ضرورة المبادرة إلى طلب العلم قبل الاشتغال بغيره
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن أبي شيبة والدارمي وغيرهما بسندٍ صحيح: (تفقهوا قبل أن تسودوا) وهذا الأثر ذكره البخاري بغير إسناد في صحيحه كمقدمة لحديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) فقال أبو عبد الله البخاري: وبعد أن تسودوا.
ما هي الحكمة من ذكر البخاري رحمه الله لهذه الجملة؟ حتى يبين أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا مفهوم له، ما هو معنى: لا مفهوم له؟ أي: حتى لا يتصور أحد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي: قَصَرَ الفقه على ما قبل السيادة، حتى لا يتوهم أحد أنه إذا صار سيداً لا يتفقه.
وهذا ما يقول فيه العلماء في دلالة المفهوم: أنه خرج مخرج الغالب، فإذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ما معنى هذا؟ ليتضح المقصود نضرب مثلاً بقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فهل يفهم أنه يجوز أن نأكل الربا ضعفاً واحداً؟ لا.
وإن كان هناك من الناس من فهم هذا وصرح به ممن يدعون العلم، وصرح به على صفحات الصحف قال: إن الربا الذي نهى الله عنه هو الربا المركب، إنما الربا البسيط لم ينه عنه بدليل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فلم ينه الله أن يأكل المرء في الربا ضعفاً واحداً، إنما الذي نهى الله عنه في الربا المركب أضعافاً مضاعفة.
فالعلماء يقولون: هذا خرج مخرج الغالب للوصف الذي كانت قريش تتعامل به، وهذا يشبه لو أنني قلت لك: إياك أن تفسق في الحرم! فهل يجوز لك إذا خرجت خارج الحرم أن تفسق؟
الجواب
لا.
وأيضاً قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] أيجوز في غير الحج الرفث والفسوق والجدال؟ إنما خرجت هذه الآية لشيء غالب على تصرفاتهم، كما لو قلت لك: لا تقتل أخاك بالسكين، فهل يجوز أن تقتله بعصا أو بحجرٍ أو بصخرة؟ فالله تبارك وتعالى عندما قال: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يشير إلى ما كانت قريش تفعله حقيقة: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ليس معنى هذا أنه أباح لهم أن يأكلوا الربا ضعفاً أو نصف ضعف، إنما نبه على شيء غالب كانوا يفعلونه.
فإذا خرج الكلام مخرج الغالب على فعلهم فلا نستطيع أن نقول له: مفهوم، كذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، فهب أنهن لم يردن تحصناً؛ أيجوز أن نتركهن إن أردن البغاء؟ لا يجوز طبعاً، فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن كثير: خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33].
فالذي يخرج مخرج الغالب لا يكون له مفهوم، من أجل ذلك خشي الإمام البخاري أن يتصور بعض الناس أن مقصود عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: (تفقهوا قبل أن تسودوا) أن يفهم منه أنه بعد أن يسود لا يتفقه؛ لذلك قال: وبعد أن تسودوا، حتى يبين أنها ليس لها هذا المفهوم الذي قد يتبادر إلى البعض.
فالإمام البخاري قدم بأثر عمر رضي الله عنه لحديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) للدلالة على أن من ثمرات العلم السيادة؛ لذلك قال: تفقه قبل أن تصير سيداً؛ لأنك إذا صرت سيداً فغير ممكن أن تقعد في صفوف المتعلمين.
لذلك قال الإمام الشافعي: إذا تصدر الحدث فاته علم كثير والحدث: الصغير الذي لم يجمع العلم، إذا تصدر وصار رئيساً فقد فاته علم كثير؛ لأن هذه الصدارة وهذه السيادة تمنعه كبراً أن يقعد في صفوف المتعلمين فيتعلم، فالإمام البخاري من وجهة نظر ابن المنير السكندري في كتابه العظيم (المتواري على تراجم أبواب البخاري) يربط ما بين الحديث وما بين الترجمة التي كتبها؛ لأنه أحياناً يكون في العلاقة بين الترجمة وبين الحديث خفاء وغموض.
كجواز التمندل أي: أن تنشف أعضاء الوضوء بعد الوضوء، فالإمام البخاري أراد أن يحتج لجواز هذا الفعل بحديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (توضأ فدفعت إليه المنديل فرده) فالعلاقة هنا خفية؛ لأن الحديث واضح في أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد المنديل لم يأخذه منها فلم يتنشف، فكيف يحتج البخاري على جواز التنشيف بحديث ظاهره عدم التنشيف، فهنا نجد خفاءً وغموضاً ما بين الترجمة التي كتبها البخاري وما بين الحديث الذي احتج به.
فالعلماء يعملون أفكارهم، في وجه العلاقة بين هذه الترجمة وبين الحديث؟ فيقول مثلاً الإمام ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري يقول: في هذا دليل على جواز التنشيف كما أراده البخاري؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان من عادته عدم التنشيف لما دفعت إليه المنديل، فانظر إلى الذكاء، فكونها دفعت إليه المنديل دل على أنه يتنشف لكن الأفضل عدم التنشف، فدل على أن الأغلب من فعله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يتنشف بعد الوضوء، لكن في الحديث جواز التنشيف.
فالأئمة ينظرون في ترجمة الإمام البخاري على الباب وينظرون ما العلاقة بين ما استنبطه الإمام البخاري وبين حديث الباب، فكتب ابن المنير السكندري هذا الكتاب الرائع والذي نقله الحافظ ابن حجر برمته في فتح الباري، وأحياناً كان بعض الأئمة يعترضون على ابن المنير في بعض استنباطاته، كما اعترضوا عليه في حديث ابن مسعود الذي نحن بصدده.
فـ ابن المنير السكندري يرى أن الإمام البخاري وضع أثر عمر بن الخطاب قبل حديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) فيقول: لأن السيادة من أثر العلم، فإذا رأى الناس رجلاً سيداً حسدوه، وإنما ساد في الناس بالعلم إذاً لا حسد إلا في العلم، هذا ما استنبطه ابن المنير السكندري.
فالحافظ ابن حجر قال: كذا قال، وهذه العبارة يذكرها العلماء من باب الاعتراض، لكنه اعتراض مهذب، دون أن يهجم عليه بغير أدب، أو يقول: هذا خطأ وهذا جهل وهذا ضلال وهذا، فإذا قال العالم هذه العبارة -كذا قال- عُلم أنه معترض على ما قد قيل، وهو اصطلاح موجود عند أهل العلم، لكنه اصطلاح رقيق إما أن يكون غير موافق على قوله بجملته أو على بعض قوله.
فالحافظ ابن حجر لم يرتض ما استظهره ابن المنير السكندري واستظهر شيئاً آخر وقال: إنما أراد أن المال إنما يحسد صاحبه، عندما يصير الرجل سيداً بالعلم والمال معاً، فالحافظ ابن حجر قال: إنما يصير سيداً بالعلم والمال معاً، ثم يرتكز على العلم.
واستدل بحديث أبي كبشة الأنماري الذي ذكرت: رجل آتاه الله مالاً وعلماً هذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط.
إذاً: المال وحده لا يؤدي إلى السيادة ما لم يقترن معه العلم، وهذا فهم رائع من الحافظ ابن حجر، دله عليه حديث أبي كبشة الأنماري فكيف يستطيع هذا الرجل صاحب المال أن يسلط ماله على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، على الأقل بموضع الإنفاق.
لا نقول: يجب أن يكون عالماً بكل شيء، بل أن يكون عالماً بالموضع الذي ينفق فيه ماله، فلا يحسد صاحب المال إلا إذا سبقه علمه، بدلالة حديث أبي كبشة الأنماري؛ لأن الذي يؤتيه الله المال فقط بغير علم قال عليه الصلاة والسلام: (فهو يخبط) والرجل الثاني آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل يعني في الفضل، فدل على أن العلم يجب أن يكون ركيزة.
فصاحب المال لا يحسد إلا إذا انضم العلم أيضاً إلى المال، وهذا فهم رائع جداً من الحافظ ابن حجر جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان في الصحيحين، لما خطب على المنبر وقال: (أيها الناس! أين علماؤكم؟! فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
وبدلالة مفهوم المخالفة: ومن لم يرد به خيراً لا يفقه في الدين، وهذا مفهوم صحيح؛ لأن الرجل إذا علم علوم الأرض كلها وجهل العلم الذي يوصله إلى الله تبارك وتعالى يكون من أخسر الخلق.(140/5)
آفة العلم عدم الاستفادة منه في عمل الآخرة
أما هؤلاء الذين صعدوا إلى القمر وصنعوا المركبات الفضائية واكتشفوا الجاذبية الأرضية واكتشفوا المصباح الكهربائي والتلفون والتلكس وهذه الأشياء كلها، الواحد منهم لو مات على كفره لا يساوي عند الله جناح بعوضة، يُذكر في الأرض كلها وهو من أهل النار، إذا مدحه جميع الخلق وكان من أهل النار ما يفيده مدح هؤلاء؛ لذلك فالعلم الذي يوصلك إلى الله تبارك وتعالى هو العلم، لو قابلت وجه ربك تبارك وتعالى وأنت تعلم الطريق إليه وصححت هذا الطريق بالعلم، وجهلت كل مناحي الحياة ما خسرت شيئاً، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
فمن هداية العلم أنك تبصر موضع قدمك؛ لذلك كان عذاب الذي يؤتيه الله العلم فيصير به كالجاهل يخبط عذاباً أليماً؛ لأنه لم يستعمل أجل نعم الله على الخلق، كما قال القائل: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عيباً أن يتبرأ منه من هو فيه.
لو مدحت أي إنسان بأنه عالم وفقيه ينتشي ويغتبط، بخلاف ما إذا وصفته بالجهل، فإنه لا يقبل مع أنه جاهل، لكنه لا يقبل، فكفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس منه أهله وكفى بالجهل ذلاً وعيباً أن يتنصل منه من هو فيه.
فالذي يعطيه الله تبارك وتعالى هذه الآلة وهذه النعمة ولا يستعملها يعذب عذاباً أليماً، كما في البخاري: (يؤتى بالعالم يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه من دبره -يعني: أمعاءه- فيدور حولها كحمار الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ -في الدنيا-، قال: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
فمن يعطيه الله عز وجل أجل النعم؛ -وهو العلم- ولا يستعمله في حقه فهذا عقابه (تندلق أقتابه من دبره، فيدور حولها كحمار الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
لذلك قال الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] كبر مقتاً: أي هذا من أعظم المقت عند الله تبارك وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، وفي الحديث الحسن المرفوع: (مثل الذي يأمر الناس بالمعروف ولا يأتمر به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) وهذا من أجمل التشبيهات وأقواها.
فالذي يقدم المعروف ولا يتأسى به كمثل الشمعة أو السراج يضيء للناس الطريق لكنه يحرق نفسه وهو لا يدري، فالذي يؤتيه الله تبارك وتعالى العلم ثم يرزقه العمل بهذا العلم هو الذي يستحق الحسد، وهذا قيد مهم، ورد فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس) أي: يعمل بها، وفي نفس الوقت يعلمها الناس.(140/6)
العلم شجرة والعمل ثمرة
إن الذي يستحق الحسد ليس هو الذي يتكلم فقط بل الذي يقرن إلى القول العمل، فهذا شرط، وإلا فالذي يتكلم بغير أن يعمل هذا لا يحسد، يحسد على ماذا؟ وقد رأينا أنه تندلق أقتابه من دبره، فهو متعرض لمقت الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] فعلى أي شيء يحسد؟ إنما يحسد الذي يصبر على العمل، والذي يريد أن يجرب نفسه هل هو من الصابرين أم لا، فلينظر هل هو يصبر على طاعة الله عز وجل، فهذه أول منازل الصابرين، الذي يصبر على الطاعة كما قال الحسن البصري رحمه الله، الذي قال فيه بعض العلماء كلامه يشبه كلام الأنبياء من حلاوته وطلاوته، يقول: (يا ابن آدم تركك للمعصية أهون من طلب التوبة) انظر الكلام الجميل، إذا كنت تبحث عن الأهون، لماذا؟ لأنك عند طلبك للتوبة لا تدري أيتجاوز الله عنك أم يأخذك بهذه السيئة، فأنت محتار هل قَبِلَ الله عز وجل توبتك أم ردها عليك، في حين أنك لو تجنبت المعصية لم تدخل في هذه الحسبة.
يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] * {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58] * {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] * {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا في الزاني يزني والسارق يسرق: أي: يفعل الفعل وهو خائف من الله؛ لأن مرده إلى الله (أنهم إلى الله راجعون) أي لأنهم سيرجعون إلى الله، قال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام يصلون ويزكون ويتصدقون، ويخشون أن لا يتقبل منهم) فإذا كان العبد الصالح وهو يقدم الإحسان ويفعل المعروف وجل وخائف أن ترد عليه طاعته، فما بالك بالذي ارتكب المعصية، ما يدري هل يأخذه الله تبارك وتعالى بهذه المعصية أم يتوب عليه، يضل دائماً قلقاً، لذلك فإن تَرْك المعصية أخف من طلب التوبة.
فالذي يقرن العمل بالقول هذا هو الذي يحسد عليه صاحبه، وهذا القيد مهم؛ لأن في بعض الأحاديث لم يرد (يقضي بها)؛ لذلك كان العلماء يحضون الذي يريد أن يستخرج معنى من المعاني أن يجمع جميع طرق الحديث وجميع ألفاظ الحديث، فيضم بعضها إلى بعض ثم يخرج بالمعنى المتكامل، وإلا ففي بعض الأحاديث ترى التنبيه على جزئية، وفي الحديث الآخر يكون التنبيه على جزئية ثانية، فإذا ضممت الحديثين إلى بعض اكتمل لك المعنى.
فالذي يستحق الحسد هو الذي يعمل بما يعلم، ومن أزكى الثمرات التي تعود على صاحب العلم الذي يستحق الحسد، أن يكون عالماً بموضع قدمه، فلا يضخم ما ليس بضخم، ولا يصغر ما هو ضخم، وهذه الحقيقة من أهم العوامل التي أدت إلى انقسام المسلمين في الفهم، فترى بعضهم يتعامل مع الفروع كما لو كان يتعامل مع الأصول الجسيمة، فإذا رأى أحداً يحرك إصبعه يصل به الحال إلى ما لا يخطر ببال، وهذا حدث في أفغانستان؛ لأن أغلب الأفغان أحناف في الفروع، وهناك فتوى عند الأحناف أن هذه الحركة تبطل الصلاة، فواحد صلى وحرك إصبعه، فبعد أن انتهى من الصلاة قام الذي يصلي بجانبه يقول له: السلام عليكم وكسر له إصبعه.
وكأنه لا ندري ما معنى السلام عليكم، لأن السلام يعني أن لا تمسه بسوء هذه معنى السلام عليكم، ولكن صار التسليم تسليماً أجوف، بحيث أنه يخرج من الصلاة بغير أن يفقه معنى السلام عليكم.
كما أن كثيراً من المسلمين لا يفقهون معنى الله أكبر إذا نادى بها المؤذن، فإن معنى هذه الكلمة العظيمة (الله أكبر) أي: أكبر مما في يديك، إن كنت تعمل فالله أكبر من عملك، إن كنت تكتب فالله أكبر من كتابتك، إن كنت تفعل أي شيء فالله أكبر من ذلك الشيء، فيجب عليك أن تتوجه إلى الأكبر.
لذلك كان بعض الصحابة إذا سمع (الله أكبر) وهو يطرق الحديد، فإنه يرمي بالمطرقة وهفي في الهواء ولا ينزل بها على حديدته، مع أنه لا بد أن ينزلها، لكن هناك فرق بين أن ينزل فيطرق بها وهذا من جنس عمله، أو أن يرمي بها عندما يسمع الآذان.
كذلك اجتماع المسلمين في الصلوات الخمس ما استفادوا بهذا الاجتماع شيئاً، وفي هذا المعسكر ربما نقعد أسبوعاً ونصلي الصلوات الخمس في جماعة، وأنا أؤكد أنه بعد الانصراف منه يوجد بعض الإخوة لا يعرف بعضاً لا اسماً ولا مسمىً، وتجد الواحد بجانب أخيه في المسجد منذ خمس سنوات، ومع ذلك لا يعرف اسمه ولا يعرف بيته، وإذا غاب سنة لا يسأل عنه.
يوجد عندنا في مسجد الجامعة الشرعية رجل كان يصلي بل من أوتاد المسجد كما يقولون، وغاب فترة ثلاثة شهور أو أربعة، فجرى حديث مع بعض رواد المسجد فقال أحدهم: فلان الله يرحمه فقال له آخر: أوقد مات؟ قال له: نعم مات، ولا حول ولا قوه إلا بالله، فقال له: والله ما أعرف، وقد يكون صلى بجانبه أربع سنوات، ثم هو لا يعرف عنه إذا غاب ولماذا غاب؟ الصحابة لم يكونوا كذلك؛ وهذا هو الفرق في ثمرة العلم، ليس الفقيه هو الذي يجمع الفقه النظري، إنما الفقيه فقيه النفس، كما قال عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من فقيه)؛ لأن الفقه فقه النفس، ففي وقتنا الحاضر يظل الرجل بجانب أخيه تلتصق قدمه بقدمه وكتفه بكتفه في الصلوات الخمس وإذا غاب لا ينزعج أنه غاب، ولا يشعر أنه افتقد شيئاً، بخلاف الصحابة الذين كانوا إذا غاب أحدهم يسألون: لم غاب فلان؟ لأن هذا السؤال فرع عن المحبة القلبية الحقيقية، والتي هي أيضاً فرع عن العلم النافع، فإذا غاب أحدهم يسأل عنه إخوانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويقولون في الأمثال إذا الواحد انزعج فإنما يقول: أخ، وذلك لقرب الأخ منه، لكن لأننا لم نحقق هذا العلم على المستوى الواقعي ليس له ظل حقيقي، فصار هذا العلم وجوده كعدمه.
لما اختلف عبادة بن الصامت رضي الله عنه مع معاوية بن أبي سفيان -وكان هو الأمير- في مسألة الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، فـ معاوية رضي الله عنه لم يكن بلغه الحديث فكان يقول: لا بأس، فنبهه عبادة بن الصامت أن هناك حديثاً بخلاف ما يقول، فلأمر ما أو لفهم ما خالف معاوية رضي الله عنه ظاهر الحديث وقال: لا أرى بأساً، فقال عبادة: أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: لا أرى بأساً، لا ساكنتك في أرض، وأخذ عياله ومتاعه وركب وخرج من الشام إلى المدينة المنورة.
انظر حساسية الصحابة من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، يترك الدار والوطن غيرة لله، فذهب يصلي الفجر فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة، وعمر آنذاك يعرف من في المدينة فرداً فرداً.
فبمجرد ما رأى عبادة قال: ما جاء بك يا أبا محمد، فهو يعلم أين خرج عبادة وغيره من الصحابة رغم أنهم كانوا بالألوف، قال أبو زرعة الرازي: حج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائه ألف في حجة الوداع، فمن تفرق في الأمصار كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرفه، فإذا جاء أحدهم علم أن هذا قادم من سفر.
قال عبادة لـ عمر بن الخطاب: قد كان بيني وبين معاوية كيت وكيت.
فقال عمر: (قبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك يا أبا محمد، ارجع إلى معاوية فأحمله على هذا فإنه الأمر) أي: ما قلته هو الصواب، ورجع عبادة بن الصامت.
ويؤثر أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتقد رجلاً فذهب فسأل عنه، فقالوا: هو مريض، فذهب إليه، فلما قرع الباب قال: من؟ قال: عمر بن الخطاب، فقفز الرجل وفتح له الباب.
فقال له: عجبت لك يناديك الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات (الله أكبر) فلا تجيبه، ويناديك عمر بن الخطاب فتجيبه.
ما يفوته أن يلفت نظره برفق إلى هذا المعنى، وإنما ورثوا مثل هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام معلم الإنسانية الخير، فإنه كما في الصحيحين افتقد ثابت بن قيس الأنصاري، قال: أين ثابت؟ فقال جارٌ له: ليس بمريض، يعني لفت نظره أن ثابتاً غير موجود، فأرسل من ينظر هل هو مريض أم لا، فلما ذهب إليه وجده في الدار يبكي، فلما سأله عن ذلك وكان رفيع الصوت، أي: إذا تكلم كان صوته عالياً، فكان يرفع صوته بطبيعته عندما يتكلم، فلما نزل قول الله عز وجل: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فظن أن عمله حبط لمجرد أنه كان يرفع صوته عند النبي عليه الصلاة والسلام، فاعتقد في نفسه أنه من أهل النار وأن عمله قد حبط، فقعد في داره يبكي.
فلما رجع الرسول قال: (يا رسول الله! إنه في بيته يبكي، ويقول: إنه من أهل النار؛ لأنه كان يرفع صوته بين يديك، قال: لا، بل هو من أهل الجنة)، قال أنس راوي الحديث: فكان يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
فمثل هذه الثمرة لا يستحق المرء أن يقطفها إلا إن كان فقيه النفس، وفقه النفس لا يحصله المرء إلا بعد أن يصل إلى العلم، وأعظم الثمار هي الثمار العملية، وآخر شيء في المسألة كلها أنك تقطف الثمرة.
فهذا هو الذي يستحق الحسد، لا الذي يجمع العلم من أطرافه، وإذا تكلم لا يستطيع أحد أن يجادله؛ لما أوتي من البيان والجدل، ليس هذا بعالم، فمثل هذا الطراز تسجر به نار الجحيم.
ذكر الذهبي في الميزان في ترجمة بعض العلماء ولا أحب ذكر اسم هذا العالم ستراً عليه، وهذا من أضلع العلماء في علم أصول الفقه، و(140/7)
البدعة وأثرها في تأسيس محنة المسلمين
الفتن والمصائب التي ألمت بالمسلمين هي بسبب بعد الأمة الإسلامية عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وتبنيها منهج أهل البدع والخرافات مقابل المنهج السوي الذي لا يعتريه زيادة ولا نقصان؛ فقد نهج أهل البدع إلى تحكيم العقل وجعله قاضياً على الكتاب والسنة، فأدى ذلك إلى الطعن في آيات القرآن، والرد على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فماذا بقي لنا بعد هذا؟!(141/1)
محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للبدع قولاً وعملاً
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الكرام! تعلمون أن الله عز وجل خصص اتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
والاتباع دليل على الحب، لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وأعظم مناقض للاتباع هو الابتداع.
ولذلك قاومه الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته قولاً وعملاً.
فأما قولاً: فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب في أصحابه كخطبة الحاجة، ويحذرهم من محدثات الأمور، ولما جاء نفرٌ إلى أبياته صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، وبعدما تقالوها، ووجدوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يصنع كبير شيءٍ، قال أحدهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك وقال: من رغب عن سنتي فليس مني).
فالبدعة سببها الجهل، وكلما اقتربت من السلف الأول ابتعدت عن البدعة، وأنت تنظر إلى جميع المبتدعة ترى علمَهم بالسلف قليل، ولكن لهم سمتٌ عام وهو الجد في العبادة، ولذلك ينتفع بهم كثير من الذين لا يعلمون السنة، وأقرب مثلٍ أبدأ به حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو حديث الإسلام والإيمان والإحسان.
وفي هذا الحديث: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: خرجت أنا ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بما أحدثه معبد الجهني في القدر! فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن! لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم- يعني أفاض في صفاتهم وفي مزاياهم- ولكنهم يقولون: إن الأمر أُنُف وأن لا قدر.
وعند ابن مندة في كتاب الإيمان: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: فقابلني عبد الله بن عمر وكان يعرفني، فسلم عليّ وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قِبَلنا ناسٌ يتقفرون العلم ويقرءون القرآن ويقولون: أن لا قدر، قال: فأرخى يده من يدي، وقال: (إذا لقيت هؤلاء فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم بُرَآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لئن جاء أحدكم بأحُدٍ ذهباً، فلا يُقْبَل منه حتى يؤمن بالقدر).
فأنت تنظر أيها الأخ الكريم! يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك لم ينتفعوا بهذا العلم في درء البدعة والتمسك بالسنة.
لم يغتر عبد الله بن عمر بما ذُكِرَ من أوصاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حذر منهم، كما في حديث الصحيحين: لما جاء ذو الخويصرة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، قال: ويحك، ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا الرواية في الصحيحين وهي الأشهر، (خبتَ وخسرتَ)، و (خبتُ وخسرتُ) ظاهرة المعنى، لكن خبتَ وخسرتَ قد يستشكل على بعضهم هذا الفتح، ويقول: إذا جاز على النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل، فأي خيبة وخسران تعود على الرجل.
قال العلماء: (خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) معناها: أنك خبتَ وخسرتَ إذ ظننتَ أن نبيك لا يعدل.
وسوء الظن بالنبي كُفر، فخيبته وخسرانه لسوء ظنه في نبيه.
فأراد خالد بن الوليد أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد).
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام للعُبَّاد، يقوله: لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويقوله لـ عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وابن مسعود وأبي عبيدة، هؤلاء السادة، تصوَّر عندما يحقر أبو بكر الصديق صلاته وقيامه في مقابل صلاة هؤلاء! إذاً: لك أن تتخيل كيف تكون صلاتهم؟! وكيف يكون صيامهم؟! وأعطيك مثلاً لبعض أكابر الصحابة وهو عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد - قال: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من المجدين في العبادة، فـ عمرو بن العاص يعلم حال ابنه، فخشي أن يكون قام الليل في ليلة عرسه وترك امرأته، وفعلاً كما توقع، قال: فذهب يسأل امرأتي -أي زوجة ابنه-: ما حال عبد الله معك؟ قالت: عبد الله نِعْم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله: فجاءني أبي فعزمني، وأنبني بلسانه، وقال: زوجتك امرأةً ذات حسب من قريشٍ فأعظلتها؟ قال عبد الله: وذلك لما كان لي من الشَّرَهِ في العبادة) عنده شَرَهٌ كبير للصلاة وللصيام.
وفي صحيح ابن حبان قال عبد الله بن عمرو: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أقوم به كل ليلة، فشكى عمرو بن العاص ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: يا رسول الله! أقرؤه كل ليلة.
قال: كيف تصوم؟ قال: أصوم الدهر.
فجعل ينزل به إلى التيسير.
فقال له: صمْ يوماً وأفطرْ يوماً.
قال: أقدر.
قال له: اقرأ القرآن في أربعين.
قال: أقدر.
قال له: اقرأ القرآن في شهر.
قال: أقدر.
فلا زال النبي صلى الله عليه وسلم يتدرج به).
فهذا من الشَّرَه في العبادة! فتصور عندما يقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقرأ القرآن كل ليلة: إنك لا تقرأ! وهل هذه قراءة؟ لا تجتهد فهناك رجل من الخوارج هو أجد منك في العبادة والصوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام لهؤلاء الصحابة العُبَّاد: (يأتي أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم).
فعندما تتأمل فهم الخوارج للقرآن تضرب بكفيك عجباً!(141/2)
بعض المفاهيم السيئة للقرآن عند المبتدعة(141/3)
مبتدع يزعم أن الله أرسل رسلاً إلى الصراصير والنمل والحشرات
إن الإنسان كلما ابتعد عن هدي القرون الثلاثة الأولى، أتى بضلالات، فثمَّ رجل مبتدع نشر مقالاً: فزعم أن الله أرسل إلى الصراصير رسولاً، وإلى النمل رسولاً، وإلى الحشرات رسولاً، كل طائفة لها رسول، ويقول: إن الله أخبرنا بذلك في القرآن، حسناً! أين هذا في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] فالنسور أمة، والصراصير أمة، والنمل أمة، والنحل أمة، ثم قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
انظر إلى الكلام: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] يعني: ما من أمةٍ إلا أرسلنا فيها نذيراً.
فهذا يدل على أنه ما من أمة من الأمم التي خلقها الله عز وجل إلا أرسل فيها رسولاً.
والعلماء يقولون: إن نزع الكلام من السياق جريمة في حق المعنى.(141/4)
مبتدع يزعم أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان
هذا رجل قال: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، وقال في كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]! سبحان الله! ضع كل جملة في سياقها يظهر لك المعنى، أما بالنسبة لكيد الشيطان، فإن الله عز وجل قال: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، فكيد الشيطان هنا في مقابل كيد الله فهو ضعيف فعلاً؛ لأنه في مقابل كيد الله عز وجل؛ لكن النساء في قصة يوسف عليه السلام ذكر كيدهن في مقابل كيد الرجال، ونَعَمْ، فإن الرجال لا يستطيعون أن يجاروا النساء أبداً في هذا الكيد.
فما الذي أوصل كيد المرأة أن يكون أعظم من كيد الشيطان؟! هناك أناسٌ لا ينظرون إلى المعنى ولا إلى السياق ولا السباق ولا اللحاق، والكلام لا بد له من سياق وسباق ولحاق.
وهكذا عندما يبتعد الإنسان عن منهل السلف الصالح يقع في البدعة.
ولذلك كانت أدلة أهل البدع مخالفة أدلة أهل السنة، فأنت تنظر إلى حال أهل البدع يجدون ويجتهدون في العبادة، ولذلك تجد أن أتباع المبتدع كثيرون، بسبب أنهم ينظرون إلى هيئته، يسمع القرآن يبكي وإذا صلى يطيل الصلاة وتجده زاهداً! انظر إلى حال عمرو بن عبيد رأس المعتزلة القدرية، كان المأمون يعجب من زهده ورغبته عن الدنيا، فكان إذا رآه قال: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد فكل واحد منكم يمشي رويداً، يريد أن يصطاد، فهو يمشي على مهله، وينظر يمنة ويسرة لعله يجد فريسة، فهو يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد وكان شديد الزهد، ومع ذلك لم ينفعه هذا الزهد.
فأنت تنظر إلى الخوارج الذين يصلُّون حتى يحقر الصحابةُ صلاتَهم إلى صلاتِهم، وصيامَهم إلى صيامِهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ومع ذلك فإن أسرع الناس خروجاً من الدين هؤلاء.
إذاً: ما نفعهم قراءةُ القرآن في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصلاة في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصيام في الثبات على الهدى.
فالمبتدع التزامه هش جداً، وبالتالي كانت محنة طلب السنة والثبات عليها من أعظم المحن، وحتى لا يُظَنُّ أنني مبالغ في هذه الكلمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة).
إذاً: أنت أيها المسلم أمامك ثلاثةٌ وسبعون باباً، وهذه الأبواب اختلط بعضها ببعض، أنت قد تجد أحياناً باب الهدى لا منادي له، لغربة علماء السنة، وتجد على أبواب كثيرة من يدعو وينادي إليها، وعندما يأتي شخص جاهل خالي الذهن لا يدري أين باب الهدى في هذه الأبواب الثلاثة والسبعين، ولو سألت أي رجل: على أي باب؛ لقال لك: هذا هو باب الهدى ادخل، وأنت لا تدري، ادخل.
فتصور محنتك أيها المسلم في أي بابٍ تدخل.
وتجد أنه على كل باب شيطان يدعو إليه، فكلهم يحسنون البدعة، ويلبسونها لباس السنة، وكما قلت: الدعاة إلى البدعة زهاد وعُبَّاد.
فيغتر الإنسان بمنظرهم وكم أهلكت هذه الصورة من رجالٍ، حتى بعض الأذكياء ممن كنتُ أعرفهم وقع في شر طريقتهم وقع في الطريقة البرهانية، حتى إنه قال لي يوماً: إن الشيخ البرهاني في السودان يعلم ماذا أصنع الآن! وهو مقتنع تماماً بما يقول.(141/5)
أهل البدع يخالفون أهل السنة في منهج الاستدلال
أيها الكرام! ينبغي أن نعرف أن طريق النبي صلى الله عليه وسلم طريق واحد فقط، وهي من أيسر الطرق، لكن لا بد من تصحيحٍ لمعنى الكتاب والسنة، هذا أول سبيل لوقوفك على طريق الحق.
أهل البدعة يباينوننا في منهج الاستدلال، بل يقدمون العقل على النقل، ويجعلونه قاضياً، بحيث أنه إذا لم يفهم النص يرده، وشخص واحد من هؤلاء أصدر كتاباً يزعم فيه أن أربعين حديثاً من أحاديث البخاري ومسلم كلها تباين العقل، ويذكر على ذلك أمثلة، وأنا أقولها حتى أبين لكم الفرق في الاستدلال بين أهل السنة وأهل البدعة.(141/6)
طعن أهل البدع في حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)
وهو أيضاً يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله).
يقول: هذا مكذوب! لماذا مكذوب؟ يقول: لأن الإسلام دين اقتناع، ونحن ندل على ذلك بعقولنا جميعاً بأن الدين لم ينتصر بالسيف إنما انتصر بالحجة، فكيف نقول للناس: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)؟! افرض أنهم لا يريدون أن يقولوها، لمَ تقاتلهم وقد قال الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وقال الله عز وجل: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]؟ فلِمَ نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ولا ندعهم وحريتهم؟! ولذلك يقول: هذا الحديث معارض للقرآن الكريم -والقرآن هو حجة المسلمين- فلذلك نرد الحديث.
لا والله، نحن نقول: إن آيات القرآن يرد عليها نفس الاعتراض، إذا كان الاعتراض بهذه الصورة فلا يسلم منها حتى آيات القرآن الكريم، مع أن معنى الحديث تؤيده آيات من القرآن الكريم.
(أمرت أن أقاتل الناس): الناس رجلان: - مؤمنٌ.
- وكافر.
فالمؤمن غير داخل تحت الحديث.
يبقى الكافر وهو قسمان: - قسمٌ مداهن على استعداد أن يدفع الجزية، فلا يقاومنا، فهذا لا إشكال فيه.
- قسم لا يريد أن يدفع الجزية، ولا يريد أن أنشر ديني.
فهذا هو الذي عناه الحديث، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، قاتلوهم حتى يعطوا الجزية، إذا أعطوا الجزية فلا نقاتلهم، وإذا لم يعطوا الجزية نقاتلهم.
إذاً: الصنف الذي عناه الحديث: الذين لا يعطون الجزية ومع ذلك يقفون حجر عثرة في طريق المسلمين.
فالحديث موافق للآية؛ لكنه نظر بجهله إلى لفظ (الناس) فقال ما قال.
ولفظ (الناس) هنا لفظٌ عام يفيد الخصوص، كقول الله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27].
والناس هنا: هم خصوص المسلمين، ومما يدل على ذلك ما رواه النسائي وأبو داود قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله).
انظر! لا تعارض أبداً بين حديث صحيح وبين آيةٍ في كتاب الله عز وجل، إذ لا يتعارض البيان مع المبيَّن، الرسول عليه الصلاة والسلام كلامُه بمنزلة البيان للقرآن، فكيف يتعارض معه؟!(141/7)
طعن أهل البدع في حديث موسى مع ملك الموت
فذكر حديث موسى عليه السلام مع ملك الموت، فهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وصححه كذلك الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت على موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، فصكَّه ففقأ عينه، فصعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، فقال: ارجع إلى عبدي، فقل له: آلحياةَ تريد؟! ضَعْ يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مسَّتها يداك سنة.
فقال موسى: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت! قال: فالآن).
فيقول: إن عباد الله الصالحين لا يكرهون الموت، فكيف بنبي من أولي العزم؟! يقول: إن هذه مجرد دعوى.
يدل على ضد هذا حديثان: هو يقول: إن عباد الله الصالحين يحبون الموت.
نحن نقول: لا.
يدل على هذا الحديث الإلهي حديث: (مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، في هذا الحديث (وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته).
فهذا دليل على أن عباد الله المؤمنين يكرهون الموت.
والحديث الآخر حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت).
هكذا (كلنا)، وعند العلماء: الجملة الكلية الموجزة من أقوى الجمل في إفادة العموم؛ لأن لفظ (كل) تفيد العموم، فهي قالت: (كلنا يكره الموت) فلو كان عباد الله المؤمنون لا يكرهون الموت لقال: (لا يا عائشة! ليس كل الناس يكره الموت) أما وقد أقرها عليه الصلاة والسلام على ذكر هذه الكلية، فهذا يدل على أن عباد الله عز وجل يكرهون الموت، ولا عيب في ذاك؟ كما أن الخوف الجِبِلي لا عيب فيه، وقد تكرر ذكر الخوف على لسان موسى كثيراً: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14].
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67].
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
فهذا الخوف الجبلي لا حرج فيه، ولا يعاتب به نبي ولا ولي ولا مؤمن.
فمن أين أوتي هذا الإنسان؟! أوتي من جهله ببقية النصوص الأخرى، وكما قال القائل: (ليتك كمن لا يعلم لقل الخلاف) لكن كلامه يحسب عند المتأخرين قولاً.
كم من أناسٍ لم يكن لهم في العلم أصلاً، ولكن كتبوا وبيَّنوا وتكلموا، فصار قولهم معدوداً في الخلاف لدى المتأخرين الذين جاءوا بعدهم بأزمانٍ متطاولة.
فيقول: إن هذا الحديث يباين العقل السوي، الذي لا يختلف حكمه من رجلٍ إلى رجلٍ على وجه الأرض.
وهذا كذب! لأنه لو كان العقل السوي ضابطاً ما اختلف الخلق؛ لكن تباينت أفهام الخلق لتباين عقولهم، فليس هناك حكم للعقل السوي حتى نقيس عقل المؤمن وعقل الكافر معاً؛ لكن هذا الرجل مشربه على خلاف مشرب أهل السنة وعلى خلاف تلقيهم للعلم.(141/8)
العلمانيون والمنهجية الحيادية
أيها الإخوة الكرام! العلمانيون لهم ضوابط خاصة يذكرونها دائماً، ويُلْبسونها لباس المنهجية، ولباس الحياد العلمي، فالحياد العلمي دائماً في كل كتاباتهم يقولون: لا بد من اتباع المنهجية والحياد والإنصاف.
ما معنى الحياد عندهم؟ معناه: هو ترك الانتماء إلى السلف، وينبغي أن يكونوا في نظري أناساً عاديين لا فضيلة ولا ميزة لهم، لأنك لو اعتقدت أن لهم فضيلة فستنحاز إليهم، وهذا الانحياز سيفقدك المنهجية، فلذلك هم ينادون دائماً بالحياد العلمي، والحياد العلمي هو الذي جعل رجل مصر الدكتور طه حسين يقول: إن القرآن الكريم ينبغي أن نعامله ككتاب أدبي، ليس لأنه من عند الله! ولذلك أوردوا بعض الاعتراضات اللغوية عليه بجهلهم.
فلو أن الإنسان اعتقد أن هذا القرآن كلام الله عز وجل سينحاز له إذا فقد المنهجية، ولذلك استحق أن يطرد من جملة العلماء، بل طُرد من الجامعة شر طردة، وذهب ليأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس، ومن عجبٍ أيها الإخوة الكرام أن هذا الرجل لما رجع من باريس وأرادوا أن يكرموه، واستقبله السلطان فؤاد الأول فعملوا مهرجان في مسجد من مساجد القاهرة، وجاء السلطان فؤاد، وجاء له رجلاً بخطيب بارع آنذاك، فهذا الخطيب أراد أن يمجد الملك، ويمجد صاحب طه حسين في نفس الوقت، فقال كلمةً كفَّره بها وكيل الجامع الأزهر آنذاك الشيخ محمد شاكر رحمه الله، قال: جاءه الأعمى فما عَبَسَ ولا تولى.
فهذا تعريض لجانب المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعريض أن الملك فؤاد الأول أفضل من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عبس وتولى عندما جاءه الأعمى؛ لكن هذا قال: ما عبس ولا تولى، بل بعثه إلى باريس، فأخذ الدكتوراه وأتى، فالشيخ محمد شاكر لما سمع هذه الكلمة ما تحملها، فبعد الجمعة قال: (أيها الناس! أعيدوا الصلاة فإن الخطيب كَفَر).
دعنا من حكم الشيخ محمد شاكر لا نناقشه، لكن هو قال: إن الخطيب كفر.
وذهب إلى قصر عابدين، وأرسل رسالة إلى الملك فؤاد الأول: أن يعيد الصلاة؛ لأن الخطيب كفر.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله -وهو ابن الشيخ محمد شاكر هذا البطل المغوار الذي جهر بهذا الحكم-: وقامت بين الوالد -بين أبيه- وبين هذا الرجل مرافعات، والعلمانيون أغروا الخطيب أن يقدم بلاغاً، ويرفع قضية على الشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد شاكر قال: أنا أطلب نخبةً من المستشرقين -لا أقول: من علماء الأزهر حتى لا يقال: انحازوا إليه- الذين لا يدينون بدين الإسلام، ولا يوالون الرسول عليه الصلاة والسلام، لأسألهم سؤالاً واحداً: أهذا الذي قاله الخطيب تعريض بالرسول عليه الصلاة والسلام أم لا؟ قال: فلما عَلِم ذاك الخطيب أن القضية ستمتد وسيخسر فيها؛ أسقط حقه فيها.
يقول الشيخ أحمد شاكر: وكنت أعرف ذلك الخطيب، فدخلت مسجداً من المساجد فرأيت هذا الخطيب الشهير فرَّاشاً يتلقى نعال المصلين، قال: فانزويت عنه، فسبحان الله! من كان عدواً لله ورسوله فإنه لا يُعَزُّ أبداً.
إن الأصل أن نقف على الألفاظ، (فاضربوا) تشمل الرجال والنساء، ولا نقول بغير ذلك إلا بدليل.
قلت: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا حملتم الميت فأسرعوا) ما رأيك؟ النساء يحملن الجنازة؟ (فأسرعوا) مثل (اضربوا)، كله شيء واحد، فيدخل الرجال والنساء معاً.
قال: لا.
قلت له: لم؟ قال: لأننا ما رأينا نساءً يحملن النعش.
قلت: هذا عين جوابي، هذا هو السنة العملية التي قضت بأن النساء لا يحملن نعش الميت، كذلك السنة العملية هي التي قضت أيضاً أنه لا يضرب إلا الرجل.
فأهل البدع يخالفوننا في منهج الاستدلال، ويخالفوننا في الأدلة ذاتها.(141/9)
لزوم تقليص البدع ومقاومة أهلها
أيها الإخوة الكرام! لا بد من تقليص البدعة ومقاومة أهلها، لأن للبدعة أثراً سيئاً جداً في تأسيس محنة المسلمين، وما سقوط بغداد عنكم ببعيد، تعرفون أن بغداد سقطت بسبب ابن العلقمي الرجل الرافضي، فهو الذي أغرى ملك التتار بدخول بغداد، وأوهم الخليفة العباسي أن الرجل لا يريد بغداد، وإنما يريد أن يتزوج ابنته، وجعل يفتل له الحبل على الغارب -كما يقول الشوكاني - حتى دعا ملك التتار حاكم بغداد والحاشية جميعاً لكي يكتبوا الكتاب ويعقدوا العقد، فاجتهدوا في جلب كل مَن له شوكة وسلطان بدعوى حضور العقد، وعندما ذهبوا إلى هناك قتلهم ملك التتار جميعاً عن بكرة أبيهم، ودخلوا بغداد واستباحوها وقتلوا ألوفاً مؤلفة، وعندما تقرأ حوادث بغداد في تاريخ ابن خلكان تجد أن ابن خلكان يقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً ولم أدوِّن هذا الخبر! لأنه ليس هناك محنةٌ أبداً تشبه هذه المحنة العظيمة التي كان بسببها ابن العلقمي الرافضي.
فلذلك أهل البدع لا يستقرون في مكان حتى يكون أول من يحاربهم أهل السنة.
