تعريف الكبيرة وحقيقتها
الكبيرة هي: كل وعيد ختمه الله عز وجل بعذاب أو بنار أو بلعنة أو بغضب، كل هذا كبيرة، وكل معصية أوجبت الحد فهي كبيرة، وألحق العز بن عبد السلام بهذا: من استهان بالذنوب حتى لو تبين له أنها حلال، نضرب مثلاً لذلك: لو أن رجلاً أراد أن يزني فوطئ امرأة، فاكتشف أنها زوجته، هل الإثم ينحط عن هذا الإنسان؟
الجواب
لا، كذلك لو أقدم على قتل إنسان يظنه معصوم الدم -أي: لا يحل له أن يقتله- فاكتشف عندما نظر في جثته أن هذا قتل أباه أو أخاه، وأن دمه هدر، فهذا يؤاخذ؛ لأنه لما قتل كان يعتقد أنه يقتل معصوم الدم، ولا عبرة في أن يقول: إن هذا كان حلال الدم؛ لأنه قتل أبي أو قتل أخي فوجب منه القصاص، وهذان المثلان ضربهما العز بن عبد السلام فيمن يستهين بالذنوب.
فالكبيرة هي ما ختم بعذاب أو غضب، كقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فهذا واضح أنه من أكبر الكبائر، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر هذا من السبع الموبقات، التي بدأها بـ: (الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أي: ينبغي أن يقتل بحق: إما زنا بعد إحصان، أو ردة عن الإسلام، فالقتل العمد من السبع الموبقات، ولقد ختمه الله عز وجل بخمس عقوبات.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا بكل أسف استهان به كثير من المسلمين، مع أن العقوبة مضاعفة على صاحبها!: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -هذه كلها تؤذن بأن الذي سيأتي من الكبائر-: المسبل إزاره) الذي يطيل الإزار تحت الكعبين، والكعب: هو العظم الناتئ في أعلى القدم، وهناك كثير من المسلمين يجرجرون أزرهم، ويقولون: المهم القلب، ويقولون: نحن لا نفعل ذلك خيلاء، وحسبك ما ورد من الوعيد في مقدم الكلام: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -كيف يقال: هذه قشور، أو هذه صغيرة وقد تقدمها هنا الوعيد؟! -: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) في الأسواق يحلف بالأيمان الغلاظ أن هذه السلعة جيدة وممتازة، وهو يعلم أن هذه السلعة مكتوب عليها: صنعت في بلد كذا، وهو الذي وضع هذه الصناعة، كثير من التجار يسأل، مثلاً عن البضاعة اليابانية فيجد لها قيمة، وجميع الناس يقبلون عليها، فهل يجوز لنا أن نأتي ببضاعة من الصين أو من أي بلد ونضع عليها صنع في اليابان، والناس يقبلون على ذلك؟ فهذه سرقة، وحرام شرعاً.
كذلك تغيير مقاسات الملابس، يعلمون مثلاً أن المقاس الأكبر هو المطلوب، فيأتي التاجر على المقاسات المتوسطة ويضع عليها مقاساً كبيراً، فأنت تنظر إلى الورقة الموضوعة على الملابس وتشتري، ثم تجد أن هذا الذي كنت تظن أنه يلائمك، على مقاس ولدك الصغير، وهذا كله حرام وغش وفسق، ولا يجوز، ويحلف بالله العظيم أن هذه السلعة صنعت في اليابان، أو في البلد الفلاني، فهذا ينفق سلعته بالحلف الكاذب.
وقوله: (والمنان) -الذي إذا فعل منّ- فهذه كلها تؤذن أنها من الكبائر.
فالكبيرة: ما لعن فاعلها، وهذا ما ذكره العلماء في الحد، إذا لعن الله أحداً أو لعن رسوله أحداً فقد ارتكب كبيرة، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) وهذا الحديث من الأحاديث التي فيها جواز لعن المعين، كما في الحديث الحسن: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن جاري ظلمني.
فقال له: خذ متاعك، وقف على قارعة الطريق.
فأخذ الرجل متاع البيت ووقف على قارعة الطريق، فمر رجل، فقال: مالك يا فلان؟ فقال: جاري ظلمني.
فقال: لعنه الله، قاتله الله ومضى.
وجاء آخر فقال: مالك يا فلان؟ فقال: ظلمني جاري؛ فقال: لعنه الله، قاتله الله ومضى.
وجاء ثالث -وهكذا دواليك، والجار يسمع- فجاء الجار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! مره أن يرد متاعه إلى الدار فإن الناس لعنوني).
وفي النساء المتبرجات قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العنوهن إنهن ملعونات) المرأة التي تسير في الطريق متبرجة كاشفة عن شعرها ونحرها وصدرها وساقيها ويديها قال: (العنوهن إنهن ملعونات) لا تقل: لعنة الله على فلانة بنت فلان لا، لكن قل: لعنة الله على المتبرجات، فهذا يشمل جنس المتبرجات، ولكن لا نلعن فلانة بنت فلان؛ لاحتمال أن تتداركها رحمة الله عز وجل فتتوب، وأصل اللعن: الطرد من الرحمة.
فأيما نص وجدت فيه لعناً لصاحبه فهذا داخل في أبواب الكبائر.
أسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم كبائر الذنوب وصغارها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(105/5)
حقيقة اللمم وعدم انفكاكه عن الإنسان
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] (اللمم): ما يلم بك مما لا تستطيع دفعه، فيقع المرء فيه إما بجهل وإما بهوى.
و (اللمم): الصغائر.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل ابن آدم خطاء) فأنت لا تنفك عن ذنب أبداً، لابد أن تقع في الذنب، فاجتنب الكبائر، فإذا وقعت في الصغائر بجهل أو هوى غفر الله لك؛ لأنه قال بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] أي: أنه لم يسوِ اللمم بالكبائر، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، إذ كل ابن آدم خطاء، فلابد أن يصيب ذنباً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب؛ غفرت لعبدي.
ثم أذنب ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب؛ غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب؛ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) أي: ليس إذناً أن يفعل ما يشاء؛ لكنه طالما يعترف أنه مذنب، ولا يجحد أنه عاصٍ، ويرجع إلى ربه؛ فإن الله أكرم من أن يبقي الذنب عليه بعد اعترافه.
فهذا الحديث من جملة أحاديث كثيرة تبين أن العبد لابد أن يقترف الذنب، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة) لابد أن يأخذ حظه من الزنا، قال: (فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة: فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).
فاللمم الذي أشار إليه ابن عباس: كل شيء ما عدا الفرج.
هذا هو اللمم الذي لابد أن يقع فيه ابن آدم، من الذي لم ينظر إلى ما حرم الله؟ من الذي لم يتكلم بما يغضب الله؟ من الذي لم تسمع أذنه إلى ما حرم الله من الغيبة والنميمة والتجسس؟ من الذي ما ضرب ظلماً؟ من الذي ما خطا برجله إلى معصية؟ من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط فهذا كله من اللمم.
فإذا وقع العبد في زنا الفرج سمي زانياً، ولا يسمى زانياً -أي: الذي يوجب الحد الشرعي كالجلد والرجم وغيرهما- إذا نظر إلى المحرمات، ولا يسمى زانياً إذا بطش، إنما يسمى زانياً شرعاً وعرفاً إذا صدق الفرج ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحسن في الجاهلية فأسلم أعطاه الله عز وجل أجره مرتين، ومن أساء عوقب بالأول والآخر) فالفرج هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه؛ ولذلك كان الفرج هو الكبيرة، وكل ما عدا ذلك من مقدماته فهو اللمم.
وفي الحديث الصحيح (أن رجلاً قابل امرأة في الطريق، ففعل معها كل شيء إلا الجماع، فبينما هو يمشي إذ دخل في حائط، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني فعلت كذا وكذا، فسكت عليه الصلاة والسلام حتى نزل قوله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال: يا رسول الله! أهذه لي أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة).
فما من رجل يقع بجهل أو هوى في شيء من اللمم فاعترف بذنبه وتاب؛ إلا تاب الله عز وجل عليه، فهذا وعد الصدق الذي وعدنا ربنا تبارك وتعالى، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(105/6)
من للإسلام في زمن الغربة [2]
رمى أعداء الله هذا الدين الحنيف عن قوس واحدة، وكان في طليعتهم المرتدون من بني جلدتنا، فأثخنوا في الأمة، واضرموا نار الفتنة، ونفثوا السموم، فمنهم من أعلن عداءه للدين، ومنهم من أيد بصمته عن الباطل ودعمه لمتبنيه، فلا مخرج من هذا الاستضعاف إلا بالعودة إلى كتاب الله، والالتزام بنهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم(106/1)
تطبيق حد الردة في زماننا
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا هو حكم المرتد، من رضي بالكفر بعد الإيمان حكمه القتل سواءً كان رجلاً أو امرأة؛ كما قال علماء العربية والأصول أن: (مَن) و (مَا) والأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم والألف واللام التي تفيد الاستغراق من صيغ العموم أيضاً، ولفظة: (كل) و (جميع) أيضاً من صيغ العموم، فحيثما وجدت كلمة من هذه الكلمات في أي سياق فاعلم أن السياق يستغرق أفراد الجنس.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)، هذا يفيد العموم سواء كان رجلاً أو امرأة؛ وإنما دعاني إلى هذا القول أنه ورد حديث في بعض الكتب أنكره علماء الحديث، وبكل أسف تبناه بعض الفقهاء في كتبهم وقالوا بمقتضاه، وخصصوا به هذا العموم، وهو الحديث المنكر الباطل بإجماع علماء الحديث وهو: (إذا ارتدت المرأة لا تقتل)، وهذا خصوص أو تخصيص، وسلطوا هذا الحديث على الحديث العام: (من بدل دينه فاقتلوه)، فكانت النتيجة أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وأن الرجل إذا ارتد يقتل، ولكن الراجح أن هذا العموم قد سلم من التخصيص، ولا معارض له، وهو يشمل الرجال والنساء معاً.(106/2)
كيفية الخروج من مرحلة الاستضعاف
خروجنا من هذا المأزق بإعادة النظر في التعليم الشرعي، تقدم لي مشكلات وبكل أسف من طلبة في المعاهد الأزهرية نجحوا بتقدير عال (90%) و (93%) و (87%)، والطالب منهم يريد أن يدخل كلية الشريعة؛ لأنه مؤمن برسالة معينة، ويريد أنه يصل إلى درجة أستاذ في كلية الشريعة، يريد أن ينصر الله ورسوله، فيعترض عليه أهله، ويقولون له: تطلع في الآخر (فقي)؟!! أربيناك من أجل أن تكون في الأخير (فقي)؟! ومعنى كلمة (فقي) أي: فقيه، فكيف كانت هذه هي النظرة للفقه والفقهاء؟ كانت بسبب الإعلام الرسمي الذي حط من منزلة الفقهاء.
فيأتي لك بفلم، وولد خطب بنتاً من أهلها باسم الحب، ويريد أن يتزوجها باسم الحب، فيذهبون إلى مأذون يلبس العمامة والكاكولا، فيقول لهم: خلصونا بقا!! وهل هي في اللغة العربية لفظ (بقا)؟! فما المقصود من هذه العملية؟ المقصود منها تحقير هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، ولا زالوا يحطون من قيمة أساتذة العربية، من أيام دانلوك الذي وضع نظام التعليم القذر في بلادنا ونحن زرعناه في البلاد العربية، بينما مدرس الإنجليزي طيلة عمره محترم، وحصة الإنجليزي والفرنساوي والفيزياء والكيمياء تكون الحصص الأولى، وحصص اللغة العربية تكون الحصص الثالثة والرابعة، أما حصة الدراسات الإسلامية فلا تكون إلا في السادسة، عندما يكاد الطالب أن يقفز من فوق السور، ووصل إلى درجة من الإعياء أنه لم يعد قادراً على استيعاب أي شيء.
وفي نفس الوقت رفعوا درجات اللغة الإنجليزية، ورفعوا مرتب أستاذ اللغة الإنجليزية، فإذا كان مدرس اللغة العربية يأخذ أربعة جنيهات فإن مدرس الإنجليزي يأخذ اثني عشر جنيهاً، وهذا فيه تحقير، إذاً: من سيدخل قسم اللغة العربية إذا كان سيأخذ أربعة جنيهات؟! لذا فالأب يقول لابنه: ادخل يا بني قسم اللغة الإنجليزية حتى تحصل على إثني عشر جنيهاً، ومضافاً إلى ذلك الدروس الخصوصية، ولأنك ستكون ترجماناً، والترجمة الفورية مطلوبة في كل مكان.
ثم أعطوا مادة الإسلامية لمدرس اللغة العربية؛ لأن مدرس اللغة العربية مستواه الاجتماعي منخفض، فعندما يعطونه حصة الدين يكون الدين كذلك، ويأتون بمدرس اللغة العربية وهو يلبس (البنطال أبو الحمالات) وكل دقيقة يشد ويمط في (حمالات البنطال والحمالات تلسع) ويجعلون منه أضحوكة، ما المقصود من هذا الكلام؟ المقصود تحقير اللغة العظيمة التي نزل بها القرآن، وهذا مخطط قديم ورهيب، وأنا ألح عليكم أن تقرءوا رسالة: (في الطريق إلى ثقافتنا)، لأستاذنا الجليل الشيخ محمود شاكر حفظه الله، وهذه الرسالة فيها تاريخ تغريب التعليم من أيام محمد علي الذي يطلق عليه باعث النهضة الحديثة إلى الآن، رسالة يشيب شعرك وأنت تقرؤها، والشيخ محمود شاكر كانت له مساجلات عظيمة على صفحات مجلة الرسالة يوم أن كان لها قيمة، ثم نشر هذا التراث على شكل كتاب باسم أباطيل وأثمار، اقرءوا هذا الكتاب، فهو دفاع عن العربية وذود عن حياضها، ضد لويس عوض، وعبد العزيز فهمي الذي كرموه بأن عملوا اسمه على مترو مصر الجديدة.
إذا ذهبت لتركب من مصر الجديدة ترى على المترو اسم عبد العزيز فهمي، والذي كان يطالب بأن تحل اللغة العامية محل اللغة العربية، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله الأخ الأكبر للشيخ محمود شاكر له رسالة عظيمة في الرد على عبد العزيز فهمي، معارك على كل الجبهات، أين رجالنا على كل الجبهات؟ هل عندنا كوادر يقاتلون هؤلاء؟ لا.
ليس عندنا كوادر، إنما عندنا أشباه فقط، ومن أعظم أبواب الخلل اشتباه العالم بشبيه العالم؛ لأن الجاهل يأتي فيتزيا بزي العالم، فيظنه الناس عالماً، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك، ويذكرني هذا بأبيات لـ تأبط شراً، وهو شاعر جاهلي اسمه ثابت بن جابر، ولقبوه في كتب الأدب بـ تأبط شراً، فيحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني أن رجلاً ثقفياً أحمق قابل ثابت بن جابر، وكان تأبط شراً رجلاً ضعيف البنية، فقال: بِمَ تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال له: باسمي! ساعة أن ألقى الرجل فأقول له: أنا تأبط شراً ينخلع قلبه!! فآخذ منه ما أريد، فقال له: بهذا فقط؟ قال: فقط.
ففكر الثقفي قليلاً وكان يكنى بـ أبي وهب، فقال له: هل تبيع لي اسمك؟ يعني طالما أنك تخوف الناس باسمك فلماذا لا تبيعه لي؟ فقال له تأبط شراً: بكم تشتريه؟ قال له: بهذه الحلة الجيدة وبكنيتي، فقال له تأبط شراً: وافقت، فخلع الرجل حلته، وقال له: هذه الحلة وأنت أبو وهب، فقال له: هنيئاً لك، وأنت تأبط شراً، واتفقوا على ذلك، وهذا لا شك أنه حمق عظيم، وقام تأبط شراً بكتابة أبيات وأرسلها إلى امرأة الثقفي يقول فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه اكتنى بي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأسٌ كبأسي وسَوْرَتي وأين له في كل فادحةٍِ قلبي أي: هو أخذ اسمي، لكن هل أخذ قوة قلبي، وأخذ جرأة جناني وجلدي على الأحداث؟! ما أخذ ذلك، فتزيا أبو وهب بزي القوي، وتصور نفسه أنه تأبط شراً وذهب إلى ذي بأس ماذا سيقول له: أنا تأبط شراً (بصوت شاحب منخفض)؟!!! مع أن الرجل ليس له قلب شجاع أصلاً.
مثلما حصل في حرب الخليج، إذ صرح الرئيس الأمريكي وقال: نحن نناشد الرئيس العراقي صدام حسين ألا يريق الدماء! ونحن نعلم أن جيشه رابع جيش في العالم، وأن لديه خبرة في الحرب الميدانية؛ فهو يحارب منذ ثماني سنين، ونحن قد جهزنا ثمانية عشر ألف كفن، فيقول صدام حسين: حقاً أمريكا تخاف مني!! فماذا عملوا به؟ لعبوا به وأدخلوه الحرب، مثل الأحمق الثقفي، ليس له قلب ولا ساعد وظن نفسه تأبط شراً، وذكرني بالمثل الخرافي الذي كان يحكى لنا من زمان وهو: كل شخص يقتل يحل محله عفريت، فيحكون مرة أن هناك رجلاً عجوزاً قُتل، فعفريته ضروري أن يكون على عكاز، المهم أن العفريت عندما طلع بعدما قتل الرجل كان ماسكاً للعكاز ولا يستطيع أن يقوم من مكانه، فكان هناك رجل يمشي هكذا، فقال له العفريت: يا بنيّ! خذ بيدي حتى أقوم لأخيفك؟ فاليوم عندما يلبس رجل العمامة وكاكولا ويجلس على كرسي، أو يقولون له: أنت مدير الأوقاف، أو أنت مقيم شعائر، أو أنك في لجنة الفتوى، هو ليس بعالم وليس عنده مؤهلات العلماء، لكن الحكاية طلعت في دماغه وكبرت، وهذا من أعظم أبواب الخلل.
لذلك نحن نضع دائماً صورة العالم الرباني الذي يرجع إليه؛ حتى لا يلتبس عليكم، فالناس الذين يذهبون إلى مقيمي الشعائر ليحصلوا منه على فتاوى في الطلاق هذه جناية على الفروج؛ لأنهم جهلة لا يعرفون حدود الطلاق ولا الرجعة.
إذاً: معرفة العالم مسألة ضرورية في مرحلة الاستضعاف، حتى تعلم من العالم الذي إذا ناداك قلت له: لبيك، ومن شبيه العالم الذي إذا ناداك أخرسته، وعرفت أنه لا يتبع، إذاً: مرحلة الاستضعاف مرحلة خطيرة جداً، ونحن في مفترق الطرق.
هذه مقدمةٌ ضرورية في كلامنا على الاستضعاف، فنحن سوف نرسم البيت المسلم الذي ينتج لنا ديناً يستحق التمكين، إذا أردت أن يمكن لولدك فماذا تفعل؟ افعل كذا وكذا وكله من القرآن والسنة كما هو دأب علمائنا، إذ في القرآن والسنة كفايةٌ لمن اعتبر وادكر، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(106/3)
كفريات نصر أبو زيد
نصر أبو زيد أستاذ اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية دار العلوم اعتمد في الحكم بردته على ما قررته محكمة النقض وبما أنهم رجال قانون فإنهم يتعاملون مع النصوص، فلما قرءوا كلام الرجل -وهم أناس يتعاملون مع النص- خرجوا بالنتائج الآتية من كلام الرجل، وهذا تقرير محكمة النقض خرج في أربعة وثلاثين صفحة وقد قرأته، وسأقرأ عليكم منه من ص (20) إلى ص (24)، والتي فيها مجمل ما ذكر الرجل في كتبه، وكان من المفروض أن يكتب هذا التقرير في كل الصحف الرسمية؛ نصراً لله ورسوله ولدينه وإعزازاً للمؤمنين، بدلاً من مجلة السيارات التي تنشر في أخبار اليوم، والإعلانات التي تأخذ نحو عشر صفحات، هذا أولى أن ينشر على الناس ذراً للرماد في عيون المارقين، وهناك مجلة كاملة لنشر الفاحشة اسمها (مجلة الحوادث)، تنشر الشر بالتفصيل الممل المقيت، والشباب في هذه الأيام عاطلون، يريد أن يضيع وقته، فيقرأ هذه المجلة، ويخطر على باله أن ينفذ بعض هذه التفصيلات التي يقرؤها.
ألا تتعجبون من الجرائم التي تقع في المجتمع ليل نهار! هذه بضاعتكم ردت إليكم، كان من الأولى أن ينشر هذا التقرير إعزازاً للمؤمنين ونصراً لدين الله عز وجل، لكن نحن بهذا الصوت الضعيف لعل الله عز وجل أن ينقله، ويتخلل إلى أفئدتكم فتعملون بما أمركم الله عز وجل به.
فاسمعوا هذا الذي ذكرته محكمة النقض التي لم تسلم من الإهانة والتجريح، واتهموهم بأنهم دخلوا مع الإرهابيين في صف واحد، وبعدما كنا نحارب الإرهابيين فيا فرحة الإرهابيين بهذا التقرير، يقولون: ويكفي عند جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية لاعتبار الشخص مرتداً أن يتعمد إتيان الفعل أو القول الكفري ما دام قد صدر عنه بقصد الاستخفاف أو التحقير أو العناد أو الاستهزاء، ولا يندفع حكم الردة إذا تحقق ما تقدم، وإن ادعى المرتد أنه مسلم؛ لأنه اتخذ موقفاً يتنافى مع الإسلام؛ لأن الزنديق يموه بكفره، ويروج عقيدته الفاسدة، ويبطن الكفر ويدعي الإسلام.
وبعد هذه المقدمة، قالوا: وكان الثابت مما أبداه الطاعن الأول -الذي هو نصر أبو زيد - في مصنفاته المبينة بالأوراق -أنها تضمنت وفقاً لطريق دلالتها وما لا احتمال معه لأي تأويل جحداً لآيات القرآن الكريم القاطعة بأن القرآن كلام الله، يقول: إن هذا من صنع البشر، إذ وصفه بأنه منتج ثقافي، يعني: مثل أي سلعة، وأن الإيمان بوجود قيزيقى يناقض الحقيقة، ويعكر الفهم العلمي للنصوص، هذا كلام المرتد، وينكر سابقة وجود القرآن في اللوح المحفوظ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]، ينكر أنه في كتاب مكنون، وينكر سابقة وجوده في اللوح المحفوظ، ويعتبره مجرد نصٌ لغوي!! ويصفه بأنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأنه تحول إلى نصٍ إنساني متأنث، منحياً عنه صفة القدسية استهزاءً بقيمته، وينكر أن الله تعالى هو الذي سمى القرآن بهذا الاسم، جاحداً للآيات القرآنية التي صرحت بذلك مع كثرتها، وذكر في أبحاثه: أن الإسلام ليس له مفهوم موضوعي محدد منذُ عهد النبوة إلى يومنا هذا، وهو قولٌ هدف منه إلى تجريد الإسلام من أي قيمة أو معنى، ووصفه بأنه دينٌ عربي لينفي عنه عالميته وأنه للناس كافة، ووصف علوم القرآن بأنها تراث رجعي، وهاجم تطبيق الشريعة، ونعت ذلك بالتخلف والرجعية، زاعماً أن الشريعة هي السبب في تخلف المسلمين وانحطاطهم، ويصف العقل الذي يؤمن بالغيب بأنه عقلٌ غارقٌ في الخرافة، وصرح بأن الوقوف عند النصوص الشرعية يتنافى مع الحضارة والتقدم، ويعطل مسيرة الحياة، ويتهم النهج الإلهي بتصادمه مع العقل بقوله: (معركةٌ تقودها قوى الخرافة والأسطورة باسم الدين والمعاني الحرفية للنصوص الدينية، وتحاول قوى التقدم العقلانية أن تنازل الخرافة أحياناً على أرضها) انتهى كلام المرتد.
قالت المحكمة: وهذا من الكفر الصريح، وكشف الله عز وجل عنه بقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، والأساطير هي الأباطيل أو الأحاديث التي لا نظام لها، ومفردها (أسطورة) وهو ما نعت به الطاعن، الدين والنصوص الدينية؛ زاعماً أنهما ينطويان على خرافة، ويقول: إن تثبيت القرآن في قراءة قريش كان لتحقيق السيادة القرشية التي سعى الإسلام لتحقيقها، وكأن القرآن لم ينزل إلا لتحقيق سيادة قريش، ويهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويلمزه بقوله: (موقف العصبية القرشية التي كانت حريصةً على نزع صفات البشرية عن محمد وإلباسه قدسيةً إلهيةً تجعل منه مشرعاً).
وينكر حجية السنة النبوية، وأن الإسلام دين الوسطية، ويدعو إلى المروق من النصوص الشرعية بقوله: (لقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر -لا من سلطة النصوص وحدها- قبل أن يجرفنا الطوفان).
وأبحاثه فيها اتهامٌ للقرآن والسنة والصحابة والأئمة، ومنهم الشافعي وأبو حنيفة بالعصبية الجاهلية، فحارب الإسلام في نصوصه ومبادئه ورموزه، واعترض على نصيب البنات في الميراث؛ راداً بذلك على ما ورد في القرآن الكريم بنصوص قطعية محكمة في هذا الصدد، وتمادى في غلوه بالدعوى إلى التحرر من النصوص الشرعية، يزعم أنه ليس فيها عناصر جوهرية ثابتة، وأنها لا تعبر إلا عن مرحلة تاريخية قد ولّت، وهذا ظنٌ بشرع الله تعالى أنه غير صالحٍ لكل الأزمنة، ويصف اتباع النصوص الشرعية بالعبودية، وينكر أن السنة وحيٌ من عند الله عز وجل، ويدعي أنها ليست مصدراً للتشريع، متحدياً بذلك الآيات القرآنية العديدة التي وردت في هذا الشأن على خلاف إجماع الأمة، وسخر من أحكام الجزية وملك اليمين، مصوراً الإسلام بالتسلط برغم تسامحه وحظه على عتق الرقاب، وأنكر أن الله ذو العرش العظيم، وأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وأن من خلقه الجنة والنار والملائكة والجان، رغم ورود آيات القرآن الكريم قاطعة الدلالة في ذلك، متجاهلاً هذا.
وسخر من نصوص الكتاب العزيز، مستخفاً به بقوله بما معناه: إن النص القرآني حول الشياطين إلى قوة معوقة، وجعل السحر أحد أدواتها، بما معناه: أن القرآن حوى كثيراً من الأباطيل، وسار على هذا النهج المضاد للإسلام في مقاصده وعقائده وأصوله بجرأة وغلوٍ وتجريح، نافياً عن مصادره الرئيسة ما لها من قداسة، ولم يتورع في سبيل ذلك أن يخالف الحقائق الثابتة حتى التاريخية منها، وكان هذا هو منهجه، وهو مدرك لحقيقته وفحواه في ميزان الشريعة، إذ أنه نشأ مسلماً في مجتمع إسلامي، ويعمل أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ويقوم بتدريس علوم القرآن، ومثله لا تخفى عليه أحكام الإسلام وأركانه وأصوله وعقائده، بل إنه يدعي الفقه والعلم وذلك حجةٌ عليه، وإذ هو أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة بالنسبة لأي مسلمٍ لم ينل حظاً من التعليم أو الثقافة الدينية؛ فإنه يعد مرتداً عن دين الإسلام؛ لإظهاره الكفر بعد الإيمان، وما تذرع به من أن ما صدر عنه من قبيل التأويل فهو مردود، إلى آخر الكلام والحيثيات التي نشروها في محكمة النقض.
هذا الكفر كله أخرج من عدة كتب، ولو وزع كفره على أمةٍ من المؤمنين لدخلوا النار جميعاً، فماذا بقي إذا كان يحتوي على الأباطيل والخرافة تسيطر عليه؟ وماذا بقي لنا من بيان الرسول عليه الصلاة والسلام؟(106/4)
وجود الردة في هذا العصر
هذا الرجل على ملته خلقٌ كثير؛ لكنه تجرأ ونطق، وهم جبنوا وخرسوا فلم ينطقوا، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: في كل نفس داعية الألوهية، فكل شخص على استعداد أن يكون إلهاً، وتجد الرجل المتواضع الذي كان معك في الحارة وتربى معك تدرج حتى وصل إلى قمة الهرم في رئاسة الناس، وإذا به يقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعباد، هو قال هكذا، لم يقل: للعبيد؛ حتى لا يقبض عليه أحد، فإذا قلت له: أنت تتخذ ألفاظ الألوهية التي قالها المولى جل وعلا في القرآن، يقول مجيباً عليك: لا.
القرآن قال: (للعبيد)، وأنا قلت: للعباد، فإذا أصابه مغص يجأر ويعظ الأرض.
فكل نفس فيها داعية الألوهية، كما حدث لفرعون، قال ابن القيم رحمه الله: لكن فرعون تجرأ فأظهر، وغيره جبن فأضمر، فهؤلاء الجبناء الذين يدافعون عنه على صفحات الصحف والمجلات هم على نفس عقيدته، لكنه هو الذي عبر.(106/5)
غياب العدالة والحدود في بلاد الإسلام
حكم الله عز وجل في هذا المرتد أن يحضروه، ولو أرادوه لأتوا به، فحكم الله عز وجل أن يقتل هذا المرتد، لكن بكل أسف ليس عندنا جهةٌ تنفيذية، والآن محكمة النقض أتعبت نفسها في القراءة ثم خرج التقرير في (34) صفحة، وشغلوا الناس وأملئوا الصحف، ثم بعد كل هذا: هل هناك جهة تنفيذية لتطبيق الحكم على المرتد؟ لا.
كل هذا مجرد حبر على ورق.
وما حدث للمستشار غراب ليس عنكم ببعيد، الرجل أراد في آخر حياته أن يحكم بالشرع، فقال: لا يأتيني رجلٌ زنى وقد أحصن إلا حكمت عليه بالرجم، والقصة الآتية حدثت في محكمة أسيوط: فالرجل كلما أتى إليه برجل زان محصن، والمحصن هو المتزوج إذا زنى، فكان المحامون كلما أتت قضية زان محصن يحاولون تأخير القضية حتى تقع في دائرة غراب، لماذا؟ لأن غراباً قال: لا أحكم إلا بشرع الله، وشرع الله هو الرجم، وهذا حكم الله في القرآن والسنة، وصحيحٌ أنه لم يأت في القرآن إلا الجلد، لكن الرجم كان ثابتاً بآية من آيات القرآن ثم نسخت ورفعت كلها بإجماع العلماء، وثبت هذا الرفع في كتاب الحدود من صحيح البخاري رحمه الله في باب رجم الحبلى من الزنا، وفيه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، وإنه كان مما نقرأ من كتاب الله آية الرجم)، هذا كلام عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وهذه الآية نُسخت تلاوة ورفعت، ونص الآية كما ورد في مستدرك الحاكم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم).
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أورد آيةً أخرى رفعت من القرآن في هذا الكلام، فقال: وإنه كان مما نقرأ في كتاب الله عز وجل الآية الآتية: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) فهذه كانت آيات ورفعت بإجماع العلماء، لأن النسخ على نوعين: 1 - ما نسخ حكمه وبقي لفظه، مثل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219].
2 - وما نسخ لفظه وبقي حكمه، مثل آية الرجم، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنه كان مما نقرأ آية الرجم، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمتُ، وأخشى أن يطول بالناس زمان، فيقول قائلٌ: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ فيذلوا بترك فريضة أنزلها الله)، فالرجل أراد أن ينفذ حكم الله، فكلما أتى له زانٍ محصن يقول: حكمت المحكمة برجم الزاني، وهنا نتساءل: هل هناك جهة تنفيذية تنفذ الرجم، لا.
ليس هناك جهة لتنفيذ الرجم، فمعنى هذا الحكم أن الرجل أخذ براءة، رفعت قضية إلى محكمة أسيوط في رجل زانٍ محصن، وكانت القضية في الليل للمستشار غراب، ثم انتظروا حتى الصباح، ثم صدر الحكم: حكمت المحكمة حضورياً برجم الزاني فلان الفلاني، وإذا بالقاعة تضج بالتصفيق: يحيا العدل!! يحيا العدل!! وما معنى (يحيا العدل) والرجل حكم عليه بالرجم؟! يعني الإعدام، إزهاق الروح، والسبب في قولهم: (يحيا العدل) أنه أخذ براءة؛ لأنها لا توجد جهة تنفيذية تقوم بتطبيق الحكم.
وهذا أمر لا يجوز!! قد يقول شخص: بما أن الحكم بالرجم حبر على ورق فهل من الممكن أن نبدل هذا الحكم بالسجن مثلاً؟! وهل يعني هذا أن غراباً غلطان مثلاً؛ لأنه لم يحكم عليه بالسجن، كأقل رادع من العقوبة؟! هل يسعه ذلك؟!
الجواب
لا يجوز لأحدٍ أن يبدل حكم الله بدعوى أنه لا يوجد من ينفذه، ليس هذا من سلطة القاضي، فالقاضي يحكم، والحاكم هو المسئول عن التنفيذ، لكن ليس من سلطة القاضي طالما لا توجد جهةٌ تنفيذية أن يقول: لابد أن أعمل أية عقوبة عليه حتى لا يخرج براءة، سيقول شخص: ما دليلك على ذلك؟ أقول: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في صحيح البخاري أيضاً، ورواه البخاري في كتاب الحدود في باب الاعتراف بالزنا: (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر وكان أفقه الرجلين: نعم، يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله -وانتبه لهذه المقولة: بماذا قالا؟ بكتاب الله، لكن ما هو الموضوع؟ - فقال الرجل الثاني: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا وإنه زنى بامرأته -والعسيف هو الأجير، وسمي عسيفاً؛ لأنه يعسف ويتعسف معه- وإني ذهبت إلى جماعةٍ فقضوا أن على ابني الرجم؛ فافتديت ابني بمائة شاة وخادم، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لأقضين بينكم بكتاب الله، أما الغنم والخادم فردٌ عليك)، وانتبه هنا للكلام، هو بدل حكم الله بفدية، قالوا له: ابنك عليه الرجم، فقال: لا.
وأدفع مائة من الغنم وخادماً، فقال له: لا.
أما غنمك وخادمك فردٌ عليك، ونحن نسوق هذا الكلام أيضاً إلى الجماعة الذين أحلوا الفروج الحرام من مقيمي الشعائر الجهلة بأحكام الطلاق، كم أحلوا من فرجٍ محرم، يفتون في الطلاق، يا أيها الناس! لا يجوز لكم أن تستفتوا هؤلاء.
يوم أمس الأول كنت أصلي الفجر في الريف، فوجدت رجلاً وامرأته أمام المسجد، وقالا لي: نحن نبحث عنك؟ فقلت: ما بكما؟! فاتضح أن الرجل طلق امرأته، ادعى أنه كان سكران، والمرأة تقول: لا، وادعت أنه لا يضبط الكلام، وأنه قال لها أول مرة: أنتِ طالق بالثلاث، ثم ذهبا لفلان فرد أن هذا يمين! وهل هذا يمين؟! فجاء في المرة الثانية وقال لها: أنت طالق بالثلاث، فرد مرة أخرى أنه مجرد يمين، وكل مرة يأخذ عشرين جنيه ويرد بأنه ليس بطلاق وإنما يمين، وثالث مرة قال لها: أنت طالق بالثلاث، ورابع مرة البارحة قال لها: أنت طالق بالثلاث، وهذا كلام صريح مثل الشمس، فقالت المرأة عندما قال لها في الرابعة أنت طالق بالثلاث: أنا لا أريد هذه المرة الذهاب للمفتي السابق!! فقلت لهما: المرأة من الطلقة الثالثة زانية وأنت زانٍ، إن لفظة: (أنت طالق) لفظ صريح في إيقاع الطلاق.
وليس عند العلماء جميعاً أي إشكال في وقوع الطلاق بهذا اللفظ الصريح، بل إن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة على أن امرأة هذا الرجل طالق من المرة الأولى طلاقاً بائناً، ويقول الأئمة الأربعة: من قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، فهي طالقٌ ألبتة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وخالف في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم رحمهما الله، وقالا: لا.
مفهوم العدد لا يكون إلا إذا تكرر، فلو سمع رجلٌ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر)، فجاء رجلٌ فقال: (سبحان الله وبحمده مائة مرة) فهل قالها مائة مرة أو مرة واحدة؟ قالها مائة مرة، كذلك الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ ألف مرة فإنه لا يفهم من العدد إلا مرةً واحدة، إلا إذا كرر هذا العدد في مجالس منفصلة فقال لامرأته: أنت طالق! فخرج ثم دخل، فقال لها: أنت طالق! فخرج ثم دخل، فقال لها: أنت طالق! وهكذا فمع كل طلقة بمجلسٍ جديد، فتكون قد كررت العدد مرةً ومرة ومرة، قال الفقهاء: فلو قال لامرأته: أنت طالق، طالق، طالق، طالق، طالق، فكل طلقةٌ تقع بمفردها، لماذا؟ لأن العدد مفهومه التكرير، وقد كرر، إنما الإشكال أن يجمل العدد في لفظٍ واحد فيقول: أنت طالق مائة مرة، وقعت مرة واحدة؛ لكن لو ظل يقول: أنت طالق، طالق، طالق، طالق، على طول هكذا فإن الطلاق يقع.
وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله رفضا أيضاً هذه المسألة، والمهم أن المسألة فيها بحث طويل، والمحاكم الآن في مصر والشام على فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فعلى فتوى العلماء السابقين تكون امرأة هذا الرجل طالق منذ زمن الطلقة الأولى، وعلى فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله امرأته طالق من الطلقة الثالثة، ومع ذلك كنت أصلي في المسجد فوجدت الرجل وامرأته واقفين يبيعون العنب، ما الذي حصل؟ قالا: إنما ذهبا إلى مدير الأوقاف وأرجعها له، فهنا لا يكون إلا واحد من اثنين: إما أن يكون مدير الأوقاف لا يفقه شيئاً، وإما أن يكونا دلسا عليه، ونقلا له كلاماً غير الذي قالاه لي لما وجدا الحكم صريحاً.
وأنا أقول هذا الكلام لأن هناك أناساً يقولون: ادفع عشرين جنيه وأرجع امرأتك، فنقول له: لا.
أما العشرون فردٌ على صاحبها وقد وقع الطلاق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، (أما الغنم فهي ردٌ عليك والجارية ردٌ عليك) -أي الخادم كما ورد في بعض الروايات- ثم قال: (فأما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام، وأما امرأة هذا فعليها الرجم).
وتأمل ما ورد في الحديث: (قالوا: اقض بيننا بكتاب الله، فقال: والله! لأقضين بينكم بكتاب الله) فهل تجدون الرجم في كتاب الله؟! وهل الجلد في كتاب الله؟ نعم.
لكن هل التغريب في كتاب الله؟ ليس في كتاب الله.
إذاً: قوله: (والله! لأقضين بينكم بكتاب الله) يدل على أن السنة من الوحي، وهي داخلةٌ دخولاً لازماً في قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، إذاً: الذكر عند جميع علماء المسلمين قرآن وسنة.
ومما يدل على ذلك هذا الحديث المتقدم الذي رواهُ الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، قال: (والله! لأقضين بينكم بكتاب الله)، فقضى بما ليس في كتاب الله نصاً وقد ثبت في السنة، فدل على أن السنة هي من كتاب الله عز وجل، لقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].(106/6)
الغاية من إقامة البيت المسلم
إن الغاية من إقامة البيت المسلم هي توحيد الله عز وجل وإقامة حدوده، وإن من أهم المقومات لهذا البيت المرأة الصالحة، ولقد حض الشرع على اختيار المرأة الصالحة؛ لأنها بمثابة المصنع الذي يخرج منه الرجال، فالرجال الذين يعول عليهم نصرة هذه الأمة لن يأتوا إلا بعد اختيار الأرض الخصبة التي تخرجهم، وبعد اختيار المرأة الصالحة ينبغي علينا أن نحسن تربية الأولاد، وفق شرع الله عز وجل، بأن نهيئ لهم القدوة الحسنة التي يقتدون بها، والمتمثلة في الوالدين فعلى الأب أن يعظم الله عز وجل بلسانه وجوارحه؛ ليتأسى به الولد في ذلك، فهذه دعوة إلى الاهتمام بالأساس فالتمكين منوط به.(107/1)
إقامة البيت المسلم وارتباطه بجيل بالتمكين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة الكرم: لماذا تقوم الحروب بين الناس؟ هذا السؤال ليس له إلا جوابٌ واحد، وهو أن كل طائفة على وجه الأرض تبحث عن التمكين لها، كل الحروب القائمة على وجه الأرض سببها البحث عن التمكين، فالنظام العالمي الجديد الذي تحاول أمريكا أن تفرضه باستخدام مذهب اللصوصية والإرهاب، كل هذا ليكون لها مكان -وأصل التمكين من المكان- وشرع الله عز وجل الجهاد للمسلمين لأجل هذا التمكين.
إذاً: غاية النزاع في الأرض سببه التمكين، لذلك امتن الله عز وجل على بني إسرائيل أنه مكّن لهم، فقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] بعد ذكر التمكين مباشرةً، ذكر الله عز وجل ميلاد موسى، فقال تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] إذاً: التمكين يحتاج إلى رجال، رجال يجودون بأرواحهم للدفاع عن دين الله، وعما يعتقدونه على أي حال، فالمسلمون يجودون بأرواحهم دفاعاً عما يعتقدونه الحق من دين الله عز وجل، فسبيلنا إلى التمكين، وجود رجال، وبغير هذا الشرط لا يكون هناك تمكين أبداً، فلا تمكين إلا برجال، الرجولة ترضع من الصغر، فالذي يضيع عمره وطفولته، يضيعها في الفوضى لا يؤمّل الخير فيه، ومثل هذا لا أبني عليه بناءً سامقاً، لأن الأصل ضائع، فأنت أردت أن تبني برجاً، فكلما أردت أن تصعد إلى فوق يجب عليك أن تهتم بالأساس -المسألة هكذا متناسبة- الصعود إلى فوق معناه الاهتمام بالأساس، فأساس الإنسان طفولته، هذا البناء العظيم الذي يبنى، وهذه المسئولية الجسيمة التي توضع على كتف الإنسان، لا يتحملها إلا رجل له بطولة مشرفة، وأين ذهبت طفولة أولادنا؟، ماذا علمناهم؟ أكلوا وشربوا وذهبوا إلى المدارس وتعلموا كل شيء إلا الدين.
هكذا ذهبت طفولة أولادنا هدراً، واعلم صلاح البيت مناط بصلاح الأساس، هذا هو معمل تخريج الرجال، والمرأة تعرف مسئوليتها، والرجل يعرف مسئوليته.(107/2)
الغاية من الزواج
أقف على
السؤال
لماذا نتزوج؟ لو سألت هذا السؤال أي رجل، فإنه لا يجيبك على الفور، إنما يتريث ويفكر قليلاً، فهذا التريث يدل على أنه لم يتزوج لهدف، وإنما تزوج لأن أمه تريد أن تفرح به، وأبوه يريد أحفاداً، أو يريد أن يورث الأولاد، أو يريد أن يخلِّد اسمه، وهذه المسألة تجد للناس فيها مذاهب، لكن أصل الزواج كله قائم على ما ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (إني لأكره نفسي على إتيان المرأة، رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده)، هذه هي الغاية من إقامة البيت المسلم.
إذاً: الغاية هي توحيد الله عز وجل، لا يكون من نسلك رجل فاسق ولا فاجر: (إني لأكره نفسي على إتيان المرأة، رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده) هذه هي الغاية، والله تبارك وتعالى لما ذكر طلاق المرأة للمرة الثالثة قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: للمرة الثالثة، {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، حسن! {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230]، يعني: الزوج الثاني، وأراد الزوج الأول أن يردها إلى عصمته: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]، إذاً: الغاية من إقامة البيت المسلم هو إقامة حدود الله عز وجل، فالبيوت التي تسودها الفوضى لا قيمة لها: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]، إذا كان الهدف المراجعة، فلأن يكون في إقامة الحدود من باب أولى.
رجل يتزوج بامرأة لماذا؟ ليقيما حدود الله، هذه هي الغاية من إقامة البيوت، ولقد ذهب الشرع مذهباً عظيماً في سبيل هذا الاصطلاح، فحض على اختيار المرأة؛ لأن المرأة كالأرض، فالأرض البوار ثمنها رخيص، والأرض التي تزرع ثمنها غال.
إذاً: عندما تنظر إلى المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، إذا خرجت من بيتٍ ملتزم فإنها توزن بالذهب، لا تستكثر من أجل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فهذه هي الأرض الخصبة.(107/3)
أهمية اختيار الزوجة الصالحة لإقامة البيت المسلم
إن المرأة الصالحة تشبه الأرض الخصبة، ولقد حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اختيار أجود الأرض، حيث قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)، إن الرجل الذي ابتلاه الله عز وجل بزوجة ناشزة لا يستمتع بها في الدنيا ولا في الآخرة، فمزاجه معكّر بصفة دائمة في الدنيا، وعندما يقف بين يدي رب العالمين لا يستجمع قلبه، فأي متعةٍ حصل عليها هذا المسكين.
اعلم أن المرأة قنطرة سعادة وشفاء، فكيف تستهين باختيارها؟ ابحث عن المرأة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك.
إن الرجل إذا تقدم إلى امرأة لابد أن يراعي فيها الصلاح، وهذا لنجابة الولد؛ لأن المرأة الفاسدة لا تربي الأبناء تربية سليمة فهي تهدم ولا تبني.
إذاً: المرأة الفاسدة لا تستحق شربة الماء، ووجودها كعدمها، تماماً مثل الرجل الكافر لا قيمة له، فالحيوان البهيم أفضل منه عند الله عز وجل.
روى وكيع في أخبار القضاة في ترجمة شريك بن عبد الله النخعي، رحمه الله، وكان قاضياً مشهوراً، أنه جاءه رجلٌ نصراني على بغلة، وكان مقرباً من زوجة الخليفة؛ لأنه كان يشتري لها الذهب وحاجياتها، فظن أن له مكانة، فكان يظلم الناس وعنده من يسنده ويعينه على ظلمه، فظلم هذا النصراني رجلاً مسلماً، فرفع المسلم شكاته لـ شريك بن عبد الله رحمه الله، فجاء هذا الرجل النصراني على بغلة منتفخاً، فلما نزل من على بغلته أمر به شريك فجلد جلداً قوياً فتوعد شريكاً، أنه سيشتكيه إلى امرأة الخليفة، وركب النصراني البغلة، وجعل يضربها بعنف، فقال له شريك: قاتلك الله! لا تضربها، فإنها أذكر لله منك: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، لا يوجد الجحود والكفر إلا في بني آدم والجن، فكل المخلوقات مستقيمة على صراط الله، وهي أذكر لله عز وجل من كثيرٍ من بني آدم، إن الحيوان البهيم أفضل من الكافر، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، يعني: الأنعام أفضل منهم.
فالمرأة الصالحة خير متاع الدنيا، واسألوا الذين ابتلوا بنساءٍ فاسدات، اسألوهم.
إن الرجل إذا ابتلي بامرأةٍ فاسدة يحسد كل رجلٍ يمشي في الشارع يظنه سعيداً، يحسد كل الخلق، لأنه يشعر أنه يشقى وحده، حتى ربما حسد من هو أدنى منه في الدين والعلم والمكانة، بسبب فساد المرأة؛ لذلك حض النبي صلى الله عليه وسلم الرجال على اختيار النساء، فإنهن الأرض التي تنتج الرجال الذين يمكن الله لهم.(107/4)
السلوك الحسن وأثره في إقامة البيت المسلم
سلوك المرء الصالح له أثر في كل من في البيت وفي كل من حوله، فهذا الإمام أحمد بن عبد الله العجلي رحمه الله، روى في كتاب: الثقات في ترجمة أحد العلماء، اسمه الحسن بن صالح بن حي، أن الحسن باع جاريةً له، فاشتراها رجل، وذهبت الجارية إلى بيت الرجل المشتري، وفي نصف الليل قامت الجارية تقول: يا أهل الدار! الصلاة الصلاة، أي: قوموا إلى الصلاة، فقالوا لها: أأذن الفجر؟ فقالت لهم: ولا تصلون إلا الفجر؟ قالوا: نعم.
فقالت لهم: لا تقومون الليل؟ قالوا: لا.
فلما أصبح الصباح رجعت إلى الحسن، وقالت: ردني إليك، فإنك بعتني إلى قوم سوءٍ لا يقومون الليل.
هذه جارية مملوكة من أين أخذت هذا الخلق؟ أخذته من هذا البيت.
أذكر لكم عن هذا البيت كيف كان شكله وكيف كان وضعه؟ هذا البيت كان فيه الحسن بن صالح بن حي، وأخيه علي بن صالح بن حي وأمهما، وكان طريقتهم كالآتي: كانوا يقسِّمون الليل ثلاثة أقسام، الحسن بن صالح يقوم في الثلث الأول، وعلي بن صالح يقوم في الثلث الثاني، وأمهم تقوم في الثلث الثالث، فلما ماتت الأم قسم علي الحسن الليل بالنصف، يقتسمان وقت الأم بينهما، فلما مات الحسن، حمل علي الليل كله، هذا هو البيت، فجارية تعيش في مثل هذا البيت كيف لا تقول مثل هذه المقالة الرائعة: إنك بعتني إلى قوم سوءٍ لا يقومون الليل؟! ابنك كاميرا مثل (الكاميرا المسجلة) يلتقط عليك كل حركاتك، فإياك أن تتصور أن الولد يغفل عنك، فالولد يتأسى بك، فكل شيءٍ تفعله يصوره ويسجله (كالكاميرا المسجلة)، فعظم حرمات الله أمام الولد، إذا ذُكر الله فاجهر بالثناء عليه أمام الولد، وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارفع صوتك بالتسليم والصلاة عليه أمام الولد، هذا كله يؤثر في بنيان الولد، وفي تربيته، عظم حرمات الله عز وجل، فإنها من تقوى القلوب.(107/5)
حكم عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح
أزمتنا اليوم أزمة رجال، فلو أن عندنا مائة رجل كالصحابة، والله لفتحنا الدنيا، ونحن نبحث عن هذا الصنف من الرجال.
إذا كنا نريد أن نختصر مسافة البحث عن التمكين ينبغي علينا أن نربي أولادنا وذلك باختيار المرأة الصالحة، فهي غاية أماني الرجل في الدنيا، وأساس صلاح الأولاد، وهي مربية الأجيال، ولذلك حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حضاً صريحاً.
إن الرجل قد سُن له أن يدخل البيوت ويخطب المرأة، فهل يجوز للمرأة أن تطلب الرجل؟ لقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإقرار في أن للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح، وهذا شيءٌ عجيب؛ لأن للعلماء قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة) يعني: قد يكون هناك فعل لم يحرم لذاته، ولكن حرم لأننا لو فتحناه أدى إلى فساد، وذلك مثل النظر، فالنظر إلى النساء ليس محرماً في ذاته، إنما هو محرمٌ لما يفضي إليه من الفساد وهو الزنا، ولذلك قال العلماء: النظر بريد الزنا، ومنع الرجل من النظر إلى المرأة لما يفضي إليه النظر من الفساد.
إذاً: حُرِّم النظر إلى المرأة الأجنبية سداً لذريعة الزنا.
إذاً: أنا أريد أن أتزوج، سأتقدم بطبيعة الحال إلى امرأةٍ أجنبية، فكيف آخذها؟ هل أتزوجها قبل أن أنظر إليها أم أنظر إليها؟ نقول: انظر إليها قبل الزواج، إن النظر حرام إلى الأجنبية.
نقول لك: نعم.
النظر حرام إلى الأجنبية سداً لذريعة الزنا، ولكن يباح للمصلحة الراجحة، وهي دوام العشرة.
ولذلك روى الإمام النسائي والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (خطبت امرأةً فقلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال: فهل نظرت إليها؟ قلت: لا.
قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) (يؤدم بينكما) أي: يدوم الود، وقال له في النص الآخر: (انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وكان في أعين الأنصار صغر، فقال: (انظر إليها)، فلربما لم تنظر إليها ثم تتزوجها فتجد فيها شيئاً لا تحبه، فتطلقها بعدما صارت ثيباً! لا.
إذاً: المصلحة الراجحة وهي دوام العشرة بيني وبين التي خطبتها تقتضي أن أنظر إليها قبل الزواج، مع أن النظر محرم في الأصل سداً للذريعة.
والمرأة لو عرضت نفسها على الرجل فقد يكون هذا الرجل ضعيف القلب فيظن بهذه المرأة سوءاً، فالأفضل والأصون لكرامة المرأة أن لا تعرض نفسها؛ لئلا يطمع فيها الفساق، ولئلا تبتذل.
ولا يباح للمرأة أن تعرض نفسها مع وجود مثل هذا، ولعل مثل هذا الخاطر هو الذي يحجب النساء العفيفات عن عرض أنفسهن على الرجل الصالح، خشية أن يظن الرجل بهن سوءاً أو يظن أنها امرأة متبجحة قليلة الحياء، وهذا أمر مغروس في الفطرة.
ففي صحيح البخاري من حديث ثابت البناني رحمه الله قال: (كنت عند أنس بن مالك، وعنده ابنةٌ له، فقال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه)، أتهب الحرة نفسها؟ أي: هذا عيب! إذاً: المناسب أن لا تعرض المرأة نفسها سداً لذريعة سوء الظن بها، لكن في سبيل الوصول إلى الرجل الصالح، يباح لها أن تعرض نفسها، إذ هو غاية المنى بالنسبة للمرأة في الدنيا، وخروجاً من هذا الأصل فإنه يباح لها ذلك، وإن سيئ بها الظن، يباح لها ذلك، كل هذا لتحصيل الرجل الصالح الذي هو غاية المنى في الدنيا، وعلى ذلك أدلة منها هذا الدليل الذي ذكرته آنفاً، ومنها أيضاً: ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقالت: يا رسول الله! وهبتُ نفسي لك، فصعَّد النظر إليها، وصوبه، ثم جلست المرأة، فقال رجلٌ لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب عنها: يا رسول الله! زوجنيها، قال: ما عندك، اذهب إلى أهلك فالتمس مهراً، فذهب ثم جاء.
قال: ما وجدت، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم رجع.
فقال: لم أجد، ولكن يا رسول الله! معي إزاري، أعطيها نصف الإزار مهراً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وما تصنع بإزارك إن لبسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسَتْه لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل وطال جلوسه ثم قام ينصرف فناداه، قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلب؟ قال: نعم.
قال: اذهب قد ملكتكها بما معك من القرآن) فقامت المرأة تتبعه إلى منزله.
استنبط الإمام البخاري رحمه الله! من هذا جواز أن تعرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وإن كان الحديث قد سيق في هبة المرأة نفسها.
لا يحل للمرأة أن تهب نفسها للرجل، فتقول: وهبتُ نفسي لك، يعني: بلا مهرٍ ولا ولي، فإن هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، لكن استنبط الإمام البخاري بدقيق فقهه، وثاقب نظره من الحديث ما لا خصوصية فيه، وهو جواز أن تعرض المرأة نفسها على الرجل.(107/6)
حكم عرض الرجل ابنته أو أخته على الرجل الصالح
إن عرض الرجل وليته أو ابنته أو أخته على الرجل الصالح اتباع سنة الأنبياء والصالحين، من ذلك: الرجل الصالح صاحب مدين الذي ورد ذكره في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، قالوا: إنه شعيب، والراجح أنه ليس شعيباً النبي؛ لأن شعيباً النبي قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، وقد ثبت أن قوم لوط كانوا في زمان إبراهيم، وبين إبراهيم وموسى مدةٌ طويلة تزيد عن الأربعمائة سنة، إنما الراجح أنه رجلٌ صالح من أهل مدين: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]، فعرض ابنته على الرجل، لما رأى فيه من صفات الكمال.
وكذلك في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: (إن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر، من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتوفي بالمدينة، فقال عمر: أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئاً وأوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال عمر: قلت: نعم.
قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها).
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث زينب بنت أم سلمة: (أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت له: يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان -تريد أن تزوجه أختها شقيقتها- قال: تحبين ذلك؟ فقلت: نعم.
لست لك بمخلية -أي: لست أنا الوحيد التي معك- وأحب من يشاركني في الخير أختي، فقال: إن ذلك لا يحل لي، فقلت: يا رسول الله! فوالله إنا نتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة، قال: ابنة أم سلمة؟ فقلت: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن).
أي: هي محرمةٌ لسببين، السبب الأول: أنها ربيبة في حجري، والربيبة هي ابنة المرأة من الزوج الآخر.
بمعنى أن رجلاً تزوج امرأة، أنجب منها بنتاً، ثم طلقها أو مات عنها، فالمرأة تتزوج، وإذا تزوجت المرأة رجلاً، تصير البنت من الزوج الذي طلق أو مات ربيبة، والربيبة تحرم إذا دخل الزوج بالأم، أما إذا لم يدخل بها، فيجوز له أن يتزوجها، قال الله عز وجل في آية المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، أي: إذا عقد الرجل على المرأة ولم يدخل بها وطلقها، جاز له أن يتزوج ابنتها، بخلاف البنت، فإنه إذا عقد الرجل على البنت ولم يدخل بها، حرمت الأم إلى يوم القيامة، لقول الله عز وجل في آية المحرمات: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23]، فبمجرد العقد صارت البنت زوجة، وصارت أمها محرمة إلى يوم القيامة، فقال: (فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي)، والسبب الثاني: لأن ثويبة أرضعته وأبا سلمة، فهو أخوه من الرضاعة، فلا يحل أن ينكح الرجل ابنة أخيه من الرضاعة.
وروى أبو يعلى في مسنده بسندٍ قواه الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أن امرأةً قابلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحج تعرض نفسها عليه، فجعل الفضل بن العباس ينظر إليها، ويلوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجه الفضل).
كل هذا فيه دليل على أنه يجوز للمرأة أن تعرض نفسها، ويجوز للولي أن يعرض بنته، وهي سنة سنة الصالحين، وهناك أمثلة أخرى نذكرها إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(107/7)
القوة والأمانة صفتان حميدتان يجب توفرهما في الرجل الصالح
الحمد لله، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
تأمل قول ابنة الرجل الصالح قالت لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، للرجل الصالح صفتان حميدتان وهما: الأمانة والقوة.
فالقوة: ليقوم الرجل بأعباء الزوجية، من نفقة وغيرها، والأمانة: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله)، هذه هي الأمانة، إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، لماذا تظلمها؟ لماذا تقض مضجعها بالمعاملة السيئة، إذا لم تمسك بالمعروف فسرِّح بإحسان! فلا تعضلها، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والرجل الأمين لا يخون الأمانة، فقد جاء وأعطى ولي الزوجة العهد أنه سيحافظ عليها، وأنه سيتقي الله فيها، فإذا كان رجلاً أميناً حقاً لا تُضَار المرأة يوماً معه، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، لا يضر الرجل إن لم يكن ذا مال أو جاه أو جمال، إذا كان قوياً وأميناً، ولكن أين الذين يزنون الرجال بميزان الرجولة لا بميزان المادة؟ لقد فقدوا في هذه الأيام!!(107/8)
نماذج لكيفية وزن الرجال بميزان الدين
ذكر أبو نُعيم في كتاب: حلية الأولياء، في ترجمة سعيد بن المسيب رحمه الله، سيد التابعين، قال: عن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، قال: كنت أحضر مجلس سعيد بن المسيب في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففقدني أياماً، فلما جئت قال: أين كنت يا بن أبي وداعة؟ قلت: ماتت زوجتي، فانشغلتُ بها، قال: فهلا آذنتنا فشهدناها معك، قلت: كرهت أن أشق عليك، قال له سعيد: هل أحدثت زوجةً؟ فقلت له: يرحمك الله ومن يزوجني، وليس معي من المتاع شيء، قال له: أزوجك ابنتي، قال: نعم، ولكن ليس عندي غير درهمين أو ثلاثة، فتشهد سعيد وحمد الله عز وجل وزوجه ابنته بنت سعيد بن المسيب وقد خطبها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك ولي العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، حتى إن عبد الملك بن مروان احتال واخترع مصيبة لـ سعيد بن المسيب وجلده مائة جلدة انتقاماً منه، وصب عليه جرة ماءٍ باردة في يوم بارد، وألبسه جبة صوف بسبب أنه رفض أن يزوج ابنته من ابنه، هذه هي الرجولة، لو تقدم أمير المؤمنين لأي واحد منا فلن ينام الليل!!، سيقول: الحمد لله! ضمنت أن البنت ستعيش في عيشٍ رغيد، والنعمة ستكون تحت رجليها، لكن موازين الرجال مختلفة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، لكن سعيد بن المسيب حمد الله وأثنى عليه، وتشهد، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوج الرجل، فقال: فلما جاء اليوم الثاني وكنت صائماً، ووضعت أمامي خبزاً وزيتاً لأفطر طرق الباب، قلت: من؟ قال: سعيد، قال: ففكرت في كل سعيدفي الدنيا إلا سعيد بن المسيب، فإنه ما رؤي منذُ أربعين سنة إلا بين البيت والمسجد، وما فاتته تكبيرة الإحرام قط، فقلت: أفي بيتي سعيد بن المسيب ما عهد الرجل هكذا -لذلك خطر على باله كل سعيد إلا سعيد بن المسيب - قال: ففتحت الباب فإذا سعيد، فظننت أنه تراجع أو بدا له شيء، فقلت: يرحمك الله، كنت أحق أن آتيك أنا، قال: ل.
، لكنك رجل قد تزوجت، وكرهتُ أن تبيت الليلة عزباً، فخذ زوجتك.
وكانت خلفه في الباب، قال: فلما دخلت المرأة سقطَت من الحياة، وأغلقت الباب وصعدت إلى السطح أنادي في الجيران، فقالوا: مالك؟ قلت سعيد زوجني بابنته، فنزلت إليَّ أمي، فقالت لي: والله لا تقربها حتى أصلحها لك في ثلاثة أيام، قال: فبعد ثلاثة أيام دخلت بها، فإذا هي من أجمل النساء، وأحفظهن الناس لكتاب الله، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأرعاهن لحق زوجها، فمكثت شهراً لا ألقى سعيداً، فلما أردت أن أخرج أمسكت بإزاري، وقالت: إلى أين؟ قلت: أذهب إلى سعيد أتعلم منه، قالت: اجلس أعلمك علم سعيد.
فلو كن النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال أين هؤلاء النساء؟ المرأة هي قاعدة البناء العظيم الذي ترتكز عليه الأمة، فساد المرأة يعني فساد الدنيا والآخرة، وصلاحها صلاح الدنيا والآخرة.
سعيد زوّج رجلاً معه ثلاثة دراهم فقط؛ لما لمح فيه من الصلاح والنجابة والأمانة والقوة، فيا أيها الناس! اختاروا لبناتكم الرجل الصالح.
أيها الرجل: لا تستحيي أن تعرض ابنتك أو من كنت وليها على من تثق بدينه وتقواه، لست أفضل من عمر، ولست أفضل من صاحب مدين، هؤلاء السلف، ونعم السلف لنا، سنُّوا لنا هذه السنة، وعلم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما عنف عمر وما راجعه، فدل ذلك على أنها سنة بإقراره صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
والحمد لله رب العالمين.(107/9)
انحراف الأبوين عقبة أمام التزام الأبناء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
أيها الإخوة الكرام: الحديث عن الأسرة مؤلم ومحزن، لا يعرف ذلك إلا من دخل في مشاكل الناس، ربما ظن أحدكم أن التمكين قريب، لكن ليس الخبر كالمعاينة، أسرنا مهترئة، بسبب الفشل، والآن أجيب عن السؤال الذي ذكرته في مطلع الخطبة، لماذا نتزوج؟ نسبة لا تكاد في الأرقام الذين تزوجوا بقصد أن ينجبوا عباداً لله، بالنسبة للسواد الأعظم قليل جداً، أولياء الأمور هم الذين استرعاهم الله عز وجل هذه الذرية، كثيرٌ منهم خانوا هذا العهد وضيعوا رعيتهم كل يوم تأتي المكالمات لمشاكل لا آخر لها، فهذه وأختها، لبسن النقاب منذُ أربعة أشهر، تقول إحداهن: لقد وصلت وتقول: ما أحسست أنني استحق الحياة إلا بعد أن غطيت وجهي، وهذا الشعور لا يشعر به فعلاً إلا من تعاطى هذا الفعل، والمرأة إذا ارتدت النقاب لا تستطيع أن تخلعه، فإذا نزعت نقابها فكأنك كشفت عورتها، هكذا شعور المرأة المنتقبة، لكن ما هي المشكلة؟ المشكلة أن أباها أمرها بخلع النقاب، ثم اتخذ خطوات عملية، أخذ النقاب ووضع عليه (كيروسين) ثم أحرقه، هذه الخطوة الأولى.
الخطوة الثانية: الأم تذهب إلى بيت أبيها عقوبة لهذه البنت، وأبت أن ترجع هذه الأم إلا إذا خلعت النقاب.
الخطوة الثالثة: ممنوع منعاً باتاً وضع أي شيء على الرأس، لا تضع حتى غطاء الرأس! يعني تخرج بشعرها.
الخطوة الرابعة: أنه إذا جاءه ضيف ألزم بناته وأهله على أن يصففن شعورهن، ويدخلن على هذا الضيف سافرات.
الخطوة الخامسة: أنه يأمرهن أن يجلسن بجوار الضيف وإذا امتنعن من ذلك فالسوط موجود!! الخطوة السادسة: الضرب المبرِّح أمام الضيف!! أسمعتم؟! أهؤلاء رجال؟! لو لم يكن هناك دين لكان هناك غيرة، فالكلاب تقتتل على الكلبة.
وهذا كلب ومع ذلك فيه نوع من الغيرة، وهذا الرجل يفعل كل هذه الأفاعيل مع ابنته، وهاهي تسأل: ماذا أفعل؟ ويقف الإنسان في حيرة، قالت: بذلنا كل شيء، ستقول لي يا شيخ: اصبري تحملي، كل ما يخطر على بالك أنا فعلته، إنه يضربني بالسوط ضرباً مبرحاً أمام الضيف.
هذا نموذج لكثير من الأسر، هؤلاء لا يستحقون الحياة، هؤلاء يهزمهم شر الخلق وأضعفهم -اليهود والنصارى- هؤلاء لا ينتصرون أبداً، إن بنياننا الأسري مختل.
يا أولياء الأمور: إذا انتقبت البنت فاحمدوا الله على ذلك؛ فإن النقاب عفة ووقار وشرف.
اسأل نفسك سؤالاً: أيهما أفضل عندك: أن تنتقب ابنتك أم أن يهرب بها أحدهم ويتزوجها؟ هذه بمقابل لبس النقاب، فالنقاب صيانة وعفاف وشرف، كيف تأخرت حتى الآن في تغطية وجه امرأتك وبنتك وأختك؟!(107/10)
إهمال التربية سبب تحطم الأسر
هناك أسرة بكاملها تحطمت بسبب أن الولد ما تربى التربية الإسلامية الصحيحة، صاحب رفقاء السوء، وتعرف على واحد من أصحاب المخدرات فأعطاه منها، وقال له خذ وشُم: بعد ذلك صار مدمناً لها، فمباشرة من حين أخذ (الجرعة الأولى من المخدرات) بدأ يتغير، بدأ يسرق مال أبيه، ثم يسرق من بيوت الناس، قبضت الشرطة عليه، وسألوه ابن من أنت؟ قال: أنا ابن فلان الفلاني، يعني: من بيت كبير، وأبوه ذلك الرجل صاحب المنصب الكبير، فيذهبون به إلى قسم الشرطة -فضيحة- أما في البيت فهو كل يوم في ضرب وصراخ في ذلك البيت الذي لم يكن أحد يسمع لهذه الأسرة فيه صوتاً، أما الآن فكل يوم عراك وصياح، وهذا الولد لا يتقي الله، ولا يرقب في أهله إلاً ولا ذمة، فإنه يسبّهم بأقذع الألفاظ، يريد أن يشُم تلك المخدرات، فتحطم بنيان الأسرة وتصدع.
ما سبب ذلك؟ السبب: إهمال التربية الصحيحة، هذا الولد لو كان رجلاً تقياً، لما وجد في أصدقائه ولا أقرانه من يقول له: شُم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، أنت إذا كنت رجلاً مصاحباً للمؤمنين، أرأيت مؤمناً يغشك ويدمرك ويعطيك ما حرم الله؟ لا.
لا يمكن هذا، أي رجل ملتزم يعرف قيم دينه إذا ارتكب هو في نفسه معصية فإنه يحاول أن يتوارى عن الأنظار، فكيف يجهر بها أمامك؟! بل كيف يدعوك إليها؟ لا يجرؤ على ذلك.(107/11)
من شروط التمكين: الصدق مع الله
إن الأمة الإسلامية اليوم تملك ثروة بشرية هائلة -ملايين- ولكن أين الرجال فيهم؟ إنهم قلة، مثلاً: أي رجل وقع في أزمة وخير ما بين دين الله وما بين الدنيا، فإنه يختار الدنيا مباشرة، يقول لك: أكل وأعيش وأولادي وتركتي.
وإذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا لن تأخذ الوظيفة، تراه يتساءل هل يحلق حتى يأخذ الوظيفة ثم يعفيها مرة أخرى، هذا إذا كان الرجل فيه تدين، وغالب الناس لا يقف عند هذه المسائل ولا يفكر على الإطلاق، بل يقوم فوراً ويحلق لحيته، ولسان حاله يقول: لماذا لا أختار الدنيا؟ اعلم يا أخي! أن الله عز وجل لا يضيِّع من توجه إليه، وإنما يختبرك وينظر إلى صدق عزيمتك، كما قال تبارك وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، فإذاً: لا بد من اختبار، إذا صدق الرجل مع الله عز وجل ورسوله، وكان وقافاً عند حدود الله عز وجل مكّن له في الأرض: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فهذه شروط التمكين، هل نحن أمة تستحق التمكين، وثلث الأمة لا يصلي؟ ثلث الأمة لا يصلي وربما أكثر، هؤلاء لا يسجدون لله عز وجل، هل يمكّن لهؤلاء؟ لا يمكَّن لهم أبداً، إنما يمكَّن الله عز وجل لعباده المؤمنين، الذين إن مكنّ لهم كانوا أوفياء لشرعه.
إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية وحال أفرادها يرى كثيراً من الناس يتصرف تصرف أهل الجاهلية، إذا ركبوا سفينةً في البحر وأتاهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم قد أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:22 - 23].
إذا كنت في البحر وذهب منك الحول والقوة حينها تلجأ إلى الله، وبمجرد أن تمشي على رجليك، تتصور أنك ملكت أمرك حينها!! هذا يذكرني برجل ركب معي من القاهرة مرة، ويبدو أنه أول مرة يركب طائرة، والطائرة كانت تطير بسرعة كبيرة حوالي ألف كيلو في الساعة، نظرت للرجل ورأيت وجهه قد اصفر، أول ما بدأت الطائرة تطير وقال: انتيت، لا حول إلا بالله.
يعني: لم يعد في أيدينا شيء، الطائرة صارت مرتفعة، فبعد أن استقر حاله وأحضروا له عصير الليمون، تعرفت عليه، وقلت له: سمعتك تقول كذا وكذا، لا حول ولا قوة إلا بالله، وهل وأنت تمشي على الأرض بقدميك لك حول بغير حول الله؟ إن كثيراً من العباد يحسب المسألة خطأ، عندما يمشي على الأرض ينسى قدرة الله.
يعني: أنه بإمكانه فعل كل شيء، يستطيع أن يعود إلى بيته لوحده، ويستطيع أن يمشي، لكن وهو في الجو، فلا يستطيع أن يفعل شيئاً!! وكذلك لو كان في لجة البحر لا يستطيع أن يفعل شيئاً، في الجور والبحر يلجأ إلى الله.
إن الله ليكره ذلك، والله عز وجل لا تليق بعظمته هذه المعاملة، وهو الغفور الودود، وتأمل هذين الاسمين المتعاقبين: (الغفور الودود) يعني: يغفر الذنب ويتودد إليك.
مثلاً -ولله المثل الأعلى- إذا أسأت إلى أبيك، أو إلى أخيك، أو إلى أمك، أو إلى أختك، أو إلى خالك، أو عمك، أو صديقك، كان عليك أن تصطلح معه، وتذهب لتقول له: هل تريد مني خدمة؟ أنا جئت اليوم أقدّرك وأعتذر عما بدر مني، حتى تزيل هذا الغبش الذي كان.
إذاً: المسيء هو الذي يتودد، لكن لاحظ الشيء العجيب، الله عز وجل هو الغفور، يغفر للمسيء، وهو الودود الذي يتودد إلى عبده المسيء، فسبحان من رب عظيم! فلماذا أشركت معه غيره؟ أشركت مالك أو أولادك أو امرأتك أو سلطانك أو أشركت معه غيره وهو يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) هذا من عزته تبارك وتعالى، فالعزيز لا يقبل هذا.
تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة دائر الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه ولا ترد الأسود حياض ماء إذا كان الكلاب يلغن فيه لا يمكن للأسد أن يشرب من حوض شرب منه كلب؛ ترفعاً وعزة.
وها نحن في صفاتنا نأبى أن نشارك أصحاب الخسة فيما يطلبونه، فلله عز وجل المثل الأعلى، فكيف بهذا الإنسان يشرك به ويتركه!!؟ لا، هو العزيز، ولذلك عندما تشرك معه غيره، يقول لك: اذهب إلى من أشركت؛ لأن حقيقة الشرك فيه دلالة على النقص.
هل يوجد أحد في الدنيا يتمنى أن أحداً يشاركه في ماله أو في تجارته، عندما تذهب إلى أي شارع تجد شركة فلان الفلاني، فلان وأولاده، فلان وشركاه، هذه الشركات عُملت لماذا؟ أنا لو معي رأس مال أكنت أتمنى أن يشاركني أحد في الربح؟ الحال أن بعض الناس حين يشتركون مع بعض تجد كل شريك يطمع في شريكه.
ويقول له: أنا أريد ربحاً أكثر منك، ويمكن أن يظلمه، فلو كان هذا الرجل معه مالاً ما أشرك معه أحداً.
إذاً: الشركة دلالة على النقص، لماذا دخل في شراكة؟ لأن رأس ماله ضعيف، أو لأن خبرته قليلة، أو لأنه ضعيف يحتاج إلى ظهر يحميه، لذلك يُدخِل شخصاً ذا سلطان ليحميه، وهناك أناس لهم مناصب كبيرة أحيلوا إلى التقاعد، فتجد أصحاب الأموال يذهبون إليهم يدخلونهم في هذه الأموال ويشاركونهم، من أجل أن يخلصوهم من الجمارك؛ لأن هذا المتقاعد يعرف المسئول الفلاني والمسئول العلاني وما إلى ذلك، مع أن هذا المتقاعد تراه يجلس لا عمل له، يجلس على مكتب، ويوصِّلونه بسيارة، والسائق يذهب به ويعود، هذا كله لماذا؟ لأجل أنه يعرف المسئولين الكبار، فالرجل هذا يسهل لهم العقبات ويمرِّر لهم المخالفات.
إذاً: الإشراك نقص فقل لي إذاً لماذا تشرك مع الله؟ هل الله عز وجل فقير؟ لا.
فرزق الله لا ينفد، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:180].
إذاً: يجب أن نعلم أن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، وأنه الغني ونحن الفقرءا، نحن محتاجون إليه، وهو غني عنا، ومع ذلك تراه يغفر ذنوبنا ويتودد إلينا، فما علينا إلا أن نوحده وأن نعظمه حق التعظيم، وأن نقدره حق التقدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(107/12)
الغيرة للمحبوب
إن للمحبة علامات وأمارات كثيرة، وإن من أوضحها وأشدها دلالة: الغيرة للمحبوب.
وإذا تأملنا في واقع الأمة اليوم على اختلاف طوائفها ومذاهبها وما تدعيه وتتشدق به من حب النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا البون شاسعاً والفرق واضحاً جلياً بيننا وبين سلف الأمة من الصحابة والتابعين.
فها هم اليهود اليوم يسبون نبينا عليه الصلاة والسلام جهاراً، ويصورونه على صورة خنزير ولم يحرك أحد من المسلمين ساكناً، بينما كان سلف الأمة يبذلون المهج والأرواح في الذب عنه صلى الله عليه وسلم والدفاع عن عرضه، وما ذاك إلا لأنهم صدقوا في حبهم، فأطاعوه وغاروا عليه، وقدموه على المال والنفس والأهل والولد، فأين نحن منهم؟ ما حقيقة محبتنا له صلى الله عليه وسلم؟(108/1)
الغيرة للمحبوب من علامات المحبة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام! إن وقود الانتماء هو الحب، وللمحبة علامات تقطع بها وجه كل دعي للمحبة وهو عار عنها، ونحن اليوم مع علامات للمحبة، وإنما آثرت ضرب المثل بأقوال المحبين في الدنيا لأقيم الحجة على الخلق بأمرٍ غير منكورٍ عندهم يسلمون به.
إن المحب لا إرادة له مع حبيبه، ولو صارت له إرادة مع حبيبه فإن هذا قدحٌ في دعوى محبته، وكل الناس لا ينكرون هذا المعنى، فإذا عدّلناه إلى أجلّ محبوبٍ وهو الله عز وجل رأيت دعوى عريضة، ورأيت الكاذبين يتلو بعضهم بعضاً في أمر لا ينكرونه بينهم.
إن من علامات المحبة: الغيرة للمحبوب.
وعليه فلا أتصور حباً بلا غيرة، فإذا رحلت الغيرة رحل الحب تبعاً لها، والغيرة هي أنفةٌ أن يشاركني في محبوبي أحد، وهي نارٌ وتوهج يخرج من القلب حال ذكر المحبوب، وهي أنانية التفرد بالمحبوب، هذا هو أصل الغيرة: أن تغار له وعليه.
وكما ورد في الحديث الصحيح: أن هلال بن أمية الواقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! وجدتُ رجلاً مع امرأتي -ولم يكن نزل حد الملاعنة بين الرجل وامرأته، وكان الرجل إذا رمى امرأته أو غيرها بالزنا فرض عليه أن يأتي بأربعة شهداء وإلا جُلد- فجاء هلال بن أمية الواقفي، وقال: (يا رسول الله! وجدت رجلاً مع امرأتي فقال: يا هلال! أربعة شهداء أو حدٌ في ظهرك، فحينئذٍ انتفض سعد بن عبادة -سيد الخزرج- وقال: يا رسول الله! أدع لكعاً يتحسها وأبحث عن أربعة شهداء؟! والله ليس له إلا السيف غير مصفح! فقال النبي صلى الله عليه وسلم للخزرج: انظروا ما يقول سيدكم -يستنكر عليه؛ لأنه يعارض آية في كتاب الله عز وجل- فقالوا: يا رسول الله! اعذره، فوالله ما تزوج امرأةً قط إلا بكراً، وما طلق امرأةً فجرأ أحدنا أن يتزوجها بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد؟! والله إني لأغير من سعد، والله أغير مني؛ لذلك حرم الفواحش).(108/2)
أين من يغار لرسول الله صلى الله عليه وسلم
الغيرة للمحبوب أن تنتهك حدوده، وأن يعتدى عليه هذه هي ثمار المحبة.
لقد بكيت كمداً وحزناً هذا الأسبوع من هذا المنظر الذي رأيته، يصور اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم على صورة خنزير، ويكتبون عليه اسمه الصريح ويدوسون القرآن بأرجلهم!! وما ذاك إلا لأنهم يخاطبون أمةً ميتة، فهل لهذا الرسول في الدنيا العريضة مؤمنون به ومحبون له؟!! لقد بكيت كمداً، وإنما يبكي الحر من القهر قاتل الله السياسة التي لا تخضع للدين! بأي وجهٍ يجلس المفاوض مع اليهود؟! على ماذا يتفاوض؟! قطعة أرض، ما بقي بعد الذي حدث شيء يسب نبينا صلى الله عليه وسلم ونسكت!!.
إذاً: أين الحب الذي ندعيه؟! إن احتلال اليهود لأرضنا وأخذهم لها شبراً شبراً لأهون عند الله عز وجل ورسوله وعباده المؤمنين من سب الله ورسوله، فعلى أي شيءٍ يتفاوضون؟! على أرض! ما قيمتها؟! {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، بغير هذه العلامات وبغير هذه الرتب لا يحل لنا أن نرث الأرض.
ولو أن رجلاً عربياً جاهلياً لا يدين بدين -كافرٌ بالله العظيم- حدث له عشر هذا؛ لانتفض ولرده أنفة وحياءً وكبراً.
إن للشاعر الجاهلي في حرب البسوس أبياتاً صارت في كل الأمصار، واختارها أبو تمام وأودعها في القطعة الثانية في ديوان الحماسة.
يقول: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يبقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كْمْا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَربٍ فِيه تَوْهِينٌ وتَخضِيعٌ وإقرَانُ وطَعنٍ كَفَم الزِّقِّ غدا وَالزِّقُّ ملآنُ وبعضُ الحلمِ عندَ الجَهلِ لِلذِّلَّةِ إذعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ وتأمل البيتين الأخيرين: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ إنسان يضرب ولا يرد، لماذا؟ لأنه حليم، ويضرب المرة الثانية ولا يرد؛ لأنه حليم، وكذلك في الثالثة والرابعة والعاشرة، لا يرد لأنه حليم!! فهذا ليس بحلم، وإنما استكانة وإذعان وضعف.
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ فإذا صفحت مرة وثانية وثالثة ولم تجد مكاناً لهذا الإحسان فما بقي إلا الشر.
وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ وهاهم العرب ما زالوا مصرين على السلام مع اليهود مع ارتكابهم لهذا الجرم الشنيع! فيا ترى: أي سلام يتحدثون عنه؟! وقد حذر الدعاة وبحت أصواتهم وجفت حلوقهم أن اليهود لا عهد لهم، وهم في تحذيرهم يستقون كلامهم من كتاب الله عز وجل، ومع ذلك ترى محاولة استئناف المفاوضات لاستعادة الثقة! الثقة بمن؟ بالذي يصور النبي صلى الله عليه وسلم على صورة خنزير، ويطأ القرآن بقدميه؟!! هذا الذي جرى لا يجبره إلا الدم، وليس له علاج إلا الدم.
وما وصل اليهود إلى هذا إلا بعدما علموا يقيناً أن هذه الأمة ماتت، وأنه ليس هناك أحدٌ يتخذ لها قرارتها، فقادتها كذبة كلهم، فالذين يدعون أن قرارهم بأيديهم لا يستطيعون فعل شيء، وكلنا يعرف هذه الحقيقة.
صورة خنزير ينتسب إليها ألف مليون رجل على عجرهم وبجرهم، لكن كلهم مجمع على تعظيمه صلى الله عليه وسلم، وعلى توقيره ولو بالدعوة الكاذبة!!! أين الموالد التي تقام كل عام في محبة النبي عليه الصلاة والسلام؟! أين الذين يتشدقون بمحبته في الموالد؟! وها نحن في شهر ربيع، وبعد عشرة أيام ستسمع الموالد والجحافل، وسترى الطرقات ممتلئة بهؤلاء الذين يدعون حبه صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يدعي حب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أهين، وصور بأخس دابة على وجه الأرض، فما هي ردة فعلنا؟!(108/3)
صورة أخرى تطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم
إن ساب النبي صلى الله عليه وسلم حده القتل ولو تاب، ولو أظهر التوبة، رعايةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو تركنا الساب ليقول: تبت، ثم يرجع ويسب: تبت؛ لاستهانوا بجناب النبي عليه الصلاة والسلام.
ولكنه يقتل.
إن الكافر التافه الذي لا يتكلم أهون من السابّ؛ ولذلك فقد فرق الرسول عليه الصلاة والسلام بين الكافر الذي لا يسب وبين الذي يسب، روى الإمام النسائي وأبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً يوم فتح مكة غير أربعة رجال وامرأتين، قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل.
فأما مقيس فأدركوه وقتلوه، وأما عبد الله بن خطل فأدركوه معلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، وأما عكرمة ففر وركب البحر، وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، خرج عثمان بن عفان وخلفه ابن أبي سرح، ووقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فبايعه، ثم قال لأصحابه: أليس منكم رجلٌ رشيد إذ رآني كففت يدي عن بيعتي هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟ قالوا: يا رسول الله! هلا أومأت إلينا بعينيك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين).
والسؤال الذي يطرح نفسه: جاء عبد الله بن أبي سرح تائباً فكيف يقتله والإسلام يجب ما قبله، وقد أسلم رجالٌ في فتح مكة كانوا من أكفر الكافرين وقبل منهم؟ فلماذا لم يقبل من ابن أبي سرح؟ لأنه كان يفتري على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب الوحي له، فكان يقول: كنت أملي محمداً ما أشاء!! فافترى عليه، وطعن في أمانته، وهذا من أعظم الكذب؛ لذلك استحق القتل، بخلاف الكافر الذي سبق منه إحسان.
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وقد نظر إلى أسرى بدر فقال:: (لو كان مطعم بن عدي حياً ثم خالطني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)، فوصفهم بأنهم نتنى، وأخبر أنه لو المطعم بن عدي حياً ولم يسلم وجاءني ليفتدي هؤلاء لأعطيتهم له، مع أنه كافر، فما هو وجه التفريق بينهما وهذا كافر وهذا كافر؟ أن الثاني عنده نخوة وشهامة.
مثلاً: أبو طالب خفف الله عز وجل عنه العذاب -مع أنه كافر مخلد في النار- بسبب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]؛ لأنه كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، ففرق بين كافر نصير، وبين كافر يسب ويؤذي، وهما بخلاف الكافر الكاذب، ولذلك فإن افترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت أبداً بخير، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، والأبتر: الأقطع من الخير.
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً نصرانياً أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرأ البقرة وآل عمران وجد في نظر المسلمين، ثم إنه تنصر وكفر ولحق بالروم، وقال: أنا الذي كنت أملي على محمدٍ القرآن، فقصمه الله عز وجل وقطع عنقه، فدفنوه؛ فأصبح الناس وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل أصحاب محمد، نبشوا على صاحبنا وأخرجوه، فأعمقوا ودفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فأعمقوا ودفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فجلس منبوذاً هناك).
ألم تضم الأرض بين جوانبها أكفر الكافرين؟ هل رأيتم الأرض لفظت كافراً؟ كم ضمت الأرض بين جوانبها من الكافرين وما لفظتهم ولفظت هذا؟ لأنه اعتدى على النبي صلى الله عليه وسلم وسبه بداء الخيانة، وأنه كان يملي عليه القرآن.
في الانتماء غيرة، ها هم اليهود خمسة عشر مليوناً، لو تطوعنا وبصقنا عليهم لأغرقناهم، ومما قتلني كمداً أن الأحاديث الصحفية ليل نهار بالذي يجري والذي لا يجري، ومع ذلك ما رأينا صوت دول دينها الرسمي الإسلام عقدت مؤتمراً صحفياً في الحال، وأنكرت هذا الفعل وتوعدت، وما ذاك إلا لأنهم كذبوا في دعوى محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لا يعنيهم ذلك، ولا دولة حتى الآن تطوعت ورفعت رأسها وقالت: كيف يفعلون ذلك؟! أولا يستحق النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟! أولا يستحق أن يعقد له مؤتمر صحفي في الحال، ويندد ويطرد السفير ذراً للرماد في العيون؟! ولقد مررت برجل عامي صاحب مطعم جالس هو وامرأته يحدثوني عن هذا ولم أكن قد قرأت الجرائد ولا أعرف القضية، وكان الرجل يبكي وينهمر دمعه هو وامرأته يبكون وهم يتكلمون الرسول عليه الصلاة والسلام هو رأسنا، ونحن جميعاً نواليه ونحبه، يظهرون المحبة له حتى ولو خالفوه، لكنهم يظهرون المحبة ولا أحد يخالفه، ولا أحد يتبرأ منه.(108/4)
دور الإعلام في التنقص من النبي عليه الصلاة والسلام
ثم وافق هذا الذي جرى والذي لا يمسحه ولا يجبره إلا الدم شيءٌ مقيت مثله تماماً لكنه حدث على أرضنا، ونشر هذا يوم أمس في جريدة الأهرام في الصفحة الثانية: امرأة رأت فلماً أجنبياً في نادي السينما يوم السبت الماضي، وفي نهاية الفلم اللقطة الآتية: بطل يأتي بعدما انتهى على بيت وقال: يا محمد! فظن المشاهد أنه يرى الرجل، فإذا بكلب أسود يخرج من البيت، فأخذه وانصرف!! هذه هي النهاية، وهذا حدث على أرضنا، وأنا ما رأيته وإنما نقلته عن جريدة الأهرام.(108/5)
صور من غيرة السلف الصالح لله ولرسوله
إن الخطب فادح والأمر جلل، والذي وصلنا إليه ليس هناك شيءٌ بعده، أن يسب الله عز وجل -وقد سبوه- وأن يسب النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سبوه وصوروه- فما هو رد فعلنا؟! إن امرأةً كشف اليهود عن سوأتها، وهي امرأةٌ نكرة، لا نعرف لها اسماً ولا رقماً ولا نسباً، ولكنها مسلمة، فنادت: وامعتصماه! فجرد المعتصم الجيش العرمرم ليرد عرض امرأةٍ مسلمة، وفتح عمورية، وأنشد أبو تمام قصيدته التي تناقلتها الكتب؛ لأجل امرأةٍ مسلمة.(108/6)
قتل كعب بن الأشرف
إن المعاهد الذمي الذي له عهد وأمان ينتقض عهده وأمانه بالسب، والحربي ليس له أمان، فـ كعب بن الأشرف كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه، ويهيج عليه القبائل، ويسبه، ويشبب بنساء المؤمنين، كما يفعل سلمان رشدي في هذه الأيام؛ فقد شبب بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، واتهمهن بالدعارة، فلما وجد اليهود أنه لا أحد ينتصر لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، صوروه على صورة خنزير، وكتبوا اسمه صراحة!! وهذه خطوة طبيعية ومتوقعة؛ لأنهم لم يجدوا من يحرك ساكناً لذلك.
ولو أن أحداً من الناس اتهمت امرأته بالدعارة لدخل في حرب مع القائل ولو كلفه ذلك حياته، ولن يلومه الناس ولن يتهمونه بالتهور، فمن قتل دون ماله وعرضه فهو شهيد، وهذا يدافع عن عرضه.
وهاهي أمنا: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وجويرية، وخديجة رمين في أعراضهن، فأين نخوتنا وشهامتنا؟! لقد رأوا أمة ميتة لا تتحرك، ترمى في أغلى شيء لديها ولا تتحرك، فما المانع أن يصور اليهود النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة ويلصقونها على أبواب المحلات العربية من أجل أن يصبح المسلمون فيجدون هذه الصورة على أبواب المحلات؟!! لا رد فعل على الإطلاق؛ وكأنما هذا الرسول ليس له أحد في الدنيا!!! وقد اتصل الرئيس الأمريكي بـ سلمان رشدي، وهو رجل لا قيمة له في دنيا الناس، فلماذا يتصل له الرئيس الأمريكي؟ لأنه سب النبي صلى الله عليه وسلم.
نكاية في المسلمين، وتشجيعاً لمن على شاكلته.
وعجباً لمن يدعي الإسلام ثم يكون هذا حاله!! وما هو إلا خلف لسلفه السابق أمثال: عمرو بن أبي عزة لما وقع في الأسر يوم بدر، ودخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: أطلق سراحي فعندي أولاد ونساء وسأحفظ لك الجميل، فأطلق سراحه ومنّ عليه، فذهب إليه كفار قريش وقالوا له: أعنا عليهم بشعرك، فقال: إني عاهدتهم وأنا رجلٌ فقير ولي عيال.
فقالوا له: عيالك عيالنا! لئن مت نضمن عيالك إلى عيالنا، فهجا النبي صلى الله عليه وسلم، وذاك قبل وقعة أحد، فلما أمسكه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعف عني ولا أعود.
فعفا عنه، فرجع فسبه وشبب بنساء المسلمين، فأمكنه الله منه، فقال له: اعف عني ولا أعود! قال: (لا والله لا أدعك تمشي في شوارع مكة تحك عارضيك وتقول: خدعت محمداً مرتين؛ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وأمر به فقتل.
هكذا فلنكن! صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا لكنهم قوم لا ينفع فيهم جميل ولا معروف فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدا وَالزِّقُّ مَلآنُ إن زق الماء إذا كان ملآناً وطعن فإنه ينفجر بالماء، والمعنى: أننا أصبحنا ممتلئين وسننفجر، هذا هو معنى البيت: وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدا وَالزِّقُّ مَلآنُ والنبي عليه الصلاة والسلام لما رأى كعب بن الأشرف يطعن في عرضه ويشبب بنساء المؤمنين قال: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه آذى الله ورسوله؟)، والعلماء يقولون: إن التعقيب بالفاء يدل على أن علة القتل هي السب والأذى، فكان أول من قام هو محمد بن مسلمة وهو ابن أخيه، وقام الآخر وقال: وأنا، فكان أبو نائلة، أخوه من الرضاعة، فهم من أقربائه، وقال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! أتأذن أن نقول له شيئاً؟ أي: نخدعه نكذب عليه نجره قال: نعم.
فذهب محمد بن مسلمة إلى كعب وقال له: جئتُ أقترض منك وسقاً أو وسقين من شعير، فإن هذا الرجل قد أعنتنا وأتعبنا، وكل يوم يطلب منا الصدقة، فقال: كعب: وأيضاً، والله لتملنه.
فقال: قد مشينا معه ولا نريد أن نفارقه حتى نرى عاقبة أمره، فقال: ارهنوني نساءكم!! أي: في وسق شعير يريد أن يأخذ امرأة الرجل، والمسألة كلها خداع، فقال: (نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!) تأتي المرأة فترى هذا الجمال ولاتنظر إليك بعد ذلك؟ فقال: ارهنوني أبناءكم! قال: هذا عارٌ علينا، أن يسب أحدهم يوماً فيقال: رُهن بوسق من شعير، ولكن نرهنك اللأمة، وهو درع الحرب، وكان هذا ذكاء من محمد بن مسلمة، حتى إذا جاء بأدوات الحرب لا يشعر أنهم يريدون قتله، فجاء هو وأبو نائلة وعباد بن بشر وجماعة، وخططوا خطة، وقال محمد بن مسلمة: أنا سأمسك رأسه فإذا تمكنت من رأسه دونكم فاقتلوه، فجاءوا بالليل ونادى أبو نائلة أخوه من الرضاعة، وقال: يا كعب! فسمعت امرأة كعب الصوت، فقالت: لـ كعب: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم، إلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة؟ قال: هذا رضيعي أبو نائلة وابن أخي محمد بن مسلمة وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب! ونزل يفوح عطراً، فلما دنا من محمد بن مسلمة قال له: ما رأيت كاليوم عطراً، ما هذا العطر؟ فتبسم كعب وقال: عندي أعطر العرب، وأجمل العرب، وكان ما زال عروساً، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأعطاه رأسه، فلما أمسك رأسه واستمكن قال: دونكم عدو الله، فقتلوه).
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع أهل السيرة على أنه كان مستأمناً معاهداً، فلما سب لم يكن له عهد ولا أمان.(108/7)
أبناء الصحابة يتسابقون في قتل أبي جهل لأنه كان يسب رسول الله
في الماضي عندما كان هناك انتماء وولاء خالص للإسلام كان هناك أطفال في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، أمثال معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، لهم موقف شبيه بهذا الموقف، فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (كنت أقف في الصف يوم بدر، فإذا بغلامين، جاءني أحدهما فقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: ثم جاء صبيٌ مثله فغمزني وقال مثلها، فعجبت! فلما رأيت أبا جهل يجول في الناس قلت: هذا صاحبكما! فتوجها إليه فضرباه جميعاً، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته! فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلٌ يدعي أنه قتله، -شرف أن يقتل عدو الله ورسوله، هذا هو قصب السبق، وهذا هو الولاء والانتماء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
فلما نظر إلى السيفين قال: كلاكما قتله تطييباً لخاطرهما-).
إن هذه محنة، ومن المحن تأتي المنح، وقد قرأت خبراً عجيباً: قصة شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصادق المخبر في كتاب: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) يقول: حدثني كثيرٌ من الثقات والعلماء الغزاة الذين كانوا يحاصرون بني الأصفر (الروم) أنهم كانوا يحاصرون المدينة شهراً وشهرين وأكثر، وأهل المدينة يتحصنون بالحصون وعندهم الأكل والشرب، قال: كنا نحاصرهم شهراً وشهرين وأربعة حتى كدنا أن نيأس في غزوهم، وإذا هم قد سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ففتحنا الحصن بعد يومين، فقال هؤلاء العلماء: كنا نتباشر بسب النبي صلى الله عليه وسلم مع امتلاء قلوبنا غيظاً من ذلك، يتباشرون أي: يستبشرون، فإذا سمعوا أهل الحصن يسبونه عرفوا أن الفتح قادم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]، إن شانئه وسابه لا يموت بخير، وهو مهزوم، فكأنهم فعلوا ذلك بشارة، مثلما كانت بشرى لأسلافنا أنهم لم يستطيعوا فتح الحصن إلا بعد أن سبوه، فأسلمهم الله عز وجل لهم وفتحوا الحصن بعد يومين.
واتفق العلماء على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل؛ مسلماً كان أو ذمياً؛ وذلك رعايةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم.(108/8)
شعراء الصحابة يذبون عن عرض النبي عليه الصلاة السلام
صرمة بن قيس شاعرٌ صحابي كان في الجاهلية على دين إبراهيم -أقول هذا لتعلموا الفرق- يذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل وبعد الهجرة، فيقول: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكّر لو يلقى حبيباً مواسيا ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيا بذلنا له الأموال من حل مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادي من الناس كلهم بحقٍ ولو كان الحبيب المصافيا وفي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لشعراء المسلمين: (اهجوا قريشاً، فوالذي نفسي بيده لهو أسرع فيهم من النبل)، فأرسل إلى عبد الله بن رواحة وقال: (اهجهم، فهجا فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، فهجا فلم يرض، فأرسل إلى حسان بن ثابت، فجاء حسان فدخل فقال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه فأخرج لسانه من بين شفتيه وجعل يحركه- لأن الأسد إذا غضب ضرب جنبيه بذنبه- ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأفرينهم فري الأديم) أي: لأمزقن أعراضهم كما يمزق الجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل حتى تأتي أبا بكر فإنه أعلم بنسب قريش)، فذهب إلى أبي بكر فلخص له نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشأ حسان يقول لـ أبي سفيان وأتباعه أيام كان كافراً: هجوت محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمداً براً تقياً رسول الله شيمته الوفاء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يبارين الأعنة مصعدات على أكتافها الأسل الظماء فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم يعز الله فيه من يشاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا الشعر (لقد شفى حسان واكتفى) أي: شفى صدور المؤمنين، واكتفى منهم بما فعلوه، هذا هو الأسد الضارب بذنبه.(108/9)
تربية الأبناء على الدين أول طريق للتمكين
والآن نتكلم عن تربية الأولاد، ودورهم في النهوض بالأمة نتكلم في قول الله عز وجل: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:6]، ونتكلم عن جيل التمكين ومواصفات جيل التمكين.
المستعجلون يستقبلون هذه الخطوات، لكن إهمال تربية الولد مشاكله مؤجلة، فهذا الجيل المهزوم إنما هو تربية آباء لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، هذا الجيل المهزوم الذي يملأ الدنيا الآن ابن لأب جاهل لم يكن عنده انتماء ألبتة، لذلك ورث هذا الحطام الهشيم.
والمسألة في تربية الأولاد مسألة وقت، تخيل أن هذا الجيل جيلنا وجيل أبنائنا بعد سبعين سنة مثلاً، أليس أولاد جيلنا هم الذين سيحكمون؟ وهم الذين يتخذون القرار؟ فالمسألة مسألة وقت، خمسون سنة في عمر الأمم لا تساوي طرفة عين.(108/10)
صور من حياة السلف في التضحية لهذا الدين
صلاح الدين الأيوبي استرد بيت المقدس بعدما ظل تسعين سنة في أيدي الصليبيين، فلنأخذ مثلها ونرجع البيت المقدس، هذا هو الدواء الناجح والأمثل، فقد اتسع الخرق على الراقع، ونحن نربي أولادنا حتى لا نسقط من ميزان الحق، وحتى لا ينظر الله عز وجل إلى الأرض فيمقتها كلها ويستبدل بهؤلاء الناس رجالاً آخرين.(108/11)
قتل أبي رافع
يحكي لنا البراء بن عازب قصة تاجر الحجاز أبي رافع، وكان أبو رافع ممن يعين بماله على المسلمين وعلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أشهر تاجر في مكة: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
فقام عبد الله بن عتيك، وانتدبه النبي صلى الله عليه وسلم مع سرية وقال: اذهبوا إليه، فذهبوا حتى وصلوا إلى قصره المنيف، وهو تاجر كبير، وعنده ضيوف وسمار يسمرون معه إلى آخر الليل، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا وأنا سأذهب وأتلطف في الدخول، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه.
وقد يكون هذا الرسم الذي رسموه، اليهود بداية حرب بيننا وبينهم أرادها الله، فتهيج الدنيا وتموج في بعضها وينصر الله عز وجل من يشاء.
فحتى يقتل هذا الكافر - أبو رافع - يخرج حمار من القصر، فيرسل الحرس ليبحثوا عن هذا الحمار، فعندما رأى عبد الله بن عتيك الحرس خارجين من القصر جلس وكأنه يتبول، وتقنع حتى لا يرى ولا يعرف.
قال: فدخلت، ولم يفتشني أحد، فدخلت واختبأت، فبعدما دخلوا كلهم وأغلقوا القصر من الداخل، قال: وضع الحارس الأغاليق في ودٍ في كوة -والكوة: هي الطاقة التي في الجدار، والود: هو الوتد الذي في الطاقة، فعلق السلسلة التي فيها المفاتيح على الوتد الذي في الطاقة- فنظرت إلى المفاتيح وقلت: الحمد لله.
فلما دخل الحارس لينام كمنت -لأن هناك ضيوفاً ولا يستطيع أن يدخل عليهم- حتى خرج السمار آخر الليل، فدخلتُ، فكلما دخلت أغلقت عليّ الباب من الداخل -ولم يفته أن يغلق الباب على الحارس- قال: فدخلت فرأيت القصر كله مظلم، فناديت عليه: يا أبا رافع! فقال: من؟ فاتجهت نحو الصوت، قال: فعاجلته بضربةٍ وأنا دهش -ودهش: يعني مذهول لم يصدق أنه دخل القصر ووجد أبا رافع - غير مصدق لنفسه، والمذهول إذا ضرب يضرب ويده ترتعش فلا يحسن الضرب.
قال: فقال أبو رافع: من؟ فاتجه إليه وضربه ضربة وهو دهش، فلم تغن عنه شيئاً، قال: فصرخ، واستغاث، قال: فغيرت صوتي وجئت كأنني أغيثه، فقال له: أغثني! الويل لأمك! ضربني فلان، أو ضربني رجل، قال: فعاجلته بضربةٍ أخرى، فلم تغن عنه شيئاً، قال: فصرخ، فغيرت صوتي وجئته كأنني أغيثه، فقال: الويل لأمك! ضربني ضارب، قال: فأمسكت بذباب السيف فتحاملت به عليه، فسمعت صوت العظم.
فأول ما سمع صوت قعقعة العظم علم أنه قتله، ولكنه لم يهرب، بل قال: لن أخرج من هنا حتى أعلم أنه هلك -أي: عندما يعلن الناعي من على السور ويقول: مات تاجر الحجاز-.
انظر إلى الفداء!! يريد أن يطمئن أن المهمة قد تمت على أتم وجه، فإنه: قد يمكن أن تخفق العلمية ويصاب بغيبوبة في المخ فقط، وقد قرأت لبعض المتخصصين في طب الأطفال يقول: إن الولد لو حدث له موت مخي فإنه يسترد مخه بعد أربعة شهور، ويبقى مخه (مائة في المائة) وتقول المجامع العلمية الطبية: إن موت المخ لا يكون إلا بعد خمس سنين.
أي: يستطيعون بعدها أن يقولوا: إن المخ مات فعلاً.
فلما سمع عبد الله بن عتيك القعقة أراد أن يتأكد من مقتله، فما كان ليخرج حتى يعلم أنه قد مات، وبمنتهى الفدائية ظل في القصر حتى أذن الديك، فلما أذّن الديك قام الناعي فوقف على السور وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز! قال: فلما سمعت ذلك جعلت أفتح الأبواب، فلما وصلت إحدى السلالم وكانت الليلة مقمرة ظننت أني وصلت إلى آخر درجة، فوقعت على الأرض فكسرت رجلي.
فخلع عمامته رضي الله عنه وتسور السور إلى أصحابه وقال: لقد قتل الله أبا رافع، الحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحملوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأول ما وصل قال له صلى الله عليه وسلم: (ابسط قدمك فبسطها فمد يده عليها فكانت أصح رجليه).(108/12)
خروج الصحابة في غزوة تبوك
إن ربنا سبحانه وتعالى عاتب الصحابة، فقال: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، هذه الآيات في سورة التوبة نزلت في غزوة تبوك، وبين الهجرة وبين غزوة تبوك ثمان سنين، فقد: تأجل هذا العتاب ثمان سنوات: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
لأن غزوة تبوك كانت من أشق الغزوات على الصحابة، وقد سمي جيشها بجيش العسرة جاء في قلة مال، وفي حر شديد، وسفر بعيد طويل.
فقلة المال لأن الثمار بقي لها شهر وتقطف وتباع في الأسواق، ويحصل رواج تجاري، فلم يكن يوجد سلعة ولا فاكهة تباع أو تشترى، الأموال مجمدة، فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: هذه ألف بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، ثم ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البذل والفداء والتضحية، فقام عثمان مرةً ثانية، فقال: هذه ألف بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقام عثمان مرةً ثالثة وقال: هذه ألف بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وهو يضرب فخذه بيده ويقول: (ما على عثمان ما فعل بعد اليوم)، لقد جهز جيش العسرة من ماله.
فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
فقطعوا رضوان الله عليهم في شدة الحر مسافة طويلة جداً في واحد وعشرين يوماً سيراً على الأقدام، وتركوا زروعهم ولم يبق على قطافها إلا شهر أو أقل، وكانوا ينتظرون الحصاد ليروج.
فهذه الأشياء مجتمعة أظهرت المنافقين في المجتمع المدني، وجاءوا يقولون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، واغتر بعض المؤمنين الصادقين فتخلفوا بسبب هذه الظروف الشديدة.
أمثال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وانكشف من المنافقين بضعة وثمانون منافقاً، وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13]،: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81].
وفي هذه الظروف عاتب ربنا سبحانه وتعالى الصحابة لماذا لم تخرجوا؟ إلا تنصروه الآن فهو مستغنٍ عنكم، ليس بحاجةٍ إليكم، فينصره الذي نصره لما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار، بغير كسب أحد منكم، وبغير تأييد أحد منكم: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، وقال لهم يهددهم: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة:39].
انظر إلى هذا التهديد! إن لم تنفر يعذبك عذاباً أليماً، ويخسف بك، ويأتي بقومٍ يحبهم ويحبونه.
إن الرجل في الصعيد إذا قتل له قتيل يلبس طرحة، ويقول بلسان حاله ومقاله: هو امرأة حتى يأخذ بالثأر! امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المشهور، كانت حياته كلها خمر وعربدة، فأفاق يوماً من شرب الخمر وقد قتل أبوه، فقال: لا بد أن نطلب الملك، وخرج هو وصاحب اللهو إلى بلاد الروم فلما تجاوزا الحدود، بكى صاحبه لما نأت به دياره فقال: يصبره: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا إذا متنا في طلب الملك فسوف يعذرنا الناس، لكن هناك شخص تدنت همته فأخذ هذه الأبيات وعمل لها تشطيراً، على نفس البحر والقافية، ولكن للناس فيما يعشقون مذاهب، ذهب هو وصاحب له ليتغدون عند صاحب لهم، وكانوا يظنون أنهم سيأكلون لحماً، ففوجئوا، فأول ما رأوا المائدة المستديرة طاشت أحلامهم، ورأوا الخطب الفاجع.
فأنشد يقول: أتانا غنيم بالفطير وأحضر وكنا حسبناه دجاجاً محمرا بكى صاحبي لما رأى اللفت دونه وأيقن أن الجوع كان مقدرا فقلت له لا تبكِ عينك إنما سنأكل لفتاً أو نموت فنحضرا فكل واحد له مذهب في الدنيا هذا رجل يسعى إلى ملك، وهذا رجل يسعى على ملء بطنه.
لقد قال امرؤ القيس نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا فالناس سيعذرونه إن مات وهو يطلب الملك.
ولو نحن لو متنا وتركنا هؤلاء يعربدون ويسبون الرسول عليه الصلاة والسلام، ماذا سيقول الجيل الذي يأتي بعد ذلك؟ ويتهموننا بخيانة الأمانة، ولذلك هذه مسألة خطيرة.
فلابد لكل مسلم أن يكون له انتماء، ومن حسنات هذه المصيبة الفادحة أنها ألهبت شعور العوام، كان هناك أناس غارقون في هم الدنيا؛ فصار الإسلام قضية بالنسبة لهم! ولم يكونوا ليتحركوا أبداً مهما قلنا لهم، ومهما فعلنا معهم.
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم نوموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم فهذه القضية تلهب الشعور، فالإسلام يجب أن يكون قضية، ولا بد أن نتكلم عن الإسلام كل يوم في البيت، لابد أن يكون هناك جزء من الوقت بين الرجل وامرأته يتكلمون فيه عن الإسلام وقضاياه.
فعندما تفكر في مستقبل الولد ماذا سيفعل الولد؛ فكر في حال الأمة إن أمتنا تعاني، تعاني بعد سبعين سنة من الإهمال، ولذلك نحن نقول: المسألة مسألة وقت.
فسب النبي صلى الله عليه وسلم ورسمه على هذه الصورة لا يمكن أن يمر هكذا دون أن نفعل شيئاً، ونحن نناشد القيادات السياسية ونقول: نحن متأكدون أننا لو دخلنا في حرب فسننتصر، إن الله معنا، مهما كان معهم من الرؤوس النووية، لكن ادخلوا الحرب بالانتماء إلى الإسلام تغلبوا وتنتصروا.
لقد مُرغت أنوفنا في التراب رغماً عنا خمسة عشر مليوناً يفعلون بألف مليون منتسب إلى الإسلام على عجره وبجره كل هذه الأفاعيل! ألا نستلهم القوة والانتماء من تصرف الجيل الأول؟ وكيف أنهم عزوا وسادوا؛ بحبهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يفدونه بالآباء والأمهات.(108/13)
جزاء من يسب الله ورسوله
هذا هو جزاء من يهجو رسول الله؛ لأن الله عز وجل ناصر لرسوله ودينه، فلو سبوه فإن الله متم نوره، ولو مدحوه فإن الله متم نوره، لكن من ينكث فإنما ينكث على نفسه.
إن هذا الرجل قد آذى الله ورسوله، فانتدب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلة من الأوفياء لله ورسوله.
إن مسألة الانتماء مسألة مهمة جداً، ولتكن نقطة الانطلاق والبدء هذا الحادث الأليم المفزع الذي ملأنا بالغيظ، وإن من علامات الانتماء: الغيرة أن يغار له وعليه.
كان الولد يقتل أباه، والوالد يقتل ولده، كل هذا لأنهم ما كانوا يعرفون غير الإسلام أباً لهم.
في صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أجمة فيها عبد الله بن أبي ابن سلول -والأجمة: المكان المرتفع من الأشجار- فـ ابن سلول أول ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سبه وقال: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة.
يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو كبشة هو جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه -كما يقول ابن حبان - والعرب كانوا إذا انتقصوا رجلاً نسبوه إلى جد غامضٍ؛ لأنهم كانوا يفتخرون بالأنساب والأحساب، فعندما ينسبونه إلى جدٍ لا يعرف فكأنهم قد مزقوه، ومعي: (غبر علنيا): ضيع علينا الدنيا وأخذ منا السلطان، فسمع هذه الكلمة ابنه عبد الله، فهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (والذي بعثك بالحق لئن شئت لآتينك بعنقه)، مع أنه أبوه! وانظر الآن إلى هذه النماذج: الأب يكفر ويسب دين الله عز وجل ليل نهار، ويصد عن سبيل الله عز وجل، والولد يخدمه فيما يريد من المعاصي، فإذا قلت له: لماذا تعمل هكذا يا بني؟! قال لك: إن أبي عنده مرض السكر والضغط، ولو أني تركت البيت ومشيت فسوف يموت مباشرة فليمت يا أخي!! ليستريح منه العباد والبلاد، إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، وهو في الصحيح.
فهو عبدٌ مكروه كل شيء يكرهه، حتى الدواب تكرهه، فهو غير جدير بالحياة؛ لأنه فهو يسب الله وهو يرتع في خيره، ويصرف العبادة إلى غيره، والسب هو أعظم الأذى على الإطلاق.
إن الصحابة ما كان يخطر ببالهم عشر معشار ما يفعله الجيل الآن، ما كان الأب يتردد أبداً في قتل الولد إذا كان عدواً لله ورسوله، مثلما حدث بين أبي بكر وابنٍ له، فبعدما أسلم ابنه قال له: لقد رأيتك في موقعة كذا في غزاة كذا وكنت إذا رأيتك اجتنبتك خشية أن يسبق سيفي إليك فأقتلك، فقال: أبو بكر: والله لو رأيتك لقتلتك لماذا؟ لأن الولاء والانتماء الأول هو لله ورسوله، ويأتي بعد ذلك أي ولاء وانتماء، فنحن نحب المؤمن لحبه لله عز وجل، ولحبه للنبي عليه الصلاة والسلام، لا نحب المؤمن لأنه جلد وعظم ولحم؛ لأنه لا فرق بينه وبين الكافر من هذه الحيثية، لكن كلما كان محباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم فإننا نواليه بقدر ما فيه من حب، ونعاديه بقدر ما فيه من جفاء وضعف، وهكذا كان الصحابة الأوائل.
إننا نهيج بهذه الحكايات والقصص نفوس المسلمين، الذين يعانون من هذه المحنة العظيمة والفاقرة الشديدة والداهية الدهياء، وهي أن يسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نروح ونغدو، ونأكل ونشرب، ونتمتع مع الأولاد والنساء وكأن الأمر لا يعنينا!! لو حصل عشر معشار هذا في زمان أي خليفة من الخلفاء، والله لما أرضاهم إلا أن يستلبوا بلاد عدوهم كلها، فسبّ النبي عليه الصلاة والسلام هو أعظم حدث.
إننا نعرف أنهم يسبون النبي عليه الصلاة والسلام، ويسخرون منه؛ لكن أن يصرحوا بهذا، ثم يقومون بكتابة اسمه بالخط الفارسي الفصيح، وهو يرسم قرآناً ويمسك بالقلم ويكتب، وتوضع على المحلات المسلمة كلها، فيصبحون ويجدونها معلقة على أبواب محلاتهم، وتصور وكالات الأنباء هذا الحادث وتنشره بكل جرأة ووقاحة!! وكما هو متوقع وفي نفس اليوم اعتذر الرئيس الإسرائيلي، ولم نر أحداً من قادة العرب شجب واستنكر.
وقالوا: مثلما قالوا في ذلك الرجل الذي قتل مائة في الحرم الإبراهيمي أن عقله مختل! وماذا سنفعل؟ ولكن سنأخذه ونضعه في مستشفى الأمراض النفسية، وانتهت القضية، وذهبت دماء الناس في الحرم الإبراهيمي هدراً!! وكذلك هذه الرسوم: البنت صغيرة وتذهب ولا ردة فعل وانظر في المذكرات التي ينشرها القادة العسكريون، يقولون: بعد حرب (73) كان من ملامح هذه الحرب دشن الطائرات، وكانوا يصبون قنابل، وأطنان الذخائر ولا تؤثر، فأين هذه الطائرات وأين تختبئ؟! فهم يريدون أن يعرفوا دشن هذه الطائرات وكيف بنيت، والكلام هذا منشور.
فقالوا: إن هناك واحد من العملاء في أحد المطارات يستطيع أن يعرف هذه الدشنة وشكلها، فدخل ورأى الدشن؛ لأنه كان يعمل في ورشة طائرات، فأراد أن يعرف بكم طن أو بكم كيلو من الممكن أن تفجر هذه الدشنة، فأتى برقم معين لا يمكن لدشنة أن تصمد أمامه، ولتمام الدور أتوا برجل من بلده إلى هنا على أنه يعاني من اكتئاب من يوم أن ماتت أمه أو من يوم أن ماتت أخته وهو يكلم نفسه ويهذي، وكل هذا من أجل إذا عمل العملية يقولون لقد كان مكتئباً، ونحن لم نقصد، فأتى بقدر معين من الذخائر لا يمكن لدشنة أن تصمد أمامه، وفجرها، وكان تفجيراً رهيباً.
فلو وضع مثلاً ثلاثمائة كيلو في هذه العملية ولم تفجرها سوف يضعون مثلاً ستمائة؛ لأنه سيرى الخسائر المبدئية في الدشنة، فلو رأينا أن ستمائة كيلو مثلاً دمرت تسعين بالمائة أو سبعين بالمائة من الدشنة، إذاً إذا أرادوا الضرب سيضعون ستمائة أو تسعمائة أو ألف.
وفي الأخير يخرج الولد وهو مكتئب إلخ، ويأتي فريق طبي من أكبر الأطباء الذين لا يخطر على البال أن يكذبوا، فيخدمون مخابرات بلادهم ويقولون لك: إن الولد عقله مختل، والحمد لله أنه لم يحرق المطار كله.
فهكذا تطلع البنت صغيرة، وامسحوها فيّ هذه المرة!! وكذلك الولد الذي قتل المائة في الحرم الإبراهيمي هو مجنون وامسحوها فينا هذه المرة!! وهكذا.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(108/14)
الهجرة الهجر العزلة
الولاء والبراء أصل من أصول الإسلام، فلا يتم إيمان عبد حتى يوالي أولياء الله، ويتبرأ من أعداء الله، ومن كل ما يعبد من دون الله وحتى تتم البراءة التامة من أعداء الله تعالى فقد شرع الله تعالى الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، وشرع الهجر لأعداء الله تعالى من الكفار والمشركين وأهل البدع، وكذلك الهجر للمعاصي وأهلها، ولكل شيء يخالف دين الإسلام.(109/1)
البراءة من أعداء الله ومن كل ما يعبد من دون الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يعتبر أبو الوفاء ابن عقيل هو أحد علماء الحنابلة، عاش معظم حياته في القرن الخامس الهجري، ومات في أوائل القرن السادس، وهو صاحب أطول كتاب أُلف، لا أقول: في الإسلام فقط، ولكن في الدنيا كلها، فقد ذكر ابن رجب رحمه الله في ذيل طبقات الحنابلة أن له كتاباً يسمى كتاب (الفنون) يقع في ثمانمائة مجلد، وكان واعظاً ماهراً، وعالماً أصولياً بارعاً، له كلمة حكيمة يقول فيها: (إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى تزاحمهم على أبواب الجوامع، ولا تنظر إلى صراخهم في الموقف بـ (لبيك اللهم لبيك)، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة).
إذا رأيتهم يواطئون أعداء الله ورسوله، ويلقون إليهم بالمودة؛ فلا تغتر بزحامهم على أبواب الجوامع إنه يأتي يصلي في الصف الأول ويرتشي ويأتي يصلي في المسجد ويزني ويشرب الخمر، فلا تنظر إلى هذا الزحام، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة.
نحن اليوم مع ثلاثة نماذج هي آثار للبراء: الهجرة، والهجر، والعزلة هذه كلها نواتج للبراءة من أعداء الله ورسوله، وإنما ركزت عليها؛ لأن الولاء لا يكون إلا بعد براءة صحيحة، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ إذ لا يستقيم إيمان بالله إلا بعد كفر بالطاغوت رجل عنده بقايا من الكفر بالطاغوت لا يؤمن بالله حق إيمانه، فيبدأ بتطهير قلبه أولاً، كمثل الإناء، فإذا كان في قعر الإناء بقايا طين فصببت فيه الماء الزلال تعكر الماء كله، كذلك إذا كان في القلب بقايا من الإيمان بالطاغوت فصببت فيه الإيمان بالله؛ تعكر الإيمان كله، فلا يسلم لك إيمانك إلا إذا كان القلب نقياً من الكفر بالطاغوت.
إن مواطأة أعداء الشريعة أعظم جريمة يرتكبها المسلم؛ لأنها باب من أبواب الكفر، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما بايع جرير بن عبد الله حين جاءه مسلماً قال: (أبايعك على أن لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين)؛ وذلك لما لمخالطة المشركين من الأذية على القلب.(109/2)
مشروعية الهجرة إلى الله تعالى بترك الأهل والأوطان
حتى تتم لذلك لتتم البراءة شرعت الهجرة، وشرع الهجر، وشرعت العزلة فأما الهجرة فنوعان: هجرة، وهجر.
هجرة بالبدن، وهي: مفارقة الأرض والخلان والأخدان والإخوان, وهذا أعظم ما يفعله العبد المتبرئ من أعداء الله عز وجل؛ لمشقته على النفس، وأول من هاجر هو إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26] {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، فشرعت الهجرة بعده؛ إذ أن الله عز وجل امتن عليه بأن الحنيفية السمحة كانت على يديه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فسنت الهجرة بالبدن ومفارقة الأرض لكل مؤمن يدين بدين الحنيفية بعد إبراهيم عليه السلام.
وهاجر لوط أيضاً، وهاجر نبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابه بإذنه قبل ذلك.
ومن الخسة بمكان أن يربط المرء عواطفه بتراب، أبى الله للمسلم إلا الرفعة، فلا يربط المسلم نفسه بالتراب، حتى ولو كان أشرف مكان على وجه الأرض وهي مكة إن مكة وهي بلد الله الحرام، وهي أحب بلاد الله إلى الله، كانت يوماً ما دار كفر، تركها النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر منها، فالمسلم لا يرتبط بأرض أبداً؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41 - 42]، (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) أي: أخرجوا قسراً من أرضهم وأموالهم ظلماً وعدواناً لماذا تخرجه؟ لماذا تستحل ماله؟ لماذا تشرده؟ هذا ظلم، لكنهم هاجروا في الله من بعد ما ظلموا، (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) والحسنة: هي التمكين في الأرض، (ولأجر الآخرة أكبر) إذا وافى ربه عز وجل، فقد أخذ الله عز وجل على نفسه أنه من خرج من أرضه أن تبارك وتعالى يعزه ويوطئ له الأرض، (لنبوئنهم) اللام والنون المشددة للتأكيد، ولأجر الآخرة أكبر.
ولذلك كان من تمام هجرة المسلمين إلى المدينة: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المهاجر أن يظل في مكة بعد النسك أكثر من ثلاثة أيام، فقال للصحابة: (لا يحل لرجل هاجر من مكة إلى المدينة أن يرجع فيستوطن مكة مرة أخرى)، له ثلاثة أيام بعد النسك فقط، وبعدها لا يحل له أن يبقى في مكة؛ حتى لا يرجع في ما وهبه وفعله لله عز وجل، فهذه هي هجرة الصحابة رضي الله عنهم.
ولذلك يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما مرض في حجة الوداع: (مرضت مرضاً أشرفت فيه على الموت، فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته بكيت.
قال: ما يبكيك؟ فقلت له: أخشى أن أموت بمكة)، أي: يموت في الأرض التي هاجر منها، يريد أن يكون عمله لله عز وجل؛ لأن أمامه نموذجاً محزناً وهو سعد بن خولة، فقد مات رضي الله عنه بمكة، فحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى سعد بن أبي وقاص أنه مرض مرضاً شديداً خاف أن يموت بمكة ما خاف على أمواله، ولا خاف على بنته الوحيدة آنذاك، إنما خشي أن يموت بالأرض التي هاجر منها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعل الله أن يحييك فينتفع بك قوم ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة)، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ووصفه بالبائس لأنه مات بمكة.
كل هذا حتى يبقى العمل لله عز وجل، فلا يلوث بالتراب؛ لأنه ليس من عقائدنا التمسك بالأرض، فهذه الأرض التي ولدت فيها إن عجزت أن تطيع الله فيها فيجب عليك الهجرة، لا تقل: بلدي التي ولدت فيها، فما هذا من قول المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما التفت إلى مكة وقال: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي)؛ لم يكن يمجد الأرض كما يمجدونها الآن، وكما يستغلون هذا الحديث استغلالاً خطأً، فيزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب مكة ويحب الأرض لا والله، إنما قال: (إنك لأحب أرض الله إلى الله)، فلذلك هي أحب الأرض إلينا وإن لم نكن من أهلها؛ لأنها أحب الديار إلى الله، فكذلك هي أحب الديار إلينا.
إنما حقر النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالأرض ليخف وقع البلاء عليه، فإذا فارقت بلدك وفارقت ملاعب صباك، وفارقت أموالك التي أنفقت فيها شطر عمرك، فيقول لك: لا تحزن، ليخف البلاء عليك إذا فارقت وطنك.
الهجرة بالبدن من أرض الكفر إلى أرض الإسلام واجبة، ومن الديار التي تقام فيها شعائر أهل البدع إلى الديار التي تقام فيها السنة واجبة، وكذلك تشرع الهجرة من البلد التي غلب على أهلها كسب الحرام.
وكل هذا بحسب طاقة الإنسان، فإن كل واجب إنما يكون بحسب الطاقة.(109/3)
الهجر أحكامه وأنواعه
إن عجزت أن تخرج من بلدك، وعجزت أن تفارق بالبدن، ولم تستطع أن تحقق الهجرة، فما بقي إلا الهجر.
واعلم أن أصل الهجر بين المسلمين حرام، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها وأنس وابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وجماعة من الصحابة يزيد عددهم عن عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين أن يتهاجرا فوق ثلاثة أيام، فقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)، وهذا الهجر محرم بإجماع العلماء.
والهجر المحرم هو الهجر لأجل الدنيا، أن تهجر أخاك للدنيا المحضة، لا لسبب شرعي، فإن هذا لا يحل ولا يجوز.
وقد تهاجر اثنان فكتب أحدهما إلى الآخر: يا سيدي عندك لي مظلمة فاستفت فيها ابن أبي خيثمه لحديث يرويه عن شيخه قال روى الضحاك عن عكرمه عن ابن عباس عن المصطفى نبينا المبعوث بالمرحمه إن صدود الإلف عن إلفه فوق ثلاث ربنا حرمه فعاده ووصل رحمه.
وهكذا كان أهل العلم، ففي الدنيا لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث على الإطلاق.
إن التباغض الحادث بين المؤمنين لا يقطع أخوة الإيمان قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9 - 10]، هكذا ذكرت الأخوة بعد البغضاء والشحناء، فكذلك أخوك المسلم ينبغي أن تواليه وإن كان بينك وبينه مظلمة، ولا يحل لك أن توالي الكافر وإن أحسن إليك، فإذا أساء إليك أخوك فينبغي أن تواليه؛ لأن أخوة الإيمان لا تنقطع بالمشاحنات، ولذلك مع هذا التهاجر والاقتتال وصفهم الله عز وجل بالإيمان {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فكل إنسان نواليه على قدر ما فيه من المحبة لله ورسوله، ونعاديه على قدر ما فيه من الذنب والمعصية والبدع، وأصل الهجر بين المسلمين حرام.
وينقطع الهجر بالسلام والكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، لكن إذا كان الهجر لسبب شرعي فهو جائز إلى آخر العمر، فيجوز لك أن تقطعه إلى آخر العمر، لكن هذا أيضاً له ضوابط.(109/4)
العلم من شروط الهجر
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام! الهجر نوع من الجهاد، وهو فرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اشترط العلماء في الآمر والناهي أن يكون عالماً بالمسألة التي سينكرها أو سيأمر بالمعروف فيها، فمن التبس عليه ذلك توقف.
لقد رمانا أناس كثيرون في أول الالتزام بالخروج عن الإسلام؛ لأننا دللناهم على السنة الغائبة، وكانوا يزعمون أننا جئنا بدين جديد، فهل هم محقون؟ هل جئنا نحن بدين جديد أم أنهم أنكروا علينا بالجهل القديم؟ لقد أنكروا علينا بالجهل القديم، فهناك بعض المسائل الدقاق التي تخفى على طالب العلم فضلاً عن العوام.
إذاً: قبل أن ينكر -فضلاً عن أن يهجر- لابد أن يكون عالماً بما يأمر به أو ينهى عنه.
وهذا الهجر لا يختص بهجر الأبدان فقط؛ بل إنه يشمل كل ما يضاد الله ورسوله ودينه؛ كهجر المجلات الخليعة، والصحف الوقحة التي تناوئ الإسلام، مثل صحيفة الدستور، والمجلات الفاجرة التي تنادي جهرةً بتنحية شريعة الله عز وجل، ويقولون: ما تأخرنا إلا بسبب تحكيم الشريعة والعجب أنهم يصرحون بذلك ويرجعون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين! هذا هو العجب العجاب! إنني أقرأ كلام بعض هؤلاء فأحس بدبيب الأفاعي تحت السطور، وأرى حيات لجلدها حفيف ولأنيابها جرش من خلف السطور! إنما أرسلوا هذه الحيات والأفاعي من بنات أفكارهم ليغتالوا قلوبنا وأفكارنا، وليشككوا في انتمائنا للإسلام كمثل كشيش أفعى أجمعت لعضي فهي تحك بعضها ببعض هذا هو كلامهم، لاسيما أن أكثر الذين يتعاطون هذه الصحف والمجلات ليسوا من الدعاة حتى يقول: أنا أقرأ لكي أرد إنما هم من العوام، وقد يقال: لو أن داعية ترخص واشترى مجلة من هذه المجلات؛ ليعلم حقيقة الحرب الدائرة على الإسلام، ويبصر الجماهير بما يحاك لها في الظلام، قد يقال: إن هذا جائز؛ كما أنه أجيز لأهل الإسلام أن يقرءوا التوراة والإنجيل ليردوا على أهل الكتاب، وأبيح للعلماء أن يقرءوا كتب أهل البدع ليردوا عليهم من كتبهم، وقد نبغ عندنا علماء أجلاء كانوا أفقه لدين النصرانية من لمباشنودا، والذي يقرأ كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ يعرف قدر هذا الشيخ، وقدر فهمه للنصرانية.
يقول ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة بضع وسبعمائة: إنه قابل أحد القساوسة، الذين هم البطاركة الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، قال: فجادلته في دينه، فرأيته يفهم من دينه شيئاً سبحان الله! يفهم من دينه شيئاً! إذاً ابن كثير كان أعلم منه بالنصرانية، فقد كان هؤلاء العلماء وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينقلون من الإنجيل ويحاججون هؤلاء بإنجيلهم.
فإذا جاز للمسلم أن يفعل ذلك لغرض المصلحة الراجحة، فلا يحل للعوام الذين لا ينتصبون للرد على هؤلاء أن يقرءوا مثل هذا، ولا يشتروا مثل هذه الصحف؛ لما يخشى عليهم من تزيين العبارات، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى صحيفةً من التوراة في يد عمر قال: (ما هذا يا عمر؟ قال: صحيفة من التوراة كتبها لي رجل يهودي.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلت وجهه حمرة، وكان إذا غضب كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: أمتهوكون في يا ابن الخطاب؟! -أي: أمتحيرون؟ - والله لقد جئتكم بها بيضاء ناصعة، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما حل له إلا اتباعي)، لِمَ يخشى على مثل عمر أن تكون هناك عبارة منمقة مزينة تخترق قلبه.
وكما قال سفيان الثوري: القلوب ضعيفة والشبهة خطافة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعصم قلوبنا من الشيطان وشبه أولياء الشيطان، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، إنك نعم المولى ونعم النصر.(109/5)
الزجر بالهجر تابع للمصلحة والمفسدة
(الزجر بالهجر) قاعدة نص عليها العلماء، لكنها تدور مع المصلحة، والزجر: أن تزجر العاصي والمبتدع بهجره، هذا هو معنى قول العلماء: (الزجر بالهجر) مثلاً: رجل عاصٍ تؤدبه امرأة ناشز تؤدبها بالهجر مبتدع تؤدبه بالهجر، وكل هذا في إطار المصلحة الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) هجر ثلاثة من خيار المؤمنين خمسين ليلة، هجر كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع؛ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، بل قال كعب: (وكنت آتيه في مجلسه فألقي عليه السلام، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكلموا هؤلاء الثلاثة.
وأيهما أولى بالهجر: كعب بن مالك أم عبد الله بن أبي ابن سلول؟ وهو رأس المنافقين، الذي تولى كبر حديث الإفك، ورمى السيدة العفيفة الطاهرة عائشة بالزنا، أيهما أولى أن يهجر، وأن يضيق عليه الخناق، وأن يؤدب؟ أليس هذا المنافق رأس المنافقين أولى بذلك؟! ومع ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا نقتله؟ قال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وعاش هذا الرجل، وقد صان دمه وعرضه وحياته بإظهار كلمة الإسلام، ومات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ بل وكفنه ببردة له، وليس ذلك بنافعه عند الله، كونه يتدثر ببردة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن صلة الرحم أقوى من البردة، ومع ذلك فإن أبا لهب لم ينفعه أنه كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا صفية! عمة رسول الله! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً، يا فاطمة! بنت محمد! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً)، فإذا كانت صلة الأرحام لا تنفع؛ فالبردة لا تنفع من باب أولى، ومع ذلك صلى عليه، ودفنه، وسجاه ببردته وهذا يدلنا على أن مسألة الهجر خاضعة للمصلحة، فإن المسلم إذا هجرته إنما وكلته إلى دينه.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل، فأعطاه عطاء، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً كذا وكذا، وإنه لمؤمن.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني لأعطي الرجل العطاء، وأذر من هو أحب إلي منه، أدعهم لإيمانهم)، إذاً: أخوك المؤمن لو هجرته وغلظت عليه فإنك تعلم أنك ستعود إليه ويعصمه إيمانه من الفجور في الخصوم.
وفي معجم الطبراني الكبير بسند قوي عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: (عرست في زمان أبي -أي: تزوج- فآذن أبي الناس، ودعاهم إلى وليمة العرس، وستروا البيت ببجاد أخضر -أي: شبيه بالستائر- قال: فجاء أبو أيوب الأنصاري، فلما رأى البجاد وقف، وتغير لونه، والتفت إلى أبي، وقال: أهكذا تسترون الجدر ببجاد أخضر؟! قال سالم: فاستحيا أبي وخفض رأسه -وابن عمر أحد السادة الورعين- وقال: يا أبا أيوب! غلبنا النساء -ماذا نعمل؟ هذا عمل الحريم! - فقال أبو أيوب: لئن خفنا أن يغلب النساء أحداً فلا يغلبنك، والله لا أكلت لكم طعاماً أبداً، وخرج أبو أيوب ولم يحضر وليمة العرس).
إنه يكل ذلك الهجر إلى عبد الله بن عمر وإلى إيمانه، فإن ابن عمر لا يفجر في الخصومة، بل سوف يذهب إليه ويترضاه لما بينهما من الإيمان والآصرة القوية، لكن إذا كان الرجل فاجراً، رقيق الدين، فإذا غلظت عليه فجر في الخصومة، وازداد بعداً من الالتزام، فليس هناك أي مصلحة في أن تفعل معه مثل ما فعل أبو أيوب مع ابن عمر، فالمسألة مرتبطة بالمصلحة والمفسدة، ولذلك تحتاج إلى فقيه، كثر التهاجر والصرم بيننا بسبب الجهل الواقع بين المسلمين، لا يتهاجر عالمان أبداً إلا على شيء ديني شرعي.(109/6)
الهجر لأجل التأديب
الزجر بالهجر له درجات منها: التأديب، فإذا تجاوز ولدك حده، أو امرأتك، أو من لك عليه ولاية؛ جاز لك أن تهجره أكثر من ثلاثة أيام تأديباً، ولمعنى شرعي كما قلنا، كما روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: (باعت عائشة بيعاً أو قال: وهبت هبةً -وكانت عائشة كريمة، سخية اليد- فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير وهو الأخ الأكبر لـ عروة بن الزبير، وهو ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة، فـ عائشة هي خالته، وقد كانت رضي الله عنها سخية، وعبد الله بن الزبير كان فيه بخل، فلما علم أن عائشة رضي الله عنها وهبت قطعة أرض كبيرة- فقال: لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها.
فبلغ ذلك عائشة فقالت: أو قال ذلك؟ لله علي ألا أكلمه إلى أن أموت -نذرت: أي: نذراً واجب الوفاء-، فطال الهجر على عبد الله بن الزبير، واستشفع بطوب الأرض أن تكلمه عائشة، وكل ذلك وعائشة تأبى تمام الإباء -ولا يخفى ما لـ عائشة رضي الله عنها من الفقه في دين الله عز وجل، فليست من النساء اللواتي يعتركن على الدنيا أو يهجرن للدنيا- فلما طال الهجر على عبد الله بن الزبير ذهب إلى المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وكلاهما من بني زهرة، فشكا إليهما، فقالا: نحتال لك حيلة، فجاءوا بعباءة واسعة، والمسور بن مخرمة واقف هنا، وعبد الرحمن هنا، وقالا له: ادخل في وسطنا، وتدثروا ثلاثتهم بالعباءة، ووقفوا على الباب عند عائشة واستأذنوا، قالت: من؟ قال: المسور وعبد الرحمن.
فقالت: ادخلا، قالا: ندخل كلنا؟ قالت: ادخلوا كلكم، فدخلوا جميعاً، فدخل عبد الله بن الزبير ورفع الستر، ورمى نفسه على عائشة يقبلها وهو يعتذر، وهي تشيح عنه، يكلمها فلا تكلمه، ويتوسل إليها فلا تقبل توسله، والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود يناشدانها الله عز وجل أن تكلمه، فما زالا بها حتى كلمته وسط دموعها الغزيرة، وهي تقول: إني نذرت والنذر شديد، ثم أعتقت عائشة رضي الله عنها في ذلك أربعين رقبة حتى تتحلل من نذرها).
يقول العلماء: هذا المثال يدل على جواز أن يهجر المرء تأديباً، لا سيما إذا كان لمعنى شرعي؛ لأنه لا يجوز لـ ابن الزبير أن يتدخل في هبة عائشة لغيرها، فإنه إذا ملك الإنسان ملكاً فهو حر في هبته أو بيعه، ولا يحل لأحد أن يفتات عليه، فهذه مرتبة من مراتب الهجر لمعنى شرعي.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(109/7)
الزجر بالهجر
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إن الزجر بالهجر قاعدة من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن المسلمين امتثلوا هذه القاعدة لخف وقع المعصية في ديارهم، ولقل أهل البدع، لا سيما إذا كان للزاجر سلطان.
أصحاب المحلات الذين يظنون أن العمال الذين يعملون عندهم ليسوا تحت مسئوليتهم نقول لهم: إن العامل إذا ترك الصلاة فهي في عنق صاحب المحل، لماذا يذهب أصحاب المحلات ويتركون محلاتهم وفيها العمال يعملون؟ لو أن هذا العامل أساء في العمل، أو أتلف بضائع المحل لأزاحه عن العمل، وليس بعيداً أن يقدمه للنيابة ويرفع ضده قضية إذا تبين له أنه سرق شيئاً من البضائع، أو إذا تأخر عن موعد فتح المحل مرة أو مرتين بما وقع في نفس صاحب المحل أن هذا الرجل مهمل، فإنه يستغني عن عمله؛ لأنه عق صاحب العمل، فإذا عق ربك تبارك وتعالى كيف ساغ وهان عليك أن يبقى معك مع هذا العقوق؟ لو أن كل صاحب محل اشترط على العامل أن يصلي الصلوات الخمس في جماعة لقضينا على هذا التهاون الذي نراه في ديار المسلمين.
إن البيع وقت النداء يوم الجمعة محرم، قال العلماء: فكذلك البيع وقت النداء للصلوات الخمس؛ لجامع العلة المشتركة بين الحكمين.
إذاً: لا يجوز أن تعقد صفقة بيع والمؤذن يؤذن، بل توقف عن كل شيء، كما توقف البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، قال الله عز وجل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوه، وإذا أمر الله عز وجل بترك شيء فإنه يكون حراماً، فكل أصحاب المحلات سيسألون عن هؤلاء العمال، فينبغي أن يُهجر، فإن العامل إذا علم أن عيشه سيقطع، وهو محتاج للوظيفة، فهو على استعداد أن يمسك ذيل بغلة السلطان في سبيل لقمة العيش، فإن البعض قد يرتشي ويعمل المحرمات، ويعتذر بأنه يريد أن يأكل لقمة العيش.
فإذا كان في سبيل طلب لقمة العيش سوف يرتكب المحرمات، فحينما تأمره بتقوى الله عز وجل والصلوات الخمس سوف يلقى هذا الأمر عنده -لو عنده مسحة إيمان وإسلام- قبولاً وراحة، فإنه سيريح نفسه من الشغل، ويغسل وجهه من العرق الذي عليه، فهي ساعة راحة بعد العمل المضني.
فلو أن أصحاب المحلات فعلوا ذلك لفعلوا خيراً كبيراً، فكم تكلم الدعاة في هذا الأمر، وناشدوا أصحاب المحلات أن يتقوا الله في هذا الأمر، إننا نريد أن نرى المحلات مغلقة في وقت الصلاة، مكتوباً عليها عبارة (مغلق للصلاة)، نريد أن نرى هذه العبارة مرة أخرى، نريد أن نرى الناس كلهم يتوجهون إلى الصلاة، فلا بيع ولا شراء.
وأنت على ما عودت الزبون، ولي تجربة في هذا الأمر، ففي مطلع الثمانينيات عندما كنت أشتغل في بقالة في مدينة نصر وفي المنطقة الأولى -في منطقة راقية- وكان هذا المحل له رواج؛ لأمانة صاحبه، ولأنه كان يأتي بأحسن البضاعة، فكنا نبيع بنحو ثلاثة آلاف جنيه في اليوم الواحد.
المهم أن المنطقة الأولى هناك في مدينة نصر معروف أنها منطقة راقية، وفيها مسجد رابعة العدوية، الذي صار في مكان مسجد عمر مكرم، ومسجد عمر مكرم كان الناس إذا أرادوا أن يدخلوا أحداً الجنة -بزعمهم- يمرون بجنازته من عند مسجد عمر مكرم، وبعد أن ازدحم مكان هذا المسجد وتلوث بدخان السيارات وغيرها؛ استبدلوا مسجد رابعة العدوية بمسجد عمر مكرم.
وهنا فائدة نحوية: وهي أن الباء في الاستبدال تلحق بالمتروك، فيقال: استبدلوا مسجد رابعة بمسجد عمر مكرم، ولذلك يقول العلماء: باء الاستبدال إنما تلتحق بالشيء المتروك، فلو كان عندك ثياب أسمال بالية، وأتيت بقميص جديد، وأردت أن تعبر أنك استبدلت هذا القميص بهذا القميص، فتقول: استبدلت الثوب الجديد بثوب قديم.
فالباء هذه تلصق بالشيء الذي تركته، قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فهم تركوا الشيء الطيب، وقال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] وهم هنا تركوا الخير، الذي هو المن والسلوى، ولذلك جاءت الباء في ((الذي هو خير)) واسمها (باء الاستبدال).
فالمهم: أن هذا المسجد صار المسجد الرسمي الذي تأتي منه الجنائز العسكرية وهذا كله لأن الحي راقٍ، فأول ما بدأت العمل كان المحل يزدحم في أوقات الصلوات، والشيطان يزيد العمل والرزق يكثر، وكيف تترك الزبائن؟ وسوف تصلي بعد قليل وهكذا.
فقلت لصاحب المحل -وهو رجل أحسبه من المؤمنين المخلصين، ولا أزكيه على الله عز وجل- قلت له: إنه لا يجوز البيع وقت النداء، فقال: الزبائن كثير، وكلهم أناس أكابر، ومستواهم عالٍ، وسوف يغضبون علينا، وأنا من سنة سبعة وستين وأنا على هذا الحال فقلت له: نبدأ ونجرب، فأول ما يؤذن نوقف البيع، وبدأنا في هذا الأمر، فأتى إلينا رجل في وقت الأذان، فقلت له: لا بيع ولا شراء، أنت الآن تسمع الأذان، (الله أكبر) يعني: الله أكبر من البيع والشراء والفلوس ومن كل شيء، فقال: ولماذا؟ أين صاحب المحل؟ قلت له: صاحب المحل سبقني، ذهب يتوضأ، وأنا لن أبيع، وكان هناك ثلاثة أو أربعة أو خمسة فخرجوا من المحل.
الشيء العصيب هو أننا رجعنا من المسجد ووجدناهم واقفين في باب المحل! لم يذهبوا ليصلوا معنا، فهذه آية من الله عز وجل أن رزقك منتظر لك، مع أن هناك عدة محلات، من الممكن أن يأخذهم الغيظ فيشترون من أي محل آخر، ولا يرجعون إلى هذا المحل على الإطلاق، لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، فإذا قدر الله عليه أن يقف هنا فسوف يقف؛ لأن الله أخذ بناصيته، والمال الذي معه قد كتب لي ثم استمرت هذه المسألة ولم نجد كبير عناء، إلا شيئاً يسيراً في البداية، وبعد نحو شهر أو شهرين كان إذا أذن المؤذن لم نجد أحداً لماذا؟ لأنه كان إذا أراد أحد أن يشتري شيئاً ينظر إلى الساعة أولاً، يقول لي أحدهم: كنت إذا أردت أن أرسل البنت أنظر إلى الساعة، فإذا وجدت أن الظهر قد اقترب فلا أدعها تذهب.
فنحن نناشد أصحاب المحلات نناشدهم الله عز وجل الذي هو أقوى من سلطة القانون، عندما يسمعون الأذان أن يغلقوا المحلات، ويصطحبوا العمال للصلاة، وإذا ثبت أن العامل تهرب، وجلس يدخن في دورة المياه وقت الصلاة، فعليه أن يفصله من العمل، فإن الذي يخون الله عز وجل لن يكون أميناً في عمله على الإطلاق يخون الملك العلام، القوي، القادر عليه، وبكل جرأه وبجاحة، ولا يؤثر فيه إطلاقاً أي تأثير، فهل تتصور أنه سيعمل لك حساباً؟ لا والله، هذا خائن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
فالزجر بالهجر عن طريق المشاحاة، وعن طريق قطع الحوافز، بل عن طريق الفصل الجذري، هذا يعيد لنا بهاء المجتمع الإسلامي، فينبغي لنا استخدام قاعدة الزجر بالهجر حتى تقل المعاصي واللامبالاة الموجودة في المجتمع.
والداعية إلى الله عز وجل لابد أن يكون لطيفاً وظريفاً وخفيفاً، ودائماً يقول كلاماً حسناً، لكنه أحياناً يحتاج إلى أن يستخدم المشرط مع بعض الناس.
اتصل بي أحدهم فقال: أنا أريد فلاناً.
قلت: أنا فلان.
قال: صلِّ على النبي.
عليه الصلاة والسلام، طيب زيد النبي صلاة.
عليه الصلاة والسلام، وحد الله قلت: لا إله إلا الله.
قال: انظر أنا طلقت طلقات ليس لها عدد، وأريد أن أعرف هل أنا أعيش الآن في حلال أم في حرام؟ قلت له: أنت تعيش في حرام، وهذه لا تحتاج إلى مفتي.
فقال: وهل أنا تكلمت؟ قلت له: نعم، تقول لي: إنك طلقت طلقات ليس لها عدد، والطلقات إنما هي ثلاث فقط، فلو أنك طلقت ثلاث مرات لحرمت عليك امرأتك، وأنت الآن تقول: إنها طلقات ليس لها عدد، ثم تأتي وتسألني: أأنا في حلال أم حرام! فقال: احلم علي واسمع مني هذا الكلام قلت لها في المرة الأولى: هات كوب الشاي، فلم تأت به، فقلت لها: أنت طالق.
قلت: وقعت ثم قال: وقلت لها: اعملي كذا وإلا فأنت طالق، وغير ذلك من الأمور التافهة التي لا يمكن أن يعملها رجل عاقل إلخ ما دار بيني وبينه من كلام.
فهل هناك أحد يستفتي في هذه المسألة ويسأل هل هو في حلال أم في حرام؟! وهذا السائل هل ينفع أن يكون أباً؟ أو يصلح أن يكون جديراً بلقب الأبوة؟! وهل يتصور أن ينجب هذا الرجل أبناءً حتى ينفعوه هو على الأقل؟ بل هل من الممكن أن ينفعوا أنفسهم؟! فهذا النمط من الناس إذا استفتاك أحدهم بهذه الصورة فإنه سيضيع وقتك، فلا بأس أن تغلق السماعة ولا تكلمه؛ لأنك مضطر أحياناً لاستخدام مثل هذا: الزجر بالهجر.(109/8)
هجر المبتدع والعاصي
لو أن رجلاً مبتدعاً ينشر بدعة في حيك، فلا تسلم عليه، وإذا كنت تعلم أن إلقاء السلام عليه لا يصده عن بدعته فسلم عليه، وتودد إليه، وأعطه بعض الهدايا، وزره في بيته، وأخبره أن هذا لا يحل، ولا يجوز، وابذل معه كل ما في وسعك، فإذا لم ينفع معه كل ما سبق فلم يبق لك إلا أن تهجره ولا تسلم عليه.
فإذا قيل: إن هذا مسلم، أقول: أنا أعرف أنه مسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما هجر كعب بن مالك كان كعب يلقي عليه السلام، يقول كعب: (فكنت أقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) والرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر المسلمين ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، يقول كعب: (فلما شق علي هجر المسلمين ذهبت إلى حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فتسورت الحائط، فوجدت أبا قتادة في بستانه، فألقيت عليه السلام، فوالله ما رد علي السلام، وأبو قتادة من خيار المسلمين، وكعب من خيار المسلمين، فهذا مسلم مع مسلم، فلا يقال إذاً: إن المسلم لا يجوز هجره أو عدم السلام عليه للمصلحة، لا، يقول كعب: (فألقيت عليه السلام، فوالله ما رد علي السلام.
فقلت: يا أبا قتادة! نشدتك الله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله أعلم.
ففاضت عيناي).
فمسألة ترك السلام على المسلم مسألة مشروعة، طالما أن فيه المعنى الذي من أجله هجرته.
إذاً: الزجر بالهجر يرفع البدعة من بيننا.
ولو علم العصاة أنه لا محل لهم ولا عيش في ديار المسلمين؛ لاستخفوا بعصيانهم وراء الجدر، مثلاً: شارع نبوي المهندس هنا شارع قذر، موبوء، كل البذاءات والفواحش موجودة هناك رجال ونساء مختلطون، وأصوات الموسيقى في السيارات تصم الآذان، وأنا أتكلم عن الشارع وليس عن سكان الشارع، فإنه شارع قذر، وكل شارع يمارس فيه العصيان بغير نكير فأهله من تعساء الحظ، لأنهم متاخمون للمعاصي، وإني كلما مررت في هذا الشارع أستعيذ بالله عز وجل، حتى أصبحت لا أكاد أمر فيه من هول ما أرى بالنسبة لبلد كبلدنا.
لا يوجد أحد يقول لي: يا أخي! نحن رضي الله عنا، هذا شارع الهرم والإسكندرية والمصيف والبلازا والكلام هذا؟ لا، نحن نقيس الشوارع بنظيرها عندنا، وفي الآخر محافظتنا تعتبر من الأرياف، ويعتبر إلى حد ما فيها الاستتار والحشمة أفضل من المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية والمنصورة وهذه البلاد، وهذا من رحمة الله عز وجل أننا بادون في الأعراب، لا عندنا حضارة ولا مصايف ولا آثار ولا متاحف لكي نبتلى بالعراة الذين يلبسون الميني جب إلى فوق الركب ويأتون يفترجون، لكن هذا الشارع إذا قيس بنظائره من الشوارع الأخرى كان هذا في غاية القبح.
فنحن نقول للآباء الذين عندهم سيارات: اتقوا الله عز وجل، ولا تعصوا الله بالنعمة، تعطي ابنك السيارة ويظل يلعب بها، وهو يشرب السيجارة، ويسمع الديسكو بأعلى صوت يصم الآذان هل هذا هو شكر النعمة؟ أعطاك الله رجلاً تمشي عليها، ثم أعطاك سيارةً تركبها وحرم غيرك من رجله ومن السيارة فأين شكر النعم؟! {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
إذاً: هجر أهل المعاصي يقلل من وجود المعصية، وكذلك هجر التعامل معهم أيضاً.
فإذا كان هناك رجل غير ملتزم، ويتظاهر بالفسوق والعصيان، وعنده بقالة، أو محل ملابس، فلا تشتري منه، بل اذهب واشتر من عند الملتزم، فإن الملتزم إذا فتح الله عليه سيكفل أسراً جائعة، وسيخرج الزكاة من ماله، فكم من تجار خير فتحوا بيوتاً للفقراء والمساكين، جزاهم الله خيراً، وأسأل الله عز وجل أن ينمي لهم أموالهم، وأن يبارك لهم فيها، فإذا قصدنا أحد هؤلاء التجار لكي يكسي عرياناً، أو يطعم جائعاً، أو يكفل أسرة فقيرة، فلن يتأخر أبداً.
وعندما تذهب وتشتري من عند رجل ملتزم بضاعة أغلى مما هي عند الرجل الفاسق وتحتسبها لله عز وجل، يبارك لك فيها.
كذلك إذا احتسبت القيمة الزائدة عند هذا الرجل؛ لأنه يزكي ويطعم الفقراء والمساكين، فقد تكون شريكاً له إذا ربح، فإن يد الله عز وجل سحاء، ينفق بالليل والنهار، لا يغيضها شيء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
كذلك من باب أولى اعتزال الصحف والمجلات الخليعة والمنحرفة، وليس هذا الأمر مقتصراً على الذين يهاجمون الإسلام بل هناك نمط من المفتين يخافون من أهل الفسق، فبدلاً من أن يفتوا بشرع الله تعالى فيوصفون بالإرهاب والتطرف والتشدد، يفتون الناس بغير شرع الله؛ بل يحللون الحرام ويحرمون الحلال والعياذ بالله! سئل بعضهم في مجلة الشباب -كما حدثني من أثق بنقلهم- عن التدخين: أحرام هو أم حلال؟ فقال: إذا كان الموظف مرتبه مائة جنيه فهو حرام عليه، لكن إذا كان دخله كبيراً فلا بأس بالتدخين!! أهذه فتوى؟ وعلى ضوئها نستطيع أن نقول: إذا كان الموظف مرتبه مائة جنية فلا يشرب الخمر، وإذا كان مرتبه أكثر فلا بأس أن يشرب الخمر!! فما هو أصل القياس الصحيح الذي يجعلنا نلحق هذا الدخان بالخمر، ولو من وجه أو وجهين؟! ولماذا لا يريد أن يقول: إن التدخين حرام؟ لو أن الأطباء اجتمعوا، وجميع منسوبي وزارة الصحة، وأخرجوا لنا تقريراً بأن التدخين مضر؛ فسوف نحرمه، ومع هذا فإن كل المجامع الطبية العالمية بما فيها المجامع المصرية في بلادنا، ووزارة الصحة، تقاريرها الرسمية وغير الرسمية تقول: إن التدخين مضر جداً بالصحة، وهذا الكلام يكتب على علب السجائر بأمر من القانون، وإلا فإن أصحاب المصانع لا يريدون كتابة هذه العبارة، لكنهم مجبورون من قبل القانون.
إذاً: مذهب الدولة الرسمي في السجائر أنها ضارة جداً بالصحة، والمفتي الذي أفتى بهذه الفتوى له فتوى بتحريم الدخان، وهي موجودة عندي، لكنه يفتي كل سنة بفتوى ثم يتراجع عنها، كما أفتى في رمضان أن نصوم مع السعودية، ثم أفتى بأن لكل بلد مطلعه، وإلى الآن لم يبتوا فيها، مع أن المسألة عند أي رجل عنده قدر من أصول الشريعة، لا يتردد على الإطلاق في الأخذ باتحاد المقال، رعاية لمصالح المسلمين.
فأنت عندما تشتري هذه الصحف وفيها مثل هذا الكلام، وتقرأ فيها مثل هذه الفتاوى التي لا يحكمها خطام ولا زمام، ولا ترجع إلى أصل صحيح، فمن حيث أردت الخير لدغك ثعبان، فلابد أن تصون نفسك ومالك، فبدلاً من أن تشتري هذه الصحف بأربعين قرشاً، تصدق بها على مسكين خير لك.
والله الذي لا إله غيره لقد اتصلت بي في الأسبوع الماضي أسرة تبكي لأنها لا تجد شيئاًَ، ويبيتون على الطوى، ولا يوجد في البيت كسرة خبز، وليس عندهم رجل يعولهم، كلهم نساء، فعندما قلنا لبعض الناس: اذهبوا إلى البيت الفلاني واعملوا كذا قال: إن المرأة قبلت قدمه، وظل النساء يبكين طوال الفترة وهو يعطيهن ما يسد رمقهن ويشبع جوعتهن، وقد كانوا أصحاب عز، ولكن أباهم مات، والعم أكل الميراث في قصة معروفة، وبقيت المرأة وبناتها يبيتون على الطوى لا يجدون رغيف خبز يأكلونه.
إذاً: الأربعون قرشاً سوف تشتري بها ثمانية أرغفة، وسوف تطعم بها أربعة أو خمسة جائعين، وتكون قد ادخرتها لنفسك، فأنفق من مالك فإن أولادك لن ينفعوك إذا لم يكونوا ملتزمين بأمر الله تعالى، إنهم سيختصمون في الميراث وأنت ما زلت جثة ساخنة، وبعد أن تدفن سيرجعون ويقتتلون على الميراث ولن يترحموا عليك.
لقد حضرت مرة مشاجرة بين أصحاب ميراث، مع أن أباهم لم يكن له إلا أربعون يوماً منذ أن مات، وإذا بالولد يصيح ويغضب، ويريد الدنيا، ويريد أن يتزوج قبل تقسيم الميراث، ويريد كذلك سيارة أسوة بإخوته، ويقول: إن أباه ظالم، إنه كان يعطي لفلان وفلاناً وتركني، ولم أكن أعرف أنه سيموت، وإلا فإنه كان سيعطيني وأخته تقول له: يا أخي! هذا أبوك لم يمر عليه إلا أيام، فقال: الله يرحمه، لا تجعليني أغلط عليه!! فهل يستحق هذا الولد شربة ماء؟! هل يستحق أن تترك له جنيهاً واحداً؟! لقد حرم الأب نفسه من الطيبات والمأكولات والمشروبات، بل حتى من الصدقة؛ كي يورث لابنه شيئاً، وإذا به بعد موت أبيه يفعل هكذا!! فينبغي أن تكثر من صدقة السر؛ فإن هذا هو الحساب الجاري الذي ستتركه لنفسك، وعندما تموت سوف تلقى ما أنفقت أمامك، وأنت وحدك الذي ستنتفع به، وبهذا تكون قد تركت لأولادك شيئاً ونفعت نفسك أيضاً.
إذاً: الزجر بالهجر ضرورة شرعية، نحن في أمس الحاجة إليها في هذا العصر، فابنك الذي لا يصلي لا تجلس معه، ولا يأكل معك على مائدة واحدة، ولا تسوي بينه وبين الذي يصلي في الهبة، فالولد الذي يصلي أعطه وأكرمه، والذي لا يصلي لا تعطه؛ لأن عطاءك إنما هو بالموالاة لله عز وجل، فمن كان ولياً لله واليناه، ومن كان عدواً لله عاديناه.
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الولاء والبراء إنما هو على قدر الخير والشر في الإنسان، يوالى بقدر ما فيه من الخير، ويعادى ويهجر على قدر ما فيه من الشر.
وإذا عرف ابنك أنك ستطرده، وأنك لن تسامحه على الإطلاق في مسألة ترك الصلاة، فهل سيتمادى؟ لا.
إذاً: الزجر بالهجر قاعدة من قواعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ينبغي أن نحييها في مجتمعاتنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(109/9)
الانتكاس
الانتكاس مرض خطير، وله أسباب كثيرة، منها: ضغط المجتمع الفاسد، والكبر والغطرسة وعدم الخضوع لأوامر الإسلام، والذنوب والمعاصي كإطلاق النظر فيما حرم الله تعالى.
وإن الثبات على دين الله تعالى هو علاج هذا المرض الخطير، ومما يعين على الثبات: الالتزام بالدين بعقيدة صادقة، والنظر في سير السلف الصالح رحمهم الله تعالى.(110/1)
خطورة الانتكاس عن دين الله تعالى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: إنما يعرف قدر خطر العلة بشدة فتكها وكثرة ضحاياها المبتلين بها، فالطاعون -مثلاً- وهو (الكوليرا) من أخطر الأمراض وإن لم تكن أخطرها إطلاقاً؛ لكثرة ضحاياها، وإن الذين يموتون بها ألوف من البشر، وإنما قام العلاج أصلاً على دفع العلة لاستبقاء الإنسان، فإذا مات هذا الإنسان لم يعد للعلاج موضع ولا للنظر فيه محل.
وإن من أخطر الأمراض على الإطلاق لشدة فتكها وكثرة ضحاياها: مرض الانتكاس بشعبتيه: الشعبة الأولى: الردة عن الدين كليةً، والشعبة الأخرى: ضعف الالتزام والتقهقر في التمسك بتعاليم الدين.
والارتداد هو أعظم الانتكاس، والنكس: أن ينقلب الشيء على رأسه، وتخيل رجلاً وضع رأسه مكان قدمه، فهو يمشي على رأسه، فأنى يفلح مثل هذا الإنسان وهو منكوس مقلوب، فلم يعد لعقله موضع يسترشد به!! إن الارتداد عن دين الله تبارك وتعالى أعظم الانتكاسات جميعاً، وضعف التمسك بتعاليم الدين هو المرض الفاشي في عموم المسلمين.(110/2)
ثبات الصحابة على دين الله تعالى
إن الثبات على الأمر هو رأس العلاج كله إن الصحابة الأوائل كانوا مستمسكين بهذا الدين، ويرون أن دينهم أولى بالحفاظ من دمائهم ولحومهم.
وقد أخذوا هذا التمسك وعدم التفريط من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث الحديبية -وهو حديث عظيم اشتمل على حكم باهرة ويحتاج أن يذكر به المسلمون دائماً- لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر هو وأصحابه وصدتهم قريش عن البيت، وحصلت المفاوضات، جاء بديل بن ورقاء مندوباً عن قريش يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام كلاماً فصلاً واضحاً، قال: (إنا لم نجئ لقتال)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأوفياء، لا يغدر ولا يعرف الغدر أبداً، قال: (ما جئنا لقتال، إنما جئنا آمّين البيت، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة)، وإنما قال هذا وهو واثق من أصحابه، إن قريشاً برغم كثرة عددها وعدتها وأموالها قد أنهكتهم الحرب، والذي أنهكهم هم هؤلاء الذين قال فيهم عروة بن مسعود: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، لقد كانوا قلة، فقراء، جوعى ومع ذلك أدبوا قريشاً، ونحن على استعداد أن ندخل مع قريش في جولات وجولات إذا صدونا عن البيت.
(إن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فقد جموا -أي: تعبوا- وليس لهم بنا طاقة، فإن أظهر -أي: يظهر أمري- فإن شاءوا دخلوا مع الناس، وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا الأمر حتى تنفرج سالفتي)، والسالفة: صفحة العنق، أي: سأقاتلهم حتى لو بقيت وحدي ولا أدع هذا الأمر.
هذا هو الثبات الذي ورثه أصحابه منه، ففي نفس الحديث لما جاء سهيل بن عمرو وأراد أن يكتب مع النبي صلى الله عليه وسلم صيغة الكتاب، كان من جملة ما كتب: وإذا جاءك رجل منا وإن كان على دينك رددته إلينا، وإن جاءنا رجل منكم ترك دينه لا نرده إليك، فصاح الصحابة وقالوا: سبحان الله! كيف يأتينا مسلم فنرده؟! فلم يكد يكتب هذا الشرط حتى جاء أبو جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الكتاب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد أسلم، فعذبه أبوه عذاباً شديداً في الله، ولم يترك دينه، ولم ينكث على عقبيه، ولم يتخلَّ عن دينه، فقيده بالحديد ورماه في سجن، فاستطاع أبو جندل أن يفك بعض قيوده، ولكنه لم يستطع أن يفك الحديد كله، وجاء من أسفل مكة إلى الحديبية -وهي مسافة بعيدة- يجر أغلاله وقيوده، حتى جاء فألقى نفسه بين أيدي المسلمين، وكان قد عُذب في الله عذباً شديداً، فعندما رأى سهيل بن عمرو ابنه أبا جندل قال: يا محمد! هذا أول ما أقاضيك به، أي: نحن لازلنا نتكلم: إذا جاءك رجل منا وكان على دينك ترده إلينا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لم نفض الكتاب بعد -أي: ما كتبناه- قال: لا.
قال: فأجده لي -أي: اتركه لي نستثنيه من الكتاب- قال: لا أفعل، إذاً: لا نكتب كتاباً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع).
فحينئذٍ صاح المسلمون وقالوا: سبحان الله! يأتينا مسلماً ونرده إلى الكافرين! وانبرى عمر وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى.
قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، ولم يقتنع عمر بهذا، فحار، وهذا موقف يدع الحليم حيران.
وفي الصحيح أيضاً من حديث سهل بن سعد أنه قال للناس يوم صفين في قتال علي بن أبي طالب: (أيها الناس! اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفعلت)؛ لأنه قال له: ارجع.
ضع نفسك مكان الصحابة: رجل جاء من أسفل مكة يجر قيوده مسلماً، وقد عذب العذاب الأليم في الله فلم يترك، بل دفعه قلبه وهمته العالية أن يتخلص من بعض أغلاله ويمشي هذه المسافة الطويلة يجرها، إن الإسلام تغلغل حتى مس شغاف قلبه؛ فرأى أن هذا الدين لا يباع، وأنها ساعة بعدها يحط المسلم رحله في الجنة وينسى بؤسه قط، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأبأس أهل الأرض فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت بؤساً قط).
لو كنت مكان هؤلاء الصحابة ولم يعصمك الله عز وجل بالإيمان، لرغبت أن ترد كلام النبي صلى الله عليه، فقد راجع عمر النبي عليه الصلاة والسلام وكان الجواب واضحاً: (أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، فذهب عمر إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له: هو رسول الله، وليس يعصيه، وهو ناصره فالزم غرزه)، أي: لا تبرح كلامه قيد أنملة، وأُمر أبو جندل بأن يرجع.
ثم فر رجل آخر يقال له أبو بصير، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت قريش رجلين وراءه، فلما وصل أبو بصير -وكان قد عذب أيضاً- إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا بالرجلين على إثره، فقالوا: يا محمد! العهد الذي بيننا، يريدون أن يرجع معهم، فقال: كيف ترجعوني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع)، فرجع أبو بصير، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا يأكلون التمر وأبو بصير معهم، وكان مع أحدهما سيف، فجعل يتحدث عن سيفه، وأن هذا السيف جديد، وأنه قتل به كثير من الناس، وأخرج السيف من غمده يلمع مصقولاً، فقال له أبو بصير: ما أجود سيفك! هذا سيف جيد فعلاً، أرينيه! فأمكنه الرجل منه، فضرب عنقه، وفر الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال)، فقال أبو بصير: (يا رسول الله! قد وفى الله ذمتك، قلت لي: أرجع فرجعت، ولكن خلصني الله منهم)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فلحق أبو بصير بسيف البحر.
أي: ذهب إلى شاطئ البحر هو وأبو جندل، وكان كل رجل من المسلمين يسلم من قريش يلحق بهم؛ حتى أصبحوا عصابة على شاطئ البحر، فلا يسمعون بعير لقريش إلا هاجموهم وقتلوهم وأخذوا العير.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أنه إذا خرج رجل مسلم من قريش فلا يرده؛ حتى يجنبوا قريشاً هذه الهلكة، وأنزل الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24].
إننا نحتاج إلى هذه الدروس كي نثبت على دين الله عز وجل.(110/3)
أسباب الانتكاس(110/4)
من أسباب الانتكاس: النظر المحرم
إنك لا تدري بأي شيء تنتكس، فقد تنتكس بنظرة، كما حدث لـ برطيطة، وقصته عبرة لكل من أراد أن يعتبر، فقد هلك وكفر بالله العظيم بسبب نظرة واحدة فقط.
ذكر أهل التفسير: أن إبليس جمع المردة -وهم أعتى الشياطين وأقواهم إغواءً لبني آدم- فقال: لقد تعبت من برطيطة، فمنذ أربعين سنة وأنا أحاول أن أضله فلا أستطيع، فمن يكفيني أمر هذا؟! فانبرى له مارد يقال له: الأبيض، وكان صاحب الأنبياء، أي: الذي يتبع الأنبياء، فقال: أنا أكفيك، فقال له: انطلق، فانطلق هذا الأبيض ولبس لباس الرهبان وذهب إلى صومعة برطيطة، وكان برطيطة يدخل في الصلاة فما يخرج منها إلا بعد عشرة أيام يصلي باستمرار، وكان يصوم في هذه العشرة الأيام، فعندما ذهب هذا المارد الأبيض نادى برطيطة فلم يلتفت إليه، فكبر وأخذ يصلي، وبعد عشرة أيام عندما خرج برطيطة من الصلاة نظر من الصومعة فإذا رجل له سمت حسن، ولحية جميلة، وعيونه مسبلة، وهو واقف لا يتحرك، فأعجبه سمته، فنادى عليه: من أنت؟ قال: أنا رجل أريد أن أتبعك فأقتبس من علمك، فقال: إني عنك في شغل، ودخل الصومعة وجلس عشرة أيام جديدة، وبعد العشرة الأيام نظر من الصومعة وإذا بالرجل واقف يصلي، فقال له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أتبعك فأقتبس من علمك، فكان برطيطة قد رآه عشرين يوماً يصلي، وهكذا ثم قال له: اصعد، فصعد، فدخلا في سباق العبادة فكان برطيطة يخرج من الصلاة كل عشرة أيام، أما ذلك المارد فقد نوى ألا يخرج من الصلاة أربعين يوماً، فكان برطيطة يصلي عشرة أيام ويسلّم، فيجد هذا ما زال واقفاً لا يتحرك، فيدخل في الصلاة مرة أخرى وهكذا، فاحتقر برطيطة نفسه أمام هذا الرجل وأمام عبادته، فقال له: أنت إذاً الأستاذ، فقال: لا.
أنت الأستاذ، وأنا جئت كي أتعلم منك، قال: لا.
بل أنت أجد وأشد وأعبد إلى آخره.
فقال له المارد: أنا الآن مضطر لأنصرف عنك؛ لأن لي صاحباً آخر مثلك، فسأذهب لكي أعتكف معه عدة أيام، ولكن سأعلمك اسم الله الأعظم الذي إذا دعوت به أُجبت، فقال: لا تعلمني، فأنا في شغل، ولا أريد أن يأتي الناس إليَّ، قال: لابد أن أعلمك، وفعلاً علمه اسماً معيناً، وقال له: هذا اسم الله الأعظم! ثم بدأ الأبيض يصرع الناس، فيذهب إلى رجل فيصرعه فيصبح مريضاً، فيبحث أهله عن طبيب، فيأتي هذا المارد ويلبس لباس الأطباء ويذهب ويقول: أنا طبيب! ثم ينظر إلى المريض، فيقول: هذا مرض خطير ليس له علاج إلا عند شخص يدعى برطيطة، والشيطان يتلبس به ولا يتركه حتى يذهب المريض إلى برطيطة، فأول ما يقول كلمة السر يخرج الشيطان ويتركه مباشرة، ويرجع سليماً.
ثم بدأ الأبيض يصرع الناس واحداً بعد الآخر، ويرشد كل واحد ليذهب إلى برطيطة، فعرف الناس كلهم برطيطة، وانشغل عن العبادة بالمال.
فذهب هذا الأبيض إلى بنت ملك من الملوك وصرعها، وعمل نفسه طبيباً وذهب إليهم، وقال لهم: المرض صعب جداً، وهو مرض عضال، ولا يصلح له إلا برطيطة، فذهبوا إلى برطيطة، فقال: أنا لا أعالج النساء، وكان المارد قد أخبرهم بأنه سيرفض، قال: ولكن قولوا له: أقل الأحوال أن يضعها في هذا الغار بجانبك وتعهدها، وفعلاً وضعوها بجانبه في الغار، وتلبس بها الشيطان فسقط عنها ثوبها، فنظر إليها برطيطة فإذا هي من أجمل النساء، فوقع حبها في قلبه، ثم وقع عليها فحملت إلخ القصة.
إذاً: لقد أهلكته نظرة واحدة لماذا؟! لأن الإنسان لا يدري متى ينفتح على الذنوب والمعاصي، فالقلب كالصندوق، وهو مِلْك الرب، فمن الممكن أن ينفتح على هذه الصورة ويغلق فتكون الفتنة، والعياذ بالله.
سبحان الله! رجل يضع جهاز التلفاز يبث ليل نهار في بيته صور النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، وينظر الساعات الطويلة إلى هذا التلفاز، ويمشي في غاية الأمان، فمن الذي أعطاه كل هذا الأمان؟! كيف يمشي هكذا وهو آمن على قلبه؟! هل هو ملك أم نبي مرسل؟! فهذا يوسف عليه السلام قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
يأتي أحدهم ويشتكي قسوة قلبه وجهاز التلفاز عنده في البيت ليل نهار، هذا داء، والدواء أن تحطمه وتخرجه من البيت، ولا تمكن نظرك ولا نظر أولادك من أن يقع عليه يا إخواننا! إن العلاج يحتاج إلى حزم، ولا تنظر ولا تسمع إلى لوم الناس؛ فإنهم لن ينفعوك أمام الله عز وجل.
لما مات الملك حسين في الأيام الماضية، وهو الذي بقي أطول مدة في الحكم، فقد حكم ستاً وأربعين سنة، فقلت في نفسي: هل ستقوم هذه السنين أمام أول ليلة في قبره؟ ست وأربعون سنة وهو ملك، لو وضعت في كفة فهل ستقوم بمبيت أول ليلة في قبره؟! إن الناس لن ينفعوك فانظر إلى الذي ينفعك، استعن بالله ولا تعجز، ولا يكونن أحدكم إمعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(110/5)
من أسباب الانتكاس: الكبر والغطرسة
هناك رجل اسمه جبلة بن الأيهم، وكان آخر ملوك غسان من النصارى، وكان في الشام، جاء مسلماً في زمان عمر على قول؛ لأنه مختلف في إسلامه، فـ ابن عساكر وسعيد بن عبد العزيز وغيرهما يقولان: لم يسلم قط، وآخرون قالوا: بل أسلم! فبينما كان جبلة يمشي إذ وطئ ثوبه رجل من بني فزارة، فاستدار جبلة ولكمه لكمة هشمت أنفه، فما كان من الرجل إلا أن بادله اللكمة بلكمة، فجاءوا إلى عمر بن الخطاب يحتكمون وهما روايتان: الرواية الأولى: أن جبلة وطئ ثياب رجل من بني فزارة، فاستدار هذا الرجل الفزاري ولكمه لكمة في وجهه، فجاء جبلة بهذا الرجل إلى عمر بن الخطاب وقال له: لقد ضربني هذا، فقال له عمر: (الطمه بدلها، فقال: بل يقتل.
قال: لا.
قال: أو تقطع يده.
قال: لا.
فقال: بئس هذا الدين)، إنه يريد أن يجعل الدين تابعاً لهواه، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، ولأجل هذه الآية دارت رحا الحرب بين العرب وبين المسلمين: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فما جاء الدين خاضعاً لهوى أحد، إنما جاء الدين ليَحكم لا ليُحكم، فالذين يلتزمون بهذا الدين ويريدون أن يفصلوه عن حاجاتهم وأهوائهم ومزاجهم لم يسلموا بعد، فلن يسلم الرجل حتى يستسلم، فهذا ضُرب وقد كان ملكاً عندما كان نصرانياً، وعقوبة من يضرب الملك معروفة، فهو يعترض ويقول: لم لا يقتل لأجل هذه الضربة أو تقطع يده؟! أقل القليل أن تقطع يده التي لطمني بها، فلما قال له عمر: لا، قال: بئس هذا الدين، وتنصّر.
والرواية الثانية: أن جبلة وهو يطوف بالبيت داس على ثيابه رجل، فاستدار جبلة ولكمه، فذهب الرجل المظلوم الملكوم إلى عمر وقال: أقدني منه! فقال عمر: الطمه بدلها، فقال جبلة: أنا أضرب! قال عمر: نعم، تضرب.
قال: أوجهي كوجه هذا المازني؟! أي: هل وجوهنا سواء؟! فأنا ضربته وهو ليس له قيمة، أما أنا فقد كنت ملكاً، فخدي ليس كخده حتى تستوي الضربتان، فقال له عمر: دع عنك هذا، إن الإسلام سوى بينك وبينه، ولا فضل لك عليه ولا له عليك إلا بالتقوى، فقال: ما كنت لأفعل هذا أبداً، قال: إن لم تفعل أخذت أنا منك، فلما رأى أن الأمر جدّ وأنه لا هزل فيه، قال: دعني أفكر، فلما كان في نصف الليل هرب والتحق بالروم وارتد.
إذاً: على أي أساس أسلم جبلة إن كان أسلم؟! لقد دخل في الإسلام وهو يلبس ثوب الملوكية وثوب الكبر، وكان لابد عليه أن يطرح هذا الثوب، فإن هذا دين لا نظير له قط، دين سوى بين الناس جميعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، لا فضل لأمير على مأمور، الدماء كلها عند الله واحدة، فلو أن الأمير قتل كنَّاساً في الشارع فإنه يقتل به، فعلى أي أساس أسلم هذا الرجل؟! لقد أسلم على هوى وطمع، وأنه ملك ويريد أن يكون ملكاً، كمثل بعض الناس أصحاب الوجاهات حينما يلتزم بالدين يريد أن يكون وجيهاً أيضاً بين الملتزمين.
مثلاً: بعض الفنانين والفنانات والمغنيين والمغنيات التائبين وأنا لا أقلل من توبتهم أو من رجوعهم، لكن هذا مرض فتاك وداء عضال ينبغي أن نظهره ولا نجامل في إخفائه، قبل توبتهم تعودوا على الشهرة، فإذا دخل أحدهم في مكان تعود على الحفاوة وأن كل الناس يقومون له ويحترمونه ويجلونه، ثم منَّ الله عليه بترك هذا المستنقع ونظف نفسه، وبدأ يدخل في دائرة الملتزمين، فيريد أن يكون مشهوراً أيضاً في دائرة الملتزمين، ويريد أن يقوم له الناس ويحترموه، ويضعوه في مكانه أيضاً.
وهذا من عوامل الانتكاس، فإنه لم يتحقق بحقيقة الإيمان، والمفروض لأجل واقعه الأليم المرير الفائت أن يظل منكس الرأس طيلة عمره؛ ندماً على ذنبه الذي اقترفه، لاسيما أنه ذنب عظيم نسأل الله العافية، فكم من ممثلة تابت وقد كانت أيام التمثيل تمثل أفلام الجنس والدعارة والعشق على أقذر مستوى، ثم تابت، فما هو الحل وهي عارية في كل البيوت، فكل الناس عندهم الفيديو ويتفرجون على الأفلام؟! أرأيت إلى هذا الذنب ما أبشعه!! ربما لو زنى الرجل أو المرأة في حجرة مغلقة ثم تاب لكان أيسر؛ إنما التبعة إذا كان في بلد لا تقيم الحدود أو يستغفر ويفعل من البر ما يستطيع لعل الله أن يسقط الذنب عنه، وإذا كان في بلد تقيم الحدود وعرض نفسه للحد فقد طهر نفسه، لكن امرأة عارية في كل بيت فإن ذنبها عظيم، فكان من المفروض بمقتضى هذا الذنب أن تظل مطأطأة الرأس طيلة عمرها أو طيلة عمره، فكيف يريد أن يكون مشهوراً في الوسط الجديد الملتزم؟!! هذه آثام ينبغي للمرء أن يتخلص منها.(110/6)
من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد
إن من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد، وإن الذي لا يحقق هذا الدين يضعف أمام الضغط المتواصل للمجتمع الفاسد، سواء كان الضغط من قبل الحكومات أو من قبل الأسر، والصحابة رضي الله عنهم في مسألة الإيمان والاعتقاد لم يكونوا يقيمون لأهليهم وزناً.
فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان من أبر الناس بأمه، بل كان يضرب به المثل في البر بأمه، فلما أسلم قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أنت عليه؟! لا آكل ولا أشرب حتى ترجع عن دينك فأموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمك! وفعلاً امتنعت من الأكل يومين أو ثلاثة، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فغروا فمها بالعصا حتى تأكل، فقال لها سعد كلاماً واضحاً، معناه: (يا أماه! والله لو كان لكِ مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، كلي أو دعي)، فلما لم تجد مناصاً أكلت.
وكثير من الأهل يقاومون أولادهم مقاومة شديدة إذا أعفى الولد لحيته يحلف على أمه بالطلاق أو يطرده من البيت، وأنا أقول لك: اخرج من البيت، فهذه هجرة واجبة لا تنقطع إلى يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، قال ابن جرير الطبري: ومعنى الآية: يا عبادي الذين آمنوا اعبدوني ولا تتركوا عبادتي، واخرجوا عمن منعكم مني، وقال: ويدل عليه قوله: ((فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)) [العنكبوت:56] أمر بتحقيق العبادة.
إن خروجك من البيت هجرة لا تفرط فيها، وإن الأرض إذا ضاق منها موضع ففي الآخر متسع، ولا عذر له: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول فالأرض واسعة، والمهم هو تحقيق عبودية الله عز وجل، ولا تنكث على عقبيك ولا تفرط، وافعل كما فعل الصحابة الأوائل فقد كانوا ثابتين على الحق المبين.(110/7)
أنموذج للمنتكسين الذين خالفوا تقاليد مجتمعهم
لقد رأينا الذين دعوا إلى تحرير المرأة، أمثال هدى شعراوي، ودرية شفيق، وأمينة سعيد، وكل هؤلاء خالفوا المجتمع، وكان المجتمع يومئذٍ عليهم، ليس لأن المجتمع كان ملتزماً، ولكن لمخالفة العادات والتقاليد، فـ هدى شعراوي لما ذهبت إلى باريس وانحلت من العادات والتقاليد التي كان المجتمع متحلياً بها، وكان من ضمن تلك العادات آنذاك النقاب، وهو البرقع الذي تستر به المرأة وجهها، ولا زالت هذه العادات موجودة في بعض البلاد العربية، أن المرأة لا يراها أحد من أهل بلدها، فإذا ذهبت إلى لندن أو واشنطن أو باريس خلعت نقابها؛ لأنه عيب أن تُرى المرأة متنقبة في غير بلدها، لاسيما إذا كانت امرأة أمير، فلا تُرى أبداً في بلدها ولكن تتعرى في الخارج، فالمسألة مسألة عادات وليست مسألة التزام.
فهذه المرأة عندما ذهبت إلى باريس وأثناء عودتها ذهب أبوها -وكان من الأثرياء- ومجموعة من الأثرياء ليستقبلوها وهي راجعة في السفينة، فإذا بالمرأة تنزل من السفينة سافرة الوجه، مكشوفة الشعر لقد ذهبت متنقبة ورجعت سافرة، فعندما رآها أبوها غضب ولم يتحمل هذا الموقف وانصرف وتركها، وكان المجتمع كله ضد هؤلاء، حتى إن واحدة ممن سميتهن أدلت بحديث وهي مفتخرة، أنها أول بنت لبست (شورتاً) في الجامعة! قالت: فاجتمع كل من في الجامعة ينظرون إليَّ، فقد كانت مسألة غريبة وعجيبة!! ورغم ذلك صبرن هؤلاء النساء على هذا بدعوى تحرير المرأة، وتحقيق مكاسب، وهي في الشرع آثام وليست مكاسب: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، هذه آثام مركبة على صاحبها، جنى سيئة لم يعملها بيديه، فصبرن هؤلاء النسوة، وكن طلائع هذا السفور المزري الموجود في بلاد المسلمين، أفلا يكون في مقابل هؤلاء نساء صالحات يدعون النساء إلى الرجوع إلى البيت مرة أخرى، ويفدين هذا المبدأ بأنفسهن، ويكن طلائع هذا الفتح، لاسيما والشرع وكلام الله ورسوله يعطيهن من القوة ما لا يمكن أن تحرزه امرأة من هؤلاء اللواتي دعون إلى التبرج؟! ثم البائعون أصاحب المحلات، ألا يكون منهم من يكتب في وقت الصلوات (مغلق للصلاة) ويغلق الباب، ويأمر الذين يعملون معه أن يذهبوا إلى المسجد؛ لعله يفتتح هذه السنة على كل المحلات التي حوله! من الذي يفتتح مثل هذا ويجعله حسبة لله عز وجل، ويعلم أن الرزق لن يفوته على الإطلاق، وأن ما قدره الله كائن له لا محالة؟! من الذي يفتتح مثل هذا الباب ويفعله، ويكون على ثقة أن الله لن يضيعه، وأن رزقه لن ينقص ريالاً واحداً؟! إن الثبات على المبدأ لا يكون إلا بعد أن تعتقد هذا الدين، فإن كثيراً من الناس قد يلتزم؛ لأنه يحب الداعية الفلاني، فهو التزم لأجله، فإذا عامله -مثلاً- هذا الداعية بقسوة أو غلظة، فإن كان ملتحياً حلق لحيته، وإن كان يقيم الصلاة في المسجد ترك الصلاة فيه هذا انتكاس؛ لأنه ليس له مبدأ، فلم يثبت أبداًَ.
إن بعض الناس لا يلتزم بهذا الدين إلا إذا أعطي شيئاً من متاع الدنيا، فإن أعطي شيئاً رضي والتزم بهذا الدين، وإن لم يعط ما يريد انتكس مرة أخرى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
وفي أمثال هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما من حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، انظر إلى هذا الحديث العظيم الذي يصف شريحة من الناس لا يرجعون إلى الالتزام إلا بالمال.
وهناك سهم في الزكاة هو سهم المؤلفة قلوبهم، فالرجل قد يأتي ليسلم لأجل المال، ولا مانع أن يعطى أمثال هؤلاء من أموال الزكاة، ولكن لابد أن يُتعاهدوا بالأمر والنهي، وهذا السهم لا زال قائماً، ولابد أن يمتحن ما بين الفينة والأخرى كي يُعلم التزامه.
قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار)، ولم يقل: مالك الدينار، ولا مالك الدرهم، ولا مالك الخميصة، إنما قال: عبد، إشارة إلى هوانه، وأنه لا قيمة له، وأنه صار مملوكاً، وإذا كان عبد الدينار فلا بد أن يكون هناك مالك لهذا العبد، فمن الذي ملكه إذاً؟! إن الدرهم هو الذي ملكه، والخميصة هي التي ملكته، إذاً: صار الشيء مالكاً وصار هذا المالك عبداً: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس)، أي: نكص على عقبيه ورجع، (وإذا شيك فلا انتقش)، وهذا دعاء عليه، أي: إذا دخلت في قدمه شوكة فيا رب لا تخرجها، فلا انتقش ولا أخذ الشوكة أحد بالمنقاش، فهذا نمط من الناس إنما يرجع إلى الالتزام بالمال.
وهناك نمط آخر يرجع إلى الالتزام بالمصيبة، فإذا أصيب رجع، ولكن سرعان ما ينتكس أمثال هؤلاء.
إذاً: حسن التصور وأن تعرف أين موضع قدميك يعينك على الثبات، وضغط المجتمع المخالف من أقوى أسباب الوهن، وينتكس به كثير من الذين لم يتحققوا بواقع هذا الدين، أما الذين آمنوا به فإن هذا لا يزيدهم إلا ثباتاً، كما في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في صحيحه لما سأل هرقل أبا سفيان عن الذين دخلوا في الإسلام أول ما ظهر، فقال: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد إذ دخل فيه؟ قال له: لا.
فعلق هرقل قائلاً: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب).
فإذا دخل الإيمان وتخلل القلب فإنه يصير ملازماً له، لا يتركه، كذلك الذي يدخل في هذا الإسلام ولا يتركه سخطة لدينه، سواء ضرب، أو أخذ ماله، أو جلد، أو عذب كل هذا لا يكون حاملاً له على أن يترك دينه.(110/8)
نماذج للثابتين على دين الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن الخروج من ضغط المجتمع الفاسد، أو من ضغط الأسرة الفاسدة أو الجاهلة، لا يكون إلا بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، وفي سير الأئمة الماضين.(110/9)
مصعب بن عمير رضي الله عنه
كان مصعب بن عمير رضي الله عنه، من أعطر شباب قريش، وكان يلبس الحرير، وكان ذا وجاهة بين أبويه وفي قومه، فلما أسلم ترك كل ذلك وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الرعيل الأول الذي دخل دار الأرقم، وهو أول سفير ومعلم وناشر للإسلام خارج حدود مكة، وكفاه شرفاً بذلك كفاك شرفاً أن تكون أول الداعين إلى خلة ماتت: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لا يستوي الذي أنفق في وقت عز فيه النصير، مع الذي نصر دين الله لما دخل الناس فيه أفواجاً، لا يستوون!! ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير -فيما ذكر- رث الثياب، بكى، وهو يذكر ماضيه، لكنه ترك ذلك محبة لله عز وجل وطمعاً فيما عنده.
روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قدم له طعام وكان صائماً، وذلك بعد أن استشهد مصعب رضي الله عنه في غزوة أحد، فقال عبد الرحمن: (قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكان عليه بردة إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجله بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلا زال يذكر السالفين ويبكي حتى ترك الطعام) هذه هي الأسوة، والذي يتأسى هو عبد الرحمن بن عوف أحد السابقين الأولين من المهاجرين، لكنه يذكر إخوانه الذين سبقوه كم سقط على درب الإيمان من نبيل وكريم! ولا تجد على هذا الدرب إلا الرجال الأفذاذ، لا تجد منهم ضئيل القدر صغير الحجم أبداً، هذا الطريق لا تجد عليه إلا كل نبيل.(110/10)
ابن النابلسي وثباته على الدين أمام الخليفة العبيدي
وهذا ابن النابلسي أحمد بن محمد بن سهل الرملي دعاه الخليفة العبيدي، وبنو عبيد كانوا قد غيروا الدين، وأزالوا الملة، وقتلوا الصالحين، فلما حضر ابن النابلسي الرملي قال له الخليفة: بلغني أنك تقول: إذا كان للرجل عشرة أسهم فيرمي فينا واحداً وفي الروم تسعة، فهل هذا الكلام صحيح؟ قال: لم أقل هكذا، بل قلت: يرمي فيكم تسعة ويرمي العاشر الروم، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين.
فأمر بيهودي فسلخه وهو حي -وهذه قصة صحيحة ومشهورة- فكان يذكر الله وهو يسلخ حتى وصل إلى رأسه، فقال ابن النابلسي: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، وكان الدارقطني -إمام المسلمين في زمانه- إذا ذكر ابن النابلسي يبكي، كيف أنه جاد بنفسه! ومن أين له هذا الصبر؟! يسلخ حتى إذا وصل إلى رأسه قال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]؟!! فما بدل ولا غير، والثابت من ثبته الله؛ ولذلك يشرع للمسلم أن يقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله.
اخرج من حول نفسك وقل: رب! لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا ما دونها، فإن الله عز وجل يقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، أي: لا فضل لك إذا صبرت، إنما هو الله الذي صبّرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرصة)، أفيسلم الله عز وجل أولياءه للناس؟! أفلا يري هؤلاء الأولياء كرامته وأنه لا يتخلى عنهم حتى يقوي قلوبهم على المضي في طريقه وسبيله! نسأل الله تبارك وتعالى أن يصبرنا على الاستمساك بدينه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(110/11)
مداخل الشيطان [1]
إن أعظم ما يرجوه الشيطان من بني آدم هو وقوعهم في الشرك والكفر بشتى الطرق والوسائل.
ولأهمية توحيد الألوهية الذي أشرك فيه كثير من الناس كان هو الفارق بين الجاهلية والإسلام، ومن أجله قام العداء، واشتعلت الحروب بين العرب والنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحرب القائمة اليوم بين اليهود والنصارى من جهة والمسلمين من جهة أخرى إنما هو حرب عقائد وأديان، بينما نجد من بني جلدتنا من يميع قضية الاهتمام بالتوحيد والدعوة إليه! ويدعو إلى حوار الحضارات، واقتراح الثقافات.(111/1)
التحذير من اتباع مذهب الشيطان
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
الجنس الأول من الشر الذي يطمح الشيطان إليه مع بني آدم: أن يوقعهم في الكفر.
وللشيطان مذهب لم يغِب عن الأرض طرفة عين، قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62] وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض يتبعون مذهب الشيطان (جِبِلَّاً كثيراً)، وهذا واضح أيضاً في قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18] ومعروف عند العلماء: أن اسم الجنس إذا حُلِّي بالألف واللام فإنه يفيد العموم والاستغراق.
(مَن) مِن صِيَغ العموم فقوله: {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] أي: عموم المخلوقات.
ثم جاء بعد ذلك تفصيل لهذا العموم بعموم آخر للتأكيد، وهو قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18]، فكلمة: (دابة) اسم لجنس الدواب، فإذا دخلت الألف واللام على كلمة (دابة) أفادت كل دابة على وجه الأرض، وكذلك الأشياء الأخرى مثل النجوم والشجر فكلها تسجد لله.
فلما جاء ذكر الناس قال تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18].
إذاً: ليسوا جميعاً موحدون، مع أن الكون كله ساجد موحِّد إلا الثقلين: الإنس، والجن: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيراً} [يس:62].
وأي مذهب عموماً لا يكون إلا بأمر ونهي، فقد أنزل الله عز وجل الكتاب، وأرسل الرسل؛ ليأمر الناس بشيء وينهاهم عن شيء.
إذاً: الأمر والنهي أصل كل مذهب، ولذلك قال الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} [النساء:119].(111/2)
توحيد العبادة هو الفرقان بين الجاهلية والإسلام
النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء إلى العرب ودعاهم إلى الله لماذا قاتلوه؟ مع أنهم كانوا يوحدون الله عز وجل بتوحيد الربوبية الخاص بالخلق، والإحياء، والإماتة، والإيجاد من عدم، ولم يدعِ أحد من العرب أن آلهةً أخرى اشتركت مع الله في خلق شيء، ولا في تدبير شيء، وقد أقام الله عز وجل عليهم الحجة في كثير من آيات القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87].
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89].
هذا كله يقرونه لله عز وجل.
إذاً: لماذا قاتل العربُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام ولم يسلموا له بدعوته؟ إن التوحيد الذي أبى العرب أن يسلموا به هو توحيد العبادة؛ توحيد الألوهية، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
هذا الذي أنكره العرب، وصبروا على حشد الغلاصم، وقطع الحلاقم، ونفذ الأراقم، ومتون الصوارم، وأبوا أن يقولوا هذه الكلمة.
ما المشكلة؟ قل: (لا إله إلا الله).
لماذا تقوم الحروب؟ لماذا تعرِّض نساءك لأن يكنَّ سبايا؟ لماذا تعرض نفسك للقتل؟ لماذا يُسْتَرَقُّ ولدُك؟ لماذا كل هذا؟ فأبَوا أن يسلموا بتوحيد العبادة، وتوحيدُ العبادة في مثل قوله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] (يقُصُّ الحق) أي: يقضيه، وفي الرواية الأخرى المتواترة وهي قراءة حمزة، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي وخلف: (يَقُضِيْ الْحَقَّ).
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70].
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ} [القصص:88].
{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
فهذا هو توحيد العبادة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وتوحيد الحاكمية من أخص خصائص توحيد الألوهية، لا يحل لأحد أن يأمر بمعروف؛ بواجبٍ أو مستحبٍِ أو ينهى إلا الله ومَن أرسله مِن رسول.
وعندما درسوا الدين في المدارس افتتحوه بعبارة شهيرة ماكرة قالوا: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم -وذكروا بعض مظاهر الجاهلية- يسجدون للأصنام، ويشربون الخمر، ويَئِدون البنات) وانتهى الأمر على هذا، وصارت عبارةً دارجةً شهيرةً في الكتب، هل هذه العبارة صحيحة؟ والقاعدةُ الإعلاميةُ اليهوديةُ الماكرةُ تقول: (ما تكرر تقرر) فمع تكرار العبارة يصير وقعُها في نفوس الجماهير مستقراً، حتى لو كانت خاطئة، فإذا استقرت هذه العبارة في نفوس الجماهير فنظروا الآن: هل هناك أحد يعبد الأصنام؟
الجواب
لا.
هل هناك من يشرب الخمر؟ سواد المسلمين لا يشربون الخمر ويعلمون أنه حرام حتى الذين يشربونه.
هل هناك من يدفن البنات الآن؟ الجواب: لا.
إذاً: الإسلام الذي قاتل لأجله النبي صلى الله عليه وسلم موجود، هل هذه العبارة صحيحة بهذا الإطلاق؟ الجواب: لا.
إن العرب قاتلوا حتى لا يكون الحكم لله، يريدون أن يحكموا ويشرعوا بأهوائهم، لا يحل الحكم في خردلة فما دونها إلا بحكم الله عز وجل.
إن العرب صبروا على القتال، وفقدوا الأنفس الغالية -فقدوا الرؤساء، وفقدوا السادة والصناديد الكبار- وسُبِيَت نساؤهم؛ وهذا عارٌ عند العرب أن تذهب امرأةُ أحدهم إلى رجل كان يستقلُّه قبل ذلك ويحتقره، ويُقْتَل الصغار، وأبَوا أن يوحدوا توحيد العبادة الذي هو التسليم لحكم الله عز وجل، فهذا هو التوحيد الذي قاتل النبي صلى الله عليه وسلم العرب لأجله؛ توحيد العبادة (الأمر والنهي).(111/3)
من الأدلة على عدم توحيد بعض المسلمين لله بتوحيد الحاكمية
يزعجني أن كثيراً من الناس لا يلتزم أحكامَ الله، ولا يسأل عنها إلا إذا وقع في ورطة ولم يجد لها حلاً، أو أصابته مصيبة فجاء يسأل عن حكم الله، أيكون الجمادُ خيراً من الإنسان؟ إن الله عز وجل قال للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
لماذا لا يرجع الإنسان إلى الله إلا بعد أن يصيبه العذاب الأليم؟! رجل يسرق أموال الناس، ويختلس من الشركة، ويضع أمواله في البنوك، ومكث على هذه الحال ثماني عشرة سنة وهو يفعل ذلك، وفجأة سقط صريعاً، كشف عنه الأطباء فظَهَر أن عنده ذبحة، وعندما علم بذلك طفق يسأل وجاء يقول: ماذا أفعل في تركة ثماني عشرة سنة؟ البيت الذي بنيته من هذه الأموال كل مشروعاتي من هذه الأموال ربَّيت أولادي من هذه الأموال لا أمتلك شيئاً على الأرض إلا من هذه الأموال، وأنا لا أستطيع أن أخرج من بيتي ولا أخرج من تجارتي، فجدوا لي حلاً، ماذا أفعل؟ هكذا مدة ثماني عشرة سنة يفعل كل شيء، ثم إذا أصابته جائحة جاء يسأل عن حكم الله.
كثيرٌ من التجار يعقدون الصفقات ولا يسألون عن حكم الله فيها، صحيحٌ أن الأصل في البيوع الحل، لكن نظراً لاختلاط المسلمين بالكافرين، وأن الكافرين يستحدثون من وجوه المبايعات ما يحفظ لهم أموالهم، ولا يلتزمون بحكم الله، والمسلمون يعاملونهم، وللكافرين اليدُ العليا في البضائع والصناعات، فيذهب المسلم فيعقد صفقة مع الكافر على مذهبه؛ لأنه هو السيد والمالك، فيشترط عليه شروطاً هي في ديننا محرمة، فحينئذٍ يجب عليه أن يسأل أهلَ العلم في كل مبايعة جديدة، وإن كان الأصل في المبايعات الحل؛ لكنه لا يعلم الشرع فلا بد أن يسأل أهل العلم.
فكم يا ترى للتجار مستشارين من أهل العلم؟ التجار الكبار لهم مستشارون قانونيون ومحاسبون، ويعطونهم رواتب عالية وثابتة، ويعطونهم نسباً أيضاً، وأهلُ العلم استشارتهم مجانية بلا مال، فهل يا ترى لكل تاجر كبير مستشار من العلماء يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويصدر عن فتواه؟ هذا مِن أدل الأدلة على أننا لا نوحد الله عز وجل توحيد الحاكمية الذي هو من أخص خصائص توحيد الألوهية.(111/4)
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد
هذا الجنس الخطير -الكفر- هو ما يطمح الشيطان إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على صيانة جناب التوحيد حتى ولو باللفظ، لا أقول بالفعل -حاشا لله- إنما باللفظ.
ويدل على هذا ما رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهما بسند قوي عن طفيل بن سخبرة وهو أخو عائشة رضي الله عنها لأمها: (أنه رأى في المنام طائفة من الناس قال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، فقال لهم: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا له: ونِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله ومحمد، ثم قابَلَ -يعني في منامه- طائفة أخرى قال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى، فقال لهم: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا له: ونِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله ومحمد، فاستيقظ من منامه، فأخبر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالرؤيا فقال له: هل أخبرتَ أحداً؟ قال: نعم، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن طفيلاً أخبرني أنه رأى في منامه كذا وكذا وأنتم كنتم تقولون كلمةً كان يمنعني الحياء منكم أن أقولها لكم، كنتم تقولون: ما شاء الله ومحمد، ألا قولوا: ما شاء الله ثم محمد).
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول له: (ما شاء الله وشئتَ، قال: أجعلتَني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئتَ) مع أنه لم يخطر ببال الرجل -فيما أحسب- أن يكون جَعَل محمداً صلى الله عليه وسلم نداً لله، ما أظن أن هذا المعنى خطر على باله، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟!) جعله نداً لله بحرفٍ واحد، حرف الواو (ما شاء الله (و) شئتَ) حرف واحد! فما بالك بالذين يقولون جُمَلاً، ويكتبون كتباً في الشرك: يا بدوي أغثني! يا جيلاني أمدني! يا دسوقي ادفع عني! حرف واحد، لا أقول كلمةً ولا جملةً ولا كتاباً؟! كتاب: (دلائل الخيرات) منتشر عند العوام وهو يعج بالشرك، ولا يحل لأحد أن يقرأ منه حرفاً واحداً.
إذاً: نخلص من هذا أن التوحيد الكبير الذي كان فرقاناً بين الجاهلية والإسلام هو توحيد العبادة، وكانت العرب تعرف بعضاً من أسماء الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، وإنما أنكروا صفة الرحمن جحوداً واستكباراً منهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] نوع من الجحود.
فهذا الجنس الخطير -الشرك- هو ما يسعى الشيطان إليه، وأوسعُ هذه الأبواب: تلقي الأوامر والنواهي من غير الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:116 - 117].
وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا سُئِل عن مسألة في الحلال والحرام يقول: (يعجبني)، و (لا يعجبني)، (أحب ذلك)، و (أكره ذلك)، فلما قيل له: ألا تقول: حرام وحلال؟ فتلا قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام: ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثةَ عشر عاماً يدعو الناس إلى الله وإلى توحيده، وأهْدَرَ الأموالَ لعلةِ التوحيد بين الناس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث المسلمُ الكافرَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهلُ مِلَّتَين).
لو أن شخصاً كان ابن أغنى إنسان على وجه الأرض، وكان ولده الوحيد، فأسلم الابن ومات الأب كافراً، فلا يحل لهذا الولد أن يأخذ درهماً واحداً من تركة أبيه، وقد يكون من أفقر الناس، ومع ذلك لا يحل له أن يأخذ درهماً واحداً، الذي فرَّق بينهما التوحيد، حتى يكون الدينُ كلُّه لله، ومسألةُ عِلِّية المال تنتفي، وهذا يدلك على أن الفرقانَّ المعنيَّ به في القرآن هو التوحيد الذي فرَّق بين الوالد وولده، والولد ووالده.(111/5)
تهوين بعض الجماعات الإسلامية من شأن التوحيد
فمِن عَجَبٍ أن تهوِّن بعضُ الجماعات الإسلامية الآن من شأن التوحيد، ويقولون: إن الكلام في التوحيد يفرق، ونحن نريد أن نجمع الكلمة، إذا اختلفنا في الله فعلى مَن نجتمع؟ كلمةُ التوحيد قبل توحيد الكلمة، ولا سبيل إلى توحيد الكلمة إلا بعد أن نتفق على كلمة التوحيد، واحتجَّ بعضُهم -غلطاً ووَهماً منه- بقصة هارون عليه السلام، وأنه ترك الناس أن يعبدوا العجل خشية أن يفرق بينهم: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:92 - 94] قال: فترك هارون بني إسرائيل يعبدون العجل حتى لا يفرق بينهم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا خطأ، وقولٌ ظاهرُ البطلان من آيات القرآن، لقد نهاهم هارون عليه السلام وقال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه:90] فبيَّن لهم أنه لا يحل لهم أن يعبدوا العجل، وفي سورة الأعراف بيَّن عليه السلام أنهم كادوا يقتلونه لما نهاهم: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] أيقتلونه لأنه ساكن ساكت، أم لأنه قاومهم ووقف في وجوههم؟! فكيف يُظَنُّ بنبي الله هارون أن يرى الناسَ يعبدون العجل من دون الله عز وجل، فيسكت خشية أن يفرق جمعهم؟ إنما أرسل الله عز وجل موسى وهارون، وقَسَم الناس إلى قسمين: فراعنة، وإسرائيليين، جعلهم قسمين كبيرين، لماذا؟ أيتركون عبادة فرعون ويعبدون العجل؟! ما هو الفرق؟ فصاروا يهوِّنون مِن مثل هذا، ويقولون: الكلام في التوحيد يؤدي إلى الفرقة.(111/6)
خطر الحرب الثقافية على المسلمين
قالوا: لو أن شخصاً يقول: إن الله عز وجل لا يرى ولا يسمع، فليست هناك مشكلة.
ويقولون: يا أخي! أهم شيء العدو الخارجي؛ إسرائيل الآن متغلغلة.
ونسي أن المد الثقافي الذي هو أخطر من الغزو العسكري قائمٌ على قدم وساق، يا ليتهم يواجهوننا بالذخائر إذَنْ لَوَجدوا رجالاً؛ لكنهم قتلوا شباب الأمة بالثقافة والإعلام.
أي رجل عنده جهاز التلفاز الملعون تجده في الساعات الأخيرة من الليل يرى المشاهد الجنسية الصارخة.
وبعضُ الأبناء في المرحلة الثانوية والجامعية يأتي فيقول: إني مبتلىً بداءٍ عُضَال؛ إن شبكة الإنترنت تبث الأفلام الجنسية، فهو يسجل على الأشرطة كثيراً من هذه الأفلام، وصار مدمناً على مشاهدتها.
وفي أمريكا يعرفون المسلمين الملتزمين الذين يظهر عليهم سَمْت الالتزام، ويرسلون إليهم مبشرات -راهبات- من أجمل النساء، فيستمتن في الدعوة إلى دينهن.
ولقد حدثني أحد شباب السعودية قال: كنتُ أدرس في أمريكا، فطَرَق الباب شخص، فخرجتُ فوجدتُ امرأة في غاية الجمال، فقالت: لحظة أكلمك.
قال: فأغلقتُ الباب في وجهها، فطَرَقَت مرة أخرى، فكلمتُها مِن خلف الباب.
قالت: لحظة أكلمك، لا تغلق الباب في وجهي.
ففتح الباب وقال: ماذا تريدين؟ قالت: إنني أدعوك إلى يسوع المسيح.
فأغلق الباب مباشرة.
فما كان من المرأة إلا أن قرأت المنشور بأعلى صوتها من خلف الباب.
يقول تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
فالمسألة إذاً مسألة عَقَدية.
فهؤلاء اليهود يفعلون كل شيء لتدمير شباب هذه الأمة، والعجيب أن يكون هناك عملاء يُغَطُّون مثل هذه الأفاعيل، ويحسنون الظن بالعدو.
(إستاكوزا) التي أنكرها بعضُهم أشهراً طويلة، حتى جاء التقرير الرسمي يؤيد ذلك، والتي تدمر الثروة السمكية في كل مياه المسلمين، وفي مصر لو أن رجلاً أخذ كيساً من هذه (الإستاكوزا) التي تأكل الأسماك، وأفرغه في مصب النيل، وانتشرت (الإستاكوزا) في مئات الألوف من االقنوات الصغيرة وأكلت الثروة السمكية كلها، فإن أكبر دولة لن تستطيع أن تفعل في ذلك شيئاً إلا أن تسمم الماء، وهذا جزء مما يفعلون.
اللُّبان، والحلوى، و (الشيكولاتة)، مخلوطة بمادة قوية تثير الأعصاب والغرائز الجنسية، فأول ما يأكل أحد هذه الحلوى أو يمضغ هذا اللبان تثور شهوتُه ذكراً كان أو أنثى، ويقولون: لن نكتب عليها: صُنِع في إسرائيل؛ لكن سنكتب عليها: صُنِع في اليابان، وصُنِع في إندونيسيا، وصُنِع في مصر إن لَزِم الأمر.
الحرب الثقافية التي هي على أشدها الآن لها عملاء.
كتب أحدهم على صفحة كاملة: النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا يعلم الغيب غداً، لو كان موجوداً لعَدَّل آيات المواريث، فما بال الذي أنزل عليه القرآن، أفَمَا كان يعلم ما سيحدث في زماننا؟ ويُكتب هذا بالخط العريض على الصحيفة كلها، وهذا الرجل أستاذ في كلية الآداب، ولا يزال يدرس حتى الآن.
وفي الأسبوع الماضي كتب أحد الصحفيين في جريدة الأهرام تحت عنوان: مجرد رأي، يقول: إن أستاذاً في الجامعة الأمريكية يدرس كتاباً من سنوات طويلة، وهذا الكتاب يسب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مقذعاً واضحاً، فيقول في هذا الكتاب: والطلبة مُجْبَرون على المذاكرة وعلى كتابة هذه الأفكار حتى لا يرسبوا في المادة، هذا الكتاب فيه: إن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج خديجة مع أنها أكبر منه؛ لأنه كان رجلاً فقيراً فلاذ بمال المرأة، وأنه هو الذي ألَّف القرآن، ومن جملة ما ألَّفه: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] الآخرة هي: عائشة، والأولى هي: خديجة.
الآخرة هي عائشة البكر، قالوا: لأنه كان يعاني من كبت جنسي فتزوج بنتاً صغيرة.
هذا الكلام مكتوب ويدرَّس في دولة تزعم أن دينها الرسمي الإسلام من سنوات طويلة، هذه العبارات كانت كافية لأن يتنبه الساهي وليستيقظ الغافل لكن لا أحد يتابع؛ ويطْلُع جيل يدرُس مثلَ هذا ويدافع عنه.
هذا هو المد الثقافي والغزو الفكري.
فيقولون: إن هؤلاء اليهود يفعلون ويفعلون ويفعلون، فهل نتكلم في أن الله يرى أو لا يرى، يسمع أو لا يسمع؟! يا أخي! اتركوا هذه الصغائر وهذه الأشياء البسيطة، أمامنا العدو الكبير الذي هو أكبر من تعطيل صفات الله وهو إسرائيل! فهل يمكن أيها الإخوة الكرام أن نجتمع يوماً ما على شيء ما إذا لم نجتمع على توحيد الله؟ الذي يقول: إن الله لا يرى، ولا يسمع، ولا يبصر، يعبُد صنماً! والذي يقول: إن الله يرى كرؤيتي، له بصرٌ كبصري، له سمعٌ كسمعي، يعبُد جسماً، وأهل السنة والجماعة مذهبهم الوسط، فيقولون: نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه من غير تعطيل ولا تكييف، ولا تجسيم ولا تمثيل.
هذا ما يجب أن نعتقده في الله تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يرد هذه الأمة إلى دينه رداً جميلاً، وأن يهديهم صراطه المستقيم.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آتِِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكلُّ ذلك عندنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(111/7)
مداخل الشيطان [2]
إن من مداخل الشيطان على بني آدم إيقاعهم في البدعة، ودفعهم إلى رد الحق بسبب تعصبهم لعادات الآباء وتقاليدهم؛ ولا مخرج ولا عاصم من هذه الفتن إلا بالعلم، والاهتمام بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والنظر في حياة الصحابة واهتمامهم بتلقي الوحي عن رسول الله، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله برأي ولا قول ولا فعل.(112/1)
تأثير الآباء في الأبناء عظيم الجذور
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام! فلا زلنا نميط اللثام عن كيد الشيطان لابن آدم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:27 - 29].
في ترتيب هاتين الآيتين سرٌّ بديع، وقفتُ عليه بتوفيق ربي، ثم بطول التأمل في الآيتين، ولكن لا يظهر المعنى إلا بمقدمة، وهذه المقدمة قد تطول؛ لكنها ضرورية.
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} [الأعراف:27].
ثم قال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28].
إن تأثير الآباء في الأبناء عظيم الجذور؛ ولذلك دَرَج أهل الجاهلية أن يحلفوا بآبائهم، ومِن المعلوم أن الحلف إنما هو لتعظيم المحلوف به، ففي الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال: (سمعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقول: وأبي! وأبي -أي يحلف بأبيه- فقال: يا عمر! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت، قال عمر: فما حلفت به ذاكراً ولا آثراً) ذاكراً: لا أحلف، ولا آثراً: لا أقول: إنني في يوم من الأيام قلت: وأبي، فيحلف بأبيه على سبيل الحكاية، وليس على سبيل الحلف، فإعمالاً لهذا النهي من النبي عليه الصلاة والسلام وتعظيماً لجنابه يقول: (ما حلفتُ به ذاكراً ولا آثراً) ولأن الوالد هو أغلى ما يمتلكه الولد في هذه الدنيا مع الأم، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أرادوا أن يُفَدُّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: بأبي أنت وأمي.
أي: أفديك بأبي وأمي، ولو كان هناك أغلى منهما لفديتك به.
وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يصلي صلاة العصر مع علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فلما خرج من المسجد أبصر أبو بكر الحسن بن علي، فجعل أبو بكر يعدو خلفه والحسن يهرب حتى أمسكه أبو بكر، فرفعه على عاتقه وهو يقول: (بأبي شَبِيْهٌ بالنبي ليس شَبِيْهاً بـ علي).
والباء هنا ليست باء القسم، إنما هي باء التفدية؛ أي: أفديه بأبي ليس شبيهاً بـ علي، إنما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كله.
فكانت العرب قديماًَ يحلفون بالآباء لرسوخ هذه العلاقة بين الأبناء والآباء في نفوس الأبناء.(112/2)
الاعتراض على الأنبياء بسنة الآباء
ذكر ربنا تبارك وتعالى أن الرسل أول ما عورضوا بسنة الآباء، وجعلها الناس عقَبَةً كأْداء في طريق الأنبياء: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} [الزخرف:23] وهذا كله يفيد العموم، أي: ما جاء نبي قط أرسله الله إلى قرية ما إلا عارضوه بسنة الآباء فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
ولو رجعتَ إلى القرآن الكريم تجد تفصيل هذا الكلام.(112/3)
نبينا عليه الصلاة والسلام ومعارضة قومه دعوته بسنة الآباء
ثم كان نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الذين عورضوا من الأنبياء بسنة الآباء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21] وفي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب -أترغب عن دين آبائك- فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب).
فسنة الآباء عَقَبَة كأداء.
قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200] فلو كان هناك أحد غير الوالد يذكر عند الولد لذكره الله؛ لأنه ذكر الآية في معرض الحث على كثرة ذكر الله، ولا يُضْرَب المثل بالأدون، إنما يُضْرَب بالأعلى، فلو كان هناك أكثر من الآباء ذكراً عند الأبناء لذكره الله عز وجل.(112/4)
فرعون ومعارضته لدعوة موسى بتقليد الآباء
وكذلك عورض موسى عليه السلام وأخوه هارون بسنة الآباء، لما جاء إلى فرعون وملئه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78].(112/5)
معارضة قوم هود وصالح وشعيب لأنبيائهم بسنة الآباء
وكذلك لما جاء هود عارضوه بسنة الأنبياء أيضاً: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:70 - 71].
وكذلك لما جاء صالح إلى ثمود ودعاهم إلى الله عز وجل: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوَّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62].
ولما جاء شعيب إلى مدين عارضوه أيضاً بسنة الآباء: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85].
فبماذا أجابوه؟ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87].
جُنِنْتَ؟! نتبعك ونعبد الله، ونتصرف في أموالنا على حسب رأيك؟! {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87].(112/6)
نوح عليه السلام ومعارضة قومه بسنة آبائهم
نوح أول نبي أرسل -كما في الحديث الصحيح- وعورض بسنة الآباء: قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:23 - 24].
فجعلوا جهل آبائهم قائماً مقامَ الحجة،: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] نعم ما قَدَروه حق قدره، يخلق عباده، ويخلق لهم السماوات والأرض، ولا يرسل إليهم أنبياء يعرفونهم طريق سعادتهم؟! أهذا يليق بالرحمن الرحيم؟! يطعمهم، وينمي أبدانهم، ويملأ بطونهم، ولا يرسل إليهم رسولاً يعرِّفهم به؟ إن الذين زعموا ذلك: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] مَن الذي فعل ذلك؟! مَن الذي أنزل هذه الكتب؟! {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91] مَن الذي علَّمكم أنتم وآباءكم؟ {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91].
فهؤلاء جعلوا جهل آبائهم قائماً مقام الحجة في معارضة الأنبياء.(112/7)
إبراهيم عليه السلام أكثر من عورض بسنة الآباء
إبراهيم عليه السلام الحنيف، وهو من أكثر الذين عورضوا بسنة الآباء: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53].
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:69 - 74].
وكان بينه وبين أبيه مجادلة عنيفة أدى فيها إبراهيم عليه السلام حق البنوة وحق العبودية، أدى حق البنوة فدعا أباه بألطف عبارة إلى الله، وأدى حق ربه عز وجل إذ تولى بِرُكْنه وترك الأصنام وعابديها: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيَّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيَّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيَّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيَّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً} [مريم:41 - 46].
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة فيقول إبراهيم: أَلَمْ أنهك -يعني أن تشرك بالله شيئاً- فعصيتني؟ فيقول أبوه: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام فيقول: يا رب! وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزيٍ أعظم من أن يدخل الأبعدُ النار -الأبعد: أبوه- فقال الله عز وجل: يا إبراهيم! إني حرمت الجنة على الكافرين، انظر تحت قدميك، فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ -صورة ضبع منتن الرائحة، يدور في رجيعه- فيؤخذ بقوائمه إلى النار).
إن الله عز وجل لا يجامل أحداً في التوحيد: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].(112/8)
الاقتداء بآدم عليه السلام في عدائه للشيطان
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف:27].
الأبناء عندهم عصبية للآباء، كفروا بالله بسبب العصبية للآباء، ولو سُبَّ والدُ أحدِنا لاحمرَّ أنفُه، ولربما فدى سمعة أبيه بحياته، ولا يرى بأساً عليه من ذلك، إذْ كان يرد اعتبار أبيه.
وهذا امرؤ القيس لما خرج هو وصاحبه ليسترد مُلْك أبيه -الملك الضائع- رأى أنه لو قُتِل ما كان ذلك يشينه بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا فقلتُ له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموتَ فنُعْذَرا كان يبحث عن مُلْك أبيه، وكان أبوه ملكاً، فرأى أن يفدي استرداد الملك بحياته.
إذاً: المقدمة الطويلة هذه نستفيد منها: شدة عصبية الأبناء للآباء.
قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] حتى في الفواحش دفعتهم العصبية أن يفعلوا الفاحشة، ويجعلوا فعل آبائهم حجة، ثم يفترون على الله بعد ذلك فينسبونها إليه.
طالما أن عندكم غَيرة ونخوة وعصبية، فقد أخرج الشيطان أبويكم من الجنة وكشف سوآتهما! فأين عصبيتكم لهما؟! لماذا صار أكثر الناس منقادين للشيطان الرجيم؟! لماذا تَبِع أكثرُ أهل الأرض الشياطينَ؟! أين عصبيتهم؟! لماذا لم يمقتوا الشياطين وقد أخرجوا أبويهم من الجنة، وكشفوا عن سوآتهما؟! لماذا تكيلون بمكيالين؟ لماذا توالون الشيطان وآدم أبوكم؟! ولذلك جاء لفظ الأب في الآية: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} [الأعراف:27] استثارة للنخوة! استثارة للعصبية! بأن يعادي الشيطان الذي أخرج أباه، ولم يفعل هذا فقط، بل كشف عن سوأته.
فكان ينبغي له إذا كان فعلاً يوالي هذا الوالد ويتعصب له ألاَّ يوالي عدوَّه الذي أخرجه من الجنة، وجعلنا سبايا له.
لكننا سَبْيُ العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسَلِّمُ هل يا ترى نعود إلى وطننا الذي خرجنا منه يوماً ما؟! قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه- (يقول الله عز وجل لآدم يوم القيامة: يا آدم! يقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، يقول: يا آدم! أخرج بعث النار، يقول: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين -هؤلاء يدخلون النار، من كل ألف إنسان تسعمائة وتسعة وتسعين في النار وواحد في الجنة- فقال الصحابة: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟ قال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، قال: والذي نفسي بيده لأنتم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أبشروا فإن مِن يأجوج ومأجوج ألف -في النار- ومنكم واحد في الجنة).
فهذه الأمة بالنسبة للأمم كألف بالنسبة لواحد.
فهذه طريقة قرآنية لاستثارة عصبية الناس، لماذا صاروا منقادين للشيطان؟! لماذا صاروا دعاة له وقد أخرج أباهم؟ إن كان عندهم عصبية وإحساس، وعارضوا الأنبياء بسنة الآباء، فلم لا يعارضون الشيطان بسنة أبيهم أيضاً؟! وهذا يدلك على مبلغ الغبن الذي وقع فيه أكثر الناس.(112/9)
رحلة إبراهيم عليه السلام في الكون
الكفر هو الجنس الأول الذي يسعى الشيطان إليه، والعاصم منه أن تحب ربك وتواليه، وأن تجعل محور حياتك يدور عليه، فتحب الذي يحبه، وتكره الذي يكرهه، ولا تفعل الأمر إلا إذا أُمِرت، وإذا نهيت فلا تستر على الفعل، فهذا هو العاصم.
واعتبر بقصة الخليل عليه السلام الحنيف، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام:74] الإله مشتق مِن وَلَهَ، والوَلَه: شدة التعلق، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74].
ثم بدأت رحلة إبراهيم الذي لم يعرف في الكون إلا الله، فجعل إبراهيم عليه السلام يبحث عن مثال في الكون لإلهه الذي يعبده.
وقد اتفق أهل الأرض جميعاً على نسبة الجمال إلى الله، فكلما رأوا شيئاً جميلاً عَلَت أصواتهم: الله! فصار ذكر الله عَلَماً على كل جميل بكل اللغات.
فإبراهيم عليه السلام الذي لا يعرف إلا الله يجده في ضميره وفي نفسه، فيريد أن يبحث له في الكون عن مثال.
فمن عانى هذه القضية ظل مسهَّد الطرف لا ينام، في كل ليلة يرعى النجم، لا يكتحل طرفه بنوم.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] جَنَّ: يعني: صار في كبد الليل وأشده ظلمة، في وقت تنام فيه العيون، وتهجع الأبدان، هو مسهد الطرف لا ينام، يبحث عن مثالٍ لإلهه الذي يحبه، ويجده في صدره وقلبه.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] وهذا فيه إشعار كأنْ ليس في الكون غيره، هو الذي لفَّه الليل بظلامه وسدوله: {رَأَى كَوْكَباً} [الأنعام:76] في هذا الظلام الدامس يرى شيئاً يلمع.
إذاً: ما هو أجمل شيء في الكون في هذا الظلام؟ هذا النجم، إذاً: هو ربي؛ لأنه لا أجمل منه، ولا أفضل منه يصل إليه طرفي إلا هذا النجم المضيء الذي بيني وبينه ملايين الأميال.
إذاً: هذا الجميل في الكون هو ربي: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76].
لماذا؟ لأن إلهه الذي يحبه لم يغب عنه طرفة عين، فإذا غاب هذا عني، فأنا أكون في غربة عظيمة، الأنسُ بالله رأس مال الأولياء، ولذلك يطاردونهم ويعذبونهم ويشردونهم ولا يشعرون بوحشة قط.
لماذا؟ لأن الله ما غاب عنهم قط، إنما الأنس يتم به.
ذكر الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء خبراً عظيماً -اقشعر له جلدي لما قرأته- لبعض العلماء أيام الإمام الدارقطني رحمه الله كان يعادي أمراء الدولة، فقبضوا عليه وجاءوا به وقالوا: بلغنا أنك تقول عنا: لو كان عندي عشرة أسهم لرميتكم بسهم، وفي الروم بتسعة أسهم.
أصحيح هذا الكلام؟ قال: بل قلت: لو كان معي عشرة أسهم لرميتكم بتسعة وجعلت في الروم واحداً، قال: فأخذوه، فسلخوه وهو حي، فلما وصلوا إلى وجهه قال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الإسراء:58] وكان الدارقطني رحمه الله إذا ذكر هذا الرجل بكى.
رجل يُسْلَخ وهو حي ما الذي صبَّره؟ الأنس بالله الذي يجده.
مَن أنِسَ بالله لم يشعر بفَقْد المخلوقين؛ لكننا نحن نشعر بوحشة السجن والحبس؛ لأن الله ليس معنا، ولا نستشعره في ضمائرنا، لذلك يغيب عنا.
وقد أبى إبراهيم عليه السلام أن يتخذ إلهاً غائباً، لما أفل: {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] فأبى أن يكون إلهاً.
ولذلك بهذه النقطة تستشعر لماذا يطول الليل على المرضى؟ مع أن الليل قد يكون قصيراً كلَيل الصيف مثلاً، واليوم طويل، والألم يسري في بدن الرجل نهاراً وليلاً؛ لكن يعظم وطء المرض عليه بالليل، لماذا؟ لأنه لا يجد أنيساً، وكان الذي يقصر عليه مدة الألم في النهار ويهوِّن عليه الألم هو دخول الناس وخروجهم، هذا يدخل فيسليه، وهذا يعزيه، وهذا يأمره بالصبر، وهذا يضحك معه، وهذا يمازحه، فيشعر أنه محل أفئدة الناس فيصبر، أما إذا انصرف الناس عنه ووجد نفسه وحيداً فهنا يشعر بالوحشة ويحس بوقع الألم.
فكذلك الذي لا يكون الله عز وجل معه دائماً هو في وحشة من جلده فضلاً عن أن يكون في وحشة من أبناء جنسه.
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77] وابتهج؛ لأنه أوضح من النجم وأكبر وأشد لمعاناً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77].
إذاً: كلما وجد شيئاً أجمل قال: هذا ربي: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:77 - 78] طوال الليل لم يكتحل بنوم؛ لأنه يبحث عن مثال لإلهه الذي يعبده.
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] هذا هو، هذا أكبر، ليس لأنه أشد لمعاناً وأعظم توهجاً، بل لأنه أكبر.
{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79] فظهرت له العلامة، ليس هناك شيء في الكون يصلح أن يكون إلهاً يعبده.
إذاً: وظف إبراهيم عليه السلام كل حواسه للبحث عن إلهه الذي يعبده.
إذاً: كلما ازددت تعلقاً بربك كلما فَرَق الشيطان منك ويئس من المحاولة: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(112/10)
محاولة إيقاع الشيطان لبني آدم في البدعة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الجنس الثاني الذي يسعى الشيطان إلى إيقاع العباد فيه بعدما نجو من الكفر: البدعة.
أيها الإخوة الكرام! البدعة تغييرٌ لدين الله عز وجل، وطمسٌ لآثار الوحي.(112/11)
العلم بالله هو العاصم من البدعة
ما هو العاصم من البدعة؟ العلم.
فالصحابة رضوان الله عليهم لم تكن فيهم البدعة، لماذا؟ لشيء واحد، لو نحن حققناه الآن لضربنا البدعة بسهم قاتل، هذا الشيء هو: أن تعلم أنك عبد لله، والعبد له سيد، والسيد يأمر، فلا ترفع قدمك مِن على الأرض إلا إذا قيل لك: تقدم، ولا يتحرك لسانك بقولٍ إلا إذا قيل لك: قل، {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] يعني: لا تقولوا حتى يأمركم، ولا تفعلوا حتى يأمركم، فالذي يفعل الفعل من تلقاء نفسه فقد قدم بين يدي الله ورسوله، ونصب نفسه مشرعاً.
فالصحابة ما كانوا يفعلون شيئاً من ذلك.
أحد الصحابة كان يمشي في جبل، فرأى غاراً في جبل فأعجبه، فقال في نفسه: لو تخليت عن الناس وتحنثت لربي فيه!.
إذاً: قصده حسن أم لا؟ قصده حسن، يريد أن يريح الناس من شره، ويجتنب الناس ويعبد الله حتى يصفو له قلبه.
لكنه قال: فوالله لا أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فقال: يا رسول الله! رأيت غاراً في جبل فأعجبني فقلت: لو اعتزلتُ الناس وتحنثت لربي فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إني لم أبعث بالرهبانية، إنما بعثت بالحنيفية السمحة).
وأخذ الرجل الجواب واستراح، فلم يفعل حتى يستأذن.
كذلك كان تلقيهم لنصوص الوحي عالياً وفي غاية الروعة، جاء في مسند البزار: (كان أبو الدحداح يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245] فقال أبو الدحداح: يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم.
قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟).
تقول الرواية: (إن هذا الحائط كان فيه ستمائة نخلة)، قال صلى الله عليه وسلم: (بيتٌ لا تمرَ فيه جياعٌ أهله) بعض الناس قد يستشكل عليه معنى الحديث فيقول: نحن لسنا أهل تمر، ومع ذلك نحس بالشبع، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود أنه قد يدخل الرجل بيته وهو شديد الجوع، فيجد امرأته لا تزال تعد الطعام، ويتحاج بعض الوقت حتى يكون الطعام جاهزاً، فما الذي يقيم صلبه بسرعة ويجعله يشعر بالشبع؟ التمر أو أي مادة سكرية؛ ولكن التمر أفضلها، فقوله عليه الصلاة والسلام: (جياعٌ أهله) ليس المقصود به الجوع الدائم، ولكن الجوع المؤقت الذي يزول بالتمر، أي أن الرجل سيعاني من الجوع ولو للحظات إذا لم يكن في بيته تمر.
يقول أبو الدحداح: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم.
قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ قال: لك الجنة.
قال: فإني أشهدك أنني أقرضته حائطي هذا).
وقام أبو الدحداح رضي الله عنه من المجلس وذهب إلى الحائط الذي كان يمتلكه، فلم يدخل منه لأنه صار ملكاً لله، ولم يعد ملكاً له، فوقف على باب الحائط وقال: (يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي، فيأتي صوت المرأة المؤمنة ينبعث من داخل الحائط: ربح البيع يا أبا الدحداح)، ولم تقل له: ضيعت مستقبل الأولاد، كان عليك أن تترك لهم خمسمائة نخلة، أو حتى مائتين وخمسين نخلة، ليَكْبُر أولادُك أغنياء؛ ولكنها قالت له بلهجة المؤمن الصادق: (ربح البيع يا أبا الدحداح) أفَمِثل هذا في تلقيه يمكن أن يفتري على الله عز وجل فيبتدعَ حُكْماً لم ينزله الله؟!(112/12)
الجهل من أعظم أسباب الوقوع في البدع
إن الجهل هو سبب كل المصائب الموجودة في الدنيا: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد:5] شخصٌ خرج علينا الأسبوع الماضي بفتوى من أعجب ما يكون! يقول: إن التنمُّص جائز للرجال حرام على النساء، تصوَّر! يجوز للرجل أن يرقق حاجبه حتى يكون كالهلال، ما هي الحجة؟ هي كحجة إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12].
لماذا؟ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] يا غبي! الطين خيرٌ من النار، فالنار تحرق، والطين فيه رخاوة وبرودة، يقيس الشيء على الضد، وهذا هو سبب الغباوة! ما هي حجتك أن يتنمَّص الرجال دون النساء؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله النامصات والمتنمصات) ولم يقل: النامصين.
إننا نجأر إلى الله من أمثال هؤلاء مجددينات النامصات! سئل أحد الأذكياء وهو الأديب كامل كيلاني رحمه الله وقال يوماً ما: إننا نعوذ بالله ونجأر إليه من المجددينات.
فقالوا له: وما المجددينات؟ لم يكن جمعاً مذكراً سالماً، ولا جمعاً مؤنثاً سالماً؟ قال: هذا جمع مخنث سالم، أي: سالم من الرجولة ومن العلم.
الإجابة عن هذه الفتوى ولا أقول: شبهة، فهي أدنى من أن تسمى شبهة، هذا جهل فاضح، لا يرتقي إلى العلم بسبب ولا إلى الشبهة بسبب.
أيها الكرام! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لجمالها).
إذاً: مَن الذي يبحث عن الجمال؟ إنما هم الرجال.
من الذي يحرص أن يظهر في أبهى حلة وأجمل منظر؟ إنها المرأة، فهذا رأس مالها أن تكون جميلة، فإن شطراً من العباد ينكحون النساء للجمال، وفي سنن النسائي قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها طلقت عنده) أي: ثقلت وكره النظر إليها، إذاً: لا بد أن تتزين، وقال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فالحلية إنما تكون للبنات، وإنما قيل: حلية؛ لأنه يُتَحَلَّى بها.
فالخطاب في هذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الذي يتزين ويتحسن هي المرأة وليس الرجل، والرجل يبحث عن الجمال في المرأة، والمرأة تبحث عن الرجولة في الرجل، قَلَّ مِن النساء مَن تبحث عن شكل الرجل: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] هذه هي صفة الرجل التي تبحث المرأة عنها.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يُعْقَل -وهذا الأمر لا يكون إلا في النساء- أن يقول: لعن الله المتنمصين، هذا خطاب ليس له واقع؛ لأنه لا يتنمص الرجال، وهذا معنى قول العلماء: الخطاب خرج مخرج الغالب، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] كانت العرب تضاعف الربا، يأخذونه أضعافاً مضاعفة، فهل لو أكل الرجل الربا ضعفاً بسيطاً جاز له ذلك؛ لأن ربنا عز وجل يقول: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فهل يجوز للواحد أن يقول: سآكله ضعفاً واحداً؟! وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة باتت - يعني: في الليل- هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) فإذا أراد الرجل امرأته نهاراً فهجرت فراشه نهاراً، أتلعنها الملائكة أم لا؟ تلعنها الملائكة حتى تمسي، وإنما نص على الليل؛ لأنه في الليل يكون الفعل عادة، ولا يكون نهاراً، فنص على ما خرج الغالب عليه.
فعندما يرى النبي عليه الصلاة والسلام أن النساء هن اللاتي يطلبن الحسن، وهن اللاتي يتفلجن قال: (لعن الله النامصات) لأنهن يفعلن ذلك، ولا يليق أبداً أن يقال: ولعن النامصين؛ لأنه ليس هناك رجل واحد يتنمص.
هذه هي المسألة ببساطة شديدة لا تحتاج إلى كبير علم، ومع ذلك فهذه فتوى من آلاف الفتاوى.
العلم هو العاصم من مثل هذا وغيره.(112/13)
اهتمام الصحابة بما أنزل الله على رسوله
الصحابة كان عندهم تلقٍّ عظيم واهتمام بما أنزل الله على رسوله، وهناك مثالان: المثال الأول: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ظللتُ سنةً أريد أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حجَّ وحججتُ، وعدلَ وعدلتُ، فقضى حاجتَه فجاء، فصببت عليه وضوءه فقلت: يا أمير المؤمنين! إنني منذ سنة أريد أن أسألك عن مسألة فتمنعني هيبتُك، فقال: يا ابن أخي! إذا علمتَ أن عندي علماً فسلني، فقلت: مَن المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] قال: واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة.
ثم ذكر عمر الحديث فقال: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار وهم من عوالي المدينة، ينزل عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزل جاءني في العشية بخبر ذلك اليوم من وحي أو حديث أو أقضية، ونحو ذلك، فإذا كان يومي نزلتُ ففعلتُ مثل ذلك).
فـ عمر رضي الله عنه لا يريد أن يفوته شيء من العلم، فعَمِلَ مناوبةًَ بينه وبين جار له، ينزل إلى زراعته في يوم وصاحبه عند النبي عليه الصلاة والسلام يتلقى العلم، فإذا نزلت آية حَفِظَها، وإذا قُضِي في قضية حَفِظَها، وإذا قيل حديثٌ حَفِظَه، وفي الليل يذهب إلى عمر فيقول له: نزلت آية كذا، وذُكِر حديث كذا، وقُضِي بقضية كذا، فإذا كان في اليوم التالي فعل عمر نفس الفعل.
والمثال الثاني: في الصحيح أيضاً قالت عائشة: (رحم الله نساء الأنصار؛ لما نزل قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] شققن مُرُوطَهن فاختمرن بها، وكن كالغربان)، ولم تقل المرأة منهن: حتى أصل إلى البيت، وأذهب لأشتري قماشاً وأفصله وألبسه، لا.
بل نزل حكم الله في المجلس، فشقت المرأة منهن مرطها ونفذت الأمر فوراً.
وكان الصحابة كذلك إذا سمعوا شيئاً من الوحي انقلبوا إلى بيوتهم يتلون آيات الله، فكانوا يترجمون هذا القرآن واقعاً حياً لا يتلكئون.
فهؤلاء الصحابة كانوا يتلقون العلم بهذه الطريقة؛ لذلك ما ظهرت فيهم بدعة، إنما أول بدعة ظهرت في الإسلام هي بدعة القدرية، وظهرت في آخر حياة الصحابة، ظهرت في حياة ابن عمر وأبي سعيد الخدري.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يعلَِّمنا ما جهلنا.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(112/14)
أي الغاديين أنت؟!
إن حسن الخلق جماع كل خير، فهو من خصال الخير التي ينتفع بها المرء في الدنيا والآخرة كما ورد في الكتاب والسنة، فحسن الخلق أن تحسن إلى الناس في جميع تصرفاتك ومعاملاتك متأسياً بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فالإحسان يؤثر في أحقر الحيوانات وأدناها همة وهو الكلب فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله؟ وليس هناك أثقل من البر -حسن الخلق- فمن برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك.(113/1)
الناس غاديان: بائع نفسه فموبقها أو معتقها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها أو معتقها، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، أي: أن الغادي الأول يبيع نفسه، والثاني أيضاً يبيع نفسه، فأحدهما يعتق نفسه، والآخر يوبقها، أي: يدخلها في الرق، وهذا حديث يشير إلى نهاية كل حي، وأن الناس قسمان لا ثالث لهما كما قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108].(113/2)
الصنف الأول: بائع نفسه فموبقها
في آخر سورة الفرقان ذكر ربنا تبارك وتعالى هذين الصنفين، لكنه قبل أن يذكرهما ذكر نعمه على عباده، وبعد ذكر النعم ذكر أحد الصنفين، وهو الصنف الذي أوبق نفسه وأدخلها النار، ثم أخر ذكر الصنف الصالح، وفي تقديمه للصنف الذي دخل النار عبرة وفائدة، تعلمها بعد سرد الآيات.
لقد امتن الله عز وجل على عباده بنعم عظيمة وكثيرة، فقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:47 - 54].
فتأمل هذه الآيات: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً) إلى آخر الآية، (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)، (وهو الذي مرج البحرين)، (وهو الذي خلق من الماء بشراً) ولكن ما هي النتيجة؟ {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] إنما ابتدأ ربنا بذكر الكفر بعد تعداد النعم ليظهر لك العقوق، ليظهر لك عقوق الكافر بعد هذه النعم التي امتن الله عليه بها بأن عبد غيره سبحانه وتعالى، وكان ينبغي أن يشكر ولا يكفر.
ولكن {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55].
من الذي يعبد من يضره؟ من الذي يحب من يضره؟ إن الناس تحب الذي ينفع ويظهر النفع، وتكره الذي يضر.
من خصائص الإله أنه يضر، وهذا الضرر إما أن يكون بعدوك -أن يضر عدوك- أو يضرك أنت، فتعرف الألم الذي يصيبك ولا تستطيع أن تتحمله -فالمرض مثلاً- قد يكون ألمه في غاية الشدة، وهذه نعمة؛ لأن أعظم الأمراض الفتاكة يأكل الجسم بلا ألم، فأول ما يتألم المرء يكون الأمر قد انتهى ولم يعد ثمة فائدة لأنه إشعار لك بأن هذا الموضع من الجسد يحتاج إلى علاج ونظر طبيب، فالألم نعمة؛ لأنه ينبه إلى موضع المرض، وإلا فالأمراض مثل السرطان -عافانا الله وإياكم وأجارنا من الأمراض وسوء المنقلب- إنما يأكل بدن المرء فلا ينتبه إلا وقد انتهى الأمر.
إذاً: هذا الضرر نعمة.
كل إنسان في نفسه داعية الألوهية فلو ترك وما يريد لقال: أنا ربكم الأعلى، واعتبر بفرعون.
وإن فرعون قدر فأظهر وعجز غيره فأضمر.
وكل إنسان إذا استولى عليه الغرور لديه استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، فإنه إذا اغتنى وارتفع وتكبر يكاد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كما حصل في سنة إحدى وثمانين عندما خطب رئيس الجمهورية آنذاك خطابه وضرب على المنضدة ضربة وقال: (أنا الحاكم، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) هكذا قالها في خطابه، وتكلم عن العلماء بكلام ممقوت بغيض، ووصفهم بمجانين السويد وغير ذلك.
فدل الواقع الذي يصير إليه الناس أن كل إنسان إذا استولى الشر على قلبه فإنه على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى.
فإذا ابتلاه الله عز وجل بقاصمة له: مرض، فقر، ظلم؛ فإذا به يرتدع ويتوب، وهذه كلها قدر وضرر لكنها في تمام النفع لهذا العبد، فلو أنه تُرك وما يريد لدخل النار، فكان -إذاً- لابد أن يضره -رحمة به- ليوقفه عن اقتحام النار.
إذاً: من خصائص الله عز وجل أنه ينفع ويضر: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] الكافر كلما وجد مناوئاً لله وضع يده في يده، فبدأ ربنا عز وجل بذكر هذه الصنف بعد تعداد النعم؛ ليظهر لك قبح الكفر وأهله.(113/3)
الصنف الثاني: بائع نفسه فمعتقها
ثم ذكر تبارك وتعالى الصنف النفيس، الذين هم أولى الناس بهذه الحياة، فبدأها بذكر خصلة جامعة، وهي التي لا يكاد المرء ينتفع بخصلة من خصال الخير إلا بها، فقال عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] (وعباد الرحمن) ولم يقل: وعباد الله؛ لأن صفة الرحمة مدعاة لحسن الخلق، (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) يمشي بوقار وسكينة، لا يصعر خده للناس، ولا يمشي في الأرض مرحاً، (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) أي: قولاً سلاماً، وهذه الخصلة هي جماع كل خير، وكل الخصال بعد ذلك تنبني عليها؛ ولذلك بدأ الله بها، وهي جماع حسن الخلق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) لماذا؟ لأن في الآخرة تنصب الموازين، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً؛ فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم.
قال: لا المفلس من أتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصدقة -وذكر بعض أصناف الخير- كأمثال الجبال يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فطرح في النار).
إذاً: هذا رجل معه صيام وقيام، وصدقة وحج، وزكاة فدخل النار؛ لكثرة خصومه وظلمه لهم، فإن استطعت أن ترحل إلى الله ولا خصم لك فافعل، فربنا تبارك وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وقال عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47].
فالرجل إن كان حسن الخلق فإنه يلقى الله عز وجل بلا خصوم، وهذا هو سر إدراكه لدرجة الصائم القائم: أنه يلقى الله بلا خصوم، حسناته موقوفة عليه.(113/4)
أهمية حسن الخلق وفضله
ومن حسن الخلق: الإحسان إلى الناس، فالإحسان يدق العنق، بل يؤثر في أحقر الحيوانات وهو الكلب مع ذلك إذا ألقيت له قطعة خبز أو لحم هز ذيله، -اعترافاً بالجميل- وأثر فيه إحسانك إليه.
ومن طريف ما يذكر في ذلك أن حاتماً الطائي رأى ابنه يضرب كلبة له، فقال: يا بني! لا تضربها، فإن لها علي جميلاً ومعروفاً.
فإنها تدل الضيفان عليَّ.
أي: إن الضيف يسمع نباح الكلب ويرى النار، وكانت النار والكلب وسيلتان في الجاهلية لإرشاد الضال، ولذلك كانوا يتخذون الكلاب، فالغريب السائر يتبع صوت الكلب؛ لأن الكلب لا يكون إلا في مجتمع أهلي، ولا يعيش إلا في سكن وبين ناس.
وقصص وفاء الكلاب معروفة، والإحسان يدق العنق، حتى إن تأثيره يتعدى إلى أرذل الحيوانات.
وقد صدق الحكيم الترمذي -وهو غير الترمذي صاحب السنن- إذ يقول: (ليس هناك حمل أثقل من البّر، من بّرك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك).
أي: إذا أردت أن تدخل رجلاً سجنك -وأن تكون أشرف سجان- أحسن إليه، فإذا أحسنت إليه فلا يستطيع أن يوصل السيئة إليك؛ لسابق إحسانك إليه، ولكن إذا جفوته وشتمته فقد أطلقت لسانه في عرضك، يتكلم فيك بحرية؛ وهذا مصداق قول الحكيم الترمذي: (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك).(113/5)
صور من حسن الخلق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية، لما صدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن البيت، وبدأت المفاوضات بين قريش وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء بديل بن الورقاء يتفاوض مع النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: (إننا ما جئنا للقتال، إنما جئنا لنعتمر، فخلوا بيننا وبين البيت، وإلا فوالله! لأجاهدنهم عليه حتى تنفرد سالفتي) فذهب بديل بن الورقاء إلى قريش وأخبرهم.
فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال لقريش: ألستم مني بمنزلة الوالد، وأنا منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى.
فقال لهم: دعوني آتيه، وقد عرض عليكم أمر رشد، فجاء عروة بن مسعود الثقفي -وكان إذ ذاك مشركاً، ولكنه أسلم بعد ذلك- فلما جاء قال: يا محمد! إنها واحدة من اثنتين: إما أن تغلب وتظفر على قومك، فهل رأيت أحداً اجتاح قومه قبلك؟ وإن تكن الأخرى -فوالله- ما أرى حولك إلا أوباشاً -وفي الرواية الأخرى: أوشاباً- خليقاً أن يفروا ويدعوك -يعني: لا جلد لهم على قتال، وقد رأى الصحابة رضوان الله عليهم، وقد عظهم الفقر بنابه، وظهرت عليهم الرثاثة، وقد ارتدوا القديم المرقع من الثياب، وظهر الفقر.
فيقول: إن قامت حرب إياك أن تظن أن هؤلاء ينصرونك، إنهم مجموعة من الأوباش، من الغجر- فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذا الكلام وهذا الشتم للصحابة، قال: أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات، وهذا سب مقذع لآلهتهم؛ فانزعج عروة وغضب، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من هذا المتكلم؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة أبو بكر فقال عروة بن مسعود: والله! لولا أن لك عليَّ يداً لأجبتك -أي: لولا أن لك علي جميلاً سابقاً أديته إلي لرددت عليك عيبك في آلهتنا-.
فانظر كيف صده الإحسان عن الرد، وكيف صان لسانه عن الرد لسابق جميل أبي بكر، وهذه هي عاقبة الإحسان، وهذا هو شاهدنا من القصة.
فربنا تبارك وتعالى بدأ بهذه الخصلة الجامعة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} [الفرقان:72] أي: أعرضوا عنه، والرسول عليه الصلاة والسلام استعان بهذه الخصلة العظيمة على نشر دعوته، فكان صلى الله عليه وسلم يسمع السب بأذنه وكأنه لم يسمع، بل إذا جاء رجل أراد أن ينتقم له أمره بالعفو، وأمره بالصفح كما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من أكمة -مكان فيه أشجار كثيرة- فلما رآه عبد الله بن أبي ابن سلول -رأس المنافقين- قال: لقد غير علينا ابن أبي كبشة -وهو يسب النبي عليه الصلاة والسلام، يقول يعني: كنا سادة في أقوامنا، وبلال الحبشي لم يكن له ذكر ولا قيمة، وجاء فوضعه بجانبي، وأوقفه في الصف بجانبي، فأهدر سيادة السيد، ورفع منزلة العبيد، لقد قلب الموازين - فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمشي معه عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول -ابن رأس المنافقين، وكان صحابياً صالحاً، وسمع كلمة أبيه- فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق! والذي أكرمك! لئن أمرتني لآتينك برأسه.
قال له: لا.
ولكن بر أباك وأحسن صحبته) وهكذا فليكن الخلق.
والانتقام عادةً يكون انتقاماً شخصياً، فنزه نفسك عن الانتقام لنفسك، فإن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً بيده قط، إلا أن تنتهك حرمات الله) وعائشة رضي الله عنها هي المرأة الوحيدة التي ضربها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها تخطت هذا الحد.
تقول عائشة رضي الله عنها: (لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي التي هي لي جاء ففتح الباب رويداً رويداً -بهدوء- وخلع نعله ومشى رويداً رويداً؛ حتى لا يحدث النعل صوتاً، ووضع جنبه رويداً رويداً على الفراش، فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق.
قالت: فقمت وراءه وتقنعت إزاري -ظلت تمشي خلفه- حتى وجدته عند البقيع، فرفع يده ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف -أي: راجعاً- فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أحضر أي: مشى بتمهل- فأحضرت، دخلت الغرفة، ودخلت تحت اللحاف -لكن أنفاسها لا زالت متلاحقة، وهذا ليس حال امرأة نائمة- فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فوجد اللحاف يرتفع وينخفض مع أنفاسها، فقال: مالك يا عائشة! حشية رابية؟ -تشتكين من شيء في صدرك، لقد تركها مستريحة، وجاء وهي تنهج- رآها ارتبكت.
فقالت له: لا شيء.
فقال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير.
فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله، وقصت عليه الخبر، وهي كانت مراقبة للموقف كله، والنبي صلى الله عليه وسلم يظنها نائمة، وهذا من رفقه وحسن خلقه أنه لا لم يزعجها عند دخوله، وكان إذا دخل فوجد في البيت إنساناً مستقيظاً يسلم سلاماً لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان، وهذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فظنت عائشة رضي الله عنها أنه ذاهب لبعض نسائه، ولذلك خرجت وراءه، وهذا حيف وجور، لا يليق أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تعد- فقصت عليه الخبر، فقال لها: أنت السواد الذي كان أمامي؟ -الزي المستحب للنساء هو الأسود، فهي لبست هذا السواد وخرجت- قالت عائشة: فلهزني -أي: ضربني بمجامع يده- في صدري لهزة أوجعتني، وقال: أظننت أن يحيف عليك الله ورسوله بأن تكون النوبة لك وأذهب لغيرك-؟ إن جبريل أتاني، وما كان ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فناداني فأخفا منك -أي: ناداني بصوت لم تسمعيه، حتى لا تسمعي فتستيقظي- فأجبته فأخفيته منك، وكرهت أن أوقظك فتستوحدي -فهي حديثة السن، وحدها بالليل، وتخاف، فحمد الله أنها نائمة- قال: وكرهت أن أوقظك فتستوحدي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل بقيع فتستغفر لهم -فأدارت عائشة دفة الحوار بذكاء- وقالت: يا رسول الله! ماذا أقول إذا دخلت عليهم؟ -غيرت السيرة- فعلمها دعاء زيارة القبور).
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بجانبي فتحسسته فلم أجده، فظننت أنه ذهب لبعض نسائه فقمت، فوقعت يدي على قدميه منصوبتان وهو ساجد، يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، أعوذ بك منك ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
فقلت: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- إنك لفي شأن وأنا في شأن آخر) هو ساجد يثني على ربه تبارك وتعالى، وهي تظن أنه ذهب لبعض نسائه، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها تجسيد لحسن الخلق، فقد وصف من أعدائه بالأمين، ولم يكذبه أحد قط وهو معتقد أنه كاذب صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو جماع الخير فكل خصلة من خصال الخير يمكن أن تقبل منك بحسن الخلق، وكل خصلة من خصال الخير قد ترد عليك بسوء الخلق، فحسن الخلق يحفظ كل خير، بينما لا يبقى مع سوء الخلق حسن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع سبه بأذنه، وكان يتجاهل ويتغاضى، وكانت قريش لما اغتاضت من النبي عليه الصلاة والسلام تقلب اسمه وتسبه، فيقولون: مذمم -محمد من الحمد، ومذمم من الذم- فيقولون: قاتل الله مذمماً، قبح الله مذمماً، لعن الله مذمماً، فيبتسم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لـ أبي هريرة: (انظر كيف يصرف الله عني شأن قريش، إنهم يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد!) مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنه المشتوم والمقصود، ولكنه يتغاضى ويتغافل، وهذا من حسن خلقه صلوات ربي وسلامه عليه.
فلا يكون لك مع الناس خصومات إلا من كان عدواً لله ورسوله، فهذا ينبغي أن تغاضبه، وأن تعلن الخصومة له إذا قدرت على ذلك.
فكن ذا خلق حسن متأسياً برسولك محمد صلى الله عليه وسلم -بحسن خلقه- في جميع أوقاته ومعاملته حتى مع أهل بيته، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته أفضل زوج، وكن نساؤه أسعد نساء على وجه الأرض، وإنما كان ذلك لحسن الخلق، فليتعلم الأزواج الذين حولوا بيوتهم إلى ثكنات عسكرية، وضرب ومشاكل على الدوام من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته وأهل بيته.
فهو صلى الله عليه وسلم ما أسر قلوب زوجاته إلا بحسن الخلق.
وعلى سبيل المثال أقول لك: هل تستطيع أن تذهب بعد صلاة الجمعة اليوم إلى بيتك إن كان عندك مثلاً صالة واسعة، وتجري أنت وامرأتك وتتسابقون؟ أظن أنك تنكر ذلك وتقول: كيف يكون هذا؟ أنا رجل والرجل له هيبة وهي امرأة- فأقول لك: إن أشرف من وطأ على الأرض بقدميه فعلها، كما رواه أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا في غداةً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال للصحابة: تقدموا فتقدموا، فقال لـ عائشة: تعالي أسابقك.
قالت: فسابقته فسبقته، فتركني -أي: تركها فترة- حتى إذا حملت اللحم -بدنت- ونسيت أمر المسابقة، وكنا في غداة؛ فقال لهم: تقدموا، فتقدموا، فقال: تعالي أسابقك.
فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك) سبقتيني المرة السابقة وأنا سبقت هذه المرة من يفعل هذا مع امرأته؟! وهذا من حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيح أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية) ولهذا القول قصة، وذلك أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أضيافاً من الصحابة عند السيدة عائشة رضي الله عنها فبع(113/6)
قيام الليل والتضرع إلى الله راحة وطمأنينة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] فانظر إلى هذا العجب (يبيتون سجداً وقياماً) ولفظة (بات) إذا جاءت مطلقة فهذا يعني: النوم والراحة، أي: الاستغراق في النوم والغياب عن الوعي، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في وضوئه، فإنه لا يدري أين باتت يده) والحديث هذا مختص بالماء الموضوع في الأواني.
فإذا استيقظت من النوم فلا تضع يدك في الماء.
ولكن خذ في إناء صغير، واغسل يدك ثلاث مرات بالكامل، ثم ضع يدك في الماء قال صلى الله عليه وسلم: (فإنك لا تدري أين باتت يدك) والعلماء قالوا: لاحتمال أن تمر اليد على موضع النجاسة فتحمل النجاسة وأنت لا تدري.
إذاً: قد تمر اليد على محل النجاسة وأنت لا تدري، لأنك: نائم، غائب عن الوعي، ولذلك جاءت لفظة (باتت) مطلقة، بخلاف ما إذا كانت مقيدة، فإنها قد تأتي مقيدة وتدل على أنك سهران لم تنم، كأن تقول مثلاً: بات فلان لا يكتحل بنوم فهذا يدل على أنه سهران، ولكنها هنا مطلقة فتعني: النوم الاستغراقي.
(والذين يبيتون) جاءت مطلقة.
أي: أنه نائم، فكيف يستقيم ذلك مع قوله (سجداً وقياماً) وهذا يدل على السهر؟ نقول: اعلم -يا عبد الله- أن راحة المؤمن ليست في النوم بل راحة المؤمن أن يصف قدميه بين يدي من يحب، فكأنما قال: هو في حال قيامه وسجوده مستريح كالذي ينام تماماً، وراحته في الركوع والسجود، ولذلك اللفظ (يبيتون) يعني: مستريحون، لا ضجر عندهم من الصلاة بالليل، وهو يعلم أن الله عز وجل يضحك له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك) وضحك ربنا على حقيقته، يضحك؛ لكن كما يليق بجلاله، لا تقل لي: يضحك كضحك عباده بقههقة، وله لسان وشفتان ونحو ذلك، لا، الله عز وجل (ليس كمثله شيء)، لكنه يضحك على الحقيقة وليس مجازاً: كناية عن الرضا، والسرور، والقبول لا.
يضحك ربنا على الحقيقة، لكن لو سألتني كيف يضحك؟ أقول لك: لا أدري، فالكيف محجوب عنا، لكننا نثبت لله ما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، إنما الرضا والقبول يكون له أثر صفة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك إلى عبد كان في رفقة يمشون بالليل، وكان النوم أحب شيء إليهم، فعرجوا -ضربوا الخيام، والنوم أحب شيء إلى هؤلاء الرفقة، من شدة الإعياء والتعب، إلا أن هذا العبد لم يستطع أن ينام فقام فتوضأ فصلى لربه ركعتين) قبل أن ينام صلى لمحبوبه، والله عز وجل هو الذي ينزع التعب عنه، والله عز جل يبارك له في نومه، ويذهب عنه التعب، ولذلك كان قتادة يقول: (اللهم اكفنا من النوم باليسير).
لكن انفعنا بهذا النوم.
فهذا الرجل قبل أن ينام قدم هواه لمحبوبه على هواه لنفسه، فقام يتملق ربه بركعتين، ولا ينتفع بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة إلا الركع السجود في صلاة الليل، في جوف الليل الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربنا يمهل حتى الثلث الأخير من الليل، فينزل فينادي عباده: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه) فلا يدعو إلا المستيقظ آنذاك، والنائم لا تسمع نومه، إلا شخيره وهذا لا ينتفع بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، بخلاف هؤلاء الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً.
إذاً: السجود والقيام ليس مشقة، بل هو راحة وطمأنينة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة لنا زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(113/7)
ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم
حديث أم زرع حديث عظيم، فيه فوائد جمة ونكت لطيفة، وقد صنف في شرحه بعض العلماء تصانيف خاصة، فقد ذكرت فيه صفات بعض الأزواج، فمنها الصفات الحميدة التي ينبغي التحلي بها، ومنها الصفات الذميمة التي ينبغي اجتنابها وعدم الاتصاف بها، والحديث فيه إرشاد إلى كيفية تعامل الأزواج مع زوجاتهم في بيوتهم، وفيه بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خلق كريم ومعاملة حسنة.(114/1)
شرح حديث أم زرع وذكر بعض فوائده
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
فدرسنا هذا المساء بعنوان: (ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وسنستعرض هذه الليلة الحديث الشهير المعروف بـ (حديث أم زرع)، ونحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه الدروس لإعادة الدفء الذي حل محله البرود في البيوت، وصارت الشركة بين الرجل والمرأة قائمة على أنها هي أخف الضررين، فكثير من البيوت تقوم بسبب الأولاد، مع أن الرجل يتمنى لو أنه فارق المرأة والمرأة تتمنى لو أنها فارقت الرجل، وكلاهما يعيش مبغضاً للآخر، لكنه يصبر بسبب الأولاد، ولو لم يكن بينهما أولاد لتفرقوا كل في ناحية.
هذا الدرس وأشباهه يبين لنا أن هذا الدفء الذي تعاني كثير من بيوت المسلمين فقده، سببه أنهم لا يترسمون خطا النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النساء، وكذلك النساء لا يترسمن خطا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في ضرب المثل في الوفاء، وفي معرفة لماذا خلقت هذه المرأة، ومعرفة حدود طاعة الرجل.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أكثر من موقف؛ بل حياته الكريمة كلها مليئة بهذا النموذج العطوف، فقد كان يعامل النساء معاملة في غاية الرفق وفي غاية الرفعة، وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بالنساء فقال: (رفقاً بالقوارير)، وحديثنا ليس عن الحد الأدنى أو ارتكاب أخف الضررين في العلاقة الزوجية إنما نحن نرتقي إلى ما هو فوق هذا، ونضرب المثل بالإحسان، وكما سيظهر من خلال فوائد هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أفضل زوج على وجه الأرض.
روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، (باب السمر مع الأهل)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، وكذلك رواه الإمام النسائي في كتاب عشرة النساء، ورواه كثيرون، وسوف الزيادات التي وردت في روايات من لم أذكرهم في أثناء الكلام.
قالت عائشة رضي الله عنها وهي تقص على النبي عليه الصلاة والسلام حكاية: (جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى.
وقالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره.
وقالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.
وقالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.
وقالت الخامسة: زوجي إذا دخل فَهِد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
وقالت السادسة: زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
وقالت السابعة: زوجي عيايا أو غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلاً لك.
وقالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب.
وقالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.
وقالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.
وقالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع! أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح.
أم أبي زرع! فما أم أبي زرع عكومها رداح، وبيتها فساح.
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع! مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع! طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً.
قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً ثرياً، ركب سرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك، قالت: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع).
وفي رواية النسائي قال لها: (ولكني لا أطلقك)، هذه الزيادة وردت عند الإمام النسائي.
هذا حديث ألفاظه قوية جزلة، وقد كانت عائشة رضي الله عنها من أفصح الناس، ولها خطبة في الدفاع عن أبيها أبي بكر الصديق في غاية الروعة، شرحها أبو بكر ابن الأنباري في جزء مفرد، فـ عائشة رضي الله عنها تحكي هذه الحكاية الطويلة والرسول عليه الصلاة والسلام الموصول بالله عز وجل، والذي يحمل أعباء الدين كله، جالس يسمع ويعطي أذنه لها، ثم يعقب على هذا الحديث بأن يختار أفضل رجل ضرب به المثل في هذا الحديث، فيقول لها: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع).
وهذا المجلس الذي حكته عائشة مجلس نميمة، وهذا هو الغالب على مجالس النساء.(114/2)
خبر المرأة الأولى
بدأت القصة بامرأة أردت زوجها صريعاً بالضربة القاضية في الجولة الأولى، تقول: (زوجي لحم جمل غث)، الغث: هو الرديء، تشبهه بأنه لحم جمل رديء، ومعلوم أن أغلب الناس ليس لهم شغف بلحوم الجمال، وهذا اللحم مع أنه لحم غير مرغوب فيه، فهو غث أيضاً، أي: لو كان لحماً جملياً نظيفاً، أو كان لحم قعود صغير لقبلناه على مضض، لكنه جمع ما بين أنه لحم جمل وبين أنه غث ورديء أصلاً.
تقول: (زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر)، قليل من لحم جمل على قمة عالية، ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم غث؟ فهي تقول: (على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى)، أي: ليس جبلاً سهل المرتقى، فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم لحم ضأن مثلاً أو نحوه.
وهي تريد بهذا أن تقول: إن الرجل جمع ما بين سوء الخلق وسوء المعشر، فأخلاقه سيئة جداً لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً.
وهناك بعض الناس هكذا، إذا أردت أن ترضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك، فأخلاقه وعرة كوعورة الجبل، فهي تصف زوجها بهذا.(114/3)
خبر المرأة الثانية
وقالت المرأة الثانية: (زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره).
تقول: أنا لن أتكلم، ولا أبث خبره، ومع ذلك فقد تكلمت! وفي الرواية الأخرى: (زوجي لا أثير خبره، إني أخاف ألا أذره)، يقول العلماء: إن (لا) هنا زائدة، والمعنى: إني أخاف أن أذره، أي أخاف أن يطلقني لو أفشيت خبره، وإذا تكلمت سأذكر عجره وبجره.
وأصل العجر هو: انتفاخ العروق في الرقبة، والبجر: انتفاخ السرة، فكأنها قالت: له عيوب ظاهرة وباطنة، فكنت عن العيوب الظاهرة بالعجر، الذي هو انتفاخ العروق، وهذا فيه تشويه لجمال الرقبة، فكأنها تصف هذا الرجل أن عيوبه الظاهرة ظاهرة وجلية ومعروفة غير مستترة، وله عيوب خفية لا تعرفها إلا المرأة، وكنت عنها بالبجر، الذي هو انتفاخ السرة.
ومنه قول علي رضي الله عنه في يوم الجمل: (إلى الله أشكو عجري وبجري)، وهذه المرأة أيضاً تذم زوجها.(114/4)
قلة الوفاء في النساء
وعدد النساء اللواتي ذممن أزواجهن أكثر من عدد النساء اللواتي مدحن أزواجهن، وهذا مصداق لقول النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى النساء في يوم عيد، ووعظهن: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن فقلن: نكفر بالله؟ قال: لا.
تكفرن العشير -أي: الزوج- لو أحسن الرجل إليكن الدهر ثم رأيتن منه يوماً سوءاً لقلتن: ما رأينا منك خيراً قط).
فهذا خلق النساء، ولذلك فإن الوفاء في النساء قليل، والرجل إذا رزقه الله سبحانه وتعالى بزوجة وفية صالحة فإن هذا فعلاً هو متاع الدنيا؛ لأن الوفاء في النساء قليل، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام خرج مخرج العموم، وإن كان خطابه موجهاً لنساء الصحابة.(114/5)
خبر المرأة الثالثة
ثم قالت المرأة الثالثة: (زوجي العشنق)، العشنق: هو الطويل المغفل الذي بلا منفعة، والعلماء يقولون: إن العشنق رأسه صغير وقامته طويلة، وفيه تباعد ما بين الدماغ والقلب، فيمكن أن تنقطع الصلة بينهما فيبقى عنده عقل بلا قلب، أو قلب بلا عقل، تقول: (زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق)، فلا حيلة لها معه، وفي الرواية الأخرى: (وأنا معه على حد السنان المذلق)، أي: تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق في حياتها مع هذا الرجل، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها الفرصة لا لتتكلم، ولا لتسكت، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه سيطلقها، لكن هي تحبه، أو أنها تريد أن تعيش معه ليطعمها، فهي تسكت على سوء خلقه، ولو سكتت فإنه يعلقها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة.(114/6)
حاجة المرأة للرجل
ولسائل أن يسأل فيقول: إذاً ما هي الميزة في المعيشة مع هذا الرجل؟ والجواب أن نقول: إن المرأة تحسب ألف حساب لطلاقها، فلو عاشت للأكل والشرب فقط لكان هذا عندها ميزة، فالمرأة تصبر على هذه الحياة المرة لأجل أن تعيش في كنف الرجل.
وقد وجدت كثيراً من المشاكل من هذا القبيل، فقد كان أن بعض النساء يرسلن رقعاً مكتوبة، ويتكلمن مشافهة عن الكرب الذي تعيش فيه في بيت أبيها، وتريد أن تتزوج بأي إنسان؛ لأنه إذا كان هناك كرب على أي محور، فكرب تأكل وتشرب معه أفضل من الكرب مع الضيق، فهي مسألة موازنة، فالمرأة لم تطلب الطلاق من زوجها بالرغم من هذا الرفض لشأن هذا الرجل؛ بسبب أنها تحتاج إليه، والله عز وجل قد فطر المرأة على الاستئناس بالرجل، ويقولون في المثل: ظل رجل ولا ظل حائط.
وفي خبر هذه المرأة وصلنا إلى الحد الأدنى، وليس هناك أدنى من ذلك، فهذه المرأة تقول: إن زوجها طويل وليس فيه منفعة، ومع هذا الطول المفرط فهو سيء الخلق، لا تستطيع أن تشتكي منه، وإذا سكتت فإن النتيجة أنه يعلقها فيدعها لا هي متزوجة ولا هي مطلقة.(114/7)
خبر المرأة الرابعة
أما المرأة الرابعة فقد وصفت زوجها وصفاً جميلاً، وهي أول امرأة تصف زوجها بخير، تقول: (زوجي كليل تهامة)، ومعروف أن ليل تهامة من أفضل الأجواء (زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة)، أي: لطيف المعشر، وحسن العشرة، (لا حر): أخلاقه ليست شديدة، (ولا قُر): أي: ليس بارداً، (ولا مخافة ولا سآمة)، فالمرأة تأخذ راحتها في الحوار، فتتكلم معه ولا تسكت.(114/8)
الرفق بالنساء
وأردأ الرجال هو الرجل الذي لا تشعر المرأة بالأنس معه، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس لأزواجه ويستمع شكايتهن، ويحل المواقف العصيبة جداً بكل راحة واطمئنان، ولو تعلمنا من النبي عليه الصلاة والسلام صفة الزوج الصالح لانتهت مشاكل البيوت.
ففي الصحيحين عن عائشة قالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية، ففي يوم من الأيام أرسلت صفية رضي الله عنها إناء فيه طعام إلى بيت عائشة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ومعه ضيوف، فأخذت عائشة الإناء وكسرته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابة: غارت أمكم، ثم أخذ إناءها وأرسله إلى صفية، وقال: طعام بطعام وإناء بإناء)، فانتهت المشكلة، وحُلت بابتسام، وهكذا إذا عز أخوك فهُن، فإذا كانت المرأة متعصبة ومتصلبة فهُن، ولا يأخذ الرجل العناد والأنفة ويبادر بالطلاق، فيصرح به في وقت، ويكني في وقت آخر، كما لو كان الطلاق سيسحب منه، فيريد أن يستخدمه قبل أن يسحب منه.(114/9)
المرأة أسيرة عند زوجها
لابد أن يعلم الزوج أن المرأة أسيرة عنده، وهذا الوصف وصفها به النبي عليه الصلاة والسلام عندما أوصى بالنساء في آخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، فقد قال: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم)، عوان: يعني أسيرات، فحتى لو أن المرأة فرت منك فإنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك إلا إذا أعطيتها الإفراج، وإلا فستظل في سجنك مدة طويلة، وبعض المذاهب كالأحناف يقولون: تظل في سجنك مدى الحياة، والمالكية يقولون: القاضي يطلق إذا ثبت الضرر، لكن على أي حال هي في السجن، فعندما تكون المرأة مسجونة وأنت السجان، فلابد أن تقدر هذه العلاقة، وأن المرأة في النهاية لا تستطيع أن ترغم أنفك على شيء، فكن معها حليماً، وحاول أن تحل أصعب المواقف بالابتسامة وبالكلمة الطيبة.(114/10)
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع نسائه
إن من جوانب عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه تزوج تسع نسوة ومع ذلك فعل الذي فعل في حياته صلى الله عليه وسلم، والرجل منا لو تزوج مثلاً بامرأتين، وابتلاه الله عز وجل بإحداهن أو بهن معاً؛ فإنك تجده يكلم نفسه في الشارع، ويتمتم وهو يمشي، فيظن من يراه أنه يسبح ويقول: يا فلان أنت تسبح؟ فيقول: لا.
أنا أحسبل، أي: يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! مع أنهن امرأتان فقط.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان معه تسع نسوة، ومرت عليه مواقف صعبة تتعجب من تصرفه فيها! ففي الصحيحين من حديث عائشة -وعائشة رضي الله عنها كانت طرفاً دائماً في كل حادثة- تقول عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يتحرون بهداياهم ليلة عائشة)؛ لمعرفتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها ويقربها، فأنت إذا أحببت حبيبي فأنت حبيبي، فحبيب حبيبي حبيبي، وعدو حبيبي عدوي، هذه هي قاعدة الولاء والبراء، {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، فالصحابة كانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة، فتكون عند عائشة هدايا كثيرة، وكان بقية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يردن مثل هذا أيضاً، وأردن أن يقسمن هذه الهدايا بالتساوي، فأرسلن أحب الناس إليه، وهي فاطمة رضي الله عنها، قالت عائشة: (فجاءت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في لحافي، فدخلت، فلما رآها قال: أهلاً بابنتي، فجلست فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي بنيتي! أتحبينني؟ قالت: أجل، قال: فأحبي هذه)، ففهمت الجواب، وهو أنها لا تراجعه، وكان جميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعات في بيت إحداهن ومنتظرات النتيجة، فدخلت فاطمة رضي الله عنها وقالت: (والله لا أراجعه فيها أبداً)، فلم ييأسن وأرسلن أحب أزواجه إليه بعد عائشة، وهي زينب رضي الله عنها، تقول عائشة رضي الله عنها: (فجاءت زينب وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فتكلمت، وفي بعض الروايات تقول عائشة: وجدعت، أي: قالت كلام ثقيلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟ وهي بخبرتها وعشرتها معه تعرف إذا كان كارهاً أو غير كاره.(114/11)
مراعاة المرأة لمشاعر زوجها
فهذا درس للنساء يتعلمن منه، وينظرن إلى هذا الوفاء، فإذا كان هذا الفعل يعكر على الزوج فلا تفعله، فإن عائشة رضي الله عنه ما قامت ودافعت، إنما قالت: (فنظرت إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟)، فهذا درس تعلمه السيدة عائشة للنساء، أنها تراعي زوجها، فإذا كان زوجها يتعكر من صفة معينة، فلا يجوز أن تفعلها أبداً، وهذا هو مقتضى الوفاء والعشرة بالمعروف.
وهذه أسماء رضي الله عنها تقول كما رواه البخاري في صحيحه: (تزوجني الزبير بن العوام وما له في الأرض شيء، غير أرض أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم إياها على بعد ثلثي فرسخ من المدينة)، والزبير بن العوام كان شديداً، وكان متزوجاً بامرأتين، فإذا أراد أن يضربهما ربط ظفائرهما في بعض حتى لا تهربان، فكانت المرأة الأخرى تتقي الضرب بيديها، أما أسماء فما كانت تحسن ذلك، فكان يظهر أثر الضرب عليها وينتفخ وجهها، فتذهب وتشتكي الزبير، فيقول أبو بكر لها: (ارجعي يا ابنتي فإن الزبير رجل صالح).(114/12)
المرأة لآخر أزواجها
وقال لها: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرأة لآخر أزواجها)، أي أن المرأة إذا مات زوجها، وكانت تحبه، وهي تستطيع أن تعيش وحدها بلا زوج، فلا تتزوج؛ حتى تكون زوجة زوجها الذي تحبه ومات عنها؛ لأن المرأة لآخر أزواجها، حتى إن أم الدرداء الفقيهة عندما أرسل إليها معاوية بن أبي سفيان يريد أن يخطبها، ومعاوية كان أمير المؤمنين، فقالت له أم الدرداء: (يا معاوية! ما مثلك يرد، ولكني عاهدت أبا الدرداء عهداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة لآخر أزواجها)، فقال لها أبو الدرداء: (تعالي نتعاهد -وهو حي- ألا تتزوجي بعدي)، حتى تكون زوجته في الآخرة.
فكان أبو بكر يقول لـ أسماء: (يا بنيتي! إن الزبير رجل صالح)، فقسوة الزبير رضي الله عنه وشدته كانت معروفة عنه، حتى إنه ذات مرة كان جالساً مع عمر بن الخطاب يتكلمون، فقال الزبير: (أنا مؤمن الرضا كافر الغضب)، يعني: عندما أرضى أكون كالنسيم، وعندما أغضب أتغير كثيراً، فقال له عمر مداعباً: (أظنها لو آلت إليك -يعني الخلافة- لظللت يومك بالبرحاء تقاتل على مد من شعير)، أي: من الممكن أن تعلن حالة الطوارئ القصوى إذا أخذ أحد قليلاً من الشعير، فكان هذا معروفاً عن الزبير رضي الله عنه، وهو أحد العشرة الذين بشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة، وقال فيه: (لكل نبي حواري وحواريي الزبير بن العوام).
فتقول أسماء رضي الله عنها أنها كانت تذهب إلى هذه الأرض التي كانت على بعد ثلثي فرسخ، وتأتي بالنوى، وتدقه للفرس، وذات مرة وهي آتية من هذه الأرض تحمل النوى على رأسها، رآها النبي صلى الله عليه وسلم وكان يركب دابته ومعه نفر من أصحابه، قالت: (فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم البعير ودعاني للركوب خلفه، قالت: فاستحييت، وذكرت الزبير وغيرته، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنني استحييت مضى، فلما ذهبت إلى البيت ذكرت للزبير أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعاها للركوب خلفه، فذكرت غيرته فلم تركب، فقال لها الزبير: لمشيك أشد علي من ركوبك خلفه)، فمن شدة غيرته تراعي هذه المرأة الصالحة هذا الأمر عند زوجها، والزوج كما يقول بعض العلماء: مفتاح الجنة بالنسبة للمرأة، أو أحد مفاتيحها؛ للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أسماء بنت يزيد: (أي هذه! أذات بعل أنت؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في طاعته- قال: انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)، فحق الزوج عظيم جداً.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟ فلما علمت أنه لا يكره أن أنتصر، قمت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنها ابنة أبي بكر))، وانتهى الإشكال، بل لا إشكال أصلاً، فانظر إلى حلمه عليه الصلاة والسلام، وكل نشوزٍ أو جل النشوز في البيوت سببه الرجل؛ لأنه لا يقوم بحق القوامة، ولو قام بحق القوامة لقل أن تنشز المرأة، وأنا لا أقول هذا الكلام من كيسي؛ بل أقول هذا الكلام بالبحث الميداني، وقد رأيته بعيني، فلا تنشز المرأة إلا بعدما يهدر الرجل قوامته أو بعضها أو يتسامح فيها.(114/13)
قوة المرأة في ضعفها
فالمرأة ضعيفة وهي مجبولة على أن تأنس بالرجل، وقوتها في ضعفها، والذين أرادوا أن يحرروا المرأة أرادوا أن يحرروها من الزوج، وأرادوا أن تصير لها مواصفات الرجل، وهذا لا يمكن؛ إذ لا يمكن أن يعيش الرجل مع رجل في البيت أبداً، فالمرأة قوتها في ضعفها، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال لنا ذلك، فقد قال: (ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم منكن)، فلا يوجد أحد يستطيع أن يخدعك إلا المرأة، فقوتها في ضعفها.
وأهم شيء عند المرأة أن تشعر بالدفء، وأول ما تبدأ تشعر بالبرودة، تبدأ تكبت وتخون زوجها مثلاً بالمال، فتسرق زوجها؛ لأنه ليس له أمان، وتكذب؛ لأن الرجل لا يقبل اعتذاراً، فالرجل هو الذي يعلمها الكذب، وهذا هو الإرهاب، لكن المرأة إذا أعطيتها الدفء تأخذ منها كل شيء، وتكون امرأة صالحة.(114/14)
المرأة تحب الأمان عند زوجها
فهذه المرأة تقول: (زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر) أي: ليس ناراً على زيت حار، كلما يتكلم يتطاير الشر من عينيه، (ولاقر) أي: بارد ليس عنده إحساس أبداً، وقلما يتحرك، فهو لا هكذا ولا هكذا (ولا مخافة): أي: لا تخاف أنها تقول أي شيء بحضرته؛ لأنه يعذرها دائماً، كما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يفعلن، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: (إني لأعرف غضبك من رضاك مع أن رضاها أو سخطها لا يضره؛ بل رضاه وسخطه هو الذي يضرها أو ينفعها يقول: (إني لأعلم إن كنت عني راضية أو علي غضبى، فقالت: وكيف تعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كنت عني راضية تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم)، مع ان المعنى واحد.
ومثل هذا فعل ابن عمر، فقد كان له جارة عجوز، فكان يقول لها: (خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام)، فتبكي، مع أن خالق الكرام واللئام واحد وهو الله عز وجل.
فـ عائشة رضي الله عنها تعترف وتقول: (نعم والله ما أهجر إلا اسمك)، فتعترف وهي آمنة، طالما أنها لم تأت معصية لله عز وجل، فهي آمنة، حتى لو ساء خلقها مثلاً على زوجها، والمرأة تحب هذا الطراز من الرجال الذي تعيش آمنة في كنفه.(114/15)
خبر المرأة الخامسة
وقالت الخامسة: (زوجي إذا دخل فهِد، وإذا خرج أسد، ولا يسأل عما عهد).
اختلف شراح الحديث هل قولها هذا خرج مخرج الذم أم خرج مخرج المدح؟ لكن الظاهر أنه خرج مخرج المدح، فقولها: (زوجي إذا دخل فهد) يقولون: من طبع الفهد -وهو الحيوان المعروف- أنه كثير النوم، فهي تصفه بالغفلة، والرجل الذي يزيد ذكاؤه عن الحد، والذي يتتبع كل صغيرة وكبيرة، رجل متعب جداً، فلا بد من شيء من التغافل.
قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال: (الفطن المتغافل).
يعني: الذي يتجاهل بإرادته، وليس لازماً أن يُعرفها أنه يعرف، ولكنه يتجاهل بإرادته؛ لأن هذا يضيع حلاوة التغافل.(114/16)
من أخلاق الزوج الجيد المداراة
فلابد للرجل -وإن كان سيداً مطاعاً أو ملكاً متوجاً- أن يداري رعيته والمداراة من خلق المسلم الحاذق، وكم من مشاكل تحصل في البيوت بسبب أن الرجل لا يداري! مع أنه يمكن أن تمر هذه المشاكل بسلام لو أن الرجل تغافل قليلاً، وقد أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا التغافل فقال: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته ظل على عوجه، فاقبلوهن على عوج).
أي: أن المرأة فيها عوج، والمطلوب من الرجل أن يميل مع هذا العوج ولا يظل مستقيماً دائماً، وهذا معناه أن الرجل ينزل من مكان الرجولة إلى مستوى المرأة، والرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من مشى على الأرض بقدميه، وأعبد من عبد لله عز وجل، ما نقص من هذه المكانة العظيمة شيئاً لما قال للصحابة يوماً: (تقدموا، ثم قال لـ عائشة: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، قالت: فتركني حتى نسيت، وحملت اللحم -أي: صارت سمينة- وفي غزوة من الغزوات قال لهم: تقدموا، ثم قال لها: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: هذه بتلك)، فهذا الفعل ما نقص من قدره صلى الله عليه وسلم؛ بل زاد فيه.
فأنت إذا أردت أن ترفع مستوى المرأة حتى تصير مثلك؛ فكأنك تريد رجلاً آخر في البيت، وهذا لا يصلح؛ لأنك لا تستطيع أن تعيش مع رجل آخر، والمرأة لو كان فيها جدية وطبيعتها مثل الرجال فلن تستطيع أن تعيش معها أبداً، فاللازم أنك تكون على مستوى المرأة، وتنزل من مكان الرجل إلى مستوى المرأة، وهذا النزول اسمه: المداراة، فمثلاً: رجل من طبع امرأته أنها لا تكاد ترضى، بل دائماً تصفه بأنه لا يفهم، ولا يعرف شيئاً، والناس كلهم يخدعونه، فذهب واشترى حذاء مثلاً، والبائع أكرمه فعلاً.
فتسأله: بكم اشتريته؟ فيقول: بأربعين جنيهاً، فتقول: لقد خدعك لو كنت أنا الذي أشتريه لاشتريته بعشرين جنيهاً فقط، فتكدر على الرجل هذه الهدية، بدلاً من أن تقول له: الله يبارك فيك، الله يحفظك، الله يوسع عليك، ونحن دائماً نتعبك مع أنها لن تخسر شيئاً إذا قالت هذا الكلام.
والرجل إذا ذهب واشترى شيئاً وهو يعلم أن امرأته ستظل تقول له: لقد خدعوك، فإنه يتخلص ويقول لها: هذا هدية، وينهي الأمر بدلاً من أن يكدر حاله، فإذا كنت تعرف أن هذا الخلق موجود في المرأة، فلا داعي لأن تكدر الحياة؛ بل لا بد من المداراة؛ إذ هي خلق المسلم الحاذق، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يداري، وقد علمنا ذلك.
أما دليل المداراة: فهو حديث في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما دخل الرجل، ألا الرسول عليه الصلاة والسلام له الكلام، واستقبله استقبالاً حافلاً، وأخذ الرجل حاجته ومضى، وعائشة رضي الله عنها ترى وتسمع الموقف، فقد قال له أولاً: (بئس أخو العشيرة)، وهذا ذم له، والآن يلين له الكلام، ويفرش له العباءة، فقالت: (يا رسول الله! قلت ما قلت وفعلت ما فعلت!) فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يتقى لفحشه)، أي: الذي تحترمه لأنه قليل الأدب، وتحترمه لأن لسانه شديد، فهذا شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة.
فهذا الحديث أصل في المداراة، وهناك فرق واضح جداً بينها وبين النفاق.
فهذه المرأة تمدح زوجها وتقول: (إذا دخل فهد)، فوصفته بالغفلة؛ لأن الفهد موصوف بالغفلة وكثرة النوم.
ثم أردفت تقول: ولا تظنوا أنه مغفل في وسط الرجال؛ بل (إذا خرج أسد) أي: كالأسد، فوصفته بأنه يتغافل عما يكون في البيت، لكنه إذا خرج فهو رجل في وسط الرجال.(114/17)
عدم سؤال الرجل امرأته عن كل شيء
قالت: (ولا يسأل عما عهد)، فلا يأتي ويقول لها: أنا أعطيتك موزاً فأين ذهبتِ به؟ مثل ما يذكرون عن بعض البخلاء أنه كان كلما يحضر لحماً كان يعد اللحم، فيأتي فيلقى اللحم ناقصاً ثلاث قطع أو أربع.
فيسأل: أين باقي اللحم؟ فتقول له: أكلها القط، فيأتي بميزانه إذا خرج، فيزن اللحم، ويزن القط، وبعد ذلك يذهب لعمله ثم يأتي، فيجد ثلاث قطع قد ذهبت، فيحضر القط ويزنه فلا يجد شيئاً وهذا لا ينبغي؛ بل كن كريماً، فربما كانت المرأة مثلاً تعطي بعض الشيء لأهلها، أو تتصدق، أو نحو ذلك، فلا تحرجها؛ بل وسع عليها، فالمرأة هذه تقول: (ولا يسأل عما عهد).
وهذا من كرمه وإغضائه، إذاً: فهذه المرأة مدحت زوجها.(114/18)
خبر المرأة السادسة
وقالت السادسة: (زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث).
(إذا أكل لف): يلف: أي: يأكل من كل الأطباق، ولا يترك صنفاً إلا ويأكل منه، (وإذا شرب اشتف)، أي: يستمر يشرب حتى لا يبقي شيئاً، فهو نهوم، أكول، وهذا يدل على أن المرأة ماهرة، فما ترك شيئاً إلا أكل منه، ويشرب بنوع من النهم، وتكون النتيجة أنه عندما ينام يلتف لوحده، هذا هو الجزاء، ولا يشكر هذه المرأة التي طعامها جميل، وشرابها جميل، لدرجة أنه يأكل بشره، بل يكافئ المرأة بأنه إذا اضطجع التف، فهي تشتكيه.(114/19)
اللف في الأكل مخالف للسنة
ومسألة اللف مخالفة للسنة، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك)، والبخلاء يستغلون هذا الحديث أسوأ استغلال، فيضع الجبن أمام الضيف، ويضع الديك الرومي أمامه، ويقول: كل واحد يأكل مما يليه، هكذا السنة! ومما يحكون في قصص البخلاء: أن رجلاً دعا آخر وذبح له ديكاً رومياً، وصنع ملوخية، والضيف عادة لا يمد يده إلى اللحم في البداية، بل تجده يأكل وبطنه تمتلئ أرزاً وخبزاً وهو يقول للديك: هيت لك! لكن يمنعه حياؤه وخجله أن تقع يده أول ما تقع على الديك، فالرجل وضع الديك الرومي أمامه، والملوخية لها اسم (الشريفة) فقال له: كل من (الشريفة)، والضيف يريد أن يمد يده إلى اللحم، والبخيل يقول له: كل من (الشريفة)، فكاد الضيف أن يشبع، فمدَّ يده إلى الديك، والبخيل يقول له: كل من (الشريفة)، فقال له: اتركني مع قليل الأصل!(114/20)
من أدب الضيافة ألا تحوج الضيف إلى مد يده
فينبغي ألا تحوج الضيف إلى أن يمد يده، وهذا أدب نعلمه لربات البيوت، أدب تنظيم المائدة، وتنظيم الأكل، حتى لا تحوج الضيف إلى أن يمد يده؛ بل يوضع من كل الأصناف أمام كل الضيوف، حتى لا يحتاج أحد إلى أن يمد يده، فهذا أدب من آداب وضع الطعام.(114/21)
أهمية التخفيف عن المرأة بالكلمة الطيبة
هذه المرأة تقول: (زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث)، إيلاج الكف: أن يولج الرجل يده على امرأته ويربت على كتفها، والمرأة تحتاج بعد عناء اليوم الطويل إلى هذه الكلمة الطيبة، فهي طوال يومها في المطبخ، وتطعم الأولاد، وتنظف البيت، فهي تحتاج إلى كلمة طيبة، كأن يقول لها: لقد تعبتِ اليوم، جزاك الله خيراً، ويتكلم بهذا الكلام، واعلم أنك عندما تقول هذه الكلمات، لو أن المرأة نقلت جبلاً من مكان إلى مكان؛ فإنه يزول عنها الهم، ويزول عنها التعب.
فهي تحتاج إلى كلمة طيبة، وأنت كلما تدخل وتقول لها: جزاك الله خيراً، أنت تتعبين لأجلنا، وأنت أيضاً تتعب لأجلها، وهذه حقيقة معروفة، لكن أنت إذا اعترفت بجميلها اعترفت بجميلك، فأنت تؤدبها، وتعينها على أن تقدم لك الشكر.
فتقول: (لا يولج الكف) على عادة الأزواج المحبين، (ليعلم البث)، البث: قد يكون الحزن، وقد يكون الحب، كأنها تقول: هو لا يولج كفه إيلاج الرجل الحنون حتى يعلم شكواي؛ بل يعلم أنني أشتكي ومع ذلك كأنه في عالم آخر، غير منتبه لأي شيء.
وإذا حملنا البث على الحب، صار المعنى: أنه لا يولج الكف حتى أبثه النجوى، وحتى أحادثه.(114/22)
خبر المرأة السابعة
وقالت السابعة -وهذه ما تركت شيئاً في الرجل-: (زوجي عيايا غيايا طباقا)، (عيايا): من العي، (غيايا): من الغي، وهو الضلال البعيد، (طباقا): مقفل لا يتفاهم، (كل داء له داء): كل عيوب الدنيا فيه، كل داء تجده فيه.
(شجك) يجرح وجهها، (أو فلك) يكسر عظمها، (أو جمع كلاً لك)، أي: إما يشج رأسها فقط، وإما يكسر عظمها فقط، وإما يكسر عظمها ويشج رأسها، فهذا الرجل عنيد جداً.(114/23)
الاعتدال في ضرب النساء
إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح، والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقاً في كتاب الله في قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضرباً شديداً وأن يكون ضرباً خفيفاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضربوهن ضرباً غير مبرح)، أي: غير شديد، فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم؛ إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح.
وانظر إلى المثل العالي الذي ذكره الله عز وجل في كتابه المجيد عن أيوب عليه السلام امرأته الوفية التي ظلت ثمانية عشر عاماً تخدمه وهو في شدة البلاء، صدر منها شيء، فحلف أيوب عليه السلام أنه إذا عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة، مع أنها هذه المرأة الوفية وهي لا تستحق هذا الجلد، فقال الله عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، والضغث: هو مائة عود طري، مثل عود البرسيم، فيجمع مائة ويضربها بها ضربة واحدة، فيكون كأنه ضربها مائة ضربة؛ لأن هذه المرأة الوفية لا تستحق أن تجلد مائة جلدة، لكنه عليه السلام أقسم أن يضربها، وهو لا يحنث؛ بل لا بد أن يضرب، فقال الله عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} أي: مائة عود {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
فالضرب المطلق في كتاب الله عز وجل قيده النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، لما قال: (واضربوهن ضرباً غير مبرح).
وفي سنن أبي داود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ضرب النساء، فجاء عمر وقال: (يا رسول الله! زئرن النساء على أزاواجهن)، زئرن: أي: استأسدن، فعندما أمن النساء أنهن لن يضربن، استأسدن، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الضرب مرة أخرى، فما بقي أحد إلا ضرب زوجته، عوضوا عن المدة الماضية، فطاف ببيت النبي صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة، كلهن يشتكين أزواجهن، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكي زوجه، ليس أولئك بخياركم)، أي: ليس الذين يضربون هم خياركم، إنما يلجأ الإنسان إلى الضرب في وقته، ويكون ضرباً يسيراً، مثلاً بالسواك، ولكن تجد بعضهم يحمل نصف عرق خشب في جيبه ثخين وطويل، والذي يراه لا يعرف أن له مآرب أخرى، ويقول: هذا ضرب بالسواك!! فالإنسان لا مانع أن يضرب، لكن الضرب في كتاب الله عز وجل آخر مرحلة، وبعض الأزواج يبدءون بالضرب، وهذا خلاف تنفيذ تهديد المرأة الوارد في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: ((واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن))، وأنا أقول: لا يلجأ الرجل إلى الضرب إلا لأنه عجز عن الهجر، ولو هجر حقاً فلن يصل إلى الضرب، فإذا اضطر إلى الضرب يضرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب ضرباً غير مبرح.
تقول عائشة رضي الله عنها، كما في صحيح مسلم: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه لما كان في ليلتي التي هي لي، جاء ففتح الباب رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً، فما هو إلا ريثما أن وضع جنبه على الفراش رويداً رويداً، حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق).
(رويداً رويداً)، هذا من الأفعال التي تكرر في كل مرة، أي: بهدوء شديد، والرسول عليه الصلاة والسلام يظن أن عائشة نائمة، فكره أن يوقظها، وهذا من رأفته وحنانه عليه الصلاة والسلام، قالت: (فانطلق، فتصنعت إزاري وانطلقت وراءه -وكانت تظن أنه ذاهب إلى بعض نسائه- حتى ذهب إلى البقيع، فرفع يديه ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف فانحرفت -انحرف راجعاً- فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أي: فمشى الهوينا- فأحضرت، فسبقته، فأول ما دخلت البيت دخلت تحت اللحاف، فقال: مالك يا عائش؟! حشيا رابية)، هل هناك شيء؟ لأنه تركها مستريحة، وجاء وهي تتنهد من تعب المشي.(114/24)
تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه
فأول ما لقيها قال: (مالك يا عائش؟!)، وانظر إلى اللطف! يقول: يا عائش! وهذا هو الترخيم، والداعي له هو المحبة والمودة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما كانت عائشة تشتكي، كان يكون معها في غاية اللطف، حتى إنها لما حصلت حادثة الإفك، وهي حادثة قوية اتهمت عائشة رضي الله عنها في عرضها، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبرئها من عند نفسه، وكانت تتمنى أن يبرئها بكل قوة، لكن سكوته عن تبرئتها كأن فيه اتهاماً، ولو كانت بريئة فلماذا لا يبرئها؟ ففي هذه المحنة كانت تبكي، تقول: (بكيت ثلاثة أيام بلياليهن حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي)، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يلاطفها، ولا يخفف عنها، ولا يقول لها: أنت بريئة؛ بل كل الذي كان يفعله عليه الصلاة والسلام أن يدخل وهي مستكينة مكسورة، ويقول: (كيف تيكم؟).
تيكم: اسم إشارة للبعيد، فحتى هذه ليست إشارة للقريب، ويقف على طرف السرير قليلاً وبعد ذلك ينصرف تقول عائشة رضي الله عنها قبل أن تعلم بهذه الحكاية: (وكان يريبني أني لا أجد اللطف الذي كنت أجده منه حين أشتكي)؛ لأنها لما جاءت من هذه الغزوة -غزوة بني المصطلق- مرضت شهراً، وهي لا تعلم بحديث الإفك، وليس من عادته صلى الله عليه وسلم عندما تمرض أن يكتفي بأن يقول لها: (كيف تيكم؟)؛ بل تعودت أنه في حال مرضها يكون في غاية الحنان معها، فصار عندها إشكال، لكنها لا تعرف ما السبب.
فيقول لها في هذا الحديث: (مالك يا عائش؟! حشا رابية، فقالت له: لاشيء، فقال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله.
-ثم حكت له الحكاية- فقال لها: أنت السواد الذي كان أمامي؟ قالت: نعم.
قالت عائشة: فنهزني، -وفي الرواية الأخرى-: فلهزني في صدري لهزة أوجعتني -أي: ضربها بمجامع يده في صدرها- وقال لها: أظننت أن يحيف عليك الله ورسوله؟)، مع أن القسم لم يكن واجباً في حقه عليه الصلاة والسلام، أي: أن يبيت عند هذه ويترك تلك، بل هذا باختياره، ومع ذلك فقد كان يعدل؛ لأن هذا من تمام الإحسان، فقال: (إن جبريل أتاني فناداني، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فأجبته، فأخفيته منك وكرهت أن أوقظك فتستوحشي).
لأن عادة النساء لاسيما إذا كانت صغيرة السن الاستيحاش والخوف، وقد قال لي أحدهم مرة: وجدت امرأتي حابسة نفسها في الغرفة.
فسألتها: لماذا؟ فقالت: لأنه كان هناك صرصور يمشي في صالة البيت.
والمرأة لو رأت فأراً ربما أصيبت بسكتة قلبية؛ لأنها تخاف وتستوحش لاسيما إذا كانت وحدها وفي هذا الوقت من الليل، فمن رحمته عليه الصلاة والسلام أنه لم يوقظها، وظن أنها نائمة، قال عليه الصلاة والسلام: (فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم)، فـ عائشة رضي الله عنها الذكية -وهذا أدب يجب على النساء أن يتعلمنه- غيرت دفة الحوار، وغيرت الكلام؛ لأن بعض النساء عندما تقول لها: غيري الموضوع، تقول: بل لابد أن نكمل.
فقال: (إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.
قالت: يا رسول الله! وما أقول لهم إذا دخلت عليهم؟ قال: قولي السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) إلى آخر هذا الدعاء، وهو دعاء زيارة المقابر.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قلما كان يضرب، كما قالت عائشة: (ما ضرب بيده أحداً إلا أن تنتهك حرمات الله).
فهذا من المواضع القليلة التي ضرب عائشة وأوجعها فيه، لكن هذا ضرب غير مبرح.
فهذا الزوج المذكور كان إذا ضرب يشج الرأس، أو يكسر العظم، أو يشج الرأس ويكسر العظم (عيايا، غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك، أو فلك، أو جمع كلاً لك).(114/25)
خبر المرأة الثامنة
وقالت الثامنة: (زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب).
وهي تمدحه (مس أرنب) أي: ناعم البشرة، ناعم الملمس، كجلد الأرنب، رفيق رقيق، (والريح ريح زرنب)، الزرنب: نبات طيب الرائحة، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه، فينبغي على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة، ومن الأشياء المنفرة التي هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـ عائشة: (بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)، فأول ما يدخل البيت يستاك، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا، فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة.(114/26)
خبر المرأة التاسعة
وقالت التاسعة: (زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد)، وهي أيضاً تمدحه (رفيع العماد) أي: طويل، لكن هناك فرق بينه وبين العشنق، فهذا طويل وهذا طويل، لكن شتان بين طويل وطويل، فهذا رجل رفيع العماد، طويل، ذو هيئة حسنة، (طويل النجاد)، النجاد: هو جراب السيف، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلاً، وهذا أمر يمتدح به.(114/27)
فضل الكرم وذم البخل
(عظيم الرماد): إشارة إلى كرمه، أي: لكثرة ما يشوي للضيوف من اللحم ويطبخ لهم صار عنده رماد كثير، فهي تمدحه بالكرم، وهذه الصفة من الصفات التي كان يحرص العرب عليها كثيراً، والسخاء يغطي كل عيب، كما أن البخل لا يظهر حسنة، فالبخيل ليس له حسنة، والكريم ليس له عيب.
وهناك آيات في ذم البخل؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]، وفي القراءة المتواترة الأخرى: (ويأمرون الناس بالبَخَل)، والرسول عليه الصلاة والسلام تكلم في أحاديث شتى عن ذم البخلاء، وامتلأت الكتب بالإزراء على هؤلاء البخلاء، وصارت سيرتهم على كل لسان سيئة جداً، بخلاف الكرم، فمثلاً: حاتم الطائي، يضرب به المثل في الكرم، فيقولون مثلاً: هذا كرم حاتمي، هذا حاتم الطائي، وقد رأى ابنه مرة يضرب كلبة له، فقال له: (يا بني! لا تضربها، فإن لها علي يداً، إنها تدل الضيفان عليَّ)؛ لأن الضيف إما أن يرى النار أو يسمع نباح الكلب فيأتي.(114/28)
من نوادر البخلاء
وهذا بخلاف البخلاء يذكر أن رجلين كانا يمشيان، وكان هناك بخيل يسبح، فأشرف على الغرق، فنادى: أدركوني، فقال أحد الرجلين: هات يدك، فلم يعطها له، وكان الثاني أذكاهما، فقال له: خذ يدي، ولم يقل: هات يدك؛ لأن الإعطاء ليس مذهبه، حتى لو يؤدي به ذلك إلى الموت؛ لأنه غير معتاد على كلمة (هات) أبداً.
وهناك رجل آخر اسمه أبو نوح، وكان بخيلاً جداً، فاستضاف عنده رجلاً فاكتوى من شدة الجوع، فأنشد قائلاً: يجوع ضيف أبي نو ح بكرة وعشية أجاع بطني حتى وجدت طعم المنية وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية فقمت بالفأس كيما أدق منه شظية يريد أن يقطع لقمة، فلا يستطيع إلا بالفأس ثلم الفأس وانصاع مثل سهم الرمية أي: أن قطعة اللقمة التي خرجت، خرجت كأنها قذيفة.
فشج رأسي ثلاثاً ودق مني ثنية هذا كله عملته لقمة!! والثنية هي مقدم الأسنان، فهذا رغيف أدرك الجاهلية، أي: مخضرم!! فضيف أبي نوح أكله في الإسلام، فهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، من إنتاج شركة الحديد والصلب!! ومصنوع في أفران الحديد والصلب!! ورجل آخر يقول: دخلوا على رجل بخيل فتأخر عليهم فقال أحدهم: يا ذاهباً في بيته جائياً من غير ما فائدة جن أضيافك من جوعهم فاقرأ عليهم سورة المائدة وهناك نوادر كثيرة للبخلاء، تقرؤها مثلاً في البخلاء للجاحظ، أو البخلاء للخطيب البغدادي، أو البخلاء لـ ابن الجوزي، فالبخل عار وشنار على أهله.(114/29)
من أخبار الكرماء
يذكر عن رجل كريم اسمه معن بن زائدة، يضرب به المثل في الكرم، أن أحد الشعراء أراد أن يقابله، وكان معن بن زائدة في بستان، فأبى البواب على الشاعر أن يدخل، فنظر الشاعر فوجد جدول ماء يمر من تحت الجدار إلى داخل البستان، فكتب الشاعر بيت شعر ونقشه على خشبة ووضعه على الماء، فحمله الماء إلى معن بن زائدة الذي كان جالساً عند الماء، فوجد الخشبة طافية على الماء، فأخذها فقرأها، فأعجب بالبيت جداً، فطلب الرجل، فقال: أنت الذي كتبت هذا؟ قال: نعم.
قال: كيف قلت؟ فأنشد له البيت، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم كان من الغد فأرسل إليه، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم أرسل إليه في اليوم الثالث فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار.
وعندما أخذ الشاعر الأربعة ألف دينار الثالثة هرب، فقد ظن أن هذا الرجل مجنون، وأنه سيفيق فيأخذ المال، فهرب من البلد كلها، فأرسل إليه في اليوم الرابع، فقيل له: إنه ولى الأدبار، فقال: (والله لقد أساء الظن، أما والله لو بقي لأعطيته مالي كله مقابل هذا البيت).
فهناك أناس مطبوعون على الكرم، وعندهم سجية العطاء، لا يستريح إلا إذا أعطى، وقيمة الإنسان في العطاء وليست في الأخذ، وانظر إلى هذه الأبيات الجميلة التي تكتب بالذهب التي قالها أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان، يقول: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء أبيات في غاية الجمال، وفي غاية الرقة! يقول له: (أأذكر حاجتي) أي: هل أذكر أنني محتاج، أم يكفيني أنك تفهمها، (إذا أثنى عليك المرء يوماً)، يعني أول ما يقابله ويقول له: الله يحفظك، وجزاك الله خيراً، فعندما يقول له يعطي له المال، فلم يحوجه أن يريق ماء وجهه في السؤال يقول له: أنت تريد شيئاً، أو يقول: يا أخي! كن صريحاً، تريد كذا، ليس عندي مانع وهكذا.
فلا يحوجه إلى أن يريق ماء وجهه، فهذا الرجل أول ما يسمع الثناء فقط يعرف أنه رجل محتاج، فلا يحوجه إلى السؤال، فيقول له: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء وبهذا التخريج خرج الإمام الكبير العلم سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي، شيخ أحمد بن حنبل وشيخ الشافعي، حديث دعاء الكرب: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وما بينهما ورب العرش الكريم).
فهذا ثناء، وليس دعاء، فلماذا سموه دعاء الكرب؟ عندما قيل لـ سفيان بن عيينة: إن هذا ليس دعاء، بل هو ثناء، قال: نعم، وأنشد هذين البيتين، وقال: إذا كان هذا مخلوق وكفاه الثناء فكيف بالخالق عز وجل.
فعندما تقول: لا إله إلا اله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم هذا ثناء على الله، وإذا كان العبد فهمها وعرفها، فكيف بالخالق عز وجل.
تقول هذه المرأة: (رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد)، ومن الأدلة على كرمه: أنه (قريب البيت من الناد)، الناد: هو منتدى الجلوس، فليس بيته في آخر البلد لأجل أن يفر من الضيفان؛ بل بيته بجانب النادي، وأي أحد يقصده على مدار الوقت، ومثل هذا عندما يكون البيت أقرب بيت للمسجد، ونريد أن نشرب ماء، فأقرب بيت هو الذي نقول له: هات لنا الماء، فهو يعرض نفسه لأقرب مكان لمنتدى الناس، كأنما قيل لها: ما دليل كرمه؟ فقالت: لأنه (قريب البيت من الناد).(114/30)
خبر المرأة العاشرة
وقالت العاشرة: (زوجي مالك، وما مالك!)، أي: اسمه مالك، ثم قالت: (وما مالك!) أي: هل تعرفون شيئاً عن مالك؟ (مالك خير من ذلك)، مالك خير من كل ما يخطر ببالك، وهذا مدح عالٍ، (له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح)؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف، فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل؛ لئلا يأتي الضيف فلا يجد شيئاً يذبحه، (له إبل كثيرات المبارك) باركة باستمرار، (قليلات المسارح) قلما يسرحها، (إذا سمعن صوت المزهر)، وهي الإبل التي في الزريبة، إذا سمعن صوت المزهر، (أيقن أنهن هوالك)، يعرفن أن إحداهن ستذبح، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل، والرجل يحيي الضيوف، ويستقبلهم بالطبل البلدي، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه سينحر؛ لأنه قد حل ضيف.(114/31)
حرمة الغناء والموسيقى
والغريب: أن بعضهم استدل على جواز العزف على الموسيقى بهذا الحديث! ونحن فعلاً في زمان العجائب! ولو أن العلماء الذين قعدوا أصول الاستنباط، نظروا إلى عصرنا؛ لماتوا بالسكتة القلبية! إذ ليس في هذا دليل؛ لأن الحكاية هذه كلها حصلت في الجاهلية ولم تحصل في الإسلام، فهؤلاء ليسوا نسوة مسلمات، بل عائشة تحكي عن إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن، فهذا كان في الجاهلية.
ويجيب هؤلاء فيقولون: نحن لم نحتج على المشروعية بمجرد الفعل، بل بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام.
ويجاب: بأن المرأة التي تكلمت على زوجها بالسوء قد اغتابته، فهل نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت عن الغيبة ورضي بها؟ فنقول: على هذا تجوز الغيبة والنميمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع كلام النسوان -والنسوان كلمة عربية فصيحة- على أزواجهن وسكت؟! فهذا أراد أن يبني مسألة جزئية فهدم أصلاً، وليس في هذا دليل لا من قريب ولا من بعيد على حل الموسيقى، لاسيما إذا علمنا أن هناك دليلاً قائم على حرمة الموسيقى كلها، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر) الحر: هو الفرج، وهو كناية عن الزنى، (يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فهذا دليل من أدلة أخرى يحتج بها أهل السنة والجماعة على تحريم الموسيقى كلها، أما الذين أباحوا الموسيقى فإنهم إذا أجمعوا لا ينعقد الإجماع بهم، فكيف يخرقون الإجماع؟ فليس في هذا دليل أصلاً على حل الموسيقى، إنما هذا كان من فعل هذا الرجل في الجاهلية، وهؤلاء أناس لا ندري أكانوا على التوحيد أم لا؟! وهذا الرجل كان من إكرامه لأضيافه أنه يعزف على المزهر، وهي آلة مثل العود أو نحو ذلك، فإذا سمعت الإبل صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.(114/32)
خبر أم زرع
والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها.
قالت أم زرع: (زوجي أبو زرع فما أبو زرع!)، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع؟.
وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع.
تقول: (أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي).
هذا كله غزل، (أناس من حلي أذني): النوس يعني الاضطراب والحركة، ومنه الناس؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً.
ومنه الحديث الذي في البخاري، قال ابن عمر: (دخلت على حفصة ونوساتها تنطف)، النوسات: هي الظفائر، تنطف: يعني تقطر ماء، فقد كانت مغتسلة، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها.
(أناس من حلي أذني): أي: ألبسها ذهباً في آذانها، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن.
(وملأ من شحم عضدي): بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء الأحمران: الذهب والحرير، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب، (وملأ من شحم عضدي)، تريد أن تقول: إنه كريم يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت.
(وبجحني فبجحت إلي نفسي)، يقول لها: يا سيدة الجميع! يا جميلة! يا جوهرة! حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها، (فبجحت إلى نفسي): أي: فصدقته، مع أنها قالت: (وجدني في أهل غنيمة بشق)، يعني: شق جبل، أي أنها كانت تعيش في حارة بشق، وفي بعض الروايات الأخرى (بشق): يعني كانت تعيش بشق الأنفس، فقيرة فقراً مدقعاً تقول: (وجدني في أهل غنيمة)، غنيمة: تصغير غنم، أي أن حالتهم كانت كلها كرب، حتى الغنم صار غنيمة، دلالة على حقارة المال.
قالت: (وجدني في أهل غنيمة بشق)، فنقلها نقلة عظيمة، (فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق)، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة بشق، نقلها إلى (أهل صهيل): أصحاب خيل، (وأطيط): أصحاب إبل؛ لأن الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة: أط أط أط، خلال مشيه، فهذا يسمى أطيطاً، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند العرب، (ودائس) أي: ما يداس، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون، فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب، فهو كناية عن أنهم أهل زرع.
(ومنق): المنق: هو المنخل، فالعرب ما كانوا يعرفون المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه)، فقال عروة: (فكيف كنتم تأكلون يا خالة؟ فقالت: كنا نذريه في الهواء)، فالتبن يطير في الهواء، والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة: (مات ولم يشبع من خبز الشعير)، ليس من خبز القمح، فإن القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول: وما أكل خبزاً مرققاً).
فكلمة (منق) فيها دلالة على الترف، فعندهم من كل المال، فهم أغنياء، عندهم خيل وإبل وزرع، وعندما يأكلون عندهم منخل؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة، فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين.
(فعنده أقول فلا أقبح) تقول: مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي: قبحك الله فقد كان عزها من عز الرجل ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة.
(وأرقد فأتصبح): تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام؛ إذ لو كانت تعمل بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر، وهذا كسائر نسائنا؛ لأنه بعد صلاة الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس، وتريد أن تصنع الطعام لهم، والرجل سيخرج إلى العمل، فتعمل باستمرار، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها المؤنة.
(وأشرب فأتقمح): وفي رواية البخاري: (فأتقنح)، بالنون، وهناك فرق بين اللفظين، أما لفظ (فأتقمح) فإنه يقال: بعير قامح، أي إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما (أتقنح) أي: تشرب وتأكل تغصباً، فتأكل حتى تشبع، فيقال لها: كلي، فتتغصب الزيادة، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب.
فقولها: فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.(114/33)
وصف أم أبي زرع
ثم قالت: (أم أبي زرع فما أم أبي زرع!) وهي عمتها، فلم تذكر عنها شيئاً من الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك، بل قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع هل تعلمون شيئاً عنها؟ هذه السيدة الفاضلة، وهذا على القاعدة: حبيب حبيبي حبيبي، فالمرأة عندما تحب زوجها، تدين لأمه بالفضل أنها أنجبته، وهذه منة في عنق الزوجة للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان.
(عكومها رداح) الرداح: هو الواسع، يردح: أي: يطيل في الكلام، ويتوسع في المقالة، والعكوم: هي الأكياس التي تخزن فيها الأطعمة، فمثلاً: عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير، بل تخزنه في كيس قطن، فقولها: (عكومها رداح) فيه دلالة على أن البيت كله خير، وبيتها فسيح، ومن المعروف أن اتساع البيت أحد النعم.(114/34)
وصف ابن أبي زرع
ثم قالت: (ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع!) يفهم من هذا أن أبا زرع كان متزوجاً، قبل ذلك (ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة)، مسل الشطبة: عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها سلخة للسكين، السلخة هذه هي السرير الخاص به، فهذا الولد نحيف، لكن عضلاته مفتولة، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح عند العرب؛ لأن هذا ينفع في الكر والفر، فهذا مدح تمدح به الولد، تقول: إنه مفتول العضلات وليس بديناً، ولا صاحب كرش عظيم؛ بل سريره كمسل شطبة، فتستدل على جسمه بسريره الذي ينام عليه، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً.
(ويشبعه جراع الجفرة): الجفرة: هي أنثى الماعز الصغيرة، فلو أكل الرجل الأمامية للشاة فإنه يشبع، مع أن هذه لا تكفي الواحد، ومع ذلك فإن هذا الولد يشبع إذا أكل ذراع الجفرة، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال، بخلاف النساء.(114/35)
وصف بنت أبي زرع
ولما جاءت تصف بنت أبي زرع قالت: (بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع!، طوع أبيها وطوع أمها)، أي: مؤدبة، (وملء كسائها) مالئة ملابسها، وهذا مستمدح في النساء بخلاف الرجال، (وغيظ جارتها): الجارة هي الضرة، فقد كان زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر (فغيظ جارتها) أي: من جمالها، وأنها ملء كسائها، وبذلك تغيظ جارتها.(114/36)
تسمية الزوجة الثانية (جارة)
وهنا تعبير لطيف عن المرأة الأخرى، فلم تقل: وغيظ ضرتها، بل لفظ الجارة لفظ أجمل، وقد كان محمد بن سيرين يقول: (إنها ليست بضرة، ولا تضر ولا تنفع)، وكان يكره أن تسمى المرأة الثانية بالضُرة، إنما يقول: جارة، وهذا الأدب استخدمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث ابن عباس الطويل في البخاري ومسلم، يقول ابن عباس: (في أوله يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال: واعجباً لك يـ ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة)، وساق حديثاً طويلاً، وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فراجعتني امرأتي ذات يوم فصخبت عليّ، وفي رواية خارج البخاري قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، فقالت: أوفي هذا أنت يـ ابن الخطاب! لم تنكر علي أن أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح؟!).
إذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الذين هن القدوة يهجرنه من الليل حتى الصبح، أفتنكر عليَّ أنني أكلمك وأراجعك؟! فقال: (أوتفعل حفصة ذلك؟) لم يقل: أوتفعل عائشة؟، أوتفعل أم سلمة؟ لأن الأب يسأل أولاً عن ابنته، ثم قال: (خابت وخسرت)، وذهب إلى حفصة فقال لها -من ضمن الكلام-: (لا يغرنك أن كانت جارتك -التي هي عائشة - أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني لا تقلديها؛ لأنها لها دلال، وهو يحترمها، فيمكن أن يسامحها، فأنت تحاولين أن تقلديها وليس لك عنده ما لـ عائشة، فيجب أن تعرفي قدرك ولا تقلدي عائشة، فقال: (لا يغرنك أن كانت جارتك)، ولم يقل: ضرتك؛ لأنه حتى لفظ الضرة لفظ قبيح؛ لأنه مشتق من الضر، بخلاف الجار، فإنه مشتق من الجوار، والجوار له حرمه، ونحو ذلك.(114/37)
وصف جارية أم زرع
قالت: (جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع!)، والمرأة من حبها للرجل تذكر كل شيء حتى الجارية، قالت: (لا تبث حديثنا تبثيثاً)، فأي شيء يحصل في البيت لا يعرف به أحد من الخارج، فهي أمينة لا تنقل الكلام، (ولا تنقث ميرتنا تنقيثاًَ)، أي: لا تبذر في الطعام، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى على الأرض، فهي امرأة مدبرة، تخاف على المال، (ولا تملأ بيتنا تعشيشاً) أي: البيت ليس فيه زبالة، كعش الطائر، فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش وقش وحطب، فتقول: بيتنا ليس كعش الطائر، إنما هو بيت نظيف.
وفي بعض الروايات خارج الصحيحين: (وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع)، فالكلام هذا كله غزل، والغزل هنا مستحب، ولا أقول: غزل عفيف، إنما هذا غزل مستحب؛ إذ هي تتغزل في زوجها، وتعدد فضائل زوجها، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام المرأة.
قالت: (فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض)، كان الوقت ربيعاً، واللبن كثير، والناس يحلبون لبنهم، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع (، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين)، معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة، (يلعبان من تحت خصرها برمانتين)، فأعجبه هذا المنظر، فقال: هذه المرأة لابد أن أضمها إلي، فضمها إليه، لكن ما الذي حصل؟ قالت: (فطلقني ونكحها)، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة، رجل يحب التوحيد!!(114/38)
الزوج الثاني بعد أبي زرع
قالت: (فنكحت بعده رجلاً ثرياً)، من ثراة الناس وأشرافهم، (ركب سرياً)، السري: نوع جيد من أنواع الخيل، كان الأغنياء يركبونه؛ لأنه كان مفخرة عندهم، وحتى تكتمل صورة الأبهة قالت: (وأخذ خطياً)، الخطّي: هو الرمح، فهو واضع تحت إبطه رمحاً وراكب على الخيل، متعجرفاً ومهيباً.(114/39)
انتقال صفات المركوب للراكب
والذي يركب الخيل ويدمن ركوبها، تنتقل صفات الخيل إليه، ومن تلك الصفات: الكبر، وقد ورد هذا في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالغنم تنزل رأسها، وتمشي في طريقها، فكل واحد يأخذ من صفات ما يعايشه من الحيوان، فهذا المنظر التعيس البريء الحزين -منظر الغنم- إذا ظلَّ طوال عمره فيه، فلابد أنه سيأخذ بعض هذه الصفات في الانكسار، والثاني الراكب على خيل، والخيل يقفز ويتراقص به وما إلى ذلك، فينتقل إليه هذا الشعور.
وقد حدثني بعض الإخوان من الذين كانوا يركبون دائماً أحدث السيارات، حتى من الله عليه بالالتزام، أن الذي يركب سيارة فارهة يحس أنه انتقل إليه ثمن السيارة، فيتعامل مع الناس بثمن السيارة.(114/40)
بدعة تسمية السيارات باسم الجالب لها ونحوه
ونحن عندنا في مصر بدعة قبيحة، هذه البدعة: أن تسمى السيارة باسم الذي جلبها وركبها، فمثلاً: ماركة المرسيدس، يقولون: هذا راكب بودرة، والألمان الذين يصنعون السيارة لا يعرفون التمساح والخنزير والضفدع والتسميات التي عندنا، بل كل هذا عندنا فقط، ولا تجده حتى في الدول العربية، فيسمونها البودرة؛ لأنه ما كان يركبها إلا تجار الهيروين؛ لغلو ثمنها الفاحش، وكذلك أيضاً يسمون بعض السيارات: الشبح، تيمناً بالطائرة الشبح التي ظهرت في حرب الخليج، التي كان يقول عنها المحللون العسكريون الذين عقولهم منضبطة: إن الطيارة الشبح يمكن أن يرى الطيار منها ماركة الثياب التي تلبسها!! وغير مستبعد أن يقولوا: إنه يمكن أن يأخذها وهو مار ويقرأ الماركة ثم يرجعها ثانية!! ومن العجب أن تجد من يصدق هذا الكلام، ويقول: هذه الطائرة الشبح وأنت جالس تجدها عندك!! وممكن أن الطيار يضرب القذيفة وينزل يتغدى ثم يأتي صوتها وراءه!! فسموا السيارة الجديدة السريعة هذه بالشبح، وكذلك السيارة المسطحة المدرعة اسمها: الفاجرة؛ لأن التي أدخلتها راقصة.
والسيارات التي بهذا الثمن الباهظ تصل قيمتها إلى مليون وسبعمائة ألف ولو صدمت في شجرة لانتهى المليون والسبعمائة ألف، فالذي يركب السيارة هذه وهو يكلمك ويشعر أنه يلبس المال عندما يتكلم معك.
يقول لي صاحب هذه السيارة: لما كنت أنزل من السيارة لأحضر موزاً من الفاكهي، كنت أشعر أن صدري ينتفخ مني لوحده، وأقفل الباب بقرصنة، يقول: كنت أحس هكذا، وهذا الإحساس عندي شعرت به زماناً طويلاً، وهذا مثل ركوب الخيل تماماً.
وهناك دراسة لعلماء الأغذية، يقولون: إن الإنسان تنتقل إليه صفات المركوب الذي يركبه، وفي هذا البحث يقول الدكتور الزراعي: إن هذا حتى في الأكل، فلو أن الإنسان أدمن أكل لحم معين، فإنه ينتقل إليه بعض صفات المأكول، فمثلاً: لو داوم شخص على أكل لحم الضأن، فيمكن أن ينطح بمقتضى هذه الدراسة!! فهي تقول: (ركب سرياً) والسري: هو الخيل النفيس، (وأخذ خطياً) أي: وضع الرمح، وإنما سمي الرمح خطاً لأن هناك بلداً في البحرين كان اسمها الخط، وكانت الرماح تأتي من الهند إلى هذه البلد في البحرين وتوزع على سائر بلاد العرب، فنسب الرمح إلى هذا البلد.(114/41)
وفاء أم زرع لأبي زرع
تقول: (وأراح علي نعماً ثرياً)، أي: أعطاها مالاً وفيراً، (وأعطاني من كل رائحة زوجاً)، وفي رواية: (وأعطاني من كل ذابحة -أي: ما يصلح أن يذبح- زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك)، أي: وأعطي أهلك أيضاً، فهذا الرجل ليس فيه أي عيب، إلا أن المرأة تقول: (فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع).
فانظر إلى هذا الوفاء! مع أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر في حقها، بل قال لها: (كلي أم زرع وميري أهلك)، أنفقي على أهلك، لكنها تقول: (فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع).
فما هو الفرق بين هذا الرجل وبين أبي زرع؟ الفرق: هو الحنان، والحب، هذا هو الفرق، فلم تشعر المرأة مع الرجل الثاني بهذا الحنان والحب الذي شعرت به لما كانت زوجة لـ أبي زرع.
لذلك فأنت لا تستطيع أن تشتري قلب المرأة بالمال أبداً، حتى لو كان عندك من الإبرة إلى الصاروخ في البيت، وكل الناس تتطلع إليك، ولا ينقصك شيء، فإن المرأة ينقصها قلبك، وهي لا تريد شيئاً غير ذلك، بل الكلمة الطيبة هي التي يعتد بها عندها، فلو أتى الرجل لأهله بكل غال ونفيس، وبطعام جيد الكل يتمناه، ودخل وهو يتكلم بقسوة، وفتح الباب، وقال: كلوا وانفجروا عسى أن ينفع هذا فيكم! فصرف خمسمائة جنيه في اللحم والفاكهة وما إلى ذلك، ثم قال هذه الكلمات، فستذهب هذه الأموال سدى دون أن يكون لها قيمة من أجل هذه الكلمات.
إنما لو دخلت بطعام متواضع، وقلت مثلاً: والله لو استطعت أن أحضر لبن العصفور لما تأخرت، وأنتم تستحقون أكثر من هذا، لكن هذا جهد المقل، والحمد لله، أنتم صابرون علي، وربنا يعوضنا الجنة إذا قلت هذا الكلام ودخلت خالي اليدين كان هذا كافياً؛ لأن المرأة تريد دفء الحنان والحب، وهذا هو الفرق بين الرجل الأول والرجل الثاني.(114/42)
فائدة نكاح الأبكار
أضف إلى ذلك: أن الرجل الأول كان أول رجل في حياة المرأة، وهذا له تأثير وفرق كبير عند المرأة، فلو تزوجت رجلاً لأول مرة وأحبته، فإن حبه منقوش على الصخر، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بزواج الأبكار، فقال: (تزوجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير).
وعندما رجع جابر بن عبد الله الأنصاري من غزوة مسرعاً، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أعجلك يا جابر؟ قال: يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس، قال بمن تزوجت؟ قال: قلت: بأيم كانت في المدينة -أي: امرأة مات زوجها- قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك)، وفي رواية للطبراني: (وتعضها وتعضك)، وهي رواية ضعيفة، وأقول: ضعيفة لأن لها مفاسد، فلا يعتد بها، والرواية الصحيحة: (فتلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك، فقال: يا رسول الله! إن عبد الله) يعني أباه، وعبد الله بن حرام رضي الله عنه مات يوم أحد في أول من قتل، وفي ليلة أُحد عبد الله نادى ابنه جابراً وقال: (يا بني! إنني أرى أنني سأقتل في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوص بأخواتك خيراً)، فقد كان هو الولد الوحيد، وعنده تسع بنات، وفعلاً أول ما دارت رحى الحرب كان أول من قتل هو عبد الله بن حرام رضي الله عنه، صدق الله فصدقه، فقال: يا رسول الله! (إن عبد الله ترك تسع نسوة خرق -يعني عقولهن صغيرة لأنهن بنات- فكرهت أن آتيهن بخرقاء مثلهن، فقلت: هذه أجمع لأمري وأرشد).
فهذه امرأة زوجها مات، وصارت امرأة عاقلة، وتعودت على تربية الولد، ستكون بمثابة الأم لهؤلاء البنات.
فالمهم الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (أصبت ورشدت).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(114/43)
أيها العاصي أقبل!
ليس من العيب أن يذنب العبد، ثم يعترف بذنبه ويتوب إلى الله؛ ولكن العيب أن يتمادى الإنسان في معصيته ويصر على مقارفتها، ثم بعد ذلك يسوف في التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولعل الموت يباغته وهو على هذه الحال؛ فهذه دعوة لكل عاصٍ أن يقبل إلى ربه، ودعوة لكل مخطئ أن يقصد خالقه فهلم إلى رب يفرح بتوبتك هلم إلى رب وسعت رحمته كل شيء هلم إلى رب قبل توبة عبد قتل مائة نفس!! فلا إله إلا الله ما أرحمه بعباده!(115/1)
حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً وفوائده
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
درسنا هذا المساء هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل فيمن كان قبلكم قتل تسعاً وتسعين نفساً، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض.
فدلوه على راهب، فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً ألي توبة؟ فقال له: لا، فقتله.
ثم أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب عالم، فقال: إني قتلت مائة نفس ألي توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، فناء الرجل بصدره إلى الأرض التي أمر بها، فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله تبارك وتعالى إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها.
ثم أمر الله تبارك وتعالى الأرض فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي، فقاسوا المسافة بين الأرضين، فوجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبرٍ واحد؛ فغفر له فدخل الجنة).(115/2)
من الأمور المعينة على التوبة هجر أرض السوء وأهلها
هذا الراهب العالم زاد هذا الرجل زيادة لابد منها حتى تتم توبته (قال: نعم) وبهذا تم الجواب، ثم قال له: (ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا) إذاً لابد لهذا القاتل من الخروج من أرض السوء وإلا سيعود إلى الإجرام مرة أخرى؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وإذا علم أن رجلاً يقتل مائة نفس في أرض لا يوجد فيها من يأخذ على يديه ويقول له: اتق الله! دل على أنه لا خير في هذه الأرض أبداً، بل لما تجبر هذا الرجل قطعاً وجد جماعة ممن يخافون منه يزينون له معصية القتل، وربما أنه يخشى منهم، فلابد أن يسيغ لنفسه القتل حتى يأمن من شرهم، وربما إذا رجع وتاب عيروه بالجبن والخور والخوف، فيمكن أن يعود مع وجود هذه البطانة السيئة، فلابد أن يخرج من هذه الأرض، حتى وإن حن إليها، لاسيما الأرض التي شهدت ملاعب صباه وعاش فيها، فإنه يحن دائماً.
ولذلك كان جواب العلماء عن دواء العشق -وهو الرجل الذي ابتلي بعشق المرأة- فقالوا: (أن يفارق الأرض التي بها المرأة) لماذا؟ لأنه كلما رأى شيئاً ذكره بها، وما أبيات مجنون ليلى عنا ببعيد الذي قال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار وهو ماش كان يقبل جدران المدينة كلها لماذا؟ لأن ليلى كانت ساكنة في هذه القرية، فمثل هذا يجب أن يخرج.
وأذكر قصة وقعت: أن رجلاً تزوج على امرأته امرأة أخرى وأدخلها بيتاً بجانب بيت المرأة الأولى، وكان لكل امرأة منهن جارية، فخرجت جارية المرأة الجديدة في الصباح فوجدت جارية المرأة الأولى جالسة على الباب فقالت لها: وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت فأجابتها جارية المرأة الأولى إجابة مفحمة جداً وممتازة، قالت لها: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وهذا حق، الإنسان يذهب إلى جميع بلاد العالم ويعيش في كل بلد عشرين سنة أو عشر سنين أو خمس سنين، ولا يشعر بحنينٍ إلا إلى المكان الأول الذي شهد ملاعب صباه، وقضى فيه أفضل فترات عمره الأولى، فالإنسان كثير الحنين إلى الأماكن التي قضى فيها معظم عمره.
فهذا الرجل إن ظل في هذه الأرض فقد يجره هؤلاء القوم إلى الإجرام مرة أخرى؛ فكان من الأفضل له أن يفارق هذه الأرض، ولذلك قال له ذلك الراهب العالم: (اخرج من أرضك أرض السوء)، إذ ليس فيها رجل يأخذ على يده؛ فهي أرض سوء حقاً (اخرج من أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً صالحين فاعبد الله معهم) وهذه هي بركة معاشرة الصالحين ومخالطتهم أن الإنسان لا يستطيع أن يتظاهر بالمنكر بينهم أبداً حتى ولو كان سيئاً لماذا؟ لحرمة الدين وكثرة الصالحين، وفي بعض طرق الحديث: أن القرية التي كان فيها هذا الرجل القاتل اسمها: (كفرة)، والقرية التي أمره العالم أن يخرج إليها كان اسمها (نصرة)، والحقيقة أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة قوية جداً، وما من رجل يراعي مثل هذه المسألة إلا ويجد تناسقاً عجيباً بين الاسم والمسمى، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يدل أمته على اختيار أفضل الأسماء؛ لوجود علاقة بين الاسم والمسمى، لذلك يقول: (لا تسمين غلامك رباحاً ولا نجاحاً ولا يساراً ولا فلاحاً - لماذا؟ - قال: حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قالوا: لا) فيحصل نوع من النفرة في القلوب يأتي يسأل: يسار هنا؟ فيجيب: لا يوجد يسار، وكأنه نفى اليسار عن البيت، وكذلك الفلاح والنجاح، ويجري هذا المجرى تسمية (إسلام) فيقال: إسلام هنا؟ فيجيب لا يوجد إسلام، فهذه أيضاً تقرع القلب لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر وبينما هو يمشي مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه قابل بريدة بن الحصيب فقال له: (ما اسمك؟ قال: بريدة؟ فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح) فهناك تناسق بين الاسم والمسمى، فانظر هذه: (كفرة) فعلاً ظلمة كلها، رجل يقتل فيها مائة نفس ولا يجد من يأخذ على يديه، والثانية اسمها (نصرة) فالأرض قد توصف بأنها سيئة ثم توصف بأنها طيبة، كما حدث في مكة كانت دار كفر ثم آمن أهلها فصارت دار إسلام.
ولذلك وصفها فقال: (أرض سوء) على اعتبار أنه لا يوجد فيها رجل واحد صالح، فهذه الأرض إن تبدلت وصار كل الذين فيها من أهل الصلاح إذاًَ الاسم يتبدل، الأرض لا تقدس نفسها إنما يقدس الأرض أهلها الصالحون.(115/3)
وجوب التوبة الفورية وعدم التسويف
قال: (فناء الرجل بصدره إلى الأرض التي أمُره أن يخرج إليها) فيه دلالة على أن الرجل بادر مباشرة إلى الخروج، وهذا يدل على وجوب التوبة الفورية، لا يحل لمسلم أن يسوف في التوبة، إن العبد يجب أن يتوب من الذنب على الفور لا على التراخي.
ونحن نعلم أن من أخطر ما يصيب المسلم فيما يتعلق بهذا الباب تسويف التوبة يقول: سوف سوف لعله لا يدرك أمنيته، وذلك من أعظم الأبواب التي يدخل الشيطان إلى بني آدم منها -مسألة الأماني- كما قال إبليس عليه لعنة الله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء:119] وذكر ابن الجوزي في كتاب: أخبار الحمقى والمغفلين، قال: هبت ريح عاصف على قوم؛ فجأروا إلى الله، فقال رجل: يا قوم! لا تعجلوا بالتوبة إنما هي زوبعة وتسكن فهذا رجل فعلاً يمنيهم كما وصفه ابن الجوزي.
فيجب على الإنسان أن يتوب فوراً، ولا يطيل الأمل، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رسم على الأرض مربعاً، ثم رسم خطاً طويلاً وسط المربع حتى خرج منه ثم قال: (هذا أجل ابن آدم -الذي هو المربع- محيط به وأشار إلى الخط الطويل وقال: هذا أمله) أمله يتجاوز أجله كثيراً جداً، وهو الرجل الذي يقول لك: إن شاء الله بعد عشر سنين أحقق أرباح كذا وهو سيموت الليلة، فقضي أمره وهو مازال يخطط لأعوام طويلة، ولذلك يجب على الإنسان أن يبيت وهو تائب من المعاصي، ولا يجوز له أن يبيت وهو مسوف.
فهذا الرجل كان من الأشياء الحسنة التي بادر إليها أنه ناء بصدره مجرد ما سمع الفتوى: (فناء بصدره إلى الأرض التي أمر بها).
هذا الرجل ما فعل شيئاً من الصالحات بعد! نقول: (إن مجرد عقد القلب عمل) انعقد القلب على التوبة، ثم بادرت الجوارح بتنفيذ هذا العقد، فلذلك تاب الله تبارك وتعالى على هذا الرجل لانعقاد قلبه وفعل جوارحه.
وليس من اللازم أنه يدرك ويفعل الصالحات، فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه قال: (إني لأعلم رجلاً دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة)، وهذا الرجل تركوه كافراً في المدينة، ثم أدركته عناية الله تبارك وتعالى فأسلم، فمضى على أثر الجيش، فذهب فقاتل حتى قتل، فهذا الرجل ما تسنى له أن يرجع حتى يصلي أو يزكي أو يفعل شيئاً من الخيرات، قال: (إني لأعلم رجلاً دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة)!!.
فهذا الرجل بادر وناء بصدره إلى الأرض التي أمره العالم أن يخرج إليها.(115/4)
رحمة الله وسعت كل شيء
(فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة يقولون: خرج إلى ربه تائباً، وملائكة العذاب يقولون: قتل مائة نفس، فأرسل الله إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها) ولما كان الرجل أقرب يقيناً إلى أرض العذاب: (أمر الله الأرض -أن تطوى من تحته- (فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي.
فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة).
إذاً: أي إنسان عاص مهما بلغت ذنوبه، إذا علم أن رحمة الله تبارك وتعالى شملت مثل هذا العاصي فهو أقرب منه، لا تستعظم ذنبك أبداً، واعلم أن من صفات الله تبارك وتعالى (الغفور الودود) وتأمل في هذه الصفة (ودود) أي: كثير الود، مع أنه غني عن العبد؛ ولكنه يتودد إليه ويفرح بتوبته، كما قال صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين والسياق لمسلم-: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة معه راحلته وعليها طعامه وشرابه) يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام المثل بفرحة الله تبارك وتعالى إذا تاب العبد ورجع إلى ربه كيف تكون فرحة الله بتوبة العبد، مع غنائه التام عن العبيد جميعاً فقال: مثل فرحة الله تبارك وتعالى بالعبد العاصي كمثل رجل معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه (فوجد شجرة فاستظل بها فنام، فلما استيقظ لم يجد راحلته، ولم يجد طعامه وشرابه -ومعروف أن الإنسان إذا تاه في الصحراء مات إذا لم يكن عالماً بدروبها- بحث عن راحلته فلما يئس منها وعلم أنه هالك قال: أرجع إلى مكاني وأموت فيه، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك! قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح) فانظر هذا الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح لما وجد راحلته -فلله المثل الأعلى- فالله تبارك وتعالى يفرح بعودة العاصي إليه كفرح هذا الرجل براحلته لما وجدها.
فكيف وربك تبارك وتعالى يتودد إليك بمثل هذه النعم، وبمثل هذه الرحمة وهو غني! أفلا تبادر وأنت أحوج إليه؟! كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل: (يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فإذا كنا نعلم أن معصية العبد إنما تضره ولا تضر ربه تبارك وتعالى، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى يفتح له الباب بمثل هذا الفتح فكيف لا يسارع إلى ربه تبارك وتعالى؟! فهذه فرصة يا إخواننا! أيها العاصي أقبل! مهما أسرفت فإن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] حتى الشرك يغفره تبارك وتعالى إذا رجع العبد إلى توحيد الله عز وجل وتاب منه.
إذاً: الوعيد لا يتحقق إلا بترك التوبة، كل وعيد في القرآن يسقط بالتوبة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه باباً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(115/5)
جواز تكرار العامي السؤال على أكثر من عالم إذا حاك في صدره شيء
(ثم أذن الله تبارك وتعالى لهذا الرجل العاصي بتوبة فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض).
وفي هذا دليل على استحباب أن يسأل العامي عالماً آخر إذا حاك في صدره شيء من فتوى الأول؛ لأن العلماء الذين صنفوا في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي يقولون: (لا يجوز للعامي أن يعدد السؤال على أكثر من عالم) وهذا -في الحقيقة- آفة موجودة عند بعض الناس، كلما أتى إلى عالم يسأله سؤالاً معيناً، ثم يقارن بين أجوبة العلماء أو طلاب العلم أولاً: ما هو المقصود بالسؤال؟ أليس هو رفع الإشكال؟ إنما شرع السؤال لرفع الإشكال.
فإذا كان هذا الإنسان من العوام لا يستطيع أن يرجح الحق بدليله، فسأل رجلاً سؤالاً فقال له: حرام، ثم سأل آخر نفس السؤال فقال له: حلال، فماذا يفعل وليس عنده الآلة التي يميز بها بين القولين؟ أيهما أحق أن يتبع المحرم أم المحلل؟ إما أنه سيسيء الظن بهؤلاء العلماء ويقول: لو كانوا علماء حقاً لاتفقت فتواهم، وإما أنه سيخرج من الأقوال كلها ويكون هو شيخ نفسه ويتبع هواه.
إذاً: ليس هناك ثمرة على الإطلاق أن يعدد السؤال على أكثر من عالم، لاسيما إذا لم يكن له حاجة إلى مثل ذلك.
إنما العلماء استحبوا للعامي أن يكرر السؤال على عالم آخر إذا حاك في صدره شيء من فتوى الأول، فهذا الرجل لما قال له: (ألي توبة؟ قال له: لا) لجأ إلى عالم آخر يسأله عن هذه المسألة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فدل على راهب عالم).
تجريد الأول من وصف العلم دلنا على أنه جاهل (راهب) أي: متعبد، ومن أعظم أبواب الخلل اختلاط الأزياء والسمت، دخول من لهم سمت العالم ووصف العلماء مصيبة عظيمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس لا يميز بين العالم والمتشبه به، فإذا قيل: أين العالم الفلاني الذي في البلد؟ يشار إلى فلان، مع أنه ليس من أهل العلم، إنما تدين بزي أهل العلم فظنه الناس كذلك.
أذكر قصة ذكرها أبو الفرج ابن الجوزي: أن رجلاً كان يتزيا بزي العلماء ركب سفينة مع أناس، فهبت عليهم ريح عاصف، فجاءوا إليه فقالوا له: ماذا نفعل؟ قال: كل إنسان ينذر نذراً إن نجاه الله تبارك وتعالى من هذا ليوفين بنذره، فكل شخص نذر إن نجاه الله -مع أن هذا النذر المشروط متكلم فيه- ليوفين بنذره، فلما أنجاهم الله تبارك وتعالى كل منهم وفى بنذره، فلما جاء الدور على هذا الذي استفتوه، قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس عندي شيء أنذره، ولكن امرأتي طالق: من وجهك ثلاثاً!! هذا عجيب جداً! لذلك إذا كان هذا الرجل يرتدي جبة أو شيئاً من هذه الملابس وليس كهؤلاء -كما يقول الشوكاني - يعد في جملة المتعاقلين.
أي: ليس بعاقل ولكنه متعاقل، فإذا قيل: عدوا لنا العقلاء دخل هذا معهم؛ لأن له سمت العقلاء فقط، ولكنه ليس كذلك.(115/6)
جواب الحكيم وحاجة العالم إليه
فلما لطف الله تبارك وتعالى بهذا الرجل، قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) فدل هذه المرة على راهب عالم، فقال له: (ألي توبة؟ قال له: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا).
وهذه الإجابة يسميها العلماء بجواب الحكيم، جواب الحكيم: هو الزيادة في الجواب على سؤال السائل؛ لأن حاجة السائل لا تتم غالباً إلا بها.
ولذلك يسمونه جواب الحكيم لماذا؟ لأن المفتي فقيه النفس، فلما سأله إنسان هذا السؤال راعى أنه قد يستشكل شيئاً ما، فزاده جواباً ليعالج هذا الاستشكال، لاحتمال أن يقابله بعد ذلك.
ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم سيد الحكماء ضرب المثل الأعظم في هذا الجانب، ومنه أخذوا هذا التعريف، ففي السنن بسند قوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجال من بني عبد الدار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، وإنما سألوا عن طهورية ماء البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه) وكان يكفي هذا القدر بالنسبة للجواب عن سؤالهم، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته) فلم أعطاهم هذه الزيادة؟ الذي يستشكل طهورية ماء البحر لأن يستشكل ميتته أولى، لاسيما إذا لم يكن عنده دليل بحل ميتة البحر، فهو حينئذٍ يأخذ بعموم الآية المحرمة للميتة في القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] (الميتة) أي: كل أنواع الميتة.
وكيف لا يستشكل أمر الميتة على أمثال هؤلاء وقد استشكل على من هو أعظم منهم أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، كما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما في غزوة سيف البحر، فقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة في غزوة من الغزوات، وأعطانا جراب تمر، فكان يعطينا حفنة حفنة، ثم يعطينا تمرتين تمرتين، ثم يعطينا تمرة تمرة، فكنا نمصها ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر كنا نضرب ورق الشجر بقسينا فنأكله، حتى رفع لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها: العنبر) حوت كبير جداً، يقول جابر بن عبد الله: (نزلنا ثلاثة عشر رجلاً في وقب عينه) وكانوا يأخذون الدهن بالقلال من عينه، قال: (وجاء أبو عبيدة فنصب عظماً من عظامه، فأتى بأعلى بعير وركبه أطول رجل فمر من تحته) يعني: دابة عظيمة جداً.
حسناً: ما كان موقف أبي عبيدة وهو الأمير؟ أول ما رآه قال: ميتة لا تأكلوه.
ليس عنده الحديث الذي يدل على حل ميتة البحر، وعنده النص القرآني فأعمله، وقد استدل العلماء بهذا فقالوا: إن الإنسان إذا وجد دليلاً عاماً لا يجوز له أن يتوقف في العمل به بحثاً عن الخاص) لا يقول: لعله مخصوص، أو يقول: لعله منسوخ، أو يقول: لعله مقيد؛ فيتوقف عن العمل به، بل يجب عليه أن يعمل بالعموم حتى يجد الخاص؛ ولا يتوقف عن العمل بالعموم بحثاً عن الخاص لأنه قد لا يوجد مخصص لمثل هذا العام.
فـ أبو عبيدة بن الجراح ما توقف، وإنما عمل بالعام الذي عنده، وكما قال ابن عباس في صحيح مسلم: (أفلح من انتهى إلى ما سمعه).
قال أبو عبيدة: (ميتة لا تأكلوه، ثم رجع إلى نفسه فقال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا) فخرج هذا التأويل على الآية أيضاً: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3].
فإذا كان مثل أبي عبيدة بن الجراح يستشكل هذا فلأن يستشكله بعض الأعراب الذين لم يخالطوا النبي عليه الصلاة والسلام من باب أولى، إنما كان الواحد منهم يأتي لماماً إلى مجلسه عليه الصلاة والسلام يسأله ثم ينصرف.
أضف إلى ذلك أنهم في قولهم: (إنا نركب البحر) فهذا يدل على ديمومة ركوب البحر بالنسبة لهم، فقد ينفد زادهم، فإما أن يأكلوا من ميتة البحر وإما أن يموتوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام راعى هذا بالنسبة لهم لما رأى استشكالهم للشيء اليسير علم أن استشكالهم للأعظم أولى فدلهم على ذلك.
إذاً: تتمة الجواب والنصح لا تكون إلا بذكر مثل هذه الزيادة.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما جاءته المرأة بصبي صغير فقالت: (يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال لها: نعم، ولك أجر) مع أنها ما سألت عن الأجر، وكان الجواب يتم (بنعم) إنما قال لها: (ولك أجر) تحفيزاً؛ لأن البشر دائماً لا يعملون إلا لهدف ومقصد، ولو أن محض العمل بدون أجر ما وجدت أحداً يتكلف، ولذلك جعل الله الجنة والنار جزاءً، وهذا مع أنه يدرك بشيء من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).
الإنسان إذا غرس الفسيلة -وهي النخلة- إنما يغرسها لما يؤمل من أنه سيأكل من ثمرها أو أولاده أو أي إنسان آخر، فإذا علم أنه لن يأكل منها إنسان ضعفت همته وراح وازعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -لا يقول: لمن أغرسها؟ ومن الذي سيأكل منها وقد قامت الساعة؟ لا- فليغرسها) يعني: خالف نظرتك: أنك لا تفعل الشيء إلا لهدف.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (ولك أجر) فهو يحفز أي شخص معه صبي أن يأخذه بغية الأجر.
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل منا يحب أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس) فانظر زيادة الجواب عرفتنا بصفة من صفات الله تبارك وتعالى، ثم عرفتنا بتعريف الكبر.
فجواب الحكيم هو: أن يزيد المفتي السائل شيئاً في الجواب لا تتم حاجة السائل من الجواب غالباً إلا به، فعندما تقرأ في الكتب التي صنفت في الآداب -آداب الفتوى والمفتي والمستفتي- تراهم يقولون: (لا يجوز للمفتي أن يزيد عن حاجة السائل في الجواب)، فبعض الناس قد يستشكل مثل هذه القاعدة مع ما ذكرناه من الأحاديث.
نقول: لا إشكال؛ لأنهم قالوا: (لا يزيد عن حاجة السائل في الجواب)؛ لأن الزيادة عن حاجة السائل قد تشوش عليه أصل الجواب، كأن يقول لك إنسان: ما حكم القراءة خلف الإمام؟ فتقوم تسرد له مذاهب العلماء وأدلتهم وتناقشها، فتشوش على الرجل من جهة الفتوى، ولا يعرف ما الذي يخرج به، هذا هو المنهي عنه.
لذا قلنا قبل ذلك: إن مشروعية السؤال إنما هي لرفع الإشكال، وليس أن يدخل السائل في هذه الدوامات.
إذاً كلام العلماء في منع الزيادة في الجواب أي عن حاجة السائل، أما إذا كانت حاجة السائل لا تتم إلا بالزيادة على الجواب فمن فقه النفس -أي: للمفتي- أن يزيده ذلك.(115/7)
العابد الجاهل ضحية لجهله
(فدلوه على راهب، فقال: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً ألي توبة؟ قال له: لا؛ فقتله).
هذا الراهب صار ضحية لسانه لجهله، فإنه أخطأ مرتين: الخطأ الأول: أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يفتي، (ألي توبة؟ قال: لا)، وما يدريك؟ التوبة هذه ما لأحد أبداً حق في أن يقحم نفسه فيها ولا أن يقول: تيب على فلان أو لم يتب، هذا ليس من اختصاص أحد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول -كما في حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه في البخاري وغيره-: (قال رجل لأخيه: والله لا يغفر الله لك.
فقال تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ، قد غفرت له وأحبطت عملك) وما أدراه أيغفر له أم لا؟ أتخذ عند الله عهداً؟ وفي رواية الطبراني لهذا الحديث قال الله تبارك وتعالى لذلك النبي: (مره فليستأنف العمل) كل عمله الماضي أحبط فليبدأ من جديد؛ بسبب كلمة قالها.
وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان متواخيان في بني إسرائيل أحدهما مجد والآخر مقصر، فلا يزال المجد يقرع المقصر ويقول: تب إلى الله فإنه لا يحل لك ذلك، فقابله يوماً فوعظه فأكثر عليه، فقال له المقصر: خلني وربي، أبعثك الله عليَّ رقيباً أم جعلك عليَّ حسيباً؟ فقال له: والله لا يغفر الله لك! فقبضهما الله تبارك وتعالى ثم قال للمجد: أكنت على ما في يدي قادراً أم كنت بي عالماً؟ خذوه إلى النار، ثم قال للمقصر: خذوه إلى الجنة برحمتي).
هذا الباب لا يمكن أن يفتي فيه عالم، إنما الجاهل هو الذي يتجرأ، كيف لا والإنسان نفسه لا يدري أيقبل عمله أم لا؟! فإن كان عاجزاً عن معرفة مصيره فلأن يكون أعجز عن معرفة مصير غيره أولى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما تلت قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون مغبة الحساب أمام الله تبارك وتعالى، قالت: (يا رسول الله! أهذا الذي يزني ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق هؤلاء أقوام جاءوا بصلاة وصدقة وصيام، ثم يخشون ألا يتقبل منهم) يخشى ألا يتقبل منه رغم أنه يقف بين يدي الله تبارك وتعالى يفعل الصالحات ولا يفعل المنكرات، ولكنه لا يدري أيقبل الله تبارك وتعالى منه عمله بفضله أم يرده عليه بعدله.
فهذا الباب مغلق ولا يكون إلا لنبي الله تبارك وتعالى يطلعه على الغيب فيما يتعلق بفلان أو مصير فلان، أما بقية البشر فلا يجوز لأحد قط أن يلج هذا الباب؛ لذلك عرفنا أن الراهب هذا جاهل بسبب فتواه، فإن أهل الورع يستعظمون الإكثار من المباحات فكيف إذا جهر بالمحرمات؟! ولذلك الشيطان يسهل عليه أن يدخل على أهل الورع الذين ليس عندهم علم ويلبس عليهم بخلاف العلماء.
أهل الورع هم الذين يكرهون الإكثار من المباحات فمثلاً: قرأت لبعضهم -وينسبونه لبعض الزهاد المتبوعين، ولا أدري بصحة ذلك-: أن رجلاً جاء إلى هذا العابد فقال: إن شاتي سرقت.
فذهب هذا العابد إلى قصاص، وقال له: كم تعيش الشاة؟ قال مثلاً: خمس سنوات، فحرم على نفسه أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات لماذا؟ خشية أن يأكل من الشاة المسروقة.
فالإنسان إذا عمل بهذا في خاصة نفسه -لا بأس به، والورع هذا ليس له حد، تنقطع فيه أعناق الإبل كما يقال، ولكن لا يأتي الإنسان فيفرضه على أخيه، ولا يفتي به، فهناك فرق بين أن يتبنى الإنسان الشيء في نفسه وبين أن يفتي الناس به.
فمن جهة الفتوى لا يحل لأحد أن يقول: لا تأكل، لكنه قد يعمل به في خاصة نفسه، فتصور رجلاً قد يصل به الورع إلى هذه الدرجة وجاءه رجل فقال: إني قتلت مائة نفس، فالحمد لله أن روحه لم تخرج من بشاعة الذنب! لذلك أول ما قال: قتلت مائة نفس ألي توبة؟ قال له: لا.
بادر وأغلق باب التوبة في وجهه.
الخطأ الثاني الذي أخطأ فيه هذا الراهب: أنه ما كان عنده فقه النفس الذي هو: مراعاة مقتضى حال المخاطب، أو حالة الفتوى على حال المستفتي، أو وضع الأمور في مواضعها هذا هو معنى فقه النفس، والعلماء يشترطون في المفتي أن يكون فقيه النفس.
فهذا العابد لم يكن عنده من فقه النفس شيء، بدليل أنه لم يراع حال المستفتي، فهو أمام رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً فما هو المانع أن يضيف على التسعة والتسعين واحداً آخر؟ إذا علم أنه إن أغلق في وجهه باب الأمل، فكان المفروض أن يداريه ولا يجيب، يقول: دعني أراجع اسأل فلاناً مر عليَّ بعد يوم أو بعد يومين إلخ، والمداراة هذه مسألة مطلوبة لاسيما إذا واجه الإنسان فتوى معينة ليس عنده عنها جواب أو هي مما عمت بها البلوى ولم يكن عنده فيها جواب حاسم، فله أن يخرج منها بطريقة ما.
فهذا الرجل لم يكن عنده من فقه النفس شيء، فدلنا ذلك على أنه لم يكن عالماً حقاً، ولذلك راح ضحية جهله.(115/8)
فاسألوا أهل الذكر
فأذن الله تبارك وتعالى له بتوبة فقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض).
قالوا قديماً: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا ما أحسن الإنسان السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، لأن الجواب كالصدى بالنسبة للصوت.
فهذا الرجل قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) الإنسان إذا مرض لا يرضى بممرض عام أو طبيب لا زال متعلماً، يقول: أنا أريد رئيس القسم، لماذا رئيس القسم؟ يقول: لأنه أصبح ضليعاً، ولديه خبرة، فسبحان الله! الإنسان يعامل دينه معاملة بدنه، فعندما يريد أن يستفتي في مسائل الدين لا يرضى بأي إنسان يقابله، حتى وإن تزيا بزي أهل العلم، إنما يسأل عن أعلم الناس، وهذا هو الواجب على العامي أن يسأل عن أعلم الناس، يقول: أريد أعلم الناس، حتى لو دلوه على رجل لم يكن كذلك فقد فعل ما أمر به، كما قال تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] (أهل الذكر): هم العلماء الراسخون.(115/9)
الحديث من الإسرائيليات الصحيحة
هذا الحديث من الإسرائيليات الصحيحة التي حفظت لنا بالسند الصحيح، ويظن بعض الناس إذا أطلقت كلمة (الإسرائيليات) فإنها ترادف المكذوبات، والحقيقة أن الإسرائيليات على ثلاثة أقسام كما هو عند أهل العلم: القسم الأول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتج به في ديننا.
القسم الثاني: ما صح عن بني إسرائيل أنفسهم، وهذا القسم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم بنوا إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) فهذا القسم نستأنس به في توضيح بعض النصوص الشرعية عندنا، ولكن لا يحتج به، وإنما يتخذ كعاضد فقط.
فمثلاً: القصة التي رواها أبو الشيخ في كتاب العظمة: أن داود عليه السلام اصطفى رجلاً من أهل مملكته، فكان الناس يغبطونه على مكانته من داود عليه السلام، فلما مات داود عليه السلام قال سليمان: من أصطفي؟ فقال: لا أجد مثل جليس أبي فقربه؛ فزادت غبطة الناس عليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الناس عياناً، فدخل على سليمان عليه السلام فلحظ الرجل - (لحظه) أي: نظر إليه بطرف عينه- فارتعد -أي: الجليس- فلما خرج ملك الموت قال الجليس لسليمان: من هذا الذي لحظني؟ قال: إنه ملك الموت.
قال: وأنا أكون في بلدٍ فيها ملك الموت! قال: ماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتقذف بي في أرض الهند.
ثم جاء ملك الموت عليه السلام فقال له سليمان: لماذا لحظت الرجل؟ قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته -أي: عندك- تعجبت! فلما ذهبت إليه في الموعد المعلوم وجدته هناك، فانتزعت روحه.
فيمكن أن تذكر هذه القصة عند قوله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
القسم الثالث: ما لم يصح عن بني إسرائيل أنفسهم، فهذا القسم لا يحتج به.
فحديثنا من القسم الأول -القسم الصحيح- وهو: ما حفظ لنا بالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الحديث يقول: (إن رجلاً ممن كان قبلنا) وهذه القصة حدثت بعد زمن عيسى عليه السلام؛ لأن الرهبنة ما ظهرت إلا في أتباعه، كما قال تبارك وتعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].(115/10)
هل لقاتل المؤمن توبة؟
هذا الرجل قتل تسعاً وتسعين نفساً، ارتكب أعظم الجرائم بعد الشرك وهو: قتل النفس، ولعظم هذه الجريمة يكون (أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء) كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين، ولعظم هذه الجريمة تنازع فيها الفقهاء: هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ والقاعدة المعروفة تقول: (إن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة) أي ذنب له توبة بدءاً من الشرك إلى أقل ذنب، ومع ثبوت هذا الأصل عند العلماء تنازعوا هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ هذا يشعرك بعظم هذه الجريمة الكبيرة، فكان ابن عباس رضي الله عنهما وزيد بن ثابت وإحدى الروايات عن أبي هريرة يقولون: (ليس لقاتل المؤمن توبة) كما جاء في البخاري قال سعيد بن جبير: تنازع أهل الكوفة هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ فرحلت إلى ابن عباس فقال لي: لا.
ثم قال: إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان ولم ينسخها شيء.
ولكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أفتى بأن قاتل المؤمن له توبة، كما في الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: (كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، ثم خطبت غيري فغرت عليها فقتلتها، ألي توبة؟ قال له: أمك حية؟ قال: لا.
قال: اذهب وتب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت.
قال: فلما مضى الرجل قلت لـ ابن عباس: لماذا سألته عن حياة أمه؟ قال: ما أعلم شيئاً يقرب إلى الله مثل بر الوالدة).
فهذه الرواية صحيحة عن ابن عباس أنه يرى أن قاتل المؤمن له توبة، ويبدو لي أن ابن عباس رضي الله عنهما كانت فتواه تتغير على حسب الحالة، فقد صح بسند قوي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له: (ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا.
فلما مضى الرجل قال له أصحابه: أولم تفتنا أن قاتل المؤمن له توبة؟ قال: نعم، ولكني رأيت في عينيه الشر)، فهو يريد أن يعلم أن له توبة، فيقتل، ثم يتوب، فلاحظ ابن عباس هذا فيه، ولذلك كان من الأصول التي ذكرها أهل العلم في الكتب وصنفوها في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي: (أنه يجوز للمفتي أن يفتي بالأشد إن كان له وجه في الدليل مراعاة لحال المستفتي): وليس هذا من التلاعب كما يظن بعض الناس، لأنه لابد أن يكون للفتوى وجه في الدليل.
والمفتي العاقل هو الذي ينزل الفتوى على حال المستفتي، مثال هذا في العصر الحاضر: ما أفتى به فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين فيما يتعلق بالنقاب، فتوى الشيخ خرجت مجملة هكذا: (إن النقاب لا يجوز) النقاب: هو البرقع، وابن عثيمين يرى السدل من شعر الرأس إلى أخمص القدم، يقول: (وقد كان هذا البرقع موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكني اليوم لا أرى جوازه) فبعض الناس طار بها وقال: إن الشيخ يحرم النقاب.
الحقيقة: أن الفتوى إنما تنزل على ما يفعله بعض النساء في المملكة، كانت تنزل من البرقع قليلاً وترفع الرأس قليلاً وإذا بنصف وجهها يظهر.
فالمفتي إذا كانت الفتوى عنده مقيدة بشروط فعلم أنه إذا أطلق الجواز بالشروط أخذ الناس الفتوى بغير شروط جاز له أن يغلق الباب، وتكلم العلماء في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي على هذا بكلام طويل جداً ونفيس، لعلنا نتعرض له بشيء يسير عند مناسبته في هذا الحديث إن شاء الله تعالى.
فالحاصل: أن أهل العلم لما اختلفوا في مسألة توبة القاتل فهذا يدل على عظمها، كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] فجمع عليه خمس عقوبات.
والصحيح عند أهل العلم أنه لا يوجد ناسخ ومنسوخ بين آية النساء وبين آية الفرقان: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *
الجواب
=6002924> إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70] فقال العلماء: يحمل المطلق على المقيد هنا.
إذاً الجمع بين الآيتين: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] إذاً تفهم الآيتان بهذا، وهذا هو الذي اختاره جماعة من أهل العلم منهم القرطبي وغيره.
فهذا الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، كيف لا وذنبك مهما عظم شيء ورحمة الله وسعت كل شيء؟! ولذلك لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون حقاً، وجاء في الحديث الصحيح: (خلق الله الرحمة مائة جزء، فأنزل على الأرض جزءاً واحداً يتراحم منه الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بجزء واحد من الرحمة، فإذا يئس العبد من مائة جزء من الرحمة لا يكون مؤمناً أبداً.(115/11)
الأسئلة(115/12)
حكم تحريك الإصبع في التشهد للصلاة
السؤال
هذا سائل يسأل عن تحريك الإصبع في التشهد، هل هو شاذ أو ليس بشاذ؟ لأن هناك كتاباً جديداً اسمه (البشارة بنفي التحريك وثبوت الإشارة) قال فيه: (إن الصواب أن المصلي إذا تشهد أنه يشير بإصبعه إلى القبلة ولا يحركها) ذكر أحاديث وآثاراً في ذلك.
والشيخ الألباني رحمه الله ذكر في كتابه (الصلاة) وفي غيره من الكتب -تمام المنة فيما أظن- أن تحريك الإصبع هو الراجح، فيقول: إن الذين صرحوا بالإشارة يقولون: إن التحريك شاذ، فهل دعوى الشذوذ صحيحة؟
الجواب
اعتقاد الشيء فرع عن تصوره، نعرف أولاً الشاذ كقاعدة، ثم نفرع على هذه القاعدة.
التعريف المختار للحديث الشاذ هو ما عرفه الإمام الشافعي رحمه الله قال: (ليس الشاذ من الروايات أن يروي الراوي ما لم يروه غيره، بل الشاذ: أن يخالف الراوي غيره) إذاً لابد في الشذوذ من ثبوت المخالفة.
أي أنواع المخالفة التي يعنيها الإمام الشافعي؟ هي المخالفة التي يتعذر معها الجمع، فإذا أمكن الجمع بين الأدلة زال الخلاف وقلنا: لا يكون ذلك من الشاذ.
إذاً: لا يكفي الفصل في الحديث الشاذ الاقتصار على أصول الحديث فقط، بل لابد من دراسة مبحث التعارض والترجيح على الأقل في أصول الفقه، ولا يتم التوفيق بين الروايات إلا إذا أتقنا مبحث التعارض والترجيح.
نأتي على تحريك الإصبع أهو شاذ أم لا؟ الإمام الشافعي قال: (ليس الشاذ من الروايات أن يروي الراوي ما لم يروه غيره) قد تروي شيئاً لا يرويه غيرك ولا يكون شاذاً، تكون تلك زيادة ثقة، زيادة حفظ منك، فنأتي لنرى هذه المسألة الحديث الذي ورد في هذه المسألة في السنن حديث وائل بن حجر يرويه زائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه عن وائل بن حجر: فذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (وكان ينصب يده يحركها).
قالوا: إن جمعاً من أصحاب عاصم بن كليب ذكروا هذا الحديث ولم يذكروا ما ذكره زائدة، وهم اثنا عشر راوياً -تقريباً- من الثقات اجتمعوا في الرواية عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر فقالوا: (يشير بإصبعه) وزائدة بن قدامة وحده قال: (يحرك) فقالوا: هذا شذوذ.
نقول: لا، لابد من ثبوت المخالفة حتى نسمي الحديث شاذاً، فهل هناك مخالفة بين الحديثين أم لا؟ الجواب: لا مخالفة؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالباًَ، كأن يقال لك مثلاً: أين محمد؟ فتقول: هو ذاك، فأنت لم تحرك ولم تقل له: هو ذاك فقط، وإنما قلت: هو ذاك وأشرت، ولكن الإشارة تجامع التحريك غالباً، إذ لا تفهم الإشارة غالباً إلا بتحريك وإلا كانت الإشارة عارية، لا تستطيع أن تفهم ماذا يريد هذا الإنسان، فإذا كانت الإشارة تجامع التحريك غالباً فما هو المانع أن يحفظ زائدة بن قدامة صفة فهم حفظوا الإشارة وهو زاد التحريك.
إذاً: زائدة بن قدامة -لاسيما وهو ثقة ثبت صاحب سنة، ليس عليه مظنة أبداً، قال ابن حبان: (كان من الثقات المتقنين، كان يعيد السماع ثلاث مرات) فإذا سمع حديثاً لا يسمعه مرة واحدة إنما يسمعه ثلاث مرات- إذا جاز أن تقول: هذه زيادة شاذة فأرني من الذي تقبل زيادته إن ردت زيادة زائدة؟!! ومثال هذا ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء رحراح -أرجو أن ينتبه الإخوة لكلمة (رحراح) - فوضع يده على فم الإناء، وقال: توضئوا باسم الله) إلى آخر الحديث المشهور.
روى هذا الحديث جماعة من الثقات نحو ستة: عن حماد بن زيد، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك فقالوا: (بإناء رحراح)، وخالفهم أحمد بن عبدة الضبي في هذه الكلمة، فروى هذا الحديث عن حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء زجاج) إذاً الجماعة قالوا: (بإناء رحراح) وأحمد بن عبدة قال: (بإناء زجاج).
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح قال: (حكم جماعة من الحذاق بأن أحمد بن عبدة صحفها) انقلب عليه: (رحراح) قلبها (زجاج).
ابن خزيمة الذي روى رواية أحمد بن عبدة ما تبنى هذا، بل بنى فقه الباب على هذا الحرف، فقال رحمه الله: (باب إباحة الوضوء بآنية الزجاج، والرد على المتصوفة الذين يزعمون أن هذا إسراف، إذ الخزف أبقى وأصلب).
أي: افرض أن هذا الإناء وقع منك وانكسر، ستشتري غيره، بينما لو كان حديداً سواء وقع أو لم يقع لا ينكسر، إنما هذا إسراف لأنه معرض للكسر، فالإمام ابن خزيمة رد عليهم بهذا الحرف، ثم روى الحديث ثم قال بعد ذكر الحديث: ورواه جماعة عن حماد بن زيد فقالوا: (رحراح) مكان (زجاج) ثم قال -وهذا هو الفقه، وابن خزيمة رحمه الله كان من الأئمة القلائل الجامعين بين الفقه والحديث؛ ولذلك كانوا يسمونه بإمام الأئمة-: و (الرحراح) هو الواسع من آنية الزجاج لا العميق منه.
فوفق بين الروايتين، فهو إناء رحراح من زجاج، فـ أحمد بن عبدة ذكر جنسه وهم ذكروا صفته، فأين التعارض بين الروايتين؟! ومعلوم من أصول العلماء: أن حمل قول العالم أو روايته على ما لا يخالف الدليل أولى من رده، فإذا كان الجمع لائقاً فهو الواجب، ولا يلجأ إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع فيه.
كذلك مسألة الإشارة والتحريك، هو ذكر صفة الإشارة وهي التحريك، وهذه زيادة منه فلابد أن تقبل.
فالذين يقولون: إن رواية زائدة بن قدامة شاذة لم يصيبوا؛ لأنه لم تتحقق المخالفة، بل الجمع ممكن، والحقيقة هناك مدرسة موجودة تتبنى مثل هذا، وأحدثت شراً مستطيراً في الكتب، فلا يرون رجلاً خالف رجلين إلا حكموا على الرجل بالشذوذ مباشرةً! وهذا ليس من تصرف العلماء الجهابذة.
ومبحث (الشاذ) من أدق المباحث في علم الحديث وأعرقها، لذلك قلما تعرض عالم بتصنيف للتفريق ما بين الشذوذ ومابين زيادة الثقة لماذا؟ لأنه ليس له قاعدة، إنما تعتمد على إتقان العالم للأصول، ثم كثرة ممارسته التي سماها علماء الحديث بالذوق.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، ونسأل الله عز وجل أن يتجاوز بها عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(115/13)
السنة في رفع اليدين في الصلاة
السؤال
نجد من الإخوة في الصلاة من يرفع يديه في كل ركعة، ومنهم من يرفعها في التكبيرة الأولى والثالثة فقط، فأيهما أرجح؟ وهل من يفعل هذا وهذا يكون قد أخطأ؟
الجواب
هذه من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، مثل رفع اليدين في تكبيرات الجنازة، وتكبيرات العيدين، كل هذا مما يسوغ الخلاف فيه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن المسألة كشيء أرجح وأفضل أن يرفع في تكبيرة الإحرام، ثم يرفع إذا أراد أن يركع، ثم يرفع إذا قام من الركوع، ثم يرفع عند القيام من التشهد الأوسط.(115/14)
أفضل كتب الزهد
السؤال
ما هو أفضل كتاب في الزهد؟
الجواب
كتب الزهد المسندة عموماً من أفضل الكتب، فكلام السلف كله بركة ونور، هناك كتاب الزهد لـ هناد، والزهد لـ وكيع، والزهد للإمام أحمد رحمه الله، والزهد لـ ابن المبارك، خذ هذه الكتب وتجاوز السند إن لم تكن لك همة في الأسانيد، واقرأ فستقف على أقوال هؤلاء العلماء في الزهد تنفعك إن شاء الله، ومن أفضل الكتب وأمتعها كتاب سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله، فهذا الكتاب من أنفس الكتب فقد جمع فيه سير العلماء، وفرق فيه يما هو موجود في كتب الزهد في تراجم العلماء كل بما يخصه.(115/15)
حكم التمذهب وطلب العلم على مذهب معين
السؤال
هل يجوز لطالب العلم المبتدئ أن يتمذهب بمذهب معين من المذاهب الأربعة حيث تعرض له كثير من مسائل الخلاف، ولا يدري ما هو القول الراجح؟ نرجو الإفادة.
الجواب
أما بالنسبة للتمذهب كوسيلة لتنظيم الدراسة فهذا جائز، وأنا سألت الشيخ الألباني رحمه الله؛ لأنهم نقلوا عنه أنه يهدم المذاهب الأربعة، والشيخ مظلوم وبريء من هذا القول، فسألته هذا السؤال بعينه: هل يجوز لطالب العلم أن يتمذهب من باب تنظيم الدراسة؟ لأنه لو درس الفقه على الراجح لن يصل إلى شيء، ويربى الطالب على صغار العلم وليس على كباره؛ لأنه إذا دخل في وسط العلماء الذين يرجحون ويرد بعضهم على بعض وليس عنده إدراك ولا تمييز فلن يحصل طائلاً من هذا الخلاف، لذلك هو يبدأ بالمتفق عليه، كأن يدرس -مثلاً- المتون من كتب أحد المذاهب كتنظيم للدراسة.
وهناك شرط: ألا يجعل المذهب ديناً لا يتجاوزه، حتى وإن ظهر الدليل على خلاف المذهب؛ لأن أهل العلم جميعاً ينهون عن ذلك.
فقلت للشيخ حفظه الله: بأي المذاهب تنصح؟ قال: بالمذهب الشافعي ثم المذهب الحنبلي.
قال: هذان أفضل المذاهب الأربعة من حيث تفضيل إلى السنة، المذهب الشافعي لثرائه ولكثرة الكتب والعلماء، والمذهب الحنبلي لضبطه على الدليل.
وبكل أسف هناك بعض المدارس الموجودة ترد المذاهب الأربعة جملة، وتحرم التقليد حتى على العامي الذي لا يدري شيئاً، وهذا غلوا جداً، ويقولون: لأن التقليد لا يجوز في دين الله.
ولا يجوز للعالم أن يقلد.
ولا يتصور أن عالماً يفتي في كل مسألة ببحث واستقراء واستفاضة فالأمر لا يتسع إلى مثل هذا، وقد وجدنا أكابر العلماء يذكرون فتاوى غيرهم، كالإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي وهؤلاء كان أحدهم، يسأل عن فتوى فيقول: كان سعيد بن المسيب يقول كذا، وكان الزهري يقول كذا.
فمسألة أنه لابد للإنسان أن يتحرى الحق، ويبحث المسألة، وينظر إلى أدلة المخالفين، ثم يمشي في مسألة التعارض والترجيح، وفي الآخر يرجح قولاً من الأقوال! ما أظن أن أحداً من العلماء يوجبه على كل إنسان، إنما كل إنسان بحسبه، وقد أسقط الله تبارك وتعالى الحرج عن هذه الأمة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهل يتصور أن آتي على رجل فلاح وأقول له: تعال نناقش التعارض والترجيح بين الأدلة، فإذا تعارض دليلان نترك كذا وندع كذا إلخ! هذا نوع من التعجيز، فالذي يقول: إن التقليد لا يجوز حتى على مثل هذا الرجل غال جداً، والذي يقول: لا يجوز تجاوز المذهب حتى وإن ظهر الدليل أيضاً هذا غلو شديد، نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي الأمة إلى الصراط المستقيم.(115/16)
القيام من السجود على اليدين لا الركبتين
السؤال
القيام من السجود على اليدين أم على الركبتين؟
الجواب
هذا مبني على المسألة السالفة، فإذا قلنا في النزول إنما يكون باليدين يكون آخر شيء يمس الأرض منك في حالة القيام اليدان، أي: النزول يكون باليدين والقيام يكون أيضاً على اليد.(115/17)
حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع
السؤال
ما حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع؟
الجواب
لا نريد أن نخوض في هذه المسألة، ولكن كما قال الإمام أحمد رحمه الله: (إن شاء فعل وإن شاء ترك) وعلماؤنا في الحجاز -جزاهم الله خيراً- الذين يفتون في هذه المسألة قالوا: إنه لا يلزم التشديد فيها ولا ينبغي الإنكار فيها، وإن كان الأقوى من جهة الدليل عدم وضع اليدين على الصدر، ولكن إذا وضعهما إنسان فلا ينكر عليه هذا الإنكار الشديد، والله أعلم.(115/18)
حكم البيع بالتقسيط
السؤال
ما حكم بيع السلعة مؤجلاً بالتقسيط؟
الجواب
الذي عليه أكثر أهل العلم: جواز البيع المقسط، وهناك خلاف بين العلماء المانعين من جهة التخصيص والذين يرونه رباً، وبين الذين يجيزونه، والخلاف بينهم في فهم معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
القسم الأول: الذي يرى أنه ربا، وكان منهم سماك بن حرب راوي الحديث، ومنهم الإمام النسائي صاحب السنن فقد بوب على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، قال: وهو أن يقول: أبيعك هذه نقداً بكذا ونسيئة بكذا.
فقالوا: إنه مجرد عرض سعرين للسلعة الواحدة يعتبر بيعتان في بيعة، لكن نحن لو نظرنا إلى لفظ البيع وهل تم بيعه بمجرد عرض السعر أم لابد من قبول وإيجاب ولابد من الخيار والافتراق وهذه الأشياء المعروفة، ولأنه في النهاية لا تتم إلا بيعة واحدة: إما بالنقد وإما بالتقسيط.
والعلماء حملوا النهي عن بيعتين في بيعة كأن يبيع البائع السلعة بعشرة جنيهات، ويتم البيع على أساس أنه يعطيه كل شهر مبلغاً من المال، فيأتي صاحب السلعة (البائع) فيقول للمشتري: تبيعني السلعة بثمانية جنيهات نقداً فيقول له: خذ.
فباعها له مرة أخرى (بثمانية) لكن نقداً، فهذا يسمي بيعتان للسلعة الواحدة، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء، ولذلك يجيزون بيع التقسيط، والله أعلم.(115/19)
المحدثون هم الفقهاء لا العكس
السؤال
كثيراً ما يقول الإخوة أن الشيخ الألباني -رحمه الله- محدث وليس بفقيه؟
الجواب
الذي قال هذه الكلمة إذا كان بمستوى الشيخ يستطيع أن يحكم عليه فله ذلك، ولكن لا أظن أن يكون قائل هذه الكلمة عادة في مستوى الشيخ، بل لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يساوي قلامة ظفر الشيخ.
هذه دعوة قديمة التصقت بأهل الحديث من قوم يبغضونهم، فكيف يتصور في الذي يحمل الأدلة أنه لا يفقهها؟ أيفقهها الذي ليس عنده من الدليل شيء؟ ولذلك كانوا يشنعون على أهل الحديث، يقول بعض العلماء: دخلت الكوفة فإذا قاض لهم -أي: لأهل الرأي- يقول في حلقة: مساكين أهل الحديث لا يدرون الفقه.
قال: وكانت بي علة فحبوت إليه، وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيء قال علي؟ وأي شيء قال ابن مسعود؟ وأي شيء قال زيد بن ثابت؟ فسكت، فقلت: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا فأي شيء قال أبو بكر؟ وأي شيء قال عمر؟ وأي شيء قال أبو عبيدة؟ فسكت، فقلت له: أنا أخف أصحاب الحديث، سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ وكانوا دائماً يصفون أهل الحديث بذلك، ولذلك لما جاء الإمام الشافعي رحمه الله وقد جمع بين الفقه والحديث ناظر أهل العراق وأوقفهم، حتى سماه أهل مكة: ناصر الحديث، وهو شامة في جبين المحدثين، ولذلك إذا عد فقهاء المحدثين يذكر الشافعي رحمه الله في مقدمتهم لماذا؟ لأنه أوقف دعوى أهل الرأي أن أصحاب الحديث لا يفقهون، حتى إن الشافعي كان لا يعجبه كثير مما يقول أهل العراق، لكن أدبه حمله على ألا يناظر شيخه محمد بن حسن الشيباني، مع جزم العلماء بأن الشافعي أعلم من محمد بن حسن الشيباني، كيف لا وهو معدود من المجتهدين على الإطلاق، ومحمد بن حسن الشيباني معلوم أنه من شيوخ الناس ومن مجتهدي المذهب فكان مع رسوخه في العلم وتواضعه يترك هؤلاء حتى يقوم الشيخ ويبتدئ يناظر كل أهل المجلس، فلا يستطيعون معه جواباً لماذا؟ لأن عنده أحاديث، وعنده: قال حدثنا أخبرنا.
فلما ضجوا منه ولا يجدون له جواباً، وكان حظهم من علم الحديث قليلاً شكوا ذلك إلى محمد بن الحسن وقالوا: إنك إذا قمت من المجلس ناظرنا الشافعي فما نستطيع معه جواباً، فقال له محمد بن الحسن: (إنه بلغني أنك تناظر أصحابي تناظرني؟ فقال له: إني أجلك عن المناظرة.
قال: لابد.
فتناظر معه في مسألة المياه، فلما تناظر معه طويلاً في مسألة المياه -وهذه المناظرة ملحقة بكتاب الأم- قال: إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: (تخاطأ) فقال بقولكم في الماء لكان قد أحسن التخاطؤ.
ولما جاء إسحاق بن راهويه رحمه الله فكأنه استقل الشافعي، فرسم لمحدثه بالفارسية أن هذا الشافعي ليس بقوي، وكان الشافعي يعرف الفارسية، فعلم أنه يحط عليه، فكان الشافعي متكئاً فجلس وقال له: تناظر؟ فقال له إسحاق: ما جئت إلا لذلك، فتناظروا في المسألة المعروفة في (بيع وشراء بيوت مكة) فظهر عليه الشافعي ظهوراً بليغاً.
فمسألة رمي المحدثين بقلة الفقه هذه مسألة قديمة، ما من سوء أن يكون هناك من المحدثين من لم يهتم إلا بفقه الرواية، وهذا كثير، فمن الناس من ينتسبون إلى أهل الطرائق وليسوا منهم، يعني: كثير من الناس يقول: أنا محدث.
وتجده لا يعرف شيئاً عن علم الحديث، فهل يجرح أهل الحديث به؟ لا، الشيخ ناصر الدين رحمه الله رجل أحيا الله تبارك وتعالى به السنة، وأحيا به فقه الحديث، وهو يخالف في مسائل كما يُخالف العلماء، له مسائل تفرد بها كما تفرد غيره، فلا يعني ذلك أنهم يطعنون عليه في هذه المسائل التي خالف فيها أنه ليس بفقيه، فما من إنسان إلا وقد خولف.
الشيخ حفظه الله لا يعرف قدره إلا من جالسه ورآه، هذا الرجل لو رأيته لقلت: سقط من القرون الثلاثة الأولى، على محياه نضرة السنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها) وأشهد والله العظيم كأن نضرة الحديث على وجهه، رجل إذا اعتقد شيئاً لا يحابي فيه، حتى وإن أدى ذلك إلى ضرره، فحسبه أنه رجل طريد ليست هناك دولة في الدنيا تتبناه، مع الفضل الذي أجراه الله تبارك وتعالى على يديه، وما من رجل ينسب إلى الحديث والسنة في هذا العصر -لا أقول: هذا مبالغة في مدح الشيخ حفظه الله تعالى، وإلا فهو مستغن عن مدح أمثالي- إلا وللشيخ عليه منة وفضل، وكتبه يشهد بها القاصي والداني.
وقد سئل سماحة الشيخ العلامة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تبارك وتعالى، قيل له: (أقلت ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ الألباني؟ قال: ما قلت ذلك، لكني أوافق عليه) وكان الشيخ رحمه الله في مجلس عند رجل ممن يعادون الشيخ الألباني، فسأل هذا الرجل الشيخ ابن باز رحمه الله، قال له: ما تقول في حديث كذا وكذا أصحيح؟ قال: عندك كتاب إرواء الغليل؟ الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل ممن يعاند الألباني، قال له: عندك إرواء الغليل؟ فقال له: نعم.
قال: هات الجزء الفلاني، فصعد الرجل إلى مكتبته وأتى بالجزء وفتحه وقال: اقرأ علينا ما كتب الشيخ.
المهم قرأ الرجل وفي الأخير قال: يا شيخ! ما تفعل بهذا الألباني؟ فقال: إن مصنفات الألباني لا يستغني عنها عالم ولا طالب علم.
وهذه حقيقة، قد رأينا الذين يكرهونه عيالاً عليه، ويسرقون عمله؛ ولكنهم كاللص الماكر.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحمه رحمة الأبرار، وأن يهدي هؤلاء إلى معرفة قدر العلماء.(115/20)
النزول إلى السجود في الصلاة يكون باليدين
السؤال
أشكلت علينا أمور في الصلاة فأجبنا يرحمكم الله.
الأمر الأول: ما هيئة النزول إلى الأرض للسجود؟
الجواب
بالنسبة لمسألة النزول إلى الأرض أهي باليدين أم على الركبتين؟ الصحيح في هذا الباب بما لا يدع مجالاً للشك: أن النزول إنما يكون على اليد وليس على الركبة؛ يدل على ذلك الأثر والعقل: أما بالنسبة للأثر: فحديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو صحيح لا علة فيه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) هذا لفظ قاطع في المسألة وفي غاية الوضوح، وأعظم ما أعل به هذا الحديث بقول الإمام البخاري رحمه الله في محمد بن عبد الله بن الحسن - أحد رواة الحديث؛ لأن هذا الحديث رواه الترمذي وغيره من طريق محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه- فقال الإمام البخاري: (ومحمد بن عبد الله بن الحسن ما أدري أسمع من أبي الزناد أم لا) هذا ما أعل به.
فالإمام البخاري رحمه الله نفى معرفته ولم ينف معرفة غيره، وهناك فرق بين أن يقول: لم يسمع، وبين أن يقول: لا أدري أسمع أم لا.
ولو جئنا فنظرنا في ترجمة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بـ النفس الزكية، لوجدنا أنه مدني كان يعيش في المدينة، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان عالم المدينة الأشهر في زمانه، وكان له حلقة مشهورة جداً في المسجد النبوي، فعاصر محمد بن عبد الله بن الحسن أبا الزناد خمسة وأربعين سنة في المدينة أفما التقيا ولو مرة، وهذا مدني وهذا مدني؟! محمد بن عبد الله بن الحسن يعاصره خمسة وأربعين سنة ولا يحضر مجالس أبي الزناد! فالمعاصرة محققة يقيناً.
ثم إنه لم يتهمه أحد قط بالتدليس، فإذا أمنا من تدليسه فعنعنته محمولة على الاتصال، ثم المعاصرة يقيناً موجودة -كما قلت- فيقيناً لا هناك سبيل إلى القول: لا أدري أسمع أم لا.
وهو على شرط مسلم صحيح، وفهذا غاية ما علل به.
أما حديث شريك بن عبد الله النخعي فقد جاء -وهو من حديث وائل بن حجر وأبي هريرة وغيرهم- من طريق يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا هوى إلى السجود انحط، فكان أول ما وصل إلى الأرض منه ركبتاه) قال الدارقطني رحمه الله بعد ما روى هذا الحديث: (تفرد به شريك، وليس بالقوي فيما يتفرد به) وهذا كلام من الدارقطني له وزنه: أنه لم يتابع أحد شريك بن عبد الله النخعي وهو سيء الحفظ، فمعلوم أن سيء الحفظ إذا تفرد لا يقبل منه فكيف إذا خالف؟ فهو أولى وأحرى أن يرد إليه.
وقال بعض الناس: إن رواية شريك بن عبد الله النخعي نعم ترد، لكن إذا روى عنه يزيد بن هارون فروايته صحيحة؛ لأن شريكاً ما ساء حفظه إلا بعد ما ولي القضاء في الكوفة، ويزيد بن هارون سمع منه قبل ذلك، وقد نص أهل العلم كـ ابن حبان وغيره أن رواية يزيد بن هارون عن شريك النخعي سالمة من الخلل.
ولكن يجاب عن هذا بما رواه الخطيب البغدادي عن يزيد بن هارون في الكفاية قال: (دخلت الكوفة فما رأيت بها أحداً إلا يدلس غير شريك وهشيم بن بشير) فدل على أن يزيد بن هارون دخل الكوفة وأخذ عن شريك بن عبد الله في الكوفة أيضاً.
إذاً: فله روايتان: رواية قبل الاختلاط ورواية بعده، فمذهب أهل العلم فيمن حاله هكذا أن يتوقف عن قبول خبره جملة حتى يميز أكانت روايته عنه قبل الاختلاط أم بعده.
أضف إلى ذلك أنه صح عن ابن عمر -وقد علقه البخاري بصيغة الجزم في صحيحه-: (أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه).
وقد روى الحاكم في مستدركه هذا عن ابن عمر ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الحاكم: (وقد قال به جماعة من الصحابة والتابعين، والقلب إليه أميل).
فهذه هي الآثار، وكل حديث فيه الابتداء بالركبتين فهو إما منكر وإما ضعيف جداً، وأحسنها حديث شريك، وقد قلنا: إنه ضعيف ومعارض لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما من جهة العقل: فالبعير أول شيء يصل إلى الأرض منه ركبتاه؛ إذ أن يداه موضوعتان يمشي عليهما، وذكر أهل المعاجم -معاجم اللغة- أن المقدمان من ذوات الأربع يدان، والمؤخران الرجلان.
فلما علم بعض الذين يتولون القول بتقديم الركبة ذلك قالوا: إن ركبة البعير ليست في يده! وهذا كلام لا يعرفه أهل اللغة، وقد ذكر أهل المعاجم جميعاً في مادة (ركب) قالوا: (وركبة كل ذي أربعٍ في يديه، وعرقوباه في رجليه)، واستدلوا على ذلك بثلاثة أحاديث: الحديث الأول: وهو صريح جداً في الدلالة على المطلوب -وهو في البخاري وأحمد- عندما طارد سراقة بن مالك النبي عليه الصلاة والسلام، قال سراقة بن مالك: (فدعا عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين) فدل على أن الركبة في اليد.
الحديث الثاني: حديث أنس في الصحيحين عندما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر ثم قال: (سلوني سلوني! حتى قال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ قال: أبوك حذافة.
ورجل قال: أين أبي؟ قال: أبي وأبوك في النار، فضج الناس حتى أكثروا، قال: فجثا عمر على ركبتيه) وفي الرواية الأخرى: (فبرك عمر على ركبتيه) وبوب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب البروك على الركب)، فدل هذا على أن البروك لا يكون إلا على الركبة.
الحديث الثالث: رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت خواتيم البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] قال: (جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! جاءت التي لا نستطيع) إلى آخر الحديث، فدل على أن البروك إنما يكون على الركبة، والركبة في كلام أهل اللغة لذوات الآربع إنما هي في اليد.
إذاً: ما هو أول شيء يصل من البعير إلى الأرض؟ أول شيء ركبتاه وهما في يديه، فإذا كان أول شيء يصل إلى الأرض من البعير ركبتاه فلا يكون أول شيء يصل من المصلي إلى الأرض ركبتاه، وهذا بدهي جداً، والمسألة طويلة، وأرجو أن يكون النزاع قد فصل.(115/21)
جيل الصحابة [1]
إن جيل الصحابة الكرام هو الجيل الذي اختاره الله واصطفاه لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونشر الدين والدعوة.
وقد تميز هذا الجيل الفريد بأنه تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن تربيته، وظهرت آثار تلك التربية واضحة جلية في مواقفهم وجميع شئون حياتهم، ومن تدبر حياتهم، وتأمل في حالهم علم أنهم خير أمة أخرجت للناس، وخير جيل أبصرته البشرية، بهم نفاخر أهل الأرض -بل وأهل السماء- وعلى منهاجهم نسير وبخطاهم نقتدي، ومن يتبع غير سبيلهم فقد ضل ضلالاً مبيناً، ومن انتقصهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقة، وحارب الله ورسوله والمؤمنين.(116/1)
مواقف من حياة الصحابة رضوان الله عليهم
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
قال جماعة من أهل العلم -من المحققين منهم-: إن هذه الآية خاصة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا تتعداهم إلى غيرهم.
وقال آخرون: بل تتعدى إلى غيرهم إذا كانوا على نهج الصحابة.
وعلى أي حال، فإن الآية نزلت فيهم، فهم المقصودون أولاً بها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
وأنت إذا تدبرت حياة الصحابة ومواقفهم، وهجرتهم، وتركهم الأموال والضياع والأولاد والبيوت لله عز وجل، علمت أنهم كذلك، فليس هناك جيل على الإطلاق يساويهم، لا رجالهم ولا نساءهم.
وهذه مواقف من مواقفهم حتى تعلم أن هذا الجيل ينبغي أن لا يمس بسوء وفينا عين تطرف، فليس لنا جيل مشرق في حياتنا نفاخر الدنيا به إلا هذا الجيل.(116/2)
قتل كعب بن الأشرف
محمد بن مسلمة وأبو نائلة فـ أبو نائلة أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخت كعب، فلما كثر إيذاء كعب للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه أذى الله ورسوله؟)، فقام محمد بن مسلمة قال: أنا له.
وقال أبو نائلة: وأنا كذلك.
قال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! أتأذن أن نقول له شيئاً -نكذب عليه، نغرر به- قال: نعم) فجاء محمد بن مسلمة إلى كعب وقال: إن هذا الرجل -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد عنانا -كل يوم يطلب صدقة، ونحن تعبنا من هذا الموضوع- وجئنا نستسلفك صاعاً أو صاعين من شعير.
فقال كعب: -والله لتملنه أي: هذه البداية فقط، لكن أيضاً ستملونه- قال محمد بن مسلمة: إنا لا نريد أن نخالفه حتى نرى إلى أي شيء ينتهي أمره، لكن جئت أستسلفك وسقاً أو وسقين.
فقال كعب: ارهنوني نساءكم.
فقال محمد بن مسلمة: أنعطيك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! إذاً: يفتنَّ بك، فقال: ارهنوني أبناءكم.
قال: هذا عار علينا، يسب أحدهم يوماً فيقال: رهن بوسق من شعير أو وسقين، ولكن نعطيك اللأمة.
اللأمة: هي الدرع والسيف، وهذه كانت مبادرة ذكية من محمد بن مسلمة؛ لأنه لو جاء بالسيف لخاف كعب ولظن أن في الأمر شيئاً، فتواعدوا إلى اليوم الثاني، وكان كعب قد تزوج حديثاً من امرأة من العرب، يقال أنها أعطر العرب، أحسن امرأة تصنع العطر، وفي اليوم الموعود جاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة في منتصف الليل، فناداه أبو نائلة: يا كعب! قال: من؟ قال: أبو نائلة انزل -هناك موعد-.
فقالت امرأة كعب: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم -امرأة ذكية، صوت أبي نائلة وهو ينادي كأنه يقطر دماً، كيف تنزل في هذه الساعة؟ - فقال لها: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، لو أن إنساناً يستغيث في الشارع أنجده، فكيف وهذا رضيعي أبو نائلة؟! وكانوا قد جهزوا الخطة أن محمد بن مسلمة يمسك رأسه والبقية يضربون بالسيوف، فنزل كعب ينفح منه ريح الطيب؟! فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم عطراً! فقال كعب متبجحاً: كيف لا وعندي أعطر العرب.
فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم.
فأعطاه رأسه فشمه وتركه، ولم يهجم من البداية.
لكي يعطيه الأمان، وكل واحد من الموجودين جعل يشم رأسه ويتركه أيضاً، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك مرة أخرى؛ فحينئذ أمسك محمد برأسه ثم قال: دونكم عدو الله فاضربوه، فضربوه فقتلوه، ومحمد بن مسلمة هو ابن أخته وأبو نائلة أخوه من الرضاعة، لكن إذا كان الأمر يقتضي ذلك والآمر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فلا يتخلفون.
فالصحابة رضوان الله عليهم استطاعوا في عشر سنوات أن يكونوا دولة، والعرب جنس لا يصلح إلا بدين، كانوا قبل الإسلام أمة على هامش الدنيا، لا قيمة لها على الإطلاق، لم يكن لها دين، وإنما كانت الأرض آنذاك لفارس والروم، وكان العرب بدواً رحلاً، رعاة شاء، فجاء الإسلام فرفعهم إلى منزلة سامية، قادة أمم.
واليوم العرب أمة لا قيمة لها تعيش على ضفاف نهر الحياة، لأنها تخلت عن دينها، فلو رجع المسلمون اليوم إلى دينهم؛ لغزوا فارس والروم، وأخذوا أمريكا، وسيطروا على الفرس، لكنهم تركوا دينهم وحكموا القوانين الوضعية التي صنعها الغرب وأصبح الرجل لا يمشي في بلد من بلاد المسلمين بأمان الإسلام كما يمشي بأمان القانون، فالإسلام في المساجد فقط، تدخل المسجد الكتاب يحكمك، تخرج من المسجد القانون يحكمك وليس الإسلام، وشريعة الله عز وجل لا تحكم.
فهم الآن مثل أجدادهم الأوائل لا يتمسكون بدين؛ فلا قيمة لهم، لكن الصحابة تمسكوا بالدين، ففي عشر سنوات صارت لهم دولة! أخبروني عن أي جيل من بني آدم عليه السلام إلى الآن استطاع أن يكون له دولة في عشر سنوات، وهي المدة من بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة إلى وفاته، لماذا؟ لأنه كان عندهم مثل هذا الصنف النفيس من الصحابة الكرام.
وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قامت الفتن في عصره، فقال له قائل: لم ثارت الفتن في عصرك ولم تثر في عصر عمر؟! قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا وال على مثلك! اختلفت نوعية الرجال، وأزمتنا في الحقيقة أزمة رجال، لذلك نذكر الجماهير بحياة الصحابة، فهم الأسوة العملية، والذين يطعنون الآن في الصحابة قد طعنوا في الإسلام كله، ولله در الإمام النسائي رحمه الله لما جاءه رجل فقال: إن رجلاً يتكلم في معاوية بن أبي سفيان، فقال الإمام النسائي رحمه: إنما الإسلام دار والصحابة الباب، فمن نقر على الباب إنما أراد الدخول، ومن أراد الصحابة إنما أراد الإسلام.
ولما قيل لـ أبي زرعة الرازي رحمه الله: إنهم يتكلمون في الصحابة.
قال: (يريدون أن يطعنوا في شهودنا، وهم أولى بالطعن، وهم زنادقة).
يريدون أن يطعنوا في الصحابة وهم الذين نقلوا إلينا الدين، إذا سلمنا بالمقدمة سلمنا بالنتيجة، الصحابي نقل دين الله، فإذا قلت: هذا الصحابي ليس بعدل، قلت: الذي نقله كذب، فالذين يتكلمون على الصحابة يريدون الطعن في الدين؛ لأجل هذا كان ينبغي علينا أن ننظر في حياة الصحابة، فليس لهم نظير في الابتلاء والحب والقول، كما سأعرض عليكم نماذج من ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(116/3)
حديث سلمة بن الأكوع
موقف آخر لصحابي لا تعرفه الجماهير، لكنه بطل مغوار وفارس شجاع، روى الإمام مسلم في صحيحه خبره العجيب، وهو سلمة بن الأكوع، وسلمة كان رجلاً شجاعاً، وعداءً سريعاً لا يلحق.
يقول إياس بن سلمة: حدثني أبي قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ونحن أربع عشرة مائة -ألف وأربعمائة- وعليها خمسون شاة لا ترويها.
قال: فقعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبا الركية -على شاطئ البئر- فإما دعا وإما بصق، فجاشت فسقينا واستقينا.
قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة.
قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس قال: بايع يا سلمة؟ قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس.
قال: وأيضاً، قال: ورآني عزلاً -أي ليس معه سلاح- فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة، ثم بايع.
حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايعني يا سلمة؟ قال: قلت: يا رسول الله! قد بايعتك في أول الناس وفي أوسط الناس! قال: وأيضاً، قال: فبايعته الثالثة.
ثم قال لي: يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ قال: قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها.
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كما قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي)، ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحثه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة، فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها.
قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم على الشجرة، قال: فبينما هم كذلك، إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم.
قال: فاخترطت سيفي -أخرجته من جرابه- ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سيوفهم فجعلتها ضغثاً في يدي.
قال: ثم قلت: والذي أكرم وجه محمد لا يرفع أحدكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه.
قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه)، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان -وهم المشركون- فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقى هذا الجبل الليلة قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً، ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه -الظهر: الإبل والبغال والحمير- وخرجت معه بفرس طلحة، فلما أصبحنا إذ عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه.
قال: وقلت: يا رباح: خذ هذا الفرس، فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثاً: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع - الرضع هم اللئام، يقال: لئيم راضع: لأن اللئيم إذا أراد أن يشرب من لبن الشاة يرضع ويمص لبنها من ثدي الشاة حتى لا يسمع الناس أنه يشرب ويشاركونه في اللبن، فيقال: لئيم راضع، فاليوم يوم الرضع أي: هذا هو يوم اللئام- قال: فألحق رجلاً منهم، فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع فرس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل -دخلوا في تضايقه- علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة.
قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم تبعتهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون -يستخف نفسه لكي يفر، فأي شيء يسبب ثقل الحركة والمشي يتركونه- قال: ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايقاً من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون (أي: يتغدون) وجلست على رأس قرن.
قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس، يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا.
قال: فليقم إليه نفر منكم، فصعد إلي أربعة منهم.
فلما أمكنوني من الكلام قلت: ألا تعرفوني؟ قالوا: لا.
قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني.
قال أحدهم: أنا أظن -يعني: لا يستطيعون ذلك- فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت غبار فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر.
فإذا أولهم الأخرم الأسدي على أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي.
قال: فأخذت بعنان الأخرم.
قال: فولوا مدبرين.
وقلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال: يا سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة.
قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن الفزاري.
قال: فعقر بـ عبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق به أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم -بـ عبد الرحمن - فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم اتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئاً -كان عداءً سريعاً جداً- حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فحليتهم عنه (أي: أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة.
قال: فيخرجون فيشتدون في ثنية.
قال: فأعدو فألحق رجلاً منهم، فأصكه بسهم في نغص كتفه.
قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلة أمه! أكوع بكرة؟! قال: قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة قال: وإذا بلال قد ذبح ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها.
قال: قلت: رسول الله! خلني أنتخب مائة رجل، فنتبع القوم -نفسه طويل- فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو كنت تفعل ذلك يا سلمة؟ قال: نعم والذي كرمك.
قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه في ضوء النهار، فقال عليه الصلاة والسلام: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان إلى آخر الحديث.
قال سلمة: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليالٍ حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعل عمي عامر يرتجز: تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال عليه الصلاة والسلام: من هذا المرتجز؟ قال: أنا عامر قال: يرحمك ربك أو قال: يغفر لك ربك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استغفر لرجل يخصه بذلك استشهد، فقال عمر بن الخطاب لما سمع ذلك: يا رسول الله: ألا متعتنا بـ عامر؟ علم أنه سيموت، لما استغفر له علموا أنه سيقتل في المعركة.
فلما وصلوا إلى خيبر خرج مرحب -وكان ملكهم- يقول مرتجزاً: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فخرج عامر بن الأكوع وقال: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فمات.
فقال جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: بطل عمل عامر! قتل نفسه! قال سلمة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي، فقال: ما يبكيك يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! قال جماعة من أصحابك: بطل عمل عامر.
قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين.
قال: ثم أرسلني إلى علي بن أبي طالب وهو أرمد فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله.
قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله فبصق النبي صلى الله عليه وسلم على عينيه فبرأ وأعطاه الراية، وخرج مرحب وقال: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي بن أبي طالب: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة ثم تبارزوا فقتله علي ب(116/4)
قصة سعد بن أبي وقاص مع أمه
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- قالت له أمه: إنك تقول: إن دينك جاء بمكارم الأخلاق وصلة الأرحام -وكان سعد من أبر الناس بأمه- فوالله ما أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بدينك، فإذا مِتُّ عُيِّرت بي؛ فيقال: يا قاتل أمه! وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها فتحوا فمها بالعصا، لأنها تأبى أن تأكل وتشرب، حتى يعير سعد بها طيلة العمر، وكما قلت لكم كان من أبر الناس، فقال لها: يا أم! كلي أو دعي، فوالله لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني؛ فأنزل الله عز وجل قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8].
فطاعة الوالدين لها حدود، إلا طاعة الله ورسوله، فطاعتهما مطلقة، وكل إنسان في الدنيا طاعته مقيدة بقيدين: القيد الأول: الاستطاعة.
والقيد الثاني: المعروف، فإذا أُمرت بما لا تستطيع سقط الأمر وسقط وجوبه، وإذا كان مستطاعاً، لكنه حرام، سقط وجوبه، لكن طاعة الله ورسوله مطلقة لا حد لها.
مثلاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية، فجاء الوالد، فقال: احلق لحيتك، فحينئذ تعارض أمران، تعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع أمر الوالد، لماذا يثور الوالد على أمر النبي عليه الصلاة والسلام؟! حينئذ يأتي إنسان ليستفتي، فنفتيه بالفتوى الآتية، الأب هذا يقول له: إذا لم تحلق فاخرج من البيت، فنقول له: أطع ربك وأطع أباك، لا تحلق لحيتك واخرج من البيت، لا تجلس في البيت على رغم والدك، لأنك خروجك من البيت مستطاع ويطاق، فلا تخالف أمره إذ أمرك بالخروج.
إذاً: أطع أمر والدك واخرج من البيت، وأطع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحلق! لكن كثيراً من الناس يجور على حق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يجوز، بعض الذين يدركهم الخور والضعف يعصون النبي صلى الله عليه وسلم ويطيعون آباءهم، وهذا ليس له نظير عند الصحابة، فالصحابة ما كانوا يفعلون ذلك ولا قليلاً من ذلك، وهذا سعد بن أبي وقاص يضرب لنا المثل ويضرب لنا الأسوة، يقول لأمه التي هو أبر الناس بها: (والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني) هناك حدود فاصلة لا يتعداها الإنسان على الإطلاق.(116/5)
من مواقف الصحابة في الزهد والصبر على المشاق
الحمد لله رب العالمين له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(116/6)
حديث جابر بن عبد الله في سرية سيف البحر
كان صلى الله عليه وسلم يرسل الجيش وأحياناً يأكلون ورق الشجر، ولم يتضجر واحد منهم، أو يقل: كيف نأكل ورق الشجر؟! فمثلاً: يروي جابر بن عبد الله -كما في الصحيحين- فيقول: (أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح وأعطاه جراباً من تمر، فكان أبو عبيدة يعطيهم تمرتين تمرتين، وبعد ذلك يعطيهم تمرة تمرة، -أي: لما بدأ التمر ينفد أصبح يعطيهم تمرة تمرة- قال جابر: فكنا نمصها ونشرب عليها الماء حتى نفد التمر، فكنا نأكل ورق الشجر، قال: فرمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها: العنبر -وهو حوت عظيم ألقاه البحر على الشاطئ- فلما رآه أبو عبيدة قال: ميتة لا تأكلوه -لم يكن يعلم حل ميتة البحر- ثم قال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في سبيل الله، ونحن مضطرون، كلوا، قال جابر: فكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، قال: وجلس ثلاثة عشر رجلاً منا في عينه، قال: وجاء أبو عبيدة بضلع من أضلاع العنبر فنصبه، وجاء بأعلى جمل وركبه أطول رجل فمر من تحته، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هل معكم منه شيء؟.(116/7)
أبو هريرة وصبره على الجوع
في صحيح البخاري قال أبو هريرة رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد كنت أصرع بجانب المنبر، فيجيء الجائي، فيظن أن بي جنوناً، فيضع قدمه على عنقي يظن أن بي جنوناً، وما بي إلا الجوع)، جائع وكان رضي الله عنه إنساناً عفيفاً قال رضي الله عنه: فصليت الفرض ثم خرجت وجلست على الطريق، فمر بي أبو بكر رضي الله عنه فسألته عن آية في كتاب الله وإنها لمعي -أنا أعرفها، لكنه يسأله حتى يقول له: تعال نتغدى وأكلمك، فيكون قد حصل على مراده- قال: فسألته عن آية في كتاب الله وإنها لمعي، وما سألته إلا رجاء أن يستتبعني -يقول لي: اتبعني.
تعال معي، وإنما أغراه بذلك أن جعفر بن أبي طالب كان من أكرم الناس، وكان أبو هريرة دائماً حين يسأله سؤالاً يقول له: تعال نتغد أولاً ثم نتكلم على الغداء، فظن أن كل الناس مثل جعفر، وأنه حين يسأله سؤالاً سيقول له: تعال نتغد وسوف أجيبك- قال: ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني.
قال: فأجابني ومضى، قال: فجاء عمر فسألته عن آية في كتاب الله وإنها لمعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني، قال: فأجابني ومضى، قال: ثم جاء أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى وجهي، فعرف ما بي، فتبسم، فقال: أبا هر! الحق بنا، قال: فانطلقت خلفه، فدخلنا البيت، فإذا إناء من لبن، قال: من أين هذا؟ قالوا: أهداه لك فلان -بدأ أبو هريرة يتبسم، سيشرب لبناً- قال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبا هر! الحق بأهل الصفة فادعهم يشركوننا في هذا اللبن، قال: فأحزنني ذلك -وماذا يفعل هذا اللبن لأهل الصفة، لأنه لو كل واحد شرب شربة سينتهي- إنما كنت أريد أن أظفر منه بشربة تقيم صلبي -ثم أمرٌ آخر أحزنه أنه سيسقيهم، وساقي القوم آخرهم شرباً.
إذاً: لن يجد لبناً- قال: ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بد.
(وأهل الصفة -كما ذكر أبو نعيم الأصفهاني - كانوا أربعمائة وخمسة عشر أربعمائة وخمسة عشر وإناء لبن!!) قال: فدعوتهم فجاءوا فجلسوا، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم الإناء ووضع يده عليه وقال: باسم الله خذ يا أبا هريرة قال: فكنت آخذ الإناء، فأعطيه للأول، فيشرب حتى يدعه، فآخذه منه فأعطيه للثاني والثالث والرابع إلى تمام أهل الصفة، واللبن في الإناء كما هو -بركة- فجاء أبو هريرة بالإناء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تبسم -فهو يعلم ما به- فلما رآه تبسم قال: يا أبا هر! لم يبق إلا أنا وأنت.
! فقلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد يا أبا هريرة فقعدت.
قال: اشرب فشربت قال: اشرب، اشرب، اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مكاناً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الإناء وكان فيه شربة، فسمى الله وشربها).
انظر كان يصرع بجانب المنبر، وما به من داء إلا الجوع، كل هذا في سبيل الله وحباً في رسوله، وكان منهم ألوف تركوا أموالهم وتركوا ديارهم فداءً لله ورسوله.(116/8)
خطر الطعن في الصحابة
لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في الناس اليوم لوجد فيهم من يقاتله، أمثال هؤلاء الذين يسبون أصحابه، ويدعون التشيع لأهل بيته.
قال الإمام مالك رحمه الله عندما قيل له: أرأيت الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يطعنون على النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: هو رجل سوء وله صحابة سوء).
ما معنى أن الصحابة سيئين؟ معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عليهم وما قومهم وهذه تربيته! فكأنه مثلهم!! فهؤلاء يطعنون على النبي عليه الصلاة والسلام، ولو خرج النبي عليه الصلاة والسلام فيهم لقاتلوه.
فنحن في محنة عظيمة، نحتاج أن نعلم أولادنا حب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ونغرسه في صدورهم، حتى ترتفع الهمة ويصير لنا قيمة، فإننا لن ننتصر إلا بدين، وسنظل على هذه الدنيا، يتهمنا الأعداء بالإرهاب العالمي، وهم الإرهابيون حقاً.
اليهود يقتلون المصلين السجد في المسجد الأقصى، ليس بإرهاب، ولم تسمع للعالم أجمع همسة وعندما حصل تفجير ومات ستون يهودياً ضج العالم منددين بالإرهاب، وجاء الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي ليعزوا اليهود، لكن عندما يراق دم مائة مسلم ساجد فهذا ليس بإرهاب، فأصبح دم المسلمين أرخص الدماء.
فينبغي أن ننهض بهممنا لنعيد للإسلام مجده، فنربي أبناءنا على دين الله تعالى، ليحذروا المرحلة القادمة، فهي مرحلة خطيرة، مرحلة الأقمار الصناعية والفضائيات وشبكة الانترنت التي تستخدم لإفساد شباب المسلمين، فالجيل القادم ينبغي أن يكون على مستوى المسئولية؛ لأن الفتن عظيمة وجسيمة.
فيا أيها المسلم: لا تلق الله خائناً، رب ولدك؛ لأن الأيام القادمة أيام عجاف تحتاج إلى جيل مثل جيل الصحابة.
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمي سوى العالي من الشجر صاحب القامة الطويلة هو الذي يناله البلاء، والبلاء قادم بلا شك، وبيننا وبين اليهود حرب فاصلة نحتاج فيها إلى الرجال.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
اللهم ثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(116/9)
جيل الصحابة [2]
لقد سطر لنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم عبر التاريخ أنصع الصفحات وأروع المواقف في الاتباع لله ورسوله، وفي العزة والشجاعة، وبذل المهج والأرواح في سبيل الله، وفي التوكل على الله والثقة به، ولقد كانوا أخوف الناس من الله وأعظمهم رغبة فيما عنده، وأشدهم حرصاً على مرضاته، يغضبون لما يغضب منه الله ورسوله، ويرضون بما يرضى به الله ورسوله، ولا يوادون أحداً يحاد الله ورسوله ولو كان أقرب الأقربين.(117/1)
وجوب الاقتداء بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
ما زلنا -أيها الإخوة الكرام- نسرد بعضاً من مواقف هذا الجيل الفريد، فإن الله تبارك وتعالى خلق خُلق التأسي في بني آدم، كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فالذي جعلها تصبر أنها رأت غيرها مصاباً بهذه المصيبة، فكلما رأيت غيرك مصاباً في مصيبة هانت عليك مصيبتك، وقد قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
كذلك حياة الصحابة، فإنك حين تطالع سيرتهم في الجهاد، والبذل والفداء، سواء كان ببذل النفس والمهج أو ببذل المال؛ تعلم أن صاحب هذا الخلق -حتى ولو لم يكن مؤيداً بدين- سينتصر؛ لأن فيه من جميل الخلال وخصال الكمال ما يجعله أهلاً أن يحكم هذه الأرض.(117/2)
ظاهرة عمل الشباب المسلم في المحلات الغربية التي تبيع المحرمات
شبابنا الآن يسافرون إلى البلاد الأوروبية ليعملوا في المطاعم، ليقدموا للآكلين الخنزير والخمر، وكل ذلك بدعوى تحصيل المال والحصول على لقمة العيش، وهذا نوع من دناءة النفس، أن يأتي المرء ما حرم الله تبارك وتعالى، ويظن أنه بمعصية الله ليس يخسر، وهذا خطأ في التصور.
ودعونا نضرب هذا المثال: لو أن رجلاً من أكرم الناس لا يسأله سائل إلا أعطاه، ولا يطلبه مبلغاً إلا أعطاه مثله وربما أكثر، فأكبر مصيبة تصاب بها أن يموت هذا الرجل، لأنه لا يحوجك إلى أحد، كلما طلبت شيئاً أعطاك، فأكبر مصيبة أن يموت هذا الرجل، فالله تبارك وتعالى قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] مع أن الذي لا يموت هو الحي وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ إذاً: هذا الذي ذهب إلى بلاد الغرب واشتغل فيما حرم الله لم يتوكل على الله الحي الذي لا يموت.
فمهما كان الرقم كبيراً فإن له نهاية، لكن عطاء الله تبارك وتعالى وحده هو الذي لا ينقطع وليس له نهاية، كما يقول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].
والحديث المشهور في صحيح مسلم وهو أجل حديث لأهل الشام، حديث أبي ذر: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي) من ضمن هذا الحديث قال الله تبارك وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد -وقفوا في طابور من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة- وسأل كل واحد مسألته، فأعطيته مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر).
كل واحد يتمنى أي أمنية تخطر على باله من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، وربنا تبارك وتعالى يعطيه ما يتمناه، والذي ينقص من خزائن الله مثل أن تدخل إبرة في البحر المحيط وتخرجها، وهذه الإبرة لم تأخذ من البحر المحيط شيئاً، وهذا على سبيل التمثيل، وإلا فلا ينقص من خزائنه شيء، كما قال الخضر لموسى عليه السلام لما التقى به في مجمع البحرين، وكانت هذه الرحلة كلها بسبب كلمة قالها موسى عليه السلام كما في الصحيحين، فقد كان موسى عليه السلام في مجلس من مجالس بني إسرائيل، فقال كلاماً مؤثراً بكى له الناس ورقت قلوبهم.
فقال قائل لموسى عليه السلام: يا كليم الله! هل هناك أحد هو أعلم منك؟ فقال: لا أعلم في الأرض من هو أعلم مني، فعتب الله عليه، لأنه لم يرجع العلم إليه، ما أدراك؟ سبحان من لا يعلم أسرار خلقه إلا هو، كم في الزوايا خبايا، وكم في الناس بقايا، فعتب الله عليه لأنه لم يقل: الله أعلم.
فقال الله له: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.
وأمره أن يذهب إلى مجمع البحرين والتقى موسى عليه السلام بالخضر، فجاء عصفور، فنقر في ماء البحر، فأخذ قطرة، فقال الخضر لموسى: يا موسى! مثل علمي وعلمك إلى علم الله كمثل ما أخذ هذا العصفور من ماء البحر.
إذاً: المسألة تقريبية فقط، وإلا لا ينقص من خزائن الله شيء لماذا تركب معصية الله لتحصل على المال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بأربع كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن -أول كلمة من هذه الكلمات-: إن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من حر ماله، وقال له: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إليّ، فكان يبيع ويعطي غيره -يأخذ حصيلة البيع كل يوم ويذهب إلى جاره ويعطيه حصيلة البيع- قال عليه الصلاة والسلام: فأيّكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟) من فيكم يرضى بهذا؟! المال مالك، والمحل محلك، ويبيع عبدك ويعطي المال لجارك هذا العبد أتبقيه يوماً واحداