال: إن السماوة والسماء واحد؛ لأن النسبة إليهما في اللغة واحدة (سماوي) لا يقول به إلا غبي أو صبي أو عقل وراءه خبي.
من رام شهداً فإن النحل مصدره ومن بغى السم فليطلب له الرقطا
سر السمو إلى السماء لذلك الجيل؛ هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، يعدلون بعدل الله، ويزنون بميزان الله، ويعملون على اسم الله لا سواه يوالون الله ويعادون أعداء الله رقابة الله كمنت في ضمائرهم، والطمع في رضا الله والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر وعقوبتهم، فصار المسلم حقاً هو الأعلى.
يقف موقف المجرد من كل قوة مادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، يتداعى عليه الأعداء وهو كالطود ثابتاً لا يتزحزح، وهَبْها كانت القاضية فماذا يضيره؟
الناس يموتون وهو ورهطه يستشهدون، فيغادرون الأرض إلى رحمة الله حين يغادرها غيرهم إلى غضب الله.
هو الأعلى
من الله يتلقى، وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير يسود مجتمعه عقائد باطلة مغايرة لما هو عليه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى.
يضج الباطل ويرفع عقيرته التي قد تعشى معها الأبصار، وتغشى البصائر، فلا يفارقه الشعور رغم الضجيج لأنه الأعلى.
يغرق المجتمع في شهواته، ويمضي مع نزواته إلى الوحل والطين، فينظر من أُفُقِه العالي إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا تراوده نفسه على خلع ردائه الطاهر، والانغماس معهم في الوحل لأنه الأعلى بلذة الإيمان والتقوى.
يقف قابضاً على دينه كالقابض على الجمر، في مجتمع شارد عن القيم والدين، وهم يهزءون به ويسخرون، فيقول بقول من سبقه في موكب الإيمان العريق، والطريق الطويل: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] ويتلمح نهاية الموكب الفائز الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قول الله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:35] {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36].
بهذا الشعور، وبتلك القيم ارتقت الأمة في نظامها وأخلاقها وحياتها وكل شئونها إلى قمة سامية سامقة، لم ترتفع إليها من قبل قط، ولم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل منهاج ذلك الجيل.
فانهض فقد طلع الصباحُ ولاح محمر الأجيمْ
وشتان ما بين السماء والسماوة(37/25)
عزة وشجاعة الجيل الأول(37/26)
عزة يزيد بن معاوية أمام قيصر
هاهو جيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه بقيادة ابنه يزيد يقف على أطراف القسطنطينية قريباً من أسوارها -جيشٌ مغفور له كما ثبت في صحيح البخاري - وفي الجيش بعض أفراد ذلك الجيل على رأسهم: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، حل به مَرَض -مَرِض مرضاً شديداً- فأتاه يزيد ليعوده، ويقول له: [[ما حاجتك أبا أيوب؟ قال: ادفني عند أسوار القسطنطينية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدفن عند أسوار القسطنطينية رجل صالح} وإني لأرجو الله أن أكون أنا هو.
إن النفوس إذا سمت وتهذبت وتوجهت تعلو إلى جناتها
جاءته المنية هناك، ما ضيع وما قصر وما فرط رضي الله عنه وأرضاه القتال دائر، ويأمر يزيد بتكفينه، فيحمل على السرير تخرج به الكتائب لتنفذ وصيته، ويدفن عند الأسوار تحت سنابك الخيل، ينظر قيصرهم إلى سريره يُحْمَل تحت ظلال السيوف، فيرسل قيصر إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟ فيقول يزيد: [[هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن والله الذي لا إله إلا هو منفذون وصيته أو نهلك جميعاً ونلحق بالله]].
فيا لَلَّه!
إن لم يكن في حياة المرء من شرفٍ فإنه بالردى قد تشرف الرممُ
قال: عجباً! أين دهاؤك؟! وأين دهاء أبيك الذي يُنسب له؟! يرسلك أبوك فتأتي بصاحب نبيك -ونقول: صلى الله عليه وسلم- وتدفنه في بلادنا حتى إذا ما وليت أخرجناه للكلاب؟!
فقال يزيد في سمو وسماء وعزة: [[إنك كافر بالذي أكرمت هذا له، وإني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، والله الذي لا إله إلا هو مَن أكرمتُ صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لئن بلغني أنه نُبِش قبرُه، أو مثل به، لا تركتُ في الأرض الإسلام نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها]].
جعل الخطام بأنف كل مخالفٍ حتى استقام له الذي لم يُخْطَمِ
فقال: لِلَّه أنت، أبوك كان أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي إن لم أجد من يحفظه.
ولا عجب! فالحق قد أجاب، والذل قد وجب.
وموجة النهر في عين الجبان بها غول وحوت وتنين وتمساحُ
وشتان ما بين السماء والسماوة!
وتبقى الآحاد والفئات ممن استقت من ذلك النبع الصافي على تلك العزة في كل آن، محلقة سامية للسماء ناطقة تقول:
ومن لم يقوَّم بهدي الكتاب فبالسيف يا صحابي قُمْ(37/27)
عزة أبي يوسف المراكشي أمام ملك كستانة
يكتب ملك كستانة في أواخر القرن السادس إلى السلطان المسلم أبي يوسف المراكشي يهدده ويعنفه، ويطلب منه تسليم بعض بلاد المسلمين، وكان فيما قال في غطرسة وكبرياء: أراك تماطل نفسك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطَّأَ بك، أم التكذيب بما وعدك نبيك.
فلما قرأ أبو يوسف الكتاب تنمَّر، وغضب، وتربد وجهه، وأرغى وأزبد، ثم مزقه وكتب على رقعة منه بقلم يفتك الشعور ويفلق الصخور: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37] الجواب ما ترى لا ما تسمع.
فلا كتب إلا المشرفية عندنا ولا رسل إلا للخميس العرمرمِ
...
وقام قيام الليث فار غليله وقد برِّزت أنيابه ومخالبهْ
استنفر الناس، ودعا للجهاد، ورغب في السعادة، وحاله:
أججوها حمما وابعثوها حمما
قربوا مني القنا قد كسرت القلما
...
دوت بكل قبيلة ومحلة صيحاته فتجاوبت أصداؤها
سارع مائة ألف مسلم متطوع للبذل والتضحية، والذب عن بيضة المسلمين، وإعزاز دين رب العالمين؛ لينضموا إلى الجيش الذي يبلغ مائة ألف من الموحدين، حال الواحد منهم:
ارمِ بي كل عدو فأنا السهم السريع
وإلا:
فلا نعمت نفس ولا أفلح امرؤٌ ولا انهال هطَّال ولا لاح مشرقُ
مضى الليث إلى الأندلس بجيش يؤمن بالله، ويستقي من نبع وحي الله شعاره: تكبير الله، وهذا ما وعدنا الله، وصدق الله، وحسبنا الله.
فكانت الملحمة التي تنزل معها نصر الله على حزب الله، فقتلوا من العدو مائة وستة وأربعين ألف قتيل، وأسروا من أسروا نصراً من الله، وحقت كلمة الله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
معشر الإخوة والبنين! والله ما قام عبدٌ بالحق وكان قيامه لله وبالله إلا لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له منها فرجاً ومخرجاً، وإنما يؤتى من تفريطه وتقصيره.
فاعلم أيها السامي للسما:
مَن يخف سلطان ذي العرش المجيدْ خافه كل قريبٍ وبعيدْ
...
فما رميت ولكن الإله رمى فكيف يُهْزَم مَن بالله ينتصرُ
والله أكبر صوتٌ تقشعر له شمُّ الذرى وتكاد الأرض تنفطرُ
معشر الإخوة! نَصَر الله ذلك الجيل، لأنه أخذ بمقومات النصر، استقى من نبع الوحي، وطبق ونفذ، وتميز وفاصل، وضحى بالزائل، فكانوا السماء بحق، صدورُ محافل، وقادةُ جحافل، يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، والباطل زاهق نافر، يقذفون بعزائمهم فإذا الكفر مكسور، والإيمان منصور.
إن تلك المقومات للسمو إلى السماء لم تبلَ ولم تمت؛ إنما هي كامنة، وتلك الشعل لم تنطفئ فهي في كنف القرآن والسنة آمنة، فلا يزال الله يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، إنهم من كانوا على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكن أو لا تكون:
ومن يجد ترباً وماء غرسا وبذل المال وحاط الأنفُسا
...
فبادر أُخَيَّ لرفع اللواء على كل قِطْع ولا تحجمِ
وزف هدى الله للعالمين بآياتِ قرآنك المحكمِ
سمواً سماءً بوحي الإله وجاهد وصابر ولا تسأمِ(37/28)
نصائح وتوجيهات إلى أفراد جيل هذا الزمان
أيها الجيل: الفرد في هذا الزمان أشد حاجة لليقظة والانتباه مما كان عليه أسلافه المسلمون في العصور الماضية، لقد كان أسلافه يعيشون في وسط إسلامي تسوده الفضائل، ويعمه التواصي بالحق الرذائل فيه تتوارى عن أعين العلماء وسيوف الأمراء، أما اليوم فإن المدنية السفيهة الحديثة قد جعلت كفر جميع مذاهب الكفار، وشهواتهم وشبهاتهم، مسموعةً مُبْصَرةً مزخرفةً عن طريق الإذاعات والشبكات، والصحف والقنوات، تتسلق وتتسلل إلى أعماق القلوب الجوفاء والبيوتات، وترفع عقيرتها: إليَّ إليَّ! فعندي الفقه الطيب، تعني: فقه الإرجاء والتسيب، وينعق فيها الرويبضات التافهون في أمر العامة صارخين:
العلم ما ينقله الإعلامُ وليس ما يبثه الإسلامُ
والحق ما تطلقه الأبواقُ وليس ما تثبته الأخلاقُ
قد طوروا الخطاب للصِّغارِ باللحن والعُرْي وبالصَّغارِ
خابوا فهم حثالة الأنسالِ وعُصْبة الفساق والأنذالِِ
رهط الخنا والغي والمِحالِ مِن كل عِي ماذق تنبالِ
محارب لله لا يبالي كأنما صيغوا من الأوحالِ
أو من رجيع الحمر والبغالِ
لكن:
لكن ومهما نعقوا ومخرقوا عليهم ألف دليل ينطق
فانثر كنانتك أيها الجيل الراشد، والزم نبعك الصافي وتميزك ومفاصلتك، وسدد سهامك، وأشرع رماحك، وأعدَّ عدتك؛ فإن لم تجد فيها سلاح الحديد والنار فلن تراع معك السلاح الذي يفل الحديد، كتاب الله خير عدة وعديد، معك المادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصف على الإيمان، معك المِسَن الذي يشحذ هذين؛ وهو التقوى والصبر، فلن تضر.
فوالذي أكرمك بالإسلام إنهم ما قاتلوك بالحديد إلا ما يوازي ساعة من نهار؛ لكنهم قاتلوك في الوقت كله بما هو أعظم من الحديد قاتلوك: بالكتاب الذي يزرع الشك بالظن الذي يمرض اليقين بالصحيفة التي تنشر الرذيلة بالقلم الذي يشيع الفاحشة بالممثلة التي تظهر الفجور بالراقصة التي تغري بالتأنث الصخور بالمهازل التي تقتل الجد بالخمر والمخدر الذي يهدم البدن والعقل والمال والدين بمُعلمِ وعالمِ السوء الذي يفسد الفكر، وينقل الناس من الشهوة على وجل إلى الشبهة بلا وجل ولا خجل بالكماليات التي تثقل الحياة بالعادات التي تناقض فطرة الله.
فإن شئت أيها الجيل أن تذيب هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها، فما آمرك إلا واحدة أن تعلنها قولاً وعملاً: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأعراف:203] ثم تصوم عن هذه المطاعم والمشارب والمنابع النتنة كلها، وتغمض عينيك على الدواء بكتاب الله يعمل، ثم تفتحها لرؤية الحق والهدى تبصر.
دع عنك ما يقوله المسوخُ فما لهم في شرفٍ رسوخُ
إن القوم تجار سوء قاطعهم تنتصر عليهم قابل أسلحتهم كلها بسلاح واحد، وهو: التعفف والإعراض عن هذه الأسلحة كلها؛ فإذا أيقنوا ألا حاجة لك بهم آمنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، ثم انصرفوا صرف الله كيدهم كما صرف قلوبهم.
ماذا يصنع المرابي في بلدة لا يجد فيها من يتعامل بالربا؟!
وليس يجهل ما ينوي الخصوم لنا إلا الجواميس أو شبه الجواميسِ
السوس منا فلا تطعن على أحد من الخصوم وعالج مصدر السوسِ
يا سامياً للسماء: لا يخالجك شك في أن وعد الله بالنصر واقع قاطع جازم {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] وكلمة الله قائمة سابقة {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] هذه حقيقة ثابتة مهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار وحرب الأفكار، إن هي إلا معارك تتنوع نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي لا يخلف بالنصر والغلبة والتمكين، سنة ماضية مضي الكواكب والنجوم، وتعاقب الليل والنهار؛ لكنها مرهونة بتقدير الله يحققها حين يشاء لحكمة، فلا تيأس وابحث عن أسباب تخلف النصر، فلعله من تفريط أو تقصير، فراجع نفسك وإلا فالسماوة.
يا سامياً للسما: الطائر بجناح مستعار لا شك أنه ساقط واقع منحل معتل مختل، فحلق بجناحك، والنبع الصافي زادك مخلصاً متبعاً مطبقاً متميزاً مفاصلاً، وإلا فالسماوة.
يكفي الصياح فما الحياة عبارة جوفاء فارغة يرددها الفمُ
الحزم الحزم والقول والعمل! لا تكن كالدفتر يحكي ما قال الرجال وما فعلوا دون أن يضرب معهم في الصالحات بنصيب، أو يرمي في معترك الآراء بالسهم المصيب، وإلا فالسماوة.
يا سامياً للسما: كاثر الضالين بالمهتدين، وارمِ البطانة الفجرة بالعجاف البررة ارم الخبيث بالطيِّب، والدرن بالصيِّب، وإلا فالسماوة.
يا سامياً للسما: قد عرفتَ وُجْهَتَك فابدأ المسير، هطيل المزن أوله قطرة، وعصف الريح مبدؤه نسفة، وصادق الوحي مبدؤه رؤيا منام، فابثث أسرارك، وانشر أخبارك، واتكل على مولاك الاتكال على الضعيف ضعف، والاتكال على القوي قوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
كن مع الله ولا ترج العلا من سعي
احفظن مصحفك الغالي وباسم الله صابرْ
يا سامياً للسما: مَن هيأ الله له وسائل السبق فلم يسبق فهو محروم، وقد هُيِّئت فاغنمها تمحُ آية البؤس في بيداء السماوة، وتجعل آية النعيم في سمائك مبصرة.
وشتان ما بين السماء والسماوة!
يا سامياً للسما: أسرج كُمَيْتَك، واجرر زمامك على المرعى يقف بك ارقب الفجر ما هو ببعيد عنك عبَّ من النبع الصافي وتنقل به للمراقي جاهد نفسك على ذلك، فالمجاهدة حرب لا يصلح لها إلا بطل.
من اقتضى بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هل بلم
مرعى المشتهى هشيم ليل الجهل معتم جو الهوى مقفر روض اللهو وبي غدير اللذات غدر مجاهدة النفس شقة.
موت النفوس حياتها من شاء أن يحيا يموتْ
يا سامياً للسما: قد نثر الدر لديك فانتقِ، وقربت لك المراقي فارتقِ انزل الوادي يصوِّت بك الحادي.
ونكتة المسألة، ومدار المحاضرة: تجريد التوحيد لله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيد منصور، هذا بيان مجمل للسر بلا تعليق، واسألوا أهل النحو أيهما أفصح: الإلغاء أم التعليق؟
يغنيك إجمال قولي عن مفصله في ذكرك البحر معنىً تحته الدرر
وشتان ما بين السماء والسماوة!
وحدوا صفوفكم، واجمعوا رأيكم وكلمتكم، والهدوء الهدوء! والصبر الصبر، ليس الشديد بالصرعة
هونوا واتئدوا
وأبشروا وأملوا
ما كل عادٍ يسبق
لأمة الإسلام من في السماء.
ولدين الله من في السماء.
ولملة الإسلام من في السماء.
فالدعاء الدعاء، ليس شيء أكرم من الدعاء، أعجز الناس من عجز عن الدعاء: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54].
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علمته أحداً من خلقك، ونسألك باسمك الأعظم الذي سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، وإذا استغثت به أغثت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت.
يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الكفر والزيغ والفساد والنفاق والعناد.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أرنا في أعداء الدين عجائب قدرتك.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم إنهم لا يعجزونك.
اللهم أنزل عليهم بأسك ورجزك وغضبك.
اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وزلزل أقدامهم، ورد كيدهم.
اللهم إنا ندرء بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا قوي يا عزيز يا قوي يا عزيز يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم كن للمسلمين المستضعفين المظلومين المقهورين في العالمين اللهم كن للمسلمين المستضعفين المقهورين المظلومين في العالمين.
اللهم كن لهم في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان، وجميع العالمين.
اللهم أزل عنهم العنا، اللهم أزل عنهم العنا.
اللهم اكشف عنهم الضر والبلاء.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء.
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250].
اللهم أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك(37/29)
النعيم لا يدرك بالنعيم
لقد كان الصحابة الكرام في رغد من العيش، فلما أسلموا واستسلموا لله، عاداهم قومهم، وضيقوا عليهم في معيشتهم، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله، فكانت نفوسهم وقلوبهم لقوة إيمانهم في غاية النعيم، أما حالنا فنحن في عصر أخلد فيه إلى الأرض، وغلبت المادة، وعبد الدرهم والدينار من دون الله الواحد القهار فشتان بين الجيل الأول وجيلنا!!(38/1)
الهمة العالية لنيل النعيم الأخروي
الحمد لله لا يحصى له عدد ولا يحيط به الأقلام والمدد
وأحمد الله منه العون والرشد
حمداً لربي كثيراً دائماً أبداً في السر والجهر في الدارين مسترد
ملء السماوات والأرضين أجمعها وملء ما شاء بعد الواحد الصمد
ثم الصلاة على خير الأنام رسول الله أحمد مع صحبٍ به سعدوا
وأهل بيت النبي والآل قاطبةً والتابعين الألى للدين هم عضدُ
والرسل أجمعهم والتابعين لهم من دون أن يعدلوا عما إليه هدوا
أزكى صلاةٍ من التسليم دائمةً ما أن لها أبداً حدٌ ولا أمد
والله أسأل منه رحمةً وهدى فضلاً وما لي إلا الله مستند
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها المؤمنون! من المشاهد المعقول الملموس المحسوس؛ بل والمنقول، أن النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحياناً يعمل عمل الترياق:
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تحطم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد.
نعيم الأشواق بعد ذوق مُرَّ الأخطار في القفار، بقدر العنا تنال المنى، وربما تصح الأبدان بالأدواء، ولا يدرك الشرف إلا بالكلف:
ولا يفرس الليث الطلى وهو رابض
ولم يجعل التبر حلي الفتاة حتى أُهين وحتى كسر
لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.
والسيل حرب للمكان العالي
ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.
والمجد لا يشرى بقولٍ كاذبِ إن كنت تبغي المجد يوماً فانصبِ
ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة.
جهاد المؤمنين لهم حياةٌ إلا إن الحياة هي الجهاد
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] ويورد ابن القيم -رحمه الله- حول هذه المعاني كلاماً قيماً مضمونه: "إن الخيرات واللذات والكمالات لا تنال إلا بحظٍ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسرٍ من التعب، وقد أدرك عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة، فاتته الراحة وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق والصعاب، تكون اللذة والفرح".
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه إلا وراء الهول من عبابه
من يعشق العلياء يلق عندها ما لقي المحب من أحبابه
فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة.
وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب ونصب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، والله المستعان! وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله.
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسرٍ من التعب(38/2)
نعيم الدنيا في واقع حياة الصحابة الكرام
معاشر المؤمنين! النعيم لا يدرك بالنعيم هذا واقعٌ حيٌ مطَّبقٌ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، مُشاهدٌ في أتباعهم يوم جدوا في طريقهم إلى خلاقهم، فما عاقهم مكروهٌ ولا بأسٌ ولا شدةٌ عن بلوغ أهدافهم، بل وظفت هذه الشدة والمكروه والجوع والبأس لتهذيب أنفسهم وأخلاقهم، فإذا هم قلوبٌ تتصل بالله تتذكر الله وتخشاه، وتؤثره على كل مغريات الحياة، امتلأت نفوسهم بهممٍ وإيمانٍ وأماناتٍ وكفاءات من أخمص القدم إلى ذؤابة الرأس، تشابهت السبل فاتخذوا سبيل الله سبيلاً، وتفرق الناس فجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وحزبه قبيلاً.
وقفوا على هام الزمان رجالا يتوثبون تطلعاً ونضالا
وحي السماء يجيش في أعماقهم ونداؤه من فوقه يتعالى
باعوا النفوس لربهم واستمسكوا بكتابه واستقبلوا الأهوالا
اقتحمتهم الأعين أول ما خرجوا من الصحراء فاتحين، فلما اشتبكوا مع فارس والروم، جثا التاريخ يسجل ويروي ويقول:
قومٌ كرام السجايا أينما ذكروا يبقى المكان على آثارهم عطرا
أخلاقهم عما يشين نقيةٌ ونفوسهم عما يعيب مكفكفة
ما استعبدتهم شهوةٌ تدعو إلى الصفراء والبيضاء لا والزخرفة
ليسوا بأسرى الأرغفة
ليسوا بأسرى الأرصدة
ليسوا بأسرى الأشربة
الأطعمة
الألبسة
قوم إذا جدَّ الوغى كانوا ليوث الملحمة
ملأٌ لقد ملأ الإله صدورهم نوراً فكانت بالضياء مزخرفة
جديرٌ بنا -معشر المسلمين- أن نقف على استعلائهم على شهواتهم ومكاره أنفسهم في سبيل مرضاة ربهم، علَّنا نقتبس قبساتٍ من ضوئهم، وومضات من شعاعهم، لتنهض همة مقعد، وتُشحذ عزيمة زمن؛ في عصر أخلد فيه إلى الأرض، وغُلبت المادة، وعبد الدرهم والدينار من دون الله الواحد القهار، فحيهلاً بهم فقد صوت حاديهم: أن الله لا يزال يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم أُسداً تخلف بعدها أشبالا(38/3)
مصعب بن عمير بين نعيم الدنيا وشظف العيش
يقول سعد بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: [[كنا قبل الهجرة يصيبنا شظف العيش وشدته فلا نصبر عليه]] كانوا في رغدٍ من العيش، فلما أسلموا واستسلموا لله، عاداهم قومهم، وضيقوا عليهم في معيشتهم، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله، فلم تألف ولم تعتد أجسادهم، ولم تتدرب على حياة الفقر والشدة وقد ألفت رغد العيش، أما قلوبهم ونفوسهم فلقوة إيمانهم كانت في غاية النعيم؛ حيث خولطت بشاشتها بالإيمان، فهم سادة الصابرين في الضراء، الشاكرين في السراء، كيف وهم يتلمحون ويرجون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ ويؤمنون
بأن كريمات المعالي مشوبةٌ بمستودعات في بطون الأساود
قال سعد: [[فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما]] اعتادت أجسادهم وانسجمت مع حياة الفقر والشدة وخشونة العيش، فأصبح القلب والجسد في ألفة لهذه الحياة، أيقنوا بالنقل أن الابتلاء مع الصبر والاحتساب كفارة للخطايا فـ {ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانوا بحق:
صبراً على خوض المكاره أنفسٌ لا تستكين وأعظم لا تضطرب
قال سعد: [[إلا مصعب بن عمير، فقد كان أترف غلامٍ بـ مكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا، لم يقوَ على ذلك]] ظل عدم الإلفة والانسجام واضحاً في حياة مصعب مكة لؤلؤة ندواتها ومجالسها، مالُ الأم بين يديه يتصرف به كيف شاء، حتى إذا ما أسلم لله واستسلم منع هذا كله.
يقول سعد: [[فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي، ثم نحمله على عواتقنا]].
والله معاشر المؤمنين ما كان من يريدهم على غير دينهم إلا كالقائل لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح، فهيهات لا براح، لاقى ما لاقى من أمه وقد كان فتاها المدلل، أفلت منها، وهاجر إلى الحبشة.
ارتدى المرقع البالي خشناً، وقد كانت ثيابه كزهور الحديقة نظرة وألقاً، خرج من النعمة الوارفة إلى شظف العيش والفاقة يأكل يوماً ويجوع أياماً، لكن روحه المتأنقة في سمو العقيدة، المتألقة بنور الله جعلت منه إنساناً يملأ العين إجلالاً.(38/4)
قدوم مصعب بن عمير على النبي صلى الله عليه وسلم
قدم مكة، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبدأ أمه، فأرسلت إليه أمه تقول: أي لكع! أتدخل بلداً أنا فيه ولا تبدأ بي؟
فقال: ما كنت لا أبدأ بأحدٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.
إيهٍ مصعب!!
إذا لم تجد في الشباب الإباء ففضل عليهم ضعاف النساء
والله ما فكر مصعب يوماً أن يرجع عن إيمانه بعد إذ أنقذه الله من الكفر، علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن غمسةً في الجنة تنسي كل بؤسٍ وشدةٍ وشقاء، وموضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فهان عليه ما يلقى، كيف وهو يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وأن المرء يبتلى على قدر دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة}.(38/5)
تأثر الصحابة من حياة مصعب بن عمير
كان الصحابة يتأثرون لمرأى مصعب -رضي الله عن مصعب - ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وهو الذي يعزُّ عليه عنت أصحابه ومشقتهم، إذا رآه تأثر وربما دمعت عينه صلوات الله وسلامه عليه، كيف وقد صار صاحب الحلل لا يلبس إلا فرواً مرقعاً بجلد، وقد تطاير جلده وتشقق، وتغيرت هيئته، فسبحان من أيده وبصره، وقواه ونصره!
وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك لا يخشى عليهم الشدة والفقر، فيقول كما صح عنه في المتفق عليه: {والله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} ينبه صلوات الله وسلامه عليه إلى أن الاستقامة على الدين غالباً لا تكون مع حياة الترف والسرف، لأن هذا النوع من الحياة يورث القلوب قسوةً وجفاء، وقلَّ من يشكر عند الرخاء!(38/6)
الترف من أخطر الأدواء التي تودي بحياة الأمة
أيها المؤمنون! إن من أخطر الأدواء التي تودي بحياة الأمة الترف، وما أدراك ما الترف؟ داءٌ عضال، ومقتٌ ووبال، يقتل النخوة، ويقضي على البطولة، ويخمد الغيرة، ويفرز الوهن، ويكبت المروءة، ويضعف الهمة، ويفرز غثاءً متصكعاً يعيش بلا عقل ولا علم ولا تفكير، في تأنثٍ لم يبق معه إلا أن تلحق بصاحبه تاء التأنيث أو نون النسوة!
ضجعة يغط في النوم ما يغط، حتى إذا ما أفاق على صيحة لم يزل يرددها ترديد الببغاء
لو اطلع الغراب على رؤاهم وما فيها من السوءات شابا
استنوق وخضع وتأنث!
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
همه ما يأكله، وقيمته ما يخرجه يذكر اليوم وينسى الغد، أشباحٌ بلا أرواح، جسومٌ بلا رءوس، والسبب الترف بغير هدف.
نوم الغداة وشرب بالعشيات موكلان بتهديم المروءات
يستغيث المستضعفون والمحرومون في الأرض، فلا يُهب لنصرتهم، ومن أعظم الموانع الترف.
حقوق الله تنتهك، وحدوده تتجاوز، وأوامره تضيع، ويطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم قصصاً وروايات ونظماً ونثراً، ثم لا يهب لإنكار المنكر، ومن أعظم الأسباب الترف.
يركن إلى الظلمة، والداعي هو الترف
يحارب الله -جلَّ وعلا- بالربا، والداعي هو الترف
تثقل الكواهل بالديون، والداعي هو الترف
يؤكل بالدين، والداعي هو الترف
يجلس الواحد ريان شبعان متكئاً على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه، أو كلف بمهمة، أو عوتب في استغراقه في لهو؛ اندفع كالسهم مردداً: {يا حنظلة ساعة وساعة} وكأنه لا يحفظ من القرآن والسنة الصحيحة غيره والسبب الترف.
سقطت فئةٌ من شباب الأمة في أوحال المسكرات والمخدرات وعلى رأس الأسباب الترف.
امتلأت البيوت بالخدم والسائقين والداعي هو الترف.
ترفٌ شائع، وحقٌ ضائع، والسبب الترف، قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
أما إن الاستقامة التامة لا تكون بالترف، وإنما بالقصد القصد: {والله ما الفقر أخشى عليكم} ذاك قول المصطفى نبيكم صلى الله عليه وسلم.
يقول سعد رضي الله عنه: [[ولقد رأيتني مرةً قمت أبول من الليل، فسمعت تحت بولي شيئاً يجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها وغسلتها حتى أنعمتها، ثم أحرقتها بالنار ورضضتها، فشققت منها ثلاث شقائق، فاقتويت بها ثلاثاً]] ثم لم يكن إلى الرضا والتسليم والصبر الجميل!
مصابرٌ حيث تجيش الأنفس عرضٌ نقيٌ وأديم أشوس
والنعيم لا يدرك بالنعيم.(38/7)
حياة علي بن أبي طالب في هذه الدنيا
هاهو علي -رضي الله عنه- صبحٌ لا يحجب فلقه، أسلم وهو ابن تسع أو عشر، فأنعم به من فتى لا يجارى خلقه! حياةٌ لم تكن لها صبوةٌ ولا شهوةٌ ولا هفوة لهو الأطفال لم يكن له فيه حظٌ ولا نصيب تبعات الرجال فوق كاهله في نور الآيات قضى طفولته أخذ بنصيبٍ وافرٍ من التعب والنصب والشدة، فقام بأعبائه، وذلك كله ما رده ولا صده، وقع فيه أهل الأهواء رضي الله عنه حتى كفره بعضهم، واضطر ربيب بيت النبوة إلى أن يقول -فيما روي عنه- متحدثاً بنعمة الله عز وجل عليه:
محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر ذاك من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي
بنت محمدٍ سكني وزوجي منوطٌ لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمدٍ ولداي منها فأيكمُ له سهم كسهمي؟
يقول: [[والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ قلت: اغرب عني]].
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى(38/8)
علي والكسب المشروع
يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه مجاهد رحمه الله: [[جعت مرةً بـ المدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة]] كان بإمكانه وإخوته -رضي الله عنهم- لو أرادوا نعيم الدنيا أن يبقوا في مكة التي هاجروا منها بدينهم؛ أيسر حالاً، وأهنأ بالاً في عرف عامة الناس، ولكنهم بما حملوه من الوحي جعلوا السعادة كل السعادة في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والتضحية بكل ما لديهم من طاقةٍ في سبيل الله، وإن ألجأهم ذلك إلى أقسى الظروف المعيشية.
جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور، ولم يزالوا وقفاً لله مدركين أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
يخرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس لينتظر ما تجود به أيدي المحسنين، كما يفعل بعض أبناء المسلمين، من يستعفف يعفه الله، ومن أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، وإن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] * {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3].
يقول علي رضي الله عنه: [[وأنا في عوالي المدينة وإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً -طيناً جافاً- تريد بله بالماء، فأتيتها فقاطعتها، واتفقت معها على أجرة كل ذنوبٍ بتمرة -يعني: كل دلوٍ بتمرة- قال: فنزعت ستة عشر دلواً على معاناة شدة الجوع -والجوع يضعف القوة كما تعلمون- قال: حتى مجلت يدي وتورمت من العمل، فأتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها، فقلت بكفيَّ هكذا بين يديها -يعني: بسطهما يريد الأجرة- قال: فعدت لي ست عشرة تمرة، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأخبرته بما جرى، فأكل معي من ذلك التمر]] فياله من حبٍ ووفاءٍ، ونكرانٍ للذات، فهو على ما به من شدة الجوع، وما قام به من العمل الشاق؛ قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه، ولم تطب نفسه إلا بذاك.
تأمل شمسهم ومدى ضحاها تجد في كل ناحية شعاعا
إذا أسد الشرى شبعت فعفت رأيت شبابهم عفوا جياعا(38/9)
علي وزوجه فاطمة في مواجهة شظف العيش
وهاهي زوجه فاطمة -رضي الله عنها- ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج الإمام البخاري: أنها شكت ما تلقى من أثر الرحى، فقد جرت بها حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمت البيت حتى أثرت في هيئتها، اشتكت يوم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسبي؛ علها تعطى منهم من يخدمها، بلا هلعٍ ولا طمعٍ ولا جزعٍ ولا جشع، عجباً لأمرها بل لأمر المؤمن! {إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا له} إنها ابنت المجد!
المجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمةٍ فما أعلاها
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يداني في الفخار أباها
أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ حادي النفوس إذا تروم هداها
وعلي زوجٌ لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها
دايونه كوخٌ وكنز ثرائه سيفٌ غدا بيمينه تياها
انطلقت رضي الله عنها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، فلم تجده، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بما أرادت، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجيء فاطمة وبطلبها، فجاء في بعض الروايات أنه قال: {لا والذي نفسي بيده ما دام في الصفة فقير} لا يحابي أقاربه صلوات الله وسلامه عليه حتى ولو كانت ريحانته، على حساب من هم أشد حاجةً وفقراً ممن لا مال له ولا أهل، حاشاه صلوات الله وسلامه عليه
تقول فاطمة: {فجاء إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما! فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، ثم قال: ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتماني؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما؛ فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم} فما تركاها بعد رضي الله عنهما وأرضاهما.
معشر المسلمين! إن القلوب إذا عمرت بذكر الله، هانت عليها المصائب، وسمت في أفكارها المطالب، وأصبح أصحابها يستعذبون الشدائد في سبيل الله، ويرون أنها أبواب خير لرفع رصيدهم من الحسنات، وخفض رصيدهم من السيئات كما يقول صاحب التاريخ الإسلامي مواقف وعبر.
يا لله! عليٌّ يؤجر نفسه لامرأة على تمرات، وفاطمة تطحن بالرحى وهي من سيدات الأمهات، إنه شظف العيش في هذه الأسرة الكريمة، يصحبه الرضا والتسليم، والصبر الجميل، وما ضرهم يزول ويزولون:
قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الغبس تعتام القتب
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
فليفهم يا أبناء الجيل! ويا فتاة الإسلام! هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرعٌ طاب أصله، وزكى غرسه
هي أسوة للأمهات وقدوةٌ يترسم الركب المنير خطاها
جعلت من الصبر الجميل غذائها ورأت رضا الزوج الكريم رضاها
فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها
بلت وسادتها لآلئ دمعها من طول خشيتها ومن تقواها
في روض فاطمةٍ نما غصنان لم ينجبهما في الكائنات سواها
فأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب؟
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب؟
كلا، يا بنت الإسلام!
فلتحذري من دعاة لا ضمير لهم من كل مستغربٍ في فكره خرب
أسموا دعارتهم حريةً كذباً باعوا الخلاعة باسم الفن والطرب
هم الذئاب وأنت الطعم فاحترسي من كل مفترسٍ للعرض مستلب
أختاه! لست بنبتٍ لا جذور له ولست مقطوعةً مجهولة النسب
أنت ابنة الطهر والإسلام عشت به في حضن أطهر أمٍ من أعز أب(38/10)
حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزهده في الدنيا
معشر المؤمنين! هذا هو الأسوة والقدوة النبي المربي صلوات الله وسلامه عليه، والسبيل سبيله، والسنة سنته، لم تكن الدنيا يوماً مقصده وغايته، إنما هي بلغة ووسيلة:
يروح إذا راح في المعسرين وإن أيسر الناس لم يوسر
أما والله ما كان يغدى عليه بالجفان ولا يراح، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، بل يجلس على الأرض، ويوضع طعامه على الأرض يلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده
يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه بيده، أعرض عن الدنيا بقلبه، أمات ذكرها من نفسه، لم يتخذ منها رياشاً، لم يعتقدها قراراً، لم يرج بها مقاماً، لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه صلوات الله وسلامه عليه.(38/11)
بيوت النبي صلى الله عليه وسلم
كانت بيوته في غاية البساطة، رغم اشتهار المدينة بالحصون العالية، وتباهي أهلها بها في السلم.
وتفاخرهم في الحرب، كان باستطاعته صلوات الله وسلامه عليه أن يبني لنفسه قصوراً شاهقة مما أفاء الله عليه، ولكنه صلى الله عليه وسلم جمع همه لعمل الآخرة، فكانت أبياته تسعة بعضها من جريدٍ مطينٍ بالطين وسقفها من جريد، وبعضها من حجارةٍ مرضومة بعضها فوق بعض مسقفة بالجريد، ينال الغلام المراهق سقوفها بيده
والله الذي لا إله إلا هو للإيمان فيها كالجبال؛ فيها، وفي جنباتها، وفي نواحيها:
بنى لنا العز مرفوعاً دعائمه وشيد المجد مشتداً مرائره
فما فضائلنا إلا فضائله ولا مفاخرنا إلا مفاخره
ولما أمر الوليد بن عبد الملك بهدم تلك الحجر لإضافتها إلى المسجد النبوي ما رئي يومٌ كان أكثر باكياً من ذلك اليوم، يقول ابن المسيب رحمه الله: "والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة، ويقدم القادم من الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر وقد ألهاهم التكاثر".
ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: [[يا ليتها تركت فلم تهدم حتى يفصل الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده!]].
ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما ثبت عند أبي داود وصححه الألباني رحمهم الله: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي، فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله! شيء أصلحه، فقال: الأمر أسرع من ذلك، أو ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك}.
نَفَس من الأنفاس هذا العيش إن قسناه بالعيش الطويل الثاني(38/12)
طعامه عليه الصلاة والسلام
عرضت عليه صلوات الله وسلامه عليه مفاتيح كنوز الدنيا، فلم يردها ولم يخترها، بل اختار التقلل منها، والصبر على شدة العيش بها، وقالها صريحة مدوية: {بل أجوع يوماً وأشبع يوماً}
لا يبتغي الدنيا ولا أحسابها ولربه في كل أمرٍ قد رغب
عرضت عليه عروشها فأذلها بإبائه وأبى الزعامة والذهب
وإذا أتاه المال جاد به كما صبَّت حمولتها فأفرغت السحب
وروى البخاري في صحيحه رحمه الله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لـ عروة: [[يا بن أختي! إن كنا لننتظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال؛ ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال عروة: أي أماه! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح وكانوا يهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسقينا]].
هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها السامعون!
بيت من الطين بالقرآن يعمره وهو الإمام لأهل الفضل كلهم
طعامه التمر والخبز الشعير وما عيناه تعدو إلى اللذات والنعم
وروى الترمذي بإسنادٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة ما لي ولـ بلال طعامٍ يأكله ذو كبدٍ إلا شيء يواريه إبط بلال} يقول الترمذي رحمه الله: "ذاك حين خرج النبي صلى الله عليه سلم هارباً من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمل تحت إبطه " ليرفع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وترفع درجته، ويكون قدوةً لكل مصابٍ بضرٍ وبلوى صلى الله عليه وسلم.
لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم
وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مثنية، فرجعت إلى منزلها، فبعثت إليَّ بفراشٍ حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قلت: فلانة الأنصارية؛ دخلت عليَّ فرأت فراشك فبعثت إليَّ بهذا، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه، قالت عائشة: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه رديه! والذي لا إله إلا هو لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة، اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتا} يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز حنطةٍ حتى فارق الدنيا]].
ويقول أنس رضي الله عنه: [[ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرقعاً أو مرققا، ولا شاةً سميطاً مشويةً قط حتى لحق بربه، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير؛ يبيت الليالي المتتابعات وأهله لا يجدون عشاء]].
باعوا الذي يفني من الخزف الـ خسيس بدائمٍ من خالص العقيان
تقول عائشة رضي الله عنها: [[والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبض، يقول عروة رحمه الله: فكيف كنتم تأكلون الشعير أي أماه؟! قالت: كنا نقول: أف، أي: ننفخه فيطير ما طار من نخالته ونعجن الباقي]] وهم خير القاصي والداني، ولا ضير:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: {لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى من شدة الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه}.
يبيت والجوع يلقى فيه بغيته إن بات أعداؤه بطنى من التخم
ما أمسى عند آل محمدٍ صاع بر، ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة في تسع أبيات.
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو الجهد والجوع كما في البخاري، فبعث إلى نسائه جميعاً، فقلن: {والله ما معنا إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله} خرج وهو لا يعلم هل يجد لضيفه طعاماً في بيته أو لا يجد؛ كان يرجو رضا الله ورسوله وثواب الآخرة قطع الطريق مع ضيفه في فرحٍ وسرور قرع الباب، وسلم على أهل الدار، وقال في صوت المبشر لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، فقالت: مرحباً بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدٌ أكرم أضيافاً منا! والله الذي لا إله إلا هو ما معنا إلا عشاء الصبية، فاحتال الكريم -والكريم له حيل ولطائف- وقال: "هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك" إذا أرادوا العشاء، يجوع البيت كله، ويطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا عليهم لو جاعوا ليلةً وآثروا بطعامهم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فكل سعيٍ سيجزي الله ساعيَه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا
هيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، وقدمت طعامها، ثم قامت كأنها تصلح السراج فأطفئته، انطفأ السراج، وبدأ الضيف يأكل في الظلام، يمد صاحب البيت يده إلى الصحفة ويرفعها وهو لا يتناول شيئاً لا يشك الضيف أنهما يأكلان أكل الضيف مطمئناً، وشبع وظن أن صاحب البيت شبع أيضاً، لكنه لم يرفع لقمة إلى فيه، وكان الظلام عوناً له على ذلك.
قام الضيف وغسل يده، وحمد الله، ودعا لمضيفه، وقام صاحب البيت فغسل يده ليريه أنه كان يأكل معه، بات الضيف شبعان ريان، وبات البيت كله طاوياً مسروراً شاكراً؛ لقيامه بما يجب نحو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الليل عسعس، والصبح قد تنفس، وغدا صاحب البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ذاوياً، مسروراً شاكراً، وظن أن قصة الليل سرٌ من الأسرار لا يعلمه إلا الله ثم هو مع زوجته، لكن الذي يعلم السر وأخفى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحى من خبر تلك الليلة، فقال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: {لقد ضحك الله الليلة من صنيعكما، أو عجب من فعالكما، وأنزل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]}.
معاشر المؤمنين! حينما يؤمن الإنسان إيماناً حقاً، فإن جواذب الإيمان ترفعه من الالتفات إلى الدنيا على أنها مقصدٌ وغاية، وتقصره على اعتبار أنها بلغةٌ ووسيلة كما هو حال رسوله.
فما يسبح الإنسان في لج غمرةٍ من العز إلا بعد خوض الشدائد
ويا بن الإسلام!
فما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو إن حذوت على مثال
تريد التمر دون غراس نخلٍ ولا حتى لجذع النخل هزا
إذا رمت العلا من غير بذلٍ فنم واحلم وكل لحماً وأرزا
إذا لم تكسبك التقوى ستعرى وإن حلوك ديباجاً وخزا
يدخل عمر رضي الله عنه -كما هو في الصحيح- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عليَّةٍ قد اعتزل نساءه، مضطجعا على حصير، قد أثر الحصير في جنبه، متكئاً على وسادة من جلدٍ حشوها ليف، فلما رآه عمر لم يملك نفسه، وجثا، وهملت عيناه رضي الله عنه وأرضاه، وقال: {صفوة الله من خلقه وخيرته أنت فيما أرى، وفارس والروم يعبثان بالدنيا وهم لا يعبدون الله، ادع الله فليوسع على أمتك يا رسول الله! فاحمرَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب؟ أو في هذا أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاحمد الله يا عمر، قلت: الحمد لله}.
هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما مالنا للوارث الباقي
حتى نلاقي ما كل امرئ لاقي
كابد الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه، وجبيت له الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً ولا ديناراً، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة.
وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم(38/13)
حقيقة النعيم كما فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
النعيم لا يدرك بالنعيم حقيقةٌ فهمها ووعاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياة رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهاجروا بدينهم، وصبروا على ما نالهم، فالعقبى لهم.
صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً يا عزة التوفيق للإنسان!(38/14)
حقيقة النعيم عند أبي هريرة رضي الله عنه
هاهو أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ليتفقه في دينه: {ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
يقول أبو هريرة: [[ولقد رأيتني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، والله ما بي من جنون، ووالله ما هو إلا الجوع]] ثمن العليا عنا وشقاء.
إن كان يشقى ويلقى دونه تعبا فإنما الراحة الكبرى لمن تعبوا
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه كما في البخاري: [[لقد رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصفة ما منهم رجلٌ عليه رداء إما إزارٌ وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته، فإذا كانت الحقائق، كانوا هم الرجال]].
فمن الطعام بتمرة سودا اجتزوا وبشملة شهبا من الأدراع
ومن يطعم النفس ما تشتهي كمن يطعم النار جزل الحطب
والنعيم لا يدرك بالنعيم.(38/15)
حقيقة النعيم عند فضالة بن عبيد
يروي لنا فضالة بن عبيد رضي الله عنه كما ثبت: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخرُّ رجالٌ من قامتهم بالصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى صلوات الله عليه، انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجة، يقول فضالة: وأنا يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم} ثم يُرى فضالة رضي الله عنه بعد وهو والي مصر، أشعث حافياً، فيقال له: أنت الأمير وتفعل هذا؟ فقال: {لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء، وأمرنا أن نحتفي أحيانا}
ما أمةٌ غفلت عن نهجه ومضت إلا تهيم بلا هديٍ ولا علم
هذه حالهم معشر المؤمنين! ولكم أن تسألوا: هل قعدت بهم هممهم؟ هل تنازلوا عن مبادئهم؟ كلا.
والله! إنهم لا يعيشون لأنفسهم، إن الذي يعيش لنفسه، قد يعيش مستريحاً، لكنه يعيش حقيراً ويموت حقيراً، أما من تحمل عبء تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فماله وللنوم وماله وللراحة ماله وللفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح، وقد تهيأ للسباق، ورفعت له أعلام السعادة؟
وليس من أعد للاستفراخ كمن هُيئ للسباق
خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد
كانوا مع الشدة قد أوقفوا حياتهم لله؛ فاعلين متفاعلين في إخراج الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها، لتكون خير أمة أخرجت للناس:
هزئوا بكل كريهةٍ ندبوا لها لله واستحلوا على الكره العطب
إن تلق واحدهم تجده بمسجدٍ حملاً وكالليث الهصور إذا ركب(38/16)
حقيقة النعيم عند أبي عبيدة بن الجراح
روى البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وإلى حيٍ من قبيلة جهينة -كما في بعض الروايات- وزودنا جراباً من تمرٍ لم يجد لنا غيره.
تموين السرية وهم ثلاثمائة جراب تمرٍ فحسب.
كان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
حزمٌ وحسن قيادة وإدارة، إذ لو تركهم وشأنهم لفني زادهم في وقتٍ قليل، ثم تعرضوا للهلاك.
فقيل: كيف تصنعون بتمرة؟ قالوا: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل
صبٌر عظيمٌ على الجوع إلى حد الاكتفاء بتمرة واحدة يوماً وليلة.
يقول أحدهم: وما تغني تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين فنيت
ثم فقدوا الأكل كله حتى التمر، فصاروا يعيشون على أوراق الشجر، وأي شجر؟ إنه السمر إنه الخبط خشن شديد لا يكاد يبلع، قال: فكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله حتى قرحت أفواهنا، فسميت السرية بسرية الخبط، قال: وانطلقنا على ساحل البحر
لا يجدون تمراً، ولا شجراً ولا شيئاً، قد نفد زادهم، واشتد جوعهم، فهل فكروا في العودة إلى المدينة قبل أداء مهمتهم يا معاشر المؤمنين؟
هل تضجروا وسخطوا على قائدهم إذ لم يزودهم سوى جراب تمر؟
كلا والله، إنهم رجالٌ أعدوا إعداداً تربوياً لتحمل الشدائد التي يطيقها البشر ولو بمشقة عظمى، أيقنوا وآمنوا بقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120 - 121].
وبينما هم على ساحل البحر إذ رفع لهم كهيئة الكثيب الضخم، قال: فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة: ميته؟ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر والقطع كقدر الثور، ثم أخذ منا أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا فمر من تحته.
لا إله إلا الله! {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] هذا رزق الله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:21].
قال: وتزودنا من لحمه وشائق، ولم نلق كيداً والحمد لله، ثم قدموا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذاك رزقٌ أخرجه الله لكم}.
إنها كرامة الله لأوليائه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قلنا: نعم، فأرسلنا إليه منه فأكله صلوات الله وسلامه عليه}.
يا عبد الله! حينما يكون الإيمان قوياً يتضاءل مفعول هموم الدنيا على النفس فتأتي بالعجائب كما سمعت:
من يؤثر الحق يبذل فيه طاقته ومن يكن همه أقصى العلا يصل
لا شيء يقعد آمال النفوس إذا خلت من الضعف واستعصت على الكسل
هذا مجالك فاركض غير متئدِ وإن رأيت المنايا جُوَّلاً فجلِ
والنعيم لا يدرك بالنعيم.(38/17)
حقيقة النعيم عند عمرو بن سلمة
وهاهو عمرو بن سلمة كما ثبت في صحيح البخاري يقول: لما كان عام الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم، فبدر أبي قومي بالإسلام، فلما قدم أبي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئتكم من عند رسول الله حقاً، وقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، يقول عمرو: فنظروا، فلم يكن أحدٌ أكثر مني قرآناً لما كنت أتلقى القرآن وأتلقنه من الركبان، فقدموني بين أيديهم بعد أن علموني الركوع والسجود، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين - {إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين} - قال: وكانت عليَّ بردةٌ صغيرة فيها فتق، فكنت إذا سجدت تقلصت عني -اجتمعت وارتفعت لقصرها وضيقها حتى يظهر شيءٌ من عورته- فقالت امرأةٌ من الحي: يا بني سلمة! واروا عنا عورة قاريكم، قال: فاشتروا لي قميصاً عمانياً سابلاً، والله الذي لا إله إلا هو ما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به
إنه فرحٌ عظيم كما هي عادة الصغار بالفرح بالثوب الجديد، لكنه لا يعدل فرحه بالإسلام، يقول: فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين.
فالعمر لا يقاس بالأعوام والعقل لا يقاس بالأجسام
هذا عمرو يا بن الإسلام! يؤم قومه وهو ابن سبع سنين؛ فما قدمت لدينك يا بن عشرين يا بن ثلاثين يا بن أربعين يا بن خمسين يا بن ستين؟
هل نشرت علماً؟
هل أنفقت في الخير مالاً؟
هل غيرت منكراً؟ أم أنك تتهرب وتلقي باللائمة على غيرك إيثاراً للسلامة والدعة والراحة؟
اعلم: النعيم لا يدرك بالنعيم، وابن السبع شاهد، إيهٍ عمرو كذا يفعل الأسد بن الأسد:
بلغت لسبعٍ مضت من سنيك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا
وكم رجلٍ ترى فيه صبيا وكم من صبيةٍ وهمُ رجال
والنعيم لا يدرك بالنعيم.(38/18)
حقيقة النعيم عند الصحابة المجاهدين
خرج الأصحاب -رضوان الله عز وجل عليهم- مجاهدين، فإذا الستة منهم يركبون بعيراً واحداً، حتى نقبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم؛ في يومٍ صائف ولا نعال، فجمعوا الخرق على أرجلهم يتقون بها الحر والصخر، فسميت الغزاة بـ (ذات الرقاع).
إنها النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، ولو كان في ذلك أذاها، إذ النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن يجد يجد، والنفس إن تعبت فربما راحة جاءت من التعب.
خرجوا يوم بدر لا يريدون القتال، إنما يريدون الغنيمة، فإذا الغنيمة غير الغنيمة، فاشتدت العزيمة بعد المشورة يوم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أشيروا عليَّ أيها الناس؟} فإذا العزيمة في أوجها وفي قوتها، فإذا بقائل المهاجرين يقول: امض لما أراك الله يا رسول الله، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
وإذا بقائل الأنصار يوقظ المشاعر، ويدفع المتردد إلى الإقدام، وينبه الغافل إلى النصرة ولو كان الثمن النفوس، فيقول: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
وتنفرج أسارير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل المذهبة، ويقول: {سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم}.
خرجوا -معاشر المؤمنين- لغنيمة دنيا، فأصابوا الدنيا والأخرى
أسد جياعٌ إذا ما وثبوا وثبوا
واليوم من عمر أسود الأجمِ بألف عامٍ من حياة الغنم
عش ساعةً في لجج البحار ومت شهيد الحق في التيار
الموت في الوغى وفي الميدان ولا حياة الأسر والهوان
الفراشة تبذل الحياة رخيصة في لذة لمحةٍ تطوف بها حول السراج، وحالها:
أنال بها شرفاً في الجهاد وأصبح من بعد هذا رمادا
أحب احتراقي بنار اشتياقي ولا أرتضي عيشة الخاملين
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
هؤلاء الأصحاب كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب، ولقد كان أحدهم يمسي لا يجد عشاءً إلا قوتاً، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله، ثم يتصدق ببعضه وهو أحوج ممن يتصدق عليه وحاله:
إذا كان بعض المال رباً لأهله فإني بحمد الله مالي معبدُ(38/19)
حقيقة النعيم عند أويس القرني
أويس القرني سيد التابعين رحمه الله، كان إذا أمسى تصدق بكل ما في بيته، ثم قال: [[اللهم من مات جوعاً أو ظمأً أو عرياً فلا تؤاخذني به، اللهم إني أعتذر إليك من كل بدنٍ عارٍ، وكبدٍ ظمأى وبطنٍ جائع، اللهم إنه ليس في بيتي من طعامٍ سوى ما في بطني وأنت أعلم، وليس لي شيءٌ من الدنيا إلا ما على ظهري وأنت أعلم]]
وماذا على ظهره؟ والله ما على ظهره سوى خرقة، والغنى غنى النفس.
إن الغني هو الغني بنفسه لو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً فإذا قنعت فكل شيء كافي
أيها المؤمنون! هؤلاء الصابرون حينما تحولت حالهم إلى الرخاء، كيف كان حالهم؟ أطغوا حين استغنوا؟ أتكبروا وبطروا وجمعوا فمنعوا؟
لا والله الذي لا إله إلا هو، لم يتكبروا ولم يأشروا ولم يبطروا؛ بل كانوا الشاكرين حقاً، الخائفين من انفتاح الدنيا عليهم، فضحوا بها من أجل الثابت الباقي الدائم، وحالهم:
تالله ما عقل امرؤٌ قد باع ما يبقى بما هو مضمحلٌ فاني(38/20)
حقيقة النعيم عند أبي ذر الغفاري
يدخل أحدهم على أبي ذر -رضي الله عنه- وجعل يقلب بصره في بيت أبي ذر، ثم قال: [[يا أبا ذر، ما أرى في بيتك متاعاً ولا أثاثاً، فقال أبو ذر: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا، فقال: إنه لا بد لك من متاعٍ ما دمت هاهنا؟ فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه]].
فكل بساط عيشٍ سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا
لا تركنن إلى القصور الفاخرة واذكر عظامك حين تمسي ناخرة
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل يا رب! إن العيش عيش الآخرة
أيقنوا أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلما أقبلت عليهم الدنيا أعرضوا عنها، وخافوا أن تكون طيباتهم عجلت لهم.
فقد تنجو النفوس بأرض جدبٍ ويهلك أهله المغنى الخصيب(38/21)
حقيقة النعيم عند عبد الرحمن بن عوف
ثبت في البخاري أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أتي بطعامٍ وكان صائماً، فدار بخلجه من مضى لسبيله من أصحابه ولم يترك شيئاً، ولم يرَ من نعيم الدنيا شيئاً، فأدركه الخوف، فقال: [[قتل مصعب وهو خير مني، وكفن في بردةٍ إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خيرٌ مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام]] رضي الله عنه وأرضاه.
لقد تذكر عبد الرحمن ذلك الفتى المنعَّم الذي صاغه الإسلام، فتقدم حين نادت المغارم، وذهب للقاء ربه قبل مجيء المغانم، اختاره الله ليموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم على يديه:
أسيد الذي تنزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وسعد الذي اهتز لموته عرش الرحمن، فخشي عبد الرحمن ألا يدرك ما أدركوه، لما يرى من نعم الله عليه، وقد اشتاق لهم، إيه عبد الرحمن!
رفقاً بها فشوقها قد ساقها يا حبذا الوادي الذي قد شاقها(38/22)
حقيقة النعيم عند عائشة بنت الصديق
عائشة رضي الله عنها، تستضاف عند عروة ابن أختها، فجعل يرفع لها قصعة ويضع أخرى، يقرب طعاماً ويرفع طعاماً، فحولت وجهها إلى الحائط تبكي ولم تأكل، فقال لها عروة: [[كدرت علينا أي أماه! فقالت: والذي بعثه بالحق ما رأى المناخل من حين بعثه الله حتى قبض، وما شبع من خبز شعيرٍ يومين متتابعين حتى قبض، ولقد كان يربط الحجر على بطنه، وقد اغبرت جلدة بطنه يوم الخندق وهو يحفر معهم]] فاستعبر الجميع وتركوا الطعام.
ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاماً! وما أغلاه حين يكون قدوة وذماماً! حال أم المؤمنين ومن معها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي
ولا جلست إلى قومٍ أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جُلاسي
ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رأيت خيالاً منك في الكأس
وكل امرئ يهفو إلى من يحبه وكل امرئ يصفو إلى ما يناسبه
ولما أقبلت عليهم الدنيا، خضعوا لله وخشعوا، فسخروها فيما يرضي الله، واستعاذوا بالله أن تفتنهم.(38/23)
حقيقة النعيم عند عتبة بن غزوان وأصحابه
وعن تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.
عتبة بن غزوان رضي الله عنه يقول: [[كنت سابع سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما لنا من طعامٍ إلا ورق الشجر، حتى قرحت أفواهنا، وما منا أحدٌ اليوم إلا وأصبح أميراً على مصرٍ من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً]].
تواضع لما زاده الله رفعةً وكل رفيعٍ قدره متواضع
جلالة قدرٍ في خمول تواضع إن التواضع للمعالي سلم
وأولو التواضع يخشعون فيرفعوا(38/24)
حقيقة النعيم عند عمر رضي الله عنه
ويورد الذهبي رحمه الله: أن عمر رضي الله عنه -وهو أمير المؤمنين- حين قدم الشام، قال لأمير الجيش أبي عبيدة أمين الأمة رضي الله عنهم جميعاً: اذهب بنا إلى منزلك.
من أهداف عمر رضي الله عنه حين قدم الشام أن يزور بيت أميره ليثلج صدره برؤية مظهرٍ نادرٍ من مظاهر احتقار الدنيا الفانية، فقال أبو عبيدة: [[وما تصنع عندي؟ إن تريد إلا أن تعصر عينيك، قال: لا بد، فدخل عمر، فلم يرَ في بيت أمير الجيش شيئاً يرد البصر، فقال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لبداً وصحفةً وشناء، وأنت الأمير، أعندك من طعام؟ قام أبو عبيدة إلى جونةٍ، فأخذ منها كسيرات خبزٍ يابسة وقدمها إلى أمير المؤمنين عمر، فلم يتمالك نفسه حينما رأى ذلكم البيت الذي كأنما هجر من دهر، وذلكم الطعام الخشن، فأجهش ونشق، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إن تريد إلا أن تعصر عينيك يا أمير المؤمنين، يكفينا ما يبلغ المقيل، فأجهش أخرى، وقالها في تواضع كبير من رجلٍ كبير غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة]] وهل حقاً غيرت عمر؟ كلا ولكن:
دنوت تواضعاً وسموت مجداً فشأناك انخفاضٌ وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أن تُسامى ويدنو الضوء منها والشعاع(38/25)
حقيقة النعيم عند طلحة بن عبيد الله
لما أقبلت عليهم الدنيا جعلوها في أيديهم، وسخروها في مرضات ربهم، أرقتهم حتى إذا ما أخرجوها في مرضات ربهم نام الواحد منهم قرير العين، هادئ البال، ولساناه: ما لي وللدنيا.
هاهو طلحة -رضي الله عنه- يأتيه مال من حضرموت قدره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته تلك يتململ قد جافاه النوم، فقالت له زوجته: مالك أبا محمد؟ قال: تفكرت منذ الليلة فقلت: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته!
الله أكبر! أهل الدنيا يتململون ويأرقون ويقلقون في كيفية تصريف المال لتتضخم الثروة، وتحصل السعادة الوهمية بتزايد المال، كما يقول صاحب كتاب التاريخ مواقف وعبر، أما طلحة فيتململ من تكاثر المال عنده خشية أن يحاسب عنه يوم القيامة، مع أنه -والله- ليس إلا الحلال المحض، والله ما هو من رشوة ولا ربا، ولا حيلة ولا غش ولا شبهة، حاشاه رضي الله عنه وأرضاه، لكنها تربية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت عنه كما في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: {يا عائشة ما فعل الذهب؟ -وأي ذهب؟ إنها سبعة دنانير فقط- قالت: هي عندي، قال: ائتيني بها، قالت: فجئت بها فوضعها في يده، ثم قال: ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده، أنفقيها يا عائشة} وفي رواية: {ابعثي بها إلى علي لينفقها} فتصدق بها علي رضي الله عنه وأرضاه، مالي وللدنيا!
وطلحة قبسٌ من ضوئه ولا يتخلف عن ضوئه: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته، فقالت زوجه الوفية الصادقة: فأين أنت من فقراء أخلائك، إذا أصبحت فادع بجفانٍ وقصاعٍ فقسمه فيهم، ونم قرير العين أبا محمد.
الله أكبر! ما أعظم التفكير! وما أبلغ المشورة! وما أصدق السلوك!
لها نفس تحل بها الروابي وتأبى أن تحل بها الوهادا
فقال لها: رحمك الله! والله إنك لموفقة بنت موفق.
إنها الزوجة الصالحة يا بنت الإسلام! أكبر عونٍ لزوجها على فعل الخير.
إن المعروف المألوف أن تحاول الزوجة أن تتوسع مع ذويها بالمال، فإذا وُجدِت من تكسر هذا المألوف وتشير على زوجها وتدله إلىالخير، فغاية التوفيق والرشاد والسداد، أيقظت في نفسه دوافع الخير التي يملك منها رصيداً ضخماً، فأثنى عليها وهي للثناء أهل، ألا من هي يا معشر المؤمنين؟
إنها أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها ولا غرابة! فإن أباها أمام عينها قد خرج من ماله كله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله} رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بيتهم غدوةً وعشياً، فنمت وترعرعت في ذلكم الجو المتمثل للحياة الآخرة في ذهنها في وضوح، تفكيراً وسلوكاً وشعوراً وانتماءً فلا غرابة!
إذا أوقدت نارها بـ العراق أضاء الحجاز سنا نارها
فهمها في العلا والعز ناشئة وهم أترابها في الحلي والذهب
لما أصبح طلحة دعا بالجفان والقصاع، فقسمها بين فقراء المهاجرين والأنصار، وبعث لـ علي -رضي الله عنه- بجفنة، فقالت زوجته أم كلثوم رضي الله عنها: أبا محمد أما لنا فيه من نصيب؟ قال: شأنك بما بقي، فإذا هي صرةٌ بألف درهم
لا يألف الدرهم المضروب صرتهم لكن يمر عليها وهو منطلق
لا إله إلا الله! ينفق في يومٍ واحد ستمائة وتسعةً وتسعين ألفاً، والله ما أخذها من طريق شبهة؛ ناهيك عن أن يأخذها من طريقٍ حرام! لكنه علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلكل سلعةٍ ثمن، وسلعة الله غالية سلعة الله الجنة: {من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل}.
كنز المحامد والتقوى دفاتره وليس من كنزه الأوراق والذهب(38/26)
نداء إلى أثرياء المسلمين
إلى أثرياء المسلمين! إلى موسري المسلمين! يا من ينعمون بنعم الرحمن، ويعيشون الأمن والأمان.
يا موسراً عضواً في جسد أمةٍ كلها جراح يتيمها في المحافل يذاب ويمسخ ويبكي، وشيخها ينوح، وأرملتها تئن، وأسيرها جريح، وجاهلها يتيه
من عمق أنين اليتامى، وصريخ الثكالى، ونشيج المكلومين والحيارى
من بين أسرٍ تشتت بعد شمل، وجمعٍ تفرق بعد جمع، منزله الفضاء، وسقف بيته سماء الله، أو قطع السحاب
من أسى نائمٍ على أزيز قاذفات، ومستيقظٍ على دوي انفجارات، لا يرحم الرحمن من لا يرحم.
إن المعركة -معشر المؤمنين- ليست سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، إنها معركة عقيدة في صميمها، إما كفر وإما إيمان إما جاهلية وإما إسلام، والمال سلاحٌ في هذه المعركة معشر الموسرين، فأنفقوا من مال الله الذي آتاكم، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم
خصصوا من كسبكم في كل شهرٍ جزءاً معلوماً، لنصرة مظلوم لكفالة يتيم لتفريج كرب مكروب لتعليم جاهل لقضاء دين مسلمٍ غارم لإعفاف شاب لهداية ضال لطباعة كتاب لتوزيع شريطٍ نافع، بشيء يجري عليك بعد الممات: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].
السير حثيث لا منجد ولا مغيث فبادروا بالصدقة المواريث، ولا تيمموا الخبيث حركوا هممكم وأزعجوا، وحثوا عزائمكم وأدرجوا، وآثروا الفقير بما تحبون: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]
أيها المثري ألا تكفل من بات محروماً يتيماً معسرا
أنت ما يدريك لو راعيته ربما قدمت بدراً نيرا
ربما قدمت سعداً ثابتاً يحكم القول ويرقى المنبر
ربما أيقظت منهم خالداً يدخل الغيل على أسد الشرى
كم طوى البؤس نفوساً لو رعت منبتاً خصباً لكانت جوهرا
كم قضى اليتم على موهبة فتوارت تحت أطباق الثرى
إنما تحمد عقبى أمره من لأخراه بديناه اشترى
يا رجال المال! هذا وقتكم آن أن ينفق كلٌ ما يرى
يا بن الإسلام! أيها الموسر! اجعل كنزك في السماء، فإن قلب المرء عند كنزه، مالُك ما قدمت الباقي ما أنفقت، الزائل ما أبليت وأفنيت وأبقيت وأقنيت.
فبادر وبادر بدون انتظار إذا كنت أهلاً لخوض البحار
فلا يعقر الكلب من يرحمه ولا يصرع النمر من يطعمه
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
يا معشر المؤمنين! ويا معشر الموسرين! أما إنه ليس القصد ألا يملك الإنسان الدنيا قطعاً، ولكن القصد ألا تملك الدنيا الإنسان، فلا تتحول الوسائل إلى أهداف، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، نعم.
العبد الصالح:
فترى الدنيا انطوت في كفه ليس منها ذرة في قلبه(38/27)
حقيقة عزوف الصحابة الأعلام عن الدنيا
لما أدرك الصحب الكرام الأعلام أن النعيم لا يدرك بالنعيم؛ استعلوا على جواذب الأرض، فعزوا وبزوا، كالمصابيح ما على أحدها أن يتألق بنور غيره ما دام في كل مصباحٍ زيته، نُصروا بالرعب، وجاوزا الشهب، وإذا بهم يقفون على أعتاب مملكة فارس أمام رستم قائد الفرس في عزة الإسلام، يعرضون عليه الإسلام أو الجزية أو القتال، وهو يعرفهم قبل الإسلام بأنهم أقل عدداً، وأسوء ذات بين، وأشقى هم أحدهم ما يأكله، لا قيمة ولا وزن ولا معنى ولا مبنى.
قال رستم في كبرياء وصلفٍ وغرورٍ للمغيرة: "لقد كنتم إذا قحطت بلادكم استغثتم بناحيتنا، فأمرنا لكم بشيء من التمر والشعير ورددناكم، حتى إذا ما طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، واستظللتم بظلالنا، دعوتم أصحابكم وأتيتم! ما حالنا وحالكم إلا كرجلٍ له حائط عنبٍ فيه جحر، فجاء ثعلب فدخل من هذا الجحر ليأكل من العنب، فقال صاحب الحائط: وما ثعلب واحد.
دعوه يأكل، فخرج الثعلب فدعا الثعالب جميعاً، فأتت ودخلت من مدخله، حتى إذا صارت كلها في الحائط سد عليها الجحر، ثم قتلها جميعاً، أو إنما مثلكم أيضاً كذباب رأى العسل، فقال: من يوصلني إليه وله درهمان، فلما وصل إليه سقط فيه، وجعل يطلب الخلاص والنجاة، ويقول: من يخلصني وله أربعة دراهم، نعلم أنه ما أخرجكم إلا الجوع، فارجعوا ونفرض لكلٍّ منكم كسوةً وطعاماً، ونملك عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم".
فقال المغيرة في عزة المؤمن: [[لا والذي لا إله إلا هو ما هذا الذي أخرجنا، ولكن الله رزقنا على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم حبةً تنبت في أرضكم، فلما ذاقها عيالُنا، قالوا: لا صبر لنا عنها، أنزلونا أرضها لنأكل منها، فجئنا -والله الذي لا إله إلا هو- لنطعمها أو نموت دونها، أفبعد أن أوهنا ملككم، وأضعفنا عزمكم نرجع عنكم، لا والله حتى تعطوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، أو تُسلموا وتَسلموا]] حاله:
فاكفف ودع عنك الإطالة واقتصر وإذا استطعت اليوم شيئاً فافعلِ
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
فاستشاط غضباً في رعبٍ، وقال: "والشمس لأقتلنكم غدا" قال المغيرة: [[ستعلم ونعلم]] فقال: "لا صلح بيننا وبينكم" ويدب الرعب في قلب هذا الكافر، وإذا به بعد ليالٍ يتخفف مما عليه من السلاح أمام جند الإسلام الذين طمعوا في نعيم الآخرة، فيرمي بدرعه ورمحه وسيفه، ثم يرمي بنفسه في النهر، ويسحب من النهر لتفلق هامته بالسيف، ثم يرمى تحت أقدام خيل المسلمين لتدوسه بأرجلها، والمكبر يكبر: الله أكبر الله أكبر!
على ترانيم تكبيراتنا سقطت رايات كسرى وذاق الموت ساسان
عافوا المذلة في الدنيا فعندهم عزُّ الحياة وعز الموت سيان
لا يصبرون على ضيمٍ يحاوله باغٍ من الإنس أو طاغٍ من الجان(38/28)
كيف ندرك النعيم
معاشر المؤمنين! إن الأمة قبل البعثة كانت عزوفةً عن الفضائل، منغمسةً في الرذائل، فلم يزل بها هذا القرآن والسنة؛ حتى أخرج من رعاة النعم قادة الأمم، ومن خمول الأمية أعلام العلم والحكمة، فإن زعم زاعمٌ في عصرك أن الزمان ليس الزمان، قلنا: لكن الإنسان هو الإنسان، والقرآن لم يزل هو القرآن، هو صالحٌ لكل زمانٍ ومكان.
القمة مرهقة؛ تكلف صاحبها عناء الصعود، وشق الصفوف، وبذل المجهود، وموطأ الأرض تدوسه أقدام الأسود والقرود واليهود، والبحر الواسع الأمواج فيه تلتطم؛ لكنها تنفرج عن حلية الخرد الخود:
وما قدر اللآلئ وهي درٌ إذا لم ينفلق عنها المحار
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
الثبات على دين الله نعيم، ولا يدرك بالنعيم العلم نعيم ولا يدرك بالنعيم، تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق نعيم الفضيلة نعيم كبح النفس عن الهوى نعيم الإحسان إلى الخلق نعيم ضبط الجوارح بالوحي نعيم ضبط المكاسب بالوحي نعيم ضبط الولاء والبراء بالوحي نعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم، والنعيم والملك الكبير على الحقيقة ثَمِّ في دار النعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
والله لو كان لأحدنا ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر، فبذل ذلك كله في ذلكم المطلوب العزيز لكان قليلا، ولئن ظفر به من بعد ذلك لكان غنماً عظيماً وفضلاً كبيراً.
والله الذي لا إله إلا هو؛ لو أن رجلاً يجرُّ على وجهه من يوم ولدته أمه إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله لحقره يوم القيامة يوم يرى عياناً عظيم نواله وباهر عطائه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما المجد زخرف أقوالٍ لطالبه لا يدرك المجد إلا كل فعال
كلٌ له غرضٌ يسعى ليدركه والحُر يجعل إدراك العلا غرضا
أي شباب الإسلام! خذوها فصيحةً صريحة لا تستتر بحجاب، ولا تتوارى بجلباب، علتنا التي أعيت الأطباء، واستعصت على الحكماء، هي وهن العزائم، وضعف الإرادة والأخلاق، فلنداو الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، ولنأسُ العزائم بالوحي تقوى وتشتد كما يقول الإبراهيمي:
فاحذها تسرِ فوق السماء يا غر سماوات أخر
وفوق هذا المجد في دنياك مجد ينتظر
يا أيها الجيل! نريدك جيلاً طاهراً تقياً نقياً، إن كان في الحرب فهو في صولته كأسد الشرى، وفي السلم في وداعته على أوليائه كغزال الحمى، يجمع بين حلاوة العسل لأوليائه، ومرارة الحنظل لأعدائه، كما يقول إقبال.
إن تكلم كان رقيقاً رفيقاً، وإن جد في الطلب كان شديداً حثيثاً، وكان مع ذلك عفيفاً نزيهاً آماله ومقاصده جليلة، ومع ذا غني القلب في الفقر فقير الجسم في الغنى غيورٌ في العسر كريمٌ في اليسر يظمأ إن بدا له في الماء مِنَّة، ويموت جوعاً إن رأى في الرزق ذلة.
فإن المال قد يأتي ويمضي وأنت وما ملكت إلى ارتحال
إن قابل في سيره صخوراً وجبالاً كان شلالاً، وإن مر على الحدائق كان عذباً سلسالاً، يجمع بين جلال إيمان الصديق وحزم عمر، وحياء عثمان، وشجاعة وقوة علي، وصدق سلمان، وأمانة أبي عبيدة.
فكن مثل الصحابة أهل دنيا وآخرة وعباد وغزا
كالشمس إذا غربت في جهةٍ أشرقت في أخرى، فهي لا تزال مضيئة طالعة، تغشى البلاد شرقاً وغرباً، موقنٌ أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
فشد الرحل أيها الجيل! وقرب المطية، ولا تخش لذع الهواجر ولو كنت في شهري ناجر، ولا يهولنك بعد الشقة، وخيال المشقة، فالنعيم لا يدرك إلا بحظٍ من المشقة.
فانهض بإقدامٍ على الأقدام إن كنت للعلياء ذا مرام
شقوا الزحام إلى العليا واقتحموا أخطارها إنما العليا أخطار
اشقوا لتحيوا حياة العز أو تردوا حوض الردى فالردى يحمى به العار
إذا لم تمض في وقت الحر الشديد، فستضطر إلى المضي في البرد الشديد، فابدأ المسير إلى الله أيها الجيل! والنعيم لا يدرك بالنعيم.
إلهي
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالكلام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب
فيا فالق الإصباح والحب والنوى ويا قاسم الأرزاق بين العوالم
ويا كافل الحيتان في لج بحرها ويا مؤنساً في الأفق وحش البهائم
ويا محصي الأوراق والنبت والحصى ورمل الفلا عداً وقطر الغمائم
إليك توسلنا بك اغفر ذنوبنا وخفف عن العاصين ثقل المظالم
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
ودمر أعادينا بسلطانك الذي أذل وأفنى كل عاتٍ وغاشم
ومنَّ علينا يوم ينكشف الغطاء بستر خطايانا ومحو الجرائم
وصل على خير البرايا نبينا محمدٍ المبعوث صفوة آدم
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(38/29)
حروف تجر الحتوف
إن من أعظم ما يفكك بنيان الأمة، ويهد أركانها، ويهدد الفضيلة الطعن في الأعراض والاستطالة على الحرمات، خاصة في حق أبناء الأمة المخلصين من علماء وطلاب علم، وفي هذه المحاضرة يبين الشيخ هذا الخطر ببيان شاف، ومواعظ بليغة(39/1)
حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب(39/2)
مقدمة ترحيبية وابتهالات
الحمد لله
الحمد لله عظيم المنة وناصر الدين بأهل السنة
نحمده وفقنا إلى الهدى حمداً كثيراً ليس يحصى عددا
وبعد حمد الله إني أشهد أن لا إله مستحقاً يعبد
إلا الإله الواحد الفرد الصمد من جل عن زوجٍ وكفءٍ وولد
اللهم إني أحمدك على ما علمت من البيان، وألهمت من التبيان، وأسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، وشرة اللسن ومعرة اللكن، والسلاطة والهذر والعي والحصر، اللهم إنا نسألك أن تكفينا الافتتان بإطراء المادح وإرضاء المسامح، وأن تقينا إزراء القادح وهتك الفاضح، نستغفرك اللهم من نقل الخطوات إلى الخطيئات، وسوق الشهوات إلى الشبهات.
اللهم هب لنا توفيقاً إلى الرشد، وقلوباً تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقاً يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، وأنفساً تأنف الخنا، اللهم أسعدنا بالهداية، وأعضدنا بالإعانة على الإبانة، اللهم قنا غوائل الزخرفة، فلا نرد مأثمة ولا نقف مندمة، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا.
أشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ ختمت به النبيين، وأعليت درجته في عليين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين:
يا رب صل على النبي المصطفى ما لاح برق في الأباطح أو قبا
يا رب صل على النبي المصطفى ما قال ذو كرمٍ لضيفٍ مرحبا
اللهم اجعلنا لهديه متبعين، وانفعنا بمحبته واتباعه أجمعين.
أما بعد:
فيا معشر الإخوة والأخوات والبنين! أشرف التحايا ما مازج النفس وخالط الروح، وأثار المشاعر وحرك الضمائر، ولا والله الذي لا إله إلا هو لا أعلمها إلا تلك التحية الفطرية؛ التي جاء بها دين الفطرة رمزَ أمان وعنوانَ إيمان، فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
تحيةً ينبعث معها الروح إلى القلوب، وينبث معها الاطمئنان إلى الجنوب، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمغرم والمندم، وبؤتم بحسن المنقلب، اللهم أعذني وإخوتي من قول الزور، وغشيان الفجور، ومن الغُرور والغَرور، اللهم لا أكون وإخوتي مستكثري حجج، كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع أنفه بكفه، فنلحق بالأخسرين أعمالاً {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].
بك يا رب نعتضد، ونعتصم بك مما يكون، عليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك نستعين وأنت المعين:
أنت ربي في تصاريفك خير الأحكمين
أنت بي أعلم مني أنت خير الأكرمين
أنت أولى بي مني فأعني يا معين(39/3)
وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام
معاشر الإخوة! لا يخفاكم أن الجراح في أمتنا غائرة، وفي أنفسنا قائمة بالغة:
جراحنا بالغات تعيي الطبيب الفطينا
وجرح دون جرح
جرح الحسام له آسٍ يطببه وما لجرح قناة الدين من آسٍ
إن الفرد والأمة في يومها ينبغي أن تكون في حالة استنفار وجهاد مع النفس وحظوظها وسهام الأعداء وزحوفها وسمومها، ويا عار وهزيمة فردٍ أتيت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها!
أما إن التقصير في جهاد النفس وأداء الواجب وشد بنيان الأمة والشعور بالجسد الواحد اليوم يعد جريمة، لأن حالنا اليوم كحال اليتيم الضائع الجائع؛ إذا لم يسع لنفسه مات، فإذا قصرنا في العمل لديننا، ووجهنا سهامنا إلى صدورنا؛ فمن ذا يقوم على ثغر أمة الإسلام؟ أمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟ أمن يقولون: إنا معكم حتى إذا خلوا بأسيادهم قالوا: إنما نحن مستهزئون؟ أمن يمنعون الماعون، ويداوون الحمى بالطاعون، ويترصدون بالأمة الغوائل؛ يرقبون الخلس، ويدرعون بالغلس؟ إن كان ذلك فقد وهى السقا، وأهرق بالفلاة الماء، واتبع الدلو الرشا، وهلك الناس من الظما، ولم يبك ميتٌ ولم يفرح بمولود.
لقد كنا -معشر الإخوة- في عصرنا هذا أول من نام وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن نتلاحم، ثم لا نقطع الوقت فيما يكره الله من قيل وقال، وهلهلة البنيان، واغتيابٍ وعتاب، وملام وطعن، وحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، وذلك عين ما يريده أعداء الدين.
أما إن التبعة كبيرةٌ ثقيلةٌ جدُّ ثقيلة، إننا نحتاج في يومنا إلى أن نرفع الأنقاض، ونبني ونعمر، ونؤدي فريضة الوقت، ونقضي الفوائت، ونؤدي الكفارات مع العوائق والمثبطات، ومن كان هذا حاله شمر وانبرى، وجد وبذل وضحى، وضبط حياته بوحي الله؛ شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمته، وأجلها أن هدانا لهذا الدين وجعلنا من خير أمة، أعني أمة خاتم النبيين، عليه صلوات وسلام رب العالمين.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] فكم وكم لله من نعمة سابغة للعبد في هدايته أولاً، ثم في أعضائه وجوارحه ومنافعه وقواه غير ملتفت إليها ولا شاكرٍ عليها! ولو عرضت الدنيا بما فيها بزوال واحدة من هذه النعم، لأبى المعاوضة، وعلم أنها معاوضة غبن: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] ولو فقد شيئاً منها لتمنى أنها له بالدنيا وما عليها، فاللهم لك الحمد
الحمد لله العزيز الباري ما ذكر الرحمن في الأقطار
وزين السماء نجم ساري
عبد الله! ومن شكر نعمة الله عليك في جوارحك؛ ضبطها بوحي الله، العين لا ترى، والأذن لا تسمع، واللسان لا ينطق، والعقل لا يفكر ويخطط، والقلب لا ينعقد، واليد لا تكدح، والرجل لا تسعى ولا تخطو إلا فيما يرضي المولى؛ حالك:
أنا أدري غايتي أعرف منهاج حياتي
قد تجلى لي مصيري إذ تلوت النازعات
أو كحال عروة رحمه الله حين قطعت رجله لآكلة دبت فيها فغشي عليه، ثم أفاق وحمد الله، وأخذ ساقه المبتورة، وقال وهو يقلبها في يده: أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد؛ إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرامٍ قط فيما أعلم:
خلق ورثنيه أحمد فجرى ملء دمائي وشغافي
لم يزلزله على طول المدى بطش جبارٍ ولا كيد ضعافِ
أو كحال أحد السلف وقد كانت له زنجية مملوكة غمته بعملها، فرفع السوط عليها يوماً، ثم قال: أما والله لولا الله ثم القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكني أبيعك ممن يوفيني الثمن أحوج ما أكون إليه؛ اذهبي فأنت حرة لوجه الله!
فيا لله من مواقف يعجز اللفظ أن يعبر عنها!
فالسكوت هو اللسان الفصيح.(39/4)
اللسان سلاح ذو حدين
معشر الإخوة! الجوارح جوارح، وأخطرها شأناً أداة البيان اللسان، ترجمان الجنان، كاشف مخبئات الصدور، زارع الضغينة والفتنة في الصدور، تسل السيوف وتدق الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتنٌ بكلمات، تضيع أوقات، وتشاع اتهامات، وتقذف محصنات غافلاتٌ مؤمنات بكلمات، تهدم حصونٌ للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات.
بكلماتٍ يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السبُّ والهمز واللمز واللعن والغيبة والطعن والنميمة والقذف والفحش والبذاءة كبائر بكلمات، إنها شجرات لا قرار لها؛ مجتثات مستأصلات خبيثةٌ سماؤها وأرضها وماؤها.
فإن شئت عنا يا سماء فأقلعي ويا ماءها فاصبب ويا أرض فابلعي
وفي المقابل تستيقظ الضمائر، وتحيا المشاعر، وتلين الجلود، وتحيا القلوب، وتذرف العيون، ويسعد المحزون، وتعلو الهمم بكلمات، إنما هي شجراتٌ طيبات، تؤتي أكلها كل حين بإذن الله رب الأرض والسموات.
بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها؟!
البيان ما البيان؟
إنه ذو حدين أحدهما -وهو المقصود- خطر جسيم، وشأنٌ عظيم، سلاحٌ فتاك؛ إن لم يضبط أهلك الحرث والنسل وزرع الشتات، يلدغ كالأفعى؛ ويحرق كاللظى، بحروفٍ تقطع الأواصر وتفصم العرى، وتكدر النفوس، وتضيق الصدور، ويهجر المسلم أخاه وأمه وأباه:
وهاجت سيوف وماجت حتوف وسال دم فوق مجرى دمي
وأصبح القول والأسماع تنبذه كأنه نسمٌ في جوف موءود(39/5)
أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات
روى البخاري من حديث عوف بن الطفيل وعروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى خالته عائشة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبر الناس بها، وكانت تكنى به، فيقال لها: أم عبد الله، والخالة بمنزلة الأم، وهي هنا أم لجميع المؤمنين بنص كتاب الله، وكانت رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به
لأن راحتها بحرٌ وليس لها ردٌ ومن ذا يرد البحر إن زخرا
بحرٌ ولكنه صافٍ مواهبه والبحر تلقى لديه الصفو والكدرا
فقال عبد الله حدباً على خالته في بيعٍ أو عطاءٍ عظيم أعطته، وقيل: في دارٍ باعتها وتصدقت بثمنها؛ قال: والله لتنتهين خالتي عائشة أو لأحجرن عليها، ينبغي أن يؤخذ على يديها.
قد فاته القول الرقيق فمال نحو غليظه
فقالت رضي الله عنها وأرضاها: أيؤخذ على يدي؟ أهو قال ذا؟ لله علي نذر ألا أكلم ابن الزبير أبداً.
يقول ابن حجر رحمه الله: عائشة أم المؤمنين وخالة عبد الله، ولم يكن أحدٌ في منزلته عندها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها، ورأت في كلامه هذا نوع عقوق، والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب، فكان جزاؤه عندها أن تركت كلامه كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعبٍ وصاحبيه لتخلفهما عن تبوك، ثم إن هجر الوالد ولده والزوج زوجه لا يتضيق بثلاث، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، ويحمل على ذلك ما صدر عن عائشة رضي الله عنها وكثيرٍ من السلف من الهجر لبعضهم مع علمهم بالنهي عن المهاجرة والله أعلم.
وطال الهجر على ابن الزبير، وضاقت به الأرض، وضاقت نفسه حتى صار:
كأنه فارس لا سيف في يده والحرب دائرة والناس تضطرب
أو أنه مبحرٌ تاهت سفينته والموج يلطم عينيه وينسحب
أو أنه سالك الصحراء أظمأه قيظ وأوقفه عن سيره التعب
فاستشفع إليها بالمهاجرين، فقالت: والله لا أشفع فيه أحداً، ولا أتحنث في نذري ولا آثم فيه لكأنك به وهو يهمهم ويقول:
وضاقت بي الأرض حتى كأني من الضيق أصبحت في محبسي
وعندها كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود، وهما من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أرق شيءٍ لهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: ناشدتكما الله لما أدخلتماني على خالتي عائشة! فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي إلى أبد، إن كانت عقوبة على ذنبي، فليكن لذلك إلى أمد فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم كلكم -لا تعلم أن معهما ابن الزبير - فقالا له: إذا دخلنا، فاقتحم عليها الحجاب، فلما دخلوا اقتحم عليها الحجاب، فاعتنق أمه عائشة وطفق يناشدها ويبكي، والمسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان لها: يا أم المؤمنين! قد نهى صلى الله عليه وسلم عما علمت من الهجر، وأكثرا عليها من التذكرة والتحريم، وطفقت تذكرهما وتقول: نذرت والنذر شديد، ولم يزالا بها يكلمانها حتى كلمته وعفت عنه.
فلا تسل لكأنه عبدٌ مملوكٌ أعتقته، أرسل إليها بعد ذلك عبد الله بعشر رقاب فأعتقتهم جميعاً لوجه الله، ثم لم تزل تعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، كل ذلك مبالغة منها في براءة ذمتها رضي الله عنها، وكان يكفيها عتق رقبة، ولكن:
طابت منابتها فطاب صنيعها إن الفعال إلى المنابت تنسب
يا بنة الصديق طيبي وانعمي ذاك حكم الله خير الحاكمين
وكانت تذكر نذرها ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها، فرضي الله عنها وأرضاها:
بعض المعادن قد غلت أثمانها ما خالص الإبريز كالفخار
بين الخلائق في الخلال تفاوت والشهد لا ينقاس بالجمار
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!(39/6)
خطر اللسان وعاقبته على الأعمال
إنها الحروف لو قُدِّر كون بعضها سائلاً ثم مزج بماء البحر لأفسده وغيَّره، بحروفٍ ملفوظةٍ أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويرضى عنه أو يسخط عليه، قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه كما في الصحيحين: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ في الجنة -وفي رواية: يكتب الله له رضوانه بها إلى أن يلقاه- وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً؛ يهوي بها في جهنم} وفي رواية: {يكتب الله له بها سخطه إلى أن يلقاه}.
ضوابط دقيقة وزواجر عظيمة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]!
وكم من الحروف تجر الحتوف!
وإن الإنسان -معشر الإخوة- يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والربا والسرقة وشرب الخمور والنظر المحرم وغير ذلك، ومع ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى إنك لترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قال ابن القيم رحمه الله.
فكم رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول، وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه الإمامان مسلم وأحمد: {أن رجلاً مجتهداً وجد أخاه على ذنب فقال له: أقصر، فاستمر على ذلك، فلم يزل يكرر عليه أقصر أقصر، فغضب منه ذلك، وقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال هذا الغيور: والله لا يغفر الله لك يا فلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، أكان بي عالماً وعلى ما في يدي قادراً؟ قد غفرت له وأحبطت عملك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه}
فكان أضيع من لحمٍ على وضم وصار يقرع منه السن في ندم
وفي صحيح الترغيب للألباني بسندٍ حسنٍ لغيره: {أن غلاماً استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من شدة الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه، ثم قالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه} يالله!
يستحسن البعض ألفاظاً إذا امتحنت يوماً فأحسن منها العجم والخرس(39/7)
المقصودون بمحاضرة (حروف تجر الحتوف)
أيها المسلم! فاعمل عملاً ترجو حصاده، دون تحريف وتبديلٍ ولغوٍ أو زيادة، لهذا كله -معشر الإخوة- كانت هذه الحروف المُعْنَوْنَ لها بـ (حروف تجر الحتوف)
وكم من حروفٍ تجر الحتوف ومن ناطقٍ ود أن لو أن سكت(39/8)
أولاً: الرافضة
أوجهها حجةً إلى من غلبت عليهم شقوتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بينة، فوقعوا في خيار أهل الملة ممن كان لهم شرف الصحبة لمن قال: {لا تسبوا أصحابي}.
فلا رحم الرحمن من لا يحبهم وأخزى معاديهم بدنيا وآخرة
فوالله الذي لا إله إلا هو لا أرى مثلاً لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون على القمم الشماء؛ إلا كذبابةٍ حقيرةٍ سقطت على نخلة عملاقة، فلما همت بالانصراف قالت باستعلاء: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة؛ فهل شعرت بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟
ألم تر أن الليث ليس يضيره إذا نبحت يوماً عليه كلاب
لا يضير السماء العواء ولا أن تمتد لها يد شلاء:
وإطفاء ضوء الشمس أدنى لراغبٍ وأيسر من إطفاء نور الشريعة
وكم من حروف تجر الحتوف!(39/9)
ثانياً: من يترقون المناصب عند أعدائهم على أعراض العلماء
أرسلها لمن نشأ وتربى في حجر الأفاعي -أعني عدوه- فهو آلةٌ صماء في يد عدوه يديره كيفما يشاء، ويريده على ما شاء فيجده أطوع من بنانه، يحركه للفتنة فيتحرك، عقربٌ لا تلدغ إلا من يتحرك ولا غرابة:
من كان في جحر الأفاعي ناشئاً غلبت عليه طبيعة الثعبان
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
أهديها بلا ود؛ لمن يبنون الفروع على غير أصولها، فيبوءون بضياع الأصل والفرع معاً.
بل إلى من جعلوا الفرع سلماً للأصول، بل للوصول؛ على طريقة أبي دلامة حين حكمه الخليفة في جائزته، فاقترح كلب صيد، ثم طلب خادماً له، ثم جارية تطبخ الصيد، ثم داراً تؤوي الجميع، أكلاً للعنقود حبة فحبة مع لحافٍ وجبة:
فإنهم كقطيعٍ لا عقول لهم يكفي لإسكاتهم ماء وأعلاف
وكم من حروف تجر الحتوف!
اعرضها على من يريد بقلمه ولسانه أن يداوي علة الأمة بعلل، ويقتل جرثومةً فيها بزرع جراثيم، كطبيبٍ يجرب معلوماته في المرضى ليزيدهم مرضاً، ثم يعيش على أمراضهم التي مكَّن لها فيهم، فهو حاميها وحراميها، سرطانه دواء سلها
هو طالحٌ لا صالحٌ لكنهم غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
أشير بها إلى حملة الأقلام المسمومة، والأفكار الكاسدة، مورثة الضغائن، موقظة الفتن، لقطاء الكتابة، لابسي جلود الضأن على قلوب الذئاب.
والذئب أخبث ما يكون إذا بدا متلبساً بين النعاج إهابا
الأدعياء الذين اقتحموا عريناً ظنوا أن قد نامت آساده لكأن القائل عناهم يوم قال:
لقيط في الكتابة يدعيها كدعوى الجعل في بغض السماد
فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد
وكم من حروف تجر الحتوف!
لا أعني بها أولئك الرعاع الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً، وعلوم الشريعة هراءً ولغباً، ليس لهم في العلم إنعام، إن هم إلا كالأنعام!
لست أعني هؤلاء مباشرة وإن أشرت وأهديت ووجهت، ففيهم من انفصمت عنه الرابطة، فنحن منه برآء، ومنهم من لا يرعوون ولا يفهمون، فخطابهم لغوٌ وهراءٌ وبلاء:
ومن البلية نصح من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم
الله حسيبهم على ما اقترفوا ويقترفون؛ في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.(39/10)
ثالثاً: الشباب الصالح الذي قد يقع في هذا الوباء
إن المعني بهذه الحروف أولاً وآخراً هم شيوخ الأمة العقلاء، وشبابها المستقيمون الفضلاء، الدم الجديد في حياتها أنا وأنت وأنتِ وهو وهي، وكل مسلمٍ على قدرٍ من دينٍ وخلقٍ وحياء، دفعني إليها الرغبة في صون هذا الدم عن أخلاط الفساد، ليتمثل فيه الطهر والعفة والرشاد، فينشأ على قول الحق رافع الهام والحسام، لا على البذاء وعورات الكلام، متفاهمين على الغاية المنشودة، متجهين إلى البناء لا الهدم، إلى الإنصاف لا الحيف، يقيم بعضهم بعضاً إذا كبا، ويستره إذا عري حساً أو معنى، مدركين أنه إذا تصالح ندامى الحان، وتشاكس إخوان المسجد، انكسرت المئذنة، واستولى السكارى على المحراب
وحضني عليها رغبتي في إبراء الذمة بنصح النفس والأمة، فمن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، وما تصدق رجلٌ بصدقةٍ أفضل من موعظةٍ يعظ بها قوماً فيتفرقون وقد نفعهم الله بها، فاللهم انفع وارفع.(39/11)
حرمة وشناعة الاستطالة على الحرمات
خذها أيها الدم الجديد
خذها وصايا بألفاظٍ مطولةٍ فيها لمن يبتغي التبيان تبيانُ
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!(39/12)
حالقة الدين
معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إن مواضع الزلل لا تكاد تنحصر ولا تختصر، ومن أخطر وأسوأ هذه المواضع: الاستطالة على الحرمات، وتتبع العورات، إنها الحالقة، بل الآفة الخطيرة والمزلق العظيم الذي اشتد نكير رسول الله صلى الله عليه وسلم على من اتصف به فيما ثبت عنه، قال: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه ولو في قعر داره إنه موقفٌ حاسمٌ، ووعيدٌ زاجر يملأ النفس الحية خوفاً وهيبة وحذراً، ويقرر مبدأ صيانة العرض، وأن الجزاء من جنس العمل، وجرح اللسان كجرح السنان، والجروح قصاص: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} [النساء: 123].
بذلك تواترت النصوص الشرعية في غاية العظمة والإحكام؛ لتدل على عظيم منزلة المؤمن وبشاعة الاستطالة على حرمته، نظر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى الكعبة يوماً ثم قال: [[ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! وللمؤمن والله أعظم حرمة منك]] إنها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في البلد الحرام:
لو قد عقلنا ذاك ما كنا نرى بعضاً يجرح مسلماً ويجرم
هب أن فينا مخطئاً فيما ادعى فهل السباب هو العلاج الأقوم؟
كيف الوقوف أمام خلاق الملا والعلم ظنٌّ والحديث مرجم؟
ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنهما: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: {أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلدٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميها بغير اسمها، ثم قال: أليس بيوم النحر؟ أليس بذي الحجة؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد} {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}.
لقد خاب من يسعى لإيذاء مسلمٍ كما خاب من يرجو سراباً بقيعة
وكم من حروف تجر الحتوف!
إن من أخص سمات المسلم سلامة المسلم منه يداً ولساناً، والعاقل يطمح إلى هذا الوضع ليكون ممن جعلوا سلاطة ألسنتهم على أعداء الله وحلو كلامهم لأولياء الله، محققين قول الله في وصف أصحاب رسول الله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} ويقول ابن القيم عليه رحمة الله: أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم بالنفع في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أن تضره في الآخرة، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها، ويأتي بسيئاتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به.
فللسان احفظ ولا تكلم إلا بخيرٍ أو فصمتاً الزم
وخشية الله فلازم وانتهِ عما نهاك وامتثل لأمره
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {كف عليك هذا، ويشير إلى لسانه، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا نبي الله؟! -وفي رواية: أوكلما نتكلم به يكتب علينا يا نبي الله؟! - فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟} إنك ما تزال سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك، فاللهم سلم سلم!
يكب الفتى في النار حصد لسانه فحافظ على ضبط اللسان وقيدِ
وكم من حروف تجر الحتوف!(39/13)
الفرق بين الغيبة والبهتان
يا عبد الله! ذكرك أخاك بما يكره في حضوره سب وشتم، وبما يكره في غيبته لو بلغه؛ في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، ذكره بواحدةٍ من هذه بلفظٍ، أو إشارة، أو رمزٍ، أو كتابةٍ، أو حكاية غيبة، أو همزٌ ولمزٌ وقدح إن كان فيه، فإن لم يكن فيه ما قلت فغيبةٌ وبهتانٌ وظلمٌ وكذب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، مع تعدٍ لحدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
فاحذر حدود الله وارج ثوابه حتى تكون كمن له قلبان
وكم من حروف تجر الحتوف!(39/14)
أربى الربا
معشر الإخوة! الربا ما الربا؟ الربا: إيذان بحرب من الله على من يتعامل به، ومحارب الله محروب، ودرهم ربا أشد من ستٍ وثلاثين زنية كما ثبت، وأدنى الربا مثل إتيان الرجل أمه، ونعوذ بالله من ذلك، فما أرباه؟ وما أشده تحريماً؟ وما أعظمه وبالاً؟
ثبت من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق}.
يا لله! إن العرض أعز على النفس من المال وغيره حقيقةٌ لا تدحر، وحجةٌ لا تنقض، أفلا نعقل؟ فأين المفر؟ {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام}.
شنعاء صلعاء عوراء أن يقال في المؤمن ما ليس فيه أو ما يكرهه، فاحذروا ثم احذروا، وكونوا عباد الله إخواناً.
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار} وفي رواية للإمام أحمد: {ومن رمى مسلماً بشيءٍ يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال} يحبس حتى يرضى خصمه أو يشفع فيه، أو يعذب بقدر ذنبه أجارنا الله، وقد ثبت أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: [[أيما رجل أشاع على امرئ مسلمٍ كلمة هو بريء منها ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال]].
ذاك وربي موقفٌ عسير ورسل الإله تستجير
يا رب سلم إنه لمأزق من شدة الهول يشيب المفرق
وكم من حروف تجر الحتوف!(39/15)
السخرية بالدين
معشر الإخوة! ومما يحسب أنه هينٌ وهو عند الله عظيم: السخرية بالدين وما اتصل به من تقليد خلق أهله، ومحاكاة أفعالهم وحركاتهم لإضحاك الناس وتسليتهم، وجعل ذلك مهنةً أو زينة مجلس، وربما قالوا بقول سلفهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
إليهم ما قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في مسند أحمد: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا} وفي رواية: {ألا عسى رجلٌ يتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه، فيسخط الله عليه بها لا يرضى عنه حتى يدخله النار} فإلى الهازئين الضاحكين المضحكين، مختلقي الأكاذيب لذلك، من يصدق على أحدهم:
ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنب صفراً من البأس مملوءاً من النزق
أقول لهم: دونكم دونكم! كم ضاحكٍ بملء فيه والله ساخطٌ عليه.
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
وكم من حروف تجر الحتوف!(39/16)
الوشاية
ومن المصائب -والمصائب جمة- أن يبتلى المرء بصديقٍ له يأمنه، يعرف منه ما لا يعرفه غيره، فيغدره بالسعي إلى عدوٍ له ذي سلطانٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو غيره، ليذكره عنده بغير الجميل، ويتعرض له بالوقيعة والأذية، ليجاز بجائزة إنما هي لعاعة من الدنيا، طعامٌ أو كساء أو دينار أو إطراء لا بارك الله له فيها، إنما هي بمثلها في جهنم.
روى أبو داود وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلة، فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسي برجلٍ مسلمٍ ثوباً، فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجلٍ مسلمٍ مقام سمعةٍ ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة}.
فيا للرزية! وكل هذا في سبيل إشباع البطون! ألا أبعد الله خبزةً أهتك بها ديني، وأخاطر من أجلها بآخرتي، وأعق بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجة على تاريخي وأمتي، أين من يعقل؟ أين من يعي؟ إن لم تتب:
فلا زلت دوماً في احتياجٍ وفاقةٍ
إلى أن بلغت السن والغاية التي تحس بأن الجعل منك اشمأزت
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما عرج بي مررت على قوم لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
إذا كان هذا فعل عبدٍ بنفسه فمن ذا له من بعد ذلك يُكرم؟
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وأخرج الإمام أحمد وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً فطهرني يا رسول الله! فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائن، انتفخ بطنه فارتفعت رجله، فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالوا: نحن ذا يا رسول الله! فقال لهما: كلا من جيفة هذا الحمار! قالا: يا رسول الله! غفر الله لك ومن يأكل هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها}
الله أكبر!
الله أكبر لفتةٌ من آيبٍ لاح الطريق له فشمر وانبرى
عبد الله! إن آكل جيفة الحمار مع خبثها وحرمتها لم يؤذ مسلماً، ولم ينتهك عرضاً، ولم تنشغل ذمته بحقوق العباد التي سيسأل عنها يوم القيامة، فهو خيرٌ ممن يأكل لحوم البشر، وفي كلٍ شر:
فاهجر من الكلام ما قد أفعما بالزور والتضليل والبهتانِ
أهل الوقيعة هم خصومك دائما لا يلتقي بمحبةٍ خصمانِ
وكم من حروف تجر الحتوف!
عبد الله! ما الحيوان الذي يأكل لحم أخيه بعد موته؟ الأسد؟ النمر؟ الثعلب؟ لا لا تألفها بل تأنفها، لا يفعلها إلا ذلك الحيوان الذي إذا ولغ في الإناء؛ احتيج إلى غسله لا مرة بل إلى سبع والتراب؛ إنه الكلب، لا يفعلها إلا كلب، وشبه الشيء منجذبٌ إليه:
ألم تقرأ القرآن عمرك مرةً فما لك تعمى عنه في كل مرة
قال الله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
فاسمع إذا حدثت وافـ ـهم كيف عاقبة الأمور
والحروف تجر الحتوف!
واعجباً لمسلم -يا معشر الإخوة- قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، من أين له الفلاح؟! كيف يفلح من ديدنه الطعن في أقوامٍ لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟! ذلكم والله المسكين، قد ذبح بغير سكين:
كم صك آذاناً بجندل لفظه وأطال محنتنا بطول لسانه
ما زال يعلن بيننا عن نفسه حتى استغاث الصم من إعلانه
ألسنةٌ كالسياط، أدبها ودأبها التربص، فالتوثب على الأعراض في اعتراض، أشرفت علينا بقرون الفتنة لتضرب الثقة في قوام الأمة، طبع أصحابها -كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله- طبع خنزير، يمر على الطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ولغ فيه، وقمح، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء ولو في فهمه، وجد بغيته وجعلها فاكهته، ألا بئس المنتجع وبئست الهواية، ويا ويلهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة!(39/17)
من أخبار الصالحين في تحاشي الغيبة
عبد الله! أمة الله! إن الوقيعة في الأعراض بضاعة الجبناء، وكفُّ اللسان عن المسلمين سمة العلماء، وكل إلى جنسه يحن؛ العلماء الربانيون حفظوا الله فحفظهم وطهر ألسنتهم، اجتنبوا الغيبة والطعن والهمز واللمز كما تجتنب النجاسات، لا يسمحون بأن تدار في مجالسهم كما لا يسمحون لكئوس الخمر -أجارهم الله- أن تدار فيها.
يقول أحدهم: صحبت فلاناً عشرين سنة والله ما سمعت منه كلمة تعاب.
ويقول آخر: والله ما اغتبت مسلماً مذ علمت أن الله حرم الغيبة، حالهم:
فإن مررت بنادٍ لا تجيف به أهل السفاهة فانزل ذاك نادينا(39/18)
الشنقيطي يرى قتل الولد ونهب المال أهون من أخذ الحسنات
هاهو العلامة/ محمد الأمين صاحب الأضواء عليه رحمة رب العالمين، قد عُرف بهذا الخلق العزيز، وهو شدة التجافي عن الوقوع في أعراض الناس، كان محارباً مرابطاً على ثغر، لا يسمح لأحدٍ بنسف عرض أخيه في مجلسه، فيحمي نفسه ويحمي مجلسه، ويؤدب على ضبط النفس من يلوذ به، فيعينه على ما ينفعه ويرفعه، ويربأ به عما يضره، إنه محمد، واقتدى بمحمد صلى الله وسلم على نبينا محمد:
ومن ينحرف عن خط سير محمد يصر في يد الشيطان مثل البهيمة
ولا تحسبن السير خلف محمد كرحلة صيد أو كمشوار نزهةِ
يقول: لقتل الأولاد ونهب الأموال أهون عندي من أخذ الحسنات من رجلٍ كبيرٍ مثلي.
ثم لا يغتاب ولا يسمح بالغيبة، ويقول: إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته يوم القيامة، فلا يأتين فيها إلا بالطيب
فرائدٌ خردٌ ترسو جواهرها فوق الكواكب لا بطن التجاليد
وفي رحلة الحج سجَّل هذا الموقف العظيم، يقول: ثم جئنا آخر النهار قرية نائية، فالتمسنا رجلاً عربياً نبيت عنده، فدعانا رجلٌ عربي فأنزلنا منزلاً يعوي منه الكلب، وأغلق علينا الباب من الخارج، فبتنا ليلة لا أعاد الله علينا مثلها، ذكرتني ليلة النابغة التي يقول فيها:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وليلة المهلهل التي يقول فيها:
إذا أنتِ انقضيت فلا تحوري
وأنقذني بياض الصبح منها وقد أنقذت من شيء كبير
يقول: فكان صبح تلك الليلة أحب غائبٍ إلينا، يقول -واسمع إلى ما قال، وهذا هو موطن الشاهد- يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت عن اسمه ولا عن اسم أبيه خوفاً من أن أقع فيه:
فسما بأروقة الجوى فأحلها فرع الثريا وهي في أصل الثرى
حتى ظننا الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة وابن حنبل حُضَّرا(39/19)
البخاري وابن دقيق العيد يحذران الغيبة
ومن قبل هاهو صاحب الصحيح الإمام أبو عبد الله البخاري عليه رحمة الله يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً، والإمام ابن دقيق رحمه الله يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله:
سلفٌ إذا مر الزمان بذكرهم وقف الزمان لهم مُجِلاً مكبرا
كانت الدنيا عروساً بهمُ فهي اليوم تكون الأرمله(39/20)
ما يصنعه من ابتلي بمجلس غيبة(39/21)
إزالة المنكر قدر الاستطاعة أو الانعزال
معشر الإخوة والبنين! ولقائل إن يقول: فإن بلي المرء بالجلوس في مجلس طعنٍ أو غيبة وما في حكمها، فماذا يصنع؟
نقول: إن عليه أن يردها، ويزجر قائلها بالكلم أولاً، وحاله ومقاله كحال ذلك الشيخ/ محمد الأمين، حين جاءه رجل كبير، وكم من كبير يحق عليه، عقله عقل طائرٍ وهو في هيئة الجمل، فبدأ يغتاب عنده في مجلسه، فنهاه الشيخ في هدوء:
وهدوء أمواج البحار تأهبٌ للمد يكتسح الشواطئ صرهرا
فقال المغتاب: أنا المتكلم لا أنت، يعني: عليَّ تبعة كلامي، فقال الشيخ: أنا شيخ بين جنبي سورة البقرة، إما أن تسكت بأدب أو تخرج، حاله:
فإن أر حقاً كنت للحق تابعاً وإن أر غير الحق أطلق قذيفتي
وإني على هذا يراعي ومقولي وذلك أسلوبي وتلك طريقتي
فإن لم ينزجر، فباليد إن كانت لك ولاية، فإن لم تستطع باليد ولا باللسان، ففارق ذلك المجلس، لا خيار لك، إن بقيت فإنك إذاً مثلهم، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
فإن أعيتك الحيل ولم تستطع المفارقة حرم عليك الاستماع والإصغاء، ولزمك أن تسل قلبك من بينهم كسل الشعرة من العجينة، تذكر الله في عزلة شعورية، تكون معهم فيها حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، يقظان نائماً، تنظر إليهم ولا تبصرهم، تسمع كلامهم ولا تعيه، قد انشغل قلبك بتصور عظمة من تناجيه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فأنت في وادٍ وهم في وادٍ؛ حالك:
يا ربى الوادي ويا كثبانه رددي همسي وغني بهديلي
سامعاً غير مستمع، مأجوراً بإذن الله غير مأزور، وليس شيءٌ أصعب ولا أشق على هذا من النفس، ولكن من صدق الله كان الله له وكان معه:
تبارك من إن ندن منه تَقَرُّباً بشبرٍ دنا منا ذراعاً برحمة(39/22)
الذب عن عرض المسلم
معشر الإخوة والبنين! وحق المسلم على أخيه أن ينصره إذا ظلم، ويذب عن عرضه إذا خيض فيه من منافق أو ظالم أو فاسقٍ لا يخشى يوم الحساب، فإن في ذلك أجراً عظيماً، وفي خذلانه إثماً مبيناً، والمؤمن مرآة المؤمن يحوطه من ورائه.
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من نصر أخاه بالغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومن حمى مؤمناً من منافق بعث الله له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضعٍ ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب نصرته} وهذا ما التزمه القدوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق إخوانهم
إمامهمُ دون الأنام محمدٌ وليس لهم من دونه من أئمة
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في القوم في تبوك قال: {ما فعل كعب بن مالك؟ -وقد تخلف عن تلك الغزاة كما تعلمون- فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً} فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقراً لإنكار معاذ على ذلك المغتاب لأخيه، ومشرعاً لمثله بالرد والذب.
وليس أخي من ودني وهو حاضر ولكن أخي من ودني وهو غائب
يدعى أحد السلف لطعامٍ، فلما جلس، قالوا: إن فلاناً لم يأت، فقال رجل منهم: إنه رجلٌ ثقيل، فقال: أوه، إنما فعل هذا في بطني حين شهدت طعاماً اغتبت فيه مسلماً، ثم خرج فلما يأكل ثلاثة أيام وحاله:
إليكم فإني لست ممن إذا اتقى عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
ويذكر رجل بسوءٍ أمام صاحبه فقال للمغتاب: أغزوت الترك؟ قال: لا، قال: أغزوت الروم؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك!
أنسيت حق الله أم أهملته شرٌّ من الناسي هو المتناسي
معشر الإخوة! إن المغتاب أو الطعان لو لم يجد آذاناً صاغيةً لما وقع واسترسل، ولكسدت بضاعته وما نفقت، فالحزم الحزم معشر الإخوة! لا يجوز مجاراة الطاعنين بحال، ويعظم ذلك حين يكون الوقوع في عالمٍ أو داعيةٍ أو مصلحٍ، ذاكم هو الداء الدوي، والموت الخفي؛ في زمن ما أحراه بقول من قال:
زمان رأينا فيه كل العجائب وأصبحت الأذناب فوق الذوائب(39/23)
وجوب الذب عن أعراض العلماء وبيان عظم حرماتهم
من هتك ستر عالمٍ وتكلم فيه بغير حق، ابتلي بسوء ذنبه، وقد يختم له بخاتمة السوء حين مصرعه، كما قال ابن عساكر: وعادة الله في هتك أستار منتقصي العلماء معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] تلك والله -معشر الإخوة والأخوات- سيما ضعاف النفوس، يشعرون دائماً بضآلة أنفسهم، فيسعون إلى هدم القمم الشماء لتتساوى الرءوس في الحفر، لا يرون الصعود إلا على أشلاء العمالقة الجهابذة العلماء العاملين، فواحدهم يصدق عليه قول القائل:
فكالهر يخشى شرب ماءٍ بجدول ويشرب من أوساخ ماءٍ بحفرة
ومن ثم ينصبون مشانق الطعن والتجريح لإلغاء الثقة في العلماء العاملين، لو رأيتهم يتواثبون ويقفزون -والله أعلم بما يوعون- لأدركت فيهم الخفة والطيش في أحلام الطير:
صم ولو سمعوا بكم ولو نطقوا عميٌ ولو نظروا بهتٌ ولو شهدوا
كأنهم إذ ترى خشبٌ مسندةٌ وتحسب الركب أيقاظاً وما رقدوا
يتداولون غيبة العلماء ويتعاطونها فيما بينهم، ويدار عليهم بها كما يدار بكأس الماء على العطشى، فمقلٌّ ومستكثر،
فعابوا أموراً يعلم الله أنهم أحق بها وصفاً وأولى بعيبةِ
فواحدهم يلقي الكلام مجازفاً على حسب ما يأتي بغير روية ِ
لحوم العلماء مسمومة؛ من شمها مرض، ومن أكلها مات، لحوم أهل العلم مسمومة، ومن يعاديهم سريع الهلاك
فكن لأهل العلم عوناً وإن عاديتهم يوماً فخذ ما أتاك
البلاء موكلٌ بالمنطق، والجزاء من جنس العمل، وكم طاعنٍ ابتلي بما طعن.
يقول أحد السلف: إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني من قوله إلا مخافة أن ابتلى.
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن
يحكى أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم وتتبع زلاتهم، وذات يوم قام يتكلم بكلامٍ لم يرق لأحد طلابه، فقام إليه ذلك الطالب، فصفعه على رءوس الأشهاد، ليقول بلسان الحال: حصادك يوماً ما زرعت: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182].
إن السعيد لمن له من غيره عظة وفي التجاريب تحكيمٌ ومعتبر
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
من خاض في أعراض العلماء، ودعا إلى ذلك، فقد سن سنةً سيئةً، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فالدال على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12].
وما من كاتبٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما كتبت يداه
وما من قائلٍ إلا سيلقى غداة الحشر ما نطقت شفاه
العلماء حراس الديانة الأمناء، والغض من مكانة الحارس معناه استدعاء اللصوص، العلماء عقول الأمة، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرةٍ بالبقاء، العلماء حملة الشريعة وورثة الأنبياء، والمؤتمنون على الرسالة، حبهم والذب عنهم ديانة، ما خلت ساحة من أهل العلم إلا اتخذ الناس رءوساً جهالاً يفتونهم بغير علم، فيعم الضلال، ويتبعه الوبال والنكال، وتطل عندها سحب الفتن تمطر المحن، ومن الوقيعة ما قتل، فنعوذ بالله من الخطل، وما عالم برع في علمه يؤخذ بهفوته، وإلا لما بقي معنا عالم قط، فكلٌ رادٌّ ومردودٌ عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله، والفاضل من عدت سقطاته، وليتنا أدركنا بعض صوابهم، أو كنا ممن يميز خطأهم على الأقل، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث
وما عبر الإنسان عن فضل نفسه بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!(39/24)
تنكر الطالب لشيخه شنيعة شنعاء
والشنيعة الشنعاء معشر الإخوة، والداهية الدهياء التي تستحق جز الغلاصم، وقطع الحلاقم، ولدغ الأراقم، ونهش الضراغم، فهي البلاء المتلاطم المتراكم: تنكر الطالب لشيخه الذي طالما أفاده وعلمه، وأحسن إليه وأدبه، ولمن كان سبباً في هدايته لهوىً في نفسه يجحد ما مضى من إحسانه إليه، ويسل لسانه عليه، فيقول بقول كافرة العشير: ما رأيت منك خيراً قط، ثم يذم ويشنع، ويقبح ويبدع، يصدق عليه قول القائل:
له بطن تمساحٍ وقلب حمامةٍ وأنياب ضرغامٍ ومنخر هرةِ
سلاحه رث، وحديثه غث!
مساوٍ لو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق
فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل حينٍ فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
بليت به جهولاً جاهلياً ثقيل الروح مذموماً بغيضا
ولم يك أكثر الطلاب علماً ولكن كان أسرعهم نهوضا
فله ولمن كان على شاكلته أقول: قعوا أو غِيروا ما ذلك بضائرنا ولا بضائرهم، ووالله ما هو بنافعكم، وإذا أكثرتم الرماد، فأثارته الريح، فلا تلوموها ولوموا أنفسكم، ألا هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والموعد الله.
ومن يعتلق حبل الدعاوى ترد به فحبل الدعاوى ذو خيوطٍ ضعيفة(39/25)
عقاب الطاعنين في الأعراض
ألا إن أعراض المسلمين حفرةٌ من حفر النار، لم يزل يتقحم فيها كثيرٌ من الناس مساكين، مسكين ذلك الذي يجتهد في فرائضه ونوافله يومه كله، ثم يبيت يوم يبيت ولا حسنة له.
يا لله! أين ذهبت فرائضه؟ أين ذهبت نوافله؟ أين ذهب بره وإحسانه وأمره بالمعروف ونهيه؟ فرقها بلا حساب، يجمع ولا ينتفع، يتعب ولا يستفيد، ذاكم هو المفلس حقاً، كما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الإفلاس الحقيقي هو في إضاعة الحسنات، في يومٍ لا يتاح فيه لمضيِّع أن يكسب أو يعوض فقال: {إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم وخطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار}.
يا رب!
كم من الأخطاء قد أتينا وكم على أنفسنا جنينا
لكننا نرجوك يا من يغفر وللذنوب والعيوب يستر
إن من كمال عدل الله -يا معشر الإخوة- ألا يدع مظلوماً في ذلك اليوم حتى ينتصف له من ظالمه، ولن يجاوز جسر جهنم ظالم حتى يؤدي مظلمته حتى اللطمة حتى البهائم يقاد لبعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابا، فقائلٌ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] وآخر: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] وثالث: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28].
قد ضوعف الكرب على النفوس ودنت الشمس من الرءوس
واقتص للمظلوم ممن ظلمه بحكمه العدل كما قد علمه
قال صلى الله عليه وسلم: {لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء}.
فإلى أصحاب القرون الذين ينطحون بها -وهم كثر- ليشفقوا على أنفسهم ورءوسهم؛ يا ناطحاً بماله أو سلطانه أو جاهه، أو بقرن غيره، أو بلسانه وقلمه، الله يعلم وسيقضي بينكم يوم القيامة، فهو الحكم العدل، كل ذلك في كتابٍ عنده لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وسيقتص حتى للذرة من الذرة:
فلا تنس أنك يا صاحبي ستسأل عن حبة الخردل
فإن تك في شك من ذلك:
فأقسم بالرحمن إنك واهم أضل من الخفاش في ضوء ضحوة
أخرج الطيالسي وأحمد وصححه الألباني عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال لـ أبي ذر: {أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا.
قال: لكن الله يعلم وسيقضي بينهما يوم القيامة}.
فاغفر لنا ما كان من ذنوبنا وزين الإيمان في قلوبنا(39/26)
توجيهات تحذيرية ونصائح للمغتابين
إلى الطاعنين القعدة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فصاروا ألماً مضافاً إلى أمتهم، يحق في أحدهم:
خطبت فكنت خطباً لا خطيباً أضيف إلى مصائبنا العظام
إليهم أقول: احذروا، ثم احذروا، ثم احذروا! وقول ابن القيم: تأملوا كم أورثت التهم الباطلة من أذىً لمكلوم، عبَّر عن جرحه بخفقة صدر، ودمعة عين، وزفرة تظلم ارتجف منها فؤاده بين يدي ربه في جوف الليل؛ لهجاً ملحاً لكشفها، ماداً يديه إلى مغيث المظلومين، وكاسر الظالمين، والظالم يغط في نومه، وسهام المظلوم تتقاذفه، وعسى أن تصيب ما اقتناه.
فيا لله ما أعظم الفرق بين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو له، ومن نام وأعين الناس ساهرة تدعو عليه!
تحلل فما زال للصلح باب وبالموت يغلق باب المتاب
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيءٍ منه، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون درهمٌ أو دينار، إن كان له عملٌ صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] لكل حتفٍ سبب من السبب، فيا ويل من زلت به القدم ولم يتب، وترك الحبل لحروفه، يضطرب من شرٍ قد حل، لا أقول: قد اقترب؛ أقلع عن الذنب، وكف عن العيب، واندم فالندم توبة، والتائب كمن لا ذنب له، واعزم على عدم العودة.
إنما المؤمن من إن خرق الثوب رفا
وعن التقصير والأنام خوفاً عزفا
عونك الله ربي أنت حسبي وكفى
تحلل ممن اغتبته وطعنت فيه، واطلب عفوه وإبرائه إن بلغه ما قلته، وإن لم يبلغه؛ فاستغفر له ولا تخبره، فإن في إخباره مفسدةً محضةً لا تتضمن مصلحة، أثن عليه بما فيه من خير في المواطن التي طعنت فيه لتصلح ما أفسدته، فوالله إن الأمر لشديد، وإن الحروف لتجر الحتوف: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31].
فكم من حروفٍ تجر الحتوف وكم ناطقٍ ود أن لو سكت
ومع هذا كله:
فالقدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلمٍ ومعرفٍ ومحذر
ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر(39/27)
حروف تجر لخير منيف(39/28)
ذكر الله
معشر الإخوة والأخوات والبنين! والشيء بالشيء يذكر، وبضدها تتميز الأشياء، فكما أن الحروف تجر الحتوف، فإن الحروف تجر للخير المنيف.
فاعلم هُديت: حروفٌ للدلالة على الخير، {فمن دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله}، حروفٌ في إدخال السرور على مسلم: {فأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم}: {والكلمة الطيبة صدقة} حروفٌ في الإصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] {لا يزال لسانك رطباً بذكر الله} {خير الأعمال وأزكاها وأرفعها للدرجات، وما هو عند الله خيرٌ من ضرب الأعناق والإنفاق في سبيل الله ذكر الله} {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم} {لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، وباب من أبواب الجنة، وغرس من غراس الجنة}، والباب واسع ليس هذا موضعه.
أعظم الذكر كلام الله؛ من قرأ منه حرفاً فله حسنة، والحسنة بعشر، ومن علَّم آيةً منه، كان له ثوابها ما تليت، يرفع الله به أقواماً ويخفض به آخرين، فاقرأ وتدبر، واعلم واعمل وبلغ، واعمر بيتك ووقتك وحياتك به، وارج الله أن تكون ممن ينادى عليه يوم القيامة: {اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها}.
لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا(39/29)
تبيين الحق عند رواج الشائعات
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، الجهاد بالحروف ضربٌ من ضروب الجهاد في سبيل الله، لا يقل أثراً عن جهاد النفس والمال، فجاهدوا بألسنتكم حين تروج الشائعات الكاذبة، ويطعن في عرض مسلم بريء، فالكلمة الصادقة والحوار المقنع لدفع ورفع ذلك جهاد في سبيل الله؛ حداء صاحبه:
يا لساني كان الكلام حراماً فانطق الآن فالسكوت حرام
رجل من أهل الكوفة كان ذا قدر ومنزلة وصاحب كلمة مسموعة، يزعم فيما يزعم أن عثمان ذا النورين رضي الله عنه كان يهودياً وظل على يهوديته، ونعوذ بالله مما قال:
مقال ليس يقبله كرام ولا يرضى به غير اللئام
لكن:
كل من عاش يرى ما لم يره والقلب يعمى مثل ما يعمى البصر
سمع أبو حنيفة رحمه الله بذلك، فمضى إليه، وقال له: لقد جئتك خاطباً ابنتك فلانة لأحد أصحابي، فقال: أهلاً ومرحباً بك، مثلك يا أبا حنيفة لا ترد حاجته؛ لكن من الخاطب؟ فقال أبو حنيفة: رجل موسومٌ في قومه بالشرف والغنى، سخي اليد، مبسوط الكف، حافظٌ لكتاب الله، يقوم الليل كله في ركعة، كثير البكاء من خشية الله، فقال الرجل: بخٍ بخ، حسبك يا أبا حنيفة! فقال: لكن فيه خصلة لا بد أن أذكرها لك، فقال: ما هي يا أبا حنيفة؟ قال: إنه يهودي، فانتفض الرجل، وقال: يهودي؟ أزوج ابنتي من يهودي؟! والله لا أزوجها منه ولو جمع خصال الأولين والآخرين! فقال أبو حنيفة: تأبى أن تزوج ابنتك من يهودي، وتنكر ذلك أشد نكير، ثم تزعم للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه كلتيهما من ذي النورين؛ من يهودي هو عثمان رضي الله عنه؟ فعرت الرجل رعدة، وارفض عرقه، وقال: أستغفر الله من قول سوءٍ قلته، ومن كل فرية افتريتها، وجاء الحق وزهق الباطل بعصا الحروف.
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر
فذب الله النار عن وجه أبي حنيفة، كما ذب عن عرض ذي النورين الخليفة.(39/30)
تفنيد الشبهات
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ في مناظرة لتفنيد شبهة، وإحقاق حق، وإزهاق باطل، في قوة حجة وبرهان، وحكمة ومصابرة إنما هي جهاد في سبيل الله
فهلا قمت في النادي خطيباً لك الكلم الحسان لها ثياب
في السير للذهبي: أن محمد بن الخليفة الواثق يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، وفي ذات يومٍ أتي بشيخ مخضوبٍ مقيد، فأدخل على الواثق، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، إن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فقال ابن أبي دؤاد أحد زعماء الفتنة: الرجل متكلم، فقال الواثق: كلمه.
يرجو دواء القلب من ذي علةٍ ويريد وصف الشمس من عميان
فقال: يا شيخ! ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: لم ينصفني أيها الأمير والسؤال لي
عند النطاح يعرف الكبش الأجم
فقال: سل.
قال: ما تقول يا ابن أبي دؤاد في القرآن؟ قال ابن أبي دؤاد: مخلوق، قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال ابن أبي دؤاد: بل شيء لم يعلموه، فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، علمته أنت! فخجل ابن أبي دؤاد، وقال: أقلني، قال الشيخ: المسألة بحالها، علموه أم لم يعلموه؟ فقال: بل علموه، فقال الشيخ: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم، قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم.
يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ما كنت أول طامعٍ لم يظفر
أفما استحيت ولا احتسبت جواب ما تحكيه كيف يخيف ليثاً ثعلب
والله ما أدري أأنت على الثرى أم أنت في طي التراب مغيب
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118 - 119] قام الواثق الخليفة ودخل مجلسه واستلقى على ظهره، وهو يقول: سبحان الله! شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! وسقطت الوساوس من رأس الخليفة، وسقط ابن أبي دؤاد من عينه، وأمر برفع قيد الشيخ، وأمر له بأربعمائة دينار، ورفعت المحنة فما امتحن أحدٌ بعده، فأثاب الله الشيخ على ما كشف من غمة
فما يعرف الإنسان إلا بغيره وما فضلت يمناك لولا يسارها
فيا أيها العبد المحدث نفسه ألا هل على دعواك جئت بحجة
فإن أنت لم تفعل فإنك كاذب وذو الصدق يبدو صدقه بالأدلة(39/31)
كلمة ذي جاه يقود بها أتباعه إلى الجنة
وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة متبوعٍ ذي منزلةٍ وقدرٍ وجاهٍ عند أتباعه لإنقاذهم برحمة الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن المعصية إلى الطاعة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين، وهي خيرٌ له من حمر النعم، والقدوة في ذلك سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه، من اهتز له عرش الرحمن، يوم أسلم ووقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، فقال في إيمانٍ ويقينٍ، وشجاعةٍ فذةٍ، وحزمٍ نافذ: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى في بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
الله أكبر موجةٌ من ناصف عبرت غواربها المحيط الأكبرا
نصيحةٌ تلك لم يحلم بها أحدٌ فوق المكاييل جاءت والمقاييس(39/32)
كلمة حق عند سلطان جائر
وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة حقٍ يصدع بها صاحبها، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يترخص إن رأى في نفسه قوة التحمل والصبر، فيعيش فاعلاً متفاعلاً عزيزاً وإن قتل، فلعله يكون من سادات الشهداء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: {سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله}.
هاهو الإمام/ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يأمر وينهى، وينكر على من يولي الظلمة لا تأخذه في الله لومة لائم، ولي القضاء في زمنه أبو الوفاء الظالم، فقام الجيلاني وقال لمن ولاه: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك غداً عند رب العالمين أحكم الحاكمين؟ فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته.
ألا ما أحوج الأمة إلى صادعٍ بالحق يصدع رءوساً قد تشبعت وتصدعت من كثرة الإضراء والملق، وصرفت عن تدبر آيات الله ونذره، ونصبت أنفسها آلهةً تقول فلا يرد قولها، فمن لها إلا العلماء الربانيون الذين إذا قالوا بطل قول كل قائل
فليشعر الخلق أن الغيل مأسدةٌ إن غاب رئبالها جاءت برئبال.
ولكم سلف؛ قام أبو هريرة رضي الله عنه إلى مروان وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: [[أتظل عند ابنة فلان تروحك بالمراوح، وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر؟! لقد هممت أن أفعل وأفعل]] اسمعوا.
كم صامتٍ شرواه إن قال ارتدت أقواله تحكي لغات الأرقم
وهاهو ابن أبي ذئب عليه رحمة الله، المهيب الآمر الناهي؛ يجيء إلى أبي جعفر، ثم يقول له: قد هلك الناس، فلو أعنتهم من الفيء يا أبا جعفر، فقال أبو جعفر: ويلك لولا ما سددت من الثغور؛ لكنت تؤتى في منزلك فتذبح، فقال ابن أبي ذئب: هون عليك! قد سد الثغور وأعطى الناس من هو خيرٌ منك؛ الفاروق عمر رضي الله عنه
إذا أخصبت أرضٌ وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جازها الزرع
فنكس المنصور رأسه، والسيف في يد صاحبه، ثم قال: دعوه هذا خير أهل الحجاز.
لا يعلم إلا الله ما سيكون إن لم يقل الربانيون كلمة الحق، المسلمون ينحدرون من هاويةٍ إلى هاوية يتقهقرون يتهافتون، وحذو القذة بالقذة لأعداء الله يتبعون.
ألفت الأمة الآثام حتى أمست جزءاً من كيانها تتمسك به، وتدافع عنه، زين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم، كانت الأقذار الجنسية تتم في خفاء، ثم صارت تبدو على استحياء، ثم تواطأ عليها الرعاع حتى دخلت إلى أعماق البيوتات عن طريق الشبكات والقنوات، ثم صارت قانوناً يعمل به في بعض البلاد، ثم انعقدت لها مؤتمراتٍ عالمية تدعو إليها لا ترى فيها عوجاً، فمن للفضيلة إن سكت الربانيون؟!
فئةٌ بائسة تكره الدين، وتنقم على الوحي، وتريد تحت ثوب النفاق أن تعيدنا إلى النفاق وعمل الجاهلية
قبحت منابتها وشاه نباتها بسوى الفضائح نبتها لم يثمر
من لهؤلاء إن سكت الربانيون؟ لا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه، والساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، لما ولي السفاح ظهر الجور في أفريقيا، فوفد p=1000569> ابن أنعم قاضي أفريقيا نعَّم الله عينه من آمرٍ وناه، وفد وهو عالمها وقاضيها على أبي جعفر مشتكياً، فقال له: ما بك يـ ابن أنعم؟ قال: جئت لأعلمك بالجور في أفريقيا بلادنا، فإذا هو يخرج من دارك، فغضب وهمَّ به، ثم قال له: كيف لي بأعوان، قال: إن عمر بن عبد العزيز كان يقول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه.
له منطق ينبيك عن بأسه كما يدل على بأس الأسود زئيرها
فأطرق، ثم أومأ إلى حاجبه أن يخرجه، فخرج وقد أدى ما عليه.
له قلب أشد من الرواسي وذكرٌ مثل عرف المسك فاحا
معشر الإخوة! أكثرت الأمثلة من باب:
على آثارهم سيروا تكونوا خير ركبان
إن على القائمين بأمر الله ودينه علماء ودعاة ومن دونهم -كل بحسبه- أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان، نصحاً أو تغييراً أو إنكاراً؛ لا يخافون لومة لائم، سواءً هذا الشر قد جاء من حاكمٍ متسلطٍ بالكفر، أو غنيٍ متسلطٍ بالمال، أو أشرارٍ متسلطين بالأذى، أو جماهير متسلطة بالهوى، منهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه سواء، وكلٌ بحسبه، وقد الرءوس في الشرف بقاء، ولحظةٌ من حياة الأسد خيرٌ من حياة الشاة مائة عام، فليكن الحال:
ولما رأيت الحرب حرباً تجردت لبست مع البردين ثوب المحارب
يا لله! أكل سوقيًّ ونبطي ومنافقٍ وعامي ومن لا يعرف له أصلٌ وأبٌ في العلم يريد أن يطرح علينا بسوئه؛ لتصير الرذيلة ديناً، ثم يخرس أهل الحق:
اجهر برأيك لا يأخذك ترويع لا ينفع الصوت إلا وهو مسموع
إن أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر، لا يثقلنك الطمع، ولا يوهننك الفزع ما استطعت إلى ربك أعذر وما استطعت فانه ومر، وغيِّر أو أنكر، زادك الإيمان، وسندك الرحمن:
إن تكن في مثل نيران الخليل أسمع النمرود توحيد الجليل
وإلا فالحتوف، والضيم كل الضيم أن يتنمر المتنمرون وأنت خاضع.(39/33)
الجهاد بالأدب نظماً ونثراً
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروف نظمٍ أو شعر، أو نثر في الدعوة إلى الله، ونصرة دين الله؛ تفصم عرى الباطل، وتلهب القلوب بسياط الحق، وتملأ الآذان وتصك الجنان، وتأسر المشاعر أسراً: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد:4].
هاهم شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون بسنانهم ولسانهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في نظم حسان: {والذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رمي النبل}.
ابن رواحة يعيرهم بالكفر، وحسان يذكر عيوبهم وأيامهم، وكعب بن مالك يقول: فعلنا ونفعل ويتهددهم، فكانت كلماتهم أسرع في العدو من السهم في غلس الظلام.
والشعر إن لم يكن ذكرى وموعظةً أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
لقد أسلم فئام من دوس فرقاً من تهديد كعبٍ حين قال:
قضينا من تهامة كل وثر وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا
نجاهد لا نبالي من لقينا أأهلكنا السلاد أم الصليفا
قالوا حين بلغهم ذلك: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف.
حصحص الحق وانتهى كل شيءٍ فمن الحزم أن نجيب الرشادا
فلله دره من شاعر؛ ببيتٍ واحدٍ تسلم قبائل بأسرها خوفاً وفرقاً.
فما هو إلا البحر يلقاك ساكناً ويلقاك جياشاً مهول الغوارب
فرضي الله عنهم جميعاً.
هم البحر إلا أنه طاب ورده وكم من بحار لا يطيب ورودها
أسود غاب ولكن لا نيوب لهم إلا اللسان مع الهندية القضب
هذه صورةٌ مضيئة مختصرة من البيان الحق تنقل لأصحاب الأقلام، والألسنة العيية في الحق، التي تحمل الموت وأسباب الموت، من تلبس القاتل لباس الناسك، وتسم الخلي بسمة الولي، وتؤزر أبناء الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقاب الملوك من نصبها عدو الأمة لرفع الأمة لكن إلى أسفل، وهو من ورائها يتوارى بها كما يتوارى سائق الحمار بالحمار، ثم ينخره ليندفع على غير هدي الغريزة الحمارية، فلا يفهم الناس أن وراء الحمار سائقاً، وأنه يسوقه إلى ما ليس في طبعه وقدرته؛ فهو مسخرٌ لخدمته، غافلٌ عن عاقبته، لأنه إذا تم لمسخره فيما أراد عاد عليه فدمره، فلو كان في أقسام الإضافة في النحو العربي ما هو بمعنى: على، لخلعنا على واحدهم لقب حجة الإسلام، يعني: الحجة على الإسلام.
وهي كذلك رسالةٌ إلى الأدباء الخاملين الخائرين الكسالى البطالين، من أدبهم لا يبعث الروح ولا يثير الطموح، شعرٌ بارد من قلبٍ بارد، أدبٌ ميت يصدر عن أديب ميت، لا يحمل في عينه دمعة ولا في قلبه لوعة، بيانٌ ولا هم، وأرضٌ مخصبة ولا زمزم، ومن لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر.
ألا إن السيف يحتاج إلى ساعدٍ قوي، والقلم واللسان يحتاج إلى فكرٍ مسدد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وكريمة الكرائم؛ قلم صدق يحرر، ولسان حقٍ يعبر، وعقلٌ منضبط بوحي المولى يدبر، فإذا ضاعت هذه فالوجود العدم.
إن المنابر في الإسلام ما رفعت إلا لترفع صوت الحق في الناس
فاختر لأعوادها لا من يلين له بالحق عودٌ ولا يصغي لخناس
وإلا فالحتوف!(39/34)
كلمات عطرة في الثبات عند البلاء
وأخرى تجر لخيرٍ منيف، حروفٌ وكلمات ومواقف في الثبات حين البلاء على دين الله وإرهاب أعداء الله، لو وُزِّعت على جبناء أهل الأرض لشجعتهم، جديرةٌ بأن تتداول وتثار وتدرس، والعبر منها تؤخذ في وقتٍ يراد لأبواب الجهاد تحت وطأة التهديد أن تقفل فلا تطرق، وتهمل أسبابه فلا ترمق، وتدفن خيوله فلا تُركض، وتصمت طبوله فلا تنبض، وتربض أسوده فلا تنهض، وتمتد أيادي الكفار إلى المسلمين فلا تقبض، ويرضى بالحياة الدنيا من الآخرة، وتطمس السوافي ما قلدته القوافي، وتعيث الهوافي بالقوادم والقوافي، وتفترس العوافي ما نامت عنه العيون الغوافي.
يا صامتاً فلتنطقن، يا وانياً لا تقعدن، يا ساهياً لا ترقدن، يا خاملاً لا تزهدن، ولا تغب بل اشهدن، تخشى الردى فلتخلدن.
هاهو معاذ رضي الله عنه وأرضاه يفاوض وجهاء الروم في أجنادين، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك؛ فوالله لتفرن إلى الجبال غداً، فقال معاذ في عزة المسلم: أما إلى الجبال فلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لتقتلنا عن آخرنا أو لنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون:
ننزل بالموت إذا الموت نزل الموت عندنا أشهى من العسل
فما كان الغد إلا والروم يفرون إلى الجبال، فيقتلون ويأسرون، نعم:
نكوي أناسي أعيا الطب داؤهم والكي آخر ما تأتي العقاقير
وهاهم أبطال القادسية في ثياب العزة يطلقون حروفاً فتكون على عدوهم حتوفاً، يقول أحدهم: اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وثقوا بالله، فإذا سلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنه يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه:
لي وإن كنت كقطر الطل صافي قصفة الرعد وإعصار السوافي
إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم.
فاطلبوا المجد على الأرض فإن هي ضاقت فاطلبوه في السماء
وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه يوم ارتدت الجزيرة، وظهر أدعياء النبوة، وأحاطت الجيوش بـ المدينة، وهددت أهلها، يقول بعض من عنده: لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً يا أبا بكر، الزم بيتك وأغلق بابك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فهب كالأسد:
لمس الزند فاشتعل محنة أمرها جلل
وهو بين ذا وذا في أسى ليس يحتمل
رأب الصدع واشتمل قال في هيئة البطل
[[والله الذي لا إله إلا هو لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله مسلولة ما وضعناها بعد، والله لنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحدٌ إلا على نفسه].
لقد أكمل الله الهدى بمحمدٍ فمن يرتدد فالسيف قاضي القضية
وشهدت الطباق السبع والأرضون السبع أن أبا بكرٍ وفى لدين الله، وقام مقاماً لا يقومه أحد غيره، وفي أقل من سنتين يدمر جيوش المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر فارس والروم.
ستشهد في التاريخ أنك لم تكن فتى مفرداً بل كنت جيشاً عرمرما
ولقائل أن يقول: أنت تحدثنا عن عصر كله خير وسعادة، نشأ أهله في أحضان النبوة ومدرسة القرآن، فكيف يتوقع مثل هذا من رجالٍ تأخر عصرهم وبعد مصرهم واختلفت هيئتهم؟ فأقول: إن كتاب الله لم يزل محفوظاً يغرس الله عليه غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، وإن الجهاد لو قسمت فرائضه، لكان لنا منه حظان بالفرض والتعصيب، فلا غرابة! أحد المجاهدين العلماء في الهند في أواخر القرن الثالث عشر يصدر عليه حكمٌ بالإعدام شنقاً من قاضٍ إنجليزي، يقول القاضي الإنجليزي: هأنذا أحكم عليك بالإعدام، ومصادرة جميع ما تملكه من مالٍ وعتادٍ، ولا يسلم جسدك إلى ورثتك، بل تدفن في مقبرة الأشقياء بكل مهانة، وسأكون سعيداً حين أراك معلقاً مشنوقاً، فتهلل وجه العالم فرحاً وسروراً وحسن ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ثم بدأ يتمثل بقول القائل:
هذا الذي كانت الأيام تنتظر فليوف لله أقوام بما نذروا
حاله:
آذنت شمس حياتي بمغيبي ودنا المنهل يا نفس فطيبي
أما والذي نفسي لديه لساعة من الغزو خير من عبادة حقبة
وهنا تقدم ضابط إنجليزي، وقال: لم أر كاليوم قط! يحكم عليك بالإعدام وأنت مسرور مستبشر! فقال: ومالي لا أفرح ولا أستبشر؛ وأنا أرجو أن تكون شهادة في سبيل الله، وأنت لا تدري ما حلاوتها لكأنه من شوق الجنة في الجنة، ومن انتظار النعيم في النعيم، قد تمثلت له الحور والقصور، والموت في سبيل الله حبور
لو حنطوك بقولٍ أنت قائله غَنِيت عن نفحات المسك والعود
وهاهو مجاهدٌ آخر بقلمه ولسانه في عصره يقاد إلى القتل، وذنبه أنه يريد فيما نحسبه: أن تكون كلمة الله هي العلياء، ويريد الشهادة معها في سبيل الله، والشهادة حقاً -معشر الإخوة- أن تشهد أن شريعة الله أغلى عليك من حياتك، علق في حبل المشنقة كالطود الشامخ، فانقطع الحبل به، فقال في عزة المؤمن وشموخه على الباطل وأهله: جاهليتكم رديئة وحتى حبالكم رديئة، ولقي الله وحاله:
جد بالدما من غير من إن لم تذد عنها فمن؟
فرحمه الله من فردٍ في أمةٍ ولودٍ للذرية، ولأسباب حياة الذرية.(39/35)
كل يعمل قدر جهده وفيما يحسنه
أخيراً معشر الإخوة والأخوات والبنين والبنات! إننا نعيش عصراً تتسارع فيه الفتن كقطع الليل يرقق بعضها بعضاً
والأمة الوسط استكان حدها وأرى بغاث الطير لا تتلعثم
حلفاء أبي لهبٍ فيه كثير، والمهتدون بهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم قليل، ألا إنه لن يتم الاندفاع بهدى محمد الأمين عليه صلوات وسلام رب العالمين، إلا بالانقطاع عن خزي أبي لهب مع بيان سبيل المجرمين، ولا يصح الإيمان بذي العزة والجبروت والملكوت إلا بالكفر بالطاغوت، وإلا فالحتوف.
كن في الفتنة كابن لبون لا ظهر فيركب ولا لبن فيحلب، وإلا فالحتوف.
إن وقفة الرجل في محرابه متضرعاً، وبقلمه ولسانه في المحافل موجهاً يدفع شبهة، ويرفع شهوة، ويوقظ ضجعة، كوقفته بسلاحه يقصف جحافل الأعداء ويريق الدماء.
إن أقلام وألسنة الكتاب المخلصين لا تقل مضاءً عن سيوف المجاهدين، إن مداد أقلامهم في الدفاع عن الدين لا تقل بإذن الله عن دماء المجاهدين، فسخِّر حروفك لخدمة دينك المنيف، وإلا فالحتوف.
الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بضحيته، ليكون الهبوط بقدر الصعود، فاحذره، وإلا فالحتوف!
المسلمون وأنت فرد منهم هم الأمة الشاهدة الوسط الخيار الأخيرة؛ لا أمة بعدها، فإذا ضاعت ضاعت الرسالة، وإن هلكت غرقت السفينة، فاسع في نقل الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها جهدك، وامض على الصراط المستقيم، ولا تلتفت للوراء ولو كثر العواء؛ حرصاً على الواجبات والأوقات، فكل دقيقة يصرفها العاقل في مجاراة هؤلاء النابحين هي مقتطعة من العمر قاطعة عن العمل، وماذا يقول العقلاء في من نبحته الكلاب جرياً على عادتها وطبيعتها، فقطع وقته في مجاراتها ومحاورتها، لاشك أنهم يقولون: عقله كعقول الكلاب.
فارفع شعار سلام ومر مر الكرام
وإلا فالحتوف.
إن الحياة جهادٌ والجدير بها من غالب العاصفات الهوج والنوبا
وإن من أحكم الأقوال تجربةً أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
فغالب الباطل، وأَتعب قواك في الحق دهرك، وإلا فالحتوف.
أيها الجيل! لديك أعظم ميراث وأكبر ثروة عرفها التاريخ، وثيقتك كتبت من أربعة عشر قرناً أو تزيد، كتبتها المحابر، وأذن بها على المنائر، وصلي بها في المحاريب، وخطب بها على المنابر، وحررت بها العقول والحقول، وفتحت بها الأقطار والأمصار، وقطعت بها البيد والقفار، لن تضل بإذن الله ما تمسكت بها؛ إنها نبع الوحي ما اختلط بطين، لأنه محفوظٌ من رب العالمين، فخذها بقوة، وعض عليها بالنواجذ، وإياك والمحدثات، وإلا فالحتوف.
{من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت} إن عجز اللسان عن قول الخير، والساعد عن حمل السيف، فلا يعجزن اللسان عن الصمت، ولا الساعد عن حمل القلم، وإلا فالحتوف.
بالحروف من الوحي خاطب الأرواح بلغتها، وائت البيوت من أبوابها، فإذا رأيت أرض الأفئدة قد اهتزت وربت، وهضابها القاسية قد تقلبت، فشمر عن الذراع واغتنم خفقان الشراع، والإسراع الإسراع، وإلا فالحتوف.
وكم من حروفٍ تجر الحتوف وأخرى تجر لخير منيف
وكم ساكتٍ ود أن لو نطق وكم ناطقٍ ود أن لو سكت.
هذا مجمل القول عدلت فيه عجزاً عن الوابل إلى الطل، فخرجت كالطيف خطرة طيف، وسحابة صيف، وأرجو أن تكون قد فهمت، فمن الحيف ألا تفهم لغة الضيف:
وما ذاك مني بل من الله وحده بفتحٍ وإمدادٍ وفضلٍ ونعمةِ
فإن أك فيها مخطئاً أو مغالطا فمن ذات نفسي كل خطئي وغلطتي
أتوب إلى الرحمن من كل خطأةٍ وأستغفر الرحمن لي ولإخوتي
وأسأله جلَّ اسمه بصفاته وأسمائه الحسنى قبول كليمتي
يا محيي القلوب بالإيمان اكفنا زلل القدم والقلم واللسان، يا غافر الذنب ويا قابل التوب نستغفرك من كل تصريحٍ أو تلميحٍ بنقصان ناقصٍ كنا متصفين به، نستغفرك من كل وعدٍ وعدناه فقصرنا في الوفاء به.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المسلمين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود ومن هاودهم، اللهم عليك بالنصارى ومن ناصرهم، والمنافقين ومن وافقهم، والمشركين ومن شاركهم، والشيوعين ومن شايعهم، اللهم عليك بجميع أعداء الدين، اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أذق بعضهم بأس بعض، اللهم أذهب ريحهم، اللهم اجعلهم غنيمةً باردةً للمسلمين، اللهم كن لإخوتنا المستضعفين والمأسورين والمضطهدين والمجاهدين في فلسطين وأفغانستان وكشمير والشيشان وكوبا والفلبين وأندونيسيا وجميع العالمين، اللهم كن لهم أجمعين، اللهم أفرغ عليهم صبراً وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم اشف جرحاهم، اللهم فك أسراهم، اللهم تقبل في الشهداء موتاهم، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والنفاق والعناد والفساد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وألف بين قلوبنا، اللهم لا تجعلنا في العمل لهذا الدين كأهل الجحيم؛ كلما دخلت أمة لعنت أختها، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(39/36)
ما حقيقة كخيال
هذه المحاضرة سفر حافل يتحدث عن واقع المسلمين في الالتزام بدينهم، وقد بين فيها الشيخ مكمن الداء، ونقطة الضعف، ومنبع الخطر، وبين العلاج لذلك بأسلوب أدبي أخاذ فعليك بمطالعتها إن كنت ممن يهمه أمر المسلمين.(40/1)
الهداية الحقة
اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، فكل الحمد لك، اللهم لك الشكر لنعمٍ لا نحصيها، فكل الشكر لك، اللهم لك التذلل والخضوع، فلا معبود غيرك، نسألك الأمن من هول يومٍ يستوي فيه القوي والضعيف، والشريف والوضيع، فالناس فيه سكرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حقٍ وصدقٍ أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا تترى، وأتبرأ بها براءةً كاملةً من كل طاغوتٍ وندٍ معبودٍ ظلماً وزوراً؛ من دون الله الولي الأعلى، شهادةً صادرةً عن يقين صادقٍ واعتقادٍ صحيح؛ لا شكوك فيها ولا أوهام والله المولى، نسأله الثبات عليها، والعمل بمقتضاها حتى يأتي اليقين وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، خصه الله بجوامع الكلم، وأنزل عليه القرآن المبين.
صلى عليه ربنا وسلما والآل والصحب الكرام الفضلا
الأنجم الزهر الهداة النزلا والتابعون السادة الغرُّ الألى
قد نقلوا الدين لنا مكملا أزكى صلاةٍ وسلامٍ مثقلا
تدوم ما اسود الظلام وانجلا
أما بعد:
فيا إخوتي في الله! حياكم الله -والتحايا مفاتيح القلوب- تحيةً طيبةً لطالما ثملت في الصدر ثمول النار في الحجر، ثم وافتكم الليلة كعبير السحر، تتنفس في لقائكم شذى الريحان والورد والمسك والعنبر، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية الإسلام تبعثها الروح إلى الروح، من كبدٍ مقروح، لامطففة ولا جموح، فللأمور دلائل، وللحقائق مخايل، وبين النفوس تعارف وتآلف، وما يخفى المريب والأمين، ولا يشتبه الصحيح الصريح بالمتهم الضنين، القلوب عرفاء، والأوجه شهداء، والأبصار أدلاء فلا خفاء.
أحياكم الله وحياكم، وأبقاكم للأمة ذخراً، تصلون أسبابها، وتعيدون لها نضرتها وشبابها، وللإسلام ترفعون أعلامه، وتدفعون ظلامه، وتؤدون فرضه، وتردون قرضه، وتصونون عرضه، وتصعدون سماءه، فتحفظون أرضه برحمة الله ومنه.
وهبنا الله التوفيق، وهدانا إلى سواء الطريق.(40/2)
لابد من التطبيق لنلحق بالسلف في الركب
أحبتي في الله! إن مقارنةً يجريها المنصف بين أمتنا في سابق عهدها وهي مطويةٌ في بطون الأرض والكتب، وبين هذه الأمة التي تجوب في حاضرها اليوم على وجه الأرض؛ يجد الفرق شاسعاً، والبون عظيماً، وأوجه الشبه تكاد تكون مفقودةً مع وجود الاشتراك في النسب والاسم، ولو التمسنا السبب بحق لوجدناه قريباً منا، والله ما هو إلا هدى القرآن، أقامه الأولون، وجمعوا عليه قلوبهم، وعلى أخلاقه روضوا أنفسهم، رباهم، وأدبهم، وزكاهم، وصفى قرائحهم، وجلى مواهبهم، وصقل ملكاتهم، وأرهف عزائمهم، وهذب أفكارهم، ومكن للخير في نفوسهم.
حفز أيديهم للعمل النافع وأرجلهم للسعي الصالح، ثم ساقهم على ما في الأرض من باطل فطهروها منه تطهيراً، وعمروها بالصلاح تعميراً، واتخذت الأمة الآن إلا من رحم الله القرآن مهجوراً، تقيم حروفه وتهمل حدوده، فحقت عليها كلمة الله في أمثالها، فإذا السفينة غارقةٌ في أوحالها، وركابها كالغنم تساق إلى الذبح لاهيةً؛ تخطف الكلأ من على حافتي الطريق لا تدري ما يراد بها، فمن لي بمن يرسلها معي كما أرسلها الإبراهيمي وغيره من قبل إلى المهتدين صورةً وحقيقةً ومعنى، إلى المهتدين صورةً ومظهراً وخيالاً، إلى المهتدين بالهوية والوراثة دعوى بلا بينةٍ ليس إلا، إلى المسلمين عموماً شيباً وشباباً، من يرسلها معي صيحةً داويةً مدوية: يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، يا أهل القرآن! ما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.
ما سراب كشراب، وما غمض يظهر من خلال المقال رزقنا الله وإياكم حسن المآل.
إلهي:
أرجوك حقق ما بالنفس من أمل وكن معيني على إدراك غاياتي
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
إن الصفات أيها المسلمون! لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الواقع؛ فالوعي لابد أن يصحبه رعي، ويعقبه سعي، ليكون على الحقيقة الوعي عين الوعي.
والهداية على الحقيقة لابد أن يصحبها علمٌ وحزم، ويتبعها عزم، يسوقها إقدامٌ بلا إحجام، يحدوها على الإقدام إلى الأمام.
ما حقيقةٌ كخيال:
لا تعظم الأشياء بالأسماء ولا يقاس النور بالظلماء
إن السراب البيج غير الماء، لئن كان في الرياح لواقح الأشجار، ففي حقيقة الهداية لقاح الأفئدة والضمائر والأبصار ما حقيقةٌ كخيال.
لئن كان من الريح ما يحرق الورق، ففي الهداية على الحقيقة ما يطفئ الحرق ما حقيقةٌ كخيال.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(40/3)
من كلام المقبلي عن الهداية الحقة
يقول اليماني في إيثار الحق ما مضمونه ونقول به: إن طلب الحق والهداية إلى الصراط المستقيم أجلى وأحلى في النفوس الأبية من الشمس في رابعة النهار، ومحورٌ تدور عليه همم الأخيار، وعباب تنصب منه جداول شمائل الأطهار، ومتى علت الهمة في طلب الحق والهدى، حملت صاحبها على مفارقة العوائد وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلًّ ما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قلًّ المساعد.
البدع والشبه قد فشت، والشهوات انتشرت وطغت، وكثر الداعون إليها والمعاونون عليها
فكيف لو رآنا اليوم، وقد صار طالب الحق اليوم من أمره في حيرة؟ ولكن كل مطلوب بإذن الله مدرك، فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة، فاعتبر فإن الحق ما زال عزيزاً نفيساً كريماً، لا ينال مع الإضراب والإعراض عن طلبه، وعدم التشوف والتشوق إلى سببه، لا يهجم على المبطلين المعرضين، ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين، ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطلٌ ولا ضال، ولا جاهلٌ ولا غافلٌ ولا بطال ما حقيقةٌ كخيال.
أيها المسلمون! اطلبوا الهداية على الحقيقة في وحي الله من الله تجدوها، لا تستأثرنكم دونها عادات وتقاليد ومظاهر وأعراف، فتكونوا لقمةً بين فكي أسد وطبقتي رحى، بل لساناً ولا أسنان، وأشباحاً ولا أرواح، وخيالاً ولا حقيقة.
إن العالم يلهث ويلهث ويتطلع في خضم تيهه وشقائه إلى منقذ، وحاله حال أهل جهنم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] هل عندنا ماء الهداية الزلال أم أننا نملك السراب والآل؟ أم أننا كالعيس العطاش الهلكى في البيداء وعلى ظهورها الماء في القلال؟ ما حقيقةٌ كخيال.(40/4)
شرف الهداية الحقة وفضلها
إن الهداية إلى الصراط المستقيم، والسير في ركاب الصالحين، والتجافي عن طريق الضالين؛ لهو أعزُّ وأنفس وأغلى ما يملكه المرء، وهو أتم نعمةٍ يمتن بها الله على العبد: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] إنها حصن الله الحصين، من دخله كان من الآمنين، وهي الباب العظيم الذي من ولجه كان إلى الله من الواصلين، نوره يسعى بين يديه وبأيمانه إذا أطفئت أنوار المبتدعة والمنافقين، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] كلا.
من تكن همته نسج الحصير فهو لا يعلم ما نسج الحرير
من رام الهداية على الحقيقة طلبها وبحث عنها، وحشد همته، وعبأ طاقته، وجرد نفسه من كل شاغل، وعالج عثرات طريقه، ومن علم الله صدقه أعطاه وهداه وآتاه، ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب، قال الله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178] {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97].(40/5)
زيد بن عمرو بن نفيل وطلب الهداية
وفي القدسي: {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيء.
سبحانه وسعت آثار رحمته أهل الأراضي وسكان السماوات
فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري: [[إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموصل إلى الجزيرة، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!
قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداًَ، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به.
فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.
قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم]].
عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طلبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عرفها وريحها وكنت من أهلها، وإلا:
فما أنت من أرض الحجون ولا الصفا ولا لك حظ الشرب من ماء زمزم
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، وحاله:
فإن أك مشغولاً بشيءٍ فلا أكن بغير الذي يرضى به الله أشغلُ
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما استوت شدها سواءً وأرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالا
سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: {رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام}.
فاهنأ بمنزلك الجميل ونم به في غبطةٍ وانعم بخير جوارِ
رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه.
سبحان من لا يشبه الأناما وعزَّ رب العرش أن يناما
وكل خلقه له فقيرُ وكل أمرٍ شاءه يسيرُ
يهدي الذي يشاء ذاك فضلُ ويبتلي البعض وذاك عدلُ
ولا يرد ما به الله قضى وكل أمرٍ في الكتاب قد مضى(40/6)
قصة سلمان الفارسي في طلب الهداية على الحقيقة وما فيها من عبر
أي أخي! هيهات للسيل -أعني سيل الهداية على الحقيقة- هيهات للسيل إذا أتى أن يقف قبل أن يمد مده ويبلغ حده.
ومن يسد طريق العارض الهطل؟!
أرأيت سلمان ابن الإسلام، سابق الفرس، المنارة الشامخة في طلب الهداية، من تشتاق له الجنة، لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله مثله، قال فيه علي رضي الله عنه بسند رجاله ثقات: [[أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحرٌ لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت]] طلب الهداية في مظانها، فوفقه الله ليصحب رسوله صلى الله عليه وسلم، هبت رياح الهداية في بيداء الأكوان، ونجم الخير، وهدأت الريح، فإذا أبو طالب في لجة الهلاك بلا أمان، وسلمان على ساحل السلامة في أمان، والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه في تيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم في غير ما كبرٍ ولا تيه، والنجاشي في أرض الحبشة يعج بلبيك اللهم لبيك، وبلال على ظهر الكعبة يصدح بالأذان ليسمع الآذان ويوقظ الجنان، لما قضي في القدم سلامة سلمان، أقبل يناظر أباه في دينٍ أباه، فلما علاه بالحجة لم يعرف أبوه جواباً إلا القيد، وهذا جوابٌ مرذولٌ يتداوله أهل الباطل من يوم: {حَرِّقُوهُ} [الإنبياء:68] ويوم {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] فنزل بـ سلمان ضيفُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:31]، فنال بإكرامه مرتبة: {سلمان منا}.
سمع أن ركباً على نية السفر، فسرق نفسه من حرز أبيه وما قطع، ركب راحلة العزم يرجو إدراك السعادة والسيادة، وقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء، ليكون من الأجلاء السعداء وكان، فلما أحسَّ الرهبان بانقطاع دولتهم، سلموا إليه أعلام الإعلان على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إن زمانه قد أظل، فاحذر أن تضل، وإنه يخرج بأرض العرب، ثم يهاجر إلى أرض بين حرتين.
فلو رأيتموه قد فلَّ الفلا والدليل شوقه، وخلى الوطن فلم يزعجه تطلعه وتوقه، ورحل مع رفقةٍ لم يرفقوا به، فشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة، ابتاعه يهوديٌ بـ المدينة، فلما رأى الحرتين، توقد حرُّ شوقه، وما علم المنزل بلهفة النازل:
أيدري الربع أيُّ دمٍ أراقا وأيُّ قلوب هذا الركب شاقا
لنا ولأهله أبداً قلوب تلاقي في جسوم ما تلاقى
فبينا هو يكابد ساعات الانتظار، قدم البشير بقدوم البشير النذير والسراج المنير؛ عليه صلوات الحكيم الخبير، وسلمان في رأس نخلة، كاد الفرح أن يلقيه لولا أن الحزم أمسكه، كما جرى يوم: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] ثم عجل النزول لتلقي ركب السيارة، ولسان حاله يقول:
خليلي من نجدٍ قفا بي على الربى فقد هبَّ من تلك الديار نسيمُ
فصاح به مالكه: ما لك ولهذا؟ انصرف إلى شغلك، فأجاب بلسان حاله:
كيف انصرافي ولي في داركم شغلُ
فأخذ مالكه يضربه، فأخذ لسانه يترنم لو سمع الأطروش الأصم:
خليلي لا والله ما أنا منكما إذا علمٌ من آل ليلى بدا ليا
فلما لقي الرسول صلوات الله وسلامه على الرسول، عرض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافق وطابق، فإلى الهداية سيق فسابق، حرر نفسه من هواها، فانتصرت يوم زكاها وحماها، ضعفت الأخلاط، فخفت الأغلاط، وتجدد النشاط، وهدي سلمان إلى سواء الصراط، ما آل كبلال،، وما حقيقةٌ كخيال
يا محمد! صلوات الله وسلامه على نبينا محمد، أنت تريد أبا طالب، والله يريد سلمان، أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبد مناف، وإذا انتسب فللآباء، وإذا ذكر المال عد الإبل، وسلمان إن سئل عن اسمه، قال: عبد الله، وعن نسبه، قال: ابن الإسلام، وعن لباسه، قال: التواضع، وعن طعامه، قال: الجوع، وعن شرابه، قال: الدموع، وعن وساده، قال: السهر، وعن فخره، قال: {سلمان منا} وعن قصده، قال: يريدون وجهه.
قصدنا الله حجتنا يوم يأتي الناس بالحججِ
نورٌ مسخ الظلام، وهدىً محق الضلال، وحقٌ محق الباطل.
طلع الصباح فأطفئ القنديلا
ما حقيقةٌ كخيال
الهداية على الحقيقة نورٌ من الله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] ومنةٌ وهبةٌ من الله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] ورحمةٌ من الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
رحمة الله لا تعزُّ على طالبٍ في أي مكان ولا في أي حال، كما يقول صاحب الظلال في تصرف: وجدها إبراهيم عليه السلام في النار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ووجدها يوسف عليه السلام في الجب: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] ثم وجدها أخرى في السجن: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:54 - 56] ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفلٌ رضيعٌ مجردٌ من كل قوة ومن كل حراك: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] ثم وجدها أخرى في قصر فرعون وهو عدوٌ له متربصٌ به، يبحث عنه ليقتله، فإذا به يغذوه {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] وقد ألقى الله عليه المحبة، فما رآه أحدٌ إلا أحبه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في الظلمات يوم نادى: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88] وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16] وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم ويقصون الآثار: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما قال: لا تحزن إن الله معنا} وجدها كل من أوى إلى الله يائساً من كل ما سواه، منقطعاً عن كل شبهةٍ في قوة، ومظنةٍ في رحمة، قاصداً باب الله وحده:
إلهي وجهت وجهي إليك فحقق منايا وأحلاميا
وهب لي من العزم ما أرتجي وحقق بفضلك آماليا
وثبت فؤادي في حاضري وتمم قوابل أياميا
الهداية على الحقيقة نورٌ وحبور وسرور، والنور لا يحل إلا في قلبٍ صحيحٍ سليمٍ من الهوى والحقد والغل والحسد كما يقول الحميدي، أما القلب المريض، فإنه محجوبٌ عن ذلك النور، ولو كان الفكر في غاية الذكاء والفهم والعلم، فهو أحير من ضب؛ إذا بعد عن جحره خبن، وأهل الصحراء أعلم بذلك.
هذه حقيقة عارية، من أنكرها فهو ساعٍ على جسر الخيال، مستبدل بالماء الآل، وما حقيقةٌ كخيال.(40/7)
إنما يهدي الله من اهتدى
هاهو غلامٌ أسودٌ راعٍ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ لبعض حصون خيبر، معه غنم هو أجيرٌ فيها لرجلٍ من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض عليَّ الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً أن يعرض عليه الإسلام، فعرض عليه الإسلام فأسلم وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وباح الصباح بأسراره وحرُّ الهوى في حشاه استعر
قال: يا رسول الله! إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم، وهي أمانةٌ عندي، كيف أصنع بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: {اضرب في وجوهها ترجع إلى ربها، فقام فأخذ حفنة من حصى، فرمى بها في وجوه الغنم، وقال: ارجعي، لا أصحبك والله أبداً، فخرجت كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت حصن اليهودي، ثم تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل، فأصابه حجرٌ، فقتله وما صلى لله صلاةً قط، لم يكن بين إسلامه وقتله صلاة، فيؤتى به ويوضع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسجى بشملةٍ كانت عليه، ثم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ من أصحابه، ثم يعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله! لم أعرضت عنه؟ فقال فيما روي عنه: إن معه الآن زوجتيه من حور العين}.
تحول عنه الأذى وانتهت صروف الحياة وأشجانها
سقاه الغوادي رحمانها وحياه بالخلد رضوانها
وحور الجنان وولدانها
هكذا يا معاشر المسلمين أبصر نور الهداية أسود راعٍ مملوك، بينما حجبت عن علماء أهل الكتاب في حصونهم مع أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ليسوا للهداية بأهل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] اتبعوا الهوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] زاغوا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وكتموا الحق وهم يعلمون، فبئس ما يصنعون.
إذا ما تردى في الضلالة جاهلُ فما عذر من يأبى الهدى وهو عارفُ
يظنون ألن ينسف الله ما بنوا ولن يثبت البنيان والله ناسفُ
سيلقون بؤساً بعد بؤسٍ ومحنةً فلا العيش فياحٌ ولا الظل وارف(40/8)
العبرة بالمسميات لا بالأسماء
الهداية على الحقيقة لا الخيال استقامةٌ حقةٌ على تكاليف الدين، والتزامٌ بها، وعدم سلوك ما يناقضها.
حقيقة الهداية ليست بمجرد الانتساب، أعني: الانتساب إلى الدين مع ارتكاب كل مناقضٍ له:
إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلةً كحالاتها أسماؤها والمصادر
أما إن الحق لا يثبت بالدعوى ولكن بالدليل، وإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء فحسب، وبالأفعال لا بالأقوال فقط، ولو أن كل من سمته أمه صالحاً كان صالحاً على الحقيقة، وكل من سمي عادلاً كان عدلاً على الحقيقة، لكنا سعداء بكثرة الصالحين والعدول فينا، ولو أن كل من تسمى حسناً لا يأتي إلا الفعل الحسن، لعظم وطغى الحسن على القبيح، ولكن وراء هذه الأسماء والألقاب الجميلة أفق الواقع تتهاوى فيه كثيرٌ من هذه الأسماء والألقاب، وتنفلق فلا تجد إلا الحقيقة من فعلٍ يصدق ذلك أو يكذبه:
ومن يقل الغراب أبو القمارى يكذبه إذا نعب الغرابُ
ذكر أبو الفرج أن تأبط شراً الشاعر ثابت بن جابر لقي ذات مرة رجلاً من ثقيف يكنى بأبي وهب، وكان رجلاً أهوج أحمق وعليه حلةٌ جميلة فارهة، فقال أبو وهب لـ تأبط شراً: بم تغلب الرجال يا ثابت: كيف تغلب الرجال وأنت كما أرى دميم ضئيل؟ -نظر إلى المظاهر وترك الحقائق- قال ثابت: أغلبهم باسمي، إنما أقول ساعة ألقى الرجل: أنا تأبط شراً، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت.
فقال الثقفي: أبهذا فقط؟!
قال: ليس إلا.
قال: فهل لك أن تبيعني اسمك؟
قال: نعم ولكن ما الثمن؟
قال: هذه حلةٌ جميلة مع كنيتي، قال: أفعل، ففعل، وعندها قال تأبط شراً: لك اسمي ولي اسمك، وأخذ الحلة وأعطاه طمريه، ثم انصرف تأبط شراً وهو يقول مخاطباً زوجة الثقفي:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهبٍ
فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطبِ؟!
وأين له بأسٌ كبأسي ونجدتي؟! وأين له في كل فادحةٍ قلبي؟!
مضى وتركه وهو يعيش باسمٍ دون مسمى، وخيالٍ أشبه بالخبال.
وبعض الداء ليس له شفاءُ وداء الحمق ليس له دواءُ
لكأنك به عند أول لقاء وقد هزم، وذهبت حلته وبقي له حمقه وكنيته، وحاله:
وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
إخوتي في الله! ليس كل من تزيا بزي الشجعان، وأخذ ألقابهم وأسماءهم وكناهم، وتحدث حديثهم، وردد عباراتهم وشعاراتهم يعتبر شجاعاً، حتى يكون في ذاته وهمه وشعوره، وتصوره وإقدامه وقوة قلبه كالشجعان حقاً، ليس كل من ارتدى مسوح أهل العلم، وإن كان في غاية البلادة في الفهم، والضحالة في العلم، والغباء في الذهن، ورسوخ الجهل؛ يعتبر عالماً حتى يكون في همته وشعوره، وتصوره وإدراكه، وفهمه واتباعه وخشيته كالعلماء حقاً.
من ادعى وصف الكرام البررة فاستشهدوا أخلاقه وسيره
ليس كل من تزيا بزي المستقيمين المهتدين، ولبس لباسهم، وردد ألفاظهم؛ يعتبر مستقيماً مهتدياً حقاً، حتى يكون في شعوره وولائه، وحبه وبغضه، وهمته وجديته، وسمته وخلقه، وتعامله وكبح جماح نفسه على الخير كالمستقيمين حقاً.
ليس كل من ادعى سبيلاً، وتشدق بأبعاده ومراميه يكون من أهل ذلك السبيل؛ حتى يكون بفصيح لسانه وبليغ ما يخط بنانه ويعتقد جنانه حقاً كما قال، فليست العبرة بالمظاهر فحسب، بل بالمظاهر مع الحقائق، فاعلم وعِ:
لا يخلبنك بارقٌ متلمعُ إن البروق تكون في ظلمائها(40/9)
عدي بن حاتم بين دين الحقيقة ودين الخيال
إليك عدي بن حاتم يتحدث عن نفسه فيما رواه ابن إسحاق والإمام أحمد في مسنده وروى الشطر الأخير منه البخاري في صحيحه رحم الله الجميع، يقول: كنت امرءاً شريفاً نصرانياً أسير في قومي بالمرباع -يأخذ ربع الغنيمة وهي لا تحل له قبل أن تقسم- وكنت في نفسي على ديني ملكاً في قومي لما يصنع بي، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهته أشد ما كرهت شيئاً قط.
ألقى الشيطان في روعه كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيل له أنه سيسلبه ملكه، ليحول الشيطان بينه وبين الملك الكبير ثمة في الجنة، قال الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20].
يقول: فقلت لغلامٍ لي كان راعياً لي إبلي: لا أب لك، اعدد لي من إبلي أجمالاً جللاً سماناً، فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش محمد- صلى الله وسلم على نبينا محمد- قد وطئ هذه البلاد، فآذنّي، ففعل، وأتاني ذات غداة، فقال: يا عدي! ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمدٍ فاصنعه الآن، فإني رأيت رايات أقبلت، وسألت عنها، فقيل: هذه خيله، قال: فاحتملت أهلي وولدي، وخلفت بنت حاتم في الحاضر، وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصيب ابنة حاتم في السبايا، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبايا، فقامت إليه، وكانت امرأةً جزلة عاقلةً أصيلة الرأي، فقالت: يا رسول الله! هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك، قال: {ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله، إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي} ومنَّ عليها بعد أيام، وقدم ركبُ من بلي أو قضاعة فكساها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاها دابةً ونفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام أقصى أرض العرب مما يلي الروم، يقول عدي: فوالله إني لقاعدٌ في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينةٍ تؤمنا وتنحدر إلينا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما وقفت عليَّ، انسحلت تلوم وتشتم، وتقول: القاطع الظالم، احتملت أهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك، قلت: أي أخيه! لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، ولقد صنعت ما ذكرتِ، فنزلت، فقلت لها وكان امرأةً حازمةً ذات رأي: ما ترين في أمر هذا الرجل؟ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أرى أن تلحق به سريعاً، إن يكن نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل وأنت عنده، ووصفت له من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاملته ما وصفت، وماذا تصف؟!!
فما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها أبرَّ وأوفى ذمةً من محمدِ
صلوات الله وسلامه عليه.
يقول عدي: وقد كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول، فقلت: لو أتيته، فسمعته إن كان كاذباً لم يَخْفَ عليَّ، قال: فأتيته، فانتشر في الناس أن قالوا: جاء عدي بن حاتم، ودخلت المسجد، وسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم: {من؟ قلت: عدي بن حاتم، قال: الفار! ثم أخذ بيدي، وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعائد بي إلى بيته، إذ لقيته امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرةٌ معها ابنها، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك -وهو أعرف بحياة الملوك- قال: ثم دخلت بيته، وتناول وسادةً من أدمٍ جلدٍ محشوةً ليفاً، وقال: اجلس، وجلست بين يديه، فما رأيت في بيته شيئاً يرد البصر، قلت: ووالله ما هذا ببيت ملك، وما أمره بأمر ملك، ثم قال- يعني: صلى الله عليه وسلم-: إيه يا عدي! أسلم تسلم، أسلم تسلم} حاله:
إلى الله فارغب يا عدي بن حاتمِ ودع دين من يبغي العمى غير نادمِ
فقلت: إني لعلى دين، قال صلى الله عليه وسلم: {أنا أعلم بدينك منك، ألست رسوسياً؟ قلت: بلى، قال: ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع؟ قلت: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فإن ذلك لا يحل لك في دينك، قال: فلم ألبث أن اتضعت لها، ووجدت عليًّ فيها غضاضة، قلت: نبيٌ مرسل يعلم ما يجهل}.
كشف أمره، وحصل لديه يقينٌ بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم من دينه ما لا يعلمه من حوله، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل بقية العوائق التي تعوق هذا الملك في قومه عن الإسلام، فقال: {يا عدي! لعلك إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله، فوالله إن طالت بك حياة، ليوشكن أن يفيض المال حتى ترى الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، فلا يجد أحداً يأخذه.
لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، والله لئن طالت بك حياة، ليوشكن أن ترى الضعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله.
قال: فقلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُّعار طي الذين سعروا البلاد؟ -أين قطاع الطرق؟ - ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا عدي لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم- يعني: فارس والروم- وايم والله إن طالت بك حياة، لترين قصور بابل البيض وكنوز كسرى قد فتحت، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: كسرى بن هرمز.
قال: فقلت: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله}.
وكشفت الحجب، وزالت العوائق، ولا غرابة في عودة الشيء إلى أصله وفطرته، فحاله:
ومن يعدل بحب الله شيئاً كحب الجاه ضل هوىً وخابا
يقول عدي: [[وايم الله لقد رأيت الضعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت في أول خيلٍ أغارت على المدائن فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، وايم الله لئن طالت بكم الحياة لترون ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليفيضن المال حتى لا يوجد من يقبله]] إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغالب الحق مغلوب، ومحارب الهدى محروب، ولا ينير الدنيا هلال مقنع، وعند غربال السبق خبرٌ يقين، وما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال
معاشر المسلمين! الهداية الحقة ليست بمجرد الانتساب وإظهار الولاء فحسب، إن من يظهر الانتساب للإسلام ولا يطبق أحكامه، ويرتكب ما يناقضه؛ لا يكون مسلماً حقاً كما كان عديٌ على غير دينٍ الحقيقة، ولما كان عدي غير مستقيمٍ على دينه السابق؛ صار دعايةً سيئةً لذلك الدين، ومنفراً عن اعتناقه، فكذلك من ينتسبون إلى الإسلام وسلوكهم يناقض أحكامه وآدابه، هم صادون عنه وإن كانوا يحملون اسمه، فهم كالطائر قص جناحاه، فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه طائراً.
إن الانتماء إلى الإسلام ليس انتماء وراثة، ولا هوية، ولا مظهر فحسب، وإنما هو انتماء للإسلام، والتزام به، واستقامة على أحكامه، تكيف به في كل مناحي الحياة، كنزٌ ثمين، فلنشد عليه يد الضنين:
فلو لم يكن الزهر في البستان ما غرد قمري على الأغصان، وما صدحت الحناجر بأعذب الألحان.
منزل الشاهين في أوج السحاب لا له أن يك في وكر الغراب
هكذا وإلا: إليك عني إليك عني فلست منك ولست مني(40/10)
الهداية الحقة احتكام إلى الوحي
الهداية على الحقيقة تحولٌ جذري في السلوك والفكر، والتصور والمعتقد، والشعور والانتماء والمعاملة، والظاهر والباطن، إنها باختصار إسلام النفس لله وحكمها بوحي الله، أقوال المهتدي حقاً، وأعماله، وعطاؤه ومنعه، وحبه وبغضه، ومعاملته؛ لوجه الله، لا يريد بذلك جزاءً من الناس ولا شكوراً، ولا ابتغاء جاهٍ عندهم، ولا طلب محمدةٍ ومنزلةٍ في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، قد عدَّ الناس بمنزلة أهل القبور، لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، عرف الناس فأنزلهم منازلهم، وعرف الله فأخلص له، وأصلح ما بينه وبينه، فمقاله: أسلمت وجهي لله.
همه لله لا في غيره ولأجل الله مولاه خضع
وحاله:
عملٌ أريدَ به سواك فإنه عملٌ وإن زعم المرائي باطلُ
فإذا رضيت فكل شيءٍ هينٌ وإذا حصلت فكل شيءٍ حاصلُ
هاهو أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مأموناً يتاجر في أموال قريش، واقتنع أن دين الله هو الحق، وأسلم سراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع ليرد الأموال، فقيل له وهو عازمٌ على أن يؤدي الأمانات إلى أهلها في مكة: هل لك أن تأخذ هذه الأموال، إنما هي أموال المشركين؟ فقال في اعتزاز المسلم وأمانته وطهره، وتحوله عن كل جاهلية: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي.
رعدٌ يجلجل يخلب لبك، ويأخذ سمعك، وتحولٌ عظيم يزأر صاحبه وحاله:
على المال والجاه حرص الجميع فمن ذا على دينه يحرص؟
ومن يعرف الله لا ينقصُ
أنا لله وليٌ لا لعزى أو مناة أنا شمس ليس تطفى بهبوب العاصفات
ما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.(40/11)
عبر وعظات(40/12)
قصة شاب اهتدى بسبب حادثة
عبد الله! قف على ساحل بحرٍ لجي من العبر والمثلات؛ في صياغة الهداية على الحقيقة للمرء صياغةً جديدة، قفها مع أحد التائهين يذكر قصة هدايته كما أوردها القاسم حفظه الله، ومضمونها ما يلي في تصرف: في أيام العشر الأواخر من رمضان العيد قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين أذهب، أنتظر صديق الطفولة بلهفة، الجزء الأكبر من وقتنا ليلاً نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وفي النهار نلزم المضاجع، وجاء عبد الرحمن، وركبت معه، وسألني: هل جهزت ثوباً جديداً لقد أقبل العيد؟ قلت له: لا، قال: نذهب للخياط الآن، قلت: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد خياطاً يسابق العيد؟ انطلق بنا في سيارته، لم يكلمني حتى توقف أمام خياط، وفاجأني بالسلام الحار على ذلك الخياط، فهو يعرفه منذ زمن، قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، فضحك الخياط، وقال له: كم بقي على العيد؟! لماذا لم تأت مبكراً؟ قال عبد الرحمن، وهو يهز يده بحركة تفيد: سنزيد لك في الأجرة، المهم أن ينتهي بعد غد نعم بعد غد.
ويدفع جزءاً من الثمن وهو يردد: بعد غد، لا تنس الموعد.
قال: وإلى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة لم نذكر الله فيها مرة واحدة، ولربما كانت ليلة القدر، حياةٌ لا طعم فيها، وسعادةٌ لا مذاق لها.
أعيش في قلقٍ حيران مضطربا وإن تخلني هنيء العيش منشرحا
ولجنا المعاصي من كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، وفي القلب همٌ وغمٌ ونكدٌ وحسرات، ونظهر السعادة، ونملأ المكان بالضحكات.
أعمالنا تكشفنا وتفضحُ ما في الوعا على الوعاء ينضحُ
افترقنا قبيل الفجر، يجمعنا الليل والسهر والعبث، ويفرقنا النوم الطويل الذي يمتد من الفجر إلى العصر، صيامٌ بلا صلاة، وصلاة بلا خشوع، ساعات الصيام التي أستيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة، وقراءة الصحف الهابطة، وبينا أنا أنتظر موعد أذان المغرب حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء، وصوته متغير، يقول: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت له: لا مساء البارحة إلى الفجر وهو معي كان بصحةٍ وعافية، قال: إنه مريض وأنهى المكالمة.
والأمر لا يعني لي شيئاً سوى معلومةٍ غير صحيحة، فأنا معه إلى الفجر، وإذا بالمؤذن يرفع أذان العشاء، وإذا بالهاتف يرن، إنه شقيق عبد الرحمن الأكبر، قلت في نفسي: إنه سيؤنبني على ما أفعله أنا وعبد الرحمن، فلعل أحداً أخبره بزلةً من زلاتنا وسقطاتنا
ويأتي صوته منهكاً مجهداً، عبراته تقطع الحديد، وأخبرني الخبر، وياله من خبر! مات عبد الرحمن!!
لا إله إلا الله!! دهشت لم أصدق لا أزال أراه أمامي، صوته يرن في أذني، كيف مات؟!! قال: وهو عائدٌ إلى المنزل ارتطم بسيارة أخرى قادمة، وحمل إلى المستشفى، وفارق الحياة ظهر اليوم، وسنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملائك وقفل الهاتف، أذني لا تكاد تصدق ما تسمع، الليل موعدنا في سوق كذا، وغداً موعد ثياب العيد، لا إله إلا الله! الأمر جدٌ لا هزل فيه، انقضت أيام عبد الرحمن، والموت حق، وغداً موعدنا هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد، عبرٌ تثار، وعبراتٌ تسيل، تسمرت في مكاني، تشتت ذهني، أصبت بدوار في رأسي، التراب يابس، والمرعى عابس، قررت الذهاب إلى منزل عبد الرحمن لأستوضح الفاجعة، ركبت السيارة، فإذا شريط الغناء لم يزل في جهاز التسجيل، أخرجته، ثم فتحت الراديو، فإذا إمام الحرم من المذياع يخاطب الجنان لا الآذان، أنصتُّ بكل جوارحي، أرهفت سمعي، لكأن الدنيا انقلبت والقيامة قامت، أوقفت سيارتي أستمع وأستمع، وكأني لأول مرةٍ أسمع القرآن، وبدأ الإمام بدعاء القنوت، كانت دمعاتي أسرع من صوت الإمام، قلبي يردد صدى تلك العبرات ليعلنها توبةً صادقةً في حسرةٍ وتأسفٍ على ما سلف وفات.
كأنما أنا طيرٌ لا جناح له فما استطاع بغير الدمع تبيانا
ميلادٌ جديد، حياةٌ جديدة بدأتها بصحبةٍ طيبة، ورفقةٍ صالحة، لله ما أجمل السير في ركاب الصالحين!! من كرهتهم هم أحب الناس اليوم إلي، من تطاولت عليهم هم أرفع الناس في عيني، من استهزأت بهم هم أكرم الناس عندي، كنت على شفا جرفٍ هارٍ، ولكن الله رحمني:
يا من عليه اعتمادي في الأمر بعضاً وكلا
بك اهتديت ومن لم يرج الهدى منك ضلا
إنها الهداية على الحقيقة، تحولٌ جذري حقيقي.
فاضرب بسهمٍ في سهام أئمةٍ سبقوك في هذا السبيل القيمِ
وافتح مغاليق القلوب لتهتدي وعلى إلهك فاعتمد واستعصمِ
يا ويل كل مفرطٍ مستسلمِ!
قال: وبعد شهرين فاجأت الخياط، وسألت عن ثوبي، فسأل عن عبد الرحمن، قلت له: مات، قال: لا إله إلا الله! عبد الرحمن؟! قلت له: مات، فأعطاني ثوبه، وبدأت أقول في نفسي، وآخذ شريط الذكريات في ذهني: هل حقاً مات؟! ثوبي بجوار ثوبه! مقعدي في السيارة بجوار مقعده! مضى، وبقي لي أجل لعلي أستدرك فيه ما فات، من يهرب من شيءٍ تركه وراءه إلا القبر؛ فما يهرب منه أحدٌ إلا وجده أمامه، ينتظر غير متململ، وأنت متقدم إليه غير متراجع، فانظر ما أنت عامل، يقول: وما هي سوى فترة من الزمن، وهدوء النفس يزداد يوماً بعد يوم، وتقرُّ عيني، وتطرأ السعادة الحقيقية على قلبي، انشراحٌ في الصدر، وسكينةٌ ووقار، وصدق الله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] حمدت الله كثيراً، ولكن بقي لي أخ لا يزال على عينيه غشاوة، هل أتركه؟ لا، لن أتركه وقد هداني الله، لا أنسى عبد الرحمن، لا، لن أترك هذا الأخ، وقد هداني الله، هناك كتاب، وهناك شريط، وهناك مطوية، وبيني وبينه نصيحة، والدين النصيحة.
فمن لم يعش بعد بيت هدى شقيٍ وإن بلغ الفرقدا
إذا وجدت النملة ذخيرةً من القوت، أسرعت إلى سربها تحمل لها البشرى، وتأتي بها إلى الغنيمة لترى غزوها وفتحها، ثم يتكاسل ويضعف حامل الهدى!
الهنود يغارون على بقر تهان فتطيح الرقاب، ثم لا يغار المسلم على حرمات دينه ويسعى في تبليغه.
إنه الهوى من أطاعه هوى
شراب الهوى حلوٌ ولكنه يورث الشرغ
أرأيت عبد الله كيف تحولت مقاييس هذا الرجل واهتماماته ونظراته! إنها هداية الحقيقة لا الخيال، تحولٌ جذري، وعزلةٌ شعورية كاملةٌ بين ماضي الإنسان في غوايته وحاضره في هدايته، وإنما يكلّ من كان في ريبٍ من أمره.
هذا السبيل فأين يذهب من أبى؟ أوليس نور الله قد كشف الدجى؟
بلى ما حقيقةٌ كخيال.
الهداية على الحقيقة -معاشر المسلمين- تسرّ صاحبها وترقيه، وتبشره وتهديه، تنفعه وترفعه، فلا يزال يحلق في سماء المعالي حتى لا ينتهي تحليقه دون عليين برحمة أرحم الراحمين، فمن سار مهتدياً على ذكر الحقيقة لا الخيال، رجونا له الوصول وإن طال الدجى:
فأول ما يكون الليث شبلٌ ومبدأ طلعة البدرِ الهلال(40/13)
علي بن أسد يتوب لسماع آية
علي بن أسد رحمة الله على ذاك الأسد، مرَّ ليلة بـ الكوفة، فإذا برجل يقرأ في جوف الليل قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] صادفت قلباً مزاح العلة، فتمكنت منه، فقال: أعد عليَّ رحمك الله، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، ثم عمد إلى بيته فاغتسل، ثم غسل ثيابه، وانطلق وجدَّ على جسر الحقيقة، فلم يزل يرتقي في مدارج العبودية حتى عمشت عيناه من كثرة البكاء من خشية الله، وصارت ركبتاه كركبتي البعير، ويداه كثفن الإبل من كثرة قيامه وسجوده لله رب العالمين، وحاله:
قصدي المؤمل في جهري وإسراري ومطلبي من إلهي الواحد الباري
شهادةٌ في سبيل الله خالصةٌ تمحو ذنوبي وتنجيني من النارِ
تاقت نفسه للجهاد في سبيل الله، فغزا مع المسلمين في البحر، ولقي الروم، فقرن مركبه ومن معه بمركب العدو، ثم قال: آن لك أي علي بن أسد ألا تطلب الجنة بعد اليوم أبداً، والحال الحال:
شهادةٌ في سبيل الله خالصةٌ تمحو ذنوبي وتنجيني من النارِ
إن المعاصي رجسٌ لا يطهرها إلا الصوارم في أيمان كفارِ
فاقتحم بنفسه عليهم في سفائنهم؛ رجلٌ يطلب إعلاء كلمة الله، والموت في سبيل الله لا حيلة فيه، يحب الموت كما يحب أولئك الكفار الحياة، فما زال يضربهم وينحازوا، ويضربهم وينحازوا حتى مالوا في شقٍ واحدٍ من سفينتهم، فانكفأت عليه وعليهم، فغرق وعليه درعه، وغرقوا جميعاً، شتان بين غريق وغريق، غريقٌ في الصد عن سبيل الله، وغريقٌ في سبيل الله، هداة:
تقدم في الله أرواحها وتبذل في الله أموالها
فحيِّ الأسود وأشبالها
أسلافنا -أيها المسلمون- ركبوا البحر غزاةً فاتحين، فكان البحر -وإن غرقوا فيه- لهم عرشاً،، ولما تخلف من تخلف بعدهم عمَّا هم عليه، ركبوا البحر لأغراضهم وشهواتهم، فكان البحر لهم نعشاً، ما تغير البحر، ولكن تغيرت نفوس الراكبين.(40/14)
محاكمة في العراء لبيان حقيقة الاهتداء
عبد الله! من لم يهتد على الحقيقة ويأخذ بأسباب الهداية، ولم تنهض همته لها، لا يزال قلبه في حضيض طبعه محبوساً منكوسا، راعٍ مع الهمل، سائمة مع الأنعام، استطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل والبلادة:
ليس ضليلٌ حائرٌ كمهتدي(40/15)
واقع الأمة العقدي
عبد الله! لننزع البرقع، وهلم فلنحتكم على سفور وإن كنا لا نبيحه للغانيات.
أليس فينا معشر المسلمين من اهتدى اسماً وخيالاً منذ سنين، ولم يزل بعيداً عن هدي القرآن، عاكفاً على القباب والأوهام، ألهته عن دنياه، وأفسدت عليه أخراه، شد لها الرحل، وقدم لها النذر، وسألها ما لا يكون إلا لله الرحيم البر.
قد فتن البعض بقبر زينب وتركوا الله مزيل الكربِ
وفتن البعض بقبر الهادي وتركوا ذا الطول والأيادي
وفتن البعض بقبر المهدي وتركوا من يبتلي ويهدي
بقبر عيدروس قد ضل الغبي وتركوا منهاج أحمد النبي
صلوات الله وسلامه عليه
هل يكون مهتدياً على الحقيقة من هذا حاله؟ كلا.
إنه يعيش الخيال، إنه يدفع نفسه إلى بحرٍ لا يجيد السباحة فيه، وإن نهايته الغرق المحتوم ولا شك، ما حقيقةٌ كخيال.
دع كل بابٍ غير باب ربي ولذ به وسله كشف الكرب
هل يكون مهتدياً على الحقيقة من يأخذ من الدين ما يوافق هواه ويطرح ما عداه؟ كلا.
ما عهدنا أن نرى في الليل شمسا أو نرى في وهج القيظ هلالا
ما حقيقةٌ كخيال.
هل يكون مهتدياً حقاً من يوالي أعداء الله ويتخذهم بطانةً من دون المؤمنين، ولو صلى وصام وحج وزكى؟ يكرم من أهانه الله، ويعز من أذله الله، ويدني من أبعده الله، ثم يدعي هداية الله.
لكم يُرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلتِ
ما حقيقةٌ كخيال.(40/16)
التعامل مع الله والخلق بين الحقيقة والخيال
هل يكون مهتدياً حقاً من ظاهره الاستقامة، ثم في انهزامية مقيتة وبحجة ضغط الواقع يتراجع عن ثوابت ومسلمات؟ أما إن الحق لا ينقلب باطلاً، ولا الباطل يصير حقاً مهما كانت التبعات.
هل يكون مهتدياً على الحقيقة من يهمل حقوق الخلق ويسيء في المعاملات، لا يتقبل النصح ويرى ذلك اتهامات، يعيش الفوضى وعدم الانضباط، مضيعاً وقته، غير منتظمٍ في درسٍ، أو محاضرةٍ، أو عملٍ نافعٍ، أو حلقات، ومع ذا منشغلٌ بالملهيات، مغرقٌ في سماع الأناشيد والتمثيليات، سيارته ومكتبه مستودعٌ للأناشيد والطرائف الاحتفالات؛ يحفظها حفظاً يفوق حفظ الأحاديث والآيات، حتى إن بعضهم ليذهب مع اللحن يترنم ويطرب، ثم يبكي ما لا يبكيه عند سماع قوارع الآيات، ولربما صاحبها الدف، وترخص في ذلك، فلم يشعر إلا وهو من أهل الأغنيات؟ فالهبوط سهلٌ والارتقاء صعب التبعات.
عفواً إخوتي: من كتم داءه، قتله، آن لنا أن نعلنه لعلنا نتعاون فنصلحه، عظم الاهتمام بالتحسيني والكمالي، وترك الحاجي والضروري، صارت الكماليات عندنا ضروريات، فنأكل الحلوى ونحن في بلوى كما قيل، وبعضنا من هو مهتمٌ بمظهره اهتماماً يفوق اهتمام البنيات، ألف السطحية والمظهرية، فهو تمثال خشبٍ لا يخيف ولا يرهب، يمني نفسه ويسوف، وقد أمن الهرم كما أمن الصيد حمام الحرم.
يدٌ فارغة، ويدٌ لا شيء فيها، فضولٌ بلا فضل، وسنٍ بلا سنة، وطولٌ بلا طَول، وعرضٍ بلا عِرض، متساهلٌ في الأمر الخطير، متشددٌ في الأمر السهل اليسير، لم يتخلص من رواسب الجاهلية من صورٍ وقنوات ومجلات، لا يتورع عن المشتبهات، يتهاون بالسنن والمندوبات، ويفرط في الواجبات، جلساؤه قبل أن يهتدي هداية الخيال هم جلساؤه، مع أنهم أخطر شيءٍ عليه إذ هم أعرف الناس بنقاط ضعفه، فهم له كالمجذوم؛ تصافحه تحيةً وسلاما، فلا يبلغه منه إلا الجذام والمرض.
ونور الشمس يحجبه الغبارُ
فما معنى الخضاب وأنت تدري بأن العيب من تحت الخضاب
عاداته، أفكاره، اهتماماته هي هي لم تتبدل، لم يزل مصراً على بعض المال المشتبه، حتى إذا ما تورع عن حرام، لم يزل لسانه يسري في أعراض الأحياء والأموات؛ يشتم ذا ويجرح ذاك ويعدل ذلك.
أمانيه، حبه، بغضه، عطاؤه، منعه هي هي، ولاؤه لمصلحته، عداؤه لكل ما يقف في طريقها، نفعيٌّ ذاتي، مستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله:
حياته عارضةٌ وصفية فألغين عارض الوصفية
أيكون من هذا حاله مهتدياً على الحقيقة؟ كلا إنما هو عش حمامة؛ عودٌ من غرب وعود من ثمامة، بل غيمٌ حمى الشمس ولم يمطر ولم يكف.(40/17)
حقيقة الهداية والمهتدي
أيها المهتدي! الهداية تحولٌ جذري؛ مظهريٌ ومخبري، والله ما يجدر بحامل الهداية أن يظهر بمظهرٍ يرده الشرع، فلو خالف حامل الهداية، لكان كل مخالف أشرف منه، فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود كما قيل.
أنت للهداية لا للتلبيس ذاك خلق إبليس.
أنت للنور لا للظلمة، ربما زلةٍ أهلكت، وعثرةٍ قتلت، وفائت لا يستدرك، لا يبنى على الصلاح إلا صالح، وكل ما بني على الفساد فهو فاسد، ولن يأتي يومٌ فيقول مهتدٍ على الحقيقة لإبليس: رضي الله عنه"! بل نعوذ بالله منه.
إذا ما الجرح رمَّ على فساد تبين فيه تفريط الطبيب
الهداية ليست كلمةٌ تقال، بل هي حقيقةٌ ذات تكاليف، وأمانةٌ ذات أعباء، وجهادٌ يحتاج إلى صبر، وجهدٌ يحتاج إلى احتمال، وما حقيقةٌ كخيال.
الهداية على الحقيقة لا الخيال عبوديةٌ مطلقةٌ لله رب العالمين، والعبد المطلق كما يقول ابن القيم في كلامٍ قيم مضمونه في تصرف: لا تملكه رسوم، ولا تقيده قيود، عمله على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه في سواه، ملبسه ما تهيأ، مأكله ما تيسر، شغله ما أمر به في وقته، مجلسه حيث انتهى وخالياً وجد، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حرٌ مجردٌ، دائرٌ مع الأمر المأمور به حيث دار، يأنس به كل محب، ويستوحش منه كل مبطل؛ كالغيث حيثما وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعةٌ حتى شوكها، حزمٌ مع المخالفين لأمر الله، غضبٌ إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله، ومع الله، واهٍ له ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته! وما أعظم أنسه بالله وفرحه وطمأنينته وسكونه، والله المستعان! وعليه التكلان، ما حقيقةٌ كخيال.
هذا دأب المهتدي حقيقةً في السير إلى الله، كلما رفعت له منزلة سار إليها واشتغل بها، حتى تلوح له منزلةٌ أخرى، ولم يزل هذا دأبه حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته بذاته معهم، وفي سمتهم وعلمهم وزيهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين والمحسنين رأيته معهم، وإن رأيت العاكفين الخاشعين المخبتين رأيته معهم:
كالليث يسرف في الفعا ل وليس يسرف في الزئير
ما حقيقةٌ كخيال.
هداية الحقيقة تمثيلٌ للدين في تصريف شئون الحياة، واستخلافٌ للمهتدين في الأرض، وتبديل للخوف بالأمن، وعدٌ واقعٌ ماله من دافع، إنه وعد الله، ووعد الله حق، ولن يخلف الله وعده، قال الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وعدٌ من الله للعصبة المهتدية في كل عصر، وسنةٌ من الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23].
إذا لم يكن الغيث هامياً؛ فلا ترج أن يكون النبت نامياً؛ فما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.(40/18)
قصة للاعتبار بين الحقيقة والخيال
ماذا كان العرب قبل الهداية إلى منهج الله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قد كانوا حفاةً عراةً رعاءً، لا شأن لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء، يتقلبون من شدق الأفعى إلى ناب الأفعوان، حتى إن سابور أحد قادة الفرس كان يقوم بتعذيب الأسرى عن طريق نزع أكتافهم، فنزع أكتاف خمسين ألفاً من تميم وبكرٍ وغيرهم، حتى قالت عجوزٌ عربية وهي ترى ذلك المنظر: إن لهذا قصاصاً ولو بعد حين.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] * {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] ورفع الله شأن الأمة المهتدية حقاً ببعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذا بثلةٍ من مهتديها حقاً يقفون أمام يزدجر يدعونه لخيري الدنيا والآخرة الإسلام، وإلا فالجزية، وإلا فالقتال، فيقول وهو يعرف سابق العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول -وصدق وهو كذوب-: والله ما أعلم قوماً أشقى منكم، ولا أسوأ ذات بينٍ، ولا أقل عدداً منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي، فلا تقومون لهم، فإن كثر عددكم فلا يغرنكم، وإن كان إنما هو الجوع والفقر، فرضنا لكم طعاماً وكسوةً وملكنا عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم.
فقال المغيرة رضي الله عنه: دعوني أرد عليه، قالوا: كفءٌ كريم، قال: اختر ولا تكثر، تسلم فتنجو ومن معك، أو الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
إن كنت من ريح فيا ريح اسكني أو كنت من لهبٍ فيا لهب اخمدي
قال: أتستقبلني بمثل هذا أيها العبد! قال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك ما استقبلته، قال: أما إنه لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا حاجة لكم عندي، ارجعوا ليس لكم إلا رستم يدفنكم غداً في خنادق القادسية، قالوا: ستعلم ونعلم.
ورجعوا وقد دخل الرعب إلى أعماق قلبه، رأى قوماً صيغوا بالهداية الحقة صياغةً جديدة، فليسوا بالعرب الذين يعرفهم من قبل، وطلب من قائدٍ من قادته أن يكر على المسلمين كرة على غرة ليأسر أضعف المسلمين، ليرى هل هم جميعاً على هذا المستوى، فكروا، ورجع المسلمون متحرفين لقتال، فلحقوا بأضعفهم فاختطفوه أسيراً، وعادوا به لقائدهم، فقال له: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ فقال أضعف المسلمين: جئنا نطلب موعود الله.
قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم ونساؤكم إلا أن تسلموا، أو تسلِّموا، قال: فإن قتلناكم قبل ذلك؟ قال: موعود الله لمن قتل الجنة، ولمن بقي أرضكم ودياركم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، إنا لعلى يقين!
قال: إذاً وضعنا الله بين أيديكم؟! قال: ويحك، بل أعمالكم وضعتكم، وبها الله أسلمكم، لا يغرنك من حولك، إنك لست تحارب الإنس، إنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره.
إني وإن كان ردائي خَلِقا قد جعل الله لساني مطلقا
فاستشاط غضباً، وأمر بقتله، فقتل رحمه الله، وبدأ الاستعداد، وقربت ساعة الصفر، وأسرجوا لـ رستم فرساً، وقد كان محارباً بارعاً، وخبيراً عسكرياً مجرباً، فقفز قفزةً واحدةً ليستوي على ظهر جواده دون أن يمس الركاب، ثم قال لجنده عن المسلمين: غداً ندقهم، فقال له رجلٌ: إن شاء الله، فرد عليه في كبرياء مقيتةٍ ومجوسيةٍ بغيضةٍ: وإن لم يشأ، إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد، يعني: كسرى، وأخشى أن تكون سنة القرود.
له الويل، وبفيه الحجر:
فكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها
وطلع النهار، وبدأت المعركة، ووصلت وحدةٌ من جيش الإسلام إلى حيث يوجد رستم، عثرت على سريره ولم يعثروا عليه فوقه، إذ كان بجوار بغلٍ محملٍ بعدلين من مسك، يستظل بالظل ويشم الرائحة، ويدير المعركة، واقترب رجلٌ من المسلمين من بني تيم؛ هلال التيمي، وهو لا يعلم بوجود رستم، فضرب الحبال التي تشد العدلين إلى ظهر البغل فقطعها، فوقع أحد العدلين على ظهر رستم، وكان ثقيلاً جداً، فأصابه إصابةً بالغة أثرت في فقرةٍ من فقار ظهر رستم، ثم ضرب هلال العدل، يريد أن يعرف ماذا يحوي هذا العدل، فضربه بالسيف، فانبعثت رائحة المسك، فعرف أنه رستم، تسلل رستم هارباً نحو النهر، وعرفه هلال وتوجه نحوه، ورماه رستم بسهمٍ فأصابه في قدمه، وهو يقول له بالفارسية: كما أنت، وأوغل في الهرب وهلال خلفه نحو النهر، ولما رأى أن هلالاً سيدركه، بدأ يتخفف من سلاحه وعدته، فرمى بدرعه، ثم رمى بسيفه، ثم قذف بنفسه في النهر، فلم يدع له هلال فرصة النجاة، إذ اقتحم النهر خلفه، وهو يعوم في الماء لم يشعر إلا وهلال يأخذ برجله يجذبه ويسحبه حتى خرج به إلى البر، ثم ضرب جبينه بالسيف ففلق هامته، وضرب أنفه، وحاله:
الآن أدقك يا من كان يتبجح بالأمس بغداً ندقهم.
لله دره! وبوركت يمينك، أي هلال ما أثبتك!
من ذا يجاريك وأنت السيل والسيل فيه غرقٌ وويل
والأرض أحوج لدرء العيش منها إلى جلب الحيا والغيث
فسحب جثته حتى رمى بها بين أرجل البغال، ثم صعد على سرير رستم، ونادى بأعلى صوته: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ معشر المسلمين إليَّ، فأطافوا به، ورأوا مصرعه، فكبروا من فوق سريره، وتهدم قلب جيش الفرس، وعمتهم الهزيمة، وبقوا بدون قائد ينظم انسحابهم، فصار همهم النجاة بأنفسهم، ركبهم الذل والهوان، حتى إن الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم، فيأتي حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه المسلم بسلاحه، ويأمر أحدهم بقتل صاحبه، فيفعل كما روى الطبري رحمه الله، ومنهم ثلاثون ألفاً من مغاوريهم -وما فيهم مغوار- قد وطنوا أنفسهم على الموت، فاقترنوا بالسلاسل، وعندما رأوا الهزيمة، تهافتوا في النهر يجر بعضهم بعضاً كالحمر لاقت قسورة، فما أفلت منهم مخبر، ولم تسمع لهم ركزا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 9].
من حاد عن هدي الإله تعنتاً يتبدل الأدنى ويلق الأحقرا
والله الذي لا إله إلا هو ما من مرة سارت فيها هذه الأمة على هداية الله على الحقيقة؛ ليكون الدين كله لله، إلا تحقق لها وعد الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] إذا كانت الهداية لمنهج الله سبب استخلاف وتمكين جيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فهي كذلك سببٌ استخلاف وتمكين الطائفة التي هي على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، يقول صاحب مدارج العبودية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصف الجيل المؤمن المنتظر وهو يستأصل شأفة اليهود المغضوب عليهم، أحفاد القردة والخنازير، وقتلة الأنبياء؛ لينقذ البلاد والعباد من مكرهم وخبثهم، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهوديٌ خلفي تعال فاقتله}.
إن الشجر والحجر لينادي ذلك الجيل: يا مسلم يا عبد الله! وأنا أناديك: يا مسلم يا عبد الله! حقق العبودية لله، وأقم منهج الله يكن لك التمكين والاستخلاف، وعد الله قائم، وشرط الله معروف، من أراد الوعد فليقم الشرط، ومن وفى وفّي له: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] ولكنكم تستعجلون.
إن هذا لا يعني -يا معشر المسلمين- أن نبقى دون إعدادٍ وتربية؛ منتظرين ظهور المهدي ونزول عيسى عليه السلام، واليهود يعيشون في أرض المسلمين ينقصونها من أطرافها، ولا يعني أن يستعجل المسلمون موهنين الإعداد والتربية الإيمانية القائمة على تحقيق العبودية، فيؤتى على غراس الإسلام فيستأصل قبل أن يبلغ السعي، بل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} [الأنفال:60] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].(40/19)
أعظم طاعونين أخلاقيين مرت بهما البشرية
يا أيها الجيل! إن العالم لم يكد يشهد مذ أن برأه الله على ظهر البسيطة إفساداً عاماً، وطاعوناً أخلاقياً جارفاً إلا مرتين على كثرة ما شهد من الطواعين الجسمانية، كما يقول صاحب الآثار، إحداها في الجاهلية قبل الإسلام، يوم كان العالم فريسةً للأثرة والاستعباد والاستبداد، والفساد والإفساد، يوم كان العقل عبداً للهوى، والفكر عبداً للوهم، والحقيقة للخرافة، والفطرة رهينة الاعتلال والاختلال، ولكن الله تداركهم بالإسلام، وكتابه القرآن، ورسوله الأمين صلى الله وسلم عليه، فما هي سوى فترة حتى أصبح يمرح ويسبح من النعيم في النعيم.
وأما الثانية فهي في عهدنا هذا، ولو أننا استشهدنا التاريخ: أيُّ المرتين كانت أشد وأدهى وأمر؛ لقال غير متجانفٍ لإثم: إن شر المرتين الثانية، الآخرة الحاضرة، الشر في الأولى كان من بعض دواعيه الجهل، أما الشر في الثانية، فكل دواعيه العلم، قد كان الشر يعرض على الناس باسمه وفي ثوبه الحقيقي، فأصبح اليوم يعرض باسم الخير وفي ثوب الخير، كان العالم متباعد الأجزاء، وفي تباعد الأجزاء تقليلٌ من بواعث الشر، واليوم أصبح العالم حياً واحداً الشر فيه يسري ويستشري.
لابد من حلٍ ومن علاج من غير تطويلٍ ولا لجاج
هذا هو داء العالم، والقرآن دواؤه، هذا مرض العالم العضال، والقرآن طبيبه.(40/20)
داء دواؤه القرآن
فيا مشفقاً على العالم انصحه بالعودة إلى القرآن، ويا أهل القرآن لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، ويا أيها المهتدي على الحقيقة العالم في عذاب وعندك توجد الرحمة، العالم في اضطراب وعندك منبع الأمان، العالم في غمة من الشك وعند مشرط اليقين، فهل يجمل بك أن تكون معه خيالاً لا حقيقة وآلاً لا بلال؟ حققوه في وجودكم يتحقق، وتكونوا أطباء، ويكن بكم دواء.
يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن
أقيموه
وهللوا وكبروا
فالفجر لاح
والديك صاح
والعطر عطر الحق فاح
ما حقيقةٌ كخيال.
أخيراً: أيها الجيل المهتدي على الحقيقة إخواننا في أرض فلسطين، وفي كل صقعٍ مشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، أشلاؤهم للعوافي، فهل نحن من الرحمة والنصرة والولاء مجربون؟
ما كان لمسلم أن يبخل بماله ومهجته في سبيل الله والانتصار لدينه، وهو يعلم أنه قربةٌ إلى الله، ما كان له أن يرضى الدنية في دينه إذا رضيها في دنياه؟
ألا هل أتى عباد الفلس والطين ما حل ببني دينهم في فلسطين؟
يا أهل القرآن! ما زالت التضحية بالأقوال والأهواء متبعة، فالزعامة زعم، والنصر تصفيق، والفضيلة مائعة، والتذكير سطحي، كما قال صاحب الآثار: قد فرقت منا الليوث، وأكثرت فينا الشياة، وضاعت الهوية أو كادت، إن بين جنبي ألماً يتنزى، وإن في جوانحي ناراً تتلظى، وإن بين فكي لساناً سمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وفي ذهني معاني أنحى عليه الهم فتهافتت، وعلى لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت.
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت
ما آلٌ كبلال، وما حقيقةٌ كخيال.
يا أبناء الإسلام! الصراع عقديٌ أبدي: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] والحل الناجع مواجهتهم بسلاح العقيدة الصحيحة؛ لساناً وسناناً وفعالاً، وحقيقةً لا خيالاً، لاستئصال شرهم، وإبادة خضرائهم؛ جهاداً في سبيل الله في كل ميدان، وما عدا ذلك سرابٌ وصابٌ وعلقمٌ وإذلال.
فلكل من رفع علم الجهاد في سبيل الله في الشيشان وفي فلسطين وفي كشمير وفي أندنوسيا، وفي كل بلاد العالمين قد أقدمتم فصمموا، وبدأتم فتمموا، وحذار التراجع؛ فإن اسمه الصحيح الهزيمة، وحذار من التردد، فإنه ثل العزيمة: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
لا يخدعنكم وعد، ولا يزعجنكم وعيد، ولا تلهينكم محادثات؛ فكلها ضياع أوقات، وإطالة ذل، ولقد جربتم ولدغتم من جحرٍ واحدٍ مرات ومرات، هذه هي الحقيقة، من أخبركم بغير هذا فقد غشكم، لا تحسبوه شراً لكم!(40/21)
لسنا على شيء حتى نقيم القرآن
ويا أيها المسلمون! إن من العار أن نطلب لهم الحياة ممن يحاول أن يميتهم، ونسأل لهم القوت ممن يجهد بالجوع أن يهلكهم.
إن علينا أن نعرف عدونا حق المعرفة من خلال كتاب ربنا، ونتعامل معه بثاقب بصيرة، ولا نأخذ منه ولو من مباحٍ إلا بقدر ما يباح للمضطر من الميتة لإضعافه، والاقتصاد عامل قوة فخذها بقوة، ولنربِّ أنفسنا، ونشد أيدينا على البراءة من عدونا، وبغضهم، والإعداد لهم، فإن أعمالنا ونصرتنا لإخواننا لم تزل إبلاً يوردها سعد، وعواطف لا عضد لها ولا ساعد ولا زند، فلنجرد سيف الحقيقة العقدي من الغمد، فما حقيقةٌ كخيال، وما آلٌ كبلال.
فوالذي خلق القلوب مضغاً، وبث فيها شعلاً من نور الإيمان؛ لئن عدنا إلى الله، ليعود الله لنا بالنصر كما وعدنا، ولئن غيَّرنا ليغير، حققوا الشرط معشر المسلمين يحقق الله الجزاء {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] نصر الله واقعٌ حال لمن اهتدى بهداية القرآن على الحقيقة لا الخيال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
يا أهل القرآن! لستم على شيءٍ حتى تقيموا القرآن، يا أهل القرآن! ضعوا الأساس على صخرةٍ وإلا انهار البناء، يا أهل القرآن! إن لم يكن فعال، فليكن حسن فال، ما حقيقةٌ كخيال.
يا أهل القرآن! إنه خلق نبينا صلى الله عليه وسلم، فزينوا القرآن بالفعال، ما حقيقةٌ كخيال، يا أهل القرآن.
ما خضب رأسٍ كخضبٍ في بنان يدي وحمرة الفجر ليست حمرة الشفق
يا شباب القرآن! أربأ بكم ونفسي بالله أن نكون رواد خيال، ما آلٌ كبلال، وما حقيقةٌ كخيال.
يا أهل القرآن! لا يستوي المصباح والإصباح.
يا أهل القرآن! القرآن القرآن! القرآن القرآن! عملاً وحسن فال، إنما هي غمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
فيا فالق الإصباح والحب والنوى ويا نافذ التدبير ما شاء يفعلُ
ويا هادي النحل إلى بيته.
ويا هادي الطفل إلى ثديه، اهدنا بهداية القرآن، واهد بنا ويسر الهدى لنا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، ويا حي يا قيوم، يا قوي يا عزيز، يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، يا ذا العزة التي لا تضام، والركن الذي لا يرام نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر إخواننا في فلسطين وكشمير والشيشان وأندنوسيا، وفي جميع بلاد العالمين، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتول أمرهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء يا سميع الدعاء، اللهم اشدد وطأتك على عدوهم، اللهم أحص عدوهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أنت حسبنا، ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم اغفر لعلماء المسلمين، اللهم عوض على الأمة خيراً في علمائها، اللهم اجعل في الأمة من يخلف من ذهب، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(40/22)
من أسباب تخلف المسلمين
يوم نقلب صفحات ماضينا المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم؛ نأسى ونتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا.
فقد كنا قادة الركب وأصبحنا في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب.
ولهذه المشكلة أسباب وآثار ولها حلول.
فلتجتنب الأسباب، وليعمل بالحلول عسى الله أن يرفع ما بنا.(41/1)
حسرات على أحوال المسلمين اليوم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أني مطيلٌ فاصبروا واحتسبوا، وأسأل الله الإعانة لي ولكم، واسألوا وسائلوا:
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا
واليوم:
اسألوا التاريخ عنا كيف صرنا نحن أصبحنا مثالاً تبعيا
سامنا الأعداء ذلاً ومهاناً نال ذاك الشيخ منا والصبيا
أيكون المثل اليوم لينين وشارون وريغان الشقيا
أنسيتم الصديق والفاروق وذا النورين والصحب الرضيا
خاب من يستبدل الخير بشر يا من أنادي يا أخيا
إخوتي إن أخانا رافع التوحيد أما من سواه فعديا
وإن كان اسمه سعدا رضيا
يوم نقلب صفحات الماضي المجيد، ويوم نتدبر القرآن الكريم يوم يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يوم نقلب ونتدبر ونتأمل؛ نأسى ونتحسر، نتحسر ونحن ننظر إلى واقعنا مع نظرنا لماضينا.
نتحسر يوم نجد البون شاسعاً والفرق هائلاً، نتحسر يوم كانت هذه الأمة تهابها فارس والروم، ثم أصبحت غثاءً كغثاء السيل.
نتحسر يوم كنا سادةً قادةً، ثم أصبحنا غوغاء أتباعاً.
نتحسر يوم صار عددنا ألف مليون مسلم، ثم لا قيمة لهم، ولا وزن، دماء الكلاب أغلى من دمائهم هذه الأيام.
نتحسر يوم نسمع بين الناس أخبار السافلين تملؤ الساحات ولا نسمع شيئاً عن أخبار المسلمين.
نتحسر يوم يقذف بالمئات كل يوم في ساحات الوغى من المسلمين، والأعداء بنا يتربصون ونحن ساهون لاعبون لاهون.
نتحسر يوم يرفع الناس أبطالاً على ساحات الوغى الخضر يلعبون ويقتلون أوقاتهم ويضيعون شبابهم وزهرة أعمارهم، ونتحسر اليوم أن الأبطال الحقيقيين في ساحات الوغى الحمر لا أحد يعلم عنهم، أو يقيم لهم وزناً، جراحٌ على صلبين كل يوم جديد يُنكأ الجرح الذي نكاد ننساه فيجمع من جديد، تلك جراحات الإسلام المحارب في كل أصقاع المعمورة، يتجمع عليه الكفر وأهله، يحاربون الإسلام وأهله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج:8].
نتحسر يوم تجد الحيوانات من يناصرها ويؤيدها وينشئ لها الجمعيات التي ترفق بها والمسلمون لا يجدون من يعزيهم في شهدائهم في كل مكان ومآسيهم وجراحاتهم في كل زمان ومكان، بالمئات يموتون يومياً تهراق دماؤهم وتملأ السدود والأنهار، لم تبق بقعةٌ إلا ارتوت بدمائهم، نتحسر ونقول: هل سأل عنها أحد؟ هل قبض على جرحها أحد فداواه؟ هل على الأقل بكينا لأجلها، ولأجل ما يحل بها؟ نتحسر يوم تكون دماء شهدائنا رخيصةً في كل مكان لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بفنانين ولا أصحاب قوميات ولا وطنيات، وطنهم لا إله إلا الله، وفنهم سبحان الله، وغناؤهم الله أكبر.
نتحسر يوم يرقد مليار مسلم لا يسمعون أنةً ولا صدىً لوقوع الأجساد على تراب فلسطين وأفغانستان، لم يرحم أحد أشلاءهم الممزقة، ولم يرحم أحد أطفالهم الرضع وشيوخهم الركع، لم يرحم أحد ثكالاهم اللائي ما فارقت الدموع مآقيهن، لكن يرحمهم أرحم الراحمين.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
نتحسر ونتألم، ونقول: متى ينزاح السواد الحالك من الذلة والمسكنة، والتبعية المخيمة على هذه الأمة؟ متى ينزاح سواد الخنوع والركوع لغير الله جل وعلا؟ متى ينبري خالد وصلاح الدين والقعقاع، فيحرروا المسلمين من عبودية اليهود والنصارى والشيوعيين؟ متى يكون الأمان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتدعو مطمئنةً دون خوف ترصُّد أو ترقُّب؟ لا يكون والله حتى نرى في نفوس المجرمين العلمانيين الذين يسرقون خيرات الأمة، ويدبرون لها المكائد في الظلام ما تقر به عيون الموحدين: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20].
متى نحيي في قلوبنا سورة (الأنفال) و (براءة) و (آل عمران) لننسف المنافقين والكافرين نسفاً {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] لا إله إلا الله! ماذا دهى هذه الأمة ماذا أصابها؟ يوم ننظر لواقعها ونتذكر ماضيها يعصرنا الألم والأسى والحسرة، لا يملك الإنسان إلا أن يقول: أواه أواه لو تجدي أواه! أزماتنا متكررة ونحتاج لعودة للماضي وما تذكرناه إلا ذبنا ألماً.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
بالله سل خلف بحر الروم من عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
سل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه
هذي معالم خرس كل واحدةٍ منهن قامت خطيباً فاغراً فاه
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه
نذوب حزناً، ونقول ونتساءل: لم تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
لم وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التخلف والتأخر والانحطاط؟
لم نحن الآن في آخر الركب، بل قد تبرأ منا الركب، وقد كنا قادة الركب فيما مضى؟
فلنبحث عن الأسباب علنا أن نشخص الداء ونجد الدواء، والله المستعان!(41/2)
أسباب تخلف المسلمين(41/3)
فصل الدين عن الدولة
أعظم سبب يا عباد الله لتخلف المسلمين الآن هو: جعل الدين في المسجد لا صلة له بالدولة ولا الحياة، بمعنى: لا يُحكم البشر بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت الشريعة عن الساحة؛ حُكم البشر بسنن البشر، والبشر قاصر وعاجز، وبهذا يحل ما حل من المصائب.
وكل يوم نرى للدين نازلة يا أمة الحق لا سمعٌ ولا بصر
يزداد الألم يوم نسمع كثيراً من المنتمين لهذا الدين ينادون بفصل الدين عن الدولة، أي: بالعلمنة، أي: بالجاهلية مع أن أهل الجاهلية أنفسهم يئنون تحت وطأتها، هاهو أحد رؤساء الدول الغربية في انتخاباته الرئاسية يرفع الإنجيل، ويقول: آن الأوان لعودة حكم الدولة بالدين، لا إله إلا الله! رجلٌ منحرفٌ يقول هذا! والمسلمون بسخرية وسذاجة يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، ونقول: الكل لله، والملك لله، والأمر لله، ولا إله إلا الله! كثيرٌ من المسلمين لا يعون ولا يدركون خطورة هذا الأمر، خطرٌ داهم، وشرٌ قائم، ومع ذلك فالمسلمون في غالبهم الآن يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، لا يخضعون لحكم الله.
وسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير أن من تخلى عن حكم الله؛ تخلى الله عنه، ثم لا يبالي في أي وادٍ هلك، أفغير دين الله يبغون؟! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(41/4)
الهزيمة النفسية
وسبب آخر وهو هزيمتنا النفسية، هزيمتنا أمام عدونا سببٌ لتخلفنا وانحطاطنا، لأن هذا الداء ما تسلط على أمةٍ إلا ساقها إلى الفناء والزوال والسقوط، سُئل علي رضي الله عنه ذلك الشجاع المقدام: يا أمير المؤمنين! إذا هجمت على عدوك نجد أنك تكبر تكبيرةً تنخلع لها القلوب، فلم؟ قال: [[إني أفعل ذلك لأني أقدم على عدوي وأنا موقنٌ بأني سأقتله، عندي من الثقة بالله ثم بنفسي ما يجعلني أثق بقتله، وهو لديه ثقةٌ بأني سأقتله، فأكون أنا ونفسه عليه، فكيف ينتصر؟]]
الهزيمة النفسية أشد من السرطان على الأمة، والأمة والله قد أصيبت بها، وما دخل علينا الأعداء إلا يوم أصبنا بالهزيمة النفسية، أصبح لدى كثيرٍ من المسلمين قناعة أنه لن يُهزم أعداؤنا أبداً؛ مع أنه -ويا للأسف- من أمة تُنصر بالرعب مسيرة شهر كما أخبر بذلك نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، لكن متى تُنصر بالرعب؟ إذا تمسكَتْ بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وسبب تخلفنا سببٌ واحد نشأت عنه أسباب كثيرة لما حل بأمتنا اليوم من تجرع لكئوس الذل والهوان، وعامل نتج عنه عوامل كثيرة
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن أسباب تخلفنا: إعجابنا بالغرب، واعتباره القدوة الصالحة، إعجاباً يبينه ويظهره البعض ويبيته البعض الآخر ويخفيه، حتى وصل الإعجاب بنا بالغرب أن أصبح الذهاب إلى بلادهم أمنية يتمناها كثيرٌ من شباب المسلمين، أصبحنا نبحث عن العلم في بلاد الغرب، وبعضنا يدرس الشريعة في بلاد الغرب، ولا إله إلا الله! يشعر البعض منا بنقصٍ إذا قال أحمل شهادةً من بلد إسلامي، لكنه يرفع رأسه إذا حمل شهادة من بلاد أوروبا والغرب كله.
وصل الهوان بنا أنه لو تبرع لاعب نصراني لأحدنا (بفانيلة) لاعتبرها كنزاً لا يفنى، ووالله إنها لمهزلة ما بعدها مهزلة ومأساة ما بعدها مأساة إن رضينا بذلك، فهي العقوبة لا تبقي ولا تذر.
بفحش وقلة حياء يتسابق شبابنا لتوقيع ورقة تذكار من لاعب نصرانيٍ كافر، ويعتبرون هذا التوقيع أجل من مخطوطات المسلمين جميعها، ثم نرجو النجاة أواه!
أي فحشٍ مظل وعن فساد القوم نم
أي خيبة هبطت لها هذه الأقوام والأمم
إعجابنا بالغرب طغى على الأولاد، لو اشتهر منهم رجلٌ برذيلة، يقلَّد عندنا بعد ساعات، يسأل أحد الشباب: ما مثلك الأعلى؟ فيقول: مارادونا؛ وهو لاعبٌ كافر، والفتيات من مثلهن الأعلى؟ إنها ديانا، لا إله إلا الله حقائق تنطق بإعجابنا بالغرب، وهواننا على الله يا أحفاد محمد بن عبد الله! يا أمة الإسلام!
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم(41/5)
إفساد بعض المسلمين
ومن أسباب تخلفنا وانحطاطنا وتأخرنا وهواننا: الإفساد من البعض في الإصلاح والتطور وعدم الأخذ على أيديهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12] قدوتهم فرعون يوم يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ولا إله إلا الله باسم الإصلاح انتُزعت أهم خصائص مؤسسات الأمة الإسلامية! باسم التطور ضاعت جامعات من أعرق جامعات العالم الإسلامي! باسم التطور تنتهك حرمات الله! باسم التطور يضرب بأوامر الله عرض الحائط! {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
عباد الله: الأعداء متفرقون متشتتون بطبعهم، ذاك قول الله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] لكنهم مع تفرقهم يجتمعون علينا ويتفقون جميعاً على ضرب الإسلام، وعلى ما يهيننا ويذلنا، ونحن نختلف في كل شيء إلا في الولاء لهم إلا من عصم الله، هذا يلجأ لذاك، وذاك يلجأ لهذا، وما لجأنا إلى الله، ناسين أو متناسين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فحصل التأخر والتخلف من أمة مسلمة، ووالله لن ترتفع وتعزَّ الأمة إلا بما عزَّ به أسلافها.
بعضنا ذهب إلى أوروبا وجاء لينشر ما تعلمه هناك على أنها مُثل لا تقبل النقاش والجدل، فالأمر ما أمروا والعلم ما ذكروا، يقول أحدهم: علينا أن نلحق بـ فرنسا حتى في لباسنا، ومنهم من تولى مناصب قيادية في الأمة المسلمة، فقادوا المسلمين إلى الهاوية، قادوهم إلى التأخر والتقهقر والتدهور باسم التطور، وهم يعيشون بيننا الآن ويتكلمون بلغتنا، أسماؤهم محمد وعبد الله، والله منهم براء {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
في قومنا من يدعي صدق الهوى ودم الهوى في عرقه يتخثر(41/6)
ضعف القدوة وخيانة بعض المسلمين
من أسباب تخلف المسلمين: ضعف القدوة لدى طلبة العلم والعلماء والقادة، لم يعد كثيرٌ من هؤلاء أهلاً للاقتداء بهم، ولذلك اقتدى الناس بالمنحرفين، وحمَّلوا الأمة الهوان والذل.
يا معشر القراء يا ملح البلد من يُصلح الملح إذا الملح فسد
ومن أسباب تخلفنا: خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم، أصبحوا عملاء للشرق والغرب، فخانوا الله والرسول وأماناتهم، فحسيبهم الله الذي لا إله إلا هو.(41/7)
تفرق المسلمين إلى أحزاب وجماعات
وجماع هذه الأسباب، بل من أعظم هذه الأسباب التي أدت إلى التأخر والتخلف: نشوء العصبيات والقوميات والوطنيات، والإقليميات.
تعلمون -أيها الإخوة- أن العرب أمةٌ مشتتةٌ مفرقة حتى جاء الإسلام فجمعها، فهل اجتمعت تحت لواء قريش؟ لا.
هل اجتمعت تحت لواء الأوس أو الخزرج؟ لا.
إنما جمعتهم ووحَّدتهم لا إله إلا الله، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] دان الشرق والغرب كله لهذه الكلمة، وأهان ذلك الأعداء، فرأوا أن أحسن طريقٍ لبُعدنا عن ديننا نشوء العصبيات، فأنشئوا القوميات، ثم جاءوا بالوطنيات، ثم جاءوا بالإقليميات حتى أصبح أهل الوطن الواحد يتفرقون إلى شيع وأحزاب، ولا زال ينحدر كثير من الناس في هذا الطريق، ذبحونا بعشق الوطن والكلمات المائعة عن الوطن حتى قال قائلهم:
بلادك قدِّمها على كل ملةٍ ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُم
وقال الآخر:
وطني لو شغلت بالخلد عنه لنازعتني إليه في الخلد نفسي
لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! ما أكرمك! أيُقدَّم الوطن على الجنة؟! إنها الوطن الذي نسعى إليه، لكنه ليس لها بأهل، ولن يكون الأول والآخر ممن يتكلم بهذا، وطننا وأرضنا وسماؤنا وهواؤنا وتنفسنا هو: لا إله إلا الله، من عمل بمقتضاها فهو أخٌ حميم ولو كان عبداً حبشياً، ومن رفضها فهو عدوٌ لدودٌ ولو كان حراً قرشياً.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدَّر من غمامٍ واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
عباد الله: والجبن والخوف والهلع وحب الدنيا وكراهية الموت وترك الجهاد أدت بنا إلى ما نحن فيه من التخلف والانحطاط.
هذه -يا عبد الله- بعض أسباب الضعف والانحطاط التي حلت بالمسلمين، وغرزت فيهم الهزيمة التي استطاع الشاعر أن يعبر عنها بقوله:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه(41/8)
آثار تخلف المسلمين(41/9)
انحراف في الفكر
عرفنا أسباب التخلف والتأخر، فما الآثار التي نتجت عن هذا التأخر والتخلف؟
لا إله إلا الله ما أعظم الآثار! لكن قلوبنا غلف، نتج عن ذلك انحراف في الفكر، يتمثل في الإلحاد وانتشار المذاهب الهدامة -وما الحداثيون منا ببعيد- وفساد بعض المناهج في البلاد الإسلامية، وخللٌ اجتماعيٌ اعترى الأسر حتى صارت أوضاع الأسر مؤلمة محزنة، ولو ذهبنا لمراكز التربية الاجتماعية أو المحافل لوجدنا ما يدمي القلوب من المشاكل الاجتماعية.
المرأة استخدمت سلاحاً فتاكاً للقضاء على القيم والمثل، استغلها أعداؤنا استغلالاً بشعاً، الإسلام صانها وأكرمها، وفي عصرنا لا دين، ولا حمية، ولا غيرة، وجهوا لها السهام، واستغلوها أبشع استغلال؛ أكثر من ستين مجلة على غلاف كل واحدة منها امرأة، هذا ما يرى، وما يمنع دخوله كثير وكثير، استخدمت المرأة للدعاية حتى على الحراثات -استخدمت صورة المرأة مع الحراثة للدعاية- فيا سبحان اللهَ! هل في الحراثة جمال؟ لا.
وهل في المرأة قوة؟ لا.
إذاً ليس الهدف جمالاً ولا قوةً، ولكنه استغلالٌ بشعٌ للمرأة باسم المدنية لتحقيق مخططاتهم وأغراضهم، ونجحوا في ذلك.
أوضاع كثيرٍ من نسائنا مؤلمة، ضعيفات كُذِب عليهن فصدقن وطبقن فكانت الكارثة، وكان الخلل، وهو من آثار التخلف والانحطاط.
أين القوامة يا رجال؟! أمانةٌ شرفٌ أليس لكم إباءٌ يذكر
وفي المقابل انحراف كثيرٍ من الشباب يوم يذهبون لبلاد العهر والكفر ليقضوا أوقاتهم على كأس وغانية، ويموت بعضهم في أحضان باغية، ماذا دهانا؟! إنه أثرٌ من آثار تخلفنا وانحطاطنا.
وقليلٌ -يا عباد الله- في هذا العالم من يعمل بنظام الاقتصاد الإسلامي، ما عرفنا الرأسمالية والشيوعية إلا بعد تدهورنا وتخلفنا، أين تستثمر أموال الأمة المسلمة يا عباد الله؟ إنها تستثمر في بلاد النصارى.
إن مشروعاتنا تقوم بها شركات شرقية أو غربية، إن أرصدتها عند أعدائها، لو سحبت أرصدة المسلمين من أوروبا وأمريكا لانهارت بعد ساعات، لأنهم يشتغلون بأموال الأمة، وذلك منشؤه التخلف والتأخر ولا تيئسوا.
ستظل طائفةٌ على إيمانها منصورة تبني الكيان الأكبرا
يا أمة الإسلام وجهك لم يزل بالرغم من هول الشدائد مسفرا(41/10)
ذلة المسلمين في كل مكان
من آثار تخلفنا: أن المسلم لم يصبح كما كان، كان مهاباً عزيزاً كريماً، وأصبح ذليلاً مهاناً، يُتَنَدَّر عليه ويُسْخَر منه، بل أصبح رمز السخرية والضعف والهزيمة، يقول ولا يفعل، بل يفعل عكس ما يقول.
قومٌ يثيرون الكلام قنابلاً فليشتك مما نقول المنبر
نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا لنا، لأننا لم نخف الله ولم نطعه، ولم نحفظه، فتحولنا من سادة وقادة إلى ما يسمى بالعالم الثالث والعالم النامي، وسمانا بذلك من؟ أعداؤنا، ونرددها ببلاهةٍ وهوانٍ وضعف، هانوا على الله فأذلهم، ولو عزوا عليه لعصمهم وأعزهم.
يئس الناس وقنطوا، وتبلدت أحاسيسهم بمشكلات الأمة، وانشغل كل فرد بمستقبله عن مستقبل أمته، همُّ الواحد أن يملك بيتاً وزوجةً ومالاً ورغيفاً، ولا إله إلا الله ما أرخصها من أمنية! أين أمنية التحرير لبلاد المسلمين؟ أين أمنية للمخرج مما نحن فيه؟ أين أمنية لرفع راية الجهاد وإعلاء كلمة الله؟
عباد الله: هذه بعض أسباب وآثار تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، فعودة عودة إلى الله أيها المسلمون! إن كلامنا هذا منطلق مما نراه ونشاهده من إعراضٍ وتيهٍ رغم كل الأحداث، ورغم إحاطة البلاء بالأمة، ورغم حاجتنا الملحة إلى الله، فعودةً وتوبةً وأوبةً إلى الله، صحوةً منظَّمةً، فضحاً فضحاً لأعداء الأمة، وإبطالاً إبطالاً لكيدهم، ونصراً لله تنصروا.
يا أمتي أصبحتِ في دائرة مستحكمة
ما بين إلحادٍ له أطماعه المقتسمة
وبين بعثٍ ظالمٍ يحني ظهور الظلمة
يا أمتي لا تخدعي بالشفة المبتسمة
أخشى على أمتنا من فتنة محتدمة
أقسمت بالله الذي أسدى علينا نعمه
لن يدفع الشر الذي صب علينا حممه
إلا يقينٌ صادقٌ إخلاصنا فيه سمة
نطلب فيه النصر من ذي القوة المنتقمة.
اللهم ارفع ما بالمسلمين من بلاءٍ وخورٍ وتأخر، اللهم ارفع ما بهم من ضعفٍ وهوان، اللهم أعد للإسلام والمسلمين عزهم وقوتهم ومجدهم إنك على كل شيءٍ قدير، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(41/11)
حلول مشكلة تخلف المسلمين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: تتوالى على المسلمين النكبات والهزائم، وستظل تتوالى ما بقي المسلمون على حالهم من حربهم لله ولرسول الله وتركهم الجهاد في سبيل الله {ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا} وما انتصر المسلمون الأوائل بالعدد ولا بالعدة، ولكن انتصروا بالله، فلنراجع صلتنا بالله ونحن نعيش في هذا الزمن العصيب الدقيق، الذي فيه:
دم المصلين في المحراب ينهمر والمستغيثون لا رجعٌ ولا أثرُ
والقدس في قيدها حسناء قد سلبت عيونها في عذاب الصمت تنتظرُ
سل الملايين من أبناء أمتنا كم ذُبحوا وبأيدي خائنٍ نُشروا
سلوا بلاداً من الأفغان ما برحت دماؤنا في ثراها بعدُ تستعرُ
وسائل الليل والأفلاك ما فعلت جحافل الحق لما جاءها الخبرُ
هل جُهزت لحياض الدين أبنيةٌ هل في العراق ونجدٍ جلجل الغُيُرُ
هل قام مليون مهديٍ لنصرتها؟ هل قامت الناس؟ هل أودى بها الضجرُ
هل أجهشت في بيوت الله عاكفةً كل القبائل والأحياء والأسرُ
آمالنا من صلاح الدين يعتقنا وقد تكالب في استعدادنا الغجرُ
يا أمة الحق إنا رغم محنتنا إيماننا ثابتٌ بالله نصطبرُ
غداً بين يدي الجبار سيسألكم الله حكاماً وشعوباً ماذا عملتم تجاه دينكم؟ ما دوركم في عز هذا الدين بعد أن تخلف المسلمون وانحطوا اليوم عن دينهم وبعدوا؟
إن الدور عظيم، والمواقف المنتظرة منكم هي المواقف المنتظرة من رجال الأمن.
ما العلاج لما نحن فيه؟(41/12)
العودة الصادقة إلى الإسلام
إن العلاج لتخلفنا نحن المسلمين يتمثل في عودةٍ صادقةٍ إلى الإسلام، وتحكيمٍ لشرع الله، فوالله لا حياة، ولا عز، ولا فخر إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شرع الله في أرض الله، ومتى ما تخلينا عن ذلك تخلى الله عنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(41/13)
التربية الجهادية
وعليكم بالتربية الجهادية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لنتساءل: هل ربينا أبناءنا على حب الجهاد؟ هل ربيناهم على الاستعداد للموت في سبيل الله؟ لا والله، تركنا الجهاد، وأخذنا وراء الدنيا نلهث ونركض، فحل بنا ما حل من تأخر وتخلف وفساد: [[لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها]] وبمَ صَلُح أولها؟ بالجهاد في سبيل الله.
أعداؤنا يحيكون المؤامرات، ونخشى أن يقضوا علينا بين عشيةٍ وضحاها، أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم، فأين المهرب؟ أين المفر يا عباد الله؟ ففروا إلى الله، وعودوا إلى الله، وربوا الشباب على الرجولة، شبابنا في غالبهم مائعٌ ضائع لا يتحمل لسعة الهواء، ولا ضربة الشمس، هل هؤلاء على استعداد ليواجهوا عدوهم؟ في ملعب من الملاعب يجتمع أكثر من ثلاثين ألف متفرج لمشاهدة مباراة، ويتساءل المسلم لو نادى منادي الجهاد: حي على الجهاد! كم سينطلق من هؤلاء الذين ناداهم منادي إبليس فأجابوه.
والله لئن بقي شبابنا على أساليب تربيتهم الآن، فهي الكارثة، فلا تلوموا إلا أنفسكم: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].(41/14)
وقاية المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لتجتمع كلمة المسلمين، وليلتف الشباب حول العلماء وطلبة العلم، ولتُصْلَح المناهج والوسائل، ولننصح ولنأمر ولننه لا نخشى إلا الله، أطالبكم: من رأى منكراً في صحيفة، أو جهاز، فليكتب إلى المسئولين، لا نستكين ولا نلين، فكلٌ منا على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك يا عبد الله! ثم لنهتم بالأسرة: {فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته {وما من راعٍ استرعاه الله رعية، فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} القائد مسئول، والأب مسئول، والكل مسئول، والأم مسئولة، والأم مسئوليتها تعظم وتعظم هذه الأيام، نريد أماً صادقة تضحي في سبيل دينها بكل شيء، لا في سبيل ما يريد أعداؤها منها من غزوٍ في أزيائها، وخروجٍ بها إلى الشوارع سافرة، وتضييعٍ لبناتها مع السائقين والخدم.
والأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ
والأم مدرسةٌ إذا أفسدتها أفسدت شعباً طيب الأعراقِ
نريد أماً قدوتها عائشة وحفصة وخديجة وزينب، ونعم القدوة هن، انتبهوا لنسائكم يا عباد الله! أصابهن الداء، والبعض منا لا يدري.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
تخلينا عن قيادتنا في بيوتنا، تركناها لآلات اللهو والخدم، وأصبح الأب يمارس بطل مسرحية الضياع في بيته، النار فيه تلتهب وهو جالس لا يحس
أين العقول؟ أما لديكم حكمةٌ؟ أين القلوب، أما تحس وتشعرُ؟
لابد من وقاية المجتمع، لابد من تطهيره إن أردنا العزة والمنعة والمجد، والإسلام عزيزٌ بدونكم، محفوظٌ بدونكم، واعلموا أنه باقٍ ما بقي الليل والنهار ومهما تطاولت الأيدي، ومهما كثر الأذناب والخونة والمجرمون والمنافقون الذين يملأ الجبن قلوبهم، لا يقاتلون مبارزة، بل يطعنون من الخلف، ويتقنعون بالإسلام والإسلام منهم براء، نحن نقول هذا: والله لا نخاف على الإسلام بقدر خوفنا عليكم -أيها المسلمون- أن يتزعزع إيمانكم ويصل اليأس إليكم فتتزلزل قلوبكم، أو يصيب الوهن عزائمكم، لأنكم ترون الخذلان يجتمع عليكم من كل صوب، وترون شراسة العدو وخيانة الصديق، لكن اعلموا أن الكفر كله تجمع يوم الأحزاب يريد القضاء على دين الله، فخاب وخسر {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] وما ظن المؤمنون بالله إلا خيراً {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب:22] ماذا قالوا؟ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
الله أكبر! انظر أخي المسلم وأنت تعيش الفتنة كيف إيمان هؤلاء؟ وكيف تعلقهم بالله؟ كيف كانت عاقبتهم يوم تجمع الأحزاب عليهم؟ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] والذين ظاهروهم ماذا عمل فيهم؟ {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب:26 - 27].
يا عباد الله: ألا لا يداخلنكم ريبٌ في ذلك ولا شك، فما ترونه اليوم من علو للباطل، فإنما هو سرابٌ خادع وابتلاءٌ من الله، والله أغير منا على دينه وهو حكيمٌ عليم غير غافلٍ عما يعمل الظالمون، لكن كل ذلك ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ويمحق الكافرين، فالكفر ذليل مهما حاول كسب العزة: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139].
نحن والله لا نقول هذا الكلام تيئيساً، فإننا والله نعلم أن العاقبة للمتقين، لكن حزننا اليوم على أنفسنا أن لم نكن أهلاً لحمل راية الله، ولا لحمل صفات المتقين.
حزننا على غفلتنا عن عقيدتنا وعن إخوةٍ لنا في كل مكان لا نسمع أنينهم ولا نواسيهم، حزننا وخشيتنا أن يستبدل الله قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا، حزننا أننا على اللهو عاكفون والسُّخف، وأعداؤنا يخططون ويدبرون ويمكرون، والله خير الماكرين.
أنا أقسمت بالذي برأ الكون من عدم
وكسا ثوب عزةٍ كل من بالهدى اعتصم
ورمى مدمن الضلال بسوطٍ من النقم
إن قنعنا بسُخطنا وركنا إلى النعم
فخطا الخصم ماضيات من القدس للحرم
عندها يندم الجميع ولا ينفع الندم
اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بالأمة المسلمة، اللهم ارفع ما حل بها من انحطاط وذل وهوان، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأهلك الطغاة والمجرمين والمنافقين، وأرنا فيهم يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون، نجعلك اللهم في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوءٍ، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا أكرم الأكرمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منا وما بطن، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيءٍ يا أرحم الراحمين.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(41/15)
أبو بكر الصديق 2،1
الوقوف على أخبار رجال الإسلام الأعلام يمثل نقطة البداية لسلوك طريقهم واقتفاء آثارهم.
وعند الوقوف على شخصية كشخصية أبي بكر الصديق يستشعر المرء أنه أمام عملاقٍ عظيم ورعاً وتقوى، علماً وعملاً، تضحية وفداء.
ولعل ذلك هو ما أهله ليكون ثاني اثنين إذ هما في الغار، وليكون بعد ذلك أول خليفة للمسلمين، ولقد سجل لنا التاريخ مواقف رائعة لهذا الرجل العظيم.
هذا ما احتوته هذه المحاضرة، وفي آخرها نبذة عن عمر بن الخطاب، وفضائله.(42/1)
رجال الإسلام وأهمية الوقوف على أخبارهم
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرف بحكمته وقدر، وابتعث محمداً إلى كافة أهل البدو والحظر، فأحل وحرم وأباح وحظر، وابتلاه في بداية النبوة بمداراة من كفر، فدخل دار الأرقم فاكتسى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كـ أبي بكر وعمر، فصلوات الله عليه وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر، صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بتثان المطر، وهدلت الحمائم على أفنان الشجر، وسلم تسليماً كثيراً على سيد البشر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من جمع التقى حباً في ذكر الله، وحيا الله قلوباً أقبلت تئرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تعز فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات، اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، ووصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجل المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن الختام.
صور وعبر: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111].
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا
أيها الأحبة في الله! إن أمر آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، ولا يشك عاقل يؤمن بالله ورسوله أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير الخلق بعد رسول الله، وأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وصحابته أفضل قرن من أمة وجدت على وجه الأرض، وإن معرفة أحوالهم وأخلاقهم وسيرهم لتضيء الطريق أمام المؤمن الذي يريد أن يعيش أسوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة أخبارهم وسيرهم، ونشرها بين المسلمين عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع، لماذا؟ لأنهم نقلوا الإسلام إلينا نقلاً صحيحاً؛ ولأن المحافظة على الإسلام تستوجب العناية بتاريخهم، لئلا يجد أعداء الإسلام سبيلاً للطعن في الإسلام عن طريق الطعن في نقلته.
ولما كان الأمر كذلك دعت الحاجة إلى تبيين فضائلهم؛ ليكون ذلك ردعاً للموتورين الذين كفروا الصحابة وضللوهم، وأسقطوا عدالتهم كي يهدموا الإسلام من قواعده وأنى لهم ذلك؟ لكنهم قوم لا يفقهون!!
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ولعل ديننا القويم قد تميز عمن سبقه من الأديان بمعجزة تتجدد في كل وقت وآن، ألا وهي معجزة الرجال الذين عاشوا حياتهم للإسلام فلم يعرفوا للراحة طعماً، ولم يعرف الخمول إلى نفوسهم طريقاً، فكانوا حركة مشبوبة لا تهدأ ولا تفتر ولا تكلُّ ولا تملُّ، لا يهمها من الحياة مالٌ أو متاع، ولا تشغلها دون غايتها زخارف الدنيا وبهجتها، وحدوا همتهم في إرضاء الله، محقوا من بواطنهم كل نية تشوبها الشوائب فكانوا خالصين لله، فأكرمهم بأن جعلهم من معجزات نبيه الكريم، ليثبتوا للدنيا كلها أن دين الله تام كامل، وأن شرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون والظالمون والفاسقون.
إن أخبار هؤلاء الأخيار دواء للقلوب، وجلاء للألباب من الدنس والعيوب، وقدوة في زمن كادت القدوات أن تغيب، فمنهم مثال يحتذى، ونبراس يقتدى، ليعرف المتأخر للمتقدم فضله، ويسعى على دربه ونهجه.
بالوقوف على أخبار هؤلاء الأخيار تحيا القلوب، وباقتفاء آثارهم تحصل السعادة، وبمعرفة سيرهم ومناقبهم تحيا القلوب، وبمعرفة مناقبهم تحصل السعادة، وبمعرفة مناقبهم تكون القدوة بجميل الخصال ونبيل المآثر والفعال، فهيا أيها الجمع الكريم إلى الصور ذات العبر، ولست مدعياً ولست زاعماً أني سأبين العبرة من كل صورة، بل إن البعض منها سيسرد سرداً تتبين فيه العبرة من خلال الصورة، فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.(42/2)
أبو بكر الصديق أول خطيب في الإسلام
فإلى صورة رجل من أولئك الأخيار، رجل عظيم القدر رفيع المنزلة، عَبَدَ الله متأسياً برسول الله، وجاهد في الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، بخسوه حقه، وهضموه منزلته، ولم يقدروه قدره، بعض أجيالنا يعرف عن مغنية أو ممثلة أو تافهٍ رخيص أو ساقط أو ساقطة أكثر مما يعرفون عن هذا العلم، تجاهله لا أقول حتى العامة بل تجاهله الخطباء والوعاظ والكتاب، ربما لأنه عظيم بجوار من هو أعظم، وكريم بجوار من هو أكرم، فطغت عظمة صاحبه وقدره ومنزلته على عظمته وقدره ومنزلته.
إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه أول من آمن من الرجال على الصحيح، إنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه، إنه الورع الحيي، الحازم الرحيم، التاجر الكريم، صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يؤثر عنه أنه شرب خمراً قط، ولم يؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل برباً قط، ولم يؤثر عنه كذبٌ قط، كان شبيهاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعم به من شبه، رجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير، إنه من لا يخفى عليكم، ولا على مثلكم من المؤمنين، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه.
إنه من دعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر إلى الإسلام وما تلبث وما تلعثم، وما كان لأصحاب الفطر السليمة أن يتلبثوا عن خير دعوا إليه، وكيف يتلبث وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وعلم صدقه وأمانته وحسن سجاياه، وكرم خلقه، علم عدم كذبه على الخلق فكيف يكذب صلى الله عليه وسلم على الخالق، إذ كان لسان حال أبي بكر رضي الله عنه يوم دعي إلى الله من جانب رسول الله: ما جربت عليك كذبا.
أما لسان مقاله: فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فتمتد يده إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فتكون أول يد تمتد إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحسبي وحسبكم هذه الليلة أن نقف مع بعض صور من حياة هذا العلم، وقفة تذكر وتدبر وعظة وعبرة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، كل هذا ليعلم أن ما نحن فيه بسبب بعدنا عن منهج أبي بكر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، لنعلم أنه يوم توارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة.
وجدير إذا الليوث تولت أن تلي ساحها جموع الثعالب
.(42/3)
صورة من معاناة الصديق في سبيل الدين
الصورة الأولى: قال الصديق: لا إله إلا الله، وقد أدرك ماذا تعني لا إله إلا الله، علم أنها تعني أن يسلم النفس كاملة لله سبحانه وتعالى، اسمع إلى ابن كثير في سيرته يوم يقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألح أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهور وعدم الاختفاء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور حتى وافقه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيباً في الناس -فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، حتى إن عتبة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مسقوفتين، ثم يجثو على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه رضي الله عنه وأرضاه.
وجاء بنو تيم قوم أبي بكر، وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأراً لـ أبي بكر، أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار، ترى بما تكلم! قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! همه الرسول والرسالة، سبه قومه وعذلوه إذ هم مشركون ثم تركوه.
أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئاً وهو يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول: والله يا بني ما لي من علم بصحابك، قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، قالت أم جميل: أتحبين أن اذهب معك إلى ابنك -تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي به كما فتن هو وغيره- قالت: نعم.
فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعاً، فقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
رحمهم الله ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أم جميل: هذه أمك تسمع -ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة رضي الله عنها على سرية الدعوة فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة! قالت: إنه سالم صالح بحمد الله، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن أبي الأرقم، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحب رسول الله حباً يفوق حب النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون، انتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! هذه أمي برت بولدها وأنت مبارك، فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها ودعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت أن لا إله إلا الله.
همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه أن يدعوها إلى الله جل وعلا.
أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله! والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة، أفضل من عبادة أحدنا عمره كله، يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان وكفى به هادياً ودليلاً إلى القلوب، وحادياً إلى جنات النعيم.
بشرها دليلها وقالا غداً ترين الطلح والجبالا(42/4)
دور الصديق في الدعوة إلى الإسلام
صورة أخرى: عَلِمَ أبو بكر أن من أول مقتضيات لا إله إلا الله الدعوة إليها، فالدعوة ليست وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل هي وظيفة الأمة في مجموعها.
علم ذلك أبو بكر فخرج من عند نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، خرج وهمه نصرة هذا الدين ونشره في العالمين، خرج وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام، وبعد أيام يعود فبم عاد أبو بكر؟ عاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، خرج صادقاً مبلغاً فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة فيما بعد.
فيا لله! يأتي أبو بكر يوم القيامة وفي صحيفة حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يعود وقد أسلم على يديه عثمان وطلحة الزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين.
أرأيتم عطاءً للإسلام كهذا العطاء! قد يعيش الإنسان منا ستين عاماً أو سبعين عاماً أو أقل أو أكثر، لكنها والله لا تعدل في ميزان الحق ساعة من ساعات أبي بكر، قد لا يكون الصديق حفظ بضع سور من القرآن في ذلك الوقت، ولم يكن حفظ بضع آيات، وبعضنا يحفظ القرآن، ويحفظ من السنة الكثير، ويستمع إلى عشرات المحاضرات، ويستمع إلى عديد من الأشرطة، ويقرأ عشرات الكتب، وينقضي عمره وما هدى الله على يديه رجلاً واحداً، ما السبب؟ إنه نقص الإيمان، أو نقص الصدق لضعف الإيمان في القلوب.
حصان إخلاصنا ما زال يُسمعنا صهيله غير أنا ما امتطيناه
فهلا صدقنا الله، وهلا أخلصنا النوايا لله، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لـ أبي بكر وسلفنا، نرجو الله أن يَمنَّ علينا بذلك، فـ {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.(42/5)
دور الصديق في نصرة المستضعفين من المسلمين
صور أخرى: تلفت أبو بكر وقد استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام، وهويته ورسالته الإسلام، تجرد لله بكل خاطرة في قلبه فلم يستبق في نفسه بقية، استعبدها لله، تلفت فإذا ميدان جديد قد هتك، وإذ بالمستضعفين من المسلمين قد صب عليهم طغاة الكفر وصناديد الشركة وسدنة الوثنية سوء العذاب، حبسوهم، جوعوهم، عطشوهم، عذبوهم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش لكن أنَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور، رأى أبو بكر نفوساً مؤمنة أمضها العذاب، وأعيتها المعاناة، وآلمها التعذيب، جروا في الرمضاء، ضربوا بالسياط، البسوا أدرع الحديد، طفروا في الشمس، كووا بالنار.
في السيرة لـ ابن كثير يقول ابن عباس: إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلاهان من دون الله؟ فيقول: نعم.
افتداء منهم وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106].
الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف، ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يخبر فيقول: {لقد كان في من كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب} فالابتلاء سنة ماضية {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات فآلمه ما يرى، جمع أمواله وصفى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله، ليحقق الشعور بالجسد الواحد والبناء الواحد والأمة الواحدة.
يسمع أبو بكر ويرى بلالاً يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أحد أحد قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فصاروا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بـ مكة - توضع على صدره ثم يقول له أمية: لا تزال على هذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، ولسان حال بلال وهو الثابت يقول:
أهفو إلى جنة الفردوس محترقاً بنار شوقي إلى الأفياء والغرف
وقد أمر على الدنيا وسادتها من الطغاة مروراً ليس بالجيف
أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر رضي الله عنه وأرضاه، يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك، فيقول: لينجينك الواحد الأحد، ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالاً؟ قال: أبيعه لا خير فيه، فباعه من أبي بكر بعبد أسود لـ أبي بكر، وقيل: بخمس أواق من ذهب، ليعتقه أبو بكر لوجه الله تعالى، ونعم المال الصالح للعبد الصالح.
يقول أمية: يا أبا بكر! لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً لا خير فيه، فيقول أبو بكر: [[والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهباً لأعطيتكها]].
إعلاناً من أبي بكر للبشرية كلها، أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة، أعتق أبو بكر بلالاً وعامراً وأم عمير وزنيرة و p=1000071> النسية وابنتها وغيرهم كثير، اعتق الله رقبته من النار وبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
ويأتي أبوه وهو شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني! أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء ينفعونك ويمنعونك في وقت الشدائد، فيقول: يا أبتي إنما أريد ما أريد، ماذا يريد أبو بكر؟ أيريد السمعة؟! أيريد الرياء؟! أيريد الشهرة؟! والله لو يريدها لوضعها في الأشراف والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة.
ويأتي المنافقون: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79] {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58] يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالاً ليدٍ كانت لـ بلال عنده، أي: لمعروف كان لـ بلال عنده.
وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب مثل هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله يعلم ما في قلبي، هو عالم السر وأخفى، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله جل وعلا: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21] أي متاع يساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
أي زخرف يساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
أي دنيا تساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
لا الدنيا ولا متاعها ولا زخرفها ولذائذها وزينتها، بل هي بحذافيرها لا تساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
من الذي وعده بالرضى؟
إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].(42/6)
أعلى درجات التصديق والثقة
صورة أخرى: ويسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات العلى في ليلة، ويعود في الصباح ليخبر الخبر وهو الصادق صلى الله عليه وسلم، ويطير الخبر في مكة، ويسري سريان النار في الهشيم، ويكذب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويضطرب بعض المسلمين لهذا الخبر، ثم يذهبون لـ أبي بكر يريدون أن يزعزعوا عقيدته، يريدون أن يهزوا إيمانه، فيخبرونه الخبر وهم على ثقة أنه لن يصدق رسوله صلى الله عليه وسلم بعدها وسيرتد عن دينه.
فما موقف هذا الرجل؟
وقف أمامهم كالطود الشامخ ليقول في كلماته الخالدة التي حددت منهج الإيمان في حياته: [[إن كان قال فقد صدق، والله إنه ليأتي بالخبر من السماء في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، أفلا أصدقه الآن]] أو كما قال، وانظروا إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الثبات على المبادئ، عاد هؤلاء خائبين خاسرين، واستحق أبو بكر أن يلقب بـ الصديق.
أيها الأحبة في الله! لقد علمنا أبو بكر كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال، بل آمنا وصدقنا وعملنا، سمعنا وأطعنا فوالله ما خرج من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحق.(42/7)
دور الصديق وأسرته في الهجرة
صورة أخرى: لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته بالهجرة إلى المدينة، تجهز أبو بكر يريد أن يكون الأول في كل شيء، يسابق إلى الخيرات، واتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن بالهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم له: {لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً} يدخره رسول الله صلى الله عليه وسلم لحدث ومنزلة لا يتكرر عبر تاريخ الحياة كلها، فقام بإعداد الرواحل، وقام يعلفها من ورق التمر استعداداً للهجرة، وكان من عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة وعشياً، قالت عائشة: {وبينما نحن جلوسٌ يوماً في نحر الظهيرة، وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبداً، فيقول أبو بكر: فداء له أبي وأمي ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس على سرير أبي بكر وقال: اخرج من عندك يا أبا بكر! قال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: فإن الله قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة يا رسول الله! قال: الصحبة يا أبا بكر! قالت عائشة: والله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذٍ من الفرح} أخرجه البخاري.
يا لله! هل يبكي فرحاً بمنصب؟! هل يبكي فرحاً بمال؟! بجاه؟! بوظيفة؟!
لا والله الذي لا إله إلا هو إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكن.
فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
أولئك حزب الله آساد دينه بهم عصب الطاغوت تشقى وتعطب
أولئك أنصار النبي ورهطه لهم يتناهى كل فخر وينسب
أولئك أقوام إذا ما ذكرتهم جرت عبرات العين حراً تصبب
جزى الله خيراً شيخ تيم وجنده فراياته في الخير والبر تضرب(42/8)
صور وعبر في الطريق إلى الغار
وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى غار ثور، وفي حديث الهجرة صور أي صور، وعبر أي عبر، حقيقة بالتأمل والوقفات عندها، فهذا الشيخ الجليل أبو بكر قد خرج بكل ما يملك بعد أن أعلن حالات الطوارئ في بيته، واستنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركاً الأهل والعشيرة والأولاد والخلان والأصحاب يريد وجه الله والدار الآخرة.
ويلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه: {والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} دموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن للدين إلى قيام الساعة، أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله وإلى رسول الله، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله.
وفي الطريق إلى الغار -كما في الدلائل للبيهقي -: يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبه، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا بكر! لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها} وضوح في الرؤية وفهم وذكاء وتلك سمات المؤمن.
ويصلان إلى الغار، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، إن كان به أذى وقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها.(42/9)
صور من تضحيات أبناء أبي بكر
يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فتقول: لا أدري بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها -لطمه الله بنار تلظى- ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يغنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات في تلك اللحظة، قامت أسماء تجهز الطعام وتشق نطاقها لتربط الطعام فتلقب بذات النطاقين، وتربط الطعام وتذهب به إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتوصله إليه وإلى أبيها هناك.
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال
أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطناً ذكياً لبقاً، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر.
أما راعي أبو بكر -حتى راعي أبي بكر كان له دور، وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء وعبد الله، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك.
تضحيات ومفاخر خالدات لم تجتمع إلا لآل أبي بكر رضي الله عنهم.
ولذا كان لـ أبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم، روى عن أبي الدرداء بإسناد حسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر}.
تلك المكارم لا صعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
النبي صلى الله عليه وسلم لا زال في الغار، ووصل المشركون إلى الغار، وأبو بكر يقول: {لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا} لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
يا أيها الأحبة! إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو أو هروب من محنة لا، بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية.
وحين يراجع المرء حدث الهجرة يلاحظ أن الذي اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ هذا المخطط من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر، لقد كان صلى الله عليه وسلم بهذا يمثل القائد الفذ، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقتها، ويعطيها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء أكانت الطاقات أطفالاً كـ جابر وعائشة، أو رجالاً وفتيات كـ أسماء وعبد الله، ليؤدي كل واحد دوره.
ولا يرضى صلى الله عليه وسلم لعملية الصحبة بالهجرة، إلا أصحاب السوابق، بل إلا واحد منهم وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة، فهو حارس الطريق، ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلفحه الشمس، يقول عمر: [[والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر]] يقصد ليلة الغار، إذ هو: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] والذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: [[أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك يا رسول الله]].
إن أية دعوة إلى الله عز وجل لا بد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلاً إليه رجالاً كانوا أو نساء، ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان على السر، إن مسئولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال، من جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره إلى أبي بكر شاب كهول، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها والصبر على الأذى في تبليغها.(42/10)
رسالة هذه الأمة
إننا أمة رسالة ولا شك، وحين نتخلى عنها تتنزل بنا المحن والمصائب والنكبات، ورسالة أمتنا في الحياة هي الدعوة إلى الله عز وجل على المنهج الصحيح الصادق، والله عز وجل قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدعوة إلى الله، ونحن أمناء الله على رسالته، ونحن مستخلفون لتبليغ منهج الله، ونحن مكلفون بقيادة البشرية وفي ظل عدالتنا يعبد الله، وفي ظل حضارتنا يكرم الإنسان في أرض الله، وكل وضع يجعل قيادة البشرية لغير الأمة المسلمة فهو وضع نشاز طارئ تضج منه الأرض والسماء، ويأثم المسلمون حتى يعيدوا القيادة لهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فأنتم أمة رسالة، بل أنتم شهود الله في أرضه، فأين الشهادة على البشرية؟! أين حملنا لمنهج الدعوة إلى الله؟! أصبحت الدعوة إلى الله وظيفة أفراد قلائل، ليست وظيفة الأمة في مجموعها ومجملها، أصبحت وظيفة عالم أو داعية، أو موظف في الدعوة، فأين نحن من التكليف الرباني: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]؟
ألست من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ألست ترضى بالسير على خطى محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن كنت كذلك فلا بد لك أن يكون لك من دعوته نصيب {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].(42/11)
بيان منزلة الصدِّيق
صورة أخرى: في الترمذي بسند حسن أن عمر رضي الله عنه قال: {ندب النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة ذات يوم، فوافق ذلك مال عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً من الدهر، قال: فجئت بنصف مالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله} وكانوا أهل صدق، لا يعرفون التباهي بغير الحق، ولا يعرفون الالتواء، كانوا أصفياء أتقياء أنقياء رضي الله عنهم {ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بكل ماله لم يُبْقِ قليلاً ولا كثيراً، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: فقلت في نفسي: لا أسابقك في شيء بعد اليوم أبداً} أيقن عمر واقتنع عمر بأن المرتبة الأولى وأن المركز الأول أصبح محجوزاً لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ولا شك، فلينافس فيما بعد ذلك المركز.
في الفضائل للإمام أحمد بسند صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة التي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: وددت يا رسول الله! أني معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي}.
صور عجيبة وحقيقة بالتأمل يا أيها الأحبة، أبو بكر ينفق كل ماله، وعمر نصف ماله، وعثمان ينفق حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وأبو ضمضم لم يجد ما ينفق، فتصدق بعرضه على المسلمين، فسامح كل من سبه وشتمه وآذاه.
من منا أيها الأحبة يلقى الله وقد أنفق عشر ماله مرة واحدة في حياته في سبيل الله ومآسي المسلمين في كل مكان، وجراحات المسلمين في كل مكان، شباب المسلمين صاخب باسم الشهوة فلا يجدون من يعينهم على إعفاف أنفسهم، بيوت تصاب بالتخمة وأخرى بجوارها تصاب بالضعف والهزال، مسلم ينام على الحرير وجاره ينام على الكراتين، فأين الشعور بالجسد الواحد يا أيها المسلمون؟! القرآن للصدقة يندبنا، والسنة تندبنا، وحال المجتمع يندبنا، وفيض المال من فضل الله سبحانه وتعالى بأيدينا يندبنا، من منا يلقى الله وفي صحيفة عمله أنه تصدق بعشر ماله مرة واحدة في حياته؟!
يا أحفاد أبي بكر! ويا أحفاد عمر وعثمان وعلي!
سيروا كما ساروا لتجنوا ماجنوا لا يحصد الحب سوى الزراع
وتيقظوا فالسيل قد بلغ الزبى يا أيها النومى على الأمطاع
واسترجعوا ما فات من أمجادكم ما دمتم في مهلة استرجاع
يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع
صورة أخرى: أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: {كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل أبي بكر آخذاً طرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فلم رآه صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم فقد غامر -معنى ذلك: أنه وقع في هول وخطر- فأقبل حتى سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله! إن كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه -أي: أخطأت عليه- ثم إني ندمت على ما كان مني، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فتبعته البقيع كله حتى تحرز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر! يغفر الله لك يا أبا بكر!
ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يغفر له، فخرج يبحث عنه حتى أتى منزل أبي بكر فسأل، هل ثم أبو بكر؟ فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ما يكره، فجثا أبو بكر على ركبتيه وقال: يا رسول الله كنت أظلم، كنت أظلم، مرتين يقول: أنا أظلم له، أنا البادئ بذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم مبيناً مكانة أبي بكر وفضل أبي بكر: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي لي فهل أنتم تاركو لي صاحبي}.
عن ربيعة الأسلمي بسند صحيح كما في الفضائل للإمام أحمد، قال: {كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت: هي في نصيبي، وقال أبو بكر: هي في نصيبي، فكان بيني وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم عليها، ثم قال: يا ربيعة! ردَّ علي مثلها حتى يكون ذلك قصاصاً، قلت: ما أنا بفاعل، قال أبو بكر: لتردنها أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من قومي أسلم، فقالوا: رحم الله أبا بكر، بأي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال ما قال، فيقول ربيعة وقد عرف منزلة أبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: اسكتوا هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار، هذا ذو شيبة المسلمين، لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة.
وانطلق أبو بكر وتبعته، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: فحدثه الحديث، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وقال: يا ربيعة! مالك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله! قال كلمة كرهها وطلب مني أن أقتص، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل فلا ترد على أبي بكر، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال: فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر يبكي}.
أيها الأحبة! قفوا وتأملوا كلمة ليست من فاحش القول تزلزل كيان أبي بكر، ويأبى إلا القصاص منه، فيا لله! ماذا يقول الفاحشون؟!
ماذا يقول اللعانون؟!
ماذا يقول الطعانون؟!
ماذا يقول المغتابون؟!
ماذا يقول النمامون؟!
ماذا يقول الوالغون في أعراض المسلمين؟!
ماذا يقول من لم يلغوا في أعراض المسلمين عامة لكنهم ولغوا في أعراض خواص المسلمين وهم العلماء، ثم يَدَّعون أنهم على منهج أبي بكر وعمر وسلف المؤمنين؟!
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
رويداً على علمائنا أيها الأحبة، رفقاً بورثة الأنبياء، حسن ظن بالعلماء، معرفة لحق العلماء، احتراماً وتوقيراً وتقديراً للعلماء، علماؤنا هم زهرة الدنيا ومشعل نورها في دربنا المتعثر، أنفسنا لأنفس العلماء فداء، وأعراضنا لأعراضهم مطاء.
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا(42/12)
دروس من صلح الحديبية
صورة أخرى: في صلح الحديبية صعب على المسلمين تلكم الشروط التي تدولت في ذلك الصلح، كما أورد ذلك ابن إسحاق في السيرة وكما هو في الصحيح.
وكان من هذه الشروط: إن جاء من قبل المشركين مسلماً رد عليهم، عندها قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلماً، وبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، فضرب أبوه وجهه وأخذ بتلابيبه -أبوه سهيل مشرك- وضرب وجهه، وقال: يا محمد! هذا أول من أقاضيك عليه أن ترده، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نكتب الكتاب بعد، قال: فوالله لا أصالحك على شيء أبداً.
فوافق صلى الله عليه وسلم على رجوع أبي جندل إلى المشركين، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين! أورد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت، وقد عذب في ذات الله عذاباً شديداً، فازداد الناس غماً على غم، وهماً على هم، ثم قال صلى الله عليه وسلم -كما روي- لـ أبي جندل: {يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً إنا قد أعطيناهم عهد الله ولن نغدر بهم}
لم يتحمل عمر الموقف، رأى أن الموقف موقف ذلة، وما أدرك تحت وطأة غضبه أن رسول الله نبي يوحى إليه، وأن ذلك الصلح فتح من الله مبين، لكن العباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد، لم يستبن له الأمر فأبى إلا أن يعلن عن نفسه عمر حتى يجد الحق الذي يوجد بهما بكبده.
فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى.
قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى.
قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى.
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قال عمر: أولست كنت تحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى.
أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به} أخرجه البخاري.
ثم أتى عمر أبا بكر رضي الله عنه، فقال: [[أوليس رسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أولسنا على الحق؟ أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد استحق أن يكون الصديق، قال: يا عمر! إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، الزم غرزه حتى تموت فوالله إنه على الحق، أشهد أنه رسول الله، فيقول عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، يقول عمر: والله ما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق مخافة محاورتي واعتراضي على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم]] وفي صحيح البخاري يقول: [[ولقد عملت والله لذلك أعمالاً]] أي: أعمالاً صالحة عظاماً.(42/13)
عبر من صلح الحديبية
أحبتي في الله: ليس الهدنة أو الصلح عن ضعف كما يظن، بل هي من موطن القوة، بل هي من الند للند، من كانوا يختفون بإسلامهم أصبحوا يفاوضون، حاول كفار قريش أن يثنوهم عن دخول مكة بالإرهاب والتخويف، ثم وجدوا أنفسهم مرغمين مسوقين إلى المفاوضات، إنها لانتصار في حد ذاته، وإنه ليدل على عظمة القيادة النبوية التي هي أسوتنا وقدوتنا التي تسيطر على الموقف، وتواجه كل طارئ بما يناسبه، إنها لتدل على عظمة الصف المسلم الذي بدأ أمام عدوه في أعلى مستوى من الانضباط والطاعة والاستعداد للفداء، وإن حصل ما يحصل من المواقف التي تستثير النفوس، كموقف أبي جندل.(42/14)
لكي نكون قاعدة صلبة
إننا نحن الدعاة إلى الله، ونحن طلبة العلم اليوم مدعوون إلى أخذ أنفسنا بالتربية النبوية، واتهام آرائنا أمام النصوص، مدعوون إلى أن نجاهد أنفسنا حتى نقترب من هذه القدوات السامقة السامية، لنكون قاعدة صلبة منضبطة تحارب حين يحارب وليها الصالح، وتسالم حين يسالم، طاعة في المعروف في اليسر والعسر والمنشط والمكره، عندها نؤهل للدعوة إلى الله، ثم للتمكين في الأرض، ونحقق موعود الله بنصره وتأييده {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].(42/15)
مواقف الصديق بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم
صورة أخرى: في يوم الإثنين من ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة وفي ضحى ذلك اليوم، فاضت أطهر روح في الدنيا من أشرف جسد، في ضحى ذلك اليوم خرج أكرم إنسان في هذا الوجود من الدنيا كما جاء إليها، لم يترك مالاً ولا متاعاً، وإنما ترك هداية وإيماناً وشريعة خالدة، ما تعاقب الليل والنهار، وترك أمة هي خير الأمم ما تمسكت بنهجه وطريقته، وشاع الخبر في المدينة كأفجع ما يكون الخبر، وأظلمت سماء المدينة، وضجت بالبكاء، وأغلقت القلوب بحزنها، وذرفت العيون بدمعها، وليس لعين لم يفض ماؤها عذر، ضاقت على المسلمين أنفسهم، وتبدلت الأرض فما هي بالأرض التي يعرفون، يقول أنس: [[ما رأيت يوماً كان أحسن من يوم دخل فيه علينا المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، لقد أضاء منها كل شيء، وما رأيت يوماً أظلم من يوم مات فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم]].
أما فاطمة رضي الله عنها، فكانت تقول: [[أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، ثم تقول بعد دفنه: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!]] فلا والله ما تسمع بعدها إلا النشيج والنحيب، ولسان حال أنس ما طابت والله ولن تطيب، ولكنه امتثال لأمر الحبيب، والله ما دفن حتى أنكرنا أنفسنا.
أما الفاروق فأذهله الخبر عن صوابه، فصار يتوعد وينذر ويشهر السيف ويقول: [[ما مات لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن، وليقطعن أيدي وأرجل رجال زعموا أنه مات]].
ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيدخل المسجد، فلم يكلم أحداً حتى دخل على عائشة، ميمماً وجهه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىً ببرد، فيكشف عن وجهه الشريف، ثم يكب عليه يقبله ويبكي ويقول: [[بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً]].
ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: [[اجلس يا عمر! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على أبي بكر، فقال أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]]] يقول ابن عباس: [[والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس فلا أسمع بشراً إلا يتلوها]].
أما عمر فيقول كما في صحيح البخاري: [[والله ما أن سمعت أبا بكر يتلوها حتى هويت إلى الأرض ما تقلني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات]] ذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه مع نبيه وحبيبه، وذلك موقف الصحابة جميعهم، والله لولا الإيمان الذي رجح بإيمان الأمة ما كان لـ أبي بكر أن يقفه، معذورون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الخطب جسيم والمصيبة عظيمة، قد كان صلى الله عليه وسلم كل شيء لهم في حياتهم، كان حاكمهم وحبيبهم وأباهم وأخاهم وقائدهم ومربيهم ومنقذهم وهاديهم، فقدوا ذلك كله في ساعة من نهار.
فليهنأ الصديق إذ اختص بذلك الموقف، ومعه لم يكن يضعف وهو اللين الرقيق البكَّاء الحنون، إنه الإيمان الذي وقر في قلبه فصدقه حياً وميتاً، قال في حياته: [[إن كان قال فقد صدق]] وقال بعد موته بلسان حاله: إن كان مات فقد بلغ وصدق، ولا ننسى موقف الصحابة ووقوفهم عند كتاب الله، يوم سمعوا الآية من فم أبي بكر رضي الله عنه، صدقوا وآمنوا وثبتوا وأيقنوا، كيف لا وهم خير القرون، بل هم تربية محمد صلى الله عليه وسلم.(42/16)
بعض وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
أحبتي في الله: إن مصاب الأمة بفقد النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدله مصاب، فمن أصابته مصيبة فليتعزَّ بمصيبته في فقد النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله ما لنا من عزاء إلا أن نمضي على نهجه وشرعته، فهي حية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا بد أن نتذكر عند ذكر موته وصاياه جميعها، ونخص منها وصاياه الثمينة الأخيرة، وأعظمها خشيته صلى الله عليه وسلم على أمته أن تنصرف عن عبادة الله إلى عبادته هو صلى الله عليه وسلم، أو إلى عبادة غيره، فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تتخذوا قبري وثناً يعبد} يريد لنا سلامة العقيدة، وتخرج ثمرة هذه الوصية واقعاً مطبقاً في قول أبي بكر -ولما يدفن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد-: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]] فإلى دعاة الأموات من دون الله، وإلى رواد الأرض حيث يرجون منها كشف الكربات، وإلى المستغيثين حتى برسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: {الصلاة الصلاة} فهلا وعينا هذه الوصايا من صاحبها القائل: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}، كان شغله الشاغل صلى الله عليه وسلم سلامة الصف الذي لا يمكن أن يسلم إلا بسلامة العقيدة، فلا بد أن يبقى عند الدعاة إلى الله في الأرض هم هاتين القضيتين: سلامة العقيدة يتبعها بالتالي سلامة الصف، ولعل آخر نظرة ألقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في فجر يوم وفاته قد أثلجت صدره، وهو يرى أمته صفاً واحداً وراء أبي بكر يصلي بهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلى غبطته بوحدة أمته وراء أبي بكر رضي الله عنه.
وتذهب اللحظات، وما يطلع فجر اليوم الثاني إلا والمسلمون قد جعلوا الصديق خليفة لهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون نموذجاً فريداً من خريجي مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فيا له من نموذج! ويالها من لحظتين متضادتين! لحظة وداع مؤثرة تمزق الأكباد والقلوب، ولحظة أخرى هي لحظة تولي الصديق أمر الأمة، التي أثلج الله بها صدور المؤمنين يوم ولى عليها خيرها، فله الحمد والمنة أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.(42/17)
الخطاب الأول لأبي بكر
صعد المنبر ليلقي أول خطاب على الأمة، فجالت في نفس الصديق خواطر، وجرت على ذهنه أمور، ذكره المنبر بصاحب المنبر صلى الله عليه وسلم، تذكر حبيبه وتذكر صاحبه وتذكر معلمه، فانصدع باكياً وكفكف دموعه، وأعلن مبدأه العظيم في كلماته القليلة، التي لا تحتاج إلى تعليق، وإنما جدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئاً، جدير بالمدرس في مدرسته، والموظف في وظيفته، والرجل في أهله، وكل من ولي من أمر الأمة قليلاً أو كثيراً أن يتأمل هذا الكلمات، كلمات الصديق التي يقول فيها كما في تاريخ ابن كثير بإسناد صحيح: [[أيها الناس! إني وقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم]] دستور عظيم
فما القوي قوي رغم عزته عند الخصومة والصديق قاضيها
وما الضعيف ضعيف بعد حجته وإن تخاصم واليها وراعيها(42/18)
إنفاذ الصديق لجيش أسامة
بدأ أبو بكر خلافته بتطبيق ذلك المنهج الذي أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ ببعث جيش أسامة، وكان صلى الله عليه وسلم قد عقد اللواء لـ أسامة وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة، أمر الجيش بالتوجه إلى الشام في وقتٍ ارتدت فيه بعض قبائل العرب، وعظم الخطب، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم وكثرة عدوهم، فأشار الناس على الصديق ألا يبعث جيش أسامة، وأن يؤجل ذلك، ومن جملة من أشار بذلك عمر، فوثب أبو بكر وثبة الأسد، وأبى أشد الإباء، وقال: [[والذي نفسي بيده لا أحل عقدة عقدها رسول الله، والذي لا إله إلا هو لو ظننت أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، أو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشاً وجهه رسول الله، وما حللت لواءً عقده رسول الله، والله لو لم يبق في القرى غيري لأنفذته]] لسان حاله أفأطيع رسول الله حياً وأعصيه ميتاً؟! فيا للحزم ويا للاتباع!
أسدٌ يقدم في ذاك الوغى رحمة الله على ذاك الأسد
استعرض الجيش، وأمرهم بالخروج رغم الأعداء، ورغم إحاطة الأعداء بموطن الدعوة والرسالة، ومع ذلك يخرج طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويبلغ من تكريمه لـ أسامة رضي الله عنه أن خرج في توديعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة: [[لتركبن أو لأنزلن -فيعلن أن من تواضع لله رفعه- فيقول أبو بكر: والله لا نزلت ولا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي هاتين ساعة في سبيل الله]] لقد كان أبو بكر مسدداً رشيداً، فإخراجه لجيش أسامة حقق للأمة مصالح عظيمة، فما مر الجيش على حي من أحياء العرب إلا أرعبهم، وأثبت أن الضعف لم يتسرب إلى الأمة بعد وفاة نبيها.
تقول قبائل العرب التي ارتدت: ما أخرج أبو بكر الجيش إلا لقوة ومنعة عنده، اتجه أسامة بجيشه إلى البلقاء، ورجع من هناك بعد سبعين يوماً بعد أن قضى على كل من وقف بوجهه من أعداء الإسلام، رجع مظفراً منصوراً، قد انتقم للمسلمين ولأبيه وأرضى ربه ونبيه والمسلمين، وكل ذلك والله ثمرة للاتباع، أطاع أبو بكر ربه بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الرعب في قلوب أعداء الله، فكان النصر الأول على الروم يشهد بعظمة الصديق، وسداد رأيه وصلابة موقفه وحزمه، وكل ذلك ثمرة للاتباع.
بمثل هذه المواقف ثبت الصديق أركان الدولة، وعزز هيبة المسلمين.
لا تعرضن بذكرنا مع ذكره ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد(42/19)
موقف الصديق من المرتدين
وترتد كما قلنا بعض قبائل العرب، بعد أن ظنوا أن شوكة الإسلام انكسرت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أبا بكر علم الناس أن الإسلام لا يموت ولا ينتهي، حتى وإن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثقل الأمر على الصديق إذ ارتدت قبائل العرب، ففي وقت من الأوقات لم تقم الجمعة إلا في مكة والمدينة، تقول عائشة: [[نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها لكنه طار بحظها]]، فأعلن الحرب على المرتدين، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه مجتهداً: [[أرفق بهم وتألفهم، كيف تقاتل الناس وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله} إنهم يشهدون أن لا إله إلا الله يا أبا بكر!]] فغضب أبو بكر رضي الله عنه غضبة لله، وقال قولته الشهيرة: [[ثكلتك أمك يـ ابن الخطاب! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك، إنه قد تم الدين، وانقطع الوحي، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كان يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه]].
أيها الأحبة! لقد عامل الصديق مانع الزكاة كالمرتد تماماً، وهذا من فقه أبي بكر رضي الله عنه، فإنكار شريعة من شرائع الإسلام كفر وخروج من الإسلام يستحق صاحبه أن يقاتل، انشرح صدر عمر والمؤمنون لهذا الموقف، فمضى ذلكم الجيل الرباني يلاحق المرتدين في أوكارهم، يدك عروشهم ويفل جيوشهم حتى يعودوا للإسلام أو يلقوا مصارعهم كافرين، وكان له ذلك.(42/20)
صفحة مضيئة من تاريخ الإسلام
أحبتي في الله: أرأيتم إلى الحزم والعزم في تنفيذ أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصديق، إنها والله الكلمات الصادقة التي تخرج من القلوب الصادقة كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على قلوب أولياء الله.
والله يا أيها الأحبة إن الإنسان وهو يسمع تلك الكلمات التي سمعتموها من أبي بكر آنفا ليذكره ذلك بصفحة مضيئة من تاريخنا أيضاً، ومن صحابي آخر ألا وهو خالد رضي الله عنه كما في تاريخ ابن كثير، يوم يقول ماهان أحد قادة الروم: قد علمنا ما أخرجكم من بلادكم أيها العرب إلا الجوع، فهلموا نعطي كل واحد منكم عشرة دنانير وارجعوا، فإذا كان كل عام بعثنا لكم مثل ذلك.
فقال خالد بعزة المؤمن الذي يثق بنصر الله، والذي أرعب الناس بذلك الدين الذي يحمله في قلبه، قال: [[لا والذي نفس خالد بيده، ما خرجنا لذلك، غير أننا قوم نشرب الدم، وبلغنا أن هنا دم ما أطيب من دم الروم فجئنا لذلك، ولن نرجع حتى نشرب من دمائكم]]، أو كما قال، فألقى الله الرعب في قلوبهم؛ فنصر الله خالداً عليهم.
خالد الذي يحاصر بلدة من البلدان أشهراً، فتستعصي عليه هذه المدينة، فيكتب رسالة لقائدها من قلب صادق تخرج الكلمات منه صواعق وقذائف، يقول لذلك القائد الرومي -وهو قائد بلدة قنسرين: [[من خالد بن الوليد إلى قائد الروم في بلدة قنسرين، أما بعد: فأين تذهبون منا، ووالله لو صعدتم إلى السماء لأصعدنا الله إليكم أو لأمطركم علينا]]، فما كان من ذلك الرجل إلا أن رعب وفزع، وألقى الله الرعب في قلبه، فقال: اخرجوا وافتحوا أبواب المدينة لا طاقة لنا بهؤلاء.
خالد معركة اليرموك، يقابله فيها الروم وعددهم مائتان وأربعون ألفاً في مقابل أربعون ألفاً مع خالد، ربع مليون نصراني قريبون من قياداتهم ومن مصادر تموينهم ومن كل شيء، وأربعون ألفاً من المسلمين بينهم وبين أرض الخلافة صحار شاسعة يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد.
يقال لـ خالد في هذه الظروف الحرجة الحالكة القاسية: ما أكثر الروم! فيقول خالد مغضباً: [[اسكت بل ما أقلهم، إنما يكثر الروم بنصر الله ويقلون بخذلانه، وددت أن الروم أضعفوا لنا العدد، وأن الأشقر برء من وجعه]] والأشقر هو فرسه فقد كان قد أصيب بوجع في حافره، فما أصبح يمشي كما ينبغي، أصبح يضلع وهو يمشي، الله أكبر يا أيها الأحبة! إن الإنسان ليقف أمام هذه، فيقول: قد وقعت هذه؟ نقول: والله لولا النقل الصحيح لما صدقنا ذلك.
في عالم القوة المادية المزمن ربع مليون نصراني لا يساوون ضلعاً في رجل فرس خالد رضي الله عنه، لماذا؟ لأنه عَلِمَ عِلْمَ يقين أن الله سينصره، ووالله لا نصر لنا في حياتنا إلا بتطبيق منهج الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، حتى نرى الله سبحانه وتعالى يسير أحداث الكون بقدرته لصالح تحقيق أهداف المؤمنين التي تتمثل في هدف واحد وهو تحقيق العبودية لله في الأرض وحده لا شريك له.
انظروا كيف تصبح كلمات أولياء الله قدراً يجري في هذا الكون لا يثبت أمامها شيء بإذن الله، ينطقون بالكلمة فيطوع الله لها كل شيء، فتبلغ مبلغاً عظيماً لا يقدره إلا الله جل وعلا.
أحبتي في الله: إن الدين الذي قاتل به خالد وأصحابه رضوان الله عليهم محفوظ غض طري بين أيدينا نقاتل به مدى الحياة متى ما شئنا فننصر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].(42/21)
عوامل انتصار المسلمين في نظر أعدائهم
أيها الأحبة في الله! هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت لهم العدو طواف ناقة عند اللقاء، ونحن تحت ضغط الحياة المادية قد نعتبر هذا الكلام خيالاً، لكن حتى الأعداء قد شهدوا بذلك.
ها هو هرقل وهو على إنطاكية كما في تاريخ ابن كثير يقول لجنده وقد قدمت الروم منهزمة: ويلكم! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى.
قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موقف، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: أأصدقك؟ قال: نعم.
قال: لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون فيما بينهم، أما نحن فنشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، قال هرقل: لقد صدقتني ولقد أتانا منهم ما لا طاقة لنا به.
هكذا كان الجيل الأول من أمة الإسلام، العبرة عندهم بقوة العقيدة لا بكثرة العدد ولا العدة، إذ لا قيمة للسلاح في يد الجبان.
شهد الأنام بفضلهم حتى العدى والفضل ما شهدت به الأعداء
إنهم منهم:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدوهن رؤياه
فما حالنا أيها الإخوة في الله! نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بنعمة منه توقظ قلوبنا، مع الكفار استسلام وضعف وذلة وهزيمة، وبيننا أسود أشاوس، أشداء جلداء.
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
فيا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين!
ألم يبق أوس آخرون وخزرج ألم يبق للإسلام جيش عرمرم
فغاية ما نبلي من الجهد أننا نسب طواغيت اليهود ونشتم
إذا اتسموا باللؤم والغدر فالذي يفاوضهم منا أخس وألئم
فيا أمة الإسلام إن شئت عزة فإن كتاب الله هاد مقوم
وليس لكم شيء سواه يعزكم ويحفظكم من كل سوء ويعصم
ومع ما نحن فيه أيها الأحبة! إلا أن هناك بشائر عظيمة، ومع ما نحن فيه فإنا نقول:
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
في قمة الظلام يولد النور، ولا تزال طائفة على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، وإني لأرجو الله أن نكون من أهل هذه الطائفة.
وإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج(42/22)
وفاة الصديق رضي الله عنه
صورة أخرى: وحلت سكرات الموت بـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقد عهد بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، قائلاً واضعاً دستوراً معيناً: [[إن عدل فذاك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت ولا أعلم الغيب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227]]].
جاءته السكرة رضي الله عنه بعد أن قدم للرسالة والرسول والأمة ما قدم، حتى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وقال: حسن غريب: {ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها، إلا أبا بكر فإن له عند الله يداً يكافئه بها يوم القيامة}.
ثم يقول أبو بكر وهو في السكرات لابنته عائشة كما في كتاب الخلفاء للذهبي: [[أما إنا قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهماً ولا ديناراً، ولكنا أكلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي]] فما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ خلف عبداً حبشياً، وبعيراً كان يسقي عليه، وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، بعثت بها عائشة إلى عمر، فلما جاءته بكى عمر حتى سالت دموعه، ونشج وهو يقول: [[رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، فيقول الصحابة: يا عمر! ردها على عياله فهم أحوج لها، قال عمر: والذي بعث محمداً بالحق نبياً لم يكن ليخرجها عند الموت، وأردها على أهله بعد الموت، ولكن أهله أهلي وعياله عيالي]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا أسلم الروح أبو بكر إلى بارئها، فأسكت فم لطالما جلجل بذكر الله، ودعا إلى الله، وأغمضت عينان لطالما سهرتا وبكتا من خشية الله، واستراحة يدان لطالما دافعتا وجاهدتا مع رسول الله، ودّع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلاً للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي، جاهد في الله حق جهاده طيلة أيام رسول الله، ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك المواقف، في أحد والأحزاب وحنين وجميع المشاهد، ولما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، يوم وسد الأمر إليه لم يحد عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر أُنملة.
فحقق في سنتين ونيف ما لا يفعل في مئات السنين، والبشر لا تقاس بأعمارها، لكن بهممها وأعمالها، وهكذا طويت صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، فرضي الله عمن خطها وأرضاه، وجزاه الله خير ما جزى خليفة عن رعيته، بل عن أمته المسلمة إلى يوم القيامة، قد حفظ الله به الدين، وأعز به الحق المبين، ونصر به الإسلام والمسلمين.
أيها المسلمون! أولئك آباؤنا وهاهم أجدادنا فمن نحن؟
أبواب أجدادنا منقوشة ذهباً وهاهياكلنا قد أصبحت خشباً
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وبعضنا اليوم من أعدائنا شرباً
إني أبشر هذا الكون أجمعه أنّا صحونا لنبني للعلا عجباً
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضباً
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنباً
أنتم كهم، ومن يشابه أَبَهُ فما ظلم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
لا أريد أن أطيل الحديث بحياة أبي بكر رضي الله عنه، وإن كانت حياته جديرة بأن نطيل فيها الحديث، لكن لعل هذه الإشارات كافية في مثل هذا الحين.(42/23)
وقفات مع الخليفة عمر بن الخطاب
ونريد أيها المسلمون أن نقف مع صور قلائل من حياة قمة أخرى ألا وهو عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقفة عظة وتدبر؛ علَّ الله أن يوقظ قلوباً غافلة عن منهج أبي بكر وعمر والصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل: أن أم عبد الله بنت حنتمة كانت تستعد للهجرة إلى الحبشة فراراً بدينها أن تفتن فيه، وإذ بـ عمر يقف عليها وهو لا يزال مشركاً، ويقول في رقة لم تعهد منه: [[إنهم طلاق يا أم عبد الله قالت: نعم، لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا لعل الله أن يجعل لنا فرجاً، فقال عمر في رقة لم أكن أراها منه: صحبكم الله، ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا]].
فجاء زوجها، فقالت: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر الآن ورقته وحزنه علينا لطمعت في إسلامه، فقال زوجها: لا يسلم هذا حتى يسلم حمار آل الخطاب، لما يرى من غلظة عمر وقسوته على المسلمين.(42/24)
إسلام عمر
القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يهدي الله لنوره من يشاء، فلا يأس ولا تواني ولا استعجال ولا قنوط، فهاهو الذي قيل عنه: لا يسلم حتى يسلم حمار آل الخطاب، يسلم بفضل الله، ويعلن إسلامه في وقت كانوا يخفون إسلامهم، ويقول كما يقول لابنه عبد الله بإسناد حسن: [[أيُّ قريش أنقل للحديث؟ -يريد أن ينتقل خبر إسلامه- قيل له: جميل بن معمر -وكان جميل هذا وكالة أنباء- غدا عليه وعبد الله يتبعه ينظر ماذا يفعل، فقال لـ جميل: أما علمت أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد، قال: فوالله ما راجعه جميل، وإنما قام يجر رجليه مسرعاً وعمر يتبعه]].
حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! ألا إن عمر قد صبأ، قال: فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فثاروا عليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه في المسجد حتى قامت الشمس على رءوسهم، فتعب وضعف وأرهق، وهو يقول بعزة المؤمن وهم وقوف على رأسه وهو جالس: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لتركتموها لنا أو لتركناها لكم.
فيا لله! من كان يقال فيه: إنه لن يسلم حتى يسلم حمار أهله يصبح اليوم يتحدى الكفر، ويعلن إسلامه في وقت لا زال الناس يخفون إسلامهم خوف الفتنة، إنه أمر الله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38].
أخي لا تيأسن والله خالقنا بالصبر في محكم التنزيل أوصانا
.(42/25)
عمر بعد الإسلام
ولعلي أقف على صورة أو صورتين وأدع الباقي لتكملته في محاضرة أخرى، يقول صهيب: [[لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعونا له علانية وجلسنا حول البيت وطفنا]] فرضي الله عن عمر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}.
هو الوقاف عند كتاب الله، هو المجاهد المجالد مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، هو الشديد في الحق، ثم هو المستشار لـ أبي بكر رضي الله عنه، ثم هو من ولي الخلافة بعد أبي بكر؛ فنشر دين الله في الأرض وعدل وفتح الله على يديه فتوحات عظيمة، أزيلت في عهده دول، شَرَّق الإسلام في عهده وغَرَّب، لم يكد يمضي وقت حتى صار الإسلام بلغ غالب الأرض، فامتدت دولة الإسلام من الشرق إلى الغرب، واهتزت عروش كسرى وقيصر، بل وسقطت على يدي عمر فرضي الله عن عمر.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
ونظرة أيها الأحبة يجيلها المرء اليوم على الحاضر بعد تذكر هذا الماضي، وهذه الصورة المضيئة، فلا يملك إلا أن يقول:
إني أرى ناراً أعد هشيمها وثقابها لكنها لم توقد
عام وآخر مقبل ومودع لم نعتبر وكأننا لم نشهد
ولقد تشابهت السنون كأنني ما عشت عمري غير عام مفرد
ما حيلة العصفور قصوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غرد
أين الذي نظم الجيوش من الذي نظم الكلام قلائداً من عسجد
قد كان همهم الفتوح وهمنا أن نغتدي أو نرتوي أو نرتدي
ومع هذا فإننا متفائلون؛ لأن العاقبة للمتقين، والضربات توقظ النائمين، وظننا بالله حسن.
وإنا لندعو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع
يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما روى ذلك الإمام أحمد في الفضائل بسند حسن: [[لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله جل وعلا، والله لو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـ عمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيء حتى العضى]] إن إسلامه كان فتحاً، وهجرته كانت نصراً، وسلطانه كان رحمة، فرضي الله عنه ورحمه، ولي ولكم موعد مع صور أخرى من حياة هذا العلم وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(42/26)
التأسي والاقتداء بأعلام الأمة
هذه صور موجزة من أحداث حياة علمين جليلين من أعلام هذه الأمة هي غيضٌ من فيض وقطر من بحر، والصور ذات العبر من حياتهما والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن إدراكها في مثل هذه العجالة من الزمان، ولا يستطيع والله لتنفيذها من البيان، لأنا أقل وأذل من أن أقف على كل صورة لهذين العلمين.
لكني أقول: ما هي المناهج التي خرجت مثل هذه النماذج؟
وما هي الثقافة التي نهلوا منها؟
وما هي التربية والتوجيه الذي جعلهم يقومون بهذا الدور؟
إن المناهج التعليمية والتربوية والثقافية التي خرجت هؤلاء لا زالت بين أيدينا، وتحت أسماعنا وأبصارنا، ما أجدرنا نحن المسلمين رجالاً ونساء شيباً وشباباً أن نقف على هذه المناهج وقفة الضنين على الثروة الرائعة، والظمآن على الماء البارد، لنعد وننهل ونقذف ونتذكر ونذكر.
ما أجدرنا أن نقف على صور هؤلاء العظماء لنتخذها نبراساً نسير على ضوئه بتربية أنفسنا وأبنائنا، وتنشئة جيل مؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بصلاحية هذا الدين وهذا المنهج لكل زمان ومكان، جيل يضحي بكل شيء في سبيل سيادة دينه، لا يثنيه عن هذه الغاية الشريفة بلاء ولا إيذاء ولا طمع ولا إغراء، لسنا نريد الوقوف على هذه الصور لتكون حصيلة علمية نتشدق بها في المحافل والنوادي، ونتفيهق بها في المساجد لنحظى بالثناء وننتزع من السامعين مظاهر الإعجاب.
لا والله: إننا نريد أن تكون هذه الأحداث الصادقة من تاريخنا مدرسة نتخرج منها كما تخرج أولئك السادة الأولون، لنكون مثلاً صادقة لهم في إيمانهم وعلمهم وعملهم وأخلاقهم وسلوكهم وقياداتهم حتى يعتز بنا الإسلام كما اعتز بهم، وما ذلك على الله بعزيز.
وإنا لنرجو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع
والخير في هذه الأمة أولها وآخرها.
اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، يا من دبر الظهور، وقدر الأمور، وعلم هواجس الصدور، يا من عز فارتفع وذل كل شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أعظم العطية، تجيب المضطر وتكشف الضر وتغفر الذنب وتقبل التوب لا إله إلا أنت، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا عظيم المن، يا كريم الصفح، يا سامع كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا رافع كل بلوى، يا من عليه يتوكل المتوكلون، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك أن ترحم هذه الأمة رحمة عامة، تعز فيها أولياءك وتذل أعداءك، وتجعل كلمتك العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، اللهم أدم ودها واهدها واهدِ بها ويسر الهدى لها، اللهم ولِّ عليها خيارها.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنىً لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
صورة تظهر فهل لها من معتبر يهدى بها من حيرة الخذلان
لم آت فيها من جديد محدث غير اختيار اللفظ يا إخواني
فإذا أسأت فذاك من كسبي وإن أحسنت ذا فضل من المنان
يا رب لا تجعل جزائي سمعة تسري على البلدان والأكوان
أهدي صلاتي والسلام جميعه لأحب خلق الله في الأكوان
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(42/27)
أختاه هل تريدين السعادة
إن المرأة المسلمة التي تبحث عن السعادة الحقيقية، الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة؛ عليها أن تعلم أن السعادة ليست هي تلك التي يدعيها ثعالب المسلمين من المنافقين والعلمانيين، ولا التي يروج لها دعاة الغرب والحاقدون، من النصارى واليهود المتهتكين، ولكنها في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتزام هديه وأوامره والانزجار بزواجره ونهيه.(43/1)
أنواع السعادة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله الذي جمعنا وإياكم في هذه الروضة أن يجعلنا ممن تتنزل عليه الرحمة، وتغشاه السكينة، وتحفُّه الملائكة، ويذكره الله عز وجل فيمن عنده.
اللهم إنا نسألك ألا تصرفنا -رجالنا والنساء- من هذا المسجد إلا وقد غفرت لنا ما تقدم من ذنوبنا، اللهم لا تعذب جمعاً الْتقى فيك ولك، اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب أعيناً ترجو لذة النظر إلى وجهك، اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقائك.
ما أجمل أن تلتقي الأسر المسلمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ما أجمل أن نتذاكر الله عز وجل جميعاً ليعم النفع للرجل والمرأة، والصغير والكبير، والذكر والأنثى! إنها لَنعمة عظيمة كان صلى الله عليه وسلم يفعلها، وذاك من هديِه، وخير الهدي هديُه صلى الله عليه وسلم.
وعذراً لكم أيها الرجال! سيكون الخطاب هذه المرة من بين مرات كثيرة وكثيرة -لطالما خوطبتم أنتم- للنساء، فعذراً وعفواً، وما يُقال للرجل يُقال للمرأة، وما يُقال للمرأة يُقال للرجل إلا فيما اختص به كل جنس عن جنس آخر، والذي خصَّه به شرعنا المطهر الذي أُنِزَل على محمد صلى الله عليه وسلم.
أيتها الأخوات أيتها الأمهات! هل تُردْن السعادة؟ هل تُردْن السكينة؟ هل تُردْن الأمن والطمأنينة؟ هل تُردْن ذلك في الدنيا والآخرة؟ أم تُردْنها في وقت غير وقت من هذه الأوقات؟(43/2)
السعادة الدنيوية
إنني لأقول لَكنَّ: إن السعادة سعادتان: دنيوية مؤقَّتة بعمر قصير محدود: من طلبها مجردة وحدها فسينسى ذلك في غمسة واحدة يُغمسها في جهنم، يُؤتَى بأَنعَم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل مرَّ بك خير قط؟
هل مرَّ بك نعيم قط؟
فيقول: لا والله يا رب! فينسى كل نعيم ولذة في الحياة بغمسة واحدة يُغمسها في النار، نعوذ بالله من النار.(43/3)
السعادة الأخروية
أما السعادة الثانية: فهي سعادةٌ أخروية دائمة لا انقطاع لها أبداً: وهذه هي المطلوبة، فلو حصل للإنسان في حياته ما حصل من التعاسة والشقاء لم يكن بعد ذلك نادماً أبداً؛ لأن غمسة واحدة في الجنة تُنسيه تلك الآلام، وتُنسيه ذلك الشقاء وتلك التعاسة.
ويا أيها الأحبة! إن سعادة الدنيا مقرونة بسعادة الآخرة، وإنما السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة للمؤمنين والمؤمنات، للصالحين والصالحات، للطيبين والطيبات، للقانتين والقانتات، للعابدين والعابدات، للمتقين والمتقيات؛ اسمع إلى ربك يوم يقول سبحانه وبحمده: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] فالسعادة كلها في طاعة الله، والسعادة كلها في السير على منهج الله وعلى طريقة محمد بن عبد الله صلى وسلم عليه الله، يقول الله جل وعلا: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] والشقاوة كلها في معصية الله، والتعاسة كلها في منهجٍ غير منهج الله وغير منهج محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِيناً} [الأحزاب:36].
فيا أيتها الأخوات المسلمات! هل تُردْن السعادة؟ إن كنتن كذلك، وما أظنكن إلا كذلك.
فلتسمعن مني النصيحة والعتاب
من مخلصٍ في نصحِكن يرجو لَكُنْ حُسن الثواب
يخشى على هذه الوجوه من الحميم من العذاب
أخواتنا لا تغضبن فالحق أولى أن يُجاب
أيتها الأخت المسلمة! بصوتِ المحب المشفق، وكلام الناصح المنذر، أدعوكِ وأدعو الكل وأدعو نفسي إلى تقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً صالحة تُبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أكفر تم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َ} [آل عمران:106 - 107] تبيضُّ وجوهنا يوم أن نلقى الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] ألا هل تُردْن النجاة؟
إن النجاة لفي تقوى الله -جل وعلا- لا غير: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].(43/4)
مكانة المرأة في الجاهلية
ثم إني أدعوكِ أخرى -يا أخت الإسلام- إلى أن تحمدي الله عز وجل الذي أنعم عليك بنعمة الإيمان، ونعمة القرآن، وكرَّمكِ، وطهَّركِ، ورفع منزلتك أيَّ رفعة، ولم تُرفَع منزلة المرأة تحت أي مظلة مثلما رُفعَت تحت مظلة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ليس هذا فحسب؛ بل أنزل الله فيك وفي أخواتك سورةً كاملة في قرآنه باسم (سورة النساء)، وسورة أخرى باسم (سورة مريم)، وسورةً ثالثة باسم (سورة المجادلة).
ليس هذا فحسب؛ بل خصَّك بأحكام عديدة في كتابه الكريم، في حين كانت المرأة قبل هذا الدين سلعة رخيصة سلعة ممتهنه كسقط المتاع، عار على وليها، وعار على أهلها، وعار على مجتمعها الذي تعيش فيه؛ ولذلك تعامل أحياناً كالحشرة، بل تُفضَّل البهائم عليها.
لم تنالِ عِزَّكِ إلا في وسط هذا الدين يا أَمَة الله؛ فاستمسكي به، واسمعي إلى قول الله -عز وجل- يوم يحكي ماضياً لابد أن تتذكريه؛ فتحمدي الله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً على ما أنتِ فيه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] بشر أحدهم! لا إله إلا الله، إنه ليئدُها ويقتلها ويدفنها حية أحياناً، فاسمعي يا أمة الله.
يُذكر أن صحابياً اسمه عبد الله بن مغفل -رضى الله عنه وأرضاه- كان إذا جلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر على وجهه حزن وكآبة -حزن عظيم وكآبة عظيمة- فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب حزنه ذلك الذي لا ينقطع أبداً.
فقال: يا رسول الله! كنت في الجاهلية، وخرجت من عند زوجي وهي حامل، وذهبت في سفرٍ طويل لم أعُدْ إلا بعد سنوات، وجئت وإذا بها قد أنجبت لي طفلة تلعب بين الصبيان كأجمل ما يكون الأطفال، قال: فأخذتها، وقلت لأمها: زيِّنيها زيِّنيها! وهي تعلم أني سأئدها وأقتلها، فقامت أمها تزينها وبها من الهمِّ ما بها، زينتها وتقول لأبيها: يا رجل! لا تضيِّع الأمانة، يا رجل! لا تضيِّع الأمانة، قال: ثم أخذتها كأجمل ما يكون الأطفال براءة وجمالاً، فخرجت بها إلى شِعْب من الشعاب، قال: وبقيت في ذلك الشعب أبحث عن بئر أعرفها هناك، فجئت إلى بئر طوية دوية، ليس فيها قطرة ماء، قال: فوقفت على شفير البئر، أنظر إلى تلك الصغيرة، فيرقُّ قلبي لما بها من البراءة وليس لها من ذنب، ثم أتذكر نكاحها وسفاحها؛ فيقسو قلبي عليها، بين هاتين العاطفتين أعيش، قال: ثم استجمعت قواي، فأخذتها، فنكبتها على رأسها في وسط تلك البئر.
قال: وبقيت أنتظر هل ماتت؟ وإذا بها تقول: يا أبتاه! ضيعت الأمانة، يا أبتاه! ضيعت الأمانة.
ترددها وترددها حتى انقطع صوتها؛ فوالله يا رسول الله! ما ذكرت تلك الحادثة إلا وعلاني الحزن والهم، وتمنيت أن لو كنت نسياً منسياً لو كان ذلك في الإسلام، ثم نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا دموعه تهراق على لحيته صلى الله عليه وسلم، وإذ به يقول -فيما رُوي- {يا عبد الله! والله لو كنت مقيماً الحد على رجل فَعَل فعلاً في الجاهلية لأقمته عليك، لكن الإسلام يَجبُّ ما قبله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(43/5)
وصايا للمرأة المسلمة(43/6)
العمل بطاعة الله سبحانه
ألا فاحمدي الله -يا أخت الإسلام- الذي هداك لهذا الدين، وشرَّفكِ وأكرمكِ ورفع قدركِ بهذا الدين يوم ضلَّ غيرُك من نساء العالمين، ثم استمسكي بحبل الله جل وعلا، واعتصمي بدين الله عز وجل؛ فإنه الركن إن خانتكِ أركان، ثم أنقذي نفسك من النار، يا أَمَة الله! والله لستِ خيراً من فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال لها أبوها يوماً من الأيام كما في صحيح مسلم: {يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، لا أُغني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار لا أُغني عنكِ من الله شيئاً} وهذا إخطار لكِ -أمة الله- وإنذار منه صلى الله عليه وسلم، يوم عُرضت عليه النار فرأى أكثرها النساء.
ألا فاعلمي أنكِ عرضة لعذاب الله إن لم تخضعي لأوامر الله إن لم تطيعي الله إن لم تقفي عند أوامره وحدوده وتجتنبي نواهيَه.
ألا فأنقذي نفسك من النار، واعملي بطاعة الله، ولا تجعلي لكِ رقيباً غير الله -جل وعلا- الذي {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
إنك -والله- لأعجز من أن تطيقي عذاب النار، إن الجبال لو سُيِّرت في النار لذابت من شدة حرِّها؛ فأين أنتِ -أيتها الضعيفة- من الجبال الشمِّ الراسيات {قل مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77]، لا مهرب من الله إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه الكل راجع إليه الكل مسئول بين يديه الكل موقوف بين يديه، الكل سيُسأل عن الصغير والكبير والنقير والقطمير: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92] فماذا عسى يكون الجواب؟!
ماذا عسى يكون الجواب يا أخا الإسلام ويا أخت الإسلام؟!
ألا فأعدي وأعدَّ للسؤال جواباً، ثم أعدي للجواب صواباً.
أطيعي الله يا أمة الله! وأطيعي رسوله صلى الله عليه وسلم، خذي من أوامر الله ما استطعتِ، واجتنبي نواهيَه، وقفي عند حدوده، وتمسكي بدين الله.(43/7)
الشعور بالمسئولية
ثم تمسكي بحيائك -والحياء من الإيمان- ما استطعتِ إلى ذلك سبيلا؛ فإنكِ إمَّا قدوة اليوم، وإما قدوة الغد، وكلٌ سيُسأل؛ فماذا سيكون الجواب؟
أنت راعية في بيتك أَمَة الله، وأنت راعية إن كنتِ معلمة في مدرسة، ومسئولة عن رعيتك أيّاً كانت تلك الرعية -يا أَمَة الله- ألا فلتكوني قدوة حسنة في تربية الجيل، ألا ولتقومي بهذه المسئولية؛ فإن الله سائلكِ عمَّن استرعيت ماذا فعلتِ؟ أَقُمتِ بالأمانة فيهم أم ضيعت الأمانة؛ ليكون لك مثل أجور من اتبعك إن عملت بالحق لا يُنقَص من أجورهم شيء، وإياك ثم إياك! أن تكوني قدوة السوء للأخرى؛ فتأتين يوم القيامة تحملين أوزارك وأوزار من أضللت كاملة، ألا ساء ما تزرين.
ألم تسمعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} ثم خصَّك -أيتها المرأة- فقال: {المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها} وفي الحديث الصحيح الآخر: {وما من راعٍ استرعاه الله رعية فبات غاشّاً لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة}.
أنت راعية في مدرستك في بيتك؛ فاللهَ اللهَ لا يأتي يوم القيامة ولكل ابن من أبنائك عليكِ مظلمة، ولكل بنت من بناتك عليكِ مظلمة؛ لم تأمريهم ولم تنهيهم، ولم تربيهم على قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إياكِ أن يأتي يوم القيامة، ولكل طالبة -إن كنت معلمة- عليكِ مظلمة؛ لأنكِ لم تربيهم على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، عندها التعامل بالحسنات والسيئات، يأخذون حسناتكِ، ثم تحملين من سيئاتهم، ثم تُطرَحين في النار، أجارَكِ الله من النار ومن غضب الجبار وكل مسلمة ومسلم.
اسمعي يوم يقف الناس في عرصات القيامة، يوم يقول الله -كما في الأثر-: {وعزتي وجلالي! لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي! لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم} [[يؤخذ بِيَدِ العبد ويؤخذ بِيدِ الأَمَة يوم القيامة -كما يقول ابن مسعود - فيُنادَى على رءوس الخلائق: هذا فلان أو فلانة من كان عليه حق فليأتِ إلى حقِّه، فتفرح المرأة أن يكون لها حق على أبيها أو أخيها أو زوجها أو أمها.
] {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون:101]، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
فاللهَ اللهَ لا يكون أبناؤك وبناتك خُصماءكِ عند الله فتهلكي، أجاركِ الله من الهلاك يا أَمَة الله! يا أيتها الأخت المسلمة.(43/8)
الاقتداء بالمرأة الصالحة
هل تريدين السعادة؟
اقتدي بالصالحات تفوزي في الحياة وفي الممات، واعملي صالحاً ثم اخلصي العمل لله -جل وعلا- تتخلصي، وبلغي العلم إن كنتِ تعلمين شيئاً، بلِّغيه لأنكِ ستُسألين عنه بين يدَي الله عز وجل ماذا عملتِ في ذلك العلم، وإن لم تكوني قد تعلَّمت من العلم شيئاً، فعليكِ أن تتعلمي ما يجب عليكِ؛ لتعبدي الله -عز وجل- على بصيرة وعلى هدى؛ فهذا واجب وفرض عين لا يسقط عن أي إنسان كائناً من كان.
يا أمة الله! إن الإنسان ليَأْلَم يوم يسمع عن عجائز في البيوت لا يُجِدْن قراءة الفاتحة، بل لا يعرفن كيف يصلين، بل لا يعرفن بعض أحكام النساء.
أحد الرجال -كما يذكر أحد الدعاة إلى الله- يعود إلى أهله في البيت في يوم من الأيام، ويُجلس أسرته ليربيهم، ويعرف ماذا وراء هذه الأسرة؟ فجلس معهم، وقال لأمه العجوز اقرئي لي الفاتحة، يريد أن يعرف هل هي تعرف قراءة الفاتحة التي لا تتم الصلاة إلا بها أم لا؟ قالت: وما الفاتحة يا بني؟ قال: إذا كبرتِ ماذا تقولين في صلاتكِ؟ قالت: أقول: لا جريت كتاباً، ولا حسبت حساباً، فلا تعذبني يوم العذاب.
عمرها سبعون سنة، وأنا أقول: ربما أنه يخرج من بيتها من يذهب إلى المتوسطة، وقد حفظ من القرآن ما حفظ، ويخرج من بيتها ويذهب إلى الثانوية، وقد حفظ ما حفظ، وتخرج من بيتها المعلمة وقد حفظت من كتاب الله ما حفظت، لكننا تعلمنا العلم لا لنعمل به، ولكن لتنال شهادة، حاشاكِ -أختي المسلمة- أن يكون هذا ديدنك، إنكِ مسئولة عن هذا {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟} فماذا سيكون الجواب يا أمهات المستقبل! ويا معلمات الجيل! ويا مربيات الأمة! اقتدي بالصالحات -كما قلت- وتشبهي بهم، واعملي بما عملوا به، وامشي على أثرهم ليلحقك الله عز وجل بهن.(43/9)
نماذج من النساء الصالحات(43/10)
موقف سارة زوج الخليل عليه السلام من طاغية مصر
ها هي سارة زوج الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اعتصمت بالله عز وجل، والْتجأت إلى الله عز وجل، وحفظت الله في الرخاء فحفظها الله عز وجل في الشدة، أُخذت من بيتها بالقوة من قِبَل زبانية طاغية مصر آنذاك، وقام إليها يريد فعل الفاحشة بها.
امرأة ضعيفة لكنها عزيزة قوية يوم تستمسك بحبل العزيز القوي سبحانه وبحمده.
قامت وتوضأت وقامت لتصلي، واتصلت بربها -سبحانه وبحمده- مباشرة، لا وسائط بين أحدٍ وبين الله سبحانه وتعالى قائلة: "اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي؛ فلا تسلط عليَّ هذا الكافر، اللهم اكفنيه بما شئت"، فجَمُد الكافر هذا مكانه لا يستطيع أن يتحرك منه شيء، يوم لجأت إلى الله وقد حفظته في وقت الرخاء، فحفظها الله عز وجل في وقت الشدة، جمُدَ في مكانه ولم يتحرك ولم يتزحزح، ثم يُطلق بعد ذلك، فيمدُّ يدَه مرة أخرى على زوج الخليل، فتتجمد أعضاؤه مرة أخرى، ويبقى على ما كان عليه في المرة الأولى، ثم يمد الثالثة، ثم يمد الرابعة، ثم في الأخيرة يقول لهم: ما جئتموني إلا بشيطان، أرجعوها إلى إبراهيم، وأخدموها هاجر.
لم ترجع سليمة محفوظة بحفظ الله فقط؛ بل رجعت ومعها مملوكة لها وهي هاجر عليها رضوان الله، رجعت إلى إبراهيم عليه السلام وهي محفوظة بحفظ الله؛ لأن الله عز وجل قد قال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} [الطلاق:2 - 3] وقد قال رسوله صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك}.
فالعز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذلَّه الله
فهلاَّ ائتسيتنَّ بها أيتها المسلمات! هلَّا لجأتُنَّ إلى الله وتركتنَّ ما يُبعدكنَّ عن الله، وعكفتُنَّ على كتاب الله وسنة رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فتعلمتُنَّ كتاب الله وعلمتنه وبلغتنه فكنتنَّ فيمن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.(43/11)
بعض مواقف فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليس هذا فحسب، هل كانت أسوتكِ -أختي المسلمة- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك التي تربَّت في بيت النبوة، وذاقت ما ذاقه ذاك البيت من أذى في سبيل الله عز وجل، ترى أباها صلى الله عليه وسلم وهو يقوم بالدعوة يقف صفاً واحداً، والبشرية كلها صفٌّ ضده.
تراه وهو يصلي، فيقول أحدهم: أيكم يُمهل هذا المرائي حتى يسجد، فيأخذ سَلى جَزور بني فلان، فيضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم؟
رأت المنظر وهي طفلةٌ صغيرة تتربى على "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، يسجد أبوها، والسَّلى -والفرث والدم- على ظهره صلى الله عليه وسلم ولم يجد نصيراً له في تلك اللحظة بعد الله إلا ابنته فاطمة، وهي جارية صغيرة لتمتد إليه وتأخذه من على ظهره، وتدعو عليهم وتسبهم وتشتمهم، عاشت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام كان في مكة، ويوم هاجر إلى المدينة، ويوم استقرَّ هناك.
انظر إليها في تمسُّكها بدينها، وتمسكها بعفتها وحيائها وصبرها العظيم، تلك المرأة التي تزوجت بـ علي رضي الله عنه وأرضاه، فما حملت معها الجواهر ولا الفساتين، وما دخلت القصور ولا الدُّور، وإنما دخلت بيتاً من طين.
أما جهازها -يا أمة الله- فهو وسادة محشوة بليف، وسقاء وجرتين، ورَحَى تطحن الحبَّ عليها، وهي سيدة نساء العالمين -رضي الله عنها- وأرضاها ما ضرَّها ذلك وما أنقص من قدرها ذلك.
انظر إليها يوم يتحدث عنها زوجها في آخر حياته، يتحدث عنها علي -رضي الله عنه وأرضاه- فيقول: [[كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت أكرم أهله عليه- جرت بالرحى تطحن الحب حتى أثَّر الجر في يدها، واستقت بالقربة حتى أثَّر الحبل في نحرِها رضي الله عنها وأرضاها، وقَمَّت البيت حتى تغيَّرت هيئتها رضي الله عنها وأرضاها، وأوقدت النار حتى تغيرت هيئتها، وأصابها من ذلك ضرٌ أيَّما ضر]].
اسمعي إليها يوم تقول -يوماً من الأيام-: [[خيرٌ للنساء ألا يَرَيْنَ الرجال، ولا يراهنَّ الرجال]].
بضعة منه صلى الله عليه وسلم أخذت من علمه وفقهه وحكمته صلى الله عليه وسلم.
انظري إليها يوم تَقمُّ البيت، وتوقد النار، وتجرُّ بالرَّحى، وتطحن الحب، وتصبر، ولم تتشكي، أو تسخط من قضاء الله عز وجل، ثم فوق ذلك تُربي أبناءها تربيةً عظيمة؛ تُربيهم على كتاب الله، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألَّا يُراقبوا أحداً غير الله عز وجل، فمن كان من أبنائها؟
كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة رضى الله عنهم أجمعين.
هي بنت مَنْ؟ هي أمُّ مَنْ؟ هي زوج مَنْ؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أمَّا أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعليٌّ زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تيَّاها
طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخدمها مملوكة من المماليك؛ فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: {لا والله! ما دام على الصفة فقير يحتاج إلى لقمة أو إلى كسرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى بيتها وقد تعبت من أعمال البيت، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها ليدخل بيتها وهي وزوجها في فراش واحد، ثم قال لهما صلى الله عليه وسلم: {أولا أدلكما على خير لكما من خادم} من الذي قال هذا؟ إنه من لا ينطق عن الهوى.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، قال: {إذا أويتما إلى فراشكما فَسَبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين؛ فذلكما خير لكما من خادم}.
هل فعلنا ذلك يا أيها الأحبة؟
بل هل علمنا نساءنا أن يذكروا هذا الذكر قبل أن يناموا؟
إنه من المعين على خدمة البيت.
يقول علي: [[والله ما تركته من بعد ذلك اليوم حتى لقيت الله -جل وعلا- قالوا: حتى ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين]] في وسط المعركة وفي وسط ما حصل ما نسيه رضي الله عنه وأرضاه.
إني أقول لكنَّ أيتها الأخوات: عليكنَّ بهذا فذلكنَّ خيرٌ لكنَّ من خادم هل تعلمين يا أَمَةَ الله! أن في بيوت المسلمين -الآن- سبعمائة وخمسين ألف خادم في هذه الجزيرة، ما بين مسلمة وبوذية ونصرانية ومجوسية، تولَّى هؤلاء، فماذا تولوا؟
تولوا تربية فلذات الأكباد، والله إن هذا لأعظمُ الغش، وأعظم ما تغشين به أطفالك ومجتمعك وأُمتك وبلادك - الجزيرة - التي لا يجوز دخول كافر إليها أبداً.
يا أيها الأحبة! عليكم بهذا الدعاء فذلكما خير لكما من خادم، اذكري فاطمة يا أيتها الأخت المؤمنة! ثم اذكري ما عليه بعض أخواتك في الرغبة الملحة من النظر إلى الرجال، والحديث مع الرجال، والاختلاط بهم، وتشبههن بالكافرات في لباسهن ومشيتهن.
وبالله يا أختي المسلمة! أنت قمَّة، وأنت فضيلة، وأنت طهر قمة بالقرآن فضيلة بالإيمان طهر بتمسكك بهذا الدين؛ فكيف تتشبه القمة بالسافلة؟ وكيف تتشبه الفضيلة بالرذيلة؟ وكيف يتشبه الطهر بالنجس؟
يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ويبقى العود ما بقيَ اللِّحاء
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إني لأذكركِ مرات ومرات بتلك المؤمنة الطاهرة التي يذكرها أهل السِيَر، بأنها قد قُتل لها ولد في إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة ومتحجبة، فقيل لها: كيف تبحثين عنه وأنت متنقبة ومتحجبة قد لا تعرفينه؟! فأجابت إجابة المؤمنة، إجابة من أطاعت الله: [[لأَن أفقد -والله- ولدي خيرٌ من أن أفقد حيائي وديني! إن الله خاطب رسوله قائلاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] والله ما أنا بخير من أمهات المؤمنين ولا من نساء المؤمنين ولا من بناته صلى الله عليه وسلم]].
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح(43/12)
بنت من بنات الأنصار واستجابتها لأمر رسول الله
وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رجلاً لخطبة بنت من بنات الأنصار له، ويأتي ويقول: رسول الله يطلب ابنتكم لي -وكان رجلاً فقيراً ودميماً- فما كان من الرجل إلا أن تردد، وما كان من الأم بعد ذلك إلا أن ترددت؛ فما كان من هذه المرأة التي تربت على الإيمان إلا أن خرجت، وقالت: أترُدَّان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين تذهبان من قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِيناً} [الأحزاب:36] ادفعوني إليه فإن الله لا يضيعني.
أرأيتم -يا أيتها الأخوات- الاستجابة لله عز وجل إذا قضى أمراً هو أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهلا كانت هذه أُسوة لكِ.(43/13)
سمية أول شهيدة في الإسلام
سمية: تعتنق الإسلام، وتُضَرب وتُؤذَى، يريدون أن يردُّوها عن دينها، وما نقموا منها إلا أن آمنت بالله الذي لا إله إلا هو فأبَتْ؛ لأنها علمت أنها على الحق؛ فماذا كان منها؟ تقدم إليها الشقي بحربته ليطعنها في موطن عِفّتها، ولسانُ حالها يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فكانت أول شهيدة في الإسلام بإذن الله سبحانه وبحمده.(43/14)
موقف آسية بنت مزاحم مع فرعون
ومن قبل هؤلاء: امرأة فرعون آسية التي آمنت في وسط بيت من يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النازعات:24] لم يصدها جبروته، ولم يصدها قوته، ولم يصدها طغيانه.
لما تبين إسلامها طلب فرعون منها أن ترجع عن دينها، فأَبَتْ وأنَّى لمسلم يعرف هذا الدين ثم يعود عنه وينكص على أعقابه؛ فماذا كان منه؟
أوْتدَ رجليها، وأوْتدَ يديها بأربعة أوتاد، ثم ربطها وألقاها في الشمس، ومنع عنها الطعام والشراب، وضربها ضرباً مبرحاً، وآذاها ووكَّل من يؤذيها، فقالت؛ ماذا قالت؟ وإلى من لجأت؟ لجأت إلى فاطر السماوات والأرض: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] روي أنها لما قالت ذلك رُفعت دونها الحُجُبُ حتى رأت بيتها في الجنة من دُرة بيضاء مُجوَّفة، فضحكت وهي تُعذَّب حتى قالوا: هذه مجنونة، تُعذَّب وتضحك؟!
يقول الضحَّاك: [[فأمر فرعون بعد ذلك بحجر يُلقى عليها، وهي في أوتادها؛ فما وصل الحجر إليها حتى أخذ الله روحها قبل ذلك، فصارت مثلاً للذين آمنوا]].
أرأيتم -يا أيها الأحبة ويا أيتها الأخوات- كيف تكون المؤمنة متعلقة بالله عز وجل فيحفظها سبحانه وبحمده؟(43/15)
امرأة تموت وهي ساجدة لله
قد تقولون: هؤلاء في عصر مضى، فسأذكر لكم نموذجاً من هذا العصر.
عجوز جالست النساء وهي تخشى الله عز وجل، وتعلم أن هذا اللسان لطالما أردى الكثير من الناس في حفرةٍ من حفر النار، وأوقعهم في أعراض المسلمين -وأعراض المسلمين حفرةٍ من حفر النار- ما كان من هذه المرأة يوم أن جالستهم؛ فلم تجد فائدة إلا أن اعتزلت بيتها؛ فهي تذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وتقرأ القرآن، واعتزلت النساء ولم تجلس معهن، وكان لها ولد بارٌ بها، وفي ليلةٍ من الليالي، قد كانت تقوم أكثر ليلها يوم أصبح قيامنا وقيام أهل بيتنا -إلا من رحم الله- على التمثيليات والمسلسلات، ونسأل الله أن يعصم قلوبنا أن نلقى الله على ذلك.
يا أيها الأحبة! كانت تقوم ليلها، وفي ليلةٍ من الليالي، وإذا بها تنادي ابنها في ثلث الليل الآخر، وتقول: يا بني! ها أنا على وضع سجودي لا يتحرك مني عضو واحد.
فما كان منه إلا أن أخذها وذهب بها إلى المستشفى، وهو بارٌ بها، يريد أن تعود إلى صحتها، نورٌ في البيت تذكر الله ليلاً ونهاراً، وذهب بها إلى الأطباء، وفعلوا ما فعلوا، وأنَّى لبشر أن ينجي من قدر؟ وأنَّى لِحَذَرٍ أن ينجي من قدَر، سألته بالله أن يعيدها إلى بيتها، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ووضَّأها، ثم قالت: أعِدني على وضع السجود كما كنت على سجادتي في آخر الليل، وإذا بها بعد فترة ليست بالطويلة تنادي ابنها، وتقول: يا بني! أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
لتلقى الله -عز وجل- وهي ساجدة؛ يغسلونها وهي ساجدة؛ ويكفنونها وهي ساجدة؛ ويذهبون ليصلوا عليها وهي ساجدة، تُحمل إلى المقبرة وهي ساجدة، وتدخل القبر وهي ساجدة، ومن مات على شيءٍ بُعث عليه، تُبعث بإذن الله ساجدة.
يا أيها الأحبة رجالاً ونساءً!
امرأة تقوم من الليل ما تقوم، وبعضنا لا يقوم من ليله ولو لساعة أو لنصف ساعة أو لدقائق أو لركعتين أو ثلاث يرجو بها رحمة الله، يرجو بها نفحة من نفحات الله عز وجل.
إني أقول: تشبهوا بهذه العجوز وقد منحكم الله ما لم يمنحها من الصحة والقوة.(43/16)
ابنة سعيد بن المسيب وغزارة علمها
وهاهي ابنة سعيد بن المسيب -عليه رحمة الله- وهذه مثل للأخوات المتعلمات؛ لما دخل عليها زوجها -وكان من طلبة العلم- أصبح في الصباح فأخذ رداءه يريد أن يذهب ليُثنيَ ركبته في مجلس سعيد بن المسيب أبيها.
فقالت: إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس أبيكِ سعيد أتعلمُ العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد؟ فوجد ما كان يتعلمه من سعيد عند ابنته.
هكذا تكون المرأة المسلمة، وهكذا تكون المعلمة الفاضلة، تصبح نوراً يَشِعُّ على زوجها وعلى بيتها؛ فلا يخرجون من البيت إلا طيبين وصالحين بإذن الله.(43/17)
عائشة رضي الله عنها العالمة الفاضلة
وإن نسينا فلا ننسى عائشة -رضى الله عنها- تلكم العالمة التي ماتت ولم تَخْطُ بعد إلى التاسعة عشر، وملأت الأرض علماً حتى قال فيها الزهري: "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل وأكثر وأفيد".
طلبت العلم ولم تعزف عن الزواج، كما يفعل بعض أخواتنا في هذه الأيام، يطلبون العلم فيعزفون عن الزواج.
تزوجت -يا أيها الأحبة- وهي في التاسعة أو أقل من ذلك، ولم تتعلم إلا قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تتعلم قصص الغرام والحب أو الأدب الإنجليزي، ولم تصرف وقتها إلا فيما ينجيها؛ كتاب الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنها وأرضاها، ووفق أخواتنا لتكون هي وأمثالها قدوة لهن.(43/18)
امرأة تشارك في الجهاد بضفائرها
وهاهو أبو قدامة الشامي يقف خطيباً في يوم من الأيام على المنبر يَعِظ الناس، ويذكرهم بفضيلة الجهاد في سبيل الله جل وعلا.
ماذا كان من هذا الرجل؟
خرج من المسجد، وقد اشْرَأَبَّتْ الأعناق للذهاب إلى القتال في سبيل الله، وخرج يمشي في شارع من شوارع مدينته، وإذا بهذه المرأة تقول: يا أبا قدامة! السلام عليك، فلم يرد عليها السلام؛ لأنه خشي أن تفتنه؛ لأن نبيه صلى الله عليه وسلم يقول: {فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} فلم يرد عليها في الأولى، ولا في الثانية، وفي الثالثة قالت: السلام عليك يا أبا قدامة! ما هكذا يفعل الصالحون.
قال: فتوقفت فتقدمت إليّ، وقالت: سمعتك وأنت تشحذ الهمم للجهاد في سبيل الله، وفتشت، فلم أجد -والله- أغلى عندي من ضفيرتَيْ شعري، فقصصتهما، فخذهما، واجعلهما لجاماً لفَرَسِك في سبيل الله؛ علَّ الله أن يكتبني من المجاهدات في سبيله.
ولا إله إلا الله تقصُّ ضفائرها لجاماً لخيل الله ولجند الله، وأخرى تقصُّ ضفائرها لتكون أشبه بالبغايا العاهرات، شتان بين مشرق ومغرب! شتان بين الفريقين!
يا أيها الأحبة! {من تشبَّه بقوم فهو منهم}.
أرأيتم هذه المرأة في اليوم الذي بعده؟ يقول أبو قدامة: وقد انطلقنا نريد الجهاد في سبيل الله، قال وإذا بطفل يأتي ويلحق بنا، ويقول: يا أبا قدامة! سألتك بالله أن تجيزني في القتال في سبيل الله.
قال: تطؤك الخيل بحوافرها.
قال: سألتك بالله إلا أخذتني.
قال: إن قُتلت تشفع لي عند الله شرط؟ قال: نعم.
فأخذه معه على فرسه، وانطلقوا حتى قابلوا الروم، وحينما قابلوهم قال: سألتك بالله ثلاثة أسهم.
قال: تضيعها إذاً.
قال: سألتك بالله ثلاثة أسهم، فأعطاه، فأخذ سهماً، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة! باسم الله، ثم أطلقه، فقتل رومياً، ثم أطلق الثاني فقتل رومياً، ثم أطلق الثالث فقتل رومياً ثالثاً، ثم جاءه سهم فضربه في لُبته، فأرداه من فوق الفرس وهو يقول: السلام عليك يا أبا قدامة! سلام مودع، ثم سقط فسقط وراءه أبو قدامة، وقال: لا تنسَ الوصية، لا تنسَ الوصية.
فما كان منه بعد ذلك إلا أن قال: خذ هذا وأعطِه أمي.
قال: ومن أمك؟ قال: أمي صاحبة الضفيرتين التي أعطتك إياها بالأمس.
أرأيتم إلى البيوت المسلمة يوم تُربَّى على لا إله إلا الله محمد رسول الله، المرأة مربية الأجيال.
والأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعباً طيِّب الأعراق(43/19)
صفية بنت عبد المطلب الصابرة المجاهدة
هاهي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تِلْكُم المرأة الحازمة التي ربَّتْ للأمة أول فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله، توفي عنها زوجها وترك لها الزبير -وهو طفل صغير- فنشَّأته على الخشونة والبأس، وربَّتْه على الفروسية، لم تُنشِّئْه على التنعُّم والترفُّه والميوعة حتى أصبح الأطفال والرجال -الآن- أشباه رجال ولا رجال، جعلت لعبَه في برْيِ السهام وإصلاح القسي، لم تجعل لعبه في لعب الكرة، وفي مطاردة الدراجات في الشوارع يميناً وشمالاً؛ يتسكعون.
كانت تقدمه في كل مخوفة، وكانت ترميه في كل خطر؛ تريد أن يكون لَبِنَة صالحة في هذا المجتمع؛ فإذا تردد عنها ضربته وأوجعته، حتى إنَّ أحد أعمامه يوماً من الأيام قال لها: إنكِ تضربينه ضربَ مبغضةٍ لا ضرب أم، فارتجزت قائلة:
من قال قد أبغضته فقد كذب وإنما أضربه لكي يَلُبَّ
ويختم الجيش ويأتي بالسلب.
هاجرت إلى المدينة النبوية، وهي تقفو إلى الستين من عمرها، تركت مدارج الشباب، وتركت مكة، وهاجرت بدينها فارَّةً إلى الله -جل وعلا- في المدينة، شاركت في يوم أحد لما رأت ما حل بالمسلمين، وهي تسقيهم بالماء، هبَّت كاللبؤة، وانتزعت رمحاً من أَحَد المنهزمين، ومضَتْ تشق الصفوف به، وتزأر وتقول: [[ويحكم أتنهزمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟]] فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم خشيَ أن ترى أخاها حمزة وقد مثَّل به المشركون؛ فما كان منه إلا أن أشار إلى ابنها الزبير، وقال: {دونك أمك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير: [[يا أماه! إليكِ يا أماه إليكِ.
قالت: تنحَّ عني، لا أمَّ لك.
فقال: إن رسول الله يأمركِ أن ترجعي.
قالت: الأمر أمر الله وأمر رسوله]] فتوقفت.
ثم قالت: [[والله لقد بلغني أنه مُثِّلَ بأخي حمزة ولأصبرنَّ، وذلك في ذات الله وفي سبيل الله]] ثم انتهت المعركة، وما كان منها إلا أن وقفت على أخيها وقد بُقرَ بطنُه، وأُخرِجت كبدُه، وجُدِع أنفه وأُذناه، وشُوِّهَ وجهُه، فاستغفرت الله له، وجعلت تقول: [[في ذات الله، لقد رضيت بقضاء الله لقد رضيت بقضاء الله]].
لم تلطم خدّاً، ولم تُشق جيباً، ولم تنُحْ، وما كان لها أن تكون كذلك.
وها هي في يوم الخندق يوم وضع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في حصن حسان -وهو حصن من أمنع الحصون- ولم يترك معهن من الرجال، فذهب الجيش إلى الخندق، وما كان منها إلا أن رأت يهودياً يتسلل إلى القصر، وإلى هذا الحصن يريد أن ينظر هل في الحصن رجال أم يستخلي اليهود بهذا الحصن؛ ليسلبوا النساء والذراري؟
لما رأته أخذت عموداً من الحصن، ثم هجمت عليه حتى قتلته، ثم لم تكتف بذلك فاحتزت رأسه واقتطعته، وأخذته وخرجت إلى أعلى الحصن، ثم رمَتْ برأسه على اليهود يتدحرج بينهم، فقالوا: قد علمنا أن محمداً لن يترك النساء بلا رجال.
رضي الله عن صفية، ربَّت وحيدها أحسن تربية، وأُصيبَتْ في شقيقها، فاحتسبت ذلك، وعملت لهذا الدين، وحملت همَّ هذا الدين، وهكذا يكون نساء المسلمين أيتها الأخوات.(43/20)
أم الإمام أحمد وتربيتها له
إن النماذج لكثيرة كثيرة لكني أقف مع نموذج أخير أو قبل الأخير، وهو مع أم الإمام أحمد الذي يموت أبوه عنه وهو صغير، فتكفله أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة، تقوم بتربيته، وهذا دور المرأة يوم تكون صالحة.
تنتج اللَّبِنات الصالحة، نشَّأت ابنها على حب الله ورسوله، وعلى حب كتاب الله، يقول أحمد: "حفَّظتني القرآن وعمري عشر سنوات"، ومن حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيْه.
يقول: كانت توقظني قبل صلاة الفجر بوقت ليس بالقصير، وتدفئ لي الماء؛ لأن الجو كان بارداً في بغداد، وتُلبسُني اللباس، ثم نصلي أنا وإياها ما شئنا، ثم ننطلق إلى المسجد وهي مختمرة؛ لأن الطريق كان بعيداً مظلماً موحشاً لتصلي معه صلاة الفجر في المسجد -وعمره عشر سنوات- وتبقى معه حتى منتصف النهار لتعلمه العلم، ولتربيه التربية؛ ليكون لَبِنَةً صالحة ينفعها يوم تقْدمُ على الله جل وعلا.
يقول: فلما بلغت السادسة عشرة قالت: يا بُني! سافِرْ في طلب الحديث؛ فإن طلب الحديث هجرة في سبيل الله.
أعدت له بعض متاع السفر من أرغفة الشعير، ومن صُرَّة ملح، ومن بعض مستلْزَمَات السفر، ثم قالت: إن الله إذا استُودِع شيئاً حفظه، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
ذهب من عندها إلى المدينة، وإلى مكة، وإلى صنعاء ليعود الإمام أحمد، وقد قدَّم للأمة ما قدَّم ولأمه -إن شاء الله- من الحسنات مثلما عمل أحمد، ومثل من يعمل بعمل أحمد إلى أن يلقى الله بمنِّه وكرمه، والخير في الأمة كثير وكثير.
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفَضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال
هل أعجبتكِ خصال هؤلاء النساء؟
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يمنعك(43/21)
المؤامرة الكبرى على المرأة المسلمة
يا أيتها الأخت المؤمنة! إن أعداءك كُثْرٌ، وإنما يريدون استغلالكِ لهدم الدين والحياء والفضيلة كُثْر كُثْر، وقد يكونون ممن يتكلمون بألسنتنا، ومن بني جلدتنا.
يقول أحدهم: لا تستقيم حالة الشرق إلا إذا رفعت الفتاة حجابها عن وجهها وغطَّت به القرآن الكريم!!
ويقول آخر: كأس وغانية تفعلان بالأمة المحمدية ما لم تفعله المدافع والقذائف؛ فأغْرِقوهم بالشهوات والملذَّات؛ فما موقفكِ أمَةَ الله من هؤلاء؟
إن الموقف المنتظَر مِنكن هو الاعتصام بدين الله والوقوف عند حدود الله، ولكننا نرى -ويا ليتنا ما نرى- أحياناً الكاسية العارية، نرى أن بعض النساء تتصور أن السفور هو كشف الوجه فقط! لا، ذاك شيء، ومعه -أيضاً- السفور الذي لو غَطَّت المرأة وجهها قد يكون أحياناً برؤيتها، وكأنها تمشي في صالة عرض، تُبدي مفاتنها، وتُخرج محاسنها.
إن من السفور لبسَ الضيق، إن من السفور لبس العباءة الخفيفة الجذابة في منظرها، السفور بلبس القصير والخفيف من الملابس، أهان عليكِ -يا أختي المسلمة- أن تلبسي لباس أهل النار، ألم تسمعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرَهما بعد -وذكر منهن:- نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأَسْنِمَةِ البُخْت المائلة، لا يدخلْنَ الجنة ولا يجدْن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}.
ألا هل ترضين أن تكوني من أهل النار؟
هل ترضين أن تخرجي من آداب القرآن والسنة إلى عادات قوم أخذوها من اليهود والنصارى؟
هل ترضين أن تكون ابنتكِ وثمرة فؤادك من أهل النار؟
هل ترضين أن تُلبسي بناتك لبساً تتعرَّى به من الحياء، والحياء من الإيمان؟!
هل ترضين لابنتك أن تُعرَض كما تُعرَض السلع فاتنة ليتعلق بها كل سافل وحقير ومهين ورذيل؟
هل ترضين أن تَلبسي أو تُلبسي لباس أهل النار؟
لا -يا فتاة الإسلام- لن ترضَيْ، ولا ترضَيْ، وهذا هو المأمول، حصنكِ الحصين دينكِ العظيم؛ يحافظ على عفتكِ وحيائكِ وفضيلتكِ، يأمرك بالحجاب والاحتشام، متى ما تركتِ هذا الأمر كنت عرضة لعذاب الله في الآخرة، وفي الدنيا عرضة للذئاب البشرية التي تريد عفافك الذي به تشرفين، تريد أن تفجعك بعفافك لتتجرعي الغُصص مدى الحياة.
وبعض أخواتنا-هداهُنَّ الله- يسمعْن لنداء الذئاب، ويسعين لهم.
حالهن كقول القائل:
قطيع يُساق إلى حتفه ويمشي ويهتف للكافرين
يا فتاة الإسلام! الأيادي الماكرة الخبيثة تمتد إليكِ في صورة مقالات ساحرة في صورة مجلات خليعة في صورة مسلسلات فاتنة في صورة كلمات أدبية في أعمدة الصحف تريد إخراجكِ إلى الشقاء والتعاسة؛ فكم من مقالة تقول: إن الإيمان في القلوب لا في ستر الوجه والجيوب، و {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف:5].
إنهم يريدون منك الخطوة الأولى: -وهي أصعب خطوة، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة- يريدون أن تكوني فاجرة عاهرة سافرة حاشاكِ من ذلك، ينتظرون منكِ بفارغ الصبر أن تلقي العباءة وتتخلصي من الحجاب ومن مستلزماته من الإيمان والحياء والطهر، ثم تتركي الصلاة، ويومها تقرُّ أعينهم؛ فيلعبون بكِ لَعِب الأطفال بالكرة، ويعبثون بك عبث الكلاب بالجِيَف -حفظكِ الله منهم- أغيظيهم بعدم الالتفات إليهم والسماع لهم، اقتليهم حسرة بتوفير حيائك وملازمة حجابك؛ فإنما أطمعهم في الوصول إلى غاياتهم ما لاحَ لهم من النجاح في سماع منكِ لمختلف الأغنيات والمسلسلات والأفلام الماجنات، أغراهم بالوصول إلى بعض فتياتنا الخروج إلى الأسواق، والوقوف أمام الباعة من غير ما ضرورة، والتجوال في الشوارع والأسواق، ألستِ تؤمنين بالله واليوم الآخر؟
ألستِ ترجين الله والدار الآخرة؟
إن عُرف هذا؛ فاعلمي أن الله حرَّم السفور كما حرَّم الفسق والفجور، وأمر المؤمنات بغضِّ الأبصار وحفظ الفروج، ونهاهنَّ عن إبداء شيء من الزينة؛ بل أمر أن يقَرْن في بيوتهن فلا يخرجن من غير ما حاجة، وإذا خرجن لحاجة فليخرجن متسترات غير متجملات ولا متعطرات وبإذن وليِّهن: {أيَّما امرأة خرجت بغير إذن وليها فهي في سخط الله حتى ترجع، وأيما امرأة استعطرت ومرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية}.
ألا فلتمشين متواضعات في أدب وحياء، ألا لا تتخذن -خلاخل أو ما يشبه الخلاخل- ولا أحذية تضرب الأرض بقوة فيُسمَع قرعها، وربما أوقعت في القلوب شيئاً، فإن الله يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور:31] {لا تخلونَّ امرأة بغير ذي محرم لها}، {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
لا تصافحي الرجال؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدت إليه يد امرأة تبايعه، فقال: {إني لا أصافح النساء}.
اتقين الله -أيتها الأخوات- فإنه لا صبر لكُنَّ على النار، إنكنَّ تصبرْنَ على الجوع وعلى الضر وعلى التكاليف، لكن -والله- لا صبر لكُنَّ على النار.
أجاركن الله وكل مسلمة من النار.
أيتها الأخوات! لا تتَّبعْن خطوات الشيطان؛ فإنه يأمر بالسوء والفحشاء.
يا من آمنت بالله! ويا من سجدت لله! ويا من استترت بستر الله! حذارِ حذارِ من السقوط؛ فإن السقوط إلى النار وبئس القرار، حذارِ حذار يا بنت عائشة وحفصة وسارة وزينب وأسماء أن تغتري بزيف حضارة الغرب المادية؛ فهي زَبَدٌ اكتووا هم بنارها؛ فاستمعي واعتبري.
واعرف الشر لا للشر لكن لتوقِّيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه(43/22)
أخبار وأحداث مؤلمة
نشرت إحدى الصحف الأمريكية استقراءً خطيراً في إحدى جامعاتها في سنة واحدة: ثبت أن عشرين ألف فتاة حملن من الزنا -نعوذ بالله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن- وأن أمريكا تستقبل مليون طفل من الزنا والسفاح سنوياً، وتعاني من مشكلة رعاية هؤلاء الأطفال الآن.
وفي إحصائيات للتليفزيون الفرنسي بلغ عدد العازبات من النساء ثمانية ملايين امرأة، وبلغت حوادث اغتصاب الفتيات اثنتين وعشرين ألف حالة سنوياً.
كاتب أمريكي يقول: إن إحصائيات عام تسعة وسبعين للميلاد تدق ناقوس الخطر؛ فعدد اللواتي يلدن سنوياً دون زواج في سن المراهقة ستمائة ألف فتاة، منهن عشرة آلاف دون سن الرابعة عشرة.
ومع ذلك يقولون -وكبرت كلمة تخرج من أفواههم-: إن الحجاب وعدم الاختلاط كبْتٌ جنسي، ومع ذلك تجد الواقع يُكذبهم، أين اثنان وعشرون ألف حالة سنوياً من الاغتصاب عندهم؟! أين هذا الكبت الذي يقول: بأنه لا يعيشه إلا المسلمة التي تأتمر بأمر الله؟! حالات الاغتصاب -كما سمعتن- لا تُحصى، ونكاح الرجل ابنته وأمه وأخته مألوف ومشهور، عافانا الله وإياكم من الفسق والفجور.
وفي بريطانيا عشرون ألف حالة إجهاض سنوياً، ناهيك عن الأمراض التي طمَّت وعمَّتْ كالإيدز والسيلان والهربز.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -قبل أربعة عشر قرناً-: {وما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى أعلنوا بها؛ إلا ظهرت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم}.
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر:31].
يا فتاة الإسلام! إنهم يريدون لمجتمعنا أن يكون كمجتمعهم {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فانتبهي واحذري يا أخت الإسلام! أنت أمام داعييْن: داعٍ إلى النار والعار والشنار؛ ففرِّي منه فرارك من الأسد، وداعٍ إلى الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعل من أكبر اهتماماته المرأة، خاطبها، ووعظها، وبالله ذكَّرها وأبكاها، كان يصلي العيد، ثم ينتقل إلى النساء، فيعظهنَّ، ويذكرهن بالله، ويربيهن على الإيمان، وهديه صلى الله عليه وسلم موجود بيْن أَيْديكنَّ، وخيرُ الهدي هديُه صلى الله عليه وسلم فالْزموه.
في وقت ستجدين فيه من يستهزئ بكِ، ويريد منكِ أن تكوني غربية سافلة ساقطة.
ستجدين من يقول للحجاب: خيمة!! ولقد قيل وكبرت كلمة تخرج من أفواههم.
ستجدين من يقول: عليكِ أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة! وستجدين من يقول: آن لكِ أن تمزقي حجابك وتمشى سافرة، يدعونكِ إلى جهنم إن أجبتيهم قذفوكِ فيها؛ فليكن جوابك: اخسئوا.
لأني مولعة بالحق لستُ إلى سواه أنحو ولا في نصره أئنُّ
دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن(43/23)
أسماء بنت أبي بكر وحملها هم الإسلام
ولنقف مع نموذج هنا وهو وقفة عظيمة أخيرة، وقفة تأمل وتدبر لابد أن نقفها مع هذا النموذج، إنه مع نموذج فريد، مع نموذج درس وحده لنقف مع أسماء رضى الله عنها وأرضاها ذات النطاقين، الصدِّيقة بنت الصديق التي حظيت بموقف لم تحظَ به امرأة قبلها ولا بعدها ولا حتى الرجال، ألا وهو خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها في الغار، في طريق الهجرة إلى المدينة النبوية، حدثٌ لم يتكرر، وخدمة لن تتكرر.
تزوجت بـ الزبير -رضى الله عنه وأرضاه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضيت به زوجاً؛ لأنه ابن الدعوة الذي شهد فجرها كما شهدتها هي، ولأنه ابن الدعوة الذي ذاق حلاوة الأذى في سبيلها كما ذاقتها هي، إنهما يشتركان في الإيمان والدعوة والشجاعة.
انتقلت من بيت أبيها إلي بيت زوجها المتواضع، لم تحمل جواهر، أو فساتين، وإنما تحمل همَّ مستقبل الإسلام بين أضلاعها ومصير الدعوة.(43/24)
خدمة أسماء لزوجها الزبير
تقول ذات يوم: [[تزوجني الزبير، وما له في الأرض مالٌ ولا مملوك غير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وكنت أكفيه مئونته، وكنت أقوم فوق ذلك بأعباء بيته]].
واسمعوا -يا أيتها الأخوات- لم تكن أسماء عبئاً على زوجها الزبير بما لها من مطالب دنيوية ورغبات ذاتية؛ لأنها لم تطلب الدنيا للمتعة، ولم تطلب من زوجها أن يكون لها لوحدها يحقق رغباتها، ويسعى لتوفير السعادة لها؛ بل كانت هي في خدمة زوجها تسعده وترضيه، وتقف وراءه، وتحتسب ذلك، فهو على ثغر في خارج البيت، وهي على ثغر في داخل البيت، وهذه هي القسمة العادلة، وهكذا تكون الأسرة المسلمة.
فأين تقف المرأة المسلمة اليوم مع زوجها في دعوته؟ هل تتعهده بالطمأنينة؟ هل تشحنه بالعزيمة؟ هل تقف صفّاً وراءه، وتتخلى عن بعض رغباتها في سبيل الله؟ أم أنها تقف عقبة تُعيقُه في طريق دعوته ورسالته، إني لأدعو الأخوات إلى دفع الأزواج، والأبناء، والإخوان، والأخوات إلى الإصلاح والدعوة والعلم، ولهن في أسماء قدوة ونعم القدوة.(43/25)
تربية أسماء لأبنائها
لا زلنا نعيش مع أسماء ويرزقها الله -جلَّ وعلا- بـ عبد الله، فتربيه تربية المؤمنات، تُتحفُّ سمعه وقلبه بمبادئ هذا الدين، تُتْحف سمعه -صباحاً ومساءً- بتلاوة آيات الله البينات على آذانه، تُتْحِف سمعه وقلبه بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار حتى شبَّ وترعرع، وأبواه لا يفتران عن تعليمه أمور الدين، وتربيته على الإسلام، حتى إنه ليقتحم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، وهو لا يزال صغيراً؛ فيتبسم صلى الله عليه وسلم يوم جاء يبايعه، ويقول: {إنه ابن أبيه، إنه ابن أبيه} كما روي عنه صلى الله عليه وسلم.
فهل تعي الأمهات مسئولية الأبناء؟ نرجو ذلك.
إن المرأة الغارقة في الرفاه والتنعم والترف، والتي تستهلكها الدنيا من طعام وشراب، وزينة وتفاخر، ومظاهر براقة لا تربي الأطفال، ولا تربي العلماء، ولا تربي الأتقياء؛ إنما تربي التنابلة والبطَّالين، والكسالى والخاملين، والعالة على المجتمع المتسكعين؛ أشباه الرجال ولا رجال.
انظرن -يا أيتها الأخوات- لـ أسماء في أحْلَكِ المواقف، وقد بلغت السابعة والتسعين من عمرها، يوم حوصر ابنها في الحرم، فيدخل هو عليها يستشيرها في الموقف؛ ماذا يفعل.
فقالت بثبات المؤمنة المربية: [[أنت أعلم بنفسك يا عبد الله! إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق؛ فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، قال: يا أماه! والله ما أردت الدنيا، وما جُرْتُ في حكم، وما ظلمتُ، وما غدرت، والله يعلم سريرتي وما في قلبي.
فقالت: الحمد لله! وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن سبقتني إلى الله، تعانقَا عناق الوداع، ثم قالت: يا بني! اقترب حتى أشمَّ رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك، فأكبَّ على يديها ووجهها يلثمها ويقبلها، وتشتبك دموعه بدموعها وهي تتلمسه -عمياء لا ترى- ثم ترفع يدها، وهي تقول: يا عبد الله! ما هذا الذي تلبسه؟ قال: درعي.
قالت: يا بني! ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك؛ فهو أقوى لوثبتك، وأخفُّ لحركتك، والبس بدلاً منه سراويل مضاعفة؛ حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك]].
نزع درعه، وشدَّ سراويله، ومضى إلى الحرم، وهو يقول: يا أماه! لا تَفْتُري عن الدعاء، فرفعت كفَّها وقلبها إلى الله قائلة: [[اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر مكة والمدينة وهو صائم، اللهم إني قد أسلمته إليك، ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين]].
ويذهب ويصلي طوال ليلته تلك، ويصلي بالناس الفجر، ثم يحمد الله، ويثني عليه، ويحرض أصحابه على القتال، ثم ينهض ليقاتل، وتأتيه ضربة في وجهه، يرتعش لها ويسيل الدم على وجهه، فيقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا يقطر الدَّما
ثم سقط فأسرعوا إليه، فأجهزوا عليه، فارتجت مكة بالبكاء عليه -عليه رحمة الله- ثم لم يكتفوا بذلك، بل صلبوا جسمانه كالطود الشامخ في ريع الحجون.
عُلو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المكرمات
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم واقفوا قياماً للصلاة(43/26)
صبر أسماء عند مقتل ابنها عبد الله بن الزبير
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة، العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب كالطود الشامخ، وتقترب منه، وهي لا ترى وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان، ويقول: يا أمَّه! إن الخليفة أوصاني بكِ خيراً، فتصيح به: [[لست لك بأم، إنما أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم]]، ويتقدم ابن عمر مخاطباً عبد الله المصلوب: السلام عليك يا أبا خبيب! السلام عليك يا أبا خبيب، والله ما علمتك إلا صوَّاماً قوَّاماً وصولاً للرحم، أما وقد قال الناس: إنك شرُّ هذه الأمة، أما والله لأمةٌ أنت شرُّها لأمة خير كلها -ثم الْتفت إلى أصحابه قائلاً-: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، ويتقدم ابن عمر إلى أسماء معزياً مواسياً، ثم يقول لها: اتقي الله واصبري، فقالت -بلسان الصابرة المؤمنة الواثقة بموعود الله-: [[يا ابن عمر! وماذا يمنعني من الصبر وقد أُهِدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغِيٍ من بغايا بني إسرائيل؟!]] أرأيتنَّ ما أعظم الأم المربية! وما أعظم الابن المربَّى! لم تلطم خدّاً، ولم تشق جيباً، ولم تنُح، وإنما سلَّمت الأمر لله، فلله الأمر من قبل ومن بعد: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة:155 - 156].(43/27)
لتكن القدوة أسماء
انظرن -أيتها الأخوات- إلى أسماء يوم يقدم ابنها المنذر بن الزبير، فأرسل إليها بكسوة من بلاد مرو، كسوة رقاق عتاق، وهي لا ترى، فقامت تتلمس هذه الكسوة، ثم قالت: [[أفٍ أفٍ.
ردوا عليه كسوته]]، فشقَّ ذلك على ابنها، وقال: [[يا أماه! إنه لا يشفُّ -يعني: لا يشف عما تحته- قالت: إن لم يشفّ فهو يَصِفُ، إن لم يَشفّ فهو يَصِفُ]] فاشترى لها ثياباً أخرى لا تشف وأعطاها، فقالت: [[مثل هذا فاكسني يا بني، مثل هذا فاكسني يا بني]] رحم الله أسماء لو رأت ما يصنع بعض نساء المسلمين اليوم، وما يلبسه بعض حفيدات أسماء وخديجة وسمية وصفية ماذا يكون الجواب؟
إننا لنعجب والله من أُذن تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار -وذكر منهم- نساءٌ كاسيات عاريات مائلات مميلات -إلى أن قال-: لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسافة كذا وكذا}، ثم لا نزال نرى في بعض المسلمات -هداهنَّ الله- من تلبس الضيق، وتلبس الشفاف، وتجمع الحشف وسوء الكيل؛ فتلبس القصير والضيق والشفاف.
كأن الثوب ظل في صباح يزيد تقلصاً حيناً فحيناً
تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرين
إنه وعيد شديد، وزجر أليم، ماذا بعد الحرمان من الجنة ورائحتها الزكية التي توجد من مسيرة ألف عام وأكثر، إلا النار؟!
يا أيتها المسلمة! إنكِ في هذه الحياة يوم تخالفين أمر الله، تقعين في الوعيد الشديد.
يوم تجوبين الأسواق سافرة، وتقفين مع باعة الأغنيات والمجلات والفيديوهات ماجنة لتحطِّي من قدركِ في هذه الحياة؛ فلا عفاف ولا حياء، والحياء من الإيمان، ثم تتنازلين شيئاً فشيئاً حتى تقعي فيما نسأل الله أن يجيرك منه، وإذا وقعت بالطبع لا أحد -حتى الفجرة- يريدون رؤيتك بهذا المستوى.
إذا سقط الذباب على طعامٍ رفعتُ يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه(43/28)
تحذير للنساء وتذكير ونذير
فيا أيتها المسلمة المصلية الساجدة! يا من خضع رأسك للحي القيوم! وخشع له سمعك وبصرك، ألا يكفيكِ زاجراً حديث رسول الله الذي سمعتيه آنفاً، والله إنه لعظيم لو صُبَّ على الجبال الراسيات لأذابها، فأي شيء بعد الحرمان من دار النعيم، وهل هناك دار إلا الجنة أو النار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها(43/29)
تذكير بالله والدار الآخرة
فارفعي رأسك أختي المسلمة، وانظري بعين بصيرتك إلى أُمهاتك وأخواتك من خير سلف الأمة، وسلي الله اللحاق بهن، واعملي عملهن، علَّكِ أن تلحقي بهن؛ فتُحشَري معهن، والمرء مع من أحب.
يا أمَةَ الله! راقبي الله، وقومي بما أوجب الله عليكِ من تكاليف، وادعي إلى الله ما استطعتِ إلي ذلك سبيلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا ممن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] وإذا قسا قلبك فتذكري كرباً بيد من سواك، لا تدرين متي يغشاك، إنه الموت الذي لا بُدَّ منه: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
يا أمة الله! تذكري يوم يأتيكِ منكر ونكير، فيسألانِك: من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيُّك؟ كيف بكِ إذا صاح إسرافيل، ونفخ في الصور، وجُمِعْتِ مع الخلائق حافية عارية ذاهلة، قد دنت الشمس منك قدر ميل، ونادى الرب أبانا آدم: يا آدم! أخرج بَعْثَ النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعْثُ النار؟ فيقول الله عز وجل: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون، عند ذاك يشيب الصغير، وتذهل المرضعة عما أرضعت: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
كيف بكِ يا أمة الله! إذا رُجَّت الأرض، وبست الجبال، وشخصت الأبصار، وخشعت الأصوات للرحمن؛ فشاب الصغير، وزفرت النار، وتقطعت الأسباب، وصاح الكبير: واشيبتاه، وصاح المفرِّط: واخيبتاه، وأَزِفَتِ الآَزفة، وبلغت القلوب الحناجر، وتوالت المِحَن على العباد، ونُوديتي باسمك من بين الخلائق للحساب، ما حالك عندها يا أمة الله؟ لا إله إلا الله! أين عُدتُك أيتها الغافلة؟ كم في كتابك من حسنات؟ كم فيه من سيئات؟ هل تنفع الأزياء والموديلات؟ هل تنفع الأغاني والمسلسلات والتمثيليات؟ هل تنفع الفيديوهات والتليفزيونات والإكسسوارات؟ هل تنفع الجواهر والمجوهرات؟
ألا فتوبي قبل ألا تستطيعي أن تتوبي واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب.
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب(43/30)
تحذير من التبرج والسفور
ألا فازدادي من الحسنات، والحسنات يُذهبن السيئات؛ فوالله ما بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار، والله لَلْجنَّة أقرب من شِراك النعل، والنار كذلك.
اتقي الله! يا ابنة الإسلام.
اتقي الله! يا من تخرجين إلى الأسواق متبرجة.
اتقي الله! يا من تلبسين العباءة للزينة لا للستر.
اتقي الله! يا من كلَّفكِ الله بمهمة عجزت عن حملها السماوات والأرض.
اتقى الله! وصوني نفسك من أن تكوني ألعوبة في يد ضعاف الإيمان.
اتقي الله! يا من تزاحمين الرجل، وتخرجين مع الرجل الذي ليس بمحرم لكِ كالسائق وغيره.
اتقي الله! يا من تدخلين على الطبيب بدون محرم ودونما ضرورة.
اتقي الله! يا من تربي أبناءها تربية البهائم؛ فلا تذكرهم بالله ولا تَعِظُهم.
اتقي الله! يا من تتعطر وتخرج حتى إلى الصلاة؛ فإن رسول الله قد نهى عن ذلك، يقول: {أيما امرأة أصابت بخوراً؛ فلا تشهدْ معنا العشاء الآخرة} كما رواه مسلم.
اتقي الله وارجعي إلى الهدى قبل يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، واعلمي أن عذاب الله شديد، وأن الدنيا ليست مقراً، وأن الفضيحة أمام الأولين والآخرين عظيمة؛ فاتقي الله، ثم اتقي الله، ثم اتقي الله.
ووفَّقكنَّ الله جميعاً -أيتها الأخوات- لما يحب ويرضى، ووفَّقنا الله جميعاً لما يُحبُّ ويرضى.
نسأل الله أن يحفظ فتيات المسلمين من كيْد الكائدين، وتربص المتربصين.
اللهم اجعلهن من الصالحات، وبالصالحات مقتديات، وعن الضلال معرضات، وللكتاب والسنة متبعات.
اللهم اجمعهن -كما جمعتهن في هذه الروضة- على الإيمان، وفي الآخرة في جنات ونهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم وفِّقنا للقيام بمسئولياتنا -أيها الرجال- فنحن القوَّامون على النساء.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتال من تحتنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلا والجود
وعلي النبي محمد صلواته ما ناح قُمَريٌ وأورق عود(43/31)
الأسئلة
.(43/32)
دور المرأة الداعية
السؤال
هل من وصايا للمرأة الداعية؟ وما هو دورها في موقعها؟
الجواب
أقول للأخت المسلمة الداعية/ والمفترض في كل أخت مسلمة أن تكون داعية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {بلِّغوا عني ولو آية}.
أقول لهذه الأخت: أوصيكِ ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي جامعةُ كل خير، وهي منطلق كل داعية؛ فمتى اتقيت الله عز وجل نجَّاكِ الله في الدنيا والآخرة، ثم عليكِ بالرفق واللين: {فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزِعَ من شيء إلا شانه}.
ثم عليكِ -يا أيتها الأخت- أن تعلمي أن وسائل الدعوة ليست بالكلام فقط، وأن وسائل الدعوة كثيرة كثيرة، وأعظمُها أن تكوني قدوة في لباسك، وفي مشيتك، وفي كلامك، وفي كل أمورك؛ فتلك -والله- هي الدعوة العظيمة، وعندها يقبل الله عز وجل عملك، وتقع الكلمة من الناس موقعاً جميلاً.
ثم بعد ذلك: إن من الوسائل الشريط، الشريط إذا رأيتِ منكراً من المنكرات؛ فلا بأس أن تأخذي هذا الشريط، وتقدميه لأختك، وتقولي: اسمعي هذا، ولعل الله -عز وجل- أن ينفعكِ به بالرسالة بأمور كثيرة ووسائل الدعوة لا تخفى علينا ولا عليكم إن شاء الله تعالى، وارجعوا إلى بعض الكتب التي تدعو وتوصي، وكل كتب المسلمين تدعو إلى ذلك.(43/33)
حكم مقابلة غير المحارم
السؤال
في بعض الأحياء -وذكر الحيَّ- الزوجة تقابل أخا الزوج، وكذلك الزوج يقابل أخت الزوجة، أرجو التوجيه؟
الجواب
أما التوجيه؛ فأقول قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أفرأيت الحموَ يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت، الحمو الموت، الحمو الموت}.
اسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يحفظ علينا بيوتنا، وأن يحفظ علينا أنفسنا، وأن يحفظ علينا أولادنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(43/34)
الإيمان والحياة
إن من أراد أن يعيش الحياة فعليه بالإيمان، فالإيمان هو الحياة، لذا فلا ينبغي أن يكون الإيمان أمراً هامشياً بل لا بد أن يكون هو قضية القضايا في هذه الحياة، فإن السلف عندما عاشوا حياتهم كما يريد الله وجدوا لذة الإيمان، ولما تركناها نحن لم نجد لا طعم الحياة ولا طعم الإيمان.(44/1)
أهمية الحديث عن الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلْفاً.
اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت به نبيا عن أمَّتِه، اللهم وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته.
اللهم أوردنا حوضه، واجعلنا من أتباع سنته وشرعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بسنته.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً، والباطل باطلاً.
اللهم وفقنا لاتباع الحق، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ابتغاء وجهك، وطلب مرضاتك: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران:193]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وبعد:
أحبتي في الله: أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبِّكم فيه، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن في هذه الحياة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم أسأله أخرى أن يجمعنا في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هو ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: -وأنا أعلم بنفسي منكم- ظن بي إخوتي ظناً عظيماً، فدعوني فلم أملك إلاَّ أن أجيب، ثم دعوكم فظننتم نفس الظن وأجبتم، فخيرا جزيتم، وما أراني -والله- بينكم الليلة إلا كبائع التمر على أهل هجر، لكني أسأل الله -الذي بيده مقاليد كل شيء- أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يؤاخذني بما تقولون، وحسبي أن ألقي عليكم هذه الكلمات، التي أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخراً ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعلها من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، والفضل أولاً وآخراً لله الواحد القهار.
يا رب أنت خلقتني وبرأتني جمَّلت بالتوحيد نطق لساني
وهديتني سبل السلام تكرماً ودفعتني للحمد والشكران
وغمرتني بالجود سيلاً غامراً وأنا أقابل ذاك بالكفران
فلك المحامد والثناء جميعه والشكر من قلبي ومن وجداني
فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي لا يستطيع لشكره الثقلان
أنت الكريم وباب جودك لم يزل للبذل تعطي سائر الأحيان
أنت الحليم بنا وحلمك واسع أنت الحليم على المسيء الجاني
أنت القوي وأنت قهار الورى لا تعجزنَّك قوة السلطان
أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان
ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
لبيك يا ربي بكل جوارحي لبيك من روحي وملء جناني
اجعل رجائيَ في ثوابك رائدي واقبل مقلَّ الجهد في التبيان
يا رب لا تجعل جزائيَ سمعة تسري على البلدان والأكوانِ
أنت المضاعف للثواب فإن يكن مثقال خردلة على الميزان
تعطي المزيد من الثواب مضاعفاً من غير تحديد ولا حسبان
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني
أحبتي في الله: الإيمان والحياة، لسائل أن يقول: لِمَ كان اختيار هذا الموضوع؟
فأقول: وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة وكفى، لذا لا ينبغي أن يكون الإيمان أمراً هامشياً في هذه الحياة، بل هو قضية القضايا، لا يجوز أن نغفله أو نستخف به أو ندعه في زوايا النسيان؛ كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره؟!
إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد، إنه لجنة أبداً لصاحبه، والنار أبداً لمن تنكبه؛ لذا كان لِزَاماً عليَّ وعلى كل مؤمن بالله، بل وعلى كل ذي عقل: أن يفكر في حقيقة الإيمان وأثره على الحياة؛ حتى يطمئن القلب، وينشرح الصدر، وتسكن النفس، خصوصاً ونحن في عصر أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى إن كثيراً منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم لا فيما يطابق الواقع أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته: {ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [المؤمنون:71].
الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميلها تمل، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟
الفرد -باختصار- بلا إيمان: حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل.
والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه.
المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء.
المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12]
ومن هنا جاءت الحاجة الماسَّة الملحَّة للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها.
وإني قبل أن أبدأ لأهنئ هذه الوجوه على إيمانها بالله الذي لا إله إلا هو، فهنيئاً لكم الإيمان، وهنيئاً لكم القرآن، وهنيئاً لكم التوحيد، وهنيئاً لكم الإسلام، هنيئاً لكم يوم يغدو النصارى إلى بيوت الصلبان، ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النيران، ويغدو المشركون إلى بيوت الأوثان، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].(44/2)
حقيقة الإيمان
يا أهل الإيمان: ما الإيمان؟
الإيمان تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته: إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون.
إنه ما يتحسس كل مسلم قبسه في قلبه، ويتلمس وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له، لينير به جوانب روحه.
الإيمان؛ ما الإيمان؟
قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
الإيمان؛ ما الإيمان؟
نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيء لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه، فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، تقربوا منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} متي نكون أهلاً لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ؟
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
الإيمان، ما الإيمان؟
شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأُنس بالله، والطمأنينة بذكر الله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
الإيمان؛ ما الإيمان؟
إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله: {وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء:44] تبارك عز وجل؛ فسبحان من آمن له الكون أجمعه! وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء:44].
موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك -أيها العبد- تُسأل: أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب؟ وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه؟ وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟!
الله هو الغني ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله الذي لا إله إلا هو: {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] وفي صحيح مسلم {إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة}.
كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عموماً؟! ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات؟!
ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر {إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رءوسكم التَّراب}.
{أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون}.
خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره: {أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج:18] هل جندت نفسك -أخي في الله- لتكون من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله -أعني: موكب المؤمنين-؟
إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين، يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].(44/3)
أثر الإيمان على الفرد والمجتمع
يا من يحب الكنز! ويا من يحب الثروة! إن أعظم كنز يكتنزه العبد في هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يكتنزها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان إنه الثروة النفيسة، والكنز الثمين، يسعد به صاحبه حين يشقى الناس، ويفرح حين يحزن الناس، هل لهذا الكنز، وهذه الثروة من أثر على الحياة؟
إن أثرها عظيم جد عظيم لمن كان له قلب فملأه بالإيمان إن إيمان العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليعكس على الفرد، لا.
بل على الأمة جميعاً أثراً عظيماً، فهاك موجزها ولا بأس بعده من تفصيل.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله، يحاسبه على الصغيرة والكبيرة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
إذا استشعر العبد هذه المعية سابق إلى الخيرات، وخضع مستجيباً لرب الأرض والسماوات فبادر إلى الفضائل.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية الله؛ لعلمه أن الملائكة معه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ترافقه وتراه ولا يراها، تحصي عليه أعماله بسجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.
والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام الله، ويتقرب إليه بتلاوة كلامه والعمل به، ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في كتبه، والذي جاء القرآن مهيمناً عليها مصدقاً لها.
والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسيرهم لا سيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتخذهم أسوة وقدوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب بل رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي.
بالشرق أو بالغرب لست بمقتدي أنا قدوتي ما عشت شرع محمد
حاشا يثنيني سراب خادع ومعي كتاب الله يسطع في يدي
والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب الخير ليلقى ثوابه في جنات ونهر ونعم المأوى، ويكره في النفس الشر ودواعيه خوفاً من نار تلظى ومن وقوف بين يدي المولى.
والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها، ولا ترجو ما سوى ربها، لا تقنع إلا بالله، ولا تلجأ إلا لله، في الدنيا تزهد، بالموت لا تبالي، لا تركع للطغيان بل تخضع للرحمن، ولسان حالها:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف
آثار الإيمان على الحياة آثار مشرقة تنعكس على تصورات الأفراد وسلوكهم في الحياة، حتى إنك لترى القرآن يمشي على الأرض في أشخاص بعض الأفراد، فإليكم أزف بعض هذه الآثار مفصلة، فاسمعوا أيها الأحباب! وافقهوا وبلغوا فرب مبلغ أوعى من سامع.(44/4)
من آثار الإيمان: الثبات بكل صوره
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، والثبات للمصاب عند مصيبته، والثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
هاهو صلى الله عليه وسلم يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ ولا يصده صادٌ، فوقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش! لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو والله بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو والله بساحر، قلتم: كاهن، ما هو والله بكاهن.
يا معشر قريش! إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له.
فاجتمع -كبراؤها- صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، الممسكون بحُجَز النار ليقذفوا في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه.
قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلاً منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل أبي الوليد عتبة بن ربيعة.
فذهب عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بليغاً، وفصيحاً، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد! أنت خير أم أبوك؟ فسكت صلى الله عليه وسلم قال: أنت خير أم جدُّك عبد المطلب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كانوا خيراً منك فقد عبدوا ما عبدنا، وإن كنت خيراً منهم فقل.
ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون: يا محمد! إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا.
يا محمد! ما رأينا شخصاً -قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض، يا محمد! أخبرنا ما تريد؟
فقال صلى الله عليه وسلم: {أفرغت يا أبا الوليد؟} ويا للأدب منه صلى الله عليه وسلم! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع صلى الله عليه وسلم يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: {حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5] سمع كلاماً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهاً مبهوراً بما يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن.
حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت! أنشدك الله والرحم إلا صمت!
خرج مذعوراً خائفاً راجعاً إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، فلما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثاً ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية -يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فوضعت يديَّ على فمه خوفاً أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمداً إذا حدث حديثاً لم يكذب.
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] جحدوا بذلك.
هل استقاموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل انتفعوا بالآيات؟
لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-؟ لا والله! بل ناصبوه العداء كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم، ثم لم يجد له مُعِيناً بعد الله إلا بنيته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها.
ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من مكة، ودموعه على وجنتيه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {والله! إنك لأحب البقاع إلىَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت}.
ومع ذلك فقد ثبت صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم.
ويأتي صحابته رضوان الله عليهم ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.
هاهو خالد بن الوليد أبو سليمان رضوان الله عليه يقارع الروم في أرضهم -كما روى ابن كثير - حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة قنسرين؛ مدينة من مدنهم محصنة بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم، فماذا كان من خالد؟ حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصاراً عاماً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا: [[من خالد بن الوليد أبي سليمان إلى قائد الروم في بلدة قنسرين.
أما بعد:
فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده! لو صعدتم إلى السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا]] كلمات الثقة بنصر الله عز وجل، كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله.
وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائصه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء.
ما الذي ثبَّت خالداً إلا الإيمان، ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية.
ليس هذا فحسب، وليس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب؛ فها هو ابن تيمية عليه رحمة الله ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن وما استكان، لسان حاله:
فكيف تخاف من زيد وعمرو وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان عليه الباب فيقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان واليقين.
يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضعاً وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر:54 - 55] لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله.
الثبات للمريض في مرضه:
- يروي ابن حجر في الإصابة أن عمران بن حصين رضى الله عنه أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
- أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [[أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟]].
فيقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {والذي نفسي بيده! لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه} فقال: [[اللهم إني أسألك حمى لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد]]، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته، وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتاً بالإيمان، وهكذا يفعل الإيمان.
ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين، يقول الحافظ أبو نعيم: لما توفي ذر بن عمر الهمداني، جاء أبوه فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظُلمنا ولا قُهرنا ولا ذُهب لنا بحق، وما أُريد غيرنا بما حصل لـ ذر، ومالنا على الله من مأثم.
ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي باراً، وكنت لك راحماً، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر! ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني -والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر! لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت، يا ليت شعري! ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟
ثم يرفع يديه باكياً: اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لـ ذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت لـ ذر إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم، ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته.
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روح تسيل فتقطر
انصرف وهو يقول: يا ذر! قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك.
ما الذي ثَبَّت هذا الرجل إلا الإيمان؟
هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات.
علو في الحياة وفي الممات(44/5)
من آثار الإيمان: الخوف من الرياء
من آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب.
يقول ابن أبي مليكة كما في البخاري: [[أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل]].
{المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده}، ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق.
يقول أنس كما في صحيح البخاري: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا برحمته.(44/6)
من آثار الإيمان: زيادة الأمن في البلدان
من آثار الإيمان على الحياة: زيادة الأمن في البلدان وعلى الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب، يقول المولى سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82] سنَّة الله لا تتخلف: {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم:6].(44/7)
من آثار الإيمان: نبذ العصبيات والنعرات الجاهلية
من آثار الإيمان: نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقاً؛ التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة} [الحجرات:10] لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب.
لو كبرت في جموع الصين مئذنة سمعت في الغرب تهليل المصلين
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني على تجاهل أحبابي وإخواني
إذا اشتكى مسلم في الهند أرَّقني وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجسي وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
أرى بخارى بلادي وهي نائية وأستريح إلى ذكرى خراسان
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صُلْب أوطاني
شريعة الله لَمَّتْ شملنا وبنت لنا معالم إحسان وإيمان
يقول صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود وحسنه محققُ جامع الأصول {إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على قُرْبهم ومكانتهم من الله، قال صحابة رسول الله: من هم يا رسول الله؟ قال: هم أناس تحابّوا بروح الله على غير أرحام فيما بينهم، ولا أموال يتعاطونها فيما بينهم، فوالله! إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس}.
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].
يقع في يوم من الأيام بين أبي ذر رضي الله عنه وبلال رضي الله عنه خصومة، فيغضب أبو ذر وتفلت من لسانه كلمة يقول فيها لـ بلال: يا بن السوداء! فيتأثر بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام ثم يعير بالعصبيات والعنصريات والألوان، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويشكو أبا ذر.
ويستدعي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر، فيقول -كما في الحديث المتفق على صحته-: {أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية}، فيتأثر أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: [[وددت -والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم]] ويضع خده على التراب ويقول: [[يا بلال! ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه]] فتذرف عينا بلال رضي الله عنه الدموع، ويقول: [[يغفر الله لك يا أبا ذر! يغفر الله لك يا أبا ذر! والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين]]، ويعتنقان ويبكيان؛ ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب، والشاهد: {إنك امرؤ فيك جاهلية}.
يأتي سهيل بن عمرو، ويأتي أبو سفيان رضيَ الله عنهما، إلى أين يأتون؟ يأتون إلى مجلس عمر رضيَ الله عنه وأرضاه الذي لا يدخله إلا المؤمنون حقاً، فيستأذن أبو سفيان -وهو سيد من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد أنوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم رضى الله عنه وأرضاه بعد إسلامه.
ويأتي سهيل بن عمرو -وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي بلال الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام فيؤذن له، ويأتي صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي سلمان الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟
كان من أبي سفيان رضى الله عنه أن تأثر وتذمَّر وتنمَّر، وقال: [[والله! ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر، ويدخل هؤلاء الموالي قبلي]] فقال سهيل -وكان لبيباً عاقلاً-: [[والله! ما علينا أن نحبس على باب عمر، ولكن -والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلى الإسلام فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر، إنما علينا أن نحبس على أبواب الجنة]]، أو كما قال.
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى وعقيدتي نور الحياة وسؤددي
سلمان فيها مثل عمر لا ترى جنساً على جنس يفوق بمحتدي
وبلال بالإيمان يشمخ عزة ويدق تيجان العنيد الملحد
وخبيب أخمد في القنا أنفاسه لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ
ورمى صهيب بكل مال للعدا ولغير ربح عقيدة لم يقصد
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند(44/8)
من آثار الإيمان: تنقية القلوب من الأدران
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: {أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
هاهو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من رواية أنس، وكما في رواية ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقل المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أنت؟} يعني: أين موقفك أنت؟ حدِّد موقفك؟ هل أنت منهم؟
فيقول: {يا رسول الله! ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون} لا يعرفون الخداع، ولا يعرفون الالتواء، إنما هم صرحاء أتقياء أنقياء.
فقال صلى الله عليه وسلم: {اجمعهم لي} فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {يا معشر الأنصار! ما حديث بلغني عنكم، ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ.
قال: ألا تجيبوني -يا معشر الأنصار! - والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك.
أوجدتم يا معشر الأنصار! في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
أما ترضون أن يعود الناس بالشاء والبعير، وتعودون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به.
ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض} فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم خير البشر
أرأيت كيف استلَّ صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لما استلَّ ما في قلوبهم رضوان الله عليهم جميعاً.
وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- بين أصحابه، فيقول: {يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة}، فطلع رجل تقطر لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم الثالث فكان هو الرجل، فلحق به أحد صحابة رسول الله، وجلس معه أياماً فلم يرَ في هذا الرجل كثير صلاة ولا صيام.
فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو إلا ما رأيت، غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما قال-
إنه الإيمان.
الإمام الشافعي عليه رحمة الله عوتب من قِبَل بعض المغرضين على زيارة الإمام أحمد، وهو أكبر منه سناً، فقال رداً على هؤلاء:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
رد على المعرضين، وكأنه يقول:
دعهم يعضوا على صمِّ الحصا كمداً من مات من غيضه منهم له كفن
إنه الإيمان وكفى!(44/9)
من آثار الإيمان: أنه حجاب من المعاصي
ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
إن المؤمن -يا أيها الأحبة- يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده، ففي الأثر أن الله عز وجل قال: {وعزتي وجلالي! ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على شهوات نفسه وهواها- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}.
هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه الربيع بن خثيم، يتمالئ عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغاً من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خيثم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان.
فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله! كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟!
فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة.
وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع.
فما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل هي قلة الشهوة؟ إنها الشهوة العظيمة، إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها -سن الثلاثين- ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو.
الإيمان -يا أيها الأحبة- كالجمرة، متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة.
وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات.
هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب في تلك الساعة، وكان نائماً لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلاناً، قالت: إنه نائم لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، فألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت وأخرجت هذا الشاب من فراشه.
فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء: نريد الليلة -أن ننتهك حرمة البيت الفلاني- أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة -كما يقول- فما كان من هذا -وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ أن دخل وأخذ المسدس، وخرج في نصف الليل -وكان نائماً- مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية -لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل- برجليهما، ويذهبان إلى الفاحشة.
ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك حارساً بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصا غليظة، ويأتي وراء هذا الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس -والذي كان نائماً في نومته- فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل.
يا لله! ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضاً- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون للبحث عن الثاني.
وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائماً معهم في القرية الفلانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي: أن اخرج لتقتل، وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
ليس هذا فحسب، فإليكم هذا الحدث الذي ذكره الشيخ سلمان العودة في كتابه: جلسة على الرصيف وأنصح باقتناء هذا الكتيب ليتبين لك أثر نقص الإيمان في موت القلوب.
ذكر أن فتاة تبلغ العشرين عاماً جاءت إلى إحدى المستشفيات وهي حامل، فوضعت مولوداً في أحسن صحة وأتمِّ حال، لكنها كانت في قلق دائم شديد، وارتباك ظاهر، مسودة الوجه، كثيرة البكاء، بها من الهمِّ ما بها، وبها من الغمِّ ما بها.
فطلبوا منها بعد أيام من الولادة أن تبعث لوليها ليخرجها من المستشفى، فارتبكت وبكت بكاءً مراً مستمراً حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء.
فانفردوا بها في غرفة مستقلَّة وسألوها عن الأمر، ما الأمر؟
وما الخطب؟
وما الحدث؟
وبعد جهد جهيد قالت لهم بصوت متقطع وبقلب مليء بالحسرات والهموم والغموم: إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله ما أفظع الأمر! وما أقبحه!
والله! لو قيل: إن هذا وقع في الأمم السابقة لاستفظعناه ولاستبشعناه، ولقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله لو كان في بلاد الكفر والعهر لاستعظمناه، فكيف إذا علمنا أنه في بيتٍ أهله ربما نطقوا بالشهادتين في كل يوم، وربما سمعوا آيات الله ثم انسلخت قلوبهم منها، فلم يعرفوا معروفاً، ولم ينكروا منكراً؟!
ولا تستبعد مثل هذا -أخي المسلم- فلربما كانت البداية بنظرة خائنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان ذلك بأغنية ماجنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان ذلك بمشاهدة تمثيلية فاجرة هيجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان بشربة خمر أفقدته عقله فوقع على ابنته، وهكذا فالمعاصي يجر بعضها بعضاً، والسقوط شيئاً فشيئاً، ورحلة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.(44/10)
من آثار الإيمان: سعادة البيوت والأسر
والإيمان هو الزمام والفيصل.
ومن آثاره على الحياة: سعادة البيوت والأسر، بيت يدخله الإيمان بيت سعيد؛ لا يُخْرج إلا السعداء بإذن رب الأرض والسماء؛ استعاض أهله عن الغناء بترتيل القرآن آناء الليل وأطراف النهار، واستغنوا عن المجلات الماجنة بتقليب المصحف وكتب السُّنة والكتب المفيدة، واستغنوا عن السجائر وما في حكمها من الخبائث بالسواك فطهروا أفواههم وأرضوا ربهم.
سعادة وأي سعادة، نساء هذا البيت مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات متحجبات ممتثلات لأمر رب الأرض والسماوات، يخرج الزوج المؤمن من البيت المؤمن فتقول الزوجة: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالاً؛ فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
هذا بيت الإمام أحمد عليه رحمة الله يتربى على الإيمان، فاسمع إليه يوم يقول بعد أن توفيت زوجته أم صالح رافقتني أم صالح -يعني: زوجته- ثلاثين عاماً، والله ما اختلفت معها في كلمة واحدة.
إنه الإيمان يا أيها الأحبة.
وليس هذا فحسب، إن البيت المتربي على الإيمان يدرك الأطفال هذا الإيمان، فيدخل إلى قلوبهم السعادة ولو كانوا لم يحظوا من الدنيا بقليل ولا كثير.
إن الإمام أحمد كان دخله في الشهر سبعة عشر درهماً فيأتي أبناؤه ويقولون: يا أبتاه! لا تكفينا، قال: أيام دون أيام، وطعام دون طعام، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس حتى نلقى الله الواحد الأحد.
حذاؤه تبقى في رجله ثمانية عشر عاماً -كما ذكر ابنه عبد الله - كلما انخرمت خصفها، وأعادها إلى رجله؛ لأنه ركل زخارف الدنيا وهو يعلم أن مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا.
البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل:
عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال، ويدخل أطفال الرعية في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة وثيابه بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك جعل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة؛ إنها حلة الإيمان.
يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير -والذي تربى على الإيمان-: أبتاه! ما الذي طأطأ رأسك وأبكاك، قال: يا بني -والله- ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة.
فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه! إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله.
فمن الذي علَّم هذا الطفل إلاّ الله الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على الإيمان، فكان منه ما كان.(44/11)
من آثار الإيمان: الولاء والبراء
ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد: الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].(44/12)
من آثار الإيمان: العزة
ومن آثار الإيمان على حياة الناس: أنه يُكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطئ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
لا غرو إذا رأينا مؤمناً أعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به، حتى إذا سأله رستم: من أنتم وما الذي جاء بكم؟
زعق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: [[نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان.
أمَّة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى
أي داعٍ قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا
من سواكم في قديم أو حديث أطلع القرآن صبحاً للرشاد
هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للعباد
فكِّروا في عصركم وانتبهوا طالما كنتم جَمَالاً للعُصُر
وابعثوا الصحراء عزماً وابعثوا مرة أخرى بها روح عمر
هاهو آخر قد آمن بالله حقاً، فأكسبه ذلك الإيمان عزة، جعل يتكلم في هشام بن عبد الملك الخليفة كلاماً غليظاً جافياً، فأمر هشام بإحضاره، فلما وقف بين يديه جعل يتكلم، فقال هشام له: وتتكلم أيضاً في مجلسي؟! فقال: يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل:111] أفنجادل الله جدالاً ولا نكلمك يا هشام؟!
فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشداً، فقال ما شاء وانصرف راشداً بعزة المؤمن: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
إن العزّة أثر إيماني يُظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحداً، ليس هذا فحسب، وهاكم مثلاً آخر.
ذلكم الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، كان في درس من دروسه ماداً رجله في مسجد من مساجد الشام، فدخل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر آنذاك، فقام الناس كلهم إلاّ هذا الشيخ، وبقي مادّاً رجله في حلقته يلقي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتأثر ذلك الطاغية، وأثَّر ذلك في نفسه إذ لم يقم له هذا الشيخ، فقال في نفسه: لآتينه من باب لطالما أُتي طلبة العلم من هذا الباب.
فذهب وأضمر له ما أضمر، وأحضر ألف ليرة ذهبية -في وقت الشيخ قد لا يجد فيه ليرة واحدة- وقال لأحد جنوده: اذهب إلى الشيخ وأعطه هذه، فأخذ هذا الجندي ذلك المبلغ، وذهب به إلى الشيخ ولا زال مادّاً رجله في حلقته يدرس قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكتسب العزة من خلال قال الله وقال رسوله.
فجاء إليه وقال: إن إبراهيم باشا يقول: خذ هذه الألف الليرة الذهبية.
فما كان منه إلا أن نظر إليه بعزة المؤمن، وتبسم تبسم المغضب، وقال: ردها له، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه.
أنا أقول: ربما يكون الشيخ في تلك اللحظة لا يملك ليرة ذهبية واحدة، لكن كنز الإيمان أعظم وأغلى من أن يباع بألف ليرة أو بليرة أو بأقل أو بأكثر، وهكذا يكون المؤمنون: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
وإن نسيت -أيها الأحبة- فلا أنسى سيداً رحمه الله وتجاوز عني وعنه، الذي اعتزَّ بإيمانه، فصدع بكلمة الحق بلا استحياء ولا خجل، فحكم عليه بالقتل.
وطلبوا منه أن يقدم استرحاماً حتى يخفف عنه الحكم، ولكنه أبى رحمه الله وقال قولته الشهيرة: إن كنت حوكمت بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت حوكمت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية مرات في اليوم لترفض أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية.
ماذا كان سيفعل سيد لولا الإيمان؟ يا للعزة! ويا للثبات! {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].(44/13)
من آثار الإيمان: سعة الرزق وانشراح القلب وتوكله
ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه.
المؤمن -أيها الأحبة- لا يذهب منه ريال في شراء ما يغضب الله جلا وعلا، لا يذهب منه ريال في شراء دخان، وما في حكم الدخان من الخبائث، ولا يذهب منه ريال في شراء فيلم مفسد أو مجلة أو جريدة مفسدة؛ لأنه يعلم أنه مسئول أمام الله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فيصون رزقه عن الربا، وعن الغش، وعن الحِيَل، وعن المكر والخداع، ويجند رزقه فيما يرضي الله جل وعلا، فيرزقه الله ويبارك الله له: {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
ومن آثار الإيمان: صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إلى الله جل وعلا، والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله جل وعلا وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم: {قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [التوبة:51 - 52].
هاهو خالد بن الوليد المؤمن الحق بإذن الله يُقَدَّم له في يوم من الأيام سم من قِبَل طاغية من الطغاة، ويقول له هذا الكافر: إن كنتم صادقين في التوكل على الله جل وعلا واللجوء إليه، والثقة به، فاشرب هذه القارورة من السم.
فما كان من خالد رضي الله عنه إلا أن أخذها وقال: [[باسم الله، توكلت على الله، ثقة بالله سبحانه وتعالى]] ثم شربه، فلم يصبه إلا العافية: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] نعم أجر العاملين: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:42].
ومن آثار الإيمان: انشراح الصدر، وطمأنينة القلب: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ} [الزمر:22]، المؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره.
هاهو أحد المؤمنين يقول -وقد انشرح صدره للإيمان فتلذذ بهذه العبادات التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في هذه الدنيا، ووالله إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، والله إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم.
تلذذوا بالإيمان، وذاقوا حلاوة الإيمان فانشرحت صدورهم.
والآخر يقول: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه كانت حياته ضنكاً، وكان صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} [طه:124].(44/14)
من آثار الإيمان على الحياة بعمومها
ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها: نجاة سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان نتيجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من الإيمان، بل هو عماد من أعمدة الإيمان.
فالحياة كلها سفينة تمخر عباب البحر، لا تكاد تسكن حتى تضطرب، ولن يكتب الله السلامة لها فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص منها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد.
والمجتمع كالسفينة يركب ظهرها البَرُّ والفاجر، والمتيقظ والغافل، وطالب العلم والجاهل، هذا يصلح وذاك يحرق ويفسد، والمؤمن بإيمانه هو الصالح المصلح، يجاهد بأمره ونهيه وإصلاحه، فإن تحطمت السفينة بعد ذلك فشتان بين غريق وغريق؛ غريق في جهنم، وغريق في الجنة شهيد بإذنه ربه.
ومن آثار الإيمان: حفظ الجوارح، وتذليلها لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله.
حفظ القلب من الشهوات والشبهات، وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد، وحفظ السمع إلا من كتاب الله، وذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أباحه الله، وحفظ البصر من إطلاقه فيما حرَّم الله؛ ليجد بعد ذلك حلاوة إيمانه إلى أن يلقى الله، وحفظ البطن فلا يدخله إلا ما أحله الله، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فالمؤمن بإيمانه يحفظ جوارحه، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
ومن آثار الإيمان على الحياة: آثاره على المجالس، حيث يجعلها رياضاً من رياض الجنة، ملائكة تحفُّ، ورحمة تتنزل، وسكينة تغشى، ورب رحيم كريم يقول: انصرفوا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات، فيا لله ما أعظمها من مجالس! وما أعظم جالسيها ومرتاديها، جعلنا الله وإياكم من أهلها!(44/15)
الإيمان واللحظة الأخيرة
ومن آثاره على الحياة: آثاره في تلك اللحظة الأخيرة، في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصيبة المريرة التي لا يثبت فيها إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من السكرات حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات أحد على فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورءوسها؛ من شدة ما يلاقي من السكرات.
اللحظة التي صورها من عاناها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يوم يغمى عليه ويصحو، ويقول: {لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات}، لحظة عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاناها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها أحدهم وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فقال وهو في اللحظات الأولى من لحظات السكرات، ولا زال لسانه لم يعتقل، ولا زال جسمه لم يخدر: [[والله لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما]].
في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر الإيمان واليقين، فيلهمك الله النطق بالشهادتين: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنة}.
في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك اللحظات؛ لأنهم يعلمون أنها آخر عناء وتعب، وآخر نَصَب ووصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم الملائكة، بل تبشرهم الملائكة، فلا خوف ولا حزن: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31].
هاهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله في سكرات الموت يقول: مرحباً بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم يطلب ممن حوله أن يخرجوا، وإذا به يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ليلقى الله عز وجل على ذلك.
وأحدهم بلغت به سكرات الموت مبلغاً فيقولون له: قل: لا إله إلا الله -وهو من الصالحين ولا يزكى على الله- فكان يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:6 - 27] ليلقى الله على تلك الحال: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يشاء} [إبراهيم:27].
ومؤذن لطالما رفع الأذان من على المنائر كل يوم خمس مرات يختمها بلا إله إلا الله، وهو في منطقة الجنوب، وفي تلك اللحظات الأخيرة من حياته يغمى عليه إغماءة مستمرة، فما كان يفيق إلا في وقت الصلاة، فإذا جاء وقت الصلاة قام وأذن حتى يقول: لا إله إلا الله، ثم يعود إلى إغمائه، وفي مرة من المرات، يفيق من إغمائه ويقول: يا بني -وابنه معه- أحان وقت الصلاة؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر، الله أكبر حتى ختمها بلا إله إلا الله، ليلقى الله على تلك الحال: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [إبراهيم:27].
وفي المقابل تجد الذين لا إيمان لهم في تلك اللحظات، الذين لم ينضبط سلوكهم قد ضيق الله عليهم، وعسَّر أمورهم، وأوغر صدورهم، ثم لا يُلْهمون الشهادة ليختموا بها حياتهم، فيا لها من سوء خاتمة!
هاهو شاب في سكرات الموت، يقولون له: قل: لا إله إلا الله -ولطالما دنَّس فمه بشرب الدخان- فيقول: أعطوني دخاناً، فيقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخاناً، أعطوني دخاناً، فيقولون: قل: لا إله إلا الله عله أن يختم لك بها، قال: أنا بريء منها، أعطوني دخاناً، ليلقى الله على تلك الحال، نسأل الله حسن الخاتمة.
وشاب أخر -كما ذكر الشيخ سلمان -: كان صادّاً نادّاً عن الله جل وعلا، وحلَّت به سكرات الموت التي لابد أن تحل بي وبك، لا أدري أقريب أم بعيد؟ ونسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام، جاء جلاسه وقالوا: قل: لا إله إلا الله، فيتكلم بكل كلمة ولا يقول لا إله إلا الله، ثم يقول في الأخير: أعطوني مصحفاً، ففرحوا واستبشروا وقالوا: لعله يقرأ آية من كتاب الله، فَيُختم له بها، فأخذ المصحف ورفعه بيده، وقال: أشهدكم أني قد كفرت برب هذا المصحف، ثم يلقى الله على ذلك، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام: {وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(44/16)
من آثار الإيمان بعد الموت
ومن آثار الإيمان: السكينة والثبات في القبر يوم تطرح وحيداً فريداً لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش التراب مرتهناً بعملك، فيا لذلك ويا لحسرتك إن كنت محسناً تريد الزيادة، وتعض أصابع الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئاً ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في تلك اللحظة؟
وأنت على هذه الحال -يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها، جعلنا الله وإياكم من سكانها.
أحد الشباب يأتيني في يوم جمعة ويقول: يا شيخ! رأيت أخي الذي مات قبل فترة في المنام، وأحببت أن أذكِّرك بهذا لتذكِّر الناس بمثل هذه الرؤيا، قال: فقلت لأخي لما رأيته في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني فله الحمد والمنَّة أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، قلت: فبم توصينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، وألا تناموا ليلة من الليالي إلا وقد تعبت أقدامكم من الوقوف بين يدي الله، واحمرَّت أعينكم بكاءً من خشية الله؛ فو الله ما نفعنا هنا بعد رحمة الله إلا تلك الأعمال.
وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به، يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى، حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله: {يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون}.
يومها يشيب الصغير، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان: يوم تعرض السجلات سجلاً سِجلاً، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويوماً يوماً لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، يوم ينادى على رءوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
وتظهر آثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب.
وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] فإلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلمُ
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الله والدار الآخرة والدنيا معاً فالطريق الإيمان.
عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عاماً أو خمسين أو أقل أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز: {ادْخلُوُا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70]
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم
أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تَضَّرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فِيهِ المهيمن يختم
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيَّم
وحيَّ على روضاتها وخيامها وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن ترزقنا إيماناً نجد حلاوته، وقلوباً خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعيناً من خشيتك مدرارة.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم انفعنا بما قلنا، اللهم انفعنا بما سمعنا، اللهم واجعله حجَّة لنا، اللَّهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
اللهم أنت ملاذنا، اللهم أنت ملجؤنا، اللهم أنت حسبنا فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم كما جمعتني بأحبتي في هذه الروضة في هذه الليلة على ذكرك، فاجمعني بهم إخواناً على سُرُرٍ متقابلين.
هذه محاضرتي عليكم ألقيت، فلعلها موقظة الوسنان.
لم آتِ فيها من جديد مُحْدَثٍ غير اختيار اللفظ يا إخواني
فإذا أسأت فذاك من كسبي وإن أحسنت ذا فضل من المنان
وأهدي صلاتي والسلام جميعه لأحب خلق الله بالأكوان
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.
وأعتذر كذلك عن الإجابة على الأسئلة، ولعل فيما ذُكِر خير، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالقليل، وأن يبارك لنا فيه، وأن يجمعنا بكم مرات ومرات ومرات، ثم يجمعنا في دار:
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها(44/17)
الرقابة لمن
إن رقابة المخلوقين تسقط وتزول، وتبقى رقابة الله الكاملة المطلقة، وإن العلم البشري قاصر ولا يكمل إلاَّ علم العليم الخبير؛ وهذا يستلزم مراقبة الله ظاهراً وباطناً.
وإن شهادة الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والكتب والأرض والخلق والجوارح على العبد يوم القيامة لمما يدعو إلى المبادرة بالأعمال الصالحات قبل حلول الآجال وبقاء الحسرات.(45/1)
التقرب إلى الله بالأعمال قبل فوات الأوان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا- وأن نُقِّدم لأنفسنا أعمالاً تُبيض وجوهنا يوم نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
يوم يُبَعثر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور؛ يوم {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يوم الحاقة يوم الطَّامة يوم القارعة يوم الزلزلة يوم الصاخة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].(45/2)
رقابة الله الكاملة ورقابة البشر الناقصة
ثم اعلموا -يا عباد الله- أن رقابة البشر على البشر قاصرة؛ بل رقابة المخلوقات على بعضها قاصرة، فالبشر يغفل ويسهو وينام، ويمرض، ويسافر، ويموت.
إذًا فلتسقط رقابة المخلوقين، ولتسقط رقابة الكائنات جميعها، وتبقى الرقابة الكاملة؛ والرقابة المطلقة، ألا وهي: رقابة الله -جلَّ وعلا-.
باري البرايا مُنشئ الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق
حيٌ وقيوم فلا ينام وجلَّ أن يشبههُ الأنام
فإنه العلي في دنّوه وإنه القريب جلَّ في علوه(45/3)
علم الله المطلق
لا إله إلا الله! علم البشر علم قاصر ضعيف قليل؛ فما وراء هذه الجدران نجهل منه الكثير ولا نعلمه؛ بل لا نعلم أنفسنا التي بين جنبينا، لكن الله يعلم ذلك، ويعلم ما هو أعلى من ذلك، فما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب، ولا يابس إلا في كتاب مبين، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تُسِرهُ الآن في سريرتك، ومَن بجوارك لا يعلم ذلك؛ يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.
إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم الخبير {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء، في الليلة الظلماء، لا إله إلا هو!
هو الذي يرى دبيب الذَّر في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علمًا بالجليِّ والخفي
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7].(45/4)
مؤامرة تحت جدار الكعبة
رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل تحت جدار الكعبة قد هدأت الجفون، ونامت العيون.
أرخى الليل سدوله، واختلط ظلامه، وغارت نجومه، وشاع سكونه، قاما يتذاكران، ويخططان، ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلم كثيرًا مما يعملون، استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتون مما لا يرضى من القول، تذاكرا مُصَابِهم في بدر؛ فقال صفوان وهو أحدهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير، فقال عمير: صدقت، والله! لولا دَينٌ عليّ ليس له قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة لركبت إلى محمد حتى أقتله -صلى الله على نبينا محمد-
اغتنم صفوان ذلك الانفعال وذلك التأثر، وقال: عليَّ دَيْنُك، وعيالك عيالي لا يسعني شيء ويعجز عنهم، قال عمير: فاكتم شأني وشأنك -لا يعلم بذلك أحد- قال صفوان: أفعل.
فقام عمير وشحذ سيفه، وسمَّه، وانطلق به يغذ السير إلى المدينة ووصل إلى هناك، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين، أناخ عمير على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحًا سيفه، فقال عمر -وهو يعرفه-: عدو الله! والله ما جاء إلا لشر.
ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ، فأخذ عمر بحمائل سيفه فلببه بها -جعلها له كالقلادة- ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر: أرسله يا عمر، ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ وكان له ابن أسير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت لهذا الأسير فأحسنوا به.
قال صلى الله عليه وسلم: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟
فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحي بما يضمره عمير -: اصدقني يا عمير! ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك.
فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له كذا، وقال لك كذا، وتعهد لك بدَينك وعيالك، والله حائل بيني وبينك.
قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، والله إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.
جاء ليقتل النور، ويطفئ النور، فرجع وهو شعلة نور، اقتبسه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة في ظلمة الليل لا يعلم بها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم الغيب، حُبكت المؤامرة سرًا، من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما وهما يخططان، ويدبران، ويمكران عند باب الكعبة؟ إنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!
كم تآمر المتآمرون في ظلام الليل؟!
كم من عدو للإسلام جلس يٌخطط لضرب الإسلام وحده أو مع غيره سرًا؟! ويظن أنه يتصرف كما يشاء؛ متناسيًا أن الذي لا يخفى عليه شيء يسمع ما يقولون، ويبطل كيدهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.(45/5)
أيها العبد المؤمن! لا تحزن
يا أيها العبد المؤمن: إذا لقيت عنتًا ومشقة، وسخرية واستهزاء، فلا تحزن ولا تأس، إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقال لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.
يا أيها المؤمن: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن، وضاقت نفسك، فلا تأس ولا تحزن؛ إن الله يعلم ويسمع ما تقول، وما يقال لك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى:11] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
يا أيها الشاب الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثًا يقاطعه؛ اثبت ولا تأس، واعلم علم يقين أنك بين يدي الله، يسمع ما تقول، ويسمع ما يُقال لك، وسيجزي كل امرئ بما فعل {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:3].(45/6)
أيها العاصي! تذكر رقابة الله
يا مرتكب المعاصي مختفيًا عن أعين الخلق: أين الله؟! أين الله؟!
ما أنت -والله- إلا أحد رجلين؛ إن كنت ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك فكيف تجترئ عليه، وتجعله أهون الناظرين إليك {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108].
يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها لا تكاد ترى الشمس معها، ثم يقول: لو عملت المعصية -الآن- من يراني؟ فيسمع هاتفًا بصوت يملأ الغابة ويقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] بلى والله!
يا منتهكًا حرمات الله في الظلمات في الخلوات في الفلوات، بعيدًا عن أعين المخلوقات: أين الله؟!
هل سألت نفسك هذا
السؤال
في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأعلمن أقوامًا من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، يجعلها الله هباءً منثورًا، قال ثوبان: صِفْهُم لنا؟! جلِّهم لنا؟! ألاَّ نكون منهم يا رسول الله؟ قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها}.
إلى من يملأ عينه وأذنه ويضيع وقته، حتى في ثلث الليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله؛ أين الله؟!
فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا
في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيُقْبِل
هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريمًا قابلاً للمعذرة
يمنُّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائل
فنسأله من فضله.
إن الله لا يخفي عليه شيء، فهلا اتقيته يا عبد الله!(45/7)
صور من المراقبة
يعسُّ عمر -رضي الله عنه- ليلة من الليالي، ويتتبع أحوال الأمة، وتعب واتكأ على جدار، فإذا بامرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: إن عمر أمر مناديه أن ينادي: ألا يشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: يا ابنتي قومي إنكِ بموضع لا يراكِ فيه عمر ولا مناديه، فقالت البنت المستشعرة لرقابة الله: يا أماه! أين الله؟ والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا.
ويمر عمر مرة أخرى بامرأة أخرى تغيب عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- قد تغيبت في ظلمات ثلاث: في ظلمة الغربة والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:
تطاول هذا الليل وازورَّ جانبه وأرَّقني ألا حبيب ألاعبه
فو الله لولا الله لا رب غيره لحُرِّك من هذا السرير جوانبه
من الذي راقبته في ظلام الليل، وفي بُعْد عن زوجها، وفي هدأة العيون؛ والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أنْعِم بها من مراقبة، وأنْعِم بها من امرأة!
وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها -كما أورد ابن رجب - ثم قال لها: لا يرانا أحد إلا الكواكب.
فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟! حالها: أين الله يا رجل؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك، إذ تبيت ما لا يرضى من القول!(45/8)
ثمرة المراقبة قصة وعبرة
أخيرًا! اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن، وإنما وقع في زمن مضى؛ لتعرف ثمرة مراقبة الله -عز وجل- واستشعار ذلك الأمر.
رجل اسمه نوح بن مريم كان ذا نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة ذات منصب وجمال، وفوق ذلك صاحبة دين وخلق، وكان معه عبد اسمه مبارك لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولكنه يملك الدين والخلق -ومن ملكهما فقد ملك كل شيء- أرسله سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين، واحفظ ثمرها، وقم على خدمتها إلى أن آتيك، فمضى الرجل، وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، ليستجم في بساتينه؛ وليستريح في تلك البساتين.
جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك! ائتني بقطف من عنب، فجاءه بقطف، فإذا هو حامض، فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض، فأتاه بآخر فإذا هو حامض، فقال: ائتني بآخر إن هذا حامض، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض، وكاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك! أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتيني بقطف لم ينضج، ألا تعرف حلوه من حامضه؟ قال: والله! ما أرسلتني لآكله، وإنما أرسلتني لأحفظه، وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو! ما ذقت منه عنبة واحدة، والذي لا إله إلا هو! ما راقبتك ولا راقبت أحدًا من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السَّماء.
فأعجب به، وأُعْجِب بورعه، وقال: الآن أستشيرك -والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن- تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة! نظر وقدَّر وفكَّر، وتملى ونظر فما وجد خيرًا من مبارك، قال: أنت حرُ لوجه الله، فأعتقه أولاً، ثم قال: لقد قلبت النظر، ورأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت، قال: اعرض عليها، فذهب فعرض على البنت، وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بـ مبارك، قالت: أترضاه لي؟ قال: نعم.
قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكان الزواج المبارك من مبارك، فما الثمرة وما النتيجة؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل، إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلَّب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيًا بسيرته وذِكْره الطيب، إن ذلك ثمرة مراقبة الله -عز وجل- في كل شيء.(45/9)
مراقبة الله ظاهراً وباطناً
أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة؛ لصلحت الحال واستقامت الأمور.
فيا أيها المؤمن: إن عين الله تلاحقك أينما ذهبت، وفي أي مكان حللت؛ في ظلام الليل وراء الجدران وراء الحيطان في الخلوات في الفلوات، ولو كنت في داخل صخور صم.
هل علمت ذلك واستشعرت ذلك فاتقيت الله ظاهرًا وباطنًا، فكان ظاهرك خيرًا من باطنك، بل باطنك خيرًا من ظاهرك؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
عباد الله: اتقوا الله فيما تقولون، واتقوا الله فيما تفعلون وتذرون، واتقوا الله في جوارحكم، واتقوا الله في مطعمكم ومشربكم، فلا تدخلوا أجوافكم إلا حلالاً؛ فإن أجوافكم تصبر على الجوع، لكنها لا تصبر على النار، اتقوا الله في ألسنتكم، واتقوا الله في بيوتكم، وأبنائكم، وخَدَمِكم، وأنفسكم، وليلكم ونهاركم، واتقوا الله حيثما كنتم: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(45/10)
الشهود يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(45/11)
شهادة الله تعالى
عباد الله: اعلموا علم يقين أن الله هو الرقيب، وأنه الحسيب، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، فهو الشهيد وكفى به شهيداً، ومن حكمته سبحانه وبحمده أن جعل علينا شهوداً آخرين لإقامة الحجة حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهود علينا وكفى بالله شهيداً.(45/12)
شهادة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن هؤلاء الشهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41 - 42] فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيشهد على الأمم، وعلى هذه الأمة.(45/13)
شهادة الملائكة
والملائكة -أيضًا- سيشهدون، وكفى بالله شهيدًا، قال الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].
ويقول جلَّ وعلا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18].
فالملائكة أيضًا ستشهد.(45/14)
شهادة الكتاب والسجلات
والكتاب سيشهد، والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغير والكبير، والنقير والقطمير، تنظر في صفحة اليوم الثامن من هذا الشهر، فإذا هي لا تٌغادر صغيرة ولا كبيرة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14].(45/15)
شهادة الأرض
والأرض التي ذللها الله -عز وجل- لنا ستشهد بما عُمل على ظهرها من خير أو شر: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4] ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر؛ بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة؛ فإذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء.
وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.(45/16)
شهادة الخلق
والخلق -أيضًا- سيشهدون، وكفى بالله شهيدًا.
لطالما تفكه الإنسان بين هؤلاء الخلق بالوقوع في أعراض المسلمين، وبذكر ما ستره الله عليه؛ وما علم أن الخلق يشهدون.
في الصحيح: {أن جنازةً مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه، فيثني عليها الناس خيرًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: وجبت.
وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوءًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: وجبت.
فيتساءل الصحابة، فيقول صلى الله عليه وسلم: أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه}.(45/17)
شهادة الجوارح
وسيشهد ما هو أقرب من هذا؛ ستشهد الجوارح، فأيدٍ تشهد، وأرجل تشهد، وألسن تشهد، وجوارح تشهد: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].(45/18)
وقفة محاسبة
فاتقوا الله يا عباد الله! واجعلوا هؤلاء الشهود جميعهم لكم لا عليكم، وبادروا أنفسكم وأعماركم بالأعمال الصالحات قبل حلول الآجال وبقاء الحسرات:
أيا من يدَّعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم
تعبي الذنب بالذنب وتخطئ الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب
وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت فتحطاط وتهتم
فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو
وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم
وحتى ما تجافيك وإبطاؤك لافيك
طباع جمعت فيك عيوب شملها انضم
أتسعى في هوى النفس وتحتال على الفلس
وتنسى ظلمة الرَّمس ولا تذكر ما تم
ستذري الدم لا الدمع إذا عاينت لا جمع
يقي في عرصة الجمع ولا خال ولا عم
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
فبادر أيها الغمر لما يحلو به المر
فقد كاد يهي العمر وما أقلعت عن ذم
وزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير وخفف لجَّة اليمَّ
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون!
يا من دبَّر الدهور، وقدَّر الأمور، وعلم هواجس الصدور!
يا من عليه يتوكل المتوكلون! أَقِلْ العثرة، واغفر الزلة، وجُدْ بحلمك على من لم يرجُ غيرك ولا قصد سواك.
اللهم هب لنا فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلاً، وكن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وتولَّ أمرنا، لا إله إلا أنت.
أنت حسبنا.
اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنىً لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، واغننا اللهم عمن أغنيته عنا.
اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، يا حي يا قيوم، يا قوى يا عزيز.
اللهم خلقت أنفسنا وأنت تتوفاها، فزكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، لك مماتها ومحياها.
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، في حاجة إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابنا، اللهم فجازنا بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عفوًا وغفرانًا، اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور، واغفر لنا ولجميع موتى المسلمين يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(45/19)
أي الغادين أنت
إن كل إنسان في هذه الدنيا لابد له من طريق يسلكه إما إلى خير وإما إلى شر، فعلى المسلم أن ينظر أي الغادين هو، فإن كان من الغادين إلى الخير والصلاح فليحمد الله، وأما إن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وعليه أن يتوب قبل أن يحال بينه وبينها.(46/1)
النهاية الكبرى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله الذي جمعنا وإياكم في هذا المسجد أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان، ثم يجمعنا بكم أخرى سرمدية أبدية في جناتٍ ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أيها الإخوة في الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً صالحة تُبيَّض وجوهنا يوم نلقى الله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحاً يا صاح
كيف البقاء مع اختلاف طبائع وكرور ليل دائم وصباح
تجري بنا الدنيا على خطر كما تجري عليه سفينة الملاح
تجري بنا في لج بحر ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح
فاقضوا مآربكم عُجالى إنما أعماركم سفراً من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وحاذروا أن تُسترد فإنهن عوار(46/2)
شدة خوف الصحابة الكرام من الموت
في الصحيح عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله} وفي رواية المنذري {ولحثوتم على رءوسكم التراب} يوم روى هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه بكى وأبكى، وقال [[وددت -والله- أني شجرة تعضد]] ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص: [[والله لو تعلمون حق العلم ما تلذذتم بلذيذة، ولقام أحدكم بين يدي ربه حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته]] فلا إله إلا الله!
الموت آت والنفوس نفائس والمستغر بما لديه الأحمق
الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب وما من باب إلا وبعده دار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما يُرضي الإله وإن فرطت فالنار(46/3)
الموت صرخات وزفرات
فلا إله إلا الله كتب الموت على كل شيء واختص نفسه سبحانه بالبقاء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني! وإن كانت غير ذلك قالت -بصرخات تقض المضاجع-: يا ويلها أين تذهبون بها، لما ترى من العذاب، فيسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن} وتفزع البهائم فزعاً يلاحظه من يتابع سير البهائم بلا سبب، فلعل ذلك مما تسمعه ولا نسمعه نحن من صرخات المفرطين التي تقض المضاجع.
أما والله لو حملنا جنازةً من الجنائز ثم سمعنا تلك الصرخات -يا ويلها أين تذهبون بها- لصعقنا، ولما تدافنا، ولما حملنا جنازة أبداً، ولقد خشي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا كما في الصحيح يوم يقول: {والله لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع} وها هو صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث البراء يرى أُناساً مجتمعين فيسأل عن سبب اجتماعهم؟ فقيل: على قبرٍ يحفرونه، على ذاك المصير الذي لابُدَّ لكل واحد منا أن يسكنه؛ كبر أم صغر، عزَّ أم ذل، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً مسرعاً حتى انتهى إلى القبر، فجثى على ركبتيه ثم بكى طويلاً، ثم رفع رأسه، فإذا دموعه تتحدر على لحيته قائلاً: {أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا}.
إلى كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي
فلو كُنَّا جماداً لاتعظنا ولكنا أشد من الجماد
تُنادينا المنية كل وقت وما نصغي إلى قول المنادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاصٍ ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اصفرار فليس دواؤه غير الحصاد
كأنك بالمشيب وقد تبدَّى وبالأخرى مُناديها يُنادي
وقالوا قد قضى فاقرأ عليه سلامكمُ إلى يوم التنادي(46/4)
الحكمة من خلق الإنسان
أحبتي في الله! لماذا خُلقنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ وما الهدف؟ وما الغاية؟ وما الحكمة من هذا الخلق؟
إن لكل شئ حكمة وضعها الله عز وجل؛ عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، الشمس من حكمها أنها تضيء للبشر، والمطر ينبت الأرض، والحيوانات لتركب ولتؤكل وزينة، ويخلق ما لا تعلمون {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل:7].
كل شئ في الوجود لحكمة من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة.
فما الحكمة من خلقك أيها الإنسان؟!
ألتذبح الحيوانات لتأكلها؟
ألتلبس أبهى اللباس؟
ألتسكن أحسن الدور والقصور؟
ألتنكح أجمل الزوجات لتتمتع بهن؟
ألتنام على الوثير ولتتنعم؟
ألتركب أفخم السيارات؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد! ما خُلِقْنَا إلا لعبادة الله الواحد الأحد القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] والقائل سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].(46/5)
القرآن كتاب هداية ونور
لقد جعل الله لنا طريقاً مستقيماً، فقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] ليس هذا فحسب؛ بل أرسل إلينا رسولاً هو خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، صاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، فجاء صلى الله عليه وسلم بأعظم معجزة عرفتها الأمم، ألا وهي القرآن، من استنار بنوره قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.
من التمس الهداية فيه هداه الله، ومن التمس الهدي في غيره أضله الله وأهانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
فما حالنا مع هذا القرآن؟! وما حال أبنائنا مع هذا القرآن؟ مع كلام الله جلّ وعلا، هل علَّمناه أبناءنا؟ هل دفعناهم إلى المساجد ليتعلموا كلام رب العزة والجلال؟
إن كُنَّا كذلك فأبشروا بالعزة والنصر في الحياة، والسعادة يوم تلقون الله عز وجل.
وإن كُنَّا غير ذلك فإنَّ من جعله خلف ظهره ساقه إلى النار، نسأل الله العافية من النار.
جاء صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليقطع الطريق على كل مبتدع وكذاب وأفاك ومُدعٍ للنبوة من بعده صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده؛ فخلَّد الله دعوته، وخلَّد الله رسالته، وجاء المدعون للنبوة في عهده ومن بعده فما جعل الله لدعوتهم أثراً؛ لأنها دعوة باطل، والباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة.
جاء المدعون للنبوة من بعده فاندحروا بالقرآن، جاء مسيلمة فبم لُقِّب؟ لقب بالكذاب إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجاء الأسود العنسي فباد هؤلاء وسادت رسالته صلى الله عليه وسلم بالحق، فما على وجه الأرض أحد يقول: أشهد أن مسيلمة رسول الله، لكن على وجه الأرض ألف مليون مسلم في الجملة كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فوق ذلك أجرى أحد العلماء دراسة على خطوط الطول والعرض على الأرض، فأثبت أنه ما من دقيقةٍ تمر الآن إلا ومئذنة على وجه الأرض يسمع عليها "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله": {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فلا إله إلا الله!
أيد الله رسوله بالقرآن، وبما يزيد على مئات المعجزات الظاهرات القاهرات.(46/6)
اقتربت الساعة فالعمل العمل
ها هو الإمام أحمد في مسنده يروي: {أن راعياً خرج بغنمه إلى الفلاة في يومٍ من الأيام، وجاء ذئبٌ فعدى على شاةٍ، فانقضَّ عليه الراعي وأمسك بالشاة وأخذها من فم الذئب، فما كان من الذئب إلا أن تأخر وأقعى على ذنبه، وتكلم كلام الإنس وقال: أما تتقي الله تأخذ رزقاً ساقه الله إليّ، فقال الراعي: يا عجبي! ذئبٌ يتكلم، قال الذئب: وأعجب من ذلك محمد بشر يُخبرك بأنباء من سبق، فما كان من هذا الراعي إلا أن أخذ غنمه وانطلق بها إلى مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليدخل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فيُنادي النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة -لاجتماع الناس- فيجتمع الناس، فيقول صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس} ولقد كلمت السباع الإنس على عهد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وأشار بإصبعيه صلى الله عليه وسلم، فماذا يقول من كان بعده بأربعة عشر قرناً، نسأل الله أن يحسن الحال.
ليس هذا فحسب، فقد روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أن أهل مكة سألوه آية على قدرة الله عز وجل ليؤمنوا كما ادعوا، فسأل ربه آية، فانفلق القمر فلقتين، فلقة على جبل وفلقة على جبل آخر، فقالوا سحر أعيننا محمد -واستكبروا وصدوا وندوا- وقال المنصف منهم: نذهب إلى أهل البوادي فنسألهم هل رأوا ما رأينا، فذهبوا إلى البادية وسألوهم، قالوا: إي والله! قد انفلق فلقتين في تلك الليلة، فقالوا مصدين ومعرضين: سحرٌ عمَّ البادية والحاضرة، فأنزل الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]}.
وها هو صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم لا يمر على شجرة قبل أن يبعث إلا وقالت: السلام عليك يا رسول الله! ولا يمر على حجرٍ إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! جماد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرٌ صدوا وندوا عنه صلى الله عليه وسلم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح بـ المدينة: {والله! إني لأعرف حجراً بـ مكة كان يسلّم عليَّ قبل أن أُبعث}.
ليس هذا فحسب؛ فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من الأيام في فلاة ليقضي حاجته، قال: فتبعته بماءٍ له، قال: وإذا به يأتي إلى واد على شاطئيه شجرتان، قال: فلم يجد ما يستتر به، فذهب إلى إحدى الشجر وأمسك بأغصانها، وقال: انقادي بإذن الله، قال: فوالله! لقد انقادت وراءه كما ينقاد البعير المخشوش -الذي في أنفه رباط يسحب به- ثم ذهب إلى الثانية فوضع يده عليها وقال: انقادي بإذن الله.
فانقادت معه، حتى جاءت وأصبح بينها فقال: التئما عليَّ بإذن الله.
فالتأما عليه حتى لا يرى صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته، قال: ثم ذهبت مولياً لئلا يبتعد المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا رآني وإذ به ينتهي من قضاء حاجته، ثم يقول للشجرة الأولى: ارجعي فترجع بأمر الله إلى مكانها، وترجع الثانية إلى مكانها} آيات ومعجزات ظاهرات بينات، لكن -يا أيها الأحبة- صدق قوم بذلك وآمنوا، فأطاعوا الله ورسوله، فكان لهم ما قاله الله جلَّ وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70].
وصنف آخر! كذَّب وصد واستكبر بعقل جامد، وقلب فارغ، ساه لاه لا يفقه، عين لا تبصر، وأذن لا تسمع، بهيمة في مسلاخ بشر، عصى الله وتعدى حدوده؛ فكان له ما قال الله جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14].
ها أنت -أخي الحبيب- رأيت صنفين لا ثالث لهما، وسمعت بغاديين لا ثالث لهما، غاد غدا لإعتاق نفسه من النار فهو الفائز، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يغدو ويروح في طاعة الله جلَّ وعلا.
وغادٍ آخر غدا ليوبق نفسه ويهلكها بالفسق والفجور فهو الخاسر، فأيَّ الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/7)
موبقات ومعتقات
حدد موقعك، واعرف مصيرك، فأنت أحد غاديين لا محالة.(46/8)
غادٍ مهلك نفسه بالشرك
فغادٍ يغدو من بيته ليهلك نفسه بالإشراك بالله، إن تكلم فلا تسمع منه إلا نتن الألفاظ الشِرْكِيَّة، تفوح من فمه وتغدو وتروح.
مِن هذه الألفاظ: استعانته بالجن يقول: خذوه وافعلوا به واركبوه!! مع أنه قد كان قبلها قليلاً يُردد في صلاته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فأين العبادة وأين الاستعانة بالله عز وجل؟!
إن أصيب بمصيبة -ليرفع الله درجته- في حبيب له مرض أو في قريب له أو في نفسه هو؛ لم يذهب ولم يلجأ إلى الله ويطلب الأسباب الشرعية، بل يذهب إلى السحرة والدجالين والمشعوذين، فيبيع دينه ودنياه ناسياً قول الله جل وعلا: {إنه مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وينسى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم}.
يغدو فيحلف بكل شئ إلا بالله الذي لا إله إلا هو، بالطلاق يحلف وبالحرام يحلف وبالذمة يحلف وبالحياة يحلف وبالنبي يحلف؛ لكنه لا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ناسياً قوله صلى الله عليه وسلم أو متناسياً: {من كان حالفاً فليلحف بالله أو ليصمت} {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} {ومن حُلِفَ له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله}.
وها هو -كما في الصحيح- رجل من بني إسرائيل احتاج إلى مائة دينار، فذهب إلي رجلٍ آخر، وقال له: أريد أن تقرضني مائة دينار؟ قال: هل لك من شهيد؟ قال: والله ما لي من شهيد إلا الله.
قال: فكفى بالله شهيداً، قال: هل لك من كفيل؟ قال: ما لي من كفيل إلا الله.
قال: كفى بالله كفيلاً، أعطاه المائة الدينار، ورضى بالله كفيلاً وشاهداً، وما كان من هذا الرجل إلا أن تواعد هو وإياه على أن يلتقيا بعد مدةٍ معلومة، فأخذ المائة الدينار وانتقل إلى بلده وعبر البحر، وكان بلده في الشاطئ الثاني وجمع المائة الدينار يريد أن يفي بوعده جزاء لمن أقرضه، وجاء إلى البحر ينتظر سفينة لعلها توصله، فلم يجد سفينة من السفن ولم يجد مركباً من المراكب، وهو يريد أن يوصلها في وقتها، فماذا فعل؟
أخذ عوداً من الحطب ثم حفره ثم وضع المائة الدينار فيه ثم أغلقه، ثم رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى، وقال: اللهم يا رب! إني استقرضته فأقرضني، ورضي بك كفيلاً، ورضي بك شاهداً، ولم أجد ما أوصل له هذه الدراهم، اللهم فبلغه هذه الدراهم والدنانير ثم رمى بها في البحر، وتأتي رياح الله عز وجل تسوقها إلى الشاطئ الثاني، ذاك ينتظر آية من مجيء هذه الدراهم وآية من مجيء الرجل وظن أنه قد غدر به، فكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! وإذ بهذه الخشبة على الأمواج تأتي إلى طرف البحر، قال: إذاً آخذ هذا العود من خشب لعلي أرجع به لنحتطبه ولنشعل به نار خيراً من أن أرجع بلا شيء.
أخذه وذهب إلى بيته وجاء ليكسر العود وإذ بهذه المائة الدينار في وسطه، فقال: لا إله إلا الله! من رضي بالله كفاه الله، فهل رضينا بالله جلَّ وعلا.(46/9)
غادٍ معتق نفسه
وذاك غادٍ آخر يغدو؛ لإعتاق نفسه؛ إن تكلم فبذكر الله، وإن استعان استعان بالله، وإن سأل فبالله، وإن أُصيب بمصيبةٍ لجأ إلى الله، ثم طلب الأسباب الشرعية لا الأسباب الشركية، إن حَلَفَ فبالله، وإن حُلِفَ له بالله رضي، فهو غادٍ في حفظ الله وعائدٌ في عناية الله.
فأي الغاديين أنت؟ فكلٌ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وغاد آخر يغدو فيقدم مراد الله عز وجل على شهواته وعاداته، ويقدم مراد الله وأوامره على لذاته وعاداته وتقاليده، فالحكم حكم الله، والأمر أمر الله، والنهي نهي الله، والسعادة لا تكون إلا من الله، ووالله! لن يسعد إنسانٌ حتى يُقدٍّم أوامر الله على كل هوىً في نفسه، وعلى كل حكم، وعلى كل أمر وعلى كل نهي، وعند ذلك يكون له الأجر الجزيل والخير العظيم من الله.
وفي الأثر: {أن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي! ما من عبدٍ آثر هواي على هواه إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}.
وآخر يٌقدِّم ويغدو؛ فيقدم شهوات نفسه ولذائذها وعاداتها وتقاليدها على مراد الله جلَّ وعلا، فتجده يعبد هواه، فما فما وافق عادته وشهوته وهواه فهو الحق في رأيه فيعمل به، وما خالفها فهو الباطل فيعرض عنه؛ حتى لو كان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يريد الدين موافقاً لشهواته، ورغباته، ويريد أن يخضع له كل شيء، فيقبل أي حكم ويرفض أي حكم ما دام أنه لا يتفق مع شهوته: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وفي الأثر: {أن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كَثَّرت همومه، وفرقت عليه ضيعته، ونزعت الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه، ثم لا أبالي في أي أودية النار هلك}.
فأي الغاديين أنت؟
فكلٌ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/10)
من إيباق النفس ترك الصلاة
وغادٍ آخر يغدو فيترك الصلاة ويتبع الشهوات؛ فيوبق نفسه كأنه لم يسمع قولَ ربِّ العزة والجلال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]، كأنه لم يسمع قول الله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] كأنه لم يسمع الذين لم يصلوا يوم أصبحوا في النار، يوم يقول الله لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
الصلاة ركن هام، وفرض فرضه الله لأهميته من فوق سبع سماوات، أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماوات العُلا؛ لتفرض عليه من فوق سبع سماوات، أمانة عظيمة ويل لمن ضيعها، فمن تركها فقد كفر بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر} ويترتب على ذلك: ألاَّ يزوج؛ لأنه كافر، وإن كان متزوجاً بطل نكاحه، ولا يغسل إذا مات، ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث ولا يجوز الاستغفار له بعد موته، فلا يجوز أن نقول: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له؛ لأن الله يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] وأسأل الله ألا يكون فينا من يترك الصلاة، يترك الصلة بينه وبين ربه، لكن قد نجد فينا الكسول الذي لا يصليها مع المسلمين وإنما يصليها في بيته، نقول لهذا: قد فَوَّتَّ على نفسك أجراً عظيماً، وارتكبت إثماً مبيناً، إن رب العزة والجلال يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهو القائل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37].
تقول عائشة رضى الله عنها وهى تصف هيئة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته: [[كان يكون في خدمة أهله؛ يخصف نعله، ويعجن العجين أحياناً صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع: الله أكبر؛ فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه]] سمع نداء الله فلبى نداء الله صلى الله عليه وسلم.
هو القائل صلى الله عليه وسلم في رؤياه -ورؤيا الأنبياء حق ووحي- كما روى البخاري عن سمرة بن جندب يقول: {أتاني الليلة آتيان، فانطلقا بي حتى جئنا على رجل مضطجع ممدود، وآخر قائمٌ عليه بصخرةٍ يثلغ رأسه ويتدهده الحجر، قال: ثم يصح رأسه فيعود كما كان، ثم يفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى، قال صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا لرجل يقرأ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة} لا إله إلا الله! أيُّ جسدٍ يطيق مثل هذا العذاب؟
وَرُوِيَ كما أخرج الحاكم عن ابن عباس: {ثلاثة لعنهم الله: رجل أم قوماً هم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجلٌ سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجبه} يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب]] ويقول صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً.
ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب لأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وفي رواية: {ولولا ما فيها من النساء والذرية لفعلت ذلك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هذا غادٍ.(46/11)
معتق نفسه بالصلوات
أما آخر فيغدو إلى المسجد ليُصلي مع جماعة المسلمين فيعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح، ما خطا خطوة إلا كُتِبَ له بها حسنة، ولا رفع أخرى إلا وَرُفِعَ عنه سيئة، ما جلس من مجلس إلا وملك موكل به يقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى تقام الصلاة، فما بالك إذا كان يقرأ القرآن.
ها هو ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير يقول أبناؤه: كان كثيراً ما يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة.
قالوا: وما الميتة الحسنة يا أبتاه؟! قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد، وتحل به سكرات الموت قبل صلاة المغرب، ويسمع نداء: الله أكبر، الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح فماذا كان منه؟ قال: أقعدوني واحملوني إلى المسجد، قالوا: قد عذرك الله، مريض في سكرات الموت.
قال: أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، فحملوه على أكتافهم وأوصلوه إلى المسجد، فصلى معهم صلاة المغرب حتى الركعة الأخيرة، فسجد فكانت السجدة الأخيرة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
وها هو حاتم الأصم عليه رحمة الله فاتته صلاة العصر يوماً من الأيام جماعةً مع المسلمين، فذهب أهل المسجد يعزونه في جماعةٍ فاتته.
كانوا يُعزِّي بعضهم بعضاً إذا فاتته جماعة، دخلوا عليه في بيته وهم قلة، فعزوه فبكى، قالوا: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنها فاتتني جماعة فعزاني بعض أهل المدينة، ووالله! لو مات أحد أبنائي لعزاني أهل المدينة كلهم، ووالله! لموت أبنائي جميعاً أهون علي من فوات هذه الجماعة.
هكذا كان سلفنا الكرام.
وهذا سعيد بن المسيب وهو في سكرات الموت وكان بنياته الصغار حواليه يبكين، فيقول لهن: "أَحْسِنَّ الظن بالله، فوالله! ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد ستين سنة".
هكذا كانوا -أيها الأحبة- فأي الغاديين أنت؟ وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/12)
الاستهزاء بالدين
وذاك غادٍ يغدو لإهلاك نفسه، فيُسلط لسانه وسنانه، ويسلط قلمه في النيل من المسلمين؛ بالسخرية بهم، والاستهزاء بدين الله، وبعباد الله، وبشعائر الله؛ ليرتكب أعظم جريمة ألا وهي الدعوة إلى الظلام، فيكون عليه وزره ووزر من أضله إلى يوم القيامة، وفوق ذلك يبوء بالكفر الذي يقوده إلى النار.
في غزوة تبوك، يوم اتجه المسلمون مع قائدهم صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من المدينة حوالي ألف كيلو متر في صحارٍ في وقتٍ حار، وبلغ بهم الجهد مبلغه، حتى إن أحدهم في ليلة من الليالي قام يبول فسمع صوت جلد تحت بوله، فما كان إلا أن نفضه من البول ثم أشعل النار ووضعه فيها وأكله من شدة ما يلاقي من الجوع، وتأتي ثلة منهم ليسخروا برسول الله وبأصحابه فيقولون: ما رأينا كقرائنا هؤلاء! أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويأتي الكلام من الله عز وجل إلى رسوله، ويسري الخبر بينهم، فيلحقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
يغدو أحدهم فيكتب كلاماً يسب فيه الإله سبحانه وتعالى، يقول:
لم يبق من كتب السماء كتاب مات الإله وعاشت الأنصاب
جلَّ الله سبحانه وتعالى، ثم يستهزئ ويسخر ويظن أنه لن يقف بين يدي الله جلَّ وعلا، لكن:
إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت كليلة وقال الدجى للصبح وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل(46/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
آخر يغدو ليُعتق نفسه، فيدعو الناس إلى توحيد الله، وإلى ما فيه الخير بقلمه وبلسانه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأنه من أمة الأمر والنهي، وأنتم يا أهل هذه القرية البعيدة عن صخب المدينة، وعما يحدث في المدنية من الفساد! إنكم لتغبطون على قريتكم هذه بين هذه الجبال، وإنكم لتغبطون على مثل هذا الاجتماع، فالله الله! لا تسكتوا على منكر، الله الله! سلطوا ألسنتكم في الأمر بالمعروف، كونوا جبهة ضد كل مفسد، فوالله! لا يمكن أن تسعد هذه البلدة ولا تسعد أي بلدة من بلاد الدنيا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فلنأمر بالمعروف في بيوتنا وفي شوارعنا، ولننه عن المنكر أياً كان المنكر؛ لأن الله عز وجل رتب النجاة للذين ينهون عن السوء: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].
يوم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ فيستجيب لك واحد يكون لك مثل أجره لا ينقص من أجره شئ، ثم إن الله يهدي بك الضال فيكون لك من الأجور الشيء الكثير: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
أتريد رحمة الله يا عبد الله؟ اسمع ما قال الله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته، فأي الغاديين أنت؟ وكلٌّ يغدو؛ فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/14)
موبقات ومعتقات من المصائب والحاجات(46/15)
الصبر عند المصائب
وذاك غادٍ في دنياه، ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه ويهلكها، فيتسخط من قضاء الله وقدره، ويعترض على قدر الله، ما علم أن المصائب ترفع الدرجات لمن احتسبها عند الله سبحانه وتعالى، وما علم أن الله مع الصابرين، يصاب في دنياه فيكسر دينه:
وكل كسر لعل الله جابره وما لكسر قناة الدين جبران
يقول عند الصدمة الأولى يوم يصاب في حبيب أو قريب أو في نفسه: لم يا رب؟ يعترض على قضاء الله وقدره يشق الجيب، ويلطم الخد، ويدعو بالويل، وبالثبور وبعظائم الأمور على نفسه، والملائكة في تلك اللحظة تقول: آمين آمين، فالمصيبة مصيبتان لا هو احتسب هذه، وإنما أصبحت مصيبته بفقد حبيبه، ومصيبته الأخرى: بضياع الأجر في تلك اللحظة، والمحروم من حُرِمَ الثواب.
وأنا أسأل سؤالاً يا أيها الأحبة: هل سيعود ميت إن مات؟
والله! ما سمعنا أن ميتاً مات فعاد، لكنه ذهب ونحن على الأثر، إن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصر.
هاهو أحد السلف -شابٌ من شباب السلف- كانت له زوجة صالحة، وكان له أولاد، ثم حلَّت به سكرات الموت التي لابد أن يعاني كل واحد منا هذه السكرات، ونسأل الله أن يهونها علينا وعلى كل مسلم، في تلك اللحظات التي يذعن فيها الإنسان ويخضع، ويذل لله عز وجل أياً كان، هذا الرجل مات فوجدت عليه زوجته وجداً عظيماً، ووجد عليه أولاده وحزنوا حزناً عظيماً؛ فأقسمت زوجته لتبكين عليه عاماً كاملاً.
وهذا ليس من عمل الإسلام، هذا جزعٌ وتسخط واعتراض على قضاء الله وقدره، فأخذت أولادها، وأخذت خيمةً لها، وذهبت ونصبتها عند قبره، وبقيت عاماً كاملاً تبكي، وأولاده الصغار حول قبره، فما خرج إليهم فكلَّمهم بكلمة، ما خرج إلى زوجته وقال: أحسنت، أو قال: اذهبي ووالله! لو خرج لقال: لا إله إلا الله، أو الحمد لله، أو سبحان الله؛ لأنه لا ينفعه في القبر إلا مثل هذه الكلمات، والله! لو كلَّم أبناءه بكلمة واحدة لسكن الناس كلهم المقابر ليُكلموا أحبابهم وأخواتهم وأصحابهم وأولادهم، فما منا واحد إلا وله في القبر عزيز أي عزيز؛ لكن قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
بقيت سنة كاملة وفي آخر السنة طوت خيمتها، وأخذت أولادها، وجاءت راجعة مع الغروب إلى بيتها، لم تجد جدوى من جلوسها سنة كاملة.
وإذ بهاتف يهتف بها ويقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ وإذ بهاتف آخر يرد ويقول: ما وجدوا ما فقدوا؛ بل يئسوا فانقلبوا.
ووالله! لن يرجع ميت -يا أيها الأحبة- فما على الإنسان إلا أن يحتسب في تلك اللحظات.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد ابنه إبراهيم الصغير فلذة كبده، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم؟ دمعت عينه، وتأثر قلبه؛ لكنه صلى الله عليه وسلم ما قال إلا ما يرضي ربه، وهو الأسوة والقدوة، قال: {العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
ها هي إحدى بناته صلى الله عليه وسلم كانت في يوم من الأيام لها ولد في النزع الأخير من سكرات الموت، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، وقالت: أخبره أن ابني في النزع لِيَحْضُرَه، فأخبره فقال: {مرها فلتصبر ولتحستب، فإن لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شئ عنده بأجل مسمى}.(46/16)
عبر وعظات على الصبر
يعقوب عليه السلام يفقد حبيبه وابنه وفلذة كبده يوسف عليه السلام مدة أربعين عاماً، فيصبر ولا يشكو إلى أحدٍ وإنما يشكو إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86].
أما الآخر؛ فيغدو ليعتق نفسه، يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله -كما سمعتم من هذا الذي ذكرت الآن- فيعوضه الله ويبشره: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ويا له من جزاء! ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وعند الترمذي: {أن الله عز وجل يقول للملائكة: قبضتم روح ابن عبدي المؤمن؟ -وهو أعلم سبحانه وتعالى- قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم.
قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع -قال الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال الله: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد} {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].
ذكر الذهبي وابن كثير عليهما رحمة الله أن عروة بن الزبير أحد علماء المدينة، الذي كان يقطع يومه صائماً غالباً، ويقطع ليله قائماً، ويختم القرآن في كل أربع ليال مرة، أخذ ابنه وسافر في يومٍ من الأيام، وأصابته الآكلة في رجل قدمه.
-وهو ما يسمى الآن بالسرطان- فجاءوا به إلى الأطباء فقالوا: نقطعها من القدم.
قال: لكني أنتظر وأصبر وأحتسب، فصعدت الآكلة إلى الساق، فقالوا نقطعها من الركبة.
قال: لكني أنتظر وأصبر وأحتسب.
فدخلت إلى الفخذ فقالوا: يخشى عليك.
قال: الله المستعان! سلمت أمري لله، فافعلوا ما شئتم.
فجاء الأطباء، وتجمعوا بمناشيرهم وجاءوا ليس لديهم مخدراً كما لدينا الآن، ما عندهم إلا كأس الخمر، فجاءوا له بكأس خمر، وقالوا له: اشرب هذا عله أن يذهب عقلك فلا تحس بألم القطع.
فصاح وقال: عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر؟! لا والله! لكن إذا أنا توضأت، ووقفت بين يدي الله وقمت لأصلي، وسَبَحَتُ مع آيات الله البينات، فافعلوا برجلي ما شئتم.
فتوضأ ووقف بين يدي الله، وجمعوا مناشيرهم، وسَبَحَ مع آيات الله البينات، وقاموا يقطعون في رجله بالمناشير، وإذا بالدماء تنزف، وإذ به يخر مغشياً عليه، وفي تلك اللحظة كان ابنه محمد وراء ناقة من النوق يطاردها فرفسته فأماتته.
مصيبتان في آن واحد أفاق من غيبوبته، فقالوا له: أحسن الله عزاءك في ابنك محمد، وأحسن الله عزاءك في رجلك.
فقال: الحمد لله رب العالمين، أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم يا رب! إن كنت أخذت فقد أعطيت، أعطيتني أربعة من الولد وأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأعطيتني أربعة من الأطراف فأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
صبر وأي صبر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
سمع به الوليد فطلب أن يأتي إليه، فذهب إليه في قصره، ودخل على الوليد وجلس عند الوليد وبه من الهم ما به؛ لكنه فوض أمره إلى الله جل وعلا، فجاء طفل صغير من أطفال الوليد وقال: ما أصاب عروة ما أصابه، إلا بذنب أصابه، فقال: لا والله!
والله ما مديت كفي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني سمعي ولا بصري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
لعله يتسلى به، فخرجوا يبحثون، فإذا هم برجلٍ أعمى يتلمس الطريق بجانب قصر الخليفة، فأدخلوه ويوم أدخلوه على الخليفة قال: ما خبرك؟ قال أنا رجل من بني عبس، والله! ما كان في بني عبس رجل أغنى مني، كانت عندي أموال كثيرة، وكان عندي أولاد كثر، كان عندي من الإبل والبقر والغنم والدراهم والذهب والفضة ما يعلمه الله جلَّ وعلا.
ثم عزب لي قطيع من الإبل، فخرجت أبحث عن هذا القطيع أتلمس، قال: ثم عُدتُ بعد ثلاث أيام وقد رجعت بالقطيع، فإذا سيل قد جاء على الوادي بعدي فلم يبق لي ولداً ولا أماً ولا أختاً ولا بنتاً ولا ابناً ولا مالاً.
فإذا الديار خرابٌ بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب
قال: فوقفت وإذا أنا بطفلٍ صغيرُ معلَّق بشجرة -طفلٍ صغير من أطفاله لم يبق سواه- قال: فتقدمت إليه وأخذته وضممته على صدري وأنتحب، قال: وإذا بأحد الجمال يند ويهرب، قال: قلت: ضيعت كل شيء من أجلك لأرجعن بك، فترك ابنه الصغير قال وبينما أنا أطارد الجمل، وإذا بصوت الطفل الصغير يصرخ، فإذا ذئب قد أخذه وسحبه من أمامي.
مصيبة أي مصيبة!! قال: فبقيت وراء الإبل لم يبق لي إلا الإبل، أريد أن أستعيد هذا الجمل، قال: فذهبت وراءه أطارده، وإذ به يرفسني فيعمي عيني، فإذا أنا في الصحراء لا أهل ولا مال ولا صديق ولا صاحب ولا أنيس إلا الله الذي لا إله إلا هو، وجئتك ووالله ما جئتك يا وليد شاكياً! ولكن جئتك ليعلم الناس أن لله عباداً يرضون ويسلمون بقضاء الله وقدره إذا قدر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].
ها هو أبو ذؤيب الهذلي يموت له ثمانية أبناء في يوم واحد بالطاعون؛ فيحمد الله، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويصبر ثم يقول بعض أبيات من الشعر هي عظة وعبرة يقول:
ولقد حرصت بأن أُدافع عنهم وإذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أُريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
فأي الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/17)
الظلم وخيم العاقبة
وذاك غاد يغدو ليهلك نفسه بظلم عباد الله جلَّ وعلا، يظلمهم بلسانه، ويظلمهم بيده، ويظلمهم بأي نوعٍ من أنواع الظلم، ناسياً قول الله عزَّ وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] متناسياً أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام، ويقول سبحانه: {وعزتي وجلالي! لأنصرنك ولو بعد حين}.
هاهو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، تأتي امرأة فتذهب إلى أحد خلفاء بني أمية وتقول: إن سعيد بن زيد غصبني أرضي وأخذها، وما كان لـ سعيد أن يأخذها، فيأتي به الخليفة، ويقول: أغصبتها أرضها يا سعيد؟! فتدمع عيناه، ويقول: والله ما غصبتها أرضها، ووالله لن أغصبها أرضها؛ لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: {من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طُوِّقَهُ يوم القيامة من سبع أراضين} يصبحُ طوق له من سبع أراضين يحمله يوم القيامة.
ثم قال: فلتأخذ أرضي إلى أرضها، وبئري إلى بئرها، ونخلي إلى نخلها؛ فإن كانت صادقة فذاك، وإن كانت كاذبة فأعمى الله بصرها وأرداها في أرضها.
وتصعد الدعوة إلى الله جلَّ وعلا -الذي ينصر المظلوم من الظالم، وتخرج هذه المرأة، وبعد فترة تُصاب بالعمى، ثم تذهب لتتخبط في أرضها التي أخذتها بالزور والجور، ثم تسقط في البئر مُتردية ميتة، نسأل الله أن يُحِسن لنا ولكم الختام.
وهاهم البرامكة وزراء الرشيد الذين كان منهم ما كان، كانوا في نعمةٍ من الله؛ لكنهم ما صانوا نعمة الله، تكبروا وتجبروا وظلموا عباد الله عز وجل، وظنوا أنهم في بُعدٍ عن قبضة الله عز وجل، ويسلط الله عليهم الخليفة فيقتل منهم من يقتل، ويدخل السجن منهم من يدخل، ويضرب أحدهم ألف سوط ثم يُدخله السجن وهو من كبارهم.
فيأتي أحد أبنائه يزوره، فيقول: أبتاه! بعد العز أصبحت في القيد؟ كانت قصورهم مطلية بالذهب والفضة، أين الذهب والفضة يا أبتاه؟ قال: ألا تدري يا بني؟ قال: لا.
قال: دعوة مظلوم سرت في جوف الليل نمنا عنها وليس الله عنها بنائم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].(46/18)
ظلم الحيوان
ألا وإن من أعظم الظلم ظلم الحيوانات، بعض الناس جبان، شجاعته سلَّطها على العجماوات، على الحيوانات والدواب التي سخَّرها الله عز وجل له.
شجاع على القطط وجريء على الكلاب!!
ها هو رجل أعرفه في منطقة الجنوب، وفي يوم من الأيام تردد حمار على مزرعة له، فيدخل كل يوم في هذه المزرعة ويأكل منها ما يأكل، فطرده في اليوم الأول، ثم طرده في اليوم الثاني، ثم طرده في اليوم الثالث، ولما آذاه كثيراً أخذه في ليلة من الليالي ثم ربطه في سيارته حياً ثم سحبه على الإسفلت إلى منطقة بعيدة حتى تمزق قطعة قطعة.
ظلم وأي ظلم! ويرجع إلى بيته ويأتي وفي البيت بعوض، فقام بمبيد حشري عنده يرشه في الغرفة حتى امتلأت بهذا الغاز، ثم جاء ليضيء المصباح فما كان من المصباح إلا أن أصدر شرارة فإذ بالغرفة تصبح عليه ناراً فيحترق بالنار، ثم يبقي يومين أو ثلاثة ليلقى الله، نسأل الله أن يحسن لنا وله الختام.
فالبهائم تشكو إلى الله عز وجل.
يدخل النبي صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار، فيجد بعيراً هناك يجرجر ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودموعه تذرف، يعرف أنه صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلا رحمة للعالمين، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أين صاحب هذا البعير؟ فيخرج فتى من الأنصار، ويقول: أنا يا رسول الله! فيقول: أما تتقى الله في هذه البهيمة تجيعها وتتعبها، إنها شكت إليَّ ما تجده منك} {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وسلم، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].(46/19)
دعوة المظلوم مستجابة
هاهو رجل كان يُكاري على بغلٍ له بين دمشق والزبدان كما يروي ابن كثير، وجاء يوماً من الأيام قاطع طريق فركب معه وذهبا في الطريق، وبينما هو في الطريق قال: اسلك هذه الطريق فهي أيسر وأقرب، قال: أنا منذ فترة وأنا أسلك هذا الطريق وأعرفها.
قال: هذا أقرب وأيسر.
فصدقه وذهب معه، فجاء إلى وادٍ سحيق وإذ بهذا الوادي فيه جثث القتلى كثير، وإذا به يأتي بالناس إلى هناك فيذبحهم ثم يسرق ما معهم، ظلم وأي ظلم!
جاء بهذا الرجل وأراد أن يقتله فهرب الرجل، فلحق به وأمسك به، قال: يا أخي! خذ كل ما أملك، خذ بغلتي، وخذ ثيابي، وخذ دراهمي، وخذ كل ما تريد ودعني أرجع.
قال: لابد من قتلك، قال: إن كان لابد فدعني أصلي ركعتين أودع بهما الدنيا.
يلجأ إلى الله -جل وعلا- قال: فقمت أصلي، وهو قائم عليَّ بالحربة يريد أن يقتلني، قال: فضيعت القرآن وأنا أرى الحربة فوق رأسي، فوالله! ما استحضرت آية من القرآن إلا أنني تذكرت قول الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] قال: فكررتها وإذ بفارس من فم الوادي يخرج على فرس ومعه حربة فينطلق حتى يضربه بالحربة فيرديه قتيلاً، قال: فتعلقت بثيابه، وقلت له: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا من جنود الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
دخل طاوس -عليه رحمة الله- على هشام بن عبد الملك ينصحه ويعظه ويحذره الظلم، ويقول له: اتق الله يا هشام! ولا تنس يوم الأذان.
قال: وما يوم الأذان يا طاوس؟! قال: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44] فأغمي عليه.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.
وآخر يغدو ليعتق نفسه فلا يظلم أحداً، إن تكلم فبالعدل، وإن حكم فبالعدل، وإن خاصم فبالعدل، وإن عاهد فبالعدل، والمقسطون العادلون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فأي الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/20)
معتقات وموبقات اجتماعية(46/21)
صلة الأرحام
وذاك يغدو ليقطع رحمه، فيوبق نفسه وتحل به اللعنة، يقول الله عزَّ وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] {إن الله لما خلق الرحم تعلقت بالعرش، وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى.
فمن وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله}.(46/22)
عقوق الوالدين
يغدو بعض الناس ليعق اللذين هما السبب في وجوده بعد الله جلَّ وعلا، والله عز وجل يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
واليوم نسمع -يا أيها الأحبة- ويا ليت الإنسان أحياناً لا يسمع، غيِّر اسم الأب، وأهينت الأم في كثيرٍ من البيوت يوم ضاعت تقوى الله جلَّ وعلا، فما تسمع في بعض البيوت إلا تسمية نتنة نتن الجيف، يقول لأبيه: شيبة النحس ويقول لأمه: عجوز الشؤم أراحنا الله منهما، إن هذه الكلمات لتنطلق من أولاد على والديهم.
فلا إله إلا الله! إن رضا الله في رضا الوالدين، وإن سخط الله في سخط الوالدين.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، ثم عقوق الوالدين} من أكبر الكبائر عقوق الوالدين، دعوة الوالدين غنيمة من الله عز وجل، دعوة الوالدين مستجابة لا تُرَدَّ، فكم من دعوة والد أوبقت دنيا الولد وأخراه! وكم من دعوة والد أسعدت دنيا الولد وأخراه!
يقول أبان بن عياش خرجت من عند أنس بن مالك بـ البصرة ومررت على السوق؛ فإذا أنا بجنازةٍ يحملها أربعة نفر ووراءهم امرأة، فقلت: ميت يموت من المسلمين لا يتبع جنازته إلا أربعة نفر! والله! لأشهدن هذه الجنازة، قال: فتقدمت ثم ذهبت وراءهم وحضرت الجنازة، فلما دفنوا هذه الجنازة قلت لهم: ما حالتكم مع هذه الجنازة لم يحضرها إلا أربعة؟ أين المسلمون؟ قالوا: استأجرتنا تلك المرأة لدفن هذا الرجل، فسلها ما لديها.
قال: فذهبت وتلمست الطريق وراءها حتى وصلت لبيتها، ثم تركتها وعدت لها بعد فترة ودخلت عليها، وقلت لها: أحسن الله عزاءك، لله ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجلٍ مُسَمَّى، ما خبرك وما خبر الجنازة التي دفنتموها في ذلك اليوم؟ قالت: إن هذا ابني، كان مُسِرفاً على نفسه، مرتكباً للموبقات والمعاصي والسيئات، كثير العقوق لي، ويوم حلّت به سكرات الموت، قال: يا أماه! أتريدين لي السعادة؟ قالت: إي والله! والأم والأب ينسى كل زلة من ولده في تلك اللحظات، قال: فإذا أصبحت في السكرات الأخيرة فلقنيني شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ضعي قدمك على خدي وقولي هذا جزاء من عصى الله، ثم ارفعي يديك إلى الله وقولي: اللهم إني أمسيت راضية عن ابني فارض عنه، ولا تخبرين أحداً بموتى فإنهم يعلمون عصياني ولن يشهدوا جنازتي.
قال: ففعلتي؟ قالت: إي والله! لقد فعلت ما قال، قال: فما الخبر؟ فتبسمت وقالت: والله! رأيته البارحة في المنام وهو يقول: يا أماه! قدمت على رب رحيم كريم غير غضبان عليَّ ولا ساخط بدعوتك.
رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.(46/23)
صور من عقوق الوالدين
هاهو شاب اسمه منازل رمز للعقوق عند العرب، ينهمك في المعاصي فيتقدم إليه أبوه فينصحه، ويقول له: اتق الله فيتقدم إلى أبيه فيلطمه، ويالله! ابن يضرب أباه، فحلف بالله ليحجن إلى البيت الحرام، وليدعون عليه وهو متعلق بأستار الكعبة، فذهب ووصل إلى الكعبة وتعلق بأستار الكعبة فكان يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا أرض المهامةً من قربٍ ومن بعد
هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
وتصعد الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، فييبس شق ولده الأيمن فيصبح يابساً بهذه الدعوة من هذا الأب.
وهاهو آخر: يحكى لي بائع مجوهرات ويذكر أنه في رمضان في سنة من السنوات: تقدم إليّ رجل وأمه وزوجته وابنه الصغير، قال: دخلوا عليّ في المحل، قال: فوقفت الأم متحجبة على استحياء وابن ابنها معها تمسك به، قال: وتقدمت الزوجة وزوجها فأخذوا من الذهب بمقدار عشرين ألف ريال، قال: ثم تقدمت الأم من هناك فأخذت خاتماً بمائة ريال، وجاء يُحاسب صاحب المجوهرات وهو يعرف أنه أخذ بعشرين ألفاً، قال: كم حسابك؟ قال: عشرين ألفاً ومائة ريال؛ قال: وما هذه المائة؟ قال: أمك أخذت خاتماً بمائة.
فغضب وأرغى وأزبد وتقدم إليها وأخذ الخاتم من يدها، وقال: العجائز ليس لهن ذهب وليس لهن زينة، فما كان من هذه الأم إلا أن ذرفت دموعها وتغصصت بجرعها، وما كان منها إلا أن خرجت بابنه تحمله بين يديها إلى السيارة، وركبت السيارة بها من الهم ما لا يعلمه إلا الله.
يقول صاحب المجوهرات وأنا أعرفه: والله! لقد بكيت أنا مما رأيت من الموقف، قال: فقالت زوجته: إن أمك هي التي تمسك بابننا وهى التي تخدمنا فما لك لا تعطيها هذا الخاتم، لن تمسك بابني بعد ذلك ولن تخدمني، فذهب إليها بالخاتم، وقال لها: خذي يا أماه! قالت: والله ما لبست ذهباً ما حييت، والله ما عرفت الذهب ما حييت أبداً، كنت أريدها لأفرح به معكم، فرأيت أن الأم لا داعي لها أن تلبس الزينة.
أرأيتم عقوقاً مثل هذا العقوق -أيها الأحبة-.
إن هذا في غياب تقوى الله -عز وجل- وفى غياب التربية الإسلامية في البيوت.(46/24)
دعوة الوالدين مستجابة
وهاهي قصة أخرى لتعلموا أن دعوة الوالدين مستجابة، فسلطوها فيما ينفع الأبناء في دنياهم وأخراهم.
داعية من الدعاة إلى الله يذكر عن أبيه، يقول: كان أبي في سن الشباب وَجَدُّهُ كان رجلاً صالحاً، قال: وأنا في سن الشباب فُتِحَ القبول في السلك العسكري في المملكة قبل فترة طويلة، قال: وكان عندي غنم كنت أرعاها، فقلت: لأذهبن مع الناس لأُسجل في العسكرية، فقال لأبيه: أُريد أن تأذن لي أن أذهب، فماذا كان منه؟ ما كان منه إلا أن قال: أنا لا أستطيع فيك يا بنى، أما أن آذن لك فوالله لا آذن لك، أما إن ذهبت فوالله الذي لا إله إلا هو فما لي إلا سهم أوجهه إلى الله في منتصف الليل ولعل الله لا يرده.
فذهب الرجل وخاف أن يذهب ويترك والده وبقي فترة ثم أغراه ذهاب الناس إلى هناك واستلام الرواتب وأغرته الدنيا، فترك غنمه مع غنم جيرانه وذهب، وقال: لا تخبروه عني إلا في الغد، فذهب وترك والده ولم يستأذنه ولم يخف من ذلك السهم الذي قال له.
وفي اليوم الثاني: يُخبر أبوه بأنه قد ذهب مع مجموعة ليُسجل في العسكرية بـ الطائف قال: فدعا عليه أبوه، وبينما هم في منتصف الطريق وإذ بالولد يعمى ولا يبصر شيئاً، فأخذوه وتقدموا به إلى الطائف وجاءوا إلى هناك فقالوا: هذا لا يصلح للعسكرية، هذا أعمى أعيدوه لوالده، فأخذوه وذهبوا به إلى والده، ولا يدرى والده ماذا حدث له.
وعندما دخلوا من الباب سمعه والده وعرف صوته وهو في فناء البيت لم يدخل بعد، قال: يا بُني! هل أصاب السهم أم لم يصب؟ قال: إي والله! إني لأدخل عليك أعمى مقاداً، فدخلوا به عليه فتأثر الأب تأثراً عظيماً، وندم أن دعا على ولده بهذه الدعوة، وبقى ليلته تلك في حزن لا يعلمه إلا الله، فقام يتوضأ ويصلي ويدعو الله أن يرد عليه بصره.
يقول: ومن حزنه على ولده يتقدم إلى عين ولده وهو نائم فيلحسها بلسانه، ثم يرجع فيصلي ويدعو الله، ثم يرجع مرة أخرى فيلحس عينه بلسانه وهكذا يرددها، يقول: والله! ما طلع الفجر إلا ورد الله -سبحانه وتعالى- عليّ بصري.
فهذه دعوة الوالدين.
وأنا لا أدعو الوالدين إلى أن يدعوا على أولادهم، وإنما أدعوهم أن يدعوا لأولادهم بالفلاح والسعادة، فإن فلاحهم وسعادتهم قد تدركك ولو بعد موتك، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لصلة الأرحام، وأن يجنبنا وإياكم العقوق، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
عبد الله بن عمر يرى طائفاً يطوف بالكعبة وهو يحمل أمه على كتفيه، ويقول: يا بن عمر! أتراني أوفيت أمي حقها؟ والله! إنها لعلى ظهري من كذا إلى الآن.
قال: لا والله! ما أوفيتها طلقة من طلقات الولادة.
العقوق دَين، وبروا تُبروا.
أسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم إلى صلة الأرحام وأن يجنبنا العقوق.
وهاهو غادٍ آخر يغدو ليبر والديه ويصل رحمه، فيصله الله -عز وجل- ويبره ويوفقه ويسدده ويدخله الجنة بإذنه سبحانه، شعاره:
{ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها}.(46/25)
صلة النبي صلى الله عليه وسلم لأخته من الرضاع
هاهي الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع؛ أرضعته وإياها حليمة السعدية في بادية بنى سعد، وبعد أربعين سنة من الفراق بين الأخ وأخته، حيث افترقا وهما صغيران، سمعت به أنه انتصر صلى الله عليه وسلم وانتصرت دعوته وهو بـ المدينة، فانتقلت من بادية بني سعد في الطائف تقطع الفيافي والقفار والصحاري التي يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، حتى جاءت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هناك، وبينا هي هناك والنبي صلى الله عليه وسلم في وسط جيشه؛ يدبر شئون الأمة ويصرف الجيوش، جاءت إلى أحد الصحابة تستأذنه لتدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية فاستأذنوه لأدخل عليه، فأخبروا النبي الله صلى الله عليه وسلم وكان جالساً في شئون الأمة يصرفها، قالوا: فذرفت عيناه الدموع صلى الله عليه وسلم، تذكر الوشيجة والعلاقة، وتذكر رضعات كانت بينه وبينها قبل أربعين عاماً، قالوا: ذهب إليها يستقبلها ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد فراق أربعين عاماً، ويسألها ما حالها: كيف حالك يا شيماء؟ مرحباً بك يا شيماء! يقولون: ويظللها صلى الله عليه وسلم من الشمس، ويجلسها في مكانه ليعلم الناس كيف يصلون أرحامهم -صلى الله عليه وسلم- وجلست معه وسألها عن رَبْعِها وعن أهلها وعن أخواتها، وما كان منه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن قال لها: يا شيماء! إن شئت أن تعيشي معي فأختي الحياة حياتي والموت موتي، وإن شئت أن ترجعي لأهلك فذلك لك.
قالت: بل أرجع لأهلي، فقام صلى الله عليه وسلم فجهزها بقطيع من الإبل، وبأرزاق معها؛ لِيُعَلِّمَ الناس صلة الأرحام لتعود إلى بادية بني سعد.
فأين الذين قطعوا عماتهم؟! وأين الذين قطعوا خالاتهم؟! وأين الذين قطعوا أمهاتهم؟! ما حال هؤلاء يوم يقفون بين يدي الله {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
فأي الغاديين أنت؟
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/26)
شهادة الزور
وغاد آخر يغدو ليهلك نفسه، فيشهد شهادة الزور يوم أصبحت شهادة الزور قرضة في بعض القرى، اشهد لي زوراً أشهد لك زوراً.
يقترض بعضهم من الآخر النار وبئس القرار.
{ما يبرح شاهد الزور مكانه حتى تجب له النار} كما قال صلى الله عليه وسلم.
أما الآخر: فيغدو فيعتق نفسه فيشهد شهادة الحق فيكون له الأجر، وياله من أجر! الجنة بإذن ربه.
فأي الغاديين أنت؟ وكل يغدو فبائع النفس فمعتقها أو موبقها.(46/27)
الرزق الحرام
والآخر يغدو ليهلك نفسه في البحث عن الرزق الحرام، لم يُوفَّق للحلال مطلقاً، فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، بيعه حرام، وشراؤه حرام، وماله حرام في حرام، يتغذى بالحرام من أخمص قدميه إلى رأسه.
إن تصدق لم يقبل الله منه صدقته، وإن خلف ماله وراء ظهره كان زاداً له إلى النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان لا يُبالي المرء أخذ ماله من حلال أم من حرام}، ويقول: {إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما}.
ومن أعظم الحرام؛ الربا: {الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها: مثل أن ينكح الرجل أمه} {درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية}.
والربا عم ودخل غالب البيوت إلا ما رحم الله، أسأل الله أن يجيرنا وإياكم من الربا، وغُيِّر بغير اسمه، وتناسى الذين تعاملوا به قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] نسوا قول الله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
تداوله الذين يُريدون إيباق أنفسهم، والله! لو لم يكن في أكل الحرام إلا أنه لا ترفع لصاحبه دعوة لكفى بذلك زاجراً عنه.
وآخر يغدو ليعتق نفسه، فيبحث عن لقمة الحلال، ووالله! إن لقمة الحلال نادرة، لكنها هنيئة مريئة ميسرة؛ فمطعمه حلال، ومشربه حلال، ويغذى بالحلال، ودعوته أحرى أن تُجاب من رب الأرض والسماء.
هاهو أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- ما كان يأكل إلا حلالاً؛ وكان أحياناً يسأل إذا شك في الطعام، وجاءه غلامه يوماً من الأيام، فقدَّم له طعاماً فأكل منه لقمتين، فقال الغلام: لم تسألني اليوم يا أبا بكر إن هذا من كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية، فصادفني صاحبها فأعطاني هذا الطعام، فعلم أنه طعام محرم، فوضع أصبعه في فمه يريد أن يخرجه، كادت روحه أن تخرج وما خرج هذا الطعام، قالوا: يا أبا بكر رحمك الله! تقتل نفسك للقمتين لا تعلم أنها محرمة؟! عفا الله عنك، إن كنت مُريداً إخراجها فاشرب ماء، فشرب ماء ثم أدخل يده مرة أخرى، كادت روحه أن تخرج وخرجت اللقمتين، قالوا: عفا الله عنك.
قال: والله! لو لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتها؛ لأني سمعت حبيبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به}.(46/28)
معتقات وموبقات سببها اللسان
وهناك غادٍ آخر يغدو ليهلك نفسه؛ فيسلط لسانه على عباد الله؛ يغتابهم ويتهمهم، ناسياً قول الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: {لما عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس ويأكلون لحومهم}.
المغتابون الذين همهم فلان وفلان، ونسوا عيوب أنفسهم ولو اشتغلوا بإصلاح أنفسهم لكان أحرى وأولى، يهدي حسناته إلى الناس.
الحسن البصري -عليه رحمة الله- سمع أن رجلاً اغتابه، فما كان منه إلا أن فتش في بيته عن هدية له، فما وجد سوى طبق من رُطَب، فأخذه وقال لخادمه: اذهب إليه، وقل له: سمع الحسن أنك أهديت إليه حسناتك فما وجد لك مكافأة إلا طبق التمر ولو عدت لعدنا، والله! لولا أني أخشى أن يُعْصَى الله لتمنيت ألاَّ يبقى أحد في الدنيا إلا اغتابني؛ لأنه يهدي إليّ حسناته وهو لا يشعر.
كثير من الناس يُصلون ويعملون الصالحات، وفى جلسة واحدة يمحقون ذاك العمل كله بالوقوع في عرض هذا، والوقوع في عرض هذا، فإياك واللسان:
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
احفظ لسانك واحترز من لفظه فالمرء يسلم باللسان ويعطب
أما الآخر: فيغدو فيدافع عن أعراض المسلمين، ويرد عنهم في المجالس، وكلامه ذكر الله أو كلام مباح، فيرد الله -عز وجل- عن وجهه النار يوم القيامة.
فأي الغاديين أنت؟!
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(46/29)
النميمة
غاد آخر يغدو ليهلك نفسه بالإفساد بين الناس بالنميمة والوشاية؛ ناسياً قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام}.
أما الآخر: فيغدو للإصلاح بين الناس فأجره على الله أكرم الأكرمين سبحانه وبحمده.(46/30)
الغناء الماجن
وذاك يغدو ليهلك نفسه، ويقسي قلبه، بسماع الغناء الماجن الذي حرمه الله -جلَّ وعلا- وقال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} فيشتري الغِناء ويشتري الخَنَا والفجور بماله، ثم يدخلها إلى بيته لينشر الرذيلة فيه ليصبح أهل البيت بآذان لا تسمع، وقلوب لا تفقه، وأعين لا تبصر، بهائم في مسلاخ بشر: {ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}.
وآخر يغدو لسماع آيات الله تقرع قلبه، فيلين قلبه، وتدمع عينه، ويطيع ربه، ويدِّخر الله له غناء ليس كهذا الغناء الماجن، غناء الحور العين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، كلمات الأغاني هي الآتية:
نحن الخالدات فلا يمتن نحن المقيمات فلا يظعن
نحن الراضيات فلا يسخطن نحن الناعمات فلا يبأسن
نحن الحور الحسان أزواج قوم كرام
طوبى لمن كان لنا وكنا له
ثم يرسل الله ريحاً على ذوائب أغصان أشجار الجنة، فتهزها فتحدث منها صفير صوت كل طير في الجنة، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً لماتوا طرباً، ولكن خلود ولا موت:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتبدلي بلذاذة الأوتار والعيدان
خابت أذن استبدلت كلام الله -عز وجل- بأغنية، خابت أذن استبدلت ما أعده الله لها من الغناء في الجنة بهذا الغناء الماجن.
فأي الغاديين أنت؟
فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
فيا من غدا لإعتاق نفسه جد واجتهد، واغتنم زمن الصبا، وسل الله الثبات حتى الممات، وأكثر من قول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك.
ويا من غدا لإهلاك نفسه وإيباقها وأمهله الله؛ عُد إلى الله وتب إليه، بادر في فكاك رقبتك من النار فأنت في زمن الإمكان.(46/31)
سعة رحمة الله
عُد إلى الله تجد الله تواباً رحيماً، إن الله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وهو القائل سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران:135 - 136]، وهو القائل: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالى، يا بن أدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يُخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
{يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم}.
اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم تب علينا، اللهم يا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك.
الله عز وجل رحيم، والله عز وجل كريم، وسبقت رحمته غضبه.
ها هو سبيٌ يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السبي امرأة ضيعت ولدها، تبحث عنه يميناً وشمالاً حتى وجدته، فضمته إلى صدرها ضمة الأم لابنها الذي أضاعته، والرسول صلى الله عليه وسلم يراقبها، فيقول لأصحابه: {أترونها طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا والله! وهى تستطيع ألا تطرحه.
قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.
فيا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك.
هاهو رجل من بنى إسرائيل مُوحِّد لم يشرك بالله شيئاً، ارتكب الموبقات؛ سرق وزنا وغش وارتكب السيئات، وحلت به سكرات الموت، ساعة الموت الذي يُذعن فيها الجبارون، ويذعن فيها المتكبرون، فجمع أبنائه في ساعةٍ لا ينفع فيها مال ولا ولد، وقال لهم: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب.
قال: فوالله! ما عملت خيراً غير أني موحد لم أشرك بالله عز وجل، فإذا أنا مت فأضرموا النار ثم ضعوني فيها حتى أصبح رماداً، ثم اسحقوني، ثم ذروني مع الريح؛ فلأن لقيت الله ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.
ومات الرجل، ونفذوا وصيته، حرقوه وسحقوه وذروه مع الريح، فتفرق على الجبال والسهول والوهاد والأشجار والأحجار، لكن الذي بدأه أول مرة أعاده، قال الله سبحانه وتعالى له: كن فكان كما كان.
قال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟! أما تعلم أني أغفر الذنب وأستر العيب؟! قال: يا رب! خشيتك وخفت ذنوبي.
قال: فأشهدكم -يا ملائكتي- أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
يا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك.(46/32)
قصة آبق عاد إلى الله
أخيراً هذا نموذج لغادٍ غدا في إيباق نفسه ثم أمهله الله عز وجل فغدا لإعتاق نفسه، وهي قصة لعل فيها عبرة.
رجل عمره ما بين الثلاثين إلى الأربعين، عربد وأفسد، وصدَّ وندَّ عن الله عز وجل، يقول عن نفسه: ما كنت أنام ليلةً من الليالي إلا على شربة خمر أو زنا، قال: ويشاء الله وأتزوج بامرأة، فأزداد في عنادي وطغياني، أترك الحلال في البيت، وأذهب أطلب الحرام في خارج البيت، قال: وجئت ليلةً من الليالي بعد أن ولدت لي هذه الزوجة بنتاً وأصبح عمرها خمس سنوات، قال: جئت في ليلة من الليالي فتواعدت مع أصحابي على أن نشرب الخمر في مكان معين، ويشاء الله عز وجل لي أن أبتعد عن هؤلاء وأتأخر عن الموعد بدقائق، فجئت فإذا هم قد ذهبوا، ذهبت يميناً وذهبت شمالاً أبحث عنهم، ما تركت مكاناً إلا وبحثت عنهم فيه، لا حباً فيهم ولكن كيف أنام ليلةً بلا زنا ولا شرب خمر.
لا إله إلا الله! يوم يصد الإنسان ويند عن الله عز وجل.
قال: ثم ذهبت إلى صديق سوء آخر عنده من الأفلام الخليعة ما يستحي إبليس أن ينظر إليها، قال: فذهبت إليه وأخذت منه فيلماً خليعاً، ورجعت إلى بيتي في الساعة الثانية ليلاً.
لا إله إلا الله! الساعة هذه في الثلث الأخير من الليل، يتنزل فيها الرب سبحانه وبحمده نزولاً يليق بجلاله، يقول: {هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟} ثلث الأوابين ثلث التوابين.
قال: دخلت بيتى -والناس على قسمين ما بين عبد وقف بين يدي الله دموعه تهراق على خده من خشية الله، وما بين أُناسٍ يرضعون المعاصي في تلك اللحظة وأنا واحد منهم- قال: فدخلت فنظرت لزوجتي وابنتي فإذا هما نائمتان، فدخلت في مكان فيه هذا الجهاز الخبيث الذي لطالما دمر كثيراً من البيوت، جهاز الفيديو وما يستتبع هذا الجهاز من أفلام تعلمونها يا أيها الأحبة.
يذكر أحد المشايخ في الأسبوع الماضي أنه في مكة وفي بلد الله الحرام ستة عشر فيلماً جنسياً يستحي إبليس أن ينظر إليه، سجلت في وسط مكة وتباع في وسط مكة! أين تقوى الله؟! في حرم الله نبارز الله؟! والله! لنحن عند الله لا نساوي شيئاً، متى ما تركنا أمره يدمرنا ولا يبالي سبحانه وبحمده.
قال: وأدخلت هذا الشريط في هذا الجهاز وأغلقت الباب، وقمت أنظر في مناظر -أكرم الله هذه الوجوه عن تلك المناظر- قال: وإذ بالباب يفتح، فدهشت وخفت وذعرت، وإذا بها ابنتي الصغيرة التي عمرها خمس سنوات تدخل عليّ من الباب، تُحدُّ فيّ النظرات وتقول: عيب عليك يا والدي! اتق الله.
عيب عليك يا والدي! اتق الله.
قال: تجمدت مكاني، وبقيت أُفكر في هذه الكلمات، من علمها وأنطقها إلا رب الأرباب سبحانه وبحمده.
قال: بقيت أفتش في نفسي؛ من أين جاءت هذه الكلمات؟ فقلت: لعلَّ أُمها لقنتها هذه الكلمات.
قال: وذهبت وإذا بأمها نائمة.
قال: فخرجت أهيم على وجهي وأنا أتذكر قولها: عيب عليك يا والدي! اتق الله.
قال: وبينما أنا في حيرتي واضطرابي ودهشتي وإذا بهذا المنادي ينادى: الله أكبر الله أكبر! نداء صلاة الفجر الذي حرمه كثير من المحرومين الغافلين.
قال: فاتجهت إلى المسجد مباشرة، ودخلت دورات المياه، واغتسلت وتوضأت ودخلت مع المسلمين أُصلي، قال: ويوم سجدت مع الإمام انفجرت في البكاء، لا شعورياً، بدأت أبكي، تذكرت فضائحي، وتذكرت جرائمي، وتذكرت قدومي على الله، آلمتني الكبيرة، ولسعتني الفاحشة، قال: وبعد أن انتهت الصلاة وإذا برجلٍ بجانبي يقول: ما بك؟ قال: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي؟ سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة بأي وجه ألاقي ربى؟
وبقي مكانه يتذكر ما كان منه من صدود ومن هرب عن الله -عز وجل- وأين المهرب منه إلا إليه.
قال: ويحين وقت الدوام، وأذهب للدوام من المسجد وأدخل إلى دائرتي التي أعمل فيها، وفيها رجل صالح لطالما ذكرني بالله ولا أسمع له، قال: ويوم دخلت عليه، قال: أهلاً بك، والله! إن بوجهك شيئاً غير الوجه الذي أعرفه منك سابقاً، فما الذي حصل؟
قال: كان من أمري كذا وكذا، وأخبره بقصته في تلك الليلة، ثم استأذنه ليذهب وينام، فنزل من عنده وقد أذن له، فنزل إلى المسجد ليصلي في مسجد الإدارة التي يعمل فيها، قال: وجئت لوقت صلاة الظهر -زميله الذي يعمل معه- قال: ويوم دخلت المسجد فإذا به أمامي يصلى، ولما رآني ذرف الدموع واعتنقني، قلت له: لِمَ لم تذهب لبيتك لتنام؟ قال: إن بي شوقاً عظيماً إلى الصلاة، سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة بأي وجه ألاقي ربى؟ ثم تواعدا على أن يلتقيا في الليل.
وذهب إلى بيته وذهب هذا إلى بيته، ويوم دخل على أهله في البيت، وإذ بزوجته تصرخ في وجهه، وتقول: ابنتك ماتت منذ لحظات، فما كان منه إلا أن انهار وبدأ يردد: عيب عليك يا والدي! اتق الله.
عيب عليك يا والدي! اتق الله.
يرددها ويذكر أنها ذكرته بالله عز وجل، فيأتي زميله بعد أن اتصل به وأخبره الخبر، فجاء إليه، وقال: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك قبل أن تموت؛ لتذكرك بالله ولم يرسل لك ملك الموت ليقبض روحك.
ثم غسلوها وكفنوها وصلوا عليها، ثم ذهبوا بها إلى المقبرة، ويوم وصلوا إلى المقبرة قال زميله: خذ ابنتك وضعها في لحدها، يريد أن يربيه ليعلم أن المصير إلى هذا المكان.
فأخذ ابنته بين يديه، دموعه تسيل على كفنها:
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيل فتقطر
فأدخلها في لحدها، وقال كلاماً أبكى جميع من حضر الدفن، قال: أنا -والله- ما أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور.
هذه البنت أرتني نور الهداية بعد طول ضلالة وغواية، فأسأل الله أن يجمعه بها في جنات ونهر.
فيا أيها الحبيب! عُد إلى الله، وأعتق نفسك من النار، إذا رأيت صدوداً وقسوة في قلبك فتذكر ليلةً من الليالي وأنت بين أهلك سعيداً، وتذكر ليلة من الليالي وأنت على فراشك الوثير، ثم تذكر الأخرى وأنت تفترش التراب:
تالله لو عاش الفتى في دهره ألفاً من الأعوام مالك أمره
مُتلذذاً فيها بكل لذيذة مُتنعما فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأَلْيَلِ
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُحَّلِ
اغفر لعبدٍ تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
اللهم اهدنا واهد بنا ويسر الهدى لنا.
اللهم إنا نشهدك بهذه الساعة المباركة أنا تبنا إليك وأنبنا ربنا إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(46/33)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
لفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس وَرَبَّى عليه من رَبَّى من الناس أخرج لنا أفذاذا ورجالا عرفهم التاريخ وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم خلف هذا الدين رجالا حملوا لواءه وحكموه في العالمين وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بها من بعدهم وإن من الحق؛ من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم ونبلو أخبارهم
أولا: لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج لنا هؤلاء الرجال(47/1)
وثانيا: لأننا نقتدي بسلفنا ونقتدي بأئمتنا وهؤلاء الأئمة الأعلام هؤلاء منارات يهتدي بها في دجى الظلمات ونعلم أيضا بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئه الإسلامية والتربية التي تثقل النفوس وتهذبها فتغرس العقيدة وتثقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة ولا شك أن شخصية [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازية أو فسق وشرب خمر ونساء أو ظلم وبغي وجور ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام وكان يئد بنته ويفعل الأفاعيل وظلم الناس وظلم المسلمين حتى قال [سعيد بن زيد] لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام ولكنه أسلم وشاء الله أن ينتقل عمر من ضلال الجاهلية إلى نور الإسلام فتغيرت الشخصية وانقلبت تمام الانقلاب وكان لذلك بادرة وما سيأتي من الأحاديث الصحيحة والحسنة في سيرة هذا الرجل تدل على جوانب من عظمته لقد كان المسلمون يستبعدون إسلام عمر حتى قالت [أم عبد الله بنت أبي حفنة] والله إنه لنترحل إلى أرض الحبشة أقبل عمر حتى وقف عليّ وهو على شركه قالت وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشرا علينا فقالت فقال عمر لما رآهم يتأهبون للجلاء عن <مكة> إنه الانطلاق يا أم عبد الله قالت قلت نعم والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا قالت فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا قالت فجاء [عامر] وهو مسلم من حاجاتنا تلك التي ذهب بها فقلت له يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا(47/2)
قال أطمعت في إسلامه قالت قلت نعم قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب هل يسلم الحمار قالها يأسا لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام ولكن ولكن الله أيها الأخوة إذا أراد أن يهدي هدى ولو كان الرجل أقسى الناس قلبا وأبعدهم عن الله وهذا درس للدعاة إلى الله عز وجل أن لا ييأسوا من الناس ولو كان من يرون أمامهم من أغلظ الناس قلبا لكن الله إذا أموراد بعبد خيرا هيأه له ووفقه له ويسر الأسباب إليه وهكذا حقا فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحا ولم يكن إسلامه سرا بل إنه قد جاء في الحديث الحسن أنه لما أسلم قال أي قريش أنقل للحديث قيل له [جميل بن معمر الجمحى] قال فغدى عليه عمر قال [عبد الله] وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال أما علمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم قال فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه واتبعه عمر واتبعته أنا حتى إذا قام على باب المسجد -جميل المشرك الإذاعة-وقف على باب المسجد صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إن عمر قد صبأ قال يقول عمر من خلفه كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.(47/3)
فأعلنها صراحة أمامهم هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة إعلان المبادئ قال وساروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم قال وقد تعب وأرهق فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول افعلوا ما بدا لكم فأحلف أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا قال فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش وهو [العاص بن وائل] فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه لما أسلم عمر أعز الله به المسلمين وأذل الله به المشركين وطاف المسلمون حول الكعبة لما أسلم عمر علانية جماعة لما أسلم عمر فأعز الله به الدين أراد الله بعمر خيرا ففقهه في دينه وعلمه وهو العليم سبحانه وتعالى حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في علم عمر وفقهه وفضله أحاديث جمعها العلماء فمن ذلك أربعة ساقها [الزهري] في نسق واحد قد وردت في سياقات صحيحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت لعمر أربعة رؤيا رأيت كأني أوتيت بإناء فيه لبن فشربته حتى رأيت الري يخرج من أناملي ثم ناولت فضلي ما بقي في الإناء عمر قالوا يا رسول الله فما أولتها قال العلم ورأيت كأن أمتي عليهم القمص إلي الثدي وإلى الركب وإلى الكعب كل بحسب علمه وإيمانه ومر عمر يسحب قميصا سابغا من طوله قالوا يا رسول الله ما أولت ذلك قال الدين قال ودخلت الجنة فرأيت فيها قصرا أو دارا فقلت لمن هذا قالوا لرجل من قريش فرجوت أن أكون أنا هو فقيل لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك يا أبا حفص فبكى عمر وقال يا رسول الله أويغار عليك ورأيت كأني وردت بئرا فورده [ابن أبي قحافة] فنزع ذنوبا أو ذنوبين ونزعه فيه ضعف والله يغفر له ثم وردها عمر فاستحالت الدلو في يده غربا فاستقى فأروى الظمأة وضرب الناس بعطن فلم أرى أحدا من الناس أو قال عبقريا يفري فريه"(47/4)
قال العلماء هذا تأويل خلافة الشيخين فإن [أبا بكر] استخلف سنة أو سنتين فكانت خلافته قصيرة وكان منشغلا عن الفتوحات بحروب الردة فلما جاء عمر صارت خلافته أطول ففتح الله في عهده من الفتوحات وأدخل الله من الناس في عهده في الإسلام ما لا يحصى من الخلق كثرة فنشر العدل في تلكم البلاد بعد أن أسس [الصديق] قاعدتها فأعاد القاعدة وأبلى بلاء حسنا فمهد الطريق لعمر فجاء عمر فولى الولاة وفتح الفتوحات وأتى للمسلمين بالخير من عند الله وقال النبي عليه الصلاة والسلام إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه هذا الهادي المهدي الذي علمه الله وهداه وبالعلم يهتدي الإنسان للحق والصواب فلابد من الاعتناء بالعلم والبحث عنه يا أيها المسلمون وإن فى اكتساب العلم هدى وإن العلم يهدي صاحبه في الظلمات ويكشف له عندما يحتار ويوقظه من المحرمات ويجنبه الشبهات هذا العلم فتعلموا هذا الدين يهديكم به الله فلما جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه وافق ربه في آيات نزلت من القرآن على ما قال عمر كما قال فيما ثبت في الصحيحين وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى نصلي وراءه نصلي عنده فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة حصل منهن كلام اشتدت وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يقول عمر فقلت وهو يعظ أمهات المؤمنين وينذرهن فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك تأملوا يا عباد الله آية تنزل على كلام عمر يلهم الله عمر أن يقول كلاما فتنزل الآية بألفاظ عمر تنزل الآية بألفاظ عمر وتصبح قرأنا يتلى إلى يوم القيامة(47/5)
وافق عمر ربه في أمور أخرى كذلك كما ورد في أسارى بدر وهكذا كان عمر رضي الله عنه مهيبا هيبة تفتقدها كثير من شخصيات المسلمين اليوم نزع الله منهم الهيبة فلا يهابون ونزع الله من قلوبهم خوفه فصاروا يخافون من الناس كان عمر شخصية رفيعة يهابه الناس فيرتعدون منه ومن ذلك ما حصل لما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جواري قد علت أصواتهن على صوته فأذن له عليه الصلاة والسلام فبادرن الحجاب فبادرن الحجاب هربن فذهبن فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك "فقال أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الخبر علام تضحك قال عجبت لجوارٍ كنّ عندي فلما سمعن حسك بادرن فذهبن فأقبل عمر عليهن من وراء حجاب فقال أي عدوات أنفسهن والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتن أحق أن تهبن منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن دعهن عنك يا عمر فوالله إن لقيك الشيطان في فج قط إلا اخذ فجا غير فجك "هذا الرجل المهيب هذا الرجل العظيم الشديد في دين الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه "أرأف أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم بأمر الله عمر" هذا الرجل الشديد المهيب لما تولى الخلافة ظهرت المعاني التي كانت مخبوءة في نفسه معاني الشفقة والعطف والإحسان والرحمة في الإسلام؛ والرحمة لقد كان رحيما في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لكن لما ولي الخلافة ظهرت رحمته أكثر هذا الرجل الذي جمع في شخصيته بين الهيبة والرحمة بين الشدة في دين الله والرقة حتى كان يبكي عندما يتلو القرآن ويمرض من قراءة الكتاب العزيز أحيانا فيعاد من مرضه الذي حصل بسبب تأثره بالقرآن ليست الهيبة يا أيها الناس أن يكون الإنسان صلبا فظا غليظ القلب ليست الهيبة أن يكون متعجرفا قاسيا وإنما الهيبة في مكانها محمودة هذا الرجل الذي شهد التاريخ بفضله، ورحمته برعيته هذه هي القيادة المثلى التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم بعده من أصحابه أمثلة عندما يرى الإنسان حاله ويرى المسلمون واقعهم يشتاقون لخلافة مثل خلافة عمر ويتوقون لقيادة مثل قيادة عمر الذي كان يخرج ليتفقد رعيته(47/6)
قال [أسلم] خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق فلحقت عمر امرأة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغار والله ما يمزجون قراعا ولا لهم ذرع وضرع وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا بنت [خفاف ابن إيماء الغفاري] هذا الصحابي الجليل وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض ثم قال مرحبا بنسب قريب ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه جرارتين ملأهما طعاما وحمل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها بخطامه؛ البعير وما عليه ثم قال اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكما الله بخير فقال رجل يا أمير المؤمنين أكثرت لها قال عمر ثكلتك أمك والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه لا ينسى لأصحاب الفضل فضلهم هذه امرأة أبوها وأخوها من كبار المجاهدين بسبب قتالهم غنم المسلمون وأكلوا هذا الرجل هو الذي كان يخرج في الليل يعس على رعيته قال [أسلم] خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى <حرة واقم> وهي الحرة الشرقية <للمدينة> حتى إذا كنا بسرار مرتفع من الأرض إذا نار فقال يا أسلم إني لأرى ها هنا ركب قصر بهم الليل والبرد انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة علىنار وصبيانها يتضاغون يصيحون ويبكون فقال عمر السلام عليكم يا أصحاب الضوء وكره أن يقول يا أصحاب النار هم يوقدون نارا وعمر ينظر إلى القدر قال السلام عليكم يا أهل الضوء فقالت وعليك السلام فقال أدنو .. ؟ فقالت أدن بخير أو دع؛ فدنى فقال ماذا بكم قالت قصر بنا الليل والبرد قال فماذا لهؤلاء الصبية يتضاغون قالت الجوع قال فأي شيء في هذه القدر قالت ماء أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر تقول المرأة والله بيننا وبين عمر فقال أي رحمك الله وما يدري عمر بكم المرأة تقول الله بيننا وبين عمر نحن في الصحراء وحدنا لا نجد طعاما عمر يقول وهي لا تدري من هو(47/7)
يقول لها أي رحمك الله وما يدري عمر بكم وأنتم في هذه البقعة النائية قالت يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا قال فأقبل عليّ فقال انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق دار اتخذها عمر خاصة لتخزين الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وكبة من شحم فقال احمله عليّ فقلت أنا أحمله عنك قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك فحملته عليه الخليفة يحمل على ظهره أمام الناس يمشي بين الناس على ظهره من المدينة إلى الحرة الشرقية إلى المكان النائي الذي فيه المرأة ويهرول من أجل الأولاد فانطلق وانطلقت معه إليهم إليها نهرول فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها دري عليّ وأنا أحرك لك وجعل ينفخ تحت القدر الخليفة منبطح على الأرض صدره في التراب ينفخ على الحطب حتى يشتعل ثم أنزلها فقال أبغينى شيئا أسكب فيه فأتته بصحفة فأفرغها فيه ثم جعل يقول لها أطعميهم وأنا أصفح لهم فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك بقية الكيس وقام وقمت معه فجعلت تقول جزاك الله خيرا كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين فيقول قولي خيرا إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله ثم تنحى ناحية عنها فابتعد ثم استقبلها ينظر إلى مكانها من بعيد فضرب ضربة فقلنا له إن لنا شأنا غير هذا ولا يكلمنى يقول لابد أن تكون الوقفة لهدف وعمر لا يتكلم حتى رأى الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدئوا فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما أحب هذا عمر هذا عمر في الرعية هذا عمر في تفقده للمساكين وعقده هذا عمر ورحمته وإشفاقه بالرغم مما عنده من الشدة في دين الله والهيبة التي كان يهابه بها الأقرباء والبعداء اللهم ارحم عمر واغفر له وأعلي شأنه وارفع درجته في المهديين اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وممن يقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه واغفر لنا أجمعين وتب علينا يا أرحم الرحمين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(47/8)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدا لقد كانت وفاة عمر فاجعة فجع بها القريب والبعيد كان عمر هو الباب الذي يدرء عن المسلمين الفتن فلما كسر الباب باغتيال عمر دخلت الفتن على المسلمين من كل جانب عن [عود بن مالك الأشجعي] أنه قال رأيت في المنام كأن الناس قد جمعوا فكأني برجل قد صرعهم فوقهم بثلاثة أذرع أطول من الجميع قال قلت من هذا قالوا عمر بن الخطاب قال؛ قلت: لما؟ قال: إنه لا تلومه في الله لومة لائم وإنه خليفة مستخلف وشهيد مستشهد قال فأتيت أبا بكر فقصصتها عليه قال فأرسل إلى عمر يبشره فقال لي اقصص رؤياك فلما بلغت إلى خليفة قال زجرني عمر ونهرني قال تقول هذا وأبو بكر حي قال فسكت فلما ولي عمر كان بعد في الشام مررت به وهو على المنبر فدعاني فقال لي اقصص رؤياك قال فلما بلغت لا يخاف في الله لومة لائم قال إني لأرجو أن يجعلني الله منهم وأما خليفة مستخلف فقد والله استخلفني فأسأله أن يعينني على ما ولاني قال فلما بلغت وشهيد مستشهد قال وأنّى الشهادة وأنا في جزيرة العرب وحولي يغزون ويغزون ثم قال عمر مستدركا يأتي الله بها أنّى شاء يأتي الله بها أنى شاء ورأى عمر في منامه أن ديكا نقره ثلاث نقرات، وفعلا حصل نقاش بين عمر وكان لا يدخل الأعاجم إلى جزيرة العرب والفرس فدخل بعضهم متسترين بالإسلام وكان من سياسة عمر أن لا يدخلهم دخلوا فأقاموا فكان منهم الحاقد الفارسي المجوسي [أبو لؤلؤة] الذي قال لعمر متوعدا لأصنعن لك رحى يتحدث بها الناس فقال عمر توعدني العبد وبعد أيام اختبأ له وراء باب المسجد في الظلام في صلاة الفجر فلما سجد عمر قفز عليه فطعنه في كتفه وخاصرته فقال عمر قتلني الكلب ثم صمت ثم سمع الناس قراءة [ابن عوف](47/9)
وصار العلج في الناس في صفوف المصلين ينحر يمينا وشمالا فقتل فيها ستة من الصحابة وحمل عمر مطعونا وجعلوا يشربونه اللبن فيخرج من الجرح فعلموا أن الأمر قد انتهى أوصى عمر ووعظ الناس وذكرهم بالله وانتقل إلى الرفيق الأعلى في قصة مشهودة عظيمة جدا أخرجها الإمام البخاري في صحيحه كانت وفاة عمر شديدة الوطأة على القريب والبعيد قال [ابن المسيب بن رافع] سار إلينا [عبد الله بن مسعود] سبعا من المدينة سبعة أيام إلينا في مكانه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن غلام المغيرة [أبا لؤلؤة] قتل أمير المؤمنين عمر قال فضج الناس وصاحوا واشتد بكاؤهم هذا الخليفة الذي كان يرعاهم فيسوسهم بأمر الله قال ثم قال ابن مسعود إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمرنا علينا [عثمان بن عفان] فأخبرهم الخبر والنتيجة. قال عبد الله بن مسعود لقد أحببت عمر حبا حتى لقد خفت الله من شدة حب عمر خفت الله ولو أني أعلم أن كلبا يحبه عمر لأحببته ولوددت أني كنت خادما لعمر حتى أموت ولقد وجد فقده كل شيء حتى العضاة -شجرة الشوك- إن إسلامه كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن سلطانه كان رحمة ذلكم عمر ومناقبه كثيرة جدا وهذا شيء قليل منها والمقصود أيها الأخوة أن لهؤلاء حق علينا في معرفة سيرهم وإن هؤلاء من أراد فليقتد بهم وإن في تذكر هؤلاء سبب لحنين المسلم إلى أيام الخلافة ورغبته في عدل كعدل عمر وقد طبق الأرض اليوم الظلم والجور فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للإسلام عزه وأن يقيم الخلافة في أرجاء الأرض اللهم ردنا إلى الإسلام ردا جميلا اللهم اجعلنا ممن أقاموا الشريعة وعملوا بها اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين في تحكيم شرعك يا رب العالمين اللهم ارفع الظلم عن المظلومين اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين.(47/10)