أيها الإخوة الكرام! معرفة السنة واتباع النبي عليه الصلاة والسلام هي أول شوكة في ظهر المبتدعة، ونحن حياتنا كلها بدع، البدع في الأصول والعقائد، والبدع في الفروع، وتجد البدع في العبادات، ففي كثير من مساجد المسلمين في التراويح يقرءون بعد كل ركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاث مرات، وهناك مساجد أخرى، يقول لك: بعد الركعتين أبو بكر، بعد الأربع الركعات: عمر، بعد الست ركعات عثمان، بعد الثمان ركعات: علي، المهم أنها جاءت بالضبط، هكذا فوزعوا الأربعة الخلفاء على الثمان ركعات.
فعندما تقول: يا جماعة! ما هذا الذي تفعلونه؟ يقال لك: نحن نقرأ القرآن و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلث القرآن.
فإذا قلت: هذا بدعة.
يقال لك: قراءة القرآن بدعة؟! أنا لا أقول لك: إن قراءة القرآن بدعة، إنما قراءة القرآن في هذا المكان هو البدعة.
ولله در عبد الله بن عمر عندما عطس رجلٌ فقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، فقال له عبد الله بن عمر: وأنا أقول: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -أنا أيضاً أصلي مثلك- لكن ما هكذا عَلَّمنا رسول الله، إنما علمنا أن نقول: الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال.
فانظر إلى فطنة عبد الله بن عمر! حتى لا يقول الرجل: ابن عمر هذا ينكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم! قال: أنا أقول مثلك: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنكر عليه.
فأنت تنظر إلى هذا تستغرب.
ومرةً كنت ألقي درساً في كتاب رياض الصالحين، وكان يحضر معنا ابن أكبر رجل في البلد، وكان أبوه يعده للخلافة في نشر البدع، المهم فجلس معنا نحو ثلاثة أشهر، ومع سماعه للأحاديث والأصول وللكلام النبوي يبدو أن مزاجه اعتدل، فذهب يجادل أباه في بعض المسائل، وكنا قبل رمضان بقليل، فهو يحضر معنا للتراويح وإذا هو يقول لأبيه في المسجد: لا داعي لـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لأن هذا بدعة، فيقول: يا بني! من أين جئت بهذا الكلام؟ قال: هناك أدلة تدل على هذا.
وجاء الرجل إلى المسجد وبعد المحاضرة، قام وقال: أنتم تكرهون النبي صلى الله عليه وسلم، وأنتم تكرهون القرآن! - يا والد! ما لك؟! - فقال: كيف تقول: إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بدعة؟ - أنا قلت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بدعة؟ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] توحيد.
- فلماذا قلتَ لي أنها بدعة.
- قلتُ له: أنا قلت: قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بين التراويح بدعة.
- قال لي: يعني: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] التي هي ثلث القرآن نعتبرها من البدع؟ - قلت له: لا.
أنا أسألك سؤالاً، ثم أسألك سؤالاً -وأي رجل مبتدع أسأله هذين السؤالين-: هل النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي؟ - قال: لا.
- السؤال الثاني: هل النبي صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ؟ - قال: لا.
- السؤال الثالث: هل ما تفعله فَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهذا يجيب عليه بجوابين: إما أن يقول: لا.
وهذا كافٍ في الرد عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما ترك شيئاً إطلاقاً من الخير إلا دلنا عليه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] إذاً: كل الذي يفعله ما لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام كأنما قال: أنا أفعل شراً.
وإما أن يقول: نعم.
فتسأله الدليل، ولا دليل.
- قلت: هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] بين التراويح؟ - قال: لا.
اختصر عليَّ المسافة، فلو قال: نعم.
لما عرفت أن أعمل معه شيئاً أبداً، وقد يكون قد ضيع عليَّ الأسئلة التي أنا عملتها، ولكنه قال: لا.
- قلت له: طيب! إذاً: أنت تفعل شيئاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
فالرجل وكأنه لم يأخذ باله من الإجابة، فلما قلتُ هذا الكلام سكت طويلاً ثم قال: يعني: أنا منذ ستين سنة وأنا مغفل؟! قلت: سبحان الله! وماذا يضر أن يظل المرء أكثر من ستين سنة مغفلاً غافلاً عن الحق ثم يهديه الله عز وجل؟! إن ابن الجوزي -وهو العالم في علم الحديث- ذكر حديثاً موضوعاً ثم قال: ظللتُ أعمل بهذا الحديث ثلاثين سنة، لإحسان ظني بالرواة، فلما نضج في علم الحديث، وبدأ يسلك مسالك النقد اكتشف أنه ظل ثلاثين سنة يعمل بحديث موضوع.(141/10)
البدعة الإضافية أكبر محنة على المسلمين
فالبدع يا إخواننا كثيرةٌ جداً وتحتاج إلى جيوش جرارة تقف في وجوه أهلها، لاسيما البدعة الإضافية التي هي أكبر محنة الآن؛ بسبب أن لها وجهين: - وجه يطل على الشرع.
- ووجه آخر يطل على البدعة.
مثل: الخط الذي يكون في المساجد، حيث يُعْمَلُ لصقٌ أو يُعْمَلُ خطٌّ من أجل الصفوف.
فهذا بدعة.
- لماذا خططتم الخط على الأرض؟ - قيل: لنسوي الصف.
- تسوية الصفوف هذه مسئولية من؟ - مسئولية الإمام.
- إذاً: ما خُطَّ الخط على الأرض إلا بعد ما ترك الأئمة مهمتهم.
- السؤال الأول: هل وضع الخط أو شده كان مقدوراً للنبي صلى الله عليه وسلم أم غير مقدور؟ - كان مقدوراً.
- هل كان له داعٍ؟ - نعم.
كان له داعٍِ، وهو تسوية الصف.
- السؤال الثالث: هل فعله؟ - ما فعله.
وهذا قاعدة ذهبية في معرفة الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة.
فشد الخيط على الأرض جاء بسبب إهمال الأئمة.
ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن ميمون قال في يوم مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فكان بيني وبينه ابن عباس: فسوى الصفوف حتى إذا لم يجد خللاً تقدم فكبر).
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يسوي الصف، ويرسل من يسوي الصفوف، فإذا وجد الصفوف متساوية أقام فصلى.
لكن نحن الآن كأئمة، يقول أحدنا للمصلين: استووا استووا وهو واقف ووجهه إلى القبلة، لأن هذا من مهمات الإمام؛ ولكن هذا تقصير، فبسبب تقصير الأئمة والمسلمين ظهرت هذه البدعة.
ومدة ظهور هذه البدعة حوالي عشر سنوات فقط، وقبل ثلاث عشرة سنة ما كان أحد يرى هذا الخط على الأرض، يعني: أن هذه البدعة جديدة جداً، وكما قلنا سببها: إهمال الأئمة، حتى الصف الأول الذي من المفروض أن يكون أفضل صف في المسجد ترى الفضلاء يتخلفون عنه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل)، حتى إنك ترى أصحاب الصف الأول هم من لا يحسن نظام الصلاة، مع أن الصف الأول هو الخط الأساسي للإمام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (لِيَلِيَنِي منكم أولو الأحلام والنهى)، لماذا؟ حتى إذا حدث للإمام شيء في الصلاة، فيكون الذي وراءه فاهماً لنظام الصلاة، فإذا أحدث الإمام مثلاً، أو تذكر أنه غير متوضئ فأول ما يشد شخصاً من الصف الأول يكون هذا المشدود عالماً لماذا شده، لا أن يعمل كما قال ابن الجوزي في كتابه: أخبار الحمقى والمغفلين، من الأئمة قال: أحدث إمامٌ فشد واحداً من ورائه، فكان صاحبنا المشدود لا ينطق ولا يتكلم ولا يعمل أي شيء، فلما يئسوا منه أخذوه وأدخلوا غيره، فقيل له بعد الصلاة: لم وقفت ولم تتكلم؟ قال: أنا ظننت أن الإمام يقول: احفظ مكاني حتى أجيء.
كأنه طابور جمعية! وهذا يذكرني أيام الجمعيات الاستهلاكية والاقتصادية: وقف شخص أمام محل ليربط -أعزكم الله- رباط جزمته، وبينما هو واقف وجده شخصٌ يربط، فظنه واقفاً أمام جمعية فوقف وراءه، وما إن انتهى الأول من رباط جزمته ونظر وراءه حتى رأى عشرة أو خمسة عشر شخصاً يقفون طابوراً، فقال: يبدو أن هذا المكان يُوَزَّعُ منه شيء، فما دمت الأول في الصف لماذا أبرح مكاني؟! وظل واقفاً، وظل مَن خلفه واقفون هم أيضاً، وقالوا: قد يكون هناك توزيع شيء.
فهذا الذي يقول: احفظ مكاني حتى أجيء موجود في الصف الأول.
وحصلت عندنا حكاية عجيبة جداً أن من الأشياء الغير لائقة أن الناس يعزمون على الإمامة، إذا غاب الإمام الأصل يقولون: لتتقدمنَّ يا فلان لا والله أنت مَن يتقدم، لا.
والله لن يتقدم إلا أنت أليس هذا ما يفعلون؟! فقد عَمِلَها ناسٌ مع شيخ القبيلة، وهو لا يعرف أي شيء، ولا يعرف أنه سيُقدَّم للإمامة، وهو لم يكن محضِّراً؛ ولكنه كان يعرف أن الأئمة يقولون كلمتين أو ثلاث في البداية: استووا يرحمكم الله سدوا الفُرَج ولكن الرجل نسي هذا الكلام نهائياً، فوقف ينظر إلى أول الصف وآخره، وأخذ يفرك في يده، وقال لهم: جاهزون يا رجال؟! هذه حصلت، وليست فكاهة.
فتصوَّر عندما يكون هذا الرجل هو وفدٌ إلى الله عز وجل؛ فنحن لا بد أن نختار دائماً الخيار: (اجعلوا أئمتكم خياركم) لأنهم وفدُنا إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام! الرأس -إذا لم يكن حكيماً- يشِين أو يزِين.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز إمارة المؤمنين وجاء مجموعةٌ من الناس العرب يهنئوه، أدخلوا شاباً صغيراً صاحب البضع والثلاثين سنة يهنئه، فقال: يا غلام! أما وجدوا من هو أسن منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو كانت المسألة بالسن، لكان غيرك أولى بالخلافة.
يا أمير المؤمنين: تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهلُ وإن كبير القوم لا علم عنده صغيرٌ إذا التفت عليه المحافل فقال: أفلح قومٌ ولوك أمرهم يا غلام.
فالمقصود: أن هذا الإهمال الذي حدث من المسلمين هو الذي أوجد هذه البدع.
العلماء يقولون: كل حكمٍ كان له مقتضىً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فلا يجوز لنا أن نفعله، مثل: شد الخط: كان مقدوراً له أن يفعل؟ نعم.
كان هناك مقتضى للفعل؟ نعم.
وهو تسوية الصف.
هل فعل؟ لا.
إذاً: لا يجوز أن نفعل، إذ لو كان خيراً لفعله.
وهذا أيضاً مثل الاحتفال بالمولد النبوي، والرسول عليه الصلاة والسلام مات عن ثلاث وستين سنة فقد أمضى حياته المباركة مع كل الصحابة، ومع ذلك فلم يحصل مرةً واحدة أن جمع أصحابه في يوم مولده، وخطب فيهم خطبة، أبداً.
هل جمعهم في يوم مولده كان مقدوراً له أم لا؟ - كان مقدوراً.
- هل هناك مقتضىً للجمع؟ نعم.
وهو العظة.
هل جمعهم؟
الجواب
لا.
إذاً: هذه بدعة.
فأنت تعرف أن هذا قيد في الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة.
ما هي المصلحة المرسلة؟ هي: شيءٌ فيه مصلحة، وليس هناك نهي خاصٌ عنه، ولم يكن له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
نحن عندما نقف عند إشارة المرور، أو شرطي المرور: هل كان مقدوراً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله؟ لا.
هل كان هناك مقتضىً للفعل؟ لا.
هل تحقق لنا مصلحة؟ نعم.
هل هناك نهي عنها؟ لا.
إذاًَ: هذه مصلحة مرسلة.
فهذا هو الفرق بين المصلحة المرسلة والبدعة الإضافية.
وسميت إضافية لأنها تضاف إلى الشرع بدليل عام، مثل أذان المؤذن الذي يقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله! أنت لماذا تذكر السيادة؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فطالما أنه سيد ولد آدم ولا فخر، فأنا لا زلت أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، فأكون بهذا قد مجدت الرسول عليه الصلاة والسلام وعظمته.
ولذلك سميت بدعة إضافية، بمعنى: أنها تضاف للشرع بدليل عام، بخلاف البدعة الحقيقية التي لا أصل لها مثل صلاة الرغائب في رجب، ومثل صلاة حفظ القرآن الكريم، فهذه كلها من البدع الحقيقية التي لا أصل لها في الشرع.
أيها الإخوة الكرام: الكلام عن البدعة وعن أهلها كلامٌ يطول؛ ولكن أردت أن ألمح تلميحاً سريعاً إلى المحنة التي يعيش فيها المسلمون الآن، ومحنةُ طلب الهدى في هذا الزمان أعظم من محنة عدم وجود رغيف الخبز، وكما صورتُ لكم أن المحنة تتمثل في ثلاثة وسبعين باباً، والأمرُّ خو ذهنه فعلاً من معرفة الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الحق، الأمر الذي به تختلط عليه كل هذه الأبواب فلا يدريها، فيلج من باب لا سيما وعلى كل باب شيطان يدعو إليه.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا وإياكم من البدع، ومن أهلها، وأن يجعلنا من أعلام السنة وشبانها والحمد لله رب العالمين.(141/11)
الأسئلة(141/12)
حكم إلقاء موعظة بين التراويح
السؤال
ما حكم من يقوم بإلقاء خطبة قصيرةٍ لمدة خمس دقائق يومياً بعد أربع ركعات من التراويح؟
الجواب
أظن أن هذا جائز؛ لأن هذا تذكير، فالذي يقول مثلاً: إن هذا بدعة يلزمه أن يقول: إن المجلس الذي نجلسه الآن بدعة، ويلزمه أن يقول: إن كتابة الأسئلة في أوراق بدعة، ويلزمه أن يقول: إن اجتماع الطلبة على الشيخ الحويني لتدريس الحديث مرة، وتدريس الفقه مرة، هذا كله بدعة.
والأصل أن هذا كله من باب طلب العلم.
والله أعلم.(141/13)
جواز تنوع صيغ التشهد في الصلاة
السؤال
ما هي الصورة الصحيحة للتشهد؟
الجواب
المعروف أن التشهد له أكثر من صيغة، وكل هذه الصيغ التي يقرؤها المسلمون هي صيغٌ صحيحة، لكن ذكر العلماء: أن أصح صيغة هي التي في حديث ابن مسعود.(141/14)
حكم التسوك في نهار رمضان بسواك له نكهة الليمون
السؤال
ما حكم التسوك في نهار رمضان بسواك له نكهةٌ غير نكهته الأصلية؟
الجواب
تعني: طعم السواك؟ السائل: بعضُ الناس يضيف عليه نكهةَ الليمون! الشيخ: إذا أضاف مثلاً على السواك ليموناً أو نحو ذلك فلا بأس؛ لكن لا يخالط لعابَه، لا سيما وأنه قد ينزل من السواك بعض فتات أشياء لها طعم.
والله أعلم.(141/15)
حكم الذبح والتوسعة على الأهل في مواسم أهل البدع
السؤال
ابتليت بعائلةٍ شيعيةٍ، وأنا سلفي ولله الحمد والمنة، ولكنني أعيش معهم في البيت ولا زلت طالباً في المدرسة، ولا أستطيع الاستقلال عنهم، وفي مواسمهم يجبرونني على تناول أكلاتهم وذبائحهم التي ذُبِحت لأجل هذه المواسم، فهل يجوز لي الاستمرار في الأكل أو الكف عن ذلك؟ وبماذا تنصحني من خلال معرفة الشيعة؟
الجواب
طالما أنهم لا يجبرونه على هذه البدعة التي يفعلونها فلا بأس من معاشرتهم.
وأما بالنسبة للأكلات التي يأكلونها في المواسم فهذه جائزة، حتى إنها موجودة في بيوت كثير من المسلمين، يعني مثلاً: ليلة النصف من شعبان يُذبح لها، ومثلاً في يوم السابع والعشرين من رجب يُذبح له، وهكذا في بقية المواسم، فهم لا يتعبدون الله عز وجل بهذا الأكل، إنما هو نوعٌ من التوسعة، ولا يدخل في نطاق البدع.
السائل: وإذا ذبحوا للحسن أو للحسين؟ الشيخ: لا.
إذا ذبحوا للحسن أو للحسين فهذا معروفٌ حكمُه، هذا أصلاً أنا لم أنبه عليه؛ لكن إذا ذبحوا لمجرد أن موسماً معيناً حلَّ أو نحو ذلك، فهذا جائز أن يأكل المرء منه.
السائل: ولكنهم يذبحون للحسن والحسين في هذه المواسم! الشيخ: إذا كانوا يذبحون في هذه المواسم للحسن والحسين فهذا في حكم الميتة.
السائل: المولد النبوي يذبحون فيه! الشيخ: نعم.
يذبحون، فكل مولدٍ للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يذبحون فيه ابتهاجاً ونحو ذلك.
هناك فرق -أيها الإخوة- ما بين شخص يذبح لأجل فلان، فهذا ميتة، لا يحل أكله، وبين رجل يبتهج بالمناسبة، فمن ضمن الابتهاج أنه يوسع على نفسه في الأكل والشرب، فهذا لا بأس به.
والله أعلم.(141/16)
الفرق بين الترجمة للمبتدع والتحذير منه
السؤال
لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يتصدرون العلم ويقرءون القرآن، ولكنهم يقولون: يجب على أهل السنة إذا حذروا من صاحب بدعة وذكروه بما فيه، أن يذكروا ما له من الحسنات ومن جميل الأخلاق حتى لا يظلموا هذا المبتدع وينصفوه، واستدلوا على ذلك بفعل الذهبي رحمه الله، فما قول أهل الحديث والتاريخ؟
الجواب
نقول أيها الإخوة الكرام: هناك فرقٌ بين أن تترجم للمبتدع، أو أن تحذر منه.
إذا كنا في باب الترجمة فإننا نذكر ما له وما عليه، ونترجم ترجمة محضة.
لكن إذا أنا سُئِلتُ عن رجلٍ في بدعته فأنا لا أذكر محاسنه، فمثلاً: إذا اقترض رجلٌ منك مالاً فأكله، ليس فيه إلا هذا العيب؛ لكنه مُصَلِّ ورجلٌ صوَّام وقوَّام، ورجل حسنُ الأخلاق، ويساعد الملهوف، ورجل كريم؛ لكن الإشكال عنده أنه إذا اقترض منك مالاً فانْسَهُ.
فإذا جاءني رجلٌ يقول لي: والله إن فلان الفلاني يريد قرضاً! فهل أقول له: هو ورعٌ زاهدٌ عابدٌ، وأذكر له هذه المسائل؟! هذا الكلام ليس له أي معنى ولا أي قيمة، إنما قال لي: هذا الرجل يريد أن يقترض مني مالاً أفأعطيه؟ فأقول له: إياك أن تعطيه! فهناك فرقٌ بين الترجمة: أن نترجم لفلانٍ من الناس فنذكر محاسنه ومساوئه كما هو عليه أهل السنة وأهل الحديث.
وعندما تقرأ للإمام أبي عبد الله الذهبي في كتاب: سير أعلام النبلاء مثلاًَ، تجد أن الذهبي في الترجمة يعطي الرجل حقه من الفضائل التي فيه، وإذا كانت هناك بدعة تبرأ وحذَّر منها.
والله أعلم.(141/17)
وجوب التحذير من أهل البدع
السؤال
هل صحيح أن التكلم في أهل البدع يقسِّي القلب؟
الجواب
لا.
التكلم في أهل البدع واجب؛ لكنه يحتاج إلى ذكاء، فهناك بعض الناس لا يراعون مصلحة الكلام في أهل البدع، وأئمةِ السنة مثل الإمام أحمد والإمام مالك وهؤلاء الثلة، كانوا يوجبون الكلام في أهل البدع، ويحذرون من أهل البدع.
ولكن المسألة أن واقع الإمام أحمد يختلف عن واقعنا.
فـ شعبة بن الحجاج رحمه الله قال لـ يزيد الرقاشي: لو حدثتَ بهذه الأحاديث لأستعدِيَن السلطان عليك.
سأذهب إلى السلطان وأقول له: إن ثَمَّ رجلاً يروي حديثاً موضوعاً، فيسجنك.
فكان بدلاً من الإمام أحمد ألف أحمد، وبدلاً من مالك ألف مالك.
فالبيئة تختلف، فهناك في بعض الأماكن بيئةٌ المبتدعةُ لهم فيها ظهور، ولهم صولة كبيرة، ولو وقف هذا الرجل السني في مقابل هؤلاء وجابههم قطعوا لسانه، وضيعوا حلقته، وأخذوا منه مسجده، فهل هذه حكمة أن يقف في مقابلهم، فيأخذون منه المسجد ويمنعونه من الكلام، ويحظرون عليه؟! هذا ليس من الحكمة، بل الصواب: أن يستمر هذا الرجل ويحاول بلطف وذكاء أن يطيل عمر دعوته، لا سيما إذا كان فرداً واحداً، وكان له تأثير وكان مباركاً.
وأنا أريد أن أقول شيئاً: الداعية الممارِس يختلف عن قارئ الكتب.
قارئ الكتب هذا إنسان في وادٍ آخر؛ لكن الداعية الممارس رجلٌ لَمَس الواقع وعرف كيف ينزل الإسلام على الواقع.
والمسألة كلها مربوطة بالمصلحة والمفسدة، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صارت له دولة في المدينة، وكان قادراً على الفعل قال لـ عائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر؛ لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيم) لكنه لما خشي أن يقول الناس: إن هدم البيت يخالف تعظيمه، ويقع هذا في روع آحاد الناس تَركه على ما هو عليه، حتى جاء ابن الزبير فاستشار الناس في هدم الكعبة، فأشار عليه ابن عباس ألا يهدمها، قال: دع الناس ودع أحجاراً أسلموا عليها، فقال ابن الزبير: إنهم قَصُرَت بهم النفقة، وأنا أجد النفقة، وإنهم كانوا يخافون أن يفتتن الناس وقد حدث الأمان، فإني مستخير ربي ثلاثاً، واستخار الله عز وجل ثلاثاً وقرر هدم الكعبة.
فبدأ يهدم الكعبة، فقلع ثلاثة أحجار أو أربعة من فوق الكعبة، وإذا بالناس كلهم قد فزعوا وقالوا: ستنزل صاعقة الآن من السماء عليه، وجعلوا ينظرون والرجل يقلع الحجر ويرميه، فوجدوا أنه لم ينزل دمار ولم تنزل صاعقة، فقويت قلوب الناس على ذلك، وتتابعوا جميعاً على هدم الكعبة حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم فإذا هي أحجارٌ مثل سنام البعير.
فمسألة مراعاة المصلحة والمفسدة في التحذير من البدعة مهم، ليس هذا -أيها الإخوة- تهوين من شأن البدعة، بل يجب إنكار البدع؛ ولكن هذا الوجوب يختلف من مكانٍ إلى مكان، ويختلف من رجلٍ إلى رجلٍ ونحو ذلك؛ لكن الكلام في أهل البدع واجب، بل سئل الإمام أحمد رحمه الله عز وجل عن رجلٍ يصلي ورجلٍ ينكر على أهل البدع أيهما أفضل؟ قال: الذي يصلي إنما يصلي لنفسه، والذي يجاهد أهل البدع، فإنما ينفع المسلمين.(141/18)
الأمثال في الكتاب والسنة [2]
أمرنا الله عز وجل أن ندعوه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذا الصراط المستقيم يبين لنا به خصائصه وطبيعة السير فيه ومنهجه، ويحذرنا من شياطين الجن والإنس الذين يجتالون العباد عن هذا الصراط المستقيم، ويأخذون بهم ذات اليمين وذات الشمال في طرق الغواية والضلال، ويزخرفون لهم المعصية، ويزينون لهم الكفر والبدعة.(142/1)
خصائص الصراط المستقيم
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمرنا الله عز وجل أن ندعوه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، ولا يكون مستقيماً إلا إذا كان أقصر الطرق، ولا يكون مستقيماً إلا إذا قربك من المقصود، ولا يكون مستقيماً إلا إذا وسع كل السالكين فيه… كل هذه من خصائص الصراط المستقيم.
وفي هذا ردٌ على الذين يقولون: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر! فنقول لهم: كذبتم؛ لأن الطريق إلى الله واحد، وما ذُكِرَ السبيل ولا الصراط المستقيم إلا مفرداً؛ إنما طرق الذين ضلوا تذكر بالجمع، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153].
فليس هناك طريق إلى الله إلا خلف النبي عليه الصلاة والسلام فقط، لو سلكوا إليه كل طريق، واستفتحوا كل بابٍ فهو موصد، إلا أن يأتوا خلف النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدي هدي محمد) عليه الصلاة والسلام.
إذاً: الطريق إلى الله واحد لا يتعدد.
إن الصوفية الذين لهم عدة طرق، ويبتكرون عدة مناهج يظنون أنها توصل العبد إلى الله، كذبوا على عباد الله، وضلوا الوصول إلى الله، الطريق واحد فقط ليس له ثان، وهو الذي أمرنا أن ندعو به.(142/2)
السالكون للصراط المستقيم أقل عدداً وأعظم قدراً
إن هذا الصراط المستقيم عزيز سالكه؛ ولذلك لو سلكته وتلفتَّ حولك، فلن تجد فيه إلا الواحد بعد الواحد، والنفس تستوحش من قلة الناس، وتأنس بالكثرة، فإذا سلك هذا الطريق رجلٌ لم يتحقق بالعلم والإيمان، ونظر فلم يجد أحداً حوله فقد يستوحش، وقد يصده ذلك عن المضي قُدُماً إلى آخر الطريق؛ فلذلك قال من قال من السلف: (عليك بطريق الحق وإن كنت وحدك، ولا تستوحش بقلة السالكين، ولا تسلك طرق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين).
الذين يسلكون الصراط المستقيم هم الأعلون قدراً وإن كانوا الأقلين عدداً، الذين يسلكون هذا الطريق هم الأعظمون قدراً وإن كانوا الأقلين عدداً.
من الذين سلكوا هذا الطريق؟ إنهم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وأنت قد لا تكون واحداً من هؤلاء؛ لكنك رفيق، (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، لست على قدرهم لا في العلم ولا في الإيمان؛ لكن طالما كنت رفيقاً فلن تشقى بهم، لن تشقى معهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع من أحب)، قال أنس بن مالك -راوي هذا الحديث في الصحيحين-: (فما فرحنا بعد الإسلام كفرحنا بهذا الحديث، ثم قال: وأنا أحب أبا بكر وعمر وإن لم أعمل بأعمالهم) فهو يرجو أن يكون معهم في المنزلة بحبه لا بعمله.
فالطريق المستقيم إذا مشيت فيه ولم تجد أحداً، فعليك أن تتذكر هؤلاء الرفقاء: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ حتى تعطي نفسك عزماً جديداً.
ولله در الإمام أحمد! كان يقول: (عليك بهدي -أو بسنن- من مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).
رفيقك السابق مات وترك آثاراً صالحةً لم تمح، لا بارتداد ولا بترك التزام ولا بتفسخ مات وهو ملتزم.
إذاً: أنت حين تعرف أن رفيقك السابق مضى إلى الله عز وجل على هذا الطريق فإن هذا يعطيك عزماً جديداً على أن تمضي قدماً على هذا الطريق.(142/3)
الصراط المستقيم والطرق الأخرى
قال الله عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].
سورة الفاتحة هي أم القرآن، (أم القرآن) بمعنى أن: كل المعاني التي وردت في القرآن هي في هذه السورة وإذا قلت: القرآن من أول البقرة إلى سورة الناس كلام كثير، وسورة الفاتحة سبع آيات؛ فكيف تشتمل على كل المعاني؟! فإن أئمة العلم يجيبون ويقولون: إن أم القرآن، ذكرت المعاني مجملة، والقرآن فصل معانيها.
لكن ذكر الصراط وضحهُ الله وبينه مباشرة في هذه السورة (الفاتحة)، بينه مباشرةً في سياق السورة، نحن للتو في بداية المصحف: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فربنا سبحانه وتعالى عرفك أن الناس جميعاً لا يسلكون إلا ثلاث طرق لا رابع لها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
(اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) هو الطريق الأول.
(صراط الذين غضب الله عليهم) هو الطريق الثاني.
(صراط الضالين) هو الطريق الثالث.
والناس أمام الحق قسمان: عالم به، وجاهل.
والعالمون بالحق قسمان: عالمٌ عامل، وعالم جاحد، علم فعمل، أو علم فجحد: علم فعمل: هم هؤلاء {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
علم فجحد هم هؤلاء {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}.
والقسم الثاني: الجاهلون، وهم الضالون.
إذاً الطرق ثلاث.
لكن أول طريق -وهو الصراط المستقيم- ميزه الله عز وجل بميزة لم تذكر في الطريقين الآخرين، وهي ميزة الإضافة إلى نفسه تبارك وتعالى، وأنت تعلم أن المضاف إلى عظيم يكون عظيماً؛ ولذلك نقول: الكعبة بيت الله، وشرع الله لنا أن نقول: ورب البيت، فأخذ البيت عظمة بإضافته إلى الرب، وأخذت النار عظمة وشدة بإضافتها إلى الرب: (نار الله).
وأنت ترى في الدنيا: أي أرض فضاء، أحدهم يقول: أنا أريد أن أضع يدي على هذه الأرض وأبني بيتاً تقول له: إياك! لأن هذه أرض العمدة! فتأخذ الأرض قيمة ومهابة بإضافتها إلى العمدة، الذي هو رجل معه الشوكة والسلطان.
لكن لو كانت أرض إنسان صعلوك وجاء هذا ليبني تقول له: لا تبن، يقول لك: يا أخي هذه أرض فلان! فأخذت الأرض حقارة بإضافتها إلى هذا الإنسان الذي لا يملك حولاً ولا طولاً، وأخذت الأرض قيمة ومهابة وعظمة حين أضيفت إلى رجلٍ له شوكةٌ وسلطان.
فإضافة الطريق إلى الله فيه شرف، وإهمال الإضافة في الطريق الثاني والثالث فيه تحقير وإهانة هذا أولاً.
ثانياً: أن النعمة من باب الإحسان، والانتقام والغضب من باب العدل، فنسب الله عز وجل نفسه إلى الأكمل والأحسن: (إن رحمتي تغلب غضبي).
ولذلك أنت تجد هذا واضحاً في قوله تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] مع أن كل شيء في الأرض بقدر الله، فالشر مقدور له تبارك وتعالى وإن كان ليس إليه، أي: لا ينسب إليه.
وقد قال إبراهيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78 - 80]، ولم يقل: (والذي أمرضني) مع أن المرض من الله، لكنه -تأدباً مع الله- نسب المرض إلى نفسه كأنه هو الذي أمرض نفسه، فهو حين ذكر النعم والإحسان نسبه إلى الله، وحين ذكر العيب نسبه لنفسه.
والعبد الصالح (الخضر) حين أقام الجدار قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، ولما خرق السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أنه قال بعد هذا {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يعني: هو الذي قال لي: اخرق السفينة، ومع ذلك قال: أنا الذي أردت أن أعيبها، فنسب الفضل والخير إلى الله عز وجل، ونسب العيب إلى نفسه.
يقول الله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] لأن هذا داخل في باب الإحسان، والإحسان من كمال أفعال الله عز وجل، والغضب والانتقام من العدل، فنسب نفسه إلى أكمل الأمرين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].(142/4)
الثناء قبل الدعاء
إن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] دعاء؛ فلكي يكون دعاؤك مستجاباً: اقرأ الآيات التي قبلها في سورة الفاتحة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2 - 5].
وهذا يوضحه حديث أبي هريرة - الذي رواه مسلم في صحيحه، وانفرد به عن البخاري - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: إني قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين -الصلاة هي الفاتحة- ولعبدي ما سأل؛ فإن قال: (الحمد لله رب العالمين)، قال الله: حمدني عبدي.
(الرحمن الرحيم)، قال الله: أثنى عليّ عبدي.
(مالك يوم الدين)، قال الله: مجدني عبدي.
(إياك نعبد وإياك نستعين) قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين ولا الضالين) قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل).
(حمدني عبدي، أثنى عليّ عبدي، مجدني عبدي) كل هذا ثناء.
إذاً قبل أن تدعو ينبغي أن تثني على الله بما هو أهله.
وأي إنسان يدخل على ملك من الملوك يخاطبه أولاً بقوله: يا أيها الملك المعظم الكريم، الذي عم كرمه الجميع وفعلت وفعلتَ، ويثني عليك الناس إلخ، فهو بهذا فخمه وعظمه من أجل نفسه.
فمن الغيب في حقه ألا يعطيك شيئاً، وثناؤك عليه كتبت يغريه على العطاء.
لكن إذا دخلت وقلت له: عمالك في الأرض مفسدون، وكذا وكذا، وتعمل كذا، وأنت نائم على آذانك، ونريد العدل ونريد الحقوق، وجئتك في رفع مظلمة، وفعل عاملك كذا وكذا، ولابد أن تفعل إلخ، يقول: خذوه إلى الحبس لماذا؟ لأنه لم يسلك الطريق الصحيح.
(قمن أن يستجاب لك إذا أثنيت)؛ لذلك قبل أن تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أثن على ربك: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2 - 3].
وانظر إلى كلمة (الرحمن الرحيم) هذه، رحمته سبحانه وتعالى تقتضي أنه لا يترك عباده هملاً لا يدلهم على ما ينفعهم، وإن رحمته بإرسال الرسل أعظم -كما قال بعض العلماء- من الرحمة الشاملة العامة التي هي مثل كلأ الدواب وطعام البهائم إلخ.
فأنت تقدمُ بين يدي دعائك ثناءً على الله، كما في الحديث الصحيح عند الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو، ويقول: اللهم إني أسألك بأنك الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي ما سأل به أحدٌ إلا أجيب)، فهذا كله ثناء على الله عز وجل، قدمه هذا الرجل بين يدي دعائه.(142/5)
النبي صلى الله عليه وسلم يوضح الصراط بمثل مضروب
إن الصراط المستقيم هو غاية المطلوب من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإنما بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليسلك الناس هذا الصراط المستقيم.
هذا الصراط كيف شكله ووصفه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام وضح لنا في حديثه شكل الصراط، فقال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً) تخيل الطريق: هذا الصراط المستقيم، سنقول: الصراط المستقيم بعرض هذا المسجد، وهذا طوله.
(وعلى جنبي الصراط سوران): هذا الجدار سور، وهذا الجدار سور.
(وفي السور أبواب): هذه الشبابيك سنعتبرها أبواباً.
(وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة): كالستائر التي توضع على الشبابيك، فعلى كل باب ستار.
فربما يقول إنسان: لماذا ستائر؟! لماذا لم يقفل نهائياً؟! نقول: هذا من تمام البلاء؛ لأن الواحد لو حاول فتحها بيده فسيفتحها، وذلك: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] إذا أغلقت بقفل يجوز أن الضعيف المجرم لا يستطيع أن يفتحه، فيصده ضعفه أن يلجه، والحياة هذه هي حياة اختبار، والله يعطي لكل إنسان الحرية ويقول له: اعمل.
فإذاً: كلمة (ستور مرخاة) دلالة على أن الإنسان يمكن له أن يلج المحارم ببساطة وسهولة، ما يصده عن ذلك إلا دينه وتقواه، وهذا من التشبيه الجميل: (على الأبواب ستورٌ مرخاة).
الناس يمشون على طول الصراط، فهل يعرفون ما هذه الأبواب؟ نقول: نعم، لقد أوقف داع على أول الصراط -وليس في وسطه، لئلا تكون لأحد حجة، فيقول: أنا لم أدر، ولم يقل لي أحد- يقول هذا الدعي: (يا أيها الإنسان -ويشير إلى كل باب من هذه الأبواب- هذا من محارم الله، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه).
كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويحك! لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه).
(وفوق الصراط داعٍ آخر) كان الداعي الأول في أول الصراط، وهناك داعٍ آخر في أعلى الصراط، فوقه لا في آخره.
و (فوق) هذه لها معنى جميل غاية في الجمال، (فوق الصراط داعٍ آخر) الكلام مجمل؛ فقام الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب مثلاً لكي يوضح المسألة فقال: (الصراط هو الإسلام)، ألسنا نقول: المثل كله بيان، من باب المبيَّن.
(الصراط: هو الإسلام، والسوران: حدود الله) فهذه حدود الله كلها.
(والأبواب: محارم الله) ولو فتحت الباب وذهبت خلف السور ستذهب إلى أين؟ انظر إلى المشكلة! أنت لو فتحت من هنا فستنزل مباشرةً.
انظر (والأبواب: محارم الله) أنت تعلم أن هذا فيه تفسير لحديث النعمان بن بشير: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات).
هذا المسجد أليس ثلاث مناطق: هذا الحلال، وهذا الحرام، وهنا الشبهة.
وهي ثلاث مناطق: هذه المنطقة الأولى، وهذه المنطقة المنزوعة السلاح، وهذه المنطقة الثالثة.
لو أن أحداً قعد في هذه المنطقة لا يعدوها أبداً، فهل من الممكن أن يصل إلى الحرام؟! مستحيل، كيف يصل؟! أما إذا قفز من فوق السور، ودخل إلى هنا -في منطقة الشبهة- فإنه يمكن أن يدخل الحرام؛ بأن يظل ينط وينط حتى يتجاوز السور فيدخل الحرام.
إذاً: أنت كي تظل في الحلال، ولا تصل إلى الحرام في حياتك كلها، لابد أن تبتعد عن الشبهات: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه).
إنسان عطشان يكاد يموت من العطش، وجد خمارة، فدخل إليها، وشرب ماء وخرج، ورأيناه، سنقول عليه: خمورجي، وسنقول: انظروا إلى هذا الرجل الفاسد الفاسق الذي كان للتو يشرب خمراً؛ مع أننا لم نره، لكن هذه شبهة؛ فلم دخل فيها؟! فأنت إذا ابتعدت عن الشبهة، فمن المستحيل أن تقع في الحرام، وستستفيد شيئاً آخر، وهو أن عرضك يظل موفوراً كريماً لا يثلم.
إذاً: حديث النعمان بن بشير فيه توضيح لهذه الجزئية.
هذان السوران: حدود الله، وهذه الأبواب: محارم الله، فمن يدخل من الباب ينفذ إلى خارج السور، ومن وقع في الشبهة، فقد يظل ينحرف حتى يقع في الحرام.
(والداعي على أول الصراط: كتاب الله -فيه كل شيء- والداعي فوق الصراط: هو داعي الله عز وجل في نفس كل مسلم) الوازع الضمير التقوى في قلبك.
وانظر إلى عظمة هذا الداعي! ولذلك كان من فوق لماذا؟ لأن نداءه علوي يتنزل على القلب، وكل ما يصدر عن العبد إنما هو انفعال لهذا القلب.
الوازع هذا هو التقوى، وقد يقرأ الإنسان آيةً من كتاب الله فلا تؤثر فيه؛ لكن إذا كان عنده وازع من ضمير استفاد بكتاب الله.
لا يستفيد بكتاب الله إلا الأخيار أصحاب القلوب الطاهرة، وكأن القلب هذا مظلة والقرآن تحتها، لا يستفيد المرء بالقرآن إلا إذا كان صاحب قلبٍ نقي.(142/6)
الصراط المستقيم هو الإسلام
الصراط: هو الإسلام.
إذاً: أي إنسان يسلك طريقاً غير الإسلام، فإنه قد سلك غير الطريق المستقيم.
يدخل المرء في الإسلام إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت.
بعض الناس يظن أنه لو قال الشهادة فقط يكون تم إسلامه، نعم تم إسلامه بمعنى أنه سيحفظ ماله ويحفظ دمه في الدنيا فقط، لكننا نتكلم الآن عن الإسلام الذي يوصل إلى الله.
فأهل البدع لم يسلموا لله.
ولا يفهم إنسان أنني حين أقول: إنه ليس مسلماً، أنه كفر لا، أنا قلت: إنه لم يسلم الإسلام هو الموصل إلى الله.
هو قد أسلم، وصان دمه وماله في الدنيا، لكن أهل البدع عن الصراط ناكبون لماذا؟ لأننا قلنا: الطريق إلى الله طريقٌ واحد فقط.(142/7)
مناقضة البدع للصراط المستقيم
الإسلام: معناه الالتزام بأوامر الله عز وجل، وألا تسكن متحركاً ولا تحرك ساكناً إلا إذا كان مأذوناً لك فيه.
ولله در سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، وشيخ الفقهاء، وسيد الزهاد والورعين في عصره كان رحمه الله يقول: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل).
إن أحببت أن تحك رأسك فحبذا لو كان معك دليل الحك، يا ليتك تحك جسمك بدليل.
والآن تجد من يعقد الصفقة بدون دليل، ويضع ماله في البنك بدون دليل، ويرتكب الموبقات بدون دليل، فإذا وقعت الواقعة قال: يا أيها المفتي! النجدة! شخص أتى يقول لي: اشتغلت في المكان الفلاني، وحصّلت أموال اختلاسات -ثلاثين أو أربعين ألف جنيه- بدأت أشتغل، كنت أعمل سبع عشرة ساعة في اليوم، جمعت هذا المال إلى أن أصبح كالهرم، اشتريت بيتاً، واشتريت أرضاً، وأكلت أنا وأولادي إلخ، وفي يومٍ من الأيام اشتكى بعلةٍ، فذهب إلى الطبيب، فإذا هو مريض بداء عضال فلما رأى خاتمته اقتربت، هرع إلى العلماء الذين اتخذهم وراءه ظهرياً طيلة عمره، يقول: أنا اقتربت من الموت، انظر لي حلاً! تقول له: ليس عندي حل، فيقول لك: (أبوس رجليك! شف لي حلاً!) لن أخرج من هنا حتى تأتيني بحل.
- أنت يا أخي ستتعبني معك.
- لماذا؟ - أأنا آخذ نارها وأنت تأخذ حلاوتها؟! لا، هو يريد حلاً الآن الآن! تقول له: اخرج من البيت.
يقول لك: هل أقعد على الرصيف؟! حسناً: اترك الأملاك وتب.
يقول لك: ماذا أفعل؟! أنا تورطت وكتبت هذه الأملاك بأسماء أولادي في الشهر العقاري، وسجلت البيت، ولو قلت لأولادي: تعالوا نرجع في البيع الآن، فلن يوافقوني ماذا أعمل؟! انظر أين السبب فهاهو سفيان الثوري رحمه الله يقول لك شيئاً ما قد تضحك منه: (إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل).
يا أخي: أنت حين تكون تاجراً كبيراً، فإنك تتخذ لك مستشاراً قانونياً براتب شهري تستشيره، وتتخذ محامياً من أجل أن يسلك لك السكك شخص رفع لك قضية وشخص زور لك البضاعة وكل هؤلاء تدفع لهم مالاً، وحين يقسو قلبك، فإنك لم تفكر أن تستشير عالماً مجاناً: ترفع سماعة التلفون، تقول: أنا والله قسا قلبي وضاقت مذاهبي، فماذا أفعل؟ لا يخطر على باله أن يفعلها، مع أن سؤال العالم مجان! من تمام الصراط المستقيم: ألا تبتدع، أصحاب البدع ناكبون عن الصراط المستقيم؛ لأن الطريق إلى الله واحد، وهو خلف النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم).(142/8)
معنى الإسلام
الإسلام: هو الاستسلام، {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] * {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة:131]، هذا هو الالتزام.
لأن هناك جماعة من إخواننا يظنون أن إعفاء اللحية اسمه التزام لا، هذا من الالتزام.
يقول أحدهم: أنا من يوم ما التزمت يقصد: من يوم ما التحيت.
وليس مقصودي التصغير من شأن اللحية لا، اللحية واجبة، وحلقها حرام؛ لكن ليست هي كل الالتزام، إنما هي من الالتزام، إنما الالتزام معناه: ألا تحيد عن أوامر الله وألا تدخل في نواهيه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وقال تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112].(142/9)
الأولاد وتنشئتهم على الإسلام
ومن أجل هذا نحن نوصي الآباء دائماً: أن يهتموا بأولادهم من وقت وضع النطفة؛ فمن كان يريد ولداً صالحاً فليسم على نطفته.
تربية الولد لا تبدأ بعد أن يطر شاربه ويصير ثخيناً يفتله ويبرمه بل تبتدئ التربية من وقت وضع النطفة، وكلما ضربت الجذور إلى أسفل كانت الصلابة أقوى.
مثلما يقول العلماء: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.
النقش على الحجر لا يذهب ولا يزول؛ بسبب أن الابتداء مبكر.
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلينُ إذا قومته الخشب الغصن الصغير هذا إذا أردت أن تعدله يعتدل، وأنت ترى الشجرة التي أنت زرعتها أمام بيتك، وهي لا تزال عوداً، وإذا طلعت مائلة، تقوم أنت فتشدها وتربطها بحبل لكي تطلع مستقيمة، لكن دعها إلى أن تثخن وتغلظ، ثم ائت بجرار زراعي وجنزير وشدها، وسيقال لك: هل أنت تريد أن تخلعها أو ماذا؟ تقول: أنا أريد فقط أن أعدلها؛ فيضحكون عليك لماذا يضحكون؟ لأنه لا يمكن أن تعتدل الشجرة أبداً! تركها حتى صارت ثخينة جداً ويريد أن يعدلها؟! لا يمكن ذلك: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب إذاً: إذا أردت أن تكون الصفة أثبت، فلابد أن تبتدئ من الصغر.
وأذكر مرة أن بعض علماء العربية سئل عن مسألة دقيقة جداً في العربية -والسائل أيضاً من العلماء- فظن السائل أن الشيخ سيقول له كلمة واحدة فحسب، وإذا بهذا العالم ينفتح، ما انتهى من الكلام، وقعد يجول يميناً وشمالاً، والسائل منبهر.
أنت تعلم أن الكافيجي أحد مشايخ السيوطي، يقول عنه السيوطي: ما دخلت عليه مرة إلا استفدت منه سمي الكافيجي لأنه كان يحفظ كافية ابن الحاجب، فمرة دخل السيوطي عليه فقال له: أعرب: زيدٌ قائم.
فـ السيوطي قال: يا أستاذ أنت رجعتنا إلى أيام الكتاتيب (زيد قائم)؟! هذه أي طفل صغير يعربها، قال له: فيها مائة وسبعة عشر وجهاً! فقال: لا أقوم حتى تمليها عليّ.
فهذا العالم -مثل الكافيجي - انفتح ولم ينته من الكلام، فتعجب منه السائل وقال له: قل لي كيف حصلت هذا العلم! هكذا العلماء لطاف ظراف خفاف، إجابتهم حلوة تحتاج إلى إنسان ذكي، إنما الغبي هو الذي لا يفهم شيئاً أبداً.
أنت حصلت هذا العلم من أين؟ قل لي كيف ومن أين أتيت به بالضبط.
فقال له: تعلقت ليلى وهي بعد صغيرةٌ ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم هل فهمتم؟ إذالم تفهموا فهذه مشكلة كبيرة! فإن إجابته من أعذب الإجابات.
(تعلقتُ ليلى): أي أحببتها، وأخذت علقة قلبي أنت تعلم حين يكون الواحد جائعاً جداً جداً، يقول: أنا عليقة قلبي ستسقط فهذه العليقة هي التي تحمل القلب في الصدر.
(تعلقت ليلى وهي بعد صغيرةٌ): أحببتها وهي صغيرة جداً.
(ولم يبد للأتراب من ثديها حجم): يريد أنه لم يكن لها ثدي.
(صغيرين): تعلقتها ونحن صغيران.
(نرعى البهم): البهم: صغار الماعز والضأن والوحوش والبهائم.
وفي حديث أنس يقول: (كنا نأوي -أي: نشفق- على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد باعد ما بين منكبيه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر من تحته لمرت).
إياك أن تقول: البهمة هي هنا الجاموسة الكبيرة!! فإن (البهمة) هنا هي صغار الوحوش وصغار الحيوانات، كعنزة صغيرة لو أرادت أن تمشي من تحت يده لمرت.
(صغيرين): أي كنا نأخذ راحتنا، لكن أنا أول ما بلغت وهي بلغت حجبوها عني، إذاً يا ليتنا نرجع صغيرين مرة أخرى هذا معنى البيتين.
ويقصد العالم -حين تمثل بهما- أنه درس العربية وهو صغيرٌ جداً، ولهذا انطلق في الجواب عن هذه الجزئية الصغيرة، وتعلق بالعربية مثلما تعلق هذا الرجل بـ ليلى لما كانت صغيرة.
إذاً دائماً الإنسان حين يتعلم وهو صغير يصل إلى دقائق العلم.
وأنت حين تكون غواصاً شابّاً؛ تستطيع أن تصل بقوتك وفتوتك إلى قاع البحر؛ لكن حين يريد شخص آخر -وهو عجوز- أن يصل إلى قاع البحر، فسيغرق، وسيقول: أنقذوني! لا حول له ولا قوة ولا طول! إذاً: نفهم من هذا أن التعلم -سواء كان تعلم الإيمان أو تعلم العلم- إنما ينبغي أن يكون في مرحلة البداية من حياة الإنسان.
إذاً: الاستقامة على الطريق تستلزم إيماناً وعلماً، فابنك حين يفتح عينيه على الصراط المستقيم -الذي هو الإسلام- ويفهم معنى كلمة (إسلام)؛ فسيصل.(142/10)
المحرمات وكيفية اجتنابها
قوله: (والسوران: حدود الله): حين يكون لك قطعة أرض فإنك تسورها.
وحدود الله عز وجل فيها راحة إذا حدد لك الله ما يريده منك -أمر ونهي- كانت المسألة واضحة المعالم، ليست مبهمة، بل لا تعرف ما أنت مأمور به أو منهي عنه.
والحدود هذه فيها أبواب.
لماذا كانت هذه الأبواب لم تكن هي أبواب الحلال؟ لماذا هي أبواب الحرام؟ كان من الممكن أن يقول لك: الناحية اليمين أبواب الحلال، والناحية الشمال أبواب الحرام، ما معنى أن يكون السور ما فيه إلا أبواب الحرام فقط؟ قال الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه الحرام قليل أم لا؟ قليل؛ لأنه معدود هذه الأبواب تستطيع أن تعدها أم لا؟ تستطيع أن تعدها، إنما كل أبواب الحلال في الطريق، والحرام: عشرون أو ثلاثون باباً، مائة باب، خمسمائة باب، أما الحلال فإنه لا يعد، لا تستطيع أن تعده، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
إذاً من تمام رحمة الله: أنه جعل أبواب الحلال غير معدودة.
إذاً وسع عليك الحلال أم لا؟ لكن طالما قال لك: وفي السور أبواب، تستطيع أن تعدها، وكل ما حصره العد قليل وإن استكثرته، كل ما حصر بالعدد قليل وإن استكثرته، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: (بغير حساب) لأن كل شيء يأتي عليه العد فهو قليل وإن استكثرته، ولهذا يقول الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه لأنها إذا دخلت في نطاق العد كانت قليلة: من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط لا يوجد.
إذاً: حين يقول لنا: (وفيهما أبواب) فقد دلنا على أن الحرام قليل.
إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يعاقب أحداً فإنه يحرم عليه الحرام -كمثل غيره- ويأخذ جزءاً من الحلال فيحرمه عليه.
إذاً: ضيق عليه باب الحلال، كما قال عز وجل في حق اليهود: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161].
حرمت عليهم أشياء، ولما ظلموا حرم عليهم أشياء كانت حلالاً قبل ذلك قلنا: الحلال كثير، هل من أحد يستطيع أن يقول لي: أين الحلال في هذا الطريق الطويل؟ لا أحد يعرف ذلك؛ لكن هذه الأبواب معروفة.
إذاً: بالغ في تعريفنا بالحرام حتى لا نلجه، قلله أولاً، ثم عرفه ثانياً، لكيلا يأتي أحد فيقول: أنا لا أعرف الحرام.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] لا يقف عبدٌ أمام الله عز وجل خصماً له إلا خصمه، وأقام عليه الحجة؛ ولهذا بين الحرام زيادة بيان، والحلال -لأنه كثير جداً- لم يفصل لنا أفراده.
وأنتم تعلمون أن هذا الكلام عند علماء الحديث يشبه العدالة والجرح: أي راوٍ من الرواة حين ينقل حديثاً، ننظر في حاله أهو عدلٌ أم مجروح.
(مجروح) ليس معناها أن واحداً أخرج مشرطاً وقطع جلده! لا، (مجروح): أي: طعن فيه العلماء، قالوا: فاسق، رقيق الدين، زنديق، سيئ الحفظ، مُنْكَر الحديث هذه كلها جرح معنوي، وإنما قيل: (جرح) تشبيهاً بالجرح الحسي.
العدالة: هي صفات الكمال وجميل الخصال التي تكون في الإنسان، نقول مثلاً: دَيِّن، خيّر، ورع، تقي، حافظ وهذا اسمه تعديل، والقدح اسمه جرح.
علماء الحديث قالوا: لا يشترط ذكر أسباب العدالة؛ لاتساع الأمر؛ فليس عليك -إذا قلت: إن تذكر فلاناً عدل- أن تقول: زاهد، ورع، تقي، يأكل الحلال، يترفع عن الشبهات، لا يضرب أباه، لا يضرب أمه، لا يضرب إخوته، لا يؤذي جاره فالموضوع طويل عريض، سنظل نقول: يعمل، لا يعمل لن ننتهي في يوم، ولهذا لا يشترط ذكر أسباب العدالة لأنها طويلة جداً، لكن لا يجرح المرء إلا بسبب.
جرحته؛ قل لي لماذا؛ لأن أسباب الجرح محصورة، يمكن أن يأتي عليها العد.
فسنعتبر الحلال مثل باب العدالة، ونعتبر الحرام مثل باب الجرح.
فمعنى أن الأبواب في السور دلنا على أنها قليلة وظاهرة، وأنت تعلم أنه حين يكون الحرام في السور، فمعنى ذلك أنه قريب المنال انظر إلى الفتنة! نحن قلنا: إننا سنفترض المسجد هذا هو الإسلام، وهذا السور الأول وهذا السور الثاني، ربما تمشي هنا بجنب السور في نفس الوقت لكنك في الصراط المستقيم، فهذا هو الصراط المستقيم، تمشي هنا أو تمشي هنا أو هنا أو هنا كله صراط.
سنفترض وأنت على الصراط المستقيم أنك بجانب السور، فأنت إذن قريب ويمكن أن تقع؛ ولهذا قال: والداعي الذي فوق: الوازع، فأنت قريب من الباب، فيقوم يشدك من قفاك هكذا، ويسحبك إلى فوق: لا تدخل.
هل عرفت لماذا هو فوق؟ لأن الذي يمشي في الصراط يمكن أن يكون قريباً من الباب وأن يدخله.(142/11)
الحذر من زخرف المعصية
كون أبواب الحرام في السور يعني أنها قريبة المنال.
ولأجل هذا ينادي الداعي من فوق: (يا أيها الإنسان! لا تفتح الباب؛ فإنك إن فتحته ولجته).
إذا فتحت الباب فستدخل فيه مباشرةً.
لكن: هل يمكن أن يفتح الباب وينظر ويرجع؟ نقول: لا ينجو من هذا إلا الأفذاذ الأفراد؛ لأن الحرام له بريق يخطف الأبصار، كل شيء من الحرام تجده جميلاً جداً، تستلذ به، حتى القط حين يخطف اللحمة ويهرب، فإنه يقعد يقلبها ويأكلها مستمتعاً بها، يخطفها ويهرب أولاً، ثم يقعد يقلبها، ويحس أنها ظفر.
فكل حرام له بريق فلذلك: لو فتحت الباب فربما كان قلبك ضعيفاً فتدخل مباشرة، إياك أن تفتح الباب، حاول ألا تفتح الباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات)، كل شيء يوصلك إلى المهلكة تجده جميلاً.
مثل: موبيليا دمياط يأتون بخشب أبيض وينحتونه، ويجعلون له قشرة جميلة رائعة، بعد شهرين تجد أن الكرسي يعوج؛ لأن أصل الخشب كان -وهو طري- مليئاً بالماء، فلما يبس الخشب اعوج، غرفة النوم -الدولاب- تجده ذا قشرة جميلة، الغرفة بخمسة آلاف، وبعد حين ترى أن الدولاب بعيد عن الحائط قليلاً، فأنت تحب أن تزحزحه قليلاً أنت وامرأتك، فتجده قد اعوج فتبحث عن سبب ذلك فتجد أن الدولاب عبارة عن الخشب الذي يصنعون منه صناديق الطلاء، خشب خفيف عبارة عن ورقة صغيرة جداً، وشكله جميل.
الحرام مثل هذا بالضبط، جميل، رائع، تنظر إليه يعجبك، ولذلك لا نأمن عليك إذا فتحت الباب، فربما تدخل، والحل: ألا تفتح الباب، إنك إن تفتحه تلجه، إن تفتح الباب تلجه مباشرة، ولاسيما لأن هناك شياطين، عامل مساعد يعينك على الدخول (إنك إن تفتحه تلجه).(142/12)
الحذر من الشياطين
والصراط المستقيم هذا عليه شياطين، ونضرب مثلين: المثل الأول: إنسان خارج من بيته وسمع النداء في المسجد، خرج لكي يصلي الجمعة -أو الظهر أو العصر أو المغرب- قابله آخر من شياطين الإنس: يا سني! خذني على جناحك! فيلتفت إليه ويقول له: تشتمني؟! فيدخل معه في شجار.
ولنفرض أن شيطان الإنس قوي، وظلوا في الشجار ربع ساعة ففاتت عليه الصلاة، فهذا خرج لا يقصد إلا الذهاب إلى الجامع، فظهر له هذا الإنسان وتحرش به، هو أيضاً دخل معه في الشجار، وكل منهم ضرب الآخر ضربة مشينة؛ وضيع عليه الصلاة ولو كان الرجل المصلي صاحب عضلات، فقام وضربه وقهره، ثم تركه وأخذ يجري، فلربما التحق بالصلاة في الركعة الرابعة، إذاً فوت عليه تكبيرة الإحرام، والصف الأول، وإدراك ثواب الجماعة من أولها.
إذاً: يعرض للإنسان وهو ذاهب إلى الله شياطين مثل هؤلاء، لكن إذا قال له الشيطان: يا سني، أو يا ابن ستين في سبعين، فتلا قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]، أو: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، الله يسامحك يا عم، ومضى، إذاً هذا أفضل أو لا؟ إذاً وأنت ماش على الصراط المستقيم الكل سيناديك: يا فلان! تعال، أنا أريدك في مسألة مهمة جداً، أنا منتظر لك من الصبح إياك أن تلتفت إليه وأنت ماض، امض قدماً، إنك متى التفت إلى المعوقين لا تصل، وإذا وصلت كنت في أخريات الناس وفي آخر الركب، وهذه مشكلة من جهة الأجر والقرب من الله تبارك وتعالى.(142/13)
التأني في السير
المثل الثاني: يقول علماء الحيوان: الظبي أسرع عدواً من الكلب، ومع ذلك إذا التفت الظبي إلى الكلب خف سعيه فأدركه الكلب، مع أنه أسرع.
قصة الأرنب والسلحفاة: قالت السلحفاة للأرنب: هناك خص -أو كرنب- ما رأيك نذهب إليه ونأكل؟ قال لها: اذهبي أنت، ستصلين إن شاء الله السنة القادمة، إنما أنا بقفزتين مني سأصل مباشرة.
قعد الأرنب يلعب ولم يسر مع السلحفاة، والسلحفاة جادةٌ في سيرها على بطئه وضعفه، حتى صلت وأكلت وشبعت، الأرنب انتبه، أول ما انتبه قفز وقفز وقفز، راح فوجد السلحفاة أكلت كل الكرنب، قال لها: كيف وصلت قبلي، برغم أنني أتيت أعدوا؟! فانظر! هذه وصلت بسعي بطيء بطيء، والمثل يقول لك: (ببطء ولكن بثقة)، (من تأنى نال ما تمنى).
وهناك بعض الناس كان يقول لسائقه: امش بالراحة لكي نصل مبكراً، امش على مهلك لكي نصل مبكر، لأنه لو مشى بسرعة فسيدخل المستشفى -مثلاً- أو يصل إلى الدار الآخرة، إذاً امش على مهلك، فارق السرعة لن يتجاوز ربع ساعة، بدلاً من أن نقع في حادث وندخل في سين وجيم، وندخل المستشفى في الجبس! امش على مهلك، ولو مشيت على مهلك فسوف تصل مبكراً.
مثل ذلك الرجل الذي يقول: من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول تمشي على مهلك ولكن دائماً الأول، فكيف ذلك الإخلاص، أقل عمل تعمله بإخلاص تسبق به الجماعة الذين يذرعون الأرض جيئة وذهاباً.
وهذا البيت الشعري جميل جداً، حين قرأته أول مرة، ظللت حوالي نصف ساعة أتأمل فيه: (وإن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً -أو لحكمة-).(142/14)
القرآن الكريم هو دليل السير في الطريق إلى الله
الداعي على أول الصراط -الذي هو كتاب الله عز وجل- لماذا على أول الصراط؟ حتى تتم حجة الله على الناس، لن تخطو خطوةً واحدة في الصراط إلا بعد وصول البلاغ، ولهذا قال: (على أول الصراط).
لماذا القرآن لم يكن هو الداعي الذي فوق؟ نقول: يا أخي! الناس يتفاوتون في الإيمان، كلما علا إيمانه وعظم صعد إلى فوق.
والذي هو جاهل ولا يعرف أي شيء ويريد أن يتعلم، فإنه على الأرض، حيث يجد القرآن على أول الصراط، إن أردت منه أخذت، فكلما أخذت منه ارتقيت ارتقيت ارتقيت، حتى تصل إلى أن تكون فوق، والذي فوق يبصر أكثر من الذي تحت، فهو أبصر بالحرام، وأبصر بمواضع الشبهات، وأبصر بأعدائه؛ لأنه فوق.
إذاً: كلما ترقى الإنسان زادت حجة الله عليه؛ لأنه -وهو في أول الطريق- لزمته الحجة، ثم تعرف على أوامر الله ونواهيه أكثر فأكثر، فلا يمضي قدماً واحداً إلا وعنده من الله أمرٌ أو نهي.
بهذا تمت حجة الله عليه أم لا؟ تمت حجة الله عليه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميلٍ كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، والحمد لله رب العالمين.(142/15)
أصحاب الأخدود [1، 2]
قصة الغلام والملك فيها الكثير من الفوائد والعبر التي يحتاج إليها كل مسلم، وبالذات الدعاة إلى الله في أثناء سيرهم إلى الله عز وجل، فمنها يتعلمون الصبر على ما يبتلون به من أنواع الابتلاءات المختلفة، والتي قد تصل إلى بذل النفس، كما حصل مع جليس الملك والراهب عندما رفضوا أن يتنازلوا عن دينهم.(143/1)
حديث الغلام والملك
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الإمام مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلامٍ أعلمه السحر.
فجاءوه بغلامٍ نجيب يعلمه السحر، فكان الغلام إذا سلك إلى الساحر مر بصومعة راهب، فمال إليه يوماً فسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا ذهب إلى الساحر متأخراً ضربه، وإذا رجع إلى أهله ضربوه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.
وفي أحد الأيام خرجت دابة عظيمة حبست الناس، فأرسل الساحر الغلام إليها ليقتلها، فأمسك الغلام بحجر، وقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
ورماها بحجرٍ فقتلها.
فرجع الغلام إلى الراهبِ -وقد انتشرت الواقعة- فدخل عليه فقال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.
وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكان جليس الملك قد عمي، فلما سمع أن الغلام يشفي الناس من سائر الأدواء ذهب إليه بهدايا عظيمة، وقال له: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
فآمن جليس الملك بالله عز وجل؛ فرد الله عليه بصره.
فدخل الجليس الأعمى -سابقاً- على الملك بلا قائد يقوده وقد رجع إليه بصره، فقال الملك له: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي.
قال: أولك ربّ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.
فما زال يعذبه حتى دل على الغلام، فلما جاء الغلام، قال له الملك: أي بني! قد صار من أمرك ما أرى: تبرئ الأكمه والأبرص، وتداوي الناس من سائر الأدواء! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى.
فما زال يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؟ فقال: لا.
فجيء بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونشروه نصفين حتى سقط شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك؟ فأبى؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه ونشروه حتى سقط شقاه.
وجيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؟ قال: لا.
فنادى الملك جماعةً من جنوده، وقال: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن رجع وإلا فألقوه من على الجبل، فأخذوه، فلما كانوا على قمة الجبل قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت.
فارتجف بهم الجبل فسقطوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
فأرسل طائفةً أخرى من جنوده، وقال لهم: خذوه في قرقور -القرقور: نوعٌ من السفن- وتوسطوا به لجة البحر، فإن رجع وإلا لججوا به أي: أغرقوه.
فلما توسطوا به البحر، قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به.
فقال له: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على هذه الخشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الملك الناس في صعيدٍ واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام من بين السهام، وصوب السهم إلى صدره، فصاح: باسم الله رب الغلام.
فخرج السهم حيث أشار الغلام، فوقع في صدغه فمات.
فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.
فقال رفقاء السوء للملك: قد وقع -والله- ما كنت تحذر، كنت تخشى أن يؤمن الناس فآمنوا.
قال: فماذا نفعل؟ قالوا: خدّ الأخاديد على أفواه السكك، -أضرم فيها النار- ثم اعرض الناس على هذه النار، فمن آمن برب الغلام فاطرحه فيها، فجيء بالناس، وعرضوا على هذه النيران، فمن آمن برب الغلام ألقوه فيها، حتى جاء الدور على أم كانت ترضع ولدها، فأول ما فعلوا أخذوا الولد فقذفوه في النار، ثم كأن الأم تقاعست أو خافت، فسمعت صوت ولدها من الأخدود يقول لها: يا أماه! اصبري فإنك على الحق).(143/2)
البلاء سنة من سنن الله
الابتلاء سنة الأولين والآخرين، لا ينجو منه كافرٌ ولا مؤمن، ويصدق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد رسم مربعاً على الأرض، ثم مد من داخل المربع خطاً طويلاً تجاوز المربع، وحول هذا الخط -داخل المربع- رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الطويل، ثم قال عليه الصلاة والسلام -وأشار إلى المربع-: (هذا أجل ابن آدم محيط به -لا يفلت أبداً، احتواء من كل الجهات- ثم أشار إلى الخط الطويل الذي خرج من المربع وقال: وهذا أمله -أمله يحتاج إلى أضعاف عمره- ثم أشار إلى الخطوط القصيرة حول هذا المربع فقال: وهذه الأعراض هي المصائب التي تحيط بالعبد في حياته، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) معنى هذا الكلام أنه لابد من الابتلاء.
فالذي يفر من الله ورسوله خشية أن يبتلى، نقول له: ستبتلى، ولكن بشكل آخر، إما بامرأةٍ ناشز، أو بولدٍ يضيع، أو بمالٍ وضيع، أو بمصنع يحترق، أو بظالم يظلمك.
أهل الدنيا ليسوا بمأمنٍ من البلاء، بل هم أكثر الناس بلاءً، فلماذا تفر من الله ورسوله، فالابتلاء من أجل الله ودينه فيه شرفٌ لك، وهذه سنةُ الأنبياء والمرسلين.
وهذا الحديث يبين لنا الفتنة التي تلم بالعبد في العقيدة.
فهذا الغلام الذي أيقظ مملكةً بأكملها، ما ظن أنه سيناط به هذا التكليف العظيم.
كذلك نقول لك: لا تحتقر نفسك، إنك لا تدري ما يُكتب لك بأمنيتك، سل أي عالم كبير جليل هل كنت في أي مرحلةٍ من حياتك تظن أنك ستصل إلى هذه المكانة؟ سيقول لك: لا.
سواءً كان الإمام البخاري، أو الإمام أحمد، أو الإمام الشافعي.
ولذلك فإن مواليد العلماء فيها خلاف، لكن وفياتهم لا؛ لأنه يوم ولد كان كملايين المواليد، لا يعرفون، هل سيكون أحدهم عالماً أم قاطع طريق، ولكن عندما يموت يسجل تاريخ وفاته؛ لأنه لم يمت إلا وقد ملأ الدنيا علماً.
فأنت لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، فلا تحتقر نفسك، لعل الله عز وجل يغير الأمة بك وأنت لا تدري، المهم: أن تفعل كما أمرك الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
هذا الغلام الذي حول الله عز وجل به هذه المملكة، غلام صغير، والساحر كان في ذلك الزمان كالمخابرات في هذا الزمان، وكان الملك يستخدمه في تسيير دفة الأمور بلا أسباب، فعندما تقع مشكلة كان يستخدم الساحر، مثلما فعل الملك مع الغلام عندما خرجت دابةٌ عظيمة اعترضت الناس.
قال الساحر عندما كبر: أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلم السحر، فائتوني بغلام نجيب.
فبحثوا له عن هذا الغلام وجاءوا به، فكان يعلمه السحر، وبينما كان الغلام ذاهباً إلى الساحر مر بصومعة الراهب، وكان الرهبان إذ ذاك على الإسلام كما ورد في رواية الترمذي، وهذه القصة تدلك على أنها حدثت بعد عيسى عليه السلام؛ لأن هذه الرهبانية إنما ابتدعها النصارى.(143/3)
الكذب الجائز
لما رأى الغلام الراهب مال إليه؛ لأنه سمع كلامه فأعجبه، وكلام الراهب إنما هو من الوحي، وقيل له: هذا وحي؛ لأنه يمس القلب، فصار الغلام يطيل الجلوس عند الراهب، فإذا جاء إلى الساحر متأخراً ضربه، والساحر يريد أن يستوفي وقت التعليم، وإذا تأخر الولد في الرجوع إلى أهله ضربوه، فيُضرب هنا وهناك، فشكا ذلك إلى الراهب الذي صار محل سره، فقال له الراهب: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.
هذا النوع من الكذب جائز، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها-: (ثلاث من الكذبِ لا أعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب).
هذه الثلاثة الأنواع جائزة وبعضها واجب، مثل: كذب الرجل في الحرب؛ فإنه يأثم إذا صدق، قالوا له مثلاً: أين مطاراتكم؟ أين مواقعكم؟ فإذا قال الحقيقة أثم.(143/4)
الكذب للإصلاح بين الناس
النوع الثاني من الكذب: كذب الرجل ليصلح بين المتخاصمين.
فلو اختصم رجلان، فذهبت إلى أحدهما وقلت له: كنت عند فلان فذكر فضائلك ومحاسنك.
وقال: فلان -جزاه الله خيراً- لا أنسى جميله علي ونحو ذلك، وذهبت إلى الآخر فقلت له نفس الكلام، فهذا مستحب، وتؤجر عليه إن فعلته.(143/5)
الكذب في الحرب
والنوع الثالث: كذب الرجل في الحرب.
وهو النوع الذي أوصى الراهب الغلام به؛ لأنه في حرب مع الملك كما سمعتم.
فهذه الأنواع الثلاثة من الكذب جائزة.(143/6)
الكذب على الزوجة
كذب الرجل على امرأته: يعني فيما لا يجب الوفاء به، مثل: أن يأخذ مهرها أو يأخذ مالها ثم يقول: سنفعل مشروعاً، ثم سآتي لك بالأرباح، وهو يكذب لكي يأخذ المال! فهذا لا يجوز، ولا يحل له أن يكذب عليها ليذهب بحقها، ولكن الكذب المنصوص عليه في الحديث إنما هو فيما لا يجب الوفاء به؛ مثل إظهار المودة والمحبة القلبية ونحو ذلك.
والمفروض على الرجل ألا يخبر امرأته أن الكذب عليها جائز، لكي يستطيع أن يتصرف، لكن إذا قال لها ذلك، فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً، فكلما بدأ بالكذب عليها قالت له: إنك تأخذ أجراً على هذا الكذب، فلم يستفد من رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.
الكذب على المرأة فيما يتعلق بالمحبة والمودة جائز، كأن يظهر لها أنه يحبها وأنه يعزها، وأنها في سويداء القلب، فهذا مستحب لماذا؟ لأن الحياة تصلح بذلك، فهذا هو الكذب الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.(143/7)
ظهور الحق بقتل الدابة
وفي إحدى الأيام خرجت دابة -في رواية الترمذي أنها كانت أسداً- فحبست الناس، فأرسل الساحر الغلام ليقتل هذه الدابة، فأخذ الغلام حجراً وقال: اليوم أعلم أمر الراهبِ أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
فقدم أمر الراهب على الساحر، وهذا يدل على الحب الذي كان يكنه للراهب؛ لأنه كان يمكن أن يقول: اللهم إن كان أمر الساحر أشر وأبغض إليك فاقتل هذه الدابة، لذلك قدم الراهب في الذكر؛ لأنه الأحب إليه، أراد أن يرى آية حتى يستريح، فأظهر الله عز وجل هذا الآية.
ولذلك نحن نقول: كل آية أنجاك الله عز وجل بها من مصيبة خذها مثالاً وقس عليها، وحسّن ظنك بربك، فإذا أنجاك من ورطة ثم وقعت في ورطةٍ أخرى، فقل: كما أنجاني في الأولى ينجيني في هذه؛ لأن هذا أدعى لاستقرارك على طريق الحق.
كان هناك رجل قد سجن، وهذا الرجل كنا جميعاً نظن أنه صار في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وسجن سجناً مخصوصاً، وجعلوا عليه عميداً مخصوصاً يمنع دخول أي شيء إليه، وكان هذا الرجل أحد الدعاة الكبار، فيشاء الله عز وجل أن يكون هذا العميد المختار يحب هذا الداعية جداً، فكان كل يوم يترك له دجاجة مشوية: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فهذا الغلام يريد أن يرى آية من الآيات حتى تثبت إيمانه، وأن هذا الرجل على الحق فلا يحيد.
فلما رمى هذا الأسد بالحجر قتله، فظهر له بجلاء أن الراهب على الحق.(143/8)
دعاء الغلام لجليس الملك وشفاؤه بإذن الله
بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء، فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة، وفي هذا دليل على ما ورد في بعض الآثار، ولكن فيه نزاع والراجح ضعفه، والذي قال فيه: (إن الهدية تسل سخيمة الصدر).
فهذا الرجل جاء بهدايا عظيمة، وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك.
فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل: راقب كلام الغلام! ولاحظ دقته في التعبير! قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك.
فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا.
فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع، وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك، فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو.
ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر) وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد.
أما رفع اليدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير).
فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط.
قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة).
وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) فكان حول المدينة مطر وفوقها شمس.
وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة.
واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة).
والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه.
قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.
قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-.
أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرف رب العالمين للناس، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع، وأخلى الموضع الرابع منه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] لم يقل: (هو)، والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان.
والهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً.
فلما التبس الأمر بين العبد وربه قال: (هو) أي: لا غيره، هو لا غيره الذي يشفيني، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني.
نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع، ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب، وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها لا، الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام.
يقول: إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] هو الذي يشبعني، كما في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد.
فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك، وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
فلما التبس هذا الأمر أكده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
(وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى).
ثم قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] انظر إلى الأدب! نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه، وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله، كما قال العبد الصالح: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه، ولما ذكر التفضل قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82].
نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى، فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ.
مرةً سمعت خطيباً يقول: وقد بلَّغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان رب العالمين!! هل الله سبحانه وتعالى له لسان؟! هل يجوز أن يقول الإنسان هذا في جنب الله تبارك وتعالى؟! صفات الله عز وجل إنما تتلقى بالسمع، وليس بالاجتهاد، لا يحل لك أن تأتي بصفةٍ لم تجدها في القرآن ولا السنة وتنسبها إلى الله عز وجل؛ لأن بعض الصفات قد تكون عندنا -معاشر المخلوقين- صفة كمال، لكن هي عند الله صفة نقص.
شخص وضع مذكرة عرض للقرآن الكريم، ثم لما وصف السموات والأرض، ووصف خلق السموات قال: إن الله عز وجل هو المهندس الأعظم!! هل يليق هذا الكلام؟ أين هو من قول الله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117]، انظر الفرق! بديع: ابتدعهما على غير مثال سابق.
صفات الله عز وجل لا يجتهد فيها إنما تتلقى بالسمع، فما لم يأت به القرآن، ولم يتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحل لنا أن ننسبه إلى الله تبارك وتعالى، وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني.
وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل، اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت.
أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب.
فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه.
ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان.
قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم.
كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز، وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا.
حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟! أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله، فلذلك أثبته بهذا الضمير: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
لما عرض الغلام المسأ(143/9)
انعدام صفة الوفاء والإخلاص عند كثير من الناس
لما رد الله على جليس الملك بصره دخل على الملك وما كان أحد يقوده، فهال الملك ما يرى، فقال له: من رد عليك بصرك؟ قال له: ربّي.
فقال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، الله ربي وربك ورب العالمين، فأمر بتعذيبه.
صفات الوفاء والإخلاص وحفظ الجميل ليست عند هؤلاء، خلت قواميس هؤلاء من مفردات الوفاء، هذا صاحبك وحبيبك وتقعدون مع بعض! ومع ذلك فمع أول مخاصمة وأول نشوز عذبه! أنا قرأت قصة عجيبة في كتاب "الطريق إلى المنصة" يقول: كان هناك تاجر موبيليا شهير، وكان مرافقاً للمشير عبد الحكيم عامر، وكان هذا المشير عندما يريد أن يقضي ليلة من الليالي مع امرأة، كان يذهب ويأتي به ويجعله في غرفة بجانبه! وكان هذا يصور المشير دون أن يعلم بذلك، لكي يستخدم الصور عند الضرورة، فصور المشير عدة صور وهو في هذه الأوضاع المخلة، فضاعت صورة من الصور، فقالوا: لا يوجد غير فلان الذي يمكن أن يأخذها، فذهبوا فأتوا إليه الساعة الثالثة ليلاً وأخذوه، قالوا له: أين الصورة؟ قال: أي صورة؟! أنا لا أعرف شيئاً.
فقالوا له: ستعترف رغماً عن أنفك.
فعذبوه، وكان آنذاك موجوداً في السجن مع الإخوان المسلمين.
المهم أنهم حبسوه مع هؤلاء، وكان يتحدث معهم عن بعض الأشياء التي رآها، قال: رأيت بعيني منظراً عجيباً لا أنساه، يقول: رأيتهم أخذوا رجلاً وقيدوا يديه ورجليه، ثم ربطوه بسلسلة طويلة إلى فرس وعلى الفرس فارس، وكان هذا الفارس يجري بالفرس بأقصى سرعة.
المهم، قال: بعد ما يقرب من خمس دقائق فكوا رباطه والرجل كله دم، فقلت لهم: الحمد لله، أنا تبت ورجعت إلى الله.
فكان هذا سبب التزامه؛ لأن بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.(143/10)
وصية الراهب للغلام
انظر إلى الملك كيف يقطع الأرحام! ولا يبقي وداً بين والد وولد، ولا بين رجل وأخيه.
قال الملك لجليسه بعد ذلك: هل لك ربٌ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.
قال: فما زال يعذبهُ حتى دل على الغلام.
هناك كلمة قالها الراهب للغلام عندما قتل الدابة، وصار له صيت، قال له: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.
استفدنا من هذه الوصية هذه ثلاثة أشياء: الشيء الأول: تواضع الأستاذ، يقول: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني.
حسناً: فما هو فضل الغلام على الراهب؟! فضل الغلام أنه صغير السن، ومع ذلك قام بالدعوة إلى الله عز وجل، لكن الراهب ما استطاع أن يقوم بذلك، فهذا يدلنا على أن فضل العلم في نشره، وكلما نشرت العلم كلما يصير لك خصم؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا بريحه، لو أن إنساناً لديه زجاجة عطر ووضعها في جيبه لا يستفيد هو ولا غيره بها؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا إذا فاح، مثل العلم.
مرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بينما هو يتفقد الزكوات دخل إلى حجرة العطور، فأول ما دخل حجرة العطور أمسك أنفه، فقالوا له: إنما هو ريح -هواء-.
فقال لهم: وهل ينتفع به إلا بريحه، وهذا عطر المسلمين، لله دره رضي الله عنه! الفائدة الثانية: قال: (وإنك ستبتلى).
فهذا يدلك على أن الذي يدعو إلى الله عز وجل لابد أن يبتلى بأي بلاء دق أو جل، ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من غار حراء ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك.
فقال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي.
سنة لا تتغير (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي).
إذاً: العداء لدعوة الرسل جزءٌ لا يتجزأ منها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].
فلا تطمع أن ينفك أعداء الله عنك.
الفائدة الثالثة: فإذا ابتليت فلا تدل علي.
وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للعبد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، لكن إذا كان الأمر لا ينفك عن أذاه ولا مناص إلا من هذا البلاء ليبلغ الدعوة فعليه أن يفعل.
مثل المشقة: بعض الناس يفهمون المشقة والأجر والرابط بينهما خطأً، مثلاً: رجل معه مال وأراد أن يحج وله القدرة على ركوب الطائرة ولكنه قال: أركب السيارة؛ لأن المشقة فيها أكثر، فهل يؤجر على هذا؟ لا لماذا؟ لأن ديننا نفى المشقة، والله عز وجل قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
متى تؤجر على المشقة؟ إذا كان العمل لا ينفك عن المشقة، لا حيلة لك، عندما لا تملك المال الكافي لركوب الطائرة فتذهب بالسيارة فتتعب في سفرك، هذه هي المشقة التي قصدها الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك).
كذلك لا يجوز للمسلم أن يقصد البلاء قصداً، إنما يتحاشاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو)، مع أن لقاء العدو هو الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولو مات المرء في الجهاد كان شهيداً، برغم أن الجهاد يوفر لك كل هذه المزايا، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)، لماذا؟ لأنك لا تدري إذا لقيت العدو أتثبت أم تفر؟ والفرار من الزحف إثمه كبير جداً، وقد يدرك المرء جراحة من الجراحات فيقتل نفسه كما فعل بعض الناس، قتل نفسه بسبب الألم الذي ما تحمله، فأنت لا تدري ما يفعل الله بك، فلا تتمنى البلاء، هذا هو معنى الكلام.
فهذا الراهب العالم يؤدب الغلام، قال: إن ابتليت فلا تدل عليَّ.
ليست من الشجاعة أن تقول: أنا في المكان الفلاني، وليس من العيب أن تهرب.
سفيان الثوري رحمه الله مات هارباً في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي وكان يحيى بن سعيد القطان حاضراً وكلاهما من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فكان سفيان يحتضر ورأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وقد بكى بكاءً شديداً قبل موته فقال له عبد الرحمن: ممّ تبكي؟ أتخاف من ذنوبك؟ فتناول الثوري رحمه الله حفنة من على الأرض، وقال: لذنوبي أهون عليَّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة.
وقال له يحيى بن سعيد القطان: لم تبكي؟ ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟! لماذا تبكي وأنت قادم إلى الذي كنت تعبده، وأنت هارب من أجله وطفت الدنيا تجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتبلغ كلام الله عز وجل؟ هذا الذي نصرت له وصبرت له أنت قادم عليه، من حقك أن تفرح.
فلما قال له ذلك: سكن.
فلا يحل لإنسان أن يقصد البلاء قصداً، ولذلك قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.(143/11)
إخبار الغلام بمكان الراهب
عذب الملك الغلام حتى اعترف بمكان الراهب، قال أحدهم: كيف لم يحفظ الغلام وصيةَ شيخه، وقد قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.
فكيف دل عليه؟! نقول: العزائم عند البلاء تنفسخ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)؛ لأن العزائم تنفسخ وأنت لا تدري أتثبت أم لا؟ وكان هناك رجل زاهد اسمه سمنون وكان يقول: يا رب! ابتلني وستراني صابراً.
فابتلاه فحبس فيه البول فلم يتحمل، وجعل يدعو الله عز وجل أن يصرف عنه البول؛ فلما صرف الله عنه ذلك كان يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب.
الإنسان يسأل الله العافية؛ لأنه لا يدري أيصبر أم لا.
فالغلام لما عُذّبَ عذاباً أليماً ما تحمل، لذلك لا يلام، لا يقال له: كيف خالفت وصية الشيخ؟ فهذه المواضع لا يثبت فيها إلا من ثبته الله.
وأنت عندما تقرأ محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكيف أن الله عز وجل رفعه إلى مراقي النجوم بعد هذه الشدة؛ لأن الناس معادن، فقد تجد رجلاً يدخل الفتنة فيخرج منها أكثر لمعاناً وأشد بريقاً، وآخر يدخل الفتنة فلا يصبر، فالذهب لو أنك أخرجته من باطن الأرض وعرضته في الأسواق لا يساوي شيئاً، حتى تدخله النار فيصير ذهباً، وكل المعادن الأخرى التي تعرض للنار تحترق إلا الذهب، أما الذهب فإنه يزداد لمعاناً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن داود عليه السلام كان أفضل بعد الابتلاء منه قبل الابتلاء.
فأنت لا تدري إذا ابتليت هل تثبت أم لا.
قال الإمام أحمد بن حنبل: جلدوني في يوم الإثنين ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليّ، ولم أدر ما صنع بي، وكان الأمير يقول: يا أحمد! قل: إن القرآن مخلوق.
فقال: يا أمير المؤمنين! ائتني من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً أقول به.
فأمر الجلاد أن يضربه ضرباً مبرحاً، فجلده ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليه.
قال الإمام أحمد -قبل أن يقدم على الجلد- جاءني رجل لا أعرفه، فقال: يا أبا عبد الله! انظر.
قال: فنظرت خلفي، فإذا أمم معهم المحابر والأقلام سيكتبون فقال: اتقِ الله في هؤلاء، سيكتبون ما تقول، إذا زل العالِم زل بزلته عالَم) فصبر على الحق المر لأجل هدف عظيم.
عندما قال الراهب للغلام: (إن ابتليت فلا تدل عليّ) إنما قال ذلك تجنباً للبلاء.
وعندما جيء بالراهب قالوا له: ارجع عن دينك.
قال: لا.
فنشروه بالمنشار نصفين حتى سقط شقاه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سقط شقاه).
ربما يقول أحدهم: كيف تحمل الرجل نشر الجمجمة، ونشر هذا الجسم وهو حي؟! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرص)؛ لأن الله عز وجل يدافع عن أوليائه، فإذا ابتلى أحدهم صبَّره فله الحمد في الأولى والآخرة، فهذا الصبر على الابتلاء المر فيه ذكرى وسمعة وسيرة، ها نحن حتى الآن نتكلم في سيرة الراهب، ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف نسبه، ولا نعرف إلى أي قبيلةٍ ينتمي، ومع ذلك نحن نحكي حكايته لله وفي الله.(143/12)
سبب تأجيل الملك قتل الغلام
لماذا لم يأمر الملك بقتل الغلام وشقه نصفين؟ لأنه لو رجع عن قوله فإن المشكلة ستحل، ولكن لو أنه قتله فمن أين له بغلام مثله؟ فدخل في المساومات.(143/13)
محاولة قتل الغلام بإغراقه في البحر
وعندما رجع الغلام إلى الملك قال له: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
كان هذا كاف ليرجع الملك ويرعوي، ولكنه دعا فوجاً آخر من جنوده وقال: خذوه في قرقور.
فالماء معروف أنه لا ينجو منه أحد، بخلاف الجبل؛ لأنه قد يسقط من أعلى الجبل فلا يموت.
حدث أن شخصاً في القاهرة الكبرى سقط من الدور العاشر، وبعد أن سقط من ذلك الارتفاع الكبير قام وكأنه لم يسقط، وعندما قام يمشي إذا بسيارة مسرعة ترتطم به فيسقط ميتاً، انظر كيف مات؟ قال الملك بعد أن أمر بأخذه إلى البحر: فإن آمن وإلا لججوا به.
يعني: أرموه في لجة البحر؛ لأنه لن يستطيع أن يعوم، وسيكون طعاماً للسمك.
البحر مرعب دائماً، والذي يركب السيارة لا يخاف مثل ما يخاف من الباخرة لماذا؟ لأنه عندما ينظر من شباك الباخرة ينظر إلى البحر الذي لا يدرك آخره بصره، فيحصل له الرعب.
والعرب كانوا يخافون من البحر وقد كانوا يضربون به المثل في أشعارهم، يقال: أن رجلاً أتى أبا العباس المبرد رحمه الله، وكان إماماً في النحو واللغة، فقال: أريد أن أقرأ عليك كتاب سيبويه في النحو، فقال له أبو العباس: أي بني! هل ركبت البحر؟ تريد أن تفهم كتاب سيبويه، ماذا تظن سيبويه هذا؟! هل تظن أنك ستذهب تفتح الكتاب وتقرأ فتفهم! إن كتاب سيبويه من أصعب الكتب منالاً، ولذلك سماه: "الكتاب"، لم يقل: كتاب النحو، ولا علم النحو، ولا أي شيء من هذا، بل قال: "الكتاب".
إنما قال له: (أي بني! هل ركبت البحر؟) استعظاماً للكتاب! وسيبويه رحمه الله مات وعمره اثنان وثلاثون سنة، فالأمة هذه مليئة بالعظماء.
المهم: الملك عندما أحب أن يعرضه لتهديد أشد من هذا - أن يرمى من الجبل- قال: لججوا به البحر، فلما وصلوا البحر قالوا له: آمن وإلا رميناك في البحر، فلم يؤمن لهم، وقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا.
حسناً: كيف عاد الغلام؟! {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، رجع في معية الله، فالغلام عندما أخلص دينه لله، ترك مسألة الأمن لربه تبارك وتعالى فأمّنه، والمسألة كلها معلقة بهذا القلب.
مرة وأنا مسافر في إحدى السفريات، وكان هناك رجل بجانبي في الطائرة، ويبدو على هذا الرجل أن يسافر بالطائرة لأول مرة.
المهم: الطائرة بدأت في مغادرة المطار، فبدأ هذا الرجل يرتجف من شدة الخوف، فلما طارت الطائرة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه لا أحد سيخلصه، وقد وقع الفأس في الرأس، وصرنا في قبضة الملك.
المهم: بعد أن تناولنا الطعام، أردت أن أتعرف على هذا الرجل، فقلت له: يا أخي! أنا سمعتك تقول كذا وكذا لماذا؟ قال: أما ترى ما نحن فيه؟! نحن بين السماء والأرض.
قلت له: نعم، نحن بين السماء والأرض فعلاً، لكن أنا سمعت منك كلمةً جميلة، قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: نعم، وهل بيدنا شيء؟ قلت له: وإذا مشيت على الأرض بقدميك هل بيدك شيء أيضاً.
يعني: هل تظن عندما تمشي على الأرض برجليك أنك ملكت أمرك؟ ولما كنت مثل الشعرة بين السماء والأرض لم تعد تملك أمرك؟! وهناك أناس يعاملون الله بهذه الطريقة، سبحان الله! ولذلك نحن في هذا الدرس العظيم أعظم شيء نأخذه: أن من كان في معية الله عز وجل يجد الله معه، وإن ابتلي وأهين وشرد.
فلما رأى الملك الغلام قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تعقل ما آمرك به.
فقال: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.
فالرجل ظن أن المشكلة انتهت ولكنها ابتدأت، جمع الناس في صعيدٍ واحد، وفعل ما أوصاه به الغلام، فصلبه، ووضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم حيث أشار الغلام، فلما وقع السهم في صدغه مات.
فقال الناس جميعاً: (آمنا بالله رب الغلام).
لماذا؟ لأن رب الغلام قادر، الملك حاول أن يميته أكثر من مرة وعجز، إذاً نحن مع القوي، والعوام مذهبهم، أن من يغلب يذهبون معه، يقولون: نحن مع القوي الذي يعطينا لقمة العيش والأمان؛ فلما ضربه ومات قالوا: آمنا بالله رب الغلام.(143/14)
محاولة قتل الغلام بقذفه من الجبل
فقال لجنوده: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن تاب وإلا اقذفوه من أعلى الجبل.
المساومة إلى آخر الطريق، (إن تاب وإلا) يعني: المفروض أن يحاولوا معه أن يرجع عن دينه ويساوموه، لماذا؟ لأن الملك يحتاج إليه، فالساحر شارف على الموت، فالملك إنما قتل الراهب وجليسه؛ لأنه لا يستفيد منهما؛ بخلاف الغلام.
وعندما وصلوا إلى قمة الجبل، قال: رب اكفنيهم بما شئت.
وذكرت هنا كلمةٍ لـ ابن الجوزي رحمه الله، يقول فيها: (رب لا تعذبني حتى لا يقولوا عذب من دل عليه).
قال: رب اكفنيهم بما شئت -صدق رجائه بالله أتى بالثمرة- فتحرك بهم الجبل فسقطوا، وثبت الله قدميه.
كلما صدق رجاؤك بالله أتى بثمرة، فأخلص دينك لله يكفيك العمل القليل، الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلبك، ويؤاخذك على ما كسب قلبك، فإذا انفعلت الجوارح بعد ذلك بعمل القلب يحاسب العبد: إن كان خيراً فخير، وإن شراً فشر؛ لكن القلب هو الأصل.
وانظر إلى مثال آخر يظهر فيه صدق الرجاء أكثر، وهي قصة جريج العابد، والقصة صحيحة: أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: تحدث بنو إسرائيل عن عبادة جريج، وهذا الرجل كان عابداً، اعتزل الناس وبنى له صومعة في خارج البلد، وحتى يجتنب الناس لم يصنع لهذه الصومعة سلماً، وكان يصعد إليها بالحبل ويسحب الحبل؛ لكي لا يأتي عليه أي مخلوق فيقطع عليه خلوته.
وكانت له أم تشتاق إليه، فجاءت في يوم فقالت: يا جريج! أجبني، ووضعت يدها على حاجبها -قال أبو هريرة: فكأني أرى النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده على حاجبه- فصادفته وهو يصلي، فقال: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي -يعني أقطع صلاتي وأجيب أمي أم أكمل صلاتي وأتركها؟ - فاختار صلاته.
فانصرفت الأم، وفي اليوم الثاني جاءته وقالت له: يا جريج! أجبني، يا جريج! أجبني.
قال: يا رب أمي وصلاتي، أمي وصلاتي.
فاختار صلاته، فتركته وانصرفت، وفي اليوم الثالث جاءته وقالت: يا جريج أجبني، يا جريج أجبني فلم يجبها، فدعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات.
وأصبح الناس يتكلمون ويتعجبون من فعل جريج! ويقولون: ما هذا الصبر على الصلاة واعتزال الناس! حتى إنه لا ينظر إلى النساء ولا يرغب بزواج فقالت امرأة: أنا أستطيع أن أفتنه.
فقالوا: أحقاً تستطيعين؟ فقالت: نعم.
فقالوا لها: افعلي ذلك.
فذهبت للصومعة تريد أن تصعد إليه، فوجدت أن جريجاً أخذ الحبل معه، ولا أحد يستطيع أن يصعد إليه، فمكنت راعي الغنم الذي كان يأوي إلى ظل الصومعة من نفسها، فحملت، وكانت حين تسأل تقول: هذا ابن جريج، والناس يقولون: هل يعقل أن جريجاً فعل هذه الفاحشة؟! حسناً: اصبري حتى تضعيه ونحن سنريه، فوضعت المرأة، فذهبوا إلى الصومعة وبدءوا في هدمها، وإذا بـ جريج يحس بالضرب في الصومعة، فينظر فإذا هم يهدون صومعته، قال لهم: على رسلكم.
فقالوا: انزل يا فاجر، فمد الحبل ونزل، فأمسكوا به وضربوه وكتفوه، وقالوا: ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا! فعلت وفعلت! وأخذوه لحاكم القرية -ذكر في شرح القصة أن المرأة الزانية بنت حاكم القرية-.
المهم: أخذوه، والكل يتفرج، والمومسات هنا وهناك، فضحك، فقالوا: لماذا تضحك؟ وهل هذا موقف يضحك المرء فيه؟! قال: أدركتني دعوة أمي.
فأخذوه إلى حاكم القرية، فقال له: ما هذا يا جريج؟! كيف فعلت ذلك، لنقيمن عليك الحد.
وترك المرأة! كيف يقيم الحد عليه ويترك المرأة؟ لأنهم يهود، وهذه أخلاقهم.
فضحهم الله عز وجل في القرآن من أوله إلى آخره، ولكن الأمة الإسلامية عميت، كيف عميت عن الأوصاف الموجودة لليهود في القرآن؟! القرآن عربي مبين، واضح كالشمس، لا يحتاج إلى ترجمة، كل يوم تظهر صفاتهم التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، والدعاة إلى الله عز وجل ما غيروا رأيهم في اليهود أبداً؛ لأنهم يجدونها مبينة في القرآن.
فلما أرادوا أن يقيموا عليه الحد، قال لهم: حسناً، أتوضأ وأصلي ركعتين، فلما أكمل صلاته قال: أين الغلام؟ فجيء به، فوضع أصبعه في بطن الغلام وهو مولود فقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: الراعي فلان، حينئذٍ أكبوا عليه يقبلون يديه ورجليه، وقالوا: اعذرنا يا جريج، نبني لك صومعتك لبنة من فضة ولبنة من ذهب! قال: لا، أعيدوها طيناً كما كانت.
فالغلام عندما نطق كانت هذه معجزة من المعجزات التي يؤيد الله بها عباده.
جاء في الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (بينما أمٌ ترضع ولدها)، وبينما الولد يرضع، مر رجل له شارة عظيمة، رجل يركب حصاناً، وحوله عشرون رجلاً من الإمام والخلف، فقالت الأم: اللهم اجعل ابني مثله.
فترك الغلام ثدي أمه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ورجع يرضع مرة أخرى! قال: أبو هريرة: (فكأنني أنظر إلى إصبع النبي صلى الله عليه وسلم في فمه يمثل رضاع الولد) كل هذا لكي يقرب الصورة.
ثم مرت فتاة يعذبونها ويضربونها إمام لأنها سرقت أو زنت فقالت الأم: اللهم لا تجعل ابني مثلها.
فترك ثدي أمه وقال: اللهم اجعلني مثلها.
فقالت له أمه: مه! -ما هذا الطفل؟! - كلما قلت شيئاً قال عكسه، فقيل: إن هذا جبارٌ وتلك أمة مؤمنة.
بقدر ما يكون لله من التعظيم في قلبك بقدر ما تؤيد بالدلالات والآيات، المهم أن تخلص دينك وقلبك لربك، والله سبحانه وتعالى شكور، الذي يخلص له ذرة يجدها عنده، فلا يضيعها عليه؛ لأنه قضى أن الحسنات يذهبن السيئات، إلا سيئات الشرك والعياذ بالله فإنها تذهب بكل الحسنات، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول -بعدما ذكر شفاعة المؤمنين والملائكة-: (يبقى أرحم الراحمين، فيقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً)؛ لأنه شكور، لا يضيع شيئاً استودعته عنده أبداً، فلماذا تفر منه؟! هو شكور، إذا رق قلبك لله عز وجل رأيت من الآيات البينات ما لم تجر به العادات.
قال الغلام: رب اكفنيهم بما شئت، فارتج بهم الجبل، فسقطوا ورجع هو، فالله عز وجل يستخدمه، وإلا كان من الممكن أن يهرب ويذهب إلى أي مكان آخر، لكن رجع للملك، ونسأل الله عز وجل أن يستخدمنا في طاعته.(143/15)
بيان أن كل ابتلاء بعده نصر
لو أن الملك ترك الغلام يدعو إلى الله والراهب يدعو إلى الله والجليس يدعو إلى الله هل يمكن أن يجعلوا هذه الجماهير كلها تؤمن؟ أبداً، لكن انظر إلى الله عز وجل كيف يستدرج! ولو تركهم لعلهم لا يصلون أبداً إلى هذا العدد؛ لذلك لحسن ظنك بالله قل: من المحن تأتي المنح، إذا ابتليت فاعلم أن وراء الابتلاء نصر.
عندما قامت الحرب بين البوسنة والكروات والصرب؛ قلت في خطبة من الخطب: إن هذا الذي يحصل على أرض البوسنة من فضل الله ورحمته رغم هذا المنظر المؤلم المفجع، وهذا القتل الذريع الجماعي إلا أنه منة من الله.
فجاء جماعة وقالوا: كيف تقول مثل هذا؟ أنت تفرح بقتل المسلمين! قلنا: لا يا جماعة، المسألة ليست كذلك، لكن تعالوا ندرسها دراسة بسيطة: البوسنة هذه جزء من يوغسلافيا السابقة، والتي ظل أهلها سبعين عاماً تحت الحكم الشيوعي، أي: أن الرجل الذي عمره سبعون سنة فيهم رضع الشيوعية تماماً، لم ير الإسلام ولا دعاة الإسلام؛ لأنهم قتلوهم.
إذاً تصور أن البوسنة أخذت استقلالها، وأصبحت دولة إسلامية، ونحن أحببنا أن نرسل دعاة إلى البوسنة لكي يدعوهم إلى الله، وذهبت كتائب من الدعاة إلى البوسنيين هل كانوا سيعودون بنتيجة؟ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، يقولون له: ما هذا يا أخي؟! أنت جئت لتزرع التفرقة العنصرية؟! بعضهم تزوجوا من بعض فالولاء والبراء بين النصرانية والإسلام انمحى تماماً، لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، ولا يعرفون شيئاً عن النصرانية، حصل لهم مسخ على مدى التاريخ.
ولهذا أنت تحتاج إلى جماعة من الدعاة يسمعونهم أن هؤلاء طالما ليسوا على ملتكم فهم أعداءٌ لكم، ومع ذلك لن يقتنعوا، فالله سبحانه وتعالى اختصر لنا الطريق لكي يغزو الإسلام أوروبا.
هم صنعوا هذه المجزرة العظيمة خشية أن يغزو الإسلام أوروبا من البوسنة، وقتل في هذه المجازر معظم الذين رضعوا الشيوعية.
فمن الذي بقي؟ الأولاد الذين استيقظوا على هول المحنة، فهي التي أنقذتهم وعندما يقرأ القرآن: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كما كفروا} [النساء:89] صدق الله! رآها بعينيه.
دمعت عيني عندما قرأت قصة المرأة المسلمة التي نقلتها وكالات الأنباء، ومفادها وغداً نصرانياً ابن ثلاث وعشرين سنة زنى بها، وعمرها ستون سنة فهي تبكي وتقول: أنا التي أرضعته! أنا التي أرضعته! فهذا الذي جرى على أرض البوسنة نعمة، وإن كان ظاهرها المحنة، فالجيل الموجود صار عنده ولاء وبراء، بدأ يأخذ الإسلام من منابعه.
وعندما ذهب العرب ليجاهدوا في البوسنة كانوا إذا رأوهم يقولون: هؤلاء أولاد الصحابة.
كانوا يعظمونهم غاية التعظيم، لأنهم يعتقدون أن هؤلاء هم أولاد الصحابة.
لو أن العرب ذهبوا إلى البوسنة ولم تحصل هذه المجزرة هل سيقولون: أنتم أولاد الصحابة؟! أنت إذا نظرت إلى الظاهر لا تأخذ به، واعلم أن الله تبارك وتعالى يخرج الحي من الميت، فعندما قال الجماهير: آمنا بالله رب الغلام، صدم الملك! مفاجأة ما توقعها! وقيل له: وقع والله ما كنت تحذر! حسناً: ماذا أفعل؟ حفر الأخاديد على أفواه السكك -والأخاديد: هي الحفر العظيمة- وأضرم فيها النيران، وبدأ يعرض الناس على هذه الأخاديد، فمن آمن برب الغلام قذفه فيها، نسأل الله العافية! حتى جاء دور الأم مع رضيعها، فكلما همت أن تقذف نفسها في النار ذكرت ولدها الصغير فرحمته وتقاعست فأنطقه الله فقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق.
وفي الرواية الأخرى ولكن سندها ضعيف: قال لها: قعي ولا تقاعسي.
(قعي): يعني احبسي نفسك ولا تتأخري، كجنة إبراهيم عليه السلام: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
خلاصة هذه القصة: أنك إذا بذلت نفسك لله لا يضيعك حتى في الدنيا فلم الفرار؟! وهذه من القصص الصحيحة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسورة البروج كلها إنما نزلت في أصحاب الأخدود: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، وفي قراءة أخرى ذكرها المفسرون: (النار ذاتِ الوُقُودِ)، الوُقُود: شدة الاتقاد والاشتعال: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] سبحان الله! تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها إنسان يقول لآخر: يا ابن الأصول.
وهل هذه الكلمة تغضب؟ قديماً -ومازال حتى الآن- إذا أراد شخص أن يسخر من شخص ملتح، يقول له: يا سني! فيغضب، لماذا تغضب؟! هو ينسبك إلى السنة! وكشخص يقول لآخر: يا ابن الأصول! فعندما يقول لك: يا سني.
هذا شرف لك، من أنه نسبك إلى السنة.
وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي لما حصلت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير، وأنتم تعلمون أن أم عبد الله بن الزبير هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وكانت قد عميت، وكانت تلقب بـ ذات النطاقين، فـ الحجاج بن يوسف كان يقول له: يا ابن ذات النطاقين يعيرها فقال: عبد الله بن الزبير: تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها لو أنك تعلم لماذا سميت ذات النطاقين لعرفت عظم هذه التسمية، إنما لقبت بذلك؛ لأنها قطعت نطاقها من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حاملاً، وكانت تصعد الجبل لتحمل الطعام والشراب إلى رسول الله وأبيها في الغار.
فلماذا تعير بها؟! فأنت إذا ابتليت في الله تبارك وتعالى فاصبر، وهذا هو أعظم الدروس المستفادة، بل هو محور الارتكاز للثبات على السنة: أن من ابتلي في الله فصبر رفعه الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(143/16)
الأسئلة(143/17)
حكم زيارة النساء للقبور
السؤال
ما حكم ذهاب المرأة لزيارة القبور؟ وهل يجوز للمرأة الذهاب إلى العزاء في بيت أختها المصابة؟ وقد ذكرت أن مالك بن أنس هو إمام أهل السنة والحديث، فهل هو مالك أم أحمد؟
الجواب
كلهم أئمة، ولذلك أنا أردفت هذا الكلام بقولي: هذا رأي عبد الرحمن بن مهدي، وإلا فـ سفيان الثوري إمامٌ في الحديث والسنة، والأوزاعي إمامٌ في الحديث والسنة، ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق بن راهويه وكذلك سفيان بن عيينة كلهم أئمة، وهناك كثير من العلماء أئمة في الحديث والسنة؛ لكن هؤلاء أظهرهم.
أما بالنسبة لزيارة المرأة للقبور، فهو جائز إذا التزمت المرأة بالآداب الشرعية، وليس هناك دليل ينهض على منع المرأة من زيارة القبور.
فحديث: (لو بلغت معهم الكدى) هو حديث منكر، والحديث الآخر: (لعن الله زوارات القبور) يمكن توجيهه مع الأحاديث الأخرى، من قوله: (زوارات) أي: الكثيرات الزيارة.
وإلا فقد ثبتت الأدلة القاطعة بجواز أن تزور المرأة المقابر، منها هذا الحديث، (ماذا أقول يا رسول الله إذا مررت بالقبور؟)، وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، وأصل الخطاب موضوع للرجال والنساء معاً، ولا يجوز التفريق إلا بدليل.
ومن جملة هذا الحديث (وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي).
فربما قال إنسان: قد يكون الأمر بزيارة القبور بعد النهي عنها خاصاً بالرجال.
نقول له: لا؛ لأن ادخار لحوم الأضاحي للرجال والنساء معاً، وقد جاء الأمران في سياق واحد.
وأيضاً الحديث الذي في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأةٍ تبكي عند قبر جديد، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري) إلى آخر هذه الأحاديث، لكن إذا التزمت المرأة بالآداب الشرعية فلا بأس بالزيارة عند ذلك.
والله أعلم.
أما مسألة الاجتماع للعزاء -الاجتماع في أوائل المصاب- فأقول: لا يجتمعن في كل يوم لئلا يجددن المصاب، لكن المرأة تذهب إلى أختها لتعزيها في مصابها، فهذا من السنة.(143/18)
نصيحة في عدم الوعظ بالأحاديث الموضوعة
السؤال
نرجو معرفة صحة حديث: (أن الرجل المشعر يكون فمه واسعاً، والمرأة المشعرة عكس ذلك).
الجواب
لا.
هذا ليس بحديث، هو من الأحاديث التي ابن الجوزي نفسه لا يعرفها! ابن الجوزي صاحب كتاب الموضوعات، ألف كتاباً جمع الموضوعات فيه، وهذا أحد الناس بعث لي حديثاً يقول عنه: ما درجة هذا الحديث (من أحبني فليذكرني عند أكل الفجل).
قلت: ما هذا البلاء عند هذا الرجل؟! هذا لم يشم رائحة الحديث ولو مرةً في حياته، لا أعرف كيف هذا بعث لي هذا السؤال! وهل هذا الحديث فعلاً موجود أم أنه هو الذي ألفه لأن هذا حديث عجيب؟! ذات مرة كان هناك شخص يلقي درساً في المسجد، فيقول في كلام له: حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (يا داخل ما بين البصلة وقشرتها ما نابك إلا صنتها) رجل من العوام كان في المسجد يعظ الناس والظاهر أن هذه كانت أول مرة يعظ في حياته -فاستمر يتكلم ويتكلم، حتى قال: إن الله يقول: (اسع يا عبدي وأنا أسعى معك) وهذا من الكلام الذي يرددونه.
ويمكن أن يجد الإنسان الحديث الموضوع موافقاً لمعان موجودة في الحديث الصحيح.
فمثلاً حديث: (من أخذ مالاً من مهاوش أذهبهُ الله في المهالك).
من مهاوش: من حرام، (أذهبه الله في المهالك) أي أنه يضيع عليه، فهذا المعنى موجود في نصوص الكتاب والسنة، فإن الله عز وجل لا يبارك في الحرام أبداً، قد يكون كثيراً لكنه لا يغني صاحبه ولا يرد حاجته.
أما جماعة التبليغ فنحن ننصحهم نصيحة في الله عز وجل، أن يحتاطوا من الموضوعات، فإن أكثرهم يعيش على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومادة الوعظ والإرشاد عموماً.
يغلب عليها ذلك -فليس هذا خاصاً بإخواننا من جماعة التبليغ- بل إن، أكثر أحاديث الترغيب والترهيب فيها الأحاديث الضعيفة والموضوعة وعلى المسلم إذا قرأ حديثاً أن يكون لديه تمييز، فما ذكره السائل -مثلاً- لا يمكن أن يكون حديثاً.
كالحديث الآخر الذي هو: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير!!) لا تظنوا أن هذا غير موجود، بل هو موجود وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث: (الهريسة تشد الظهر!) ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وحديث (ربيع أمتي في العنب والبطيخ) والمشمش طبعاً؛ لأنه إذا كان ربيع الأمة في العنب فليس لها ربيع إذاً.
فيجب أن نتحرى نسبة الكلام للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، قال ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتاب "المجروحين": (إن الذي يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو لا يقصد ذلك- داخلٌ في جملة الكاذبين)، وأورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني حديثاً وهو يَرى -أو: يُرى- أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن) أو (هو أحد الكاذبِين).
وأنا أقول لكل مسلم نقول: اعرض جملة أحاديثك على من تثق بعلمه ومكانته في هذا العلم، كلما تقابلت عالماً فاسأله عنها أو عن بعضها الجزء المحفوظ عند أغلب الناس تجده إما ضعيفاً أو موضوعاً، أو ليس على وجهه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم.(143/19)
معاناة بعض النساء الملتزمات من آبائهن وأمهاتن ثم ممن يتقدم لخطبتهن
السؤال
فتاة تشكوا محنتها مع أسرتها، فأبوها وأمها يمنعانها من الخروج منتقبة، وهي ترفض ذلك، وقد تقدم لخطبتها شاب، لكنهم غير ملتزمين، ولم يتقدم لخطبتها إلى الآن شاب ملتزم.
الجواب
هذه الشكوى ليست جديدة، أنا سمعتها بأذني ووصلتني أيضاً في رسالة.
يا إخوة: نحن في جهاد وفي حرب! يجب أن ينحاز الغريب إلى إلفه، هي غريبة ترفع شعار الغربة وهو النقاب، وأنت غريب أيضاً ترفع شعار الغربة ومضطهد، ألا ينحاز الغريب إلى غريبه والإلف إلى إلفه في زمان الغربة؟! هنا الولاء.
ومن المشاكل التي أحزنتني جداً: أخت منتقبة عمرها ثلاث عشرة سنة مرتدية النقاب، وأهلها يجبرونها على خلع النقاب فتأبى، فحبسوها، منذُ سبعة أشهر وما نزلت من البيت، وترضى وتقول: أنا أرضى بذلك، كل الذين يأتون لخطبتها يشترطون أن تخلع نقابها.
لماذا تشترط ذلك؟! المختمرات يملأن الشارع، لماذا تأتي إلى امرأة غطت وجهها فتلزمها بكشف وجهها؟! اذهب إلى أخرى تكشف وجهها! فالذي يشترط هذا لا يؤتمن عليه.
إن كان منذ البداية يقول لك: اخلعي هذا النقاب، فلا يؤمن أن يقول: اخلعي الحجاب.
يقول بعضهم: إن المتنقبة شكلها عدوانية بالنقاب، وما أعجبتني ويتكلم بهذا الكلام، وهذا لا يجوز.
هؤلاء الأخوات الفاضلات إذا لم يتقدم إليهن أحد، فمن يتقدم؟ هناك بعض النساء تفتتن، إذا رأت المسألة مسألة جمال تتزين وتخرج إلى الشارع، فتبدو جميلة لبعض الناظرين.
فأنتم -يا إخوان- لا بد أن تعرفوا حقيقة الوضع الذي تعيشون فيه، أنتم غرباء! إن الجمال -مهما كان- يزول بالعشرة، ما له قيمة، المرأة لو كانت أجمل امرأة في الدنيا فبرتابة العيشة يصير جمالها عادياً، قد تنبهر بها أول مرة وثاني مرة وثالث مرة ورابع مرة لكن في عاشر مرة لا، بدليل أن الطعام الذي تشتهيه وتحبه لو أكلت منه شهراً كاملاً تمله وتكرهه؛ لأن هذه هي عادة الإنسان.
فأنا أرجو أن يظهر إخواننا الولاء لله عز وجل ورسوله، لا نترك الأخوات بهذه الصورة يا إخوة.
وبهذه المناسبة نحن ندعو للتعفف: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
الأخت الفاضلة تدخل السعادة على أخت أخرى تنشد السعادة وتبحث عنها، فما هو المانع -إذا كان زوجك عنده القدرة على أن ينفق، وعنده القدرة على الباءة- ما المانع أن تشركي في هذه السعادة أختاً أخرى؟! فالمهاجرين والأنصار لما دخلوا في الإسلام كان الرجل الأنصاري يتنازل عن أجمل نسائه لأخيه، وهذه كانت غريبة جداً في العرب، كانت عندهم غيرة عجيبة، ومع ذلك كان يأتي إليه ويقول: اختر أجملهن فأطلقها وتتزوجها.
فنحن نريد في هذا العصر أن نرجع مثل هذا الخلق.
نسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.
مداخلة: وإذا كان عندهم مال فليزوجوا غيرهم! هذا اقتراح وجيه، فلو أن الرجل زوج بهذا المال رجلاً آخر فلا مانع، لكن لابد أن نراعي محبة المرء لنفسه، فهناك بعض الناس ليست عنده القدرة ولا الشجاعة ولا الجرأة أن يخرج عشرة آلاف جنيه مثلاً، وصعب عليه بذلها ليزوج بها غيره، مع أنه يمكن أن ينفقها على ملذاته وشهواته.
فنحن الآن نتعامل مع واقع، فلا ينبغي أن تكون الفتوى في واد، وما هو كائنٌ في واد آخر، المفروض أن تكون الفتوى متماشية مع الواقع.
رجل لا يستطيع أن يفعل هذا، فالحل الآخر أن يقوم هو مقام الرجل الآخر.
أن يعطى الإنسان رجلاً مالاً لكي يتزوج، لا بأس بذلك، لكن إذا لم يستطع ذلك فليتزوج هو، فيكون قام مقام الرجل الآخر الذي تزوج.
وأيضاً نحن لدينا إحصائية خطيرة جداً: أن عدد النساء يكاد أن يصل إلى ضعف عدد الرجال، عدد المطلقات ثلاثمائة ألف امرأة مطلقة في مصر، مطلقات لهن أولاد وبعض المطلقات لا يجدن الأكل -والله لا يجدن الطعام- وبعض الأفراد يقول: إننا لا نرغب في الزواج فأقول لهم: هناك من النساء من يقلن: فليتزوجني ولا يقسم لي، لكن يطعمني وأولادي.
عندما تصل مثل هذه الرسالة وتسمعها أخت مسلمة، كيف تصبر وتنام وهي هانئة أنها مسيطرة على هذا الرجل؟! فلم لا تشرك أختها المسلمة في هذه السعادة؟! لأنها يمكن أن تكون هي نفس المرأة التي تشتكي، يموت زوجها أو يطلقها، معها أولاد! أبوها فقير! وربما قال لها: أنا ما لي علاقة بأولادك، فتضطر المرأة إلى العمل، وتمتهن نفسها أو تتزوج ويسترها رجل.
فنحن نقول لأخواتنا المؤمنات: عليهن أن يرتقين بهذا الإيمان وهذا الخلق، قال الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].(143/20)
معيار الاختيار للزوجة
السؤال
إني شابٌ مقبل على الزواج، وإني أرغب الزواج بامرأة تكون على خلق ودين وتكون جميلة، هذا ما أرغب به في الفتاة التي أرغب الزواج منها، ولكني وجدت فتاةً على خلق ودين، ولكنها متوسطة الجمال، فهل أتنازل عن أمر الجمال أم أبحث عن غيرها حتى لا أندم بعد ذلك؟ أرجو الجواب.
الجواب
تحضرني قصة لرجل كان قد أرسلها لجريدة الجمهورية من سنوات طويلة، يقول: كنت أعمل في بلدة من الدول العربية، وجئت فنزلت شارعاً أشتري شيئاً، فرأيت فتاةً بارعة الجمال سلب جمالها لبي، فمشيت وراءها حتى دخلت دارها، فما إن دَخَلَتْ حتى طَرَقْتَ الباب، فقلت: إني أريد أن أتزوج هذه الفتاة.
وقال: أنا مشيت في الشارع، ورأيتها هذه امرأتي التي أبحث عنها.
فالمهم: دخل واشترطوا عليه من المهر كذا وكذا، وفعلاً تزوجها.
كانت باعث مشكلته، يقول: إن هذه المرأة أنفق عليها كل مدخراته، ورغم أنه وحيد أمه إلا أنها من أول يوم تغسل ملابس أمه مع ملابسها.
الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
هذا خبر، بمعنى أن الناس يراعون هذه المسائل الأربعة في نكاح النساء، فمنهم من ينكح المرأة لجمالها ومنهم من ينكحها لحسبها وأخرى لنسبها وأخرى لدينها فقال صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
وذات دين جميلة أفضل من ذات دين فقط، ذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقط، وهكذا! الدين هو الأصل، وكلما كانت هناك خصلة أخرى تضمها إلى الدين، كان أفضل من الدين وحده، هذا لا شك فيه عند العلماء؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (تربت يداك): هذا تعبير يحتمل المعنى بالضد، (تربت يداك): بمعنى افتقرت، ولكن السياق هو الذي يحدد المعنى.
وأم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أتحتلم النساء؟ فقالت أم سلمة: فضحت النساء يا أم سليم، أو تحتلم المرأة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك.
! فبم يشبهها ولدها) فأثبت احتلام المرأة، فقال العلماء: (تربت يمينك) افتقرت، وهي كلمة دعاء لا يقصد بها الدعاء بذاته، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ (ثكلتك أمك) ما قصد الدعاء عليه أن يموت أو أن تثكله أمه، وإنما هي كلمة تجري على اللسان، وكقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله) وهذه الكلمة تجري على اللسان.
(تربت يمينك) أو (تربت يداك) بمعنى: افتقرت، وقد تأتي بمعنى النماء والبركة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) فهي في هذا الحديث بمعنى: النماء والبركة، أي: فاظفر بذات الدين تعلقت يداك بالبركة ولا يمكن أن تكون (تربت يداك) بمعنى: افتقرت أبداً؛ بدليل كلمة (اظفر) ولا يمكن أن يقول له: اظفر بالفقر أبداً، وإنما اظفر بذات الدين.
فإذا لم تجد بُداً، ووجدت أن المرأة ذات الدين ليست جميلة، فأنا أنصحك أن تتزوجها.
واسمع هذه القصة: أرسل الإمام أحمد رجلاً يخطب له امرأة، فخطب امرأة ولها أخت، وهذه الأخت كانت عوراء، فجاء الإمام أحمد، وقد علم الرجل أن الإمام أحمد سيتزوج تلك المرأة، وكانت أختها العوراء تجلس بجانبها، فالإمام أحمد أشفق عليها، وقال له: لا أريد هذه، اخطب لي تلك العوراء، وخطب العوراء، وأنجب منها الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل راوي المسند، الإمام الكبير الثقة.
والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه، فليأتِ أهله؛ فإن معها مثل الذي معها) هذه هي القضية، إذا قضى الرجل حاجته، استوى عنده أجمل النساء وأقبح النساء.
وهذه حقيقة أقولها، وأنا ما عرفت هذا الكلام إلا من شكاوي إخوة كانوا يقولون: إن الغالب على الأخوات الملتزمات عدم الجمال المبهر، فأقول: إنه الجمال نسبي، بمعنى أن المرأة القبيحة في بيتها إذا تزينت رأيت منها جمالاً.
أما الجمال الصارخ على حد قول من يقول: لم يره الشارع؛ فإن الله عز وجل يعطيك من المرأة العفيفة ما هو أفضل وأجمل وأرضى لنفسك منه.
فلا تترك ذات الدين لأجل الجمال، واعلم أن الجمال نسبي، وأن الرجل إذا قضى حاجته يستوي عنده أجمل امرأة مع أقبح امرأة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأتِ أهله؛ فإن معها مثل الذي معها) البضع واحد، فلذلك أنا أنصح هذا الأخ ألا يقف كثيراً عند مثل هذا الشرط.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم بذات الدين.(143/21)
من أحكام الهجر
السؤال
هناك أخوان شقيقان وهما من طلبة العلم، وبينهما شحناء بسبب المال، وقطيعة الرحم متسمرة بينهما بحيث لا يرى أحدهما الآخر، ولا يزوره ولا يقابله ولا يسلم عليه، أي أن الأول يهجر الثاني، والثاني أيضاً يهجر الأول، وهما على هذا منذ عام ونصف.
أرجو أن تقدم نصيحة لهذين الأخوين.
الجواب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام).
قال العلماء: لا يحل ذلك إذا كانت الخصومة للدنيا، أما إذا كانت للدين فيجوز أن تستمر ولو سنين، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه خمسين ليلة، فإذا كان الهجر من أجل الدين، كأن يكون الرجل مبتدعاً أو فاسقاً أو مرتكباً للمعاصي، فيجب عليك أن تعظه وأن تأخذ بيده، حتى إذا بان لك أنه لا يرجع إلا بالهجر، هجرته ولو امتد ذلك لأشهر، ولو امتد ذلك لسنوات.
لكن إذا كان الهجر بسبب المال -كما يقول الكاتب في هذه الورقة- فإن ذلك لا يجوز.
أخوك -أيها الأخ الكريم- أغلى من المال، ولو أنت فضلت المال على أخيك فأنت بعته برخص، النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، ويؤسفني أن يكونا من طلاب العلم، هذا ليس من خلق طالب العلم، إن النبي صلى الله عليه وسلم اقتص من نفسه، وقال: (من كان له مظلمة فليقتص).
أيها الأخ الكريم: كن خير الرجلين كما يقول صلى الله عليه وسلم: (يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
أسأل الله عز وجل أن يقوي بينكما ما وهى من روابط الإيمان اللهم آمين.(143/22)
الأحاديث الموضوعة وحرمة نشرها
السؤال
ما حال حديث إبليس طرق الباب على النبي صلى الله عليه وسلم:
الجواب
هذا حديث بكل أسف وجدته في أكثر من موضع، يسمونه حديث إبليس، ويقولون: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجانبه عائشة رضي الله عنها، وإذا بالباب يقرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعلمون من بالباب؟ قالوا: الله أعلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو إبليس اللعين.
فقال: عمر بن الخطاب: ائذن لي بقتله يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر! هذا من المنظرين).
وهو موضوع مكذوبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن بعض الناس يتبرعون في نشر هذا الحديث! وهذا لا يجوز، فلا يحل لأحد أن يوظف ماله لنشر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم؛ فأي رجل يعرض عليه حديث مثل هذا الحديث ينبغي عليه أن يسأل أحد العلماء بالحديث: أهذا صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لأن الترويج لهذا الكذب لا يحل والكذب على النبي عليه الصلاة والسلام من أعظم الجرائم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وشبيهٌ بهذا الحديث -حديث إبليس- كتيب وجدته يوزع مجاناً على أبواب المساجد، وهو عبارة عن قصة مفتراة مكذوبة تهدم أركان الإسلام بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وينسبونها للصحابي الذي لم يخلقه الله تبارك وتعالى يسمونه: عبد الله بن السلطان، هذا الشخص ما هي حكايته؟ قالوا: كان هذا الرجل فاجراً وزانياً وداعراً، يأكل الربا، ولم يكن يصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبغضه! هذا حيناً يأكل الربا وحيناً يزني والرسول لا يقيم عليه حداً فلم إذاً يغضب منه؟! فالمهم لما مات جاء ابنه وقال: يا رسول الله! إن أبي مات، تعال وصل عليه.
فقال له: كيف أصلي عليه وقد كان يفعل ويفعل ويفعل؟! قالوا: وإذا بالأمين جبريل ينزل من السماء ويسد السبع الطباق إلخ، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تصلي على عبد الله بن السلطان ما هذا الكلام؟!! هو مأمور، ولا بد أن يفعل ما أمر به، صل عليه إذاً يصلي، وقال: الأمر لله.
! امض وادفنه.
فحين أتى ليدفنه، وجد الحور العين يقفن بكئوس العصير والزنجبيل والكافور وغير ذلك، وكل واحدة تقول له: يا عبد الله خذ مني.
! يا عبد الله خذ مني.
! فالنبي صلى الله عليه وسلم اندهش ما هذا الذي يحصل؟!! فانظر كيف يظهرونه بمظهر الجاهل الذي لا يعرف شيئاً، مندهش! لا يدري ما الذي يحصل! بعد ما دخل ورأى الحور العين، ذهب فطرق الباب على امرأته فالمرأة سمعوا صوتها وهي تقول: من الفاسق الذي يطرق الباب؟ قالوا لها: يا أمة الله! اتقي الله! إنه رسول الله.
فقالت: أهلاً برسول الله، وفتحت الباب له، تعظمه، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل ماذا كان يعمل.
انظر كيف يصورون رسول الله! هل يعقل أن رسول الله يأتي بهذا الكلام؟! الذي يعلم الخلق كيف يتقربون إلى الله، يظهرونه بمظهر الجاهل الذي يسأل ولا يعرف ماذا يعمل هذا الرجل، وخصوصاً أن الرجل كان فاجراً داعراً زانياً آكل ربا! وتجد من المسلمين من ينشر هذا الغثاء، ويظن أنه حديث! قالت: يا رسول الله! هذا كان صفته كذا وكذا غير أنه -وهذا مربط الفرس الذي كان يريد أن يصل إليه- كان إذا جاء أول يوم في رجب دعا بهذا الدعاء -وذكروا الدعاء في أربع صفحات- فهو يفعل كل تلك المنكرات، وحين يدخل رجب يدعو بهذه الأربع الصفحات وانتهى الأمر! وقالوا في هذه الرواية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما سمع هذا الكلام قال: (من أراد أن يأخذ أجر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد فليقرأ هذا الدعاء) انظر إلى هذا الكلام!! هل هناك مسلم في الدنيا عنده أبجديات الإسلام ينشر هذا الكلام؟! وهل هناك مسلم يعتقد أن هذا من دين الله، ويبتغي الأجر من الله عز وجل لأنه ينشر هذا الكلام؟! على لسان الرجل القاتل، والذي كان الناس يؤجرونه لكي يقتل القاتل، فهم يذكرون أن هناك امرأة قُتِلَ زوجها، فذهبت إليه وقالت له: أنا أريد منك أن تقتل فلاناً الفلاني، قال لها: وكم تدفعين لي؟ قالت له: أنا مسكينة وفقيرة، وليس لدي مال فرق قلبه وقال: سأقتله لوجه الله!! يعني: أنا لن آخذ مالاً، أنا سأقتله لوجه الله، وأتقرب إلى الله عز وجل بقتله.
!.
لذلك يا جماعة إذا كان هذا الحديث معلقاً في المساجد فمزقوه، لا يجوز أن يبقى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقاً في المساجد.(143/23)
حكم رفع اليدين للدعاء يوم الجمعة للمؤمِّنين بعد الخطيب
السؤال
قلتم: إنه لا يجوز للخطيب أن يرفع كلتا يديه في الدعاء، هل يجوز رفع اليدين لغير الخطيب؟
الجواب
نعم، ولكن ليس في خطبة الجمعة، فالإنسان إذا دعا الله تبارك وتعالى يجوز له أن يرفع يديه.(143/24)
حكم رفع اليدين في القنوت
السؤال
هل يجوز رفع اليدين في القنوت؟ الشيخ: نعم، ترفع، تبعاً للإمام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) لأنه لا يجوز أن يخالف الإمام.(143/25)
حكم دعاء القنوت في صلاة الفجر
السؤال
ما حكم دعاء القنوت في صلاة الفجر؟
الجواب
الذي نعتقده -وهو المذهب العلمي الراجح الآن- أن الدعاء في قنوت صلاة الفجر بدعة، والاستمرار عليه بدعة، وذهب الشافعية إلى سنيته لأدلة عندهم محتملة، ولكنها مرجوحة عند بقية أهل العلم، فقالوا باستحباب القنوت -باستمرار- في صلاة الفجر.
فنحن نقول رعاية لهذا الخلاف: إذا كنت إماماً فلا تقنت في صلاة الفجر، ولا ترفع يديك ولا تدع، لكن إذا كنت مأموماً، فرعاية لهذا الخلاف عليك أن ترجع إلى الأدلة العامة، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
والعلماء يراعون الخلاف إذا كان الدليل محتملاً.
فمثلاً: امرأة تزوجت على مذهب أبي حنيفة بغير إذن الولي، الذي عليه جماهير العلماء غير الأحناف أن النكاح باطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل).
والأحناف يضعفون هذا الحديث -وهو صحيح لا ريب فيه- ويأخذون في هذه المسألة بظواهر الآيات، لكن إذا جاءتنا امرأة فقالت: أنا تزوجت بغير إذن الولي، نقول: النكاح باطل.
فهل نقول عن: الأولاد: أولاد زنا؟ نحن نقول: ليسوا كذلك رعاية للخلاف الوارد في المسألة، وهذا بابٌ دقيق، وليس فيه تمييع للأدلة كما قد يظن بعض الناس، ويحتاج توضيح ذلك إلى محاضرات، وأغلب الإشكال يأتي من الإجمال، لكن يكفيكم العنوان: أن رعاية الخلاف معتبرة عند العلماء، لاسيما إذا كان ظاهر الدليل فيه ترشيح وترجيح للقائل بالقول الآخر.
ولا نستطيع أن نقول: إن الأولاد أولاد زنا؛ إذا قلنا: أولاد زنا، فينبغي أن يحد الرجل والمرأة، ولا طائلة لهذه الناحية من العلم على الإطلاق، حتى من المخالفين للأحكام، والإمام النووي له كلام جميل في هذا.(143/26)
حكم قطع الصلاة لإجابة نداء الوالدين
السؤال
هل كان على جريج العابد إجابة أمه عندما نادته؟ وهل يجب على الإنسان إذا ناداه والداه وكان يصلي النافلة أن يجيب؟
الجواب
الذي ذهب إليه أهل العلم -وهو الراجح أن الابن إذا كان يصلي النافلة وعلم أن الوالد يتضرر من الإبطاء في الإجابة، فعليه أن يقطع صلاته ويجيب، أما الفريضة فقالوا: لا يجيب، الابن أنه لو قال لوالده: كنت أصلي، لما توجع من ذلك، فينبغي له أن يستمر في صلاة النافلة.(143/27)
إنما الأعمال بالنيات
السؤال
هل يجوز أن يقدم الإنسان على الدين رغبة في الحصول على غرض دنيوي، كأن يدخل رجل في الإسلام حتى يستطيع الزواج من امرأة مسلمة واشترطت عليه ذلك؟
الجواب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فإذا تزاحمت نيتان للعبد كان أسبقهما أولاهما، أي: يجوز التشريك في النية في بعض الأعمال، رجلٌ أراد الحج والتجارة، يقال: إذا قصد التجارة أصلاً ثم قال: وبعد ذلك نحج، كان له من نيته ما انعقدت عليه، إذا كان ذاهباً للتجارة وقال: أريد أيضاً أحج، مثل بعض الناس الذين يذهبون إلى هناك لكي يقودوا الحجاج في مناسك الحج، يقول لك: نذهب لكي نجمع لنا بعض المال أولاً ثم إذا يسر الله فسنحج.
إذاً: النية هي مناط الأمر، فإذا تزوج رجلٌ امرأةً مسلمةً لا يستطيع أن يتزوجها إلا بالإسلام كان له ما نوى.
فإن قال قائلٌ: فما تقول في قصة أبي طلحة حين خطب أم سليم، فقالت له أم سليم: يا أبا طلحة ما مثلك يرد، لكنك امرؤٌ كافر وأنا مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره.
فقال: وكيف لي بذلك؟ قالت: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فـ أبو طلحة إنما أسلم ليتزوج أم سليم وهذا هو السبب الظاهر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا طلحة قادماً قال: (جاءكم أبو طلحة وغرة الإسلام في وجهه).
فقد أسلم وآمن، ثم ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشهر إسلامه ويتزوج، فالنية الغالبة على أبي طلحة إنما هي الإسلام، إذاً: الراجح في المسألة هو أصدق النيتين وما انعقد عليه القلب.(143/28)
الداعية إلى الله لا يتخلى عن دعوته مهما اشتدت الصعاب
السؤال
هل يستفاد من قصة الغلام ورجوعه إلى الملك أن ذلك موافق لقوله تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15].
الجواب
هذه الفائدة محتملة؛ لكن قد يكون التقدم مصيبة على المسلمين ويكون الرجوع والتقهقر والانسحاب باباً من أبواب النصر (فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) المقصود: ألا تفر الفرار الكامل فيمكن أن تناور، ترجع إلى الخلف خطوة وتتقدم خطوات، أو ترجع خطوات لتتقدم خطوة، هذا كله من تكتيك الحر كما يقال ومع ذلك: هذه فائدة محتملة -جزاك الله خيراً- أن الرجل الذي يدعو إلى الله تبارك وتعالى لا ينبغي له أن يولي الأدبار، بمعنى: ينكث ويترك دعوته ويتخلى عن أدائها.
والقصة فيها فوائد أكثر من ذلك، لكن الوقت ضيق.(143/29)
ضعف حديث الاستياك بالأصابع
السؤال
هل ثبت استعمال الأصابع في الاستياك قبل الصلاة؟
الجواب
لم يثبت ذلك، وحديث الاستياك بالإصبع رواه البيهقي وغيره، وهو حديث ضعيف والله أعلم.
وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(143/30)
الدفاع عن السنة [1، 2]
يجب على كل عبد نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحقق معناها، ولا يتم تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله الله إلا باتباعه والعمل بسنته وقبول أحاديثه الصحيحة، ومحبته الصادقة قبل محبة النفس والمال والأهل والولد؛ وبهذا تنتصر الأمة على أعدائها، وتحتفظ بمكانتها.(144/1)
تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
(كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد -كما تقول عائشة رضي الله عنها- حتى جاءه الوحي، فرجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده وقال: (لقد خشيت على نفسي).
قالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً) -وفي الرواية الأخرى: وهي في بعض نسخ البخاري - قالت: (كلا والله لا يحزنك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرأً قد تنصر، وقرأ وكتب الكتاب العبراني، فلما قص عليه النبي عليه الصلاة والسلام ما جرى له في غار حراء قال: هذا هو الناموس الأكبر الذي نزل على موسى عليه السلام، ثم قال: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال عليه الصلاة والسلام: أومخرجي هم؟ قال: نعم، ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي) يقول أبو عمرو بن العلاء: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل -وهو الإسلام- قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فخالف كثيراً من أعراف العرب وأهواء الجاهلية، ولذلك رموه عن قوس واحدة، وجاء يقول لهم: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا).
فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة، ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها، وقتلت أشراف الناس فيها، وسُبيت النساء، وكان العرب أصحاب غيرة، إذاً هم فهموا معنى: لا إله إلا الله، وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لو كانوا لا يفهمونها كسائر جماهير المسلمين اليوم لقالوها، ولوفّروا على أنفسهم هذه الحروب المتطاولة، فقدوا كل شيء في هذه الحروب، فقدوا أنفس أنواع الرجال، فقدوا العقول الذكية الجبارة، وفقدوا أموالاً طائلةً كثيرة، وفقدوا نساءً وأولاداً وأطفالاً أيضاً كل هذا وهم يصبرون على منِّ الغلاصم ونهش الأراقم، ومتون الصوارم، والبلاء المتلاطم المتراكم، ولا يقولوا: لا إله إلا الله، لماذا؟ لأن هذه الكلمة معناها نبذ الأنداد التي كان الناس يعبدونها، معناها توحيد الكلمة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:67].
كان العرب كما لا يخفى عليكم إن شاء الله تعالى يقرون بتوحيد الربوبية، ولا يجهلون أن الله هو الذي خلق الكون ودبر ورزق، وهو اللطيف الخبير، لكنهم أنكروا أن يكون إلهاً معبوداً: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وما هو العجاب فيه؟ تفرد بالزرق تفرد بالخلق تفرد بالتدبير تفرد بالإحياء تفرد بالإماتة؛ فمناسب جداً أن يتفرد بالألوهية، تفرد بكل شيء، وينكرون أن يكون إلهاً، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام بتقرير هذه الحقيقة، وكان ما كان مما أشرت إليه آنفاً من الحروب المتطاولة، فليتنا نفهم كلمة التوحيد كما فهمها أبو جهل! لو أن جماهير المسلمين اليوم فهموا كلمة التوحيد كما فهمها العرب الأوائل، حتى الذين ماتوا على الكفر منهم لتغير واقع المسلمين، أنت تقول وتردد خلف المؤذن يومياً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
أشهد: أرى؛ لأن الشهادة ضد الغيب، قال تعالى: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الزمر:46] فإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله؛ كأنك تقول: أنا أراه، فإذا تحققت لديك هذه الرؤية فلا يستطيع قلبك أن يقوى على مشهد العصيان أبداً، وفي الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! أوصني، قال: أُوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك) أنت لا تجرؤ على أن تأتي بالفاحشة أمام الناس؛ إنما العاصي يغلق الباب والنافذة، ويحسن الغلق، فإذا شعر أنه في مأمنٍ عصى ربه، أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالح قومك، قد يجرؤ المرء على أن يعصي الله أمام فاجرٍ مثله؛ لكن أمام صالحٍ لا.
فأنت إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنك تقول: أنا أراه، والدين على ثلاثة أنماط: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أخص من جهة أهله، وأعم من جهة نفسه، يعني: تخيل الإسلام والإيمان والإحسان في دوائر ثلاثة متداخلة، أكبر دائرة هي الإسلام، والدائرة التي تليها في الصغر وهي بداخلها الإيمان، والدائرة التي تليها وهي بداخلها: الإحسان، فإذا خرج من دائرة الإحسان وقع في دائرة الإيمان، وإذا خرج من دائرة الإيمان وقع في دائرة الإسلام، وإذا خرج من دائرة الإسلام فلم يبق إلا الفضاء الواسع، وهو الكفر، فكل محسن مؤمن ومسلم، وكل مؤمنٍ مسلم وليس بمحسن، لا يشترط أن يكون محسناً، وكل مسلمٍ لا يُشترط أن يكون لا مؤمناً ولا محسناً، كلما كبرت الدائرة كانت أخص من جهة أهلها، وأعم من جهة نفسها، المحسنون من جهة أهلها أخص؛ لأنهم أقل الخلق، ولكن هو مؤمنٌ ومسلم، فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، كذلك الإيمان.
في حديث جبريل عليه السلام الذي رواه مسلم في حديث ابن عمر، ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم قال: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) هو هذا معنى أشهد: أي أرى، أن تعبد الله كأنك تراه، ولكن ذلك متعسر، فإن لم تكن فإنه يراك.
إن عجزت أن تكون محسناً في غاية الإحسان كأنك ترى ربك، وأنا معتقد يقيناً أن المرء إذا كان محسناً لا يجرؤ على العصيان أبداً، لا يقوى قلبه على العصيان، وتأمل في الصيام، يحقق أكثر الناس مرتبة الإحسان.
قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به) ونحن نعلم علماً ضرورياً أن الصيام للعبد، بدليل أنه إذا لم يكن عُذِّب، فالصيام للعبد أيضاً، فلماذا خصص الله هذه الشعيرة وقال: (إنه لي) ألم يمر بك يومٌ شديد الحرارة كمثل هذا الشهر والذي سبقه، وكادت عنقك أن تنقطع من العطش، وأنت وحدك في البيت، والماء المثلج أمامك وتحمل الماء، ويقترب الماء من فمك، ومع ذلك لا تجرؤ على الشرب، لماذا؟ مع أن المرء قد يرائي في الصلاة، وقد يرائي في الزكاة، وقد يرائي في الحج!! لكن في الصيام لا يستطيع أن يشرب مع شدة العطش، ووجود المقتضى الدافع على العصيان، وهو الانفراد وأن لا أحد معه، ومع ذلك لا يجرؤ على الشرب، هذا هو تحقيق مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا على سبيل التنزُّل.
وأشهد أن محمداً رسول الله.(144/2)
تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله
معنى كلمة التوحيد أنني كما أفرد ربي بالعبادة ولا أشرك به أحداً، سأفرد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع كما أن الله واحدٌ لا شريك له في العبادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا شريك له في الإتباع، وإذا اتبعنا عالماً بعده، إنما اتبعناه بقوله، فكل شيءٍ راجعٌ إليه في الحقيقة.
وأشهد أن محمداً رسول الله إذا وصلك نصٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم من عالمٍ ثقةٍ عالمٍ بالصحيح والضعيف، فتيقن أن الذي يأمرك الآن هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذا أردت أن تحقق معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) كأنك تراه، يعني في هذا الجمع الذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون جمعاً مباركاً، قد يوجد في هذا الجمع من يلبس خاتماً من ذهب أو دبلة من ذهب، ابتُلِي بذلك إما لضعف إيمانه، وإما لجهله، وأرجو أن لا يكون لهواه، المهم أنه يلبس الذهب، فإذا قلت له الآن: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على الصحابة يوماً ومعه الحرير في يدٍ والذهب في يدٍ وقال: (هذان حرامٌ على ذكور أمتي، حل لإناثها) فأقول له: إن كنت ذكراً فاخلع الذهب؛ لأنه قال: (هذا حرامٌ على ذكور أمتي) فتوهّم وأنت تسمع هذا الحديث الآن أن الذي أمرك به هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يسعُك أن تتخلف، تخلع الذهب أم لا؟ يا من تلبس الذهب الآن، لو أنك واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام الآن، وقال: اخلع عنك هذا، قل لي بأمانة، أتخلع الذهب لو كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أمرك الآن؟ الذي أعتقده أنه سيقول: نعم.
فأقول له: ما الذي جعلك تتباطأ حتى الآن ولا تخلع الذهب فور سماعك لهذا الحديث؟ لأنك لم تحقق معنى (أَشهد)، ما حققتها، لو اعتقدت أنه هو الذي أمرك ما أظنك تتخلف.
وخذ هذا المثل العالي الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن رجلاً كان يلبس خاتم ذهب، وجاء مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الخاتم نزعه نزعاً شديداً وطرحه على الأرض، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يده، فلما همّ الرجل أن ينطلق؛ قال له بعض الجلوس: خذ خاتمك انتفع به قال: (لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله) لا يأخذه بعدما طرحه أرضاً، رغم أنه يجوز له أن يبيعه وينتفع به، لكن كبُر عليه أن يمد يده ويأخذه وقد طرحه النبي صلى الله عليه وسلم!!.
فهلا خلعت خاتمك يا لابس الذهب بعد هذا الكلام بلا خجل؟ كنت عاصياً فرجعت، هذه منقبة ومحمدة، وهذه هي الهجرة الواجبة إلى أن تلقى ربك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فأنت مهاجرٌ إلى الله كل يوم ما من معصيةٍ تدعها إلى طاعة إلا وقد تحقق لك رسم المهاجر وسمته، فأنت مهاجرٌ إلى الله عز وجل، فإذا خلعت هذا الذهب فاحمد الله أن نفسك حيَّة، وإذا لم تجرؤ على خلع الذهب فابك على نفسك أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: ما من نصٍ يصلني عن هذا النبي الكريم إلا وأعظمه وأُبجِّله كما لو كان هو الآمر به.
وقد سُئِل تقي الدين السبكي رحمه الله كما في رسالته بيان قول الإمام المطلبي الذي هو الإمام الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) سُئل عن إذا كان رجل مثلاً يتمذهب بمذهب من المذاهب المشهورة، شافعياً كان أو حنفياً أو حنبلياً أو مالكياً أو ظاهرياً، وكان المذهب على خلاف الحديث أيترك المذهب للحديث؟ قال: نعم، طيب أيكون مخالفاً للمذهب؟ يعني: هو شافعي وجاءه نص بخلاف المذهب الشافعي، فأخذ بالحديث وترك المذهب، أيكون قد خرج عن كونه شافعياً؟ قال: لا، لأن الشافعي يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) فلو أن الشافعي وقف على ما وقفت لصار إليه، ثم قال: وليتوهم أحدكم نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: افعل كذا وكذا أيسعه أن يتخلف؟ ما أظن أنه يجرؤ.
ضرب الصحابة أروع الأمثلة في هذا الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان الواحد منهم شديد الحساسية، مرهف الحس.
ابن عمر رضي الله عنهما سئل مرةً عن أكل لحم الغراب: أحلال أم حرام؟ فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، فقال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟ من الذي تطيب نفسه أن يأكل الغراب والنبي عليه الصلاة والسلام سماه فاسقاً؟ هذا الحس العالي كان يسير حياة هؤلاء حتى في اختيار اسم ابنه سالم بن عبد الله بن عمر.
روى الطبراني في المعجم الأوسط بسندٍ فيه لين أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان في مجلسٍ فيه عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله، فقال الحجاج لـ سالم: خذ هذا السيف، وخذ هذا الرجل واضرب عنقه على باب القصر، فأخذ سالم السيف وأخذ الرجل ووصل به إلى الباب ثم قال له سالم: هل صليت الصبح؟ قال: نعم، قال: فخذ أي طريق شئت -اهرب بجلدك- ثم رجع سالم إلى الحجاج بسيفه، فسأله الحجاج أقتلت الرجل؟ قال له: لا، قال: لم؟ قال: إني سمعت أن أبي هذا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) ما أستطيع أن أجور على رجلٍ في ذمة الملك، هذا في ضمان الملك، وفي حماه ما أستطيع، والحجاج مع أنه كان غاشماً وظلوماً، لكنه أحياناً كان يقف، عنده أشياء تنم عن دين، فمثلاً مرة طلب القبض على رجلٍ فلم يجدوه، فقبضوا على أخيه، أول ما قبضوا على أخيه هدموا داره، ومنعوا عطاءه من بيت المال، وحلَّقوا على اسمه (أي: وضعوه في القائمة السوداء، كلما يقبضوا على الناس يأخذوه) فالرجل قال: أريد أن أكلم الأمير.
أوصلوه إلى الحجاج، قال: أيها الأمير! طلبتم القبض على أخي فلم تجدوه، فقبضتم علي وأنا مظلوم، هدموا داري، ومنعوا عطائي، وحلّقوا على اسمي، فقال له الحجاج: هيهات أولم تسمع قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرةٍ ونجا المقارف صاحب الذنب فقال: أصلح الله الأمير، فإني سمعت الله يقول غير ذلك! قال: وما يقول الله؟ قال: قال الله تبارك وتعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:78 - 79] فحينئذٍ أطرق الحجاج، ثم صفق بيديه وقال: علي بفلان، وهو قائد الشرطة فقال له: ابن لهذا داره، ومر له بعطاه، وامح اسمه، ومر منادياً ينادي أن صدق الله وكذب الشاعر.
فيقول سالم: إن أبي هذا حدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) فعقّب عبد الله بن عمر، وقال لابنه: (كيس) يعني ذكي تفهم، (إنما سميتك سالماً لتسلم)، هذا الشاهد: (سميتك سالماً لتسلم)، كل شيء في حياة هؤلاء الصحابة كان يحركه الاتباع.
فأنت إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: لا يصلك عنه كلامٌ صحيح على لسان رجلٍ أمينٍ ثقةٍ إلا وتعتقد أن هذا الرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرك، ما أظنُّك حينئذٍ تتخلف، تخلع الذهب فور ما تسمع هذا الكلام، وكذلك تخلع الدبلة، ذهباً كانت أو فضة، أما الدبلة على وجه الخصوص فلأنها من شعائر النصارى وليست من دين الإسلام، الدبلة لها قداسة معروفة عند النصارى؛ ولذلك عندما يكون خاطباً يلبس الدبلة باليد اليمنى، ولما يتزوج ويعقد يضع الدبلة في يده الشمال، لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن هذه الإصبع فيها عرق لطيف جداً تحت الجلد، وهذا العرق هو الوحيد الذي يمتد من اليد إلى القلب مباشرةً، فدرجوا على كتابة اسم المرأة على دبلة الرجل، واسم الرجل على دبلة المرأة، طبعاً من داخل الدبلة، لماذا؟ لأنه حين يلبس دبلته واسمها في الداخل متاخم لهذا العرق، فالنتيجة ماذا؟ يأخذ حناناً على القلب مباشرةً فالرجل هذا لن يفكر في امرأة إلا هذه المرأة دون غيرها، فمعنى هذا الكلام أن هذا العرق يخرج من اسمها وينبض عليه، ويأخذ الجرعة والشحنة فليس في قلبه إلا هذه المرأة، وكذلك الرجل، فهذا تقليد نصراني لا يحل، لا تلبس دبلة فضة ولا حديد ولا أي شيء، الدبلة بالذات، لكن لا بأس أن تلبس الخاتم، لأن الخاتم زينة للرجال، يعني: لو تلبس الخاتم تزيّن أصابعك، وتلبسه بلا مناسبة.
فخلاصة الكلام أن معنى أشهد أن محمداً رسول الله إذا وصلك كلام فانفعلت له ونفذته فأنت فعلاً تشهد أن محمداً رسول الله، إذا لم تفعل ذلك فشهادتك ناقصة، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كأي كلمة تقال.(144/3)
أسباب مخالفة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يستطيعون فعله
إذا فهمنا هذه المقدمة سنرجع إلى شيء هام وهو أصل، وكل ما يذكر عليه فرعٌ عنه، السؤال الذي ندخل به إلى تقرير هذا الأصل لماذا يخالف الناس النبي صلى الله عليه وسلم فيما يستطيعون فعله؟ يعني: كثير من الناس الذين يحلقون لحاهم مثلاً -وحلق اللحية حرام بإجماع الأئمة الأربعة وجماهير أصحابهم، لم يخالف في هذا الحكم إلا من لا ينعقد الإجماع بدخوله ولا ينخرم بخروجه، يعني: وجوده مثل عدمه- تقول له: يا فلان! لماذا لا تعفي لحيتك؟ يقول: سأتهم بالإرهاب، وسأفصَل من العمل.
فأنت قد تكلف في عملك بما لا تطيق، عمل رهيب وإهانات وإرهاق في العمل، ومع ذلك تعمل، لماذا؟ أكل خبز.
طيب إعفاء اللحية لن يكون بمثل هذه المشقة، ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة!.
برهن لي أنك تريد الجنة، الحكم الشرعي كله اسمه تكليف، أي: لا يكون إلا بكلفة وبمشقة، وها أنت قد سمعت في أول الكلام: (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عُوْدِي) فلا بد أن تتوقع المعاداة والمشاكل، مسألة ضرورية لدعوة الرسل، العداء ظاهرة صحية لدعوة الرسل ودعوة أتباعهم، فأنت لماذا هانت عليك هذه المخالفة؟
الجواب
الجواب وإن كان مُراً -نسأل الله تبارك وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً-: إنك أيها المخالف لا تحب النبي صلى الله عليه وسلم، جواب مُر صحيح، وتهمة مرة؛ لكنها حقيقة، محبته ناقصة، فإذا زالت بالكلية كفر المرء، لكن محبة ناقصة، قد تنقص إلى أدنى درجات النقص، لو كان هذا الرجل محباً ما تجرأ على المخالفة، المحب لا يخالف حبيبه أبداً إذا صدقت محبته، المحب لا يرى في الدنيا أمراً إلا أمر حبيبه، ولا يرى نهياً إلا نهي حبيبه، ولا يرى خصلةً جميلة في الدنيا إلا كتبها إلى حبيبه، ولا منقصة إلا برأ منها حبيب.
متمم بن نويرة له أخ اسمه مالك بن نويرة، قتله خالد بن الوليد وتزوج امرأته أيام حروب الردة، وكان متمم شديد الحب لأخيه مالك، فلما قتله خالد؛ رثاه متمم بأبياتٍ ما قرأت لأحدٍ أبياتاً أو كلاماً تفجّع به على أحد مثلما قرأت لـ متمم، أبيات تهز القلب وهو يرثي أخاه يقول: لَقَدْ لاَمَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلى البُكا رَفِيقي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ فَقالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ فُقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجَا يَبعَثُ الشَّجا فَدَعْني فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ كأن لم يمت في الدنيا إلا أخوه، كل القبور التي على وجه الأرض هي قبر أخيه، لا يرى في الدنيا ميتاً إلا أخاه، حتى قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع هذا الرثاء قال: (يا متمم! لو أن أخي زيد بن الخطاب رُثي بمثل هذا ما وجدت على فقده) لعلو هذه الأبيات، الذي يخالف النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى لوم اللائمين، وتعيير المعيِّرين ليس بمحب، لماذا؟ لأن المحب كلما لاموه مضى، يقول الشاعر: يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زور ويوهمنيك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنور ثم الشاهد: إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني من سرورك في سرور أي: أنا مسرور لسرورك حتى لو كان سرورك على أشلائي، هذا هو الحب.
فإذا قال لك رجل: يا سنِّي! فيما مضى كانوا يعيروننا بالمسألة هذه، أي شخص يريدون أن يلمزوه قبل عشرين سنة مثلاً يقول له: يا سني! فنحن نقول: تلك شكاة ظاهر عنك عارها.
الحجاج بن يوسف الثقفي لما عير أسماء أيام فتنة عبد الله بن الزبير دخل عليها وقد بلغت مائة عام وقد عميت، فقال لها: يا ذات النطاقين! أَيعيِّر شخصٌ شخصاً بالكلمة هذه؟ يا ذات النطاقين كأن شخصاً يعيِّرك يقول لك: اسكت يا بن الأصول! تلك شكاة ظاهر عنك عارها، فمثل هذا لا يعيَّر المرء به.
فأنت إذا قيل لك: (يا سني!) هذا شرفٌ لك، بعض الناس يتركون متابعة النبي عليه الصلاة والسلام خشية المعرة، وما هي بمعرة، هذا الحب هو الأصل، وكل شيء يأتي بعده فرعٌ عليه.
إذا أحببت كما يقول المنظرون في المناظرات، عندما يستدل شخص بدليل ضعيف، ويأخذ منه حكماً شرعياً يقولون له: (لا يستقيم الظل والعود أعوج) الدليل ضعيف؛ لا تأخذ منه حكماً.
فنحن نقول: إن المحبة هي العود، وكل عملٍ يأتي بعد ذلك هو كالظل للعود وفرعٌ عنه.(144/4)
صور تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للإهانة دون نكير(144/5)
النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يصور على صورة خنزير!!
كان من جراء نقص حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رُسِم على صورة الخنزير!! ومع ذلك ولا دولة تدين بدين الإسلام استنكرت استنكاراً رسمياً لهذا الذي جرى، كأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم لا يدين بدينه على الأرض أحد، مع أن عدد المسلمين ممن يتسمون بأسماء المسلمين على عُجَرِهم وبُجَرِهِم مليار إنسان ألف مليون من بني آدم، يُسَب أعلى رجل فيهم ويُرسَم على صورة خنزير، ومع ذلك لم يعقد مؤتمر صحفي واحد ذراً للرماد في العيون لإرضاء عواطف الجماهير، مع أننا نعرف أن المؤتمرات الصحفية لا قيمة لها في الحقيقة، لكن إرضاءً لعواطف الجماهير، اعمل مؤتمراً صحفياً، قل: أنا أستنكر قل أنا أشجب إن عرض النبي صلى الله عليه وسلم أثمن من الأرض أرض ماذا التي تبحث عنها؟ عرض النبي عليه الصلاة والسلام أثمن وأغلى من الأرض.
اليهود جبناء، والجبان لا يمكن يستخدم يده أبداً ولو كان الاحتمال راجحاً لا يضرب إلا إذا أيقن الدليل الضروري أنك أضعف من أن تمد يدك، قال الله عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] اليهود ما وصلوا إلى هذا التشويه بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا لأنهم جبناء، عندما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يسب في بلاد المسلمين وعلى صفحات الجرائد والمجلات، ورأوا رد الفعل الرسمي لا شيء، لا يوجد استنكار من هيئة كبار العلماء أو من علماء البلد.(144/6)
النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية!!
هذه صحيفة تكتب بالخط العريض: هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟ أهذا عنوان يكتب في جريدة؟ تريد ماذا من مسألة الزائدة الدودية؟ مات بها أو بغيرها ما هي المحصلة؟ هل الطب سيستفيد؟ أتقدم بحثاً جديداً؟ ما هو المطلوب من هذا العنوان؟.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يقول: والله ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية، فجلده الحد، قال: لأن معنى أنك تنفي عنهم الزنا فيه إشعار بالاتهام، لو أنهم برآء مائة بالمائة أبداً لن تقول هذا الكلام، لكن تقول: ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية، كأن فيه إشعار أنهم زناة، فرأى أن مثل هذا يدخل في حد القذف؛ فجلده حد المفتري فيأتي شخص يكتب هذا العنوان: هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟ في ديار المسلمين، ورد الفعل الرسمي صفر!.(144/7)
النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح
ولما جاءت مسألة استنساخ النعجة (دوللي) والكلام الفارغ الذي تكلموا به عنوان بالخط العريض: النعجة دوللي أعظم من ميلاد المسيح!! ماذا يعني هذا الكلام؟ أيضاً هو رب العالمين؟ إنهم يعنون أن العباد استطاعوا أن يفعلوا ما لم يفعله رب العالمين!! استنساخ النعجة دوللي أعظم من ميلاد المسيح؟!!(144/8)
الكاريكاتير والاستهزاء بالدين
أحدهم يرسم (كاريكاتير) مدرساً وتلميذاً المدرس: قل لي يا ولد: لماذا أخرج الله آدم من الجنة؟ يا أستاذ! لأنه ما دفع الإيجار.
هل هذا الكلام يجوز يا إخواننا؟!! (كاريكاتير) شخص آخر رسم جهنم الحمراء وأناس فيها يرفعون أيديهم يصرخون في جهنم، وشخص في زاوية منها معه مروحة وابتسامة مرسومة على فمه ومكتوب تحت الرسم: بوش.
ما هذا الكلام يا جماعة؟! يُسب الله ورسوله على صفحات الجرائد!! لماذا لا يغضب لله؟! سنوات طويلة يُعتدى باسم حرية الرأي على عرض النبي، نحن نعاني من محنة جسيمة وعظيمة هي السبب في كل ما نراه الآن.
قرأت في ديوان الحماسة لـ أبي تمام مقطوعتين، افتتح أبو تمام الديوان بهما، لو أننا كنا على مستوى هذه الأبيات على الأقل، فأنا ما أظن أن رجلاً على الكرة الأرضية يفكر أن يهين أحداً من المسلمين، المقطوعة الأولى لأحد شعراء بلعنبر، هذا الشاعر كان له إبل وسرقها شخص، فحاول أن يحضر إبله ولم يستطع، فاستنفر قبيلته كلهم ضعفاء، فأنشد يقول متوجعاً: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ (يعني من قبيلة مازن) لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظُلَمِ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا فَلَيْتَ لِي بِهِم قَوْمًا إذَا رَكِبُوا شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبانَا ورع بارد في غير محله، يُضرب!! فيكون رده: الله يسامحك! ويضرب الله يسامحك، ويضرب الله يسامحك!! لا، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما هجاه عمر بن أبي عزة للمرة الثالثة، وعفا عنه قبل ذلك، أخذه فقتله، وقال: (لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين).
وتأتي المقطوعة الثانية لتوضح مثل هذا وهي لأحد الشعراء، كان بينه وبين قوم نوع من الخصومة، وعقدوا صلحاً، وانتهت الحرب، وسيفتحون صفحة جديدة، ويتعاملون مع بعض من جديد، فلما فتحوا صفحة جديدة إذا بالقوم لئام، بدءوا يغدرون مرةً أخرى، فأنشد هذا الشاعر هذه الأبيات قال: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يُرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ ظهر أنهم لئام، وصرح الشر أي: صار واضحاً صريحاً، فلما صرح الشر من قبل هؤلاء، وأمسى وهو عريان.
وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا (رددنا لهم الصاع صاعين) مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ تعرف القربة عندما تكون ملآنة على آخرها، ثم تضغط عليها من جانبها، يفيض الماء سنفعل ماذا؟ وصلنا إلى هذا الحد!! الذي يعمل لنا هكذا سننفجر مباشرة، فهذا معنى كلامه.
وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ ثم قال بيتين يكتبان بماء الذهب: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ يُضرب الله يسامحك، يُضرب الله يسامحك، لا، هذا ليس حلماً، هذا إذعان هذا ضعف فهذا عندما يكون قليل الأدب، ولا يجد مثل هذه القوة، سيظل يضرب باستمرار، فلا تقل: أنا حليم، قل: أنا ضعيف.
وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ قدمت الإحسان مرة ومرتين وعشرة وعشرين وثلاثين ومائة وثلاثمائة ومع ذلك ما زال لئيماً، إذاً ما بقي إلا الشر هو الذي ينجيني؛ لأنني لما قدمت الإحسان ما أنجاني، فالذي فعله اليهود لا يجبره إلا الدم وهذا وإن كان مراً على صدور المسلمين، لكننا نتباشر به، ونرى أن الفتح قريب، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" قال: حدثني بعض الفقهاء ممن حاربوا في الروم، قالوا: كنا نحاصر الحصن شهراً وشهرين وثلاثة إلى أن كدنا نيأس من فتح الحصن، فوقع أهل الحصن في سب النبي صلى الله عليه وسلم ففتحناه بعد ثلاثة أيام، قال: فكنا نتباشر بسبه مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما نسمع، مجرد ما يسبونه نعرف أننا سنفتح الحصن مباشرة؛ لأن الله عز وجل ينتقم لنبيه، ويرد عن نبيه مع أننا سننفجر من الغيظ من الشتم الذي نسمعه، إلا أننا نرى أن هذه بشارة أن سيُفْتح له.(144/9)
الشيخ محمد شاكر يدفع عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم
هنالك قصة حكاها آخر أعيان المحدثين في مصر، الإمام العلَم أبو الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، حكى حكاية حدثت أيام الملك فؤاد، الحكاية تتلخص في إن الملك فؤاد كان يحب أن يصلي خلف أحد الخطباء أصحاب اللسان العالي، كلما يحب أن يصلي في مكان يأتوا بهذا الخطيب كي يخطب، فصادف أن طه حسين رجع من باريس بالدكتوراه، وأرادوا أن يكرموا طه حسين، ف الملك فؤاد وحاشيته استدعوا هذا الخطيب على اعتبار أنهم سيكرمون الدكتور طه حسين، صعد الخطيب يخطب، فأراد أن يمدح الملك فؤاد فقال: ما عبس ولا تولى لما جاءه الأعمى.
فيكون الملك فؤاد رجل كريم ورسول الله يكون ماذا؟ لأنه عبس وتولى، لكن الملك فؤاد لا عبس ولا تولى.
الشيخ محمد شاكر رحمه الله وكيل الجامع الأزهر، كان يصلي: فلما سمع الكلمة، وأنهى الرجل الخطبة صلوا الجمعة، قام الشيخ محمد شاكر، وقال: أيها الناس! أعيدوا الصلاة ظهراً، فإن الخطيب كفر، مع قطع النظر في البحث هل هو كافر أم غير كافر، لكن الشيخ محمد شاكر رحمه الله قال هذه الكلمة وانطلق إلى قصر عابدين، وذهب إلى الملك فؤاد ورفع له مذكرة يقول له: صل الظهر بدلاً عن جمعتك بسبب أن الخطيب كفر.
الرجل خطيب والملك يأتي به حتى يخطب أمامه، يكون رجلاً معروفاً لكل المحامين في البلد، ومستشاري المحاكم، فجماعة المحامين المستشارين أغروه، قالوا له: كيف يحرجك أمام الجماهير بهذا الكلام؟ ارفع عليه قضية ونحن وراءك.
الشيخ محمد شاكر قبل هذا التحدي ورفع قضية هو الآخر وقال: ليس بيني وبين هذا الخطيب شيء؛ لكنني أريد الإجابة عن سؤال واحد، أهذا الذي قاله الخطيب تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وأنا لن أحتكم إلى علماء الأزهر، برغم أن البلاغة والبيان والنحو والإعراب والصرف والكلام، هذا كله اختصاصهم، لكن أنا لن أستعين بواحد من هؤلاء حتى لا تقولوا حابوه وجاملوه، أنا أريد مستشرقين يكفرون بالله العظيم، ودرسوا اللغة العربية لأسألهم هذا
السؤال
هذا الذي قاله الخطيب تعريض بالجلال النبوي أم لا؟ الشيخ محمد شاكر رحمه الله واصل رفع القضية، فلما علم هذا الخطيب ومعاونوه أن القضية خاسرة تنازلوا عنها، الشيخ أحمد شاكر رحمه الله يقول: فدخلت بعض المساجد لأصلي فرأيت ذلك الخطيب فراشاً يتلقى نعال المصلين في هذا المسجد.
إن الله عز وجل يغار لنبيه، ولا يقع في النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ إلا خُذِل، لكن ما هو رد فعل الجماهير على هذه الإهانات المتلاحقة؟! سأذكر لكم مثلاً نحن نعامل النبي عليه الصلاة والسلام، ونعامل دين الله عز وجل بالجملة كمعاملة الناس بالشارع والبيوت تصعد العمارة تدخل الشقق تجدها آية في الزخرفة والنظافة والرائحة الجيدة، وأنت خارج ترى الرجل يفتح النافذة يرمي القمامة ثم يغلق النافذة، لماذا؟ الشارع ليس لي؟ أنا لا أعامل الشارع معاملة منزلي.
!! فيرمي القمامة ويغلق النافذة خشية الذباب، كل واحد يظن أن هذا الدين إنما هو دين الدعاة إلى الله عز وجل، الدفاع عن الإسلام هو دفاع الدعاة فقط، ويظن أنه رجل عامي لا يناط به شيء، وهذا أحد أسباب الوهن التي دبت إلى جسد الأمة.(144/10)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم علاج لكل أمراض المجتمع
صدق محبة النبي عليه الصلاة والسلام هو العلاج الوحيد لكل الأمراض التي نعانيها الآن، إذا صدقت محبتك لا بد أن تنتقم لحبيبك، أولادنا حين تدخل بيت كثير من المسلمين زائراً صاحب البيت ينادي: تعال يا بني (ابنه الصغير) قل لعمك (الزائر) عندما تكبر ماذا تريد أن تكون؟ أريد أن أكون دكتوراً يا عم أريد أن أكون مهندساً أريد أن أكون صيدلياً من الذي علم الولد؟ من الذي لقنه؟ أبوه لا يوجد ولد يقول: أنا أريد أن أكون شيخاً أو عالماً لماذا؟ ديننا كدولة شاسعة الأطراف عظيمة الساحل، تخيل دولة مثل مصر مثلاً: سواحلها المائية واسعة تخيل أنه لا يوجد حرس حدود على هذه السواحل فما المتصوَّر؟ يدخل كل اللصوص.
ديننا هكذا أين حرس الحدود عندنا؟ لو أنني قلت -والقاهرة مثلاً ستة عشر مليوناً- لو أني قلت لكل واحد في هذا المسجد: عُدّ لي من تعتقد أنه عالم في القاهرة، ولن أناقشك في صفات العالم ولا ما هو مذهبه، إذا وصلت إلى عشرة فأنت بطل، ولا أقول لك عشرة فقط، لكن أقول لك أنت: عُدَّ لي من تعتقد في هذا البلد أنه عالم تقول فيه: هو حجةٌ بيني وبين ربي إذا لقيته، أأتمنه على الفتيا وعلى الاستشارة، لن تصل إلى عشرة.
ما معنى هذا الكلام؟ كوادرنا ضعيفة جداً وقليلة، لماذا؟ العلماء هم الجهاز المناعي للأمة المسلمة، مرض الإيدز يعتبرون أنه أفتك الأمراض إلى قبل عدة شهور أو سنة ونصف في مصر مثلاً: دخل مرض جديد آخر الإيدز أصبح أقل خطراً بجانب المرض الجديد، المرض عبارة فيروس إذا أصاب الكبد يتحول إلى ماء اسمه فيروس آكل اللحوم، ظهر في جنوب أفريقيا، حيث أن هناك قوم يستحلون أكل الأطفال، سواء أكانوا يطبخونهم أو يشوونهم، هؤلاء أصيبوا بهذا الفيروس، إذا أصاب اللحم تجد يتوسع في اللحم حتى ينخر في العظم، وإذا أصاب الكبد مثلاً يتحول إلى سائل! وإذا أصاب الطحال يتحول إلى سائل وإذا أصاب الكلية يتحول إلى سائل، لكن مرض الإيدز أفتك الأمراض وأخطرها على المستوى العام حتى الآن وقالوا: إنه يصيب الجهاز المناعي.
إذاً أي مرض يصيب الجهاز المناعي يعتبر من أخطر الأمراض، العلماء والدعاة إلى الله عز وجل هم الجهاز المناعي لهذه الأمة هم كرات الدم البيضاء التي تدافع عن جسد الأمة، لماذا قلّت كوادرنا (علماؤنا)؟ لأننا لا نعامل الإسلام كقضية، سببه أن كل واحد يعتقد أن المسئولية على أكتاف غيره، والسبب في ذلك قلة المحبة، أتعرف لو أنك أحببت النبي صلى الله عليه وسلم بصدق لن تجد الذي تخاف منه الآن مع عدم المحبة، وسأذكر لك حكاية أوضح بها هذا المعنى: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، عندما دخل القلعة في آخر مرة ومات فيها رحمه الله، لما أدخلوه وأغلقوا الباب التفت إلى الباب فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
ما معنى هذا؟ شيخ الإسلام كان مما من يميِّزه أنه سريع انتزاع الأدلة الدالة على ما يريد، لأن القرآن بين عينيه، أي شخص دخل السجن فإن الناس يتصورون أنه سيلقى الأمرَّين وسيذوق العذاب أليم!! ويقولون: يا ترى كيف يعيش؟ رغم أنه قد يكون أصفى نفساً في الباطن منك في الظاهر، أنت الذي تتعب! أنت الذي تذهب إليه للزيارة وتشوي له الدجاج، وتأخذها على أكتافك وتتجرع الشمس المحرقة! وتسافر اليومين والثلاثة الأيام، وهو يأتيه الأكل جاهزاً، ويحفظ القرآن، ويقوم الليل، وليس بينه وبين الناس خصومات بسبب المال والأكل والشرب والمعيشة.
إذا كنت صادق المحبة ستجد أن قلبك صار برداً وسلاماً، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45] فئة: يعني في الحرب {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45] فبمجرد أن تذكر الله عز وجل يستحيل خوفك إلى أمْن، وهذا المعنى موجود أيضاً عند الناس يقول عنترة: ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئرٍ في لبان الأدهم فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم ما هذا؟ حر وكر وفر! ورقاب تطير! والسيف يلمع في الشمس وإذا به يذكره ببسمتها، ولا زال المحبون يستمدون القوة بذكر من يحبون في مواطن الحرب.
إذاً العلاج هو صدق المحبة!.(144/11)
مظاهر محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم(144/12)
حب أبي أيوب الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم
وهذا حديث رواه مسلم كلما تأملت فيه شعرت بسخونةٍ في عيني.
نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب، فقال له أبو أيوب -وكانت الدار تتألف من طابقين-: (يا رسول الله! اصعد إلى فوق)، قال: (السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي) يعني أصحابي كثر، فإذا كنت في الدور الثاني ما من رجل يريد أن يصعد إلي إلا آذى من أسفل البيت، فلا داعي، فصعد أبو أيوب في الدور العلوي، والنبي عليه الصلاة والسلام أسفل الدار.
في معجم الطبراني يقول أبو أيوب في هذا الحديث: (وانكسر لنا حُب)، وهو الجرة العظيمة، (فجففته بلحافي أنا وامرأتي والله ما لنا غيره، خشية أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء، قال: فنزلت، قال: وبينما أنا أمشي بالليل إذ فزعت، وقلت: أأنا أمشي على سقيفةٍ تحتها رسول الله؟)، أرجلي الآن فوق رأسه؟ هذا سوء أدب، (قال: فانجمعت أنا وامرأتي) جلسوا في زاوية إلى الصبح، فلما أصبح (قال: فنزلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها، اصعد إلى فوق، فصعد، قال: (وكنت أُرسل إليه الطعام، قال: فكان يأكل، فلا آكل آنا وامرأتي حتى يأكل الطعام من عنده، فنتحرى مواضع فمه ويده)، فيتتبعانها ويأكلان منها، (قال: فأرسلت إليه ذات يومٍ ثوماً أو قال: بصلاً، فلم يأكل منه، ففزعت) لاحظ لفظة (فزعت) التي كررها مرتين (ففزعت وصعدت إليه فقلت: (يا رسول الله! لم تأكل من الثوم أو البصل أحرامٌ هو؟ قال: لا، ولكني أناجي من لا تناجي) لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم الجواب صريح وواضح، أحرامٌ هو؟ قال: لا ولكني أناجي من لا تناجي، فقال أبو أيوب المحب: (لا جرم، أكره الذي تكره)، وإن كان مباحاً، لكن أنت تكره، أنا أكرهه، فهذا هو المحب.
هذا هو المحب قاعدة الولاء والبراء: (حبيب حبيبي حبيبي وعدو حبيبي عدوي).
إذا رأيت صاحبك يمشي مع عدوك فمحبته كاذبة، إذا اعتقدت النقص في حبيبك فمحبتك ناقصة، لا تتم محبتك إلا إذا اعتقدت الكمال فيمن تحب، ولا تلصق نقيصة به، وكلما عُظُم تصوّرك اكتمل حبُّك.(144/13)
المحبة الصادقة في صلح الحديبية
جاء في الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه وهو حديث طويل في صلح الحديبية، في هذا الحديث: أن عروة بن مسعود الثقفي وكان إذ ذاك كافراً قال لقريش: (ألستُ منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى.
قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى، قال: هل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: فدعوني آته وقد عرض عليكم خطة رشد) يعني: يذهب ليفاوض النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه أمين في المفاوضات، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولما دخل عليه رأى أصحابه وقد عضهم الفقر بنابه فقراء مساكين، لا يظهر عليهم ما يظهر على أهل الترف، فاخترقهم ببصره واحتقرهم -فيما بينه وبين نفسه- ثم قال: (يا محمد! والله ما أرى حولك إلا أوباشاً) وفي الرواية الثانية: (أوشاباً) وهي بنفس المعنى، يعني: لا يردون البصر، ولا يملئون العين (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك)، أي: ستواجه قريشاً بالقليل هؤلاء، والمعنى أن لا تطمع أن تدخل مع قريش في حرب؛ لأنهم بمجرد أن تقوم الحرب سيفرون كلهم فلا تتكل عليهم (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك)، فقال أبو بكر: (أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات)، فسب آلهتهم وعابها، فقال عروة مغضباً: من هذا المتكلم؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه ابن أبي قحافة) أبو بكر، فقال له وكان كافراً: (لولا أن لك عليّ يداً لأجبتك)، الوفاء لولا أن لك علي يداً؛ لكنت رددت عليك، وقد سب أبو بكر آلهتهم يعني لا يوجد شيء معظّم بعد الإله، سَبَّ أحسن شيء عندهم، ومع ذلك رده الإحسان والوفاء أن يرد عليه.
وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور في هذا الحديث قال: (ولكن هذه بتلك) بمعنى: أنك استوفيت يدك السابقة علي بهذه السبَّة، فلو قلت شيئاً آخر سأرد عليك، (أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات).
بدأ يحصل نوع من المراقبة التي نسميها في العصر الحاضر: الجاسوسية، هو ذهب وعينه (كالكاميرا) المسجلة يرصد كل شيء حتى يخبر قريشاً، وكان من عادة الأقران في العرب أن الشخص إذا كلم أخاه يمس لحيته ويتكلم لكنه يُستقبح مع أهل الفضل إذا كان الرجل مُسِناً فلا تكرر أن تمسك بلحيته كلما أردت.
فأخذ عروة بن مسعود الثقفي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك بلحيته، فكان هناك رجل واقف خلف النبي صلى الله عليه وسلم ورد في بعض الروايات خارج البخاري أنه كان ملثماً معه سيف، وبمجرد أن يمد عروة يده يضربه بنعل سيفه ينظر إليه، لا يعرف من هو؟ ثم يتكلم وينسى أيضاً ويضع يده على لحيته، فيضربه بنعل سيفه على يده مرة أخرى، فعبد أن ضربه مرتين أو ثلاثاً، قال عروة: (من هذا الذي أزعجني؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة)، فقال: عروة بن مسعود: (أي غُدَر)، يعني: يا أيها الغادر! (لا زلت أسعى في غدرتك) وكان المغيرة بن شعبة قد صحب ثلاثة عشر نفراً في الجاهلية وشربوا الخمر، فقام عليهم وذبحهم جميعهم، وأخذ مالهم وهرب بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء وقال: أنا أسلمت، وهذا المال فقال عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء) يا سلام على هذا الوفاء وعلى هذا النبي الكريم الجليل!.
وحذيفة بن اليمان لم يحارب في وقعة بدر لا هو ولا أبوه، وكانوا موجودين لماذا؟ لما خرج حذيفة هو وأبوه هاربين أمسكهم المشركون، وقالوا لهما: أين تتجهان؟ فقالا: إلى المدينة.
فقالوا: لن ندعكم حتى تعطونا العهد والميثاق ألا تقاتلونا.
قالوا: لن نقاتلكم، فتركوهم، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أعطيناهم العهد أن لا نقاتلهم، فقال: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).
انظر إلى أفضل من مشى على الأرض بقدميه عليه الصلاة والسلام، قال: (هذا ابن أخيك) فلما رجع المغيرة بن شعبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمال قال: (لست منه في شيء).
وقال -كما في مسند أحمد-: (وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟) لما أسلمت.
ثم جاء المشهد الآتي، دخلت صلاة الظهر والرسول عليه الصلاة والسلام يتوضأ، وبينما هو يتوضأ ويغسل يده وإذا بالصحابة يتسابقون على وضوئه، ما سقطت قطرة ماءٍ على الأرض، يتنخم النخامة والكل يتسابق إليها، وسعيد الحظ من تكون النخامة من نصيبه: (فما وقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه، ولا يرفعون صوتهم عنده، ويبتدرون أمره)، مجرد أن يقول: اعملوا؛ تجدهم يسرعون في المبادرة مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينهى عن تعظيمه بأقل من ذلك، وأن يقوموا له.
فلماذا تركهم يفعلون ذلك؟ النبي عليه الصلاة والسلام تنخم نخامة يأخذها أحدهم بيده، مع أن النخامة كلنا نتأفف منها، ويقتتلون على وضوئه؛ لأن هذه رسالة يريد من عروة بن مسعود أن يوصلها لقريش أنهم ليسوا أوباشاً، هؤلاء رجال، فتركهم يفعلون ذلك، لأن هذا عين وجاسوس جاء ليراقب، ومن بداية دخوله يستعرض قوته ويقول: (ما أرى حولك إلا أوباشاً) ثم انظر إلى التقرير الذي رفعه عروة بن مسعود الثقفي لقريش! في البداية دخل على المسلمين منتفخاً ثم رجع وقال لقريش: (يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت أصحاب ملكٍ يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمدٍ محمداً.
إنه ما توضأ إلا اقتتلوا على وضوئه، ولا تنخم نخامة فوقعت في يدر رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يُحدون النظر إليه تعظيماً له، ويبتدرون أمره، وقد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها) أي: خذوها فما لكم حيلة ولا طاقة بهؤلاء.
هذا هو الحب والاتباع!.(144/14)
عمرو بن العاص وإجلاله للمصطفى صلى الله عليه وسلم
جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فجعل ابنه عبد الله يقول له: يا أبت! أما بشرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟! فالتفت إلينا عمرو ثم قال: لقد رأيتني على أطباقٍ ثلاث -أي: مررت في حياتي بثلاث مراحل- لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن مت على هذا الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمتُ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فبسطت يدي، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال: عمرو: فو الله ما كان أحدٌ أحبّ إلي قطٌ منه، ولئن سُئِلتُ أن أصفه لكم لما أطقت ذلك؛ لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له)، ما أستطيع أن أملأ عيني منه، ولا أن أسلط بصري عليه، عندما يكون المرء هائماً محباً لا يستطيع أن يسلط بصره على من يحب على الإطلاق أبداً، رغم أنه صحابي جليل، وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً إلاّ أنك لو قلت له: صفه لي، يقول: لا أستطيع، لماذا؟ ما كنت أستطيع أن أنظر إليه من شدة الحياء (فلئن مت على هذا الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة)، الطبق الأول: قطع فيه أنه يكون من أهل النار، ولما تأدب بأدب الإسلام، قال: لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ولم يقطع ولم يقل: لكنت من أهل الجنة، (ثم ولينا أشياء كان فيها ما كان) إلى آخر الحديث.(144/15)
جابر بن عبد الله ومحبته الصادقة لنبيه صلى الله عليه وسلم
الصحابة رضي الله عنهم حققوا هذا الركن وتمموه، انظر إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه -كما في الصحيحين- يقول وهم يحفرون الخندق: (ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقا) ما أكلوا شيئاً يقيم أصلابهم، قال: (فاعترضتنا كدية عظيمة) صخرة عظيمة (لا تعمل فيها المعاول) يكسِّرونها ولا تتكسر، قال: (فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فقلت له: يا رسول الله! صخرةٌ عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام أعرف فيه الجوع)، شخص يقوم على الأرض جوعان فبالكاد يقوم، (ثم أمسك المعول وقال: باسم الله.
فضربها فصارت كثيباً أهيم) صارت رملاً، (فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب إلى البيت، فأذن لي فقلت لامرأتي: لقد رأيت الآن شيئاً ما لي عليه صبر، رأيت الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فهل عندك شيء؟)، أنا أرجو أن تستحضر أن جابر بن عبد الله جائع هو كذلك! لكن ذهب جوعه لمّا رأى الجوع في وجه حبيبه قالت: (نعم عندي صاع من شعير وعناق.
قال: اعجني، واذبحي العناق، فقالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) يعني: لا تحضر الصحابة كلهم، لأن الأكل لا يكفي، لا يوجد طعام كثير فلا تفضحني، (ولكن اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسرَّ إليه) قل له: تعال أنت وبعض أصحابك، (قال: فذهبت إليه فساررته) أنه يوجد كذا وكذا، (قال: فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصيح (يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سورا (أي: طعاماً) فحي هلا بكم!) قال: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، قال: (هل خبزتم؟ قلت: لا.
هل وضعتم اللحم على النار؟ قلت: لا.
قال: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء -أي: لا تخبزوا حتى أجيء- ولا تضع البرمة على النار حتى أجيء، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أهل الخندق فقال: أين عجينكم؟ جاءوا به فبصق فيه وبارك، أين لحمكم؟ فجاءوا به فبصق فيه وبارك، قال جابر: أقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه وكانوا ألف رجل، وإن اللحم كما هو وإن العجين كما هو) هذه هي المحبة.(144/16)
إبراهيم عليه السلام وشدة محبته لله عز وجل
جاء في قصة إبراهيم عليها السلام في سورة الأنعام دليلٌ حي على ذلك: قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] * {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] وأنا أريد من إخواني المسلمين أن يتأسوا بقضية إبراهيم عليه السلام، وأنه مشغول في قضية معينة، والمشغول لا ينام، إنه يبحث عن مثال لإلهه الذي يعبده، مستيقظ طوال الليل لا يستطيع أن ينام؛ لأن هذه القضية شغلته: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} انظر إلى التعبير هذا كأن ليس في الكون غيره، ولم يلف الظلام أحداً في الكون غيره، هو المستيقظ، وكلمة (جنّ) أي: وصل إلى أعمق الليل، (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] كلمة (جَنّ) تبين لك الصورة، جنّ: يعني كبد الليل، الليل مظلم مائة بالمائة فتخيل كوكباً مضيئاً في ظلامٍ دامس، يلتفت يمنةً ويسرة لا يرى في الدنيا إلا هذا الكوكب، فأجمل شيء في الدنيا هو هذا الكوكب؛ لذلك قال: هذا ربي، ربي جميل ربي كامل ربي لا يعتريه نقص، فأجمل شيء في هذه الدنيا هو هذه النقطة المضيئة فيكون هو إله!! يناسب أن يكون إلهاً: {رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] لماذا؟ لأنه أجمل شيء في الكون.
من عبودية القهر على كل الناس أنهم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ينسبون الجمال إلى الله، الكل إذا رأى شيئاً جميلاً قال: الله، الكل كافر، مسلم، يهودي، نصراني، مجوسي، مجرد أن يرى شيئاً وجميلاً يقول: الله، فينسبون الجمال إلى الله رغم أنوفهم.
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] لماذا؟ لأن إلهي لا يغيب عني، مبتهجاً به دائماً، فكيف يغيب هذا؟ لا يصلح أن يكون مثلاً لإلهي الذي أعبده وأجده في نفسي، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} وكملة (بازعاً) تدل على شدة الوضوح، فهو أكبر من الكوكب صورةً في مرأى العين، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] * {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} هذا هو لماذا؟ لأنه مضيء أفضل من الكوكب والنجم وأيضاً أكبر منهما، يبحث عن صفات الكمال والجلال: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] * {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].
إذاً رائد إبراهيم عليه السلام كان الحب، والحب مركبٌ لا يضل راكبه، العبادة بالحب تقبل ولو بالقليل، ولله در الراجز الذي قال: (وإن من البيان لسحرا).
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول يمشي على مهل، ويصل الأول!! كيف هذا؟ عبادة المحب بخلاف عبادة الموظف، الموظف الذي يأتي حتى يوقِّع اسمه في الحاضرين أنه حضر فصلى العصر وصلى الظهر!! لا، يقف الرجلان القدم بالقدم، والكتف بالكتف، وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! فمعنى لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله أن تعتقد المشاهدة ولا تتم لك هذه المشاهدة إلا بالحب الذي من ثمرته التعلق.
فمحبة النبي عليه الصلاة والسلام واجبة، والمحبة هي ليست محبة الطبع، إنما هي محبة الاتباع والتقدير والتعظيم وإلاّ فأنت قد تحب ولدك حب طبع أكثر.
المحبة المقصودة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] هي مَحبة الإتباع، وأن لا تُقَدِّم قول أحدٍ على قول النبي صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.(144/17)
حاجتنا إلى العلماء العاملين
الإمام العَلَم الذي ربته امرأة، ولله در النساء: ولو كان النساء كمثل هذي لفُضِّلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخرٌ للهلال ثلاثة أئمة ملئوا الدنيا علماً وشهرة، ربّتهم أمهاتهم، وصدق فيهم قول القائل: وراء كل رجلٍ عظيم أم، ولا تقل: وراء كل رجل عظيم امرأة أبداً، ولكن قل: وراء كل رجلٍ عظيم أُم.
ثلاثة أئمة معروفون لديكم -وهناك أئمة آخرون ربتهم أمهاتهم- الإمام البخاري، والإمام الشافعي، والإمام العلم وهو سفيان بن سعيد الثوري، الإمام الكبير نحن نتدين بمحبة سفيان وأمثاله من العلماء الربانيين كـ سفيان الذي يقول: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل).
إذا أردت أن تحك رأسك حبذا يكون معك دليل، لكن يكون صحيحاً.
لاحظ الحض على اتباع السنة: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل)، ثم قال: (الحديث دَرَج والرأي مَرَج، فإذا كنت على الدَّرَج؛ احذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، وإذا كنت في المرج فسر حيث شئت).
كلام من ذهب! اتباع السنة كالدّرَج، وأنت تمشي على الدرج كن على حذر؛ لأنه لو فلتت رجلُك ستقع على رأسك مباشرةً، فعندما تنزل على الدّرج كن منتبهاً، إنما لو كنت تمشي في الصحراء اغمض عينيك وامش، فأينما تمشي فستجد مكاناً ماذا يقصد بهذا الكلام؟ يقول: إن من اتبع رأيه وهواه كأنما يمشي في مَرَج وفي سهولٍ واسعة، أي: فكأنك في مَرَج فسر حيث شئت، طالما أنك غير محكوم.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا سجن المؤمن) ما معنى سجن المؤمن؟ مسجون بالأوامر والنواهي، كالذي يدخل السجن بين الأوامر والنواهي الذي سُجن يفهم هذا الحديث جيداً، نريد أكل؟ ممنوع، نريد ماء ولنا مال في الأمانات ممنوع، أدخلوا لنا حلاوة، ممنوع، نريد أن نشم هواء ممنوع، كل شيء في السجن ممنوع!! فأنت كل ما تشتهيه تستطيع أن تفعله، ترغب أن تكون غنياً وممنوع من أن تضع مالك في البنوك، ترغب في أن تفرِّغ شهوتك وممنوع من الزنا، ترغب أن تفعل كذا وكذا وممنوع أن تفعل كذا وكذا فأنت مسجون أم لا؟ مسجون، الذي ترغب فيه لا تستطيع عمله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (لم يستوف مؤمنٌ غضبه في الدنيا أبداً)، لا يستطيع أن يستوفيه يُظلم فيقول: أنا سوف أؤجل المحاكمة إلى يوم القيامة، فيكون مغتاظاً يريد أن يرد الصاع صاعين ولا يستطيع أن يستوفي غضبه أبداً، لماذا؟ لأجل يوم القيامة، محاكم الأرض فيها ملايين القضايا، وكثير من الناس أجلت مظالمهم إلى يوم القيامة، لو كل واحد ضُرب ضربةً واحدة وذهب إلى المحكمة أو ذهب إلى الشرطة، ما كانوا يرون النوم.
فالإيمان بيوم القيامة أسقط ملايين القضايا عن المحاكم، وكثير من الناس أجلوا المظالم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن) يعني: ليس كل ما تريده تفعله، مسجون.
والسجن هذا هو الدرج (فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك) ولله تبارك وتعالى في كل شيء في الدنيا حكم علمتها أو جهلتها؛ فقبل أن تقدم على أي قضية من القضايا ارفع -يا أخي- سماعة الهاتف واسأل العالم، سؤال العالم مجاناً؟ أتمنى أن يجد هذا الكلام صدى عند التجار الكبار والصغار، أيها التاجر! لك مستشار قانوني يأخذ مقابلاً مالياً وله نسبة، ولك محام يدافع عنك، وتعطيه راتباً مالياً طوال العام، وتعطيه حوافز مالية، فهل عندك مفت مجاناً؟ لن تدفع له راتباً مثل المستشار القانوني أو المحامي، ترفع سماعة الهاتف وتقول له: أنا أريد أن أعقد الصفقة الفلانية، هل هذا مشروعٌ أم لا؟ هل هذا حرام أم لا؟ لا يكلفك شيئاً.
نحن دولة مستهلكة مثل سائر العرب! أصحاب المصانع هم المتحكمون في البيوع، والأصل في البيوع الحل؛ لكن هؤلاء الذين يريدون أن يحققوا أعلى نسبة أرباح، ويريدون أن يضمنوا بضائعهم والأموال، قد يضعون شرطاً لا يحل في دينك، وحرامٌ عليك أن تفعله، هو كافر لا يهمه يهمه أن يضمن ماله ويكسب، أنت كرجل مستهلك تذهب فتقول: أنا أريد البضاعة الفلانية فيقول لك: أنا شرطي كذا وكذا وهذا رجل كافر لا يحكمه دين، وأنت عندما تحتاج البضاعة تعقد معه الصفقة وترتكب الحرام؛ لأن الذي وضع شروط الصفقة هو الرجل المصنِّع.
فالعالم مهم جداً جداً في هذا الزمن، لا أقول: للتجار فقط، بل للكل، فلو أن شخصاً عنده مرض قلب أو تصلُّب في الشرايين أو ذبحة صدرية أو ضغط دم أو ضيق في الصمام، أو أي مرض، فإنه يذهب إلى أي طبيب من أمراض القلب والدم، ويكون معه في حوار ساخن باستمرار: يا دكتور! أنا أحسست بكذا، هل هذا له علاقة بالشريان التاجي؟ هل له علاقة بالذبحة؟ يقول له: لا، أو يقول له: نعم، أو يقول له: لا تفعل وهكذا، مرة أخرى، وفي كل هذا يمتثل!.
فهل لما قسا قلبك أكان لك مستشار لأمراض القلب وضغط الهم؟ بمجرد أن تشعر بقسوة قلبك تتّصل به وتقول له: أنا أشعر بقسوة أقرأ القرآن ولا يهتز قلبي ولا يذرف دمعي، كم نحن مقصرون! الاستشارة مجانية، وأي واحد يرفع سماعة الهاتف ويتصل بعالم من العلماء ويطلب أجرة فليتقدم بشكوى فيه، وتجد العالم يفرغ من صدره ووقته، وأنت رجل تاجر والساعة عندك تساوي المال، وهو أيضاً ساعته أغلى من المال، لكنه كتب على نفسه: وقف للمسلمين.
فأوقف عمره وحياته لك، ومع ذلك لا ترفع له رأساً ونبذته نبذ النواة، ولم تستشره، لا في صفقة تجارية، أهذا حلال أم حرام؟ ولم تستشره حتى عند قسوة قلبك!.
روى أبو سعيد في تاريخ الرقة، عن عمرو بن ميمون قال: انطلقت مع أبي ميمون بن مهران إلى الحسن البصري، قال ميمون: يا بني! خذ بيدي إلى الحسن، فذهبوا إلى الحسن البصري وطرقوا الباب، فخرجت الجارية، فقالت: مَن؟ قال: ميمون بن مهران، فقالت الجارية: يا شيخ السوء! ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى ميمون -وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز - بكى حتى علا نحيبه، فخرج الحسن البصري، فلما رآه اعتنقه، فقال ميمون: (يا أبا سعيد! آنست من قلبي غلظة، فاستلن لي) أي: قل لي شيئاً يلينه.
(أفأصوم له يا أبا سعيد؟)، يعني: أَيلين قلبي لو صمت؟ فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
هناك خُلُق خلقه الله عز وجل فينا، وهو خُلُق التأسي، إذا أُصِبتَ بمصيبة وترى غيرك أُصِيب بمصيبة تخف المصيبة عليك.
من رأى مصيبة غيره هانت مصيبته عليه، كما تقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فعندما تكون هناك مصيبة عامة طاعون مثلاً، وكل بيت فيه فرد ميت، تجد أن المصيبة تخف عليك من كثرة الموت، لكن عندما تكون وحدك المصيبة تكبُر عليك.
وربنا عز وجل -في هذا الخلق أي: خلق التأسي- قال لنا: لا تظنن إذا دخلت النار فرأيت ملايين الخلق يصرخون من النار أن هذا يخِف عليك؛ لا، هذا فقط كان في الدنيا، قال تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] لا يعني أنكم مشتركون في العذاب أن ذلك يخفف عليك حين تراه يصرُخ بجانبك، لا.
فانظر إلى الآيات سنين متعة، سنين قليل، {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:206] الموت أو العذاب: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].
كل حيّ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها الساكر قل لي أين ذاك الجبروت ليت شعري أهمود ما أراه أم قنوت أين أملاكٌ لهم في كل أفق ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك البيوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القول ولا حيٌ يقوت عُمِرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت إنما الدنيا خيال باطل سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت فأنت انظر ما مكان الدين في نفسك، ولا تخطون بقدمك خطوة إلا إذا سألت أهل العلم أيحل لي أن أخطو أم لا؟ فإذا قالوا لك: لا يحل، فقف.
الإمام البخاري رحمه الله، ذكر في ترجمة أبيه شيئاً واحداً تعجبون له، لما ذكر والده قال: (رأى حماد بن زيد) رآه بعينيه هذه منقبة كبيرة جداً، لو وجد لأبيه منقبةً أعلى من هذه لذكرها، لكن يا لِحظه!! رأى حماد بن زيد بعينيه!! وليس هذا فقط، قال: وصافح ابن المبارك بكلتا يديه) والدته دعت له، يسلم على ابن المبارك بيديه الاثنتين، هذه هي المنقبة الخاصة بوالد الإمام البخاري.
وابنه يريد أن يذكر له منقبة محترمة، فيذكر هذه المنقبة: (رأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه)، فمن تمام محبتك أن لا تخطو خطوةً إلى الأمام مهما قلت ودقت وكانت صغيرة في نظرك إلا وتسأل أهل العلم: ما حكم الله فيها؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها؟! فإذا فعلت ذلك كان ترجمةً صادقة لمحبتك، فالبدار البدار قبل الفوات! والعودة العود إلى حظيرة السنة!.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يقبضنا وإياكم على التوحيد الخالص، اللهم ارزقنا حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(144/18)
الأسئلة(144/19)
نصيحة عامة لطلبة الجامعة والمدارس
السؤال
نريد من فضيلة الشيخ أن يوجه نصيحة لطلبة الجامعات والمدارس وهم على الأبواب؟
الجواب
إخواننا في الجامعة على وجه الخصوص أقول لهم: كونوا كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عندما سمع رجلاً يقول: (والله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ما تركناه يمشي على الأرض) حذيفة سمع هذه الكلمة ما معنى هذا؟ معناه أن الصحابة قصروا في حق النبي عليه الصلاة والسلام وتركوه يمشي على الأرض!!.
فقال حذيفة له: (يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟)، ثم ذكر له موقفاً واحداً، ومن هذا الموقف أدلف إلى نصيحة طلبة وطالبات الجامعة.
قص عليه موقفاً واحداً.
لما كان يوم الأحزاب وكان الجو بارداً شديد البرودة، حتى أن الصحابة كان الواحد منهم يحفر لنفسه حفرة ويدفن نفسه فيها من البرد، وتعرفون الصحابة وجلدهم، وكيف كانوا يتحملون الحرارة في مكة التي تغلي منها الرءوس، وكانت أمورهم وحياتهم على ما يرام ولامشكلة، فتخيل هذا الصبور يحفر لنفسه حفرة لأنه لا يتحمل البرد! وهم في حفرهم في الرمل! فالنبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يرسل عيناً على المشركين فقال: (من يأتيني بخبر القوم وهو معي في الجنة؟) أظن هذا حافزاً يجعلهم كلهم يخرجون من الحفُر!.
ومع هذا لم يقم أحد من حفرته من شدة البرد، فكرر ثلاث مرات: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة؟ -فكأن حذيفة أحس أنه سيقول له: قم فأدخل نفسه في الحفرة أكثر، فقال: (فتقاصرت) -أي: أدخل نفسه في الحفرة أكثر- قال: فقال لي: (قم يا حذيفة)، قال: (ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بد)، قمتُ فقال لي: (ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علينا) -أي: لا تنفرهم أو تهيِّجهم علينا وإنما بهدوء- (ودعا لي؛ فكأنني أمشي في حمام) -ذهب عنه البرد وما يجد من القُر كأنه يمشي في حمام- قال: (فذهبت إليهم فرأيتُ ناراً عظيمةً) -أحدهم عاري الظهر ويصطلي بالنار، أي: يستدفئ- (فعلمتُ أنه أبو سفيان) -وهذه كانت أول مرة يرى فيها أبا سفيان - قال: (فأخذت السهم ووضعته في كبد القوس، وهممت أن أضربه فتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذعرهم علينا).
قال: (ورجعتُ فأخبرته خبر القوم فعاد لي القُر -أي: رجع البرد مرة أخرى بعد أن أدى المهمة، وانتهى مفعول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليَّ من القُر أعطاني عباءته فتدثرت بها، فنمت حتى الصباح، قال: فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: (قم يا نومان).
هذا الحديث يدل على صدق الانتماء إلى الله سبحانه لن تنصر دينك إلا بصدق الانتماء إلى ربك، الجامعات فيها شيء في الدراسات العليا والماجستير والدكتوراه اسمه: الحياد العلمي، وهذا المفهوم في مصطلحنا: هو ترك الانتماء إلى السلف، أي: عندما تنظر في أي قضية؛ اعتبر نفسك مقطوعاً من شجرة، لا تنتمي ولا تستحضر دينك؛ لأنك إذا استحضرت دينك ستنحاز له، وإذا انحزت إلى دينك ينعدم عنك الحياد العلمي الذي نريد أن نربيه فيك.
الحياد العلمي هذا أتانا من الغرب، قال الدكتور طه حسين: ينبغي أن ننظر إلى القرآن على أنه كتابٌ أدبي، لا أنه من عند الله، ويتعرض للنقض وللقواعد النحوية؛ ولذلك العلماء طردوه، ومن جملة العلماء علماء الأزهر، فلما طردوه ذهب وأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس، لا من بلاد العرب أو من الأزهر، طردوه وكفروه بسبب كتاب (الشعر الجاهلي)، وعاد وقال: أنا تبت وأنبت، والأستاذ أنور الجندي نقل في بعض مقالاته أن الدكتور طه حسين سُئل في آخر حياته: أما زلت معتقداً الكلام الذي في كتاب (الشعر الجاهلي)؟ قال: ما تركت منه حرفاً.
معتقد تماماً ما في الشعر الجاهلي الذي كفره العلماء بسببه.
فباسم الحياد العلمي يدخل المرء ناسياً أنه مسلم لماذا؟ يقول لك: لأن الحياد العلمي معناه عدم الانحياز، وإذا انحزت ضاع الحياد.
لا يستطيع رجلٌ ولو كان من عباد الحجر أن يترك انتماءه أبداً أنترك انتماءنا إلى الله ورسوله؟ يا إخوة: هناك قصة تناقلتها المجلات العلمية، أنا أقولها للشباب، لأن الشباب هم أمل الأمة، ورقة بن نوفل يقول فيها: (يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك)، تمنى أن يرجع شباباً ينصره، فلا ينصر الدين إلا الشباب، القصة هذه تناقلتها المجلات العلمية وأنا لا أحتج بها، إنما أذكرها لأستنفر؛ فإن الأسد إذا قيل له: إن الكلب يفعل كذا وكذا يغتاظ أن يُضرب له المثل بالكلب.
فهذه قصة رجل مهندس، غيّر وجه العالم بعلمه، فشباب الجامعة يقول لك: تريد مننا أن نغير الدنيا؟ نعم تغيرها، لماذا لا تغيرها؟ رجل واحد أقرض بعض البلاد العربية بخمسمائة مليار دولار، في حرب الخليج هذه الأموال لو وزعت على المسلمين لكان كل فرد من الأغنياء (مليونيراً)، وما كان هناك فقير على وجه الأرض من المسلمين رجل واحد عمل هكذا؟ نعم رجل واحد يفسد الدنيا، ورجل واحد يصلح العالم، لماذا تقتل المواهب فيك؟ هذا الرجل اسمه، بعد الحرب العالمية الثانية، بعد القنبلة الذرية التي نزلت في هيروشيما في اليابان، وحصل عليها حظر حتى الآن واليابان لا تستطيع تصنيع طائرة عسكرية ولا دبابة ولا مدفع، حتى الآن، أرأيتم في عمركم طائرة حربية من تصنيع اليابان؟ هناك تفتيش كل ستة أشهر على كل مصانع اليابان وكذلك ألمانيا حتى يضمنوا أن هذه البلاد لا تنتج السلاح العسكري، ولكن أطلقوا أيديهم في الصناعات السلمية الثلاجات والغسالات والسيارات وما شابه ذلك، فأوفدت اليابان طلائع، منهم: هذا المهندس.
، الذي ذهب إلى ألمانيا ليأخذ الدكتوراه في علم المحركات، نزل ألمانيا حتى يعود بلقب دكتور، والقطعة التي يصفوها يعطي لها رقماً، ويرسمها على ورقة من أجل إذا جاء يركِّبها دون أن يرتبِك، فك المحرك وركّبه، قال: وشغلته فاشتغل قال: فكاد قلبي أن يتوقف من الفرح، أخذت المسألة منه ثلاثة أيام، قال: فذهبت إلى أستاذي في البعثة وقلت له: إني فعلت كذا وكذا فقال: حسناً، هذا محرك عطلان ابحث عن العطل الذي فيه: أخذ المحرك أيضاً بنفس الطريقة وفكه، اكتشف أن فيه عطلاً مثلاً سلك متآكل، أصلح السلك وشغّله فاشتغل، أخذت المسألة هذه منه عشرة أيام، قال: فذهبت إلى أستاذي وقلت له: إنني وجدت سلكاً فيه كذا وكذا قال: حسناً ينبغي أن تلتحق بمصانع صهر النحاس والحديد والألمنيوم؛ لأنه لا يستقيم لك أن تأخذ قطعة غيارك من خارج بلادك، لازم تصنع قطع غيار بنفسك، قال: (فذهبت إلى أحد هذه المصانع، ولبست الزي الخاص بالعامل، قال: وكنت عاملاً تحت العامل -مع أنني من أسرة ساموراي- أنا رجل صاحب أصل ومن أسرة عريقة؛ لكنني كنت أعمل عاملاً تحت العامل وأطيعه، ثم قال: (وكل شيء يهون لأجل اليابان)، ينتمي إلى تراب وطنه، (كل شيء يهون لأجل اليابان)، ظل في هذا المصنع ثماني سنين، نسي أنه ذاهب ليحضر الدكتوراه، لماذا؟ لأن هناك هم أكبر من ذلك، إن الرجل النكرة إذا انتمى إلى أمةٍ عظيمةٍ كان عزه من عز أمته، وإن الرجل العظيم إذا انتمى إلى أمة نكرة، وطئ بالنعال.
المرأة التي قالت: وامعتصماه! أيعرف أحد اسمها؟! والرجل الذي حمل الصرخة إلى المعتصم أيعرفه أحد؟ لا أحد يعرفه، لكن امرأة عرّاها اليهود وكشفوا عن سوأتها رآها رجلٌ كان في أمةٍ عزيزةٍ عز بعزها، فحملته هذه النخوة والعزة أن يذهب إلى المعتصم ليقول له: حدث كذا وكذا اليهود عروا كثيراً من نساء المسلمين في بيوت الموضة والأزياء، وكُشِفت سوأة امرأةٍ واحدة فجرد المعتصم الجيش العرمرم، ودخل وفتح عمورية بسبب امرأةٍ لا نعرف اسمها ولا نسبها، وربما المعتصم لم يسمع بهذه المرأة قط.
لماذا؟ لأنها كانت تنتمي إلى أمة عزيزة، أمة قوية.
الآن الأمريكي قد يجرح سهواً في أي مكان في العالم، فتقوم الدنيا على قدمٍ وساق، ومائة مسلم أو أكثر يُقتلون في المسجد الأقصى وهم سجود ولا عزاء ولا نداء!!.
دماء المسلمين أرخص دماء في العالم، لا يستطيع مسلم أن يذبح بقرةً في الهند، وإلا قتلوه وأكلوه.
رجل يمني في بلد عربي -وكنت حاضراً هذه الواقعة- تجاوز الإشارة، فلحقت به شرطة الدورية وأحضروه، فأخرج الجنسية اليمنية، فقال له: يمني وتكسر الإشارة أيضاً؟! أي أن اليمني أجرب، هذا معنى الكلام، فاليمني قام بخطف وثيقة الجنسية اليمنية هذه، وأخرج له الجنسية الأمريكية، لأنه عاش في أمريكا، فقال له: يمني وأمريكي!! إن هذا لشيء عجاب! قال أنت تستهزئ بي!! وظهر أن هناك هاتفاً في السيارة، طلَب السفير الأمريكي، فيأتيه السفير ويعتذر قائد دورية الشرطة رغم أنه ليس أمريكي صرف، إنما هو عربي متجنِّس.
إذاً قوة أمتنا بقوة الأفراد، الانتماء إلى هذه الأمة هو المخرج.
الجامعات فيها كثير جداً من الشباب، وأنا ركّزت على مثل هذا لأنه يُتوقع أن طالب الجامعة يحضِّر دراسات عليا، يحضِّر دكتوراه وماجستير، فيفاجأ بكلمة الحياد العلمي، فنكشف هذا المصطلح كشفاً صريحاً.
الحياد العلمي في الجامعات معناه: ترك الانتماء، فعليك بمذهب السلف، مذهب القرن الأول، مذهب الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وهذا القيد هو الذي يميز المنهج الحق عن المناهج المبتدعة والله أعلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا، والحمد لله رب العالمين.(144/20)
جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى
الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما ينفعنا وما يضرنا، لذلك قد يبتلي سبحانه بعض عباده بالخير والبعض الآخر بالشر، وقد ابتلى سبحانه وتعالى أنبياءه واختبرهم، ومن أولئك الأنبياء أيوب عليه السلام، فقد صبر هذا النبي على البلاء، وحمده لله سبحانه على ذلك.(145/1)
الابتلاء سبب في تقوية القلوب
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
إن الله تعالى كتب الابتلاء على كل فرد، فلا ينجو منه أحد، لكن يبتلى كل إنسان ببلاء يخالف بلاء الرجل الآخر، لكن لا يمضي رجل أبداً -سواء من المؤمنين أو الكافرين- إلا وقد ابتلي في الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رسم لأصحابه خطاً مربعاً، ثم مد خطاً من داخل المربع فتجاوز المربع، ثم رسم خطوطاً قصاراً في داخل المربع، وحول هذا الخط الطويل، ثم أشار إلى المربع وقال عليه الصلاة والسلام: (هذا أجل ابن آدم محيط به، ثم أشار إلى الخط الطويل وقال: هذا أمله -أي: أن أمله يحتاج إلى أضعاف عمره- ثم أشار إلى الخطوط القصار حول هذا الخط الطويل وقال: هذه الأعراض إذا نجا من عرض نهشه الآخر).
يعني: أن الإنسان في الدنيا لا ينفك أبداً عن عرض يعرض له وعن فتنة تلابسه.
إن أعظم منافع التعرض للبلاء هو أنه يجعل القلب قوياً؛ لأن القلب إنما يستمد مادة حياته من البلاء؛ ولذلك اختار الله عز وجل البلاء لأوليائه وأنبيائه، ترى هل يترك الله عز وجل أولياءه يتخبطون في الأرض؟! لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ لماذا يخرج نبينا صلى الله عليه وسلم ويختبئ في الغار؟ لماذا يدال على دولة المؤمنين كثيراً وهم أولياء الله عز وجل؟! لأن القلب يستمد حياته من المحن، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف، إما أهل الابتلاء فهم أقوى الناس قلوباً، والعبد يوم القيامة يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
وصعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً إلى شجرة، فنظر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وتضاحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما يضحككم؟ قالوا: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه -وكان ابن مسعود ضعيفاً شديد الضعف، بحيث أن الرياح إذا هبت كانت تكفؤه، فلما صعد إلى الشجرة رأوا دقة ساقيه فتضاحكوا- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)؛ ذلك لأن الله عز وجل يزن العباد يوم القيامة بقلوبهم.(145/2)
أيوب عليه السلام أنموذج في الصبر على الابتلاء
وعندنا نماذج كثيرة من صور المبتلين: أول هؤلاء المبتلين وأشهرهم هو: أيوب عليه السلام، زكاه ربه سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، وقد روى ابن حبان والإمام أحمد في مسنده قصة أيوب على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (لبث أيوب في بلائه ثمانية عشر عاماً، فرفضه القريب والبعيد غير أخوين له، وذات يوم كانا يجلسان عنده، فلما قاما وهما بالانصراف قال أحدهما للآخر: تعلم أن أيوب أصاب ذنباً عظيماً؟ قال: ولم؟ قال: لأن الله ابتلاه منذ ثمانية عشر عاماً ما رفع عنه، قال: فلم يتمالك هذا الرجل الآخر إلا أن رجع إلى أيوب عليه السلام، فرجع إليه وقال له: إن أخي يقول: إنك ارتكبت ذنباً عظيماً، وإلا فلماذا لم يرفع عنك الله البلاء حتى الآن؟ فقال أيوب عليه السلام: أنا لا أعرف شيئاً من ذلك، غير أني كنت إذا سمعت الرجل يحلف، فأخاف أن يحنث فأرجع إلى بيتي فأكفر عنه) هذا هو الذي يذكره أيوب عليه السلام، وهذه هي عادة المؤمنين، يكرهون أن يحنث في اسم الله العظيم، قد يكذب نفسه لكن لا يتحمل أن يحنث في اسم الله، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبصر عيسى عليه السلام رجلاً يسرق، فقال له: أتسرق؟ فقال الرجل: والله ما سرقت، فقال عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت بصري) تكذيب نفسه أهون عنده من أن يحنث في اسم الله العظيم.
وقد ذكر ابن عبد البر -والعهدة عليه في تصحيح هذا الخبر- قال: روينا بأسانيد صحيحة أن عبد الله بن رواحة -وهو شاعر النبي عليه الصلاة والسلام- رأته امرأته يطأ جارية له، فغارت وجاءت بسكين، وقالت له: فعلت وفعلت.
قال: ما فعلت؟ قالت: إن كنت صادقاً فاقرأ شيئاً من القرآن.
فأنشد عبد الله بن رواحة -والمرأة ما كانت تحفظ القرآن-: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرين وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمين وتحمله ملائكة غلاظ ملائكة الإله مسومين فألقت المرأة بالسكين وقالت المرأة: آمنت بالله وكذبت بصري.
هكذا فإن العبد المؤمن يكره أن يحنث في اسم الله العظيم، يكذب نفسه ويكذب عينه ويكره أن يحنث في اسم الله.
كذلك فعل أيوب عليه السلام قال: كنت أسمع الرجل يحلف فأكره أن يحنث في اسم الله، فكان يرجع إلى بيته فيكفر عنه، ثم إن الله تبارك وتعالى امتن على أيوب عليه السلام فقال له تبارك وتعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فامرأته رجعت إليه فوجدت رجلاً صحيحاً معافىً، فقالت له: أي بارك الله فيك! أما رأيت نبي الله أيوب ذاك الرجل المبتلى؟ قال: هو أنا.
وهكذا فإن الله تبارك وتعالى منَّ عليه وملأ خزائنه ورضي عنه.
وفي الصحيحين: (أن أيوب عليه السلام كان يغتسل عرياناً، فجاء فخذ جراد من ذهب فجعل يحثو في ثوبه، فقال الله عز وجل له: يا أيوب! أو لم أكن أغنيتك؟ قال: يا رب! لا غنى لي عن بركتك).
فكان أيوب عليه السلام سيد الصابرين، وضرب الله عز وجل به المثل في القرآن كثيراً، قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا).(145/3)
سلامة قلب أيوب عليه السلام عند الابتلاء
إن المهم بالنسبة للعبد المبتلى هو سلامة القلب، فلا يضرك ما فاتك من جارحتك إذا سلم قلبك، ما كان عند أيوب عليه السلام إلا قلباً، حتى إن أحاديث الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب فيها روايات تقول: إن أيوب عليه السلام كان الدود يرعى في جسمه، لكنه ما ضره ما فاته من جارحته إذ سلم قلبه.
فلا تنظر إلى جارحتك، فأنت لا تدري لعل الله تبارك وتعالى إن تركك صحيحاً كنت من العصاة، فالعجز عن معصية الله نعمة.
وهنا تحضرني قصة كنت أحد أطرافها، وملخصها: أن طفل صغيراً عمره تسع سنوات، ولد وفي قلبه ثقب، ثم إن هذا الثقب أثر فيه فكان معاقاً من أطرافه الأربعة، ثم عرضنا أمر هذا الطفل الصغير على بعض أهل الخير فتبرع بكرسي وتبرع بدفع نفقات جلسات كهرباء لهذا الولد الصغير.
بدأ الطفل في رحلة العلاج، وسبحان الذي برأه وأعاده مرة أخرى إلى صحته بعد حوالي سبع سنوات! وقف هذا الطفل على رجليه واسترد عافيته، وحين شب صار يعمل في الأعمال اليدوية الشاقة، سافر هذا الشاب إلى العراق من نحو عشر سنوات أو أكثر، ولما ذهب هناك ما ترك معصية إلا فعلها، فعل كل شيء؛ زنى فأدمن الزنا، وشرب الخمر فأدمن شرب الخمر، ثم رجع مرة أخرى وهو يجر أذيال خيبته، ومن حينها ما استقام، وهو حتى الآن لا يصلي! فلو بقي عاجزاً ألم يكن ذلك نعمة له؟ فالله تبارك وتعالى يبتلي بالشر والخير، لكن أحسن الظن بربك، قل: إن الله اختار لي ما فيه الخير، فلو كنت صحيحاً قد لا أكون طائعاً، قد لا أكون ممتثلاً، فإذا أحسنت الظن بالله تبارك وتعالى ضمن لك سلامة قلبك: فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل(145/4)
أنموذج عظيم في الصبر على البلاء
وقد روى الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات قصة عجيبة لمعوق من أشهر المعوقين في تاريخ المسلمين وهو الإمام الكبير العلم أبو قلابة الجرمي عبد الله بن يزيد وكان من الرواة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ويروي هذه القصة عبد الله بن محمد.
قال: خرجت مرابطاً في عريش مصر، فبينما أنا أمشي إذ مررت بخيمة وسمعت رجلاً يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] قال: فنظرت إلى هذا الرجل الذي يدعو فإذا هو معاق، وقد فقد يديه ورجليه، وفقد بصره، وثقل سمعه، فجئته وقلت له: يا عبد الله! إني سمعتك تقول كذا وكذا، فعلى أي شيء تحمد الله؟! فقال له: يا عبد الله! والله لو أرسل الله الجبال فدمرتني، والبحار فأغرقتني، ما وفيت نعمة ربي على هذا اللسان الذاكر، ثم قال له: لقد فقدت ابني منذ ثلاثة أيام، فهل تلتمسه لي؟ وكان ابنه هذا يوضئه ويطعمه، فقلت له: والله ما سعى أحد في حاجة أحد أفضل من حاجتك.
قال: فتركته وخرجت أبحث عن الغلام، فما مشيت قليلاً إلا وأبصرت عظمه بين كثبان من الرمل، وإذا بسبع قد افترسه، قال: فوقفت وقلت: كيف أرجع إلى صاحبي وماذا أقول له؟! وجعلت أتذكر، قال: فتذكرت أيوب عليه السلام فلما رجعت إليه سلمت عليه، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى.
قال: فماذا فعل ولدي؟ قلت: هل تذكر أيوب عليه السلام؟ قال: نعم.
قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه الله عز وجل في نفسه وفي ماله، قال: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، قال: ولم يكن ذلك فقط، إنما انفض عنه القريب والبعيد، ورفضه القريب والبعيد، قلت: وكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، يا عبد الله! ماذا تريد؟ فقال له: احتسب ولدك، فإني وجدت سبعاً افترسه بين كثبان الرمل، قال: الحمد لله الذي لم يخلق مني ذرية إلى النار، وشهق شهقة فخرجت روحه فيها، قال عبد الله بن محمد: فقعدت حائراً ماذا أفعل، لو تركته لأكلته السباع، ولو ظللت بجانبه ما استطعت أن أفعل له شيئاً.
قال: فبينما أنا كذلك إذا هجم علي جماعة من قطاع الطرق، فقالوا: ما حكايتك؟ فحكيت لهم الحكاية، قالوا: اكشف لنا عن وجهه، فكشفت عن وجهه فانكبوا عليه يقبلونه وهم يقولون: بأبي عيناً طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسماً كان على البلاء صابراً، قال: فغسلناه وكفناه ودفناه، ثم رجعت إلى رباطي.
قال: فنمت فرأيته في منامي صحيحاً معافى، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى.
قلت: فما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة وقال لي: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] فهذا كان معوقاً لكن سلم قلبه.
إن الطب النفسي كله في الوقت الحاضر يعالج شيئاً واحداً فقط، وهو اضطراب القلب، والخوف من المجهول، وأغلب -إن لم يكن كل- الأطباء النفسيين مرضى ويحتاجون إلى علاج؛ لأنهم ينصحون المكتئب بمعصية الله عز وجل.
أعرف طبيباً يذهب إليه المتكئب فيقول للمكتئب: هل أحببت امرأة قط؟ يقول له: لا.
يقول له: هل لديك علاقة مع أي امرأة؟ يجيب المكتئب: لا.
يقول الطبيب: هذا السبب، لابد أن تحب، الحب حياة القلب.
يسأله الطبيب مرة أخرى: هل تسمع موسيقى؟ يجيبه: لا.
فيقول: لابد أن تسمع الموسيقى حتى ترتاح أعصابك.
هؤلاء الأطباء مرضى، وإن الطب النفسي الحقيقي كله موجود في آية في كتاب الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: (إنا لفي سعادة لو علم بها ملوك الأرض لجالدونا عليها بالسيوف)، السعادة هي: السلام النفسي الذي يشعر المرء به، لو بذل المرء كل غال ونفيس ما استطاع أن يشتري قلب أحد، فالاكتئاب والخوف إنما هو بسبب ضعف هذا القلب.
إذاً: الإنسان لابد أن ينظر إلى قلبه، فقوة الجارحة تابعة لقوة القلب، وضعف الجارحة تابعة لضعف القلب، وأنت ترى الرجل القوي الفتي صاحب العضلات المفتولة ربما تقول له خبراً ما يجعله يخر صريعاً على الأرض لا تحمله قدماه برغم سلامة العضلة وقوة الجارحة، لماذا سقط هذا الرجل؟ لضعف قلبه، فعزمك في قلبك، لا يضرك ما فاتك في جارحتك.
وهناك كثير من أهل العلم والفضل ابتلاهم الله تبارك وتعالى بنوع من أنواع البلاء، فعندنا مثلاً الإمام الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وهو من أشهر الرواة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولا يعرف في كتب الحديث إلا بـ الأعرج، وكذلك عاصم بن سليمان الأحول، لا يعرف في الكتب إلا بـ الأحول، فإذا قيل: الأحول عن أنس فهو عاصم بن سليمان، وكذلك الإمام الترمذي صاحب السنن ولد أعمى، والإمام حماد بن زيد -أيضاً- ولد أعمى، وكذلك قال العلماء في ترجمة حماد بن سلمة: كان عابداً زاهداً لو قيل له القيامة غداً ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، وكان حماد بن زيد ضريراً ويحفظ حديثه كله، وهو من الأئمة الثقات الذين عقدت عليهم الخناصر في العدالة والضبط.
فنحن يجب أن ننظر نظرة اعتبار إلى هذا القلب، فالقلب ملك البدن، وإذا طاب الملك؛ طابت جوارحه، وإذا خبث الملك خبثت جوارحه، وهذا القلب الذي به قوام حياتك هو في يد الله عز وجل، فأنت لا تملكه ولا تستطيع أن تتصرف فيه، فأحياناً تغلب على حب شيء ما يتلفك وتنفق مالك كله بسببه، وربما فقد المرء سمعته، ومع ذلك يقول: قلبي ليس بيدي، فلو كان قلبه بيده لما كفر ولا جحد ولا نسي الله طرفة عين، لكن قلبه بيد الله عز وجل.
وإلى هذه الآية العظيمة الباهرة أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان أكثر يمينه يقول: (لا ومقلب القلوب) إشارة إلى أن هذا القلب لا يحسن أحد التصرف فيه، ولا الهيمنة عليه إلا الله تبارك وتعالى، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء) فالبلاء ليس غضباً من الله تعالى، كما أنه ليس رضا، أعني: أن البلاء ليس علامة غضب أو رضا، ربما يبتلي الله عز وجل العبد في الدنيا ويزيده في الآخرة عذاباً، وربما ابتلاه في الدنيا ليرفع درجته، ولكن ما هو الضابط؟ إن الضابط استقامة المرء على المنهج الحق وعلى طريق الله عز وجل.
دخل رجل على أحد أصحابه في القرن الثالث الهجري فوجده مريضاً يئن، فقال له: ليس بمحبٍ من لم يصبر على ضرب حبيبه، فقال له الرجل: بل ليس بمحب من لم يتلذذ بضرب حبيبه.(145/5)
عروة بن الزبير الصابر المحتسب
وفي الحكاية الصحيحة الثابتة: أن عروة بن الزبير بن العوام -وهو أحد التابعين الكبار- رحل إلى عبد الملك بن مروان، وكان في رجله مرض ودبت إلى رجله الأكلة، فلما وصل إلى عبد الملك بن مروان استشرى المرض في رجله، فقال الطبيب له: لا حل إلا أن نقطعها لك، قال: وكيف ذلك؟ قالوا: تشرب خمراً حتى نستطيع أن نقطعها لك فلا تتألم.
فقال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني حتى إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها -لولا أن أسانيد هذه القصة صحيحة لما كاد المرء يصدقها! - قال: فلما دخل في الصلاة قطعوها فما أحس بها، وبعد أيام من قطع رجله، سقط ولده من على سطح الدار فمات، -وكان عنده سبعة أولاد- فبلغ ذلك عروة فقال: اللهم لك الحمد، أخذت واحداً وأبقيت ستة، وأخذت عضواً وأبقيت ثلاثة، اللهم لئن ابتليت فلقد عافيت، ولئن أخذت فلقد أبقيت، قال الله تبارك وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(145/6)
الصبر على البلاء سبب جلب معية الله الخاصة
أعظم الصبر هو الصبر عن معصية الله عز وجل، أحياناً الإنسان من يأسه وضجره من نفسه ومن المجتمع الذي حوله يبدأ يشغل نفسه بأشياء من اللهو الباطل، ويضيع حياته، لا يا أخي الكريم! كن منارة لهؤلاء الأصحاء الذين لا يشعرون بالنعمة العظيمة التي يتنعمون بها ليل نهار.
رجل من الأعيان ومن أغنى الأغنياء في مدينة القاهرة، ابتلاه الله تبارك وتعالى بمرض خبيث -نسأل الله أن يعافينا وإياكم منه! - فقطعت ساقاه، ومع ذلك هذا الرجل -والله- نزوره لننظر إلى وجهه فقط، فنرى الرضا على وجهه، ولسانه ينطق بالرضا، ومع ذلك لم يرزق ولداً، وله إخوة في غاية العقوق، أخوه يسكن في الشقة المقابلة له في نفس العمارة التي يمتلكونها، يقسم لي بالله أن أخته تظل ثمانية أشهر لا تأتيه، ولا تسأل عنه وبين الباب والباب متر واحد فقط، ثمانية أشهر لا تأتيه، ويدخل في غيبوبة ويفيق من الغيبوبة ولا تأتيه، ولا يأتيه أولادها، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى جعل أفئدة الدعاة إلى الله عز وجل تهوي إليه، فمنتدى الدعاة كلهم عند هذا الرجل، تنطق أساريره بالرضا.
يذكرني بكلام ذكره شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، كان يقول: كانت إذا ضاقت بنا الدنيا وأدركتنا الوحشة؛ ذهبنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، حتى يذهب عنا كل الذي نجده.
مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أشهر المبتلين؛ فقد سجن سبعة عشر عاماً متفرقات، بسبب فتاويه التجديدية، لقد جدد دين الله تبارك وتعالى، وتحمل الأذى وصبر، ومع ذلك كان هذا الرجل مبتلى؛ إذا جاءوا ونظروا إلى وجهه تبدد ما يجدونه من ضيق النفس، وما هذا إلا للرضا الذي كان يشعر به شيخ الإسلام ابن تيمية.
أنت -أيها المبتلى الصابر- في معية الله تبارك وتعالى العامة، وكذلك المعية الخاصة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] هذه هي المعية الخاصة التي هي أجل من المعية العامة، المهم أن تحسن ظنك بربك تبارك وتعالى، ولا تصرف عمرك ووقتك إلا فيما يرضيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله فيها إلا ندم عليها يوم القيامة).
فأقول لكل أخ معاق: كن منارة، واضرب المثل للذين يرفلون في ثوب العافية، اجعلهم يحتقرون أنفسهم عندما يجدونك في الصف الأول في الصلاة، برغم أنك معاق ولا تتمتع بالحرية التي يتمتعون بها، فلعل أحداً ممن يراك يحتقر نفسه، ولربما كنت معلماً وإن لم تكن صاحب لسان.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حين المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(145/7)
الأسئلة(145/8)
أحاديث موضوعة لا تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل هذان الحديثان صحيحان: (من نظر إلى زوجته غفر الله له حتى يرجع) وحديث: (من نزل السوق واشترى الحلوى، وخص بها الإناث دون الذكور من الأطفال؛ اختصه الله برحمته)؟
الجواب
هل يقصد من هذا أنه لا يدخل الجنة إلا إذا أتى هذا الفعل الله المستعان! الحديث لا أصل له.
وحديث (من نزل السوق واشترى حلوى وخص بها الإناث دون الذكور من الأطفال إلا اختصه الله برحمته).
وأما الحديث الثاني: فلا يصح، والإنسان الممارس للحديث والذي عنده مطالعة دائمة للحديث، يرى أمارات الوضع ظاهرة، مثل الأحاديث التي في الفواكه مثلاً: (ربيع أمتي في العنب والبطيخ) فهذا حديث ذكره ابن الجوزي وغيره، وكذلك حديث: (المؤمن حلو يحب الحلاوة) ويظهر في هذا أن فيه ركاكة، وحديث: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير) هذه أيضاً أحاديث موجودة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يقلها.
وهنا أغرب حديث وأوجعه، وهو حديث غريب جداً، ذكره أهل الحديث الذين جمعوا الأحاديث الموضوعة وهو (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى باذنجانة فأخذها وأكلها في لقمة - الباذنجانة في لقمة وهي كبيرة- ثم قال: الباذنجان شفاء من كل داء) فهذا كذب، فإنه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في مدح المطعومات إلا الشيء القليل.
والحمد لله رب العالمين.(145/9)
حديث في فضائل سورة (ق) و (قل هو الله أحد)
السؤال
ما مدى صحة هذا الحديث (من قرأ سورة (ق) و (قل هو الله أحد) خفف عليه من سكرات الموت)؟
الجواب
هذا الحديث لا أعلمه صحيحاً، وفضائل السور لم يصح منها إلا نزر يسير، فاحذر من تفسير الكشاف وتفسير أبي السعود ففيهما أحاديث منكرة جداً في فضائل السور، وبالذات تفسير أبي السعود وتفسير النسفي، فهذه فيها أحاديث كثيرة مكذوبة وضعها رجل يقال له: نوح بن أبي مريم، وكان صاحباً لـ أبي حنيفة، فكان يسهر عامة ليله يضع الأحاديث ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ آية كذا فله كذا، ومن قرأ سورة كذا فله كذا، وهناك حديث مشهور بيننا جميعاً، وهو حديث ابن مسعود: (من قرأ سورة الواقعة صباح كل يوم أمن من الفاقة) هذا الحديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يصح في فضائل السور شيئاً كبيراً.
فقيل لـ نوح بن أبي مريم: لماذا وضعت هذه الأحاديث وكذبت على النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: إني رأيت الناس انشغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن أبي إسحاق عن القرآن فوضعت هذه حسبة لله، يعني أنه عمل هذا لوجه الله، يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام لوجه الله.
قال فيه ابن حبان وكان يسمى نوح الجامع؛ لأنه كان يجمع العلوم كلها عنده من فقه وسيرة وحفظ أحاديث وتفسير، قال ابن حبان في ترجمته: جمع كل شيء إلا الصدق -عنده كل الصفات إلا الصدق- لقد كان كذاباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(145/10)
حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
السؤال
هناك من علمائنا الأفاضل من يرى أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط: في الحرم المكي، وبيت المقدس، والحرم النبوي، فما قولكم في الاعتكاف في المساجد الأخرى؟
الجواب
الحديث الذي يحتجون به هو: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هذا الحديث معل بالوقف على الصحيح، ثم لو لم يكن معلاً بالوقف لوجب تأويله، بمعنى: لا اعتكاف أفضل من المساجد الثلاثة، وعلى هذا مضى عمل جماهير المسلمين، والله أعلم.(145/11)
حكم الإسبال والصلاة خلف المسبل
السؤال
ما حكم الإسبال؟ وما جزاء الإمام المسبل؟ وهل تقبل الصلاة خلفه؟
الجواب
أما الإسبال: فحرام؛ لا يجوز لأحد أن يجر إزاره دون الكعبين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والذين توهموا أن جر الإزار مذموم مع الكبر والخيلاء أخطئوا في ذلك لماذا؟ لأنهم خلطوا بين حديثين: الحديث الأول (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والحديث الآخر: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه) قالوا: إذاً: لو جر إزاره بغير الخيلاء فهو جائز، أما إذا جره خيلاء فهذا هو الذي لا ينظر الله عز وجل إليه، نقول: لا.
هناك مسألتان.
المسألة الأولى: الجر بغير خيلاء، والمسألة الأخرى: الجر بخيلاء، وعلماء الأصول يقولون: إذا اختلف الحكم واتفق السبب لا يحمل المطلق على المقيد، فهؤلاء حملوا المطلق في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) حملوا هذا المطلق على معنى مقيد بقيد الخيلاء في الحديث الآخر، إذاً: فمن جر إزاره خيلاء فهو المحاسب المعاقب عند هؤلاء.
فنقول: لا.
العلماء لهم قاعدة تقول: إذا اختلف الحكم واتفق السبب لا يحمل المطلق على المقيد، وقد ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار، ومن جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه) فذكرهما في سياق واحد، فالحكم مختلف والسبب واحد، فما السبب؟ السبب هو جر الإزار، وما هو الحكم؟ الحكم الأول: يدخل النار، الحكم الثاني: لا ينظر الله إليه، ولا شك أن إعراض الله عنه أعظم من دخوله النار، فهذه عقوبة مضاعفة.
وهم يحتجون -أيضاً- بواقعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي وأنا أتعهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) فقالوا: إذاً العبد إذا لم يفعله خيلاء لا يتحقق في حقه الوعيد؛ اقتداء ًبـ أبي بكر الصديق.
نقول: لا.
أبو بكر الصديق من عرف سيرته محال أن يظن أنه كان يجر إزاره بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمي الصديق لتصديقه النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون مثل هذا المثال: أبو بكر الصديق يسمع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن جر الإزار فيجر ثم يعتذر، إن هذا ظن من لا يعرف أبا بكر رضي الله عنه، ويدل على هذا قوله: (إن أحد شقي إزاري)، ومن المعلوم أن الإزار له شقان فيقول: (إن أحد شقي إزاري يسترخي) فهذا يدل على أن أحد شقيه مرفوع فوق الكعبين والشق الآخر هو الذي يسترخي، ومع ذلك يقول: (وأنا أتعهده) أي: بشده إلى أعلى.
إذاً: لماذا كان ذلك؟ روى ابن سعد رحمه الله من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: دخلت على أبي بكر الصديق فإذا هو رجل نحيف خفيف اللحم أبيض، فكان إزاره يسترخي من على حقوه.
ولو قال قائل: هذا الحكم خاص بـ أبي بكر لما أبعد، والدليل على ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله روى في مسنده بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب جديد يتقعقع-يعني: ثوب جديد يحدث أصواتاً وقرقعات مع الحركة- قال: من؟ قلت: أنا عبد الله، قال: إن كنت عبد الله فارفع إزارك، قال: فرفعت، قال: فزد، قال: فرفعت قال: زد، قال: فرفعت إلى نصف الساق، فقال عليه الصلاة والسلام: من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه).
وبعد مدة صغيرة جداً وهم في المجلس جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي وأنا أتعهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) ففرق في الحكم بين ابن عمر وبين أبي بكر الصديق، فدل ذلك على أن الحكم خاص بـ أبي بكر.
إذاً: لو كان الحكم عاماً لعم الكل، وما خص به أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا ظاهر من قوله: (إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) فالإنسان يشتم منها رائحة الخصوصية.
أما الصلاة خلف المسبل فهي صحيحة، وأما الحديث الذي ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبل صلاة مسبل إزاره) فهذا حديث منكر له ثلاث علل، والله أعلم.(145/12)
وقفة مع إخلاص العمل لله
السؤال
قلتم: إن الإخلاص يعرفه العبد من نفسه وفٌهم ذلك مطلقاً، فكيف يفهم في ضوء ذلك الحديث الوارد في قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]؟
الجواب
لا تعارض بين أن يعرف المرء الإخلاص لنفسه وبين هذا الحديث، وهذا الحديث هو: (أن عائشة رضي الله عنها تلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فقالت عائشة: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ -يعني: يفعل الفعل وهو خائف؛ لأنه سيرجع إلى ربه فيحاسبه، أهو الذي يزني فيخشى أن يحاسبه ويسرق ويخشى أن يحاسبه- فقال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام جاءوا بزكاة وصلاة وصدقة، ويخشون ألا يتقبل منهم) ليس معنى معرفة الإخلاص أن يركن العبد إلى عمله ويظن أنه مقبول، هناك فرق بين قبول العمل وبين صحة العمل.
فلو أن رجلاً توضأ واستوفى وضوءه، واستقبل القبلة وأتى بأركان الصلاة، وأتى بشرائطها وواجباتها ومستحباتها، وبعد أن أنهى صلاته التفت إليك وقال: أأنا مثاب على صلاتي؟ فلا تقل له: أنت مثاب، ولكن قل له: صلاتك صحيحة، أما مسألة الثواب فهذا لا يعرفه أحد، فعلى العبد المؤمن أن يهضم حظ نفسه، خشية أن يكون عنده رياء وهو يعمل، وليس في هذا معارضة؛ لأن الرجل يعرف أنه عمل هذا العمل بإخلاص، ليس فيه معارضة إنما هذا هو شأن المؤمن دائماً.
أعظم العبادة: أن تعبد الله بالخوف والرجاء، فلو عبد العباد ربهم بالخوف فقط لقنطوا، ولو عبدوه بالرجاء فقط لاغتروا وتجاوزوا، فأفضل العبادة ما اقترن فيها الخوف بالرجاء، لكن كيف تكون عبادتك أفضل عبادة؟ يكون ذلك حين يفعل العبد الفعل ثم يغلبه الخوف أن الله لا يقبله؛ لأنه لم يستجمع قلبه فيه، فما هو الحل؟ الحل أن يحسن عمله، الذي ظن أنه ناقص، فبعد أن يحسنه يغلبه الخوف أيضاً فيخشى ألا يتقبل عمله فيحسنه، فلا يزال هكذا في تحسين دائم حتى يلقى الله عز وجل وهو محسن لعمله، أما إذا ركن وفعل الفعل، وقال: أنا فعلت ما عليّ، فهذا أول الفساد.
هناك من الناس من يتصور أنه لو صلى وصام وحج وأخرج فضول ماله أنه قد فعل ما عليه، لا.
فقد كان يعزى إلى عمر بن الخطاب أنه يقول: (لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا-أي: القوس- ما بلغتم الاستقامة) أي: الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها، وهذه الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها كامنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم) هذا يدلنا على أنه ليس هناك أي إنسان أبداً على وجه الأرض -حاشا الرسل- يستطيع أن يفعل كل ما أمر به.
والمقصود كل ما أمر به من باب المستحبات وليس الواجبات؛ لأن الواجب -كما عليه العلماء- هو: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، ويعاقب تاركه، فبإمكان كل إنسان أن يفعل ما أمر به وجوباً، إنما قصد الحديث في المستحبات التي لا آخر لها، أما الواجب فإنه يفعله لزوماً إلا إذا عجز، فيسقط الواجب عنه بالعجز، فيبقى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما استطعتم)، وهذا الحديث -أيضاً- مناسب وهو ترجمة لقول الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(145/13)
الشيخ أبو إسحاق ورحلته في طلب العلم
السؤال
سائل يناشد بحرارة فيقول: أرجو أن تعرفنا شيئاًَ عن حياتك ونشأتك وطلبك للعلم؟
الجواب
والله إن أثقل شيء عليَّ أن أتحدث عن نفسي، فليس في حياتي شيء يستحق الإشادة ولا الذكر، ولكن فيها ضرب من البلاء أيضاً، فلعلي لو ذكرت شيئاً أو طرفاً منه أن يتصبر إخواننا في الله تبارك وتعالى: تخرجت من كلية الألسن، جامعة عين شمس في القاهرة، وكنت أدرس اللغة الأسبانية واللغة الفرنسية، وتخرجت من الجامعة مع مرتبة الشرف الأولى، وكنت -بحمد الله عز وجل- متفوقاً في السنوات الأربعة طيلة دراستي.
وبعد إنهاء الدراسة تعينت معيداً في الجامعة، ثم حدثت مشادة بيني وبين عميد الكلية ففصلني، وعُين الرجل الذي يليني مباشرة، ثم نشرت الإذاعة طلباً لمذيعين، فقدمت وكانت رغبتي ومرادي أن أكون مذيعاً في إذاعة القرآن الكريم، وكان قصدي هو نشر السنة وعمل برنامج خاص عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، تنبيهاً لجماهير المسلمين، وأيضاً: تنبيهاً للمذيعين الآخرين الذين يكثرون من الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد ضيعوا جهود أهل الحديث جميعاً لما يحتجون بالأحاديث المناكير، كأن أهل الحديث ما عملوا شيئاً مذكوراً، يقرءون الأحاديث الموضوعة والمنكرة ويحتجون بها؛ فخطر ببالي أن أدخل وأتقدم وإن كانوا هم يريدون مذيعين للغة الأسبانية في البرنامج الأوربي، استشرت أحد مذيعي التلفزيون الكبار آنذاك، فقال لي: إنك لو دخلت قسم اللغة الأسبانية من السهل أن تغير إلى محطة القرآن الكريم، فهذا هو الذي أغراني، فدخلت وتقدمت مع أناس كثيرين كان جلهم من دفعتي في الكلية.
والحمد لله كنت الأول في الترتيب، وهذه الأولية كانت بلاءً لي وامتحاناً، فلقد كان لديهم عجز في البرنامج الأوروبي في قسم اللغة الأسبانية، فأصروا عليّ، وقالوا: أنت لا تغادر هذا القسم أبداً، فبدأت فكانت مهمتي أن أراجع الخطابات التي تأتي من الخارج لمن يراسلون الإذاعة، وكان هناك برامج امتحانات ومسابقات كانوا يلقونها على أصحاب هذه البلاد، واللغة الأسبانية هي ثاني لغة في العالم بعد الإنجليزية بالنسبة لتعداد السكان الناطقين بها، فقد كان في حدود سنة (1976م) عدد الناطقين بالأسبانية في العالم ما يقارب أربعمائة مليون نسمة، وهي منطوق بها في أسبانيا وجزء من البرتغال وأمريكا الوسطى والمكسيك وأطراف كندا، كل هؤلاء يتكلمون باللغة الأسبانية.
بدأت أفرغ هذه الخطابات فرأيت طامات، وجدت أشياءً ما تحملتها، فلما نزلت في الأستوديو لأسجل برنامجاً -وكانت أول مرة أسجل فيه برنامجاً- فإذا بالرجل يؤشر لي بإشارات معينة من خلف لوح الزجاج، يريد مني أن أرفع الموسيقى، فأول ما سمعت الموسيقى وقف شعري ولم أرجع إلى الاستديو مرة أخرى، وقلت: لا.
أنا أظل في عملي الإداري، وحصلت مشادة كبيرة انتهت بأنني لم أستطع الاستمرار في الإذاعة فتركتها.
كنت في هذه الآونة قد بدأت أدرس علوم الحديث وعلوم الفقه من أول سنة (1975م)، ومن هذا الحين بدأت أعرف علوم الشريعة، وبدأت هذه العلوم تتملك قلبي، فلم أستطب شيئاً في حياتي مثل هذه العلوم، ولعل الذي جعلني أترك الجامعة وأترك الإذاعة محبتي لهذه العلوم.
انكببت على هذه العلوم، لكن لا أخفيكم أن للناس فضلاً عظيماً علي وعلى تحصيلي؛ وذلك لأني متخصص في علم الحديث تصحيحاً وتضعيفاً، وأنتم تعلمون أن علم الحديث هو علم الخاصة وليس علم العامة، أي: لا أستطيع أن آتي في محاضرة عامة أو في خطبة جمعة أتكلم عن شروط الحديث الصحيح، وأن العلماء قالوا: هذا منكر، وعلامة المنكر كذا، وهذا شاذ، وعلامة الشاذ كذا، لا أستطيع، لكن الناس هم الذين جعلوني هكذا، هم الذين جعلوني أقرأ في الفقه والتفسير والحديث وفي الملح والنوادر، فحاجتهم وأسئلتهم هي التي أجبرتني على ذلك، فيأتيني رجل مثلاً يقول: أنا طلقت امرأتي في الحيض فهل الطلاق يقع؟ فلا يكون عندي أي معلومات عن الطلاق في الحيض أيقع أم لا، فأرجع إلى كتب أهل العلم وأقرأ في الطلاق في الحيض، فأجد خلافاً لأهل العلم فلا أستطيع أن أفتي إلا إذا اعتقدت قولاً ومذهباً من المذهبين بدليله، فأبدأ في رحلة دراسة الأدلة والترجيح بين الأدلة حتى أنتهي إلى أن -مثلاًً- الطلاق في الحيض يقع أو لا يقع، فلولا مثل هذه الفتاوى ما درس الإنسان شيئاً مذكوراً.
أما الجد والاجتهاد فالإمام البخاري رحمه الله عندما دخل بغداد انبهر الناس بحفظه، ورأوا رجلاً عجيباً في حفظه، فتناقل أهل بغداد خبره -على عادة في تنقص الأكابر آنذاك- وقال بعضهم لبعض: إنه يأخذ دواء اسمه البلادر لتقوية الحفظ.
فسمع محمد بن أبي حاتم الوراق فقال ابن أبي حاتم الوراق للبخاري: إن أهل بغداد يقولون عنك: إنك تتناول دواءً للحفظ، فهل ذلك صحيح؟ فقال الإمام البخاري رحمه الله: لا أعرف شيئاً من ذلك ولكن هي نهمة الناظر -أي: نهمة الطالب - وجودة النظر.
فأي رجل يريد أن يحصِّل ويريد أن يحفظ عليه بهاتين الخصلتين: النهمة -أي: النهم الشديد والإقبال- ثم جودة النظر.
وهناك كثير من إخواننا يقرءون في العلم ويقولون: نحن ننسى ما نقرأ، ما هو السبب في ذلك؟ السبب في ذلك: أنه لا ينوي أن ينفع أحداً بعلمه، يقرأ فقط، لكن لو كان يقرأ وعليه مسئولية محاضرة فسيحفظ؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي فيقف أمام الناس ويقعد على الكرسي صامتاً، لا بد أن يتكلم، وآفة العلم النسيان، وحياته المذاكرة، كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله.
ولقد ذكر المناوي في فيض القدير أن ابن شهاب الزهري كان يأتي من عند أبي سلمة بن عبد الرحمن ومن عند سعيد بن المسيب فيوقظ جاريته النائمة فيقول لها: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، حدثني سعيد عن عائشة، فالجارية تقول: يا سيدي! ما لي ولـ أبي سلمة، ما لي ولـ سعيد! فيقول لها: أنا أعرف أنه لا علاقة لك لا بـ سعيد ولا بـ أبي سلمة، إنما آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة.
فأنت إذا أردت أن تنعش هذه المعلومات فعليك بإثارة ذهنك، فلو أنك أنت تقرأ -مثلاً- على أساس أنك تبلغ شيئاً من دين الله تبارك وتعالى وتستوفي النظر والكلام في المسألة، فلن تنس هذه المسألة إن شاء الله، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم.(145/14)
حال حديث صلاة التسبيح
السؤال
ما تقولون في حديث صلاة التسبيح وما درجته؟
الجواب
هذا الحديث أنا متوقف فيه، أي: لا أحكم له بصحة ولا بضعف، وإن كان علماء الحديث قد تجاذبت عباراتهم فيه فمنهم من يصححه ومنهم من يقول: إنه حديث موضوع كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام.(145/15)
التيمم عند فقد الماء
السؤال
إذا كنت في الصحراء وليس لدي ماء لأتوضأ للصلاة، فوجدت بئراً فتوضأت منه، فلما انتهيت من الوضوء تبينت أن هذا البئر غير طاهر فهل أعيد وضوئي؟
الجواب
إذا فقدت الماء فعليك بالتيمم، والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ليس كما يتوهم كثير من الناس بناءً على رواية منكرة أخرجها أبو داود في سننه من رواية محمد بن ثابت العبدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضربتين للوجه والكفين وتوضأ للآباط والمناكب) فهذه رواية منكرة، لكن الصحيح في هذا عند أهل العلم أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، أي أن طريقة التيمم: أن تضرب على الأرض بيديك ثم تمسح وجهك وكفيك، وهذا هو التيمم، وقد اتفق العلماء على وجوب التيمم إذا عدم الإنسان الماء، والله أعلم.(145/16)
البينة أوحد في ظهرها
السؤال
زوجة اتهمت أنها خانت زوجها مع أخيه أثناء غيابه، والذي اتهمتها بذلك أخت الزوج، وقام الزوج فطلقها هاتفياً منذ عام، ولم يتم الطلاق رسمياً، والزوج في حيرة لأنه علم بعد ذلك أنه لم تتم الفاحشة الكبرى، فما هو حكم الدين في هذا الطلاق؟
الجواب
أولاً: لا يجوز رمي امرأة بالزنا إلا إذا شهد عليها أربعة شهداء، ولا تكفي شهادة الأربعة أنهم رأوها مع رجل في لحاف، بل لابد أن يروا كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه وهو يقول للرجل: (أرأيته كما تضع الميل في المكحلة؟).
لابد أن يتحقق من ذلك، فلو جاء ثلاثة شهود، ورأوا الفاحشة بأعينهم، ولم يأتوا بالرابع جلدوا؛ صيانة للأعراض، فإما أن يأتوا بأربعة شهداء وإما أن يظهر الحمل، كما قال عمر بن الخطاب، أن يظهر الحمل والزوج غائب، فهذا دلالة على الفاحشة، أو الاعتراف، أما ما دون ذلك فلا يجوز أبداً أن ترمى امرأة بالفاحشة، حتى لو شهدت أخت الزوج ورأت الفاحشة وتحققت من ذلك بنفسها، فالحد الشرعي أن تجلد هي ثمانين جلدة أو تأتي بأربعة شهداء.
أما بالنسبة للطلاق: فلو قال لامرأته: أنت طالق؛ فقد وقع طلاقه، فإذا رجع في العدة كانت زوجة له، ولم يجب عليه مهر، ولم يجب عليه عقد جديد، أما إذا طلقها وظل على ذلك عاماً كاملاً فحينئذٍ يجوز له أن يراجعها بعقد جديد ومهر جديد.
أما نصيحتنا له فلا نستطيع أن نخلص له النصح حتى نعلم الموضوع كله بأطرافه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا أعراضنا.(145/17)
حكم من نذر ولم يستطع الوفاء بالنذر
السؤال
لقد نذرت بناء مسجد لله تعالى إذا ما تحققت أمنية لي، والحمد لله وبفضله تحققت هذه الأمنية، ولكن ظروفي المالية لا تسمح لي بذلك، فهل لو شاركت في بناء مسجد عن طريق التبرع بمبلغ من المال لإحدى الجمعيات أو الهيئات الإسلامية أكون قد وفيت بنذري، وما هي كفارة النذر، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
إذا نذرت أن تبني مسجداً لله عز وجل فأوف بنذرك ولو كان مسجداً صغيراً كمفحص قطاة، لا يشترط أن يكون مسجداً كبيراً، فوفي بنذرك حتى لو كان مسجداً صغيراً، أما إذا عجزت حتى عن الوفاء بهذا المسجد الصغير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة يمين) وكفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، فإما أن تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم أو تعتق رقبة، فإن لم تجد شيئاً من ذلك فصم ثلاثة أيام، وبالنسبة للصيام يجوز أن تصوم ثلاثة أيام متفرقات أو ثلاثة أيام متتالية، والله أعلم.(145/18)
الغلو
من القواعد المتفق عليها عند جميع أهل الملل أن الله تبارك وتعالى إنما شرع الأحكام لمصلحة العباد، ولذلك جاءت الشرائع كلها لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ولا تتأتى مصالح العباد إلا بأن يكون التشريع شاملاً لأضعفهم، ليكون متيسراً لجميعهم.
ولا يتأتى طلب اليسر والسماحة إلا بالاحتكام لشريعة الله والامتثال التام لها وعدم رد أي حكم من أحكامها.(146/1)
يسر الدين وسماحته
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فمن القواعد المتفق عليها عند جميع أهل الملل: أن الله تبارك وتعالى إنما يشرع الشيء لمصلحة العباد؛ ولذلك جاءت الشرائع كلها لتحصيل المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وإعدامها ما أمكن، ولا تتأتى مصالح العباد إلا بأن يكون التشريع مشتملاً لأضعفهم، لا تتم المصلحة إلا بمراعاة الأضعف، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي -إمامهم في الصلاة- قال: اذهب فأنت إمامهم واقتد بأضعفهم) لأن مراعاة الأضعف لا يضر القوي، ومراعاة القوي تضر الضعيف، فتحصيل المصلحة إنما تكون بمراعاة الأضعف؛ لأن القوي لا يؤثر عليه ذلك؛ إذ يستطيع تحصيل ما يحصله الضعيف، إنما لو كان الشرع على قدر القوي لضر ذلك الضعيف.
لذلك كان من سمة ديننا اليسر الذي يستطيعه الأضعف، فقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] و (من) هنا للتبعيض، أي: لا يوجد بعض الحرج؛ لذلك إذا نظرت إلى الأوامر والنواهي ترى هذه الرحمة وهذا اليسر.(146/2)
قاعدة في الأوامر والنواهي
كل ما نهاك الله عنه ففي إمكانك أن تنتهي عنه، وكل ما أمرك به ليس في إمكان الكل أن يأتمر به؛ لذلك الله يعذب الذي يفعل ما نهي عنه، ولو كان النهي ليس في طاقة العبد لما عذبه، إنما يعذبه على ما في مكنته وقد نهاه عنه، فجميع المناهي بإمكان العبد أن يتركها، أما الأوامر فهي كثيرة ومتنوعة، كل ما أوجبه الله على العبد بإمكانه أن يفعله، وكل ما ندبه إليه واستحبه له لا يفعله إلا قلائل.
وتوضيحاً لهذا الكلام أقول: كل ما أوجبه الله أمر إيجاب على العبد، بمعنى أنه يعذب إذا لم يفعل، ففي إمكان العبد أن يفعله؛ إذ لا يتصور أن يأمره بما لا يطيق ثم يعذبه، فإن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، فإن الله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بما في إمكان العبد أن يفعله، ولذلك كان فعل هذا النوع من الأوامر من أحب ما يتقرب إلى الله به، كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
إذاً: أفضل شيء تتقرب به إلى الله أن تفعل ما أمرت به على سبيل الفرض، إذاً ما أمرت به على سبيل الفرض والإيجاب الذي لا خيار لك في الترك، إنما لابد لك من الفعل، ففي إمكانك أن تفعل؛ لذلك يعذبك على الترك.
والمناهي التي نهي العبد عنها نهي تحريم إذا فعلها العبد فإن الله يعذبه لماذا؟ لأن بإمكانه أن يمتنع.
أما المستحبات التي لا آخر لها فإن العبد يثاب بقدر ما يفعل، ولا يؤاخذ مؤاخذة تقصيره في الفرض، وذلك ظاهر في قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي في تمامه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فهذا الحب هل هو وليد فعل الفرائض أم وليد فعل النوافل؟ في الأول قال: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذا هو الفرض الذي يجب أن يفعله، ثم قال تبارك وتعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً هذا الحب وليد النافلة، هذا الحب ترتب على فعل النافلة؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك رجل مقصر في الفرض وهو مجد في النافلة، وإذا أردت أن تعلم مدى التزام العبد فانظر إليه في النوافل، إن رأيته على قدم وساق، فاعلم أنه يفعل الفرض كما أمر، فلا يتصور أن يتصدق إنسان وهو مدين، مدين ويتصدق؟! هذا غير متصور؛ لذلك كان تأدية النافلة علامة الالتزام، وهي التي استجلبت للعبد حب الله تبارك وتعالى.
ولله المثل الأعلى، لو تصورت أن لك خادماً وتعطيه أجراً على هذه الخدمة، فكلما أمرته امتثل، فإنك تحبه، عاشرك هذا الخادم فترةً طويلة، وعرف مواقع غضبك ورضاك، ما تكره وما تحب؛ فصار يفعل لك الذي تحب، ويتجنب الذي تكره من غير أن تأمره، أتزداد له حباً أم لا؟ تزداد له حباً.
حسناً!! لو افترضنا أنه إذا أمر بالأمر نفذ، وكنت فرضت له أجراً في الشهر كذا، فلو طالبك بزيادة على هذا الأجر نظير امتثاله لما تأمره به لقلت له: أجرك على قدر هذا الفعل.
إذاً: أنت لا تعطيه زيادة على أجره، لأنك تعطيه الأجر على الفعل، إنما لو كان هذا العبد ذكياً، فصار يفعل الذي تحب من غير أن تأمره، حينئذٍ لو طلب منك زيادة فسوف تعطيه.
فإذاً: يبلغ العبد رضوان الله تبارك وتعالى بفعل النافلة؛ ولأن النافلة واسعة جداً، ما يبحر فيها إلا قلائل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فانتهوا) لم يقل: فانتهوا ما استطعتم؛ لأن النهي في مكنة العبد أن يفعله، لكنه لا يستطيع أن يفعل كل ما أمر به، ولذلك في باب الأوامر قال: (فأتوا منه ما استطعتم) فهذا يدل على أن بعض الأوامر لا يستطيع الإنسان في كل أوقاته أن يفعلها، وهي الأوامر التي أمرت بها على سبيل الندب والاستحباب، فشريعتنا كلها سمحة، أما التعقيد الذي يعانيه بعض الناس فإنما هو بسبب انحرافهم، وإلا فاليسر كل اليسر في اتباع أمر النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو اليسر، إذا أردت اليسر فاتبع والزم.(146/3)
النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره يلتزم الرفق واليسر، حتى لما أمر ابن عباس أن يلتقط له حصيات رمي الجمرات بمنى، ماذا قال له؟ قال له: (مثل حصا الخذف، وإياكم والغلو! فإنما أهلك الذين من قبلكم غلوهم في دينهم) تأمل هذا الحديث! تأمل هذا الأمر ما أجمله! قال لـ ابن عباس: (مثل حصا الخذف) حصا الخذف الذي هو بقدر حبة الفول، وأصل الخذف: أن تضع حصاة في النبل وترميها، فإنك إذا أردت أن تخذف، فستختار أصغر الحصيات، فلا يختار الإنسان طوبة كبيرة ليخذفها، فقال: (مثل حصا الخذف -بقدر حبة الفول- وإياكم والغلو) الغلو هنا في ماذا؟ في جمع الحصا، لا يعمد أحدكم إلى أن يختار حصا أكبر من حصا الخذف، فالذي يختار حجارة كبيرة قد أو قع نفسه في الغلو (مثل حصا الخذف وإياكم والغلو) يعني: بأن ينتقي أحدكم حصاة أكبر من حصا الخذف لماذا؟ لأنه إذا غلا في حصاة غلا في أمر آخر، وهكذا الغلو.(146/4)
قصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم
ذهب ثلاثة إلى بيوت النبي عليه الصلاة والسلام يسألون عن عبادته، فلما سمعوا بعبادة الرسول عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه!.
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعنون به أن رسول الله -عبد أو لم يعبد، جد أو لم يجد- مغفور له.
فهم تقالوا عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام، فماذاً يريدون؟ يريدون الغلو، لما تقللوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: لن ننجو إلا إذا أخذنا على بعضنا مواثيق، أو على أنفسنا عهوداً، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، والآخر قال: وأنا أصوم ولا أفطر، والآخر قال: وأنا لا أتزوج النساء! قالوا ذلك لأنه لا يستقيم في نظرهم أن يدخل أحد الجنة إلا بهذا الجد! لكنه جد على غير طريق الرسول؛ أنى ذلك؟! فأول ما علم النبي عليه الصلاة والسلام راعه الأمر، ونادى المسلمين جميعاً وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا؟! أما إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية).
كيف يخطر ببالك أن تتقلل عبادة رسولك؟ فليس الأمر بكثرة القيام؛ إنما الأمر بالإخلاص؛ لذلك الله تبارك وتعالى يزن الناس بالقلوب: (رب صائم لا يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم لا يأخذ من قيامه إلا النصب) فنهاهم عن ذلك.(146/5)
التشديد في العبادة وآثاره
وانظر إلى أثر التشديد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، الذي رواه الشيخان وأحمد -والسياق لـ أحمد - قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من المجدين في العبادة، فأول ما دخل بامرأته تركها وقام يصلي من الليل، فأبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه خشي أن يكون عبد الله فعل هذا الأمر -قام الليل وترك امرأته- فذهب في الصباح يسأل المرأة: ما حال عبد الله معك؟ قالت: عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فجاءني أبي فشتمني وعضني بلسانه، وأسمعني هُجراً -أي: كلاماً شديداً- وقال: زوجتك امرأة ذات حسب من قريش فعضلتها! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاه، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرؤه كل ليلة -انظر الجد- كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم -ما هذا؟! ما هؤلاء؟! يعني يبلغ به الجد أن يقرأ القرآن كل يوم، ويصوم كل يوم؟! - فقال له: اقرأ القرآن في أربعين -انظر اليسر، قال له: اقرأه كل أربعين يوماً مرة- قال: إني أستطيع أكثر من ذلك.
قال: فاقرأه كل شهر.
قال: إني أستطيع أكثر من ذلك.
قال: فاقرأه كل جمعة.
قال: إني أستطيع - يعني أقدر أكثر من ذلك- قال: فاقرأه في ثلاثة أيام.
قال: إني أستطيع.
قال: اقرأه في ثلاث، لا تقرأه في أقل من ثلاث، فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه -لأنه سيقرأ بسرعة جداً، لا يفقه القرآن حينئذ- ثم قال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم.
قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر.
قال: إني أستطيع.
قال: صم صيام داود، صم يوماً وأفطر يوماً، يا عبد الله! إن لأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه).
ما الذي حصل؟ صار عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ القرآن كل ثلاث، ويصوم يوماً ويفطر يوماً أيام الشباب، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمرو بن العاص مجد، لكنه، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بزمان كبر وشاخ، وصار لا يتحمل، لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، لكنه لا يريد أن يقلل من عبادة تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، لا يريد أن يقل، فماذا قال؟ كان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
شدد على نفسه، وكان بوسعه أن يقبل الرخصة، لكنه لما شدد على نفسه شقي بذلك وتعب، حتى إنه كان يفطر الأيام الطويلة المتتالية يتقوى، ثم يصوم بدلها سرداً -يوم وراء يوم- يفطر عشرة أيام، ويأكل لكي يقوي بدنه، بعد ذلك يصوم عشرة أيام متواصلة، لا يريد أن يكون أقل في العبادة عما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيتم إلى الغلو؟ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
انظر إلى الكلام الجميل! رجل مستعجل، يريد أن يدرك أقرانه، هو راكب دابة، فمن شدة استعجاله ظل يضرب في الدابة حتى قتلها، فوقف مكانه، لا أرضاً قطع -لا هو مشى- ولا أبقى الظهر الذي كان يركبه، فلما قتلت الراحلة وقف! هكذا الغالي، يظل يغلو حتى يخرج من الهدي الصالح، وهو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(146/6)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال الصحابة إياه خشية التشديد
إن الحمد لله تبارك وتعالى نحمده، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيها الناس! إن الله فرض عليكم الحج فحجوا.
فقام سراقة بن مالك فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، قال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، قال: أكل عام يا رسول الله؟ قال: ذروني ما تركتكم، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم) لو قلت: (نعم، كل عام) لوجبت عليكم كل عام، ولما استطعتم، (ذروني ما تركتكم) أي: طالما أنني تركتكم فاتركوني، لا يزال العبد يتنطع حتى يحرم الله تبارك وتعالى عليه ما كان أحله له قبل ذلك.
أكل عام؟ سكت؛ يخشى أن ينزل الوحي (بكل عام)؛ فيصير هذا الرجل مجرماً في حق جميع المسلمين إلى قيام الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم المسلمين جرماً في المسلمين من سأل مسألة فحرمت لأجل مسألته) كانت حلالاً، كل المسلمين يستمتعون بهذا الحلال فقام شخص يسأل، فلا يزال يتنطع حتى يحرم الله ذلك الحلال، فيحرم المسلمون جميعاً منه، إذاً كأنه أجرم في حق جميع المسلمين إذ حُرم عليهم بعدما كان حلالاً، كل هذا بسبب الغلو والتنطع، لذلك ما من مصيبة تكون إلا بسبب الغلو.(146/7)
الرفق بالمسلمين
قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فهل نحن تأسينا بهذه الأسوة الحسنة حقاً؟! كان محسناً حتى إلى الدواب والأنعام.
رأى عائشة رضي الله عنها تضرب جملها -وهي وصفته- قالت: كان جملاً صعباً بليداً لا يكاد يمشي، فلما رآها تضربه وتسبه قال: (يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمركله) حتى مع هذه الدابة! فإذا كان هذا الدين العظيم يلاحظ الدواب ومعامتلها، فكيف بك أيها المسلم لا تلاحظ معاملة أخيك المسلم؟! دين عظيم يلاحظ معاملة الدابة! دين شفاف، دين متين! لكن المسلمين هم الذين حادوا عن الهدي الصالح؛ لذلك شقوا، وكانوا كما قال الشاعر: بإيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات بيده نوران، ليس نوراً واحداً، بيده كشاف، ومع ذلك كلما وجد نقرة وقع فيها، إذاً ما فائدة النورين؟ ما فائدة النور في يدك إذا كان لا يهديك إلى طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟(146/8)
غربة الإسلام في هذا الزمان
نحن في زمان استعرت فيه الفتن، نحن في زمان الغربة الثانية التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) طوبى للغرباء الذين يقبضون على دينهم كما يقبض الإنسان على الجمر، أرأيت إلى رجل يمسك بجمرة وتحرقه، وهو مُصِر على أن يقبض عليها؟! ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن حياته في هذه الجمرة، معناه: أنه لو تركها لتلف، فهو يرتكب أخف الضررين، يحرق ويكابد، لكنه لو ترك لخرج من دينه، فيصبر على هذا، رجل يرى أن حياته في القبض على هذه الجمرة بالرغم أنها تحرقه، لكنه يصبر، يريد العقبى، هذا زمان الغربة الثانية الذي استعرت فيه الفتن، وخرج أناس وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).(146/9)
الغلو والجهل أخطر الأدواء
عندنا داءان من أعظم الأدواء كلها: داء الغلو، وداء الجهل.
داءان يفتان في عضد الأمة، لا تتصور أن غلوك ورع.
هناك فرق بين الورع والغلو، لكنه فرق طفيف جداً لا يدركه ولا يراه إلا أهل البصيرة والفقه، أرأيت إلى رجل يتوضأ فيغسل العضو عشرين مرة هل هذا ورع أم وسواس؟ وسواس، وليس هو بسبيل إلى الورع، الورع له ضوابط، إذا اختلت هذه الضوابط انتقل العمل من باب الورع إلى باب الوسواس.
كما أن هناك فروقاً طفيفةً جداً، مثلاً بين الغيبة والنميمة وبين قول الحق، هناك فرق بين أن تغتاب الشخص وبين أن تذكره بما فيه تبصيراً للمسلمين، لكن لا يدرك هذا إلا أهل العلم.(146/10)
آفات الغلو
وأكبر آفات الغلو: أن ينظر الغالي إلى الناس من مكان عالٍ، فيراهم أقل منه، فيحتقرهم ويزدريهم، لذلك لا يغلو عبد إلا خرج من الهدي الصالح في آخر الأمر.
جماعة التكفير هؤلاء، ما هي الآفة عندهم؟ يرى أحدهم أنه هو المسلم والكل كافر! أهناك تزكية للنفس أكثر من هذا؟! مع أنهم -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - فيهم من الظلم والغلو أضعاف أضعاف ما في الذين يكفرونهم، يرى أحدهم أنه هو المسلم الوحيد، وكل من عداه كفره، وآخر أمره: تنظر إليه يخرج من دينه في النهاية، وأسوته في ذلك جدهم الأعلى ذو الخويصرة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- وقال: (يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل.
قال: ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! خبت وخسرت إن لم أعدل.
ثم تولى الرجل، فقال خالد: دعني أقتله يا رسول الله! قال: دعه، فإن له أصحاباً -وفي راوية- يخرج من ضئضئ هذا -الضئضئ: هو الأصل- أقوام يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).
والنبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول يخاطب أبا بكر، ويخاطب عمر، ويخاطب علياً، ويخاطب عثمان، يخاطب السادة العباد، يقول: أيها العباد! إنه يخرج من أصل هذا رجال يعبدون الله أكثر مما تعبدون! يصلون أكثر مما تصلون! يصومون أكثر مما تصومون! يقرءون القرآن أكثر منكم! أكثر من أبي بكر وعمر! إي نعم، أكثر من أبي بكر وعمر، مع أن الصحابة كانوا على الغاية القصوى من العبادة، ومع ذلك يخرج من أصل هذا أقوام أكثر اجتهاداً في الصلاة والزكاة والقراءة من هؤلاء الصحابة الأخيار.
لكن ما نفعتهم هذه الصلاة، ولا كثرة الصيام، ولا ظمأ الهواجر، ولا قراءة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) أرجو أن تتأملوا هذا التشبيه! سهم يخرج من الرمية بهذه القوة، كم تكون سرعته؟! ليته إذ خرج من دينه خرج الهوينى، يمشي على مهل، لكنه يخرج من دينه بأقصى سرعة! فأين صلاته؟ وأين صيامه؟ وأين قراءته للقرآن؟! أين ذهبت؟! مع أن المفروض أن أمثال هذه العبادة تثبت العبد على دين الله، لكن ما نفعتهم، لماذا لم تنفعهم؟ بسبب الغلو الذي أخرجهم من الدين كما يخرج السهم من الرمية.
وقد قال أحد السلف: (أخلص دينك لله يكفيك العمل القليل) فإن الله تبارك وتعالى يزن العباد بقلوبهم.
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في كل أمورهم وفتاواهم يمشون على الجادة؛ لذلك وصلوا.
والرسول عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه فقال: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا، وعليكم بشيء من الدلجة).
ما هي الدلجة؟ الدلجة: هي الليل، إذا أردت أن تسافر فسافر ليلاً؛ فإن الأرض تطوى بالليل.
وأنا جربت هذا، ولعل بعضكم جرب.
في الليل المسافة تكون أقل.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أراقب عدة مرات الساعة وعداد الكيلومترات أجد أن الفرق بين سير الليل والنهار نصف ساعة، هذا للذي يريد أن يسافر، لكن مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، -أو من مقصوده- في هذا الحديث: (عليكم بالدلجة) أي: عليكم بقيام الليل، يعني: صلِّ والناس نيام تَصِلْ، كما أنك إذا أردت السفر تسافر ليلاً فتطوى الأرض لك، فإذا قمت بالليل طويت العبادة لك، وطويت المشقة، فتشعر بهذه اللذة؛ لأن في الليل الإخلاص، إذ لا يتصور أن يقوم مراءٍ منافق من سريره ولا يراه أحد، فيتجشم الوقوف أمام الله رب العالمين ليرائي؛ فلا يقوم بالليل إلا مخلص؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بشيء من الدلجة) لأن هذا هو الذي يناسب أول الحديث: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا وعليكم بشيء من الدلجة).
إذاً: هؤلاء الخوارج الذين كفروا جمهور الصحابة، وكفروا عامة المسلمين بارتكاب الكبيرة، لسان حالهم يقول: نحن أبرار، نحن لا نرتكب الكبيرة؛ لذلك نحن مؤمنون وأنتم كفرة.
ما معنى أن يكفر غيره بالكبيرة؟ معناه: أنه لا يفعل الكبيرة، فرجل يبرئ نفسه من الإثم ويرمي به غيره ظالم معتد.
لذلك خرج من تحت عباءتهم -أو شاركهم في بعض ما يقولون- جماعة أتوا فقالوا: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد! انظر إلى الكلام! إن الله يجب عليه! من الذي أوجب عليه؟! وهل لأحد عليه حق.
؟! إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد! وهذا قول المعتزلة، وهذا كله بسبب الغلو.
والجهمية الذين نفوا عن الله تبارك وتعالى صفاته فعلوا ذلك بسبب الغلو، فكل داء خرج من تحت عباءة الغلو.
هناك مناظرة طريفة حدثت بين أبي الحسن الأشعري وبين شيخه أبي علي الجبائي رأس المعتزلة، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله كان رأساً في المعتزلة؛ لكن بعد هذا المناظرة ترك مذهب الاعتزال.
قال أبو علي الجبائي: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح لعباده.
فقال له أبو الحسن -وكان لا يزال على مذهب المعتزلة: أفرأيت إلى ثلاثة إخوة: أحدهم مات صغيراً قبل أن يحتلم، وكبر اثنان، فآمن أحدهما وكفر الآخر، فدخل المؤمن الجنة، ودخل الكافر النار.
فقال: ما حالهم؟ قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: إن الذي كبر وكفر استحق النار، والذي كبر وآمن استحق الجنة.
وما حال الصغير الذي قبضته قبل أن يحتلم؟ قال: علمت أنه لو كبر لكفر، فدخل النار، فراعيت مصلحته فقبضته صغيراً، فحينئذ صاح الذي في النار وقال: يا رب! لم لم تراع مصلحتي؟! لم لم تقبضني صغيراً كأخي؟! قال: فانقطع أبو علي الجبائي، وخرج أبو الحسن من المعتزلة؛ لأنه كلام متناقض على أصولهم، إذا كان الله يجب أن يفعل الأصلح لعباده فما هو الأصلح أن يدخل العبد النار؟! كل هذا بسبب الغلو، ولا تجد فُرقةً بين المسلمين إلا بسبب الغلو؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، فقال: (إياكم والغلو! فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين) ولذلك كان كلما خطب عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) لأنه كان هدياً قاصداً، ما فيه عنت؛ لذلك أسعد الناس هم المتبعون للرسول عليه الصلاة والسلام، لا يجدون على الإطلاق مشقة.(146/11)
سر عظمة الصحابة
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لماذا سادوا ووصلوا؟ كانوا لا يتعبدون بالخلاف، بل كانوا يتحاشون الخلاف ما أمكن، فإذا اختلفوا فكان الله تبارك وتعالى يقي شر هذا الاختلاف بإخلاصهم في طلب الحق، فإن التعبد بالخلاف جريمة، الصحابة ما كانوا يفعلون ذلك، ولذلك حدثت المواقف العظام التي لو حدث عشرها، بل عشر معشارها لطارت فيها رقاب الآن.
سقيفة بني ساعدة يا لها من موقعة! يا له من موقف حدث للمسلمين بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام! كان النبي صلى الله عليه وسلم ملء السمع والبصر، ما كان أحد يتصور أن يعيش بدونه كما قال أنس بن مالك: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً فأضاء منها كل شيء، فلما دفناه أظلم منها كل شيء) انظر إذاً واحد يعيش مع هذا النور، لا يتصور أن يعيش لحظةً بدونه، وفجأة فقده، فجأة صار يمشي ولا يراه، بالله كم تكون مصيبته؟ إنها أعظم المصائب؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب) فإنك لن تصاب بأعز منه، ولا أجل منه، ولا أفضل منه، لن تصاب بأعز منه أبداً، فتصور الذين عاشروه وعايشوه ورأوه، فجأة فقدوه كانوا إذا ادلهمت عليهم الخطوب ذهبوا إليه فسألوه، الآن مات عليه الصلاة والسلام ولم يفصل في المسألة من يكون الخليفة من بعده، وارتدت العرب، وبدأ الناس يتفلتون، واختلف المهاجرون والأنصار في من يمسك هذا الأمر، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، الأنصار يقولون: نحن أولى بهذا الأمر، نحن أهل النصرة وأهل الدار والإيمان.
وأبو بكر يقول: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء.
ومرت ثلاثة أيام، تركوا النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام لا يدفنونه بسبب هذا الأمر، ما دفنوه ثلاثة أيام؛ بسبب اختلافهم.
كان يمكن أن تطير فيها رقاب، لا سيما مع حرص الناس على الإمارة، وهذا شيء مفطور في الإنسان.
واختلف المهاجرون والأنصار، وظلوا يختلفون ثلاثة أيام، حتى جاء عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق إلى سقيفة بني ساعدة، وكان أبو عبيدة بن الجراح معهما، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إني اخترت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة بن الجراح.
قال عمر: فأخذت بيد أبي بكر فقلت: ابسط يدك فلأبايعك.
فبسط يده، فبايعته فبايعه الناس، قال عمر -وقد وصف هذا الذي حدث-: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها؛ لماذا؟ لأن الكل مخلص في طلب الحق.(146/12)
بين التيسير والتفريط
إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الأسوة الحسنة، وما شق على أمته يوماً ما، بل لما علم أن معاذ بن جبل يطيل على المسلمين في صلاة العشاء قال: (أفتان أنت يا معاذ؟! هلا صليت بالشمس وضحاها، وبالليل إذا يغشى؟) ويقول: (إني لأدخل في الصلاة فأريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز فيها رحمة بأمه) كل تشريعه رقة ويسر، وليس معنى هذا أن الواحد يترك الواجبات ويقول: إن الله غفور رحيم لا، إنما يكون اليسر بالاتباع، تصل إلى اليسر باتباعك للرسول عليه الصلاة والسلام.
إياك -أيها المسلم- أن تضع أحداً في مقابله! فإنه لا يوجد أحد يزنه، ما هناك أحد يوضع أمامه في الميزان عليه الصلاة والسلام، فكيف ترضى بالدون؟! {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61].(146/13)
طلب اليسر بالتحاكم إلى الكتاب والسنة
لقائل أن يقول: ما قلته حسن وجميل، ولكننا نريد أن نصل إلى هذا الهدي -هدي النبي صلى الله عليه وسلم- فكيف لنا به؟ كيف نستطيع أن نصل إلى هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نرى اليسر في عبادتنا، بل في حياتنا؟
الجواب
يجب علينا أن نرد مشكلات الحياة -وديننا يهيمن على الحياة، خلافاً لهؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يفصلوا ديننا عن الحياة- نرد جميع مشكلاتنا إلى الله ورسوله، والرد إلى الله والرسوله يكون بالرد إلى النص.
إن كثيراً من الناس يزعمون أنهم يردون الكلام إلى الله ورسوله، وهم من أبعد الخلق عن النص، ولابد إذا وصلك النص من التسليم، وهذا شرط، كما قال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] وهذا من المواضع القليلة التي أقسم الله تبارك وتعالى فيها بذاته العلية في القرآن الكريم، كقوله تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23]، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92].
فقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، أي شيء يتشاجر فيه اثنان لابد من الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يرد فإن الله تبارك وتعالى أقسم ونفى الإيمان عنهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
هذه الآية نزلت -كما في الصحيحين- بسبب أن رجلاً من الأنصار تشاجر هو والزبير بن العوام على ماء كانوا يسقون به زراعتهم، أرض الزبير بن العوام مرتفعة، وأرض الأنصاري أخفض من أرض الزبير بن العوام، وأنتم تعرفون ما كان هناك أنهار، ولا كان هناك أنابيب، ولا شيء الماء يتجمع في مكان وبعد ذلك يحفروا له قنوات، فالشيء الطبيعي أن الرجل الذي أرضه مرتفعة هو الذي يسقي أولاً؛ لأن الأرض المنخفضة لو استوعبت الماء يبقى الذي في العالي لن يصل إليه ماء.
الزبير بن العوام أرضه مرتفعة، والأنصاري أرضه منخفضة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فهذا الأنصاري قال للرسول عليه الصلاة والسلام: حكمت له أن كان ابن عمتك؟! بسبب أنه ابن عمتك جعلته يسقي أولاً! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء) قال الزبير: فنزلت الآية {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] مع أن الاثنين حكموه، هاهو الصحابي أتى بـ الزبير وحكموه، لكن مجرد التحكيم لا يكفي، ما زال هناك أشياء {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] أي: ضيقاً في الصدر {مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] وليس هذا فقط، بل {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
كل إنسان يرفع خصومه مع آخر، قطعاً هو يريد الشيء؛ وإلا لو كان يعلم أن الشيء هذا ملك صاحبه ما كان اشتجر ولا رفع الأمر للسلطان.
فكل خصمين يخرجان إلى ساحة القضاء كل منهم يظن أنه صاحب الحق، فبالتالي إذا حكم القاضي لخصمك يسوءك ذلك، فالله تبارك وتعالى قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مما قَضَيت} [النساء:65] يعني: إذا قضى لخصمك عليك لا يكون في صدرك حرج وضيق بسبب أنه قضى لخصمك عليك، ولا تبلغ تمام الإيمان بذلك، بل لابد أن تسلم تسليماً، التسليم يعني: أن يزول الحرج تماماً ويحل محله الرضا، كأنه حكم لك.
مَنْ مِنَ الناس يفعل ذلك؟ إذا خصمه أخذ الأقضية فرح له كما لو كان هو الذي أخذها؟ مَنْ مِنَ الناس يفعل ذلك؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(146/14)
السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه
إن الله تبارك وتعالى جعل الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بلغنا نوعين من الوحي: النوع الأول: القرآن.
النوع الثاني: السنة.
لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] أي: ما يتكلم، ما ينطق عن هوى نفسه، إنما الذي ينطق به وحي يوحى، فدل ذلك على أن السنة من الوحي.
ومن أظهر الدلائل على أن السنة من الوحي: قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أوتيت القرآن وأوتيت مثل القرآن مع القرآن، التي هي السنة؛ لأن السنة بالنسبة للقرآن بمنزلة المبين كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] فلو أن السنة ضاعت ما استفاد الناس من كثير من لفظ القرآن، ولظل القرآن مجملاً في كثير من المواضع.
الصحابة الذين هم العرب الأقحاح لم تدخل ألسنتهم عجمة، وكانوا أولى الخلق بإصابة الحق وفهم الكلام، كان هناك بعض آيات القرآن ما فهموها لولا أن النبي عليه الصلاة والسلام بين لهم.
لما نزل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فهؤلاء عرب أقحاح -كما قلت- لما سمعوا كلمة (ظلم) هكذا نكرة لأنه ليس فيها ألف ولام، و (ظلم) نكرة في سياق النفي تفيد العموم.
إذاً أي ظلم يقع فيه العبد يخرجه من دائرة الأمن؟ هم هكذا فهموا الآية، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بأي ظلم كان -قليلٍ أو كثيرٍ- {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
من الذي لم يخطئ؟ لا أحد: (كل بني آدم خطاء) إذاً: كل إنسان ارتكب الظلم.
ولذلك فهموا أنهم ليسوا في دائرة الأمن؛ وشق عليهم ذلك، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟).
هؤلاء صحابة، لو كان أحد يصيب الحق لكانوا هم، ورغم ذلك لم يفهموا مراد الله من الآية، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس كما تفهمون، أولم يقل العبد الصالح -الذي هو لقمان - {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فالظلم: هو الشرك) إذاً ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام ظهر أن الظلم المقصود في آية الأنعام هو الشرك الأكبر، وليس المقصود به أي ظلم مثل ما الصحابة فهموا.
فالبيان لابد منه؛ ولذلك السنة مهمة جداً بالنسبة للقرآن، لما نزل قوله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] كان أحد الصحابة يأتي بخيط أبيض وخيط أسود ويضعه في أصابعه ويظل ينظر فيه، إذا ميز بينهما توقف عن الأكل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي الذي فعل ذلك: (إن وسادك لعريض -يعني: أنت عريض القفا- إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) لكنه نظر، بادر إلى العمل على قدر فهمه.
النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته رضي الله عنهن: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني يقول: إن أول واحدة ستموت بعدي منكن أطولكن يداً، فكن يقسن أيديهن بأيدي بعض، قالت عائشة: (وما فهمناها إلا حين ماتت زينب رضي الله عنها) أول من ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة، فقصر الطول يستتبعه قصر الأعضاء، فعرفن أنه ليس المقصود بها اليد، إنما المقصود بها الصدقة (أطولكن يداً) أي: بالصدقة، فحينئذ فهموا.
لكن الذي يأخذك ويأخذ بمجامع قلبك أنهم يبادرون إلى التنفيذ على قدر الفهم، فنحن عندنا السنة بمنزلة البيان بالنسبة للقرآن، القرآن فيه كثير مجمل: الصلاة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات أمر بإقامة الصلاة لكن لا نعرف كيف نقيم الصلاة متكاملة إلا من لفظ النبي عليه الصلاة والسلام.
السنة من الوحي كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني أوتيت القرآن ومثله) مثل القرآن السنة التي هي بيان القرآن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} [النحل:44].
الحديث الآخر الذي يدل على أن السنة من الوحي ما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما سودة رضي الله عنها -وكانت امرأةً بدينة، طويلة، وسودة هذه زوج النبي عليه الصلاة والسلام- خرجت تقضي حاجتها إذ رآها عمر، فقال: يا سودة! انظري كيف تخرجين! فوالله ما تخفين علينا.
فغضبت سودة ورجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تشتكي عمر -وكان في بيت عائشة رضي الله عنها- قالت عائشة: فدخلت فقالت: يا رسول الله! أرأيت إلى عمر، يقول كذا وكذا.
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان في يديه عرق يتعرقه -الرجل الأمامية للشاة، الرسول عليه الصلاة والسلام يأكل اللحمة الملتصقة بالعظم- إذ أوحي إليه، فأخذه ما يأخذه من الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشاتي شديد البرد يتصبب عرقاً)، كما قال زيد بن ثابت: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم ركبته على ركبتي، فنزل قوله تبارك وتعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] قال: فثقلت فخذه حتى كادت أن تُرض فخذي من ثقل الوحي).
لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي كادت فخذ زيد بن ثابت تتهشم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أوحي إليه وهو يركب الناقة تبرك على الأرض، لا تستطيع أن تحمله وهو يوحى إليه، تضرب بجرانها على الأرض؛ لأنه وحي! كلام ثقيل! كله تبعات وتكليف! قالت: (فأخذه ما يأخذه من الوحي، ثم سري عنه، فقال لها: إن الله قد أذن لكن في قضاء حوائجكن) ونحن نعلم يقيناً أن هذه ليست آية، لكنها كلمات أوحي بها إليه، قال: (إن الله قد أذن لكن) مما يدل على أن الوحي يكون بالسنة أيضاً.
إذاً: نحن عندنا وحيان: الوحي الأول: القرآن، والوحي الثاني: السنة فإذا أردت أن تصيب الحكم لابد أن ترد الأمر إلى الله ورسوله.(146/15)
قواعد في فهم القرآن والسنة(146/16)
الخاص مقدم على العام
إذا كانت لدينا مسألة خاصة نريد تحرير الكلام فيها: لا نأتي بالأدلة العامة فنحتج بها على ذلك الخاص، بل لا بد من دليل خاص.
مثال: قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] الميتة هنا: لفظ يفيد العموم، يعني: جميع أنواع الميتة حرام، وجميع أنواع الدماء حرام.
إذاً: هذا لفظ عام.
هل جميع الدماء حرام؟
الجواب
لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أحل لنا دمان: الكبد والطحال) والكبد هي دم، والطحال هو دم.
فإذاً: عندنا هذا الحديث خصص بعض أنواع الدماء من الآية الكريمة، وكذلك عندنا ميتة السمك والجراد، فهذه تخصص من الميتة الموجودة في الآية.
فكيف نفهم الآية إذن؟ حرمت عليكم الميتة إلا السمك والجراد، والدم إلا الكبد والطحال.
أنا أقدم بهذا المثال لكي نصل إلى القضية التي ذكرتُها إذا كان هناك نوع محرم من الدماء، وجاء الإذن لك بأكل الدماء أو بشربها فلا تقل: أنا عندي الأمر العام بشرب الدماء! لماذا؟ لأن النهي جاء خاصاً، فهو يعمل في مكانه، والعام ليس بحجة على الخاص، إنما الخاص هو الحجة على العام، ولذلك خصصنا العام بالخاص، يعني الآية ليست عامة (حرمت عليكم الميتة والدم) خصصنا عموم الميتة بالحديث، وخصصنا عموم الدم بالحديث، فالمخصص هو المقدم دائماً.
إذاً: إذا كانت هناك قضية خاصة لا تحتج عليها بالأدلة العامة؛ لأن هذا ليس من الرد إلى الله ورسوله، إذا سمعت قوله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وقلت: ما هو حكم الدم الموجود في الفراخ بعدما نذبحها؟ فإننا نغسل الدجاجة أو البط ونجد دماً في العروق، ما هو حكم هذا الدم؟ والدم كثيره وقليله حرام لماذا؟ لأن الآية ما فرقت بين قليل ولا كثير.
فما هو حكم الدم؟ نحن نريد دليلاً، نريد قول الله ورسوله في الموضوع، يأتي العلماء يقولون لك: إن هذا الدم معفو عنه.
ما هو دليل العفو؟ قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] إذاً: المحرم هو الدم المسفوح الذي يصب صباً، الذي ينزل من العروق مصبوباً، هذا هو الدم المسفوح، إذاً: الدم المحرم هو المسفوح، غير المسفوح معفو عنه.
إذا كان متجمداً مثل الكبد -فهو دم متجمد وليس مسفوح- فقد خرج من الدم المحرم.
كذلك الدم الموجود في العروق ليس مسفوحاً بطبيعة الحال؛ لأنه لا يصب، هو بقايا دماء موجودة في العروق.
إذاً: لما رددنا إلى الله ورسوله على القواعد التي ذكرها أهل العلم أصبنا الحق.(146/17)
رد كل قول يخالف الكتاب والسنة مع احترام العلماء
علماء المسلمين جميعاً يأمروننا بالرد إلى الله ورسوله، لا يحجزك عن الله ورسوله حاجز، لا عالم ولا غيره، لأن الرد إنما يكون إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام، إنما العالم مهما جل قد يخطئ، قد لا يعرف وجه الحق في المسألة رغم جلالته، ألا ترون إلى مالك بن أنس رضي الله عنه وفحولته وجلالته؟ روى البيهقي في سننه، عن ابن وهب وابن وهب هذا هو: عبد الله بن وهب، الإمام المصري، العلم الفرد، وكان من تلامذة مالك.
روى البيهقي في سننه، عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً وسئل عن التخليل بين الأصابع -يعني وأنت تتوضأ تخلل بين الأصابع بإصبعيك، توصل الماء سواء كان أصابع اليدين أو أصابع الرجلين، أو البراجم- ما تقول فيها؟ فقال: ليس ذلك على الناس -يعني: لا يوجد أحد يعمله- قال: فقلت لـ مالك: كيف تقول هذا وفيه عندنا سنة؟ هل مالك لا يعرف السنة في تخليل الأصابع؟ نعم، لا يعرفها، أبى الله أن يجمع العلم في واحد، ولهذا كيف يتم عجز الإنسان؟ يتم عجز الإنسان بأنه ناقص مهما كان، ما جمع الله العلم كله إلا في الرسل؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: (ما منا من أحد إلا وتعزب عنه -أي: تغيب- سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمهما أصلت من أصل أو قلت من قول وكلام النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه فخذوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم).
فـ ابن وهب يقول لـ مالك: كيف تفتي بهذا وفيه عندنا سنة؟ قال: وما عندك؟ قلت: حدثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن فلان عن فلان عن المستورد بن شداد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل بين الأصابع) فانظر إلى الإمام مالك! الإمام المنصف! يقوم يغتبط بهذه الفائدة ويفرح، لا يستنكف أن تلميذه رد عليه أو علمه، فقال: هذا حديث حسن جداً، وما سمعت به إلا الساعة.
قال ابن وهب: فحضرته في المجلس بعد ذلك، فكان يفتي بسنية التخليل بين الأصابع.
إذاً: أي عالم مهما كان فحلاً كبيراً تفوت عليه سنة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه واسطتك إلى معرفة الحق.
أنت تلزمه إذا كان عالماً ربانياً، وإذا ظهر لك أن السنة في خلاف قول العالم تترك قول العالم وتمتثل قول النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن العلماء جميعاً قالوا لك ذلك.
وهناك أرجوز لطيفة كثيراً ما أرددها لجمالها وحلاوتها وطلاوتها، لخص فيها صاحبها -رحمه الله تبارك وتعالى- هذا الكلام المبارك لعلماء المسلمين في وجوب ترك أقوالهم والالتزام بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حال المعارضة، إذ لا يجوز لأحد أن يضع في الكفة أحداً في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرضا على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر لما قال الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي عليه الصلاة والسلام، كل علماء المسلمين، ليس من العلماء الأربعة فقط: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، كل علماء المسلمين تبرءوا أحياءً وأمواتاً من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، بأن تلتزم قول العالم بعد ما ظهر لك بجلاء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم يخالف قول العالم، إذ أن الرد إنما يكون إلى الله ورسوله.
ولذلك كان من ثمرات الذي يرد إلى الله ورسوله أنه يحيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ولا يحيا القلب إلا بالوحي، فإن الله تبارك وتعالى جعل الأمر على قسمين لا ثالث لهما، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا.(146/18)
عدم صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته
وهذه بدهية لا نطيل الكلام عليها لوضوح الأدلة عليها، لكن كيف نرد؟ إذا رددنا إلى الكتاب والسنة بأي طريقة نرد طالما اتفقنا على أن نرد إلى الكتاب والسنة؟ نقول: إن العلماء يقولون: الأصل في الألفاظ الحقيقة، والأصل أيضاً الظاهر.
ما معنى هذا الكلام؟ مثلاً لفظ (اليد) إذا سمعت لفظ (اليد) أول ما يخطر على بالك اليد التي لها خمس أصابع، يد الإنسان، لكن هذه الكلمة -التي هي كلمة (يد) - يمكن أن يكون لها معنى آخر غير اليد التي هي الراحة التي فيها خمس أصابع، يمكن أن تكون بمعنى النعمة مثلاً، كما لو قلت: فلان له علي يد، أي: له علي جميل.
لكنك ما صرفت اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة، سياق الكلام هو الذي أخرجه.
أنت لو سمعت كلمة (صوم)؛ شخص قال لك: إني صائم.
أول معنى يخطر على بالك ما هو؟ صائم عن الأكل والشرب والجماع، الصيام الذي نحن نعرفه، لكن هل الصيام هو ذلك فقط؟ لا، أصل كلمة (صيام) يعني: الإمساك.
كلمة (صيام) معناها: الإمساك عن أي شيء اسمه صيام.
ألا ترون إلى قول مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] يعني: الصوم عن الكلام، ليس الصوم عن الأكل والشرب.
ما الذي أعلمنا أن صيام مريم عليها السلام الذي هو الصيام عن الكلام؟ سياق الآية، لكن لو كانت الآية: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] ووقفت على هذا، نفهم أن المقصود بالصيام: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مثلاً، فلما أتممنا بقية الكلام عرفنا أن الصيام المقصود ليس هو الصيام المتبادر إلى الذهن، إنما هو صيام مخصوص.
الأصل في الألفاظ الحقيقة، فلو قلت: سلمت على أسد -ونحن نعلم أن الأسد لا يسلم عليه- فإن سياق الكلام يدل على أنك تقصد: سلمت على رجل كالأسد.
لذلك سياق الكلام إحدى القرائن الصارفة للكلام.
يبقى الأصل في كلام الله ورسوله أن ينزل على الحقيقة، لا يصرف عن غير الحقيقة إلا بدليل؛ ولذلك أصابنا شر عظيم بسبب الحيدة عن هذا الأصل الكبير.
ومن أشد الناس ضلالاً في هذا الصوفية أصحاب التفسير الإشاري ك ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين؛ فهؤلاء خرجوا عن ظاهر الشريعة وأصل الكلام فأحدثوا من الفساد ما لا يعلمه إلا الله! الروافض غلاة الشيعة الذين هم مثل أصحاب إيران الآن، ما هؤلاء كلهم روافض ليسوا شيعة فقط، يا ليتهم شيعة! الشيعي قديماً كان يقدم أبا بكر وعمر ويعظمهما لكن يقول: أنا أرى أن علياً أولى بالخلافة من عثمان، إذا كانت المسألة هكذا تبقى خفيفة.
لكن هؤلاء روافض يسبون أبا بكر وعمر، ويزرون بالصحابة ويقولون: إن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق ما عدا ستة! هؤلاء الروافض لما فسروا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قالوا: يعني أن تذبحوا عائشة! ما دخل البقرة بـ عائشة؟! افتح القاموس، هل تلاقي من مفردات كلمة (بقرة) أو من معانيها عائشة؟! لأنهم روافض ويكرهون عائشة فلذلك قالوا: (بقرة) يعني: عائشة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] أبو بكر {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] عمر {وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] عثمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] علي! ما هذا الكلام؟! من يفهم أن (اصبروا) هي أبو بكر؟ وهؤلاء صندوقهم لا ينتهي؟ يضع أحدهم يده في الصندوق ويخرج بحاجة ما الذي أدخل أبا بكر وعمر في الآية؟ وبعض المنتسبين لأهل السنة يريد أن يرد على الشيعة؛ فيفسر بعض آيات القرآن الكريم مثل ما هم يفسرون.
يأتي محيي الدين بن عربي (وليس بمحي للدين، فإنه عمل فساداً عريضاً في هذا الدين) يفسر -أو يحرف- قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7].
أنت -أيها المسلم- إذا سمعت هذه الآيات تعرف أن الناس ينزلونها على الكافرين، هو قال: إن هذه الآيات نزلت في أهل الورع! فهي لم تنزل في المسلمين فحسب، بل نزلت في المؤمنين الخلص.
فماذا عن كلمة (كفروا)؟! أين تذهب بها؟! قال لك: (كفروا) يعني: كفروا إيمانهم؛ أي: غطوه، فحجبوه عن الناس خشية أن يحبط بالرياء.
انظر إلى التحريف! يقول: (إن الذين كفروا) أصل الكفر هو التغطية، كما قال تبارك وتعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الذين هم الزراع؛ لأن الفلاح حين يزرع البذرة في الأرض يغطيها فيقال فيه: كفرها.
وسميت الكفور كفوراً لأنها تكفر بالأشجار.
وهذا مكان اسمه (كفر الشيخ) سميت كفراً لأن أصل الكفر: البيوت الكثيرة التي التفت حولها الأشجار فغطتها عن العيون، فلذلك كان اسمها كفراً، وسمي الليل كافراً لأنه يغطي نور النهار، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان.
فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] أي: إن المؤمنين من أهل الورع الذين كفروا إيمانهم يعني: غطوه، فلا يظهرونه للناس خشية أن يحبط بالرياء.
فماذا عن قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]؟!! أين تذهب بها؟ قال: الإيمان أصله التصديق، فمهما هددهم الناس وتوعدوهم فهم لا يصدقون بذلك، ومصداقه قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] فلا يدخلها غيره انظر إلى التحريف! {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] فلا يسمعون إلا منه.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] فلا يرون الباطل.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] يعني: من الناس المخالفين لهم.
انظر انظر إلى هذا الكلام! انظر إلى التحريف! ويزعم أن هذا هو التفسير المتين، وأنه هو الذي يفهم القرآن، وعلماء الشريعة هؤلاء علماء الظاهر الذين لا يفهمون شيئاً، إنما هؤلاء علماء الباطل أوالباطن كما يقولون.
كل جناية عن الشريعة بسبب صرف اللفظ عن ظاهره أو حقيقته.
ولذلك الجهمية الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى بدعوى التنزيه، يقولون -في تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] (يد الله) أي: قدرته أو نعمته فهذا تحريف.
انظر إلى النفي والإثبات في قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فنفى المثلية وأثبت السمع والبصر إذاً: كل الصفات التي تثبتها تحت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] له يد وليس كمثله شيء، له سمع وليس كمثله شيء، له بصر وليس كمثله شيء، كل صفاته تحت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
إذاً: نثبت لله يداً على الحقيقة، لكن كما يليق بجلاله.
قال ابن قتيبة رحمه الله: ومن الأدلة على بطلان قولهم: (إن اليد بمعنى النعمة في القرآن) أن العرب إذا قصدت أن اليد بمعنى النعمة، فإنها إما أن تفردها وإما أن تجمعها، فتقول: فلان له علي يد أو أيادٍ -إما أن تورد اليد بالإفراد وإما أن توردها بالجمع- ولا يثنون اليد أبداً وهم يقصدون النعمة، لدينا المفرد والمثنى والجمع، خرج المثنى من الموضوع يبقى لنا الإفراد والجمع، فالعرب إذا أرادت اليد بمعنى النعمة إما أن تفرد وإما أن تجمع.
ثم قال: اقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:64] مثنى أو جمع؟ مثنى، قال: فذلك يدل على أن اليد على الحقيقة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].
ابن قتيبة هذا أحد علماء العربية الأقحاح، رجل متضلع حتى النخاع، فيقول: إن العرب لا تعرف اليد بمعنى النعمة إلا في الإفراد والجمع.
فالمبتدعة الذين أرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى فأخرجوا الألفاظ عن ظاهرها، كانوا معسكرين: معسكر نفى الصفة، ومعسكر رد عليهم وبالغ حتى شبه الله بخلقه.
معسكر قال: ليس له يد، بل اليد بمعنى النعمة.
والمعسكر الثاني رد عليه وقال: له يد مثل يدي هذه.
والحق بينهما.
ولذلك رحم الله القائل: إن المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.
المعطل -وليس المنزه- يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً ما معنى هذا الكلام؟ المعطل: كلما تأتي له بصفة من صفات الله يعطلها مباشرة حتى لا يشبه الله بخلقه، يقول لك: لا، هو لا له يد، ولا له سمع، ولا له بصر، ولا له إصبع، ولا له قدم، ولا له أي صفة من هذه الصفات.
أليس هو إلهاً؟! ما هي صفاته؟! يقول: لا سميع ولا بصير ولا قدير ولا شيء من هذا.
إذاً يعبداً عدماً! لما عطل صفات الله تبارك وتعالى عبد العدم.
والمشبه -الذي رد على المعطل لكنه تطرف في الناحية الثانية- يعبد صنماً؛ لأنه جعل من إلهه شبيهاً بخلقه.
إنما الرجل من أهل(146/19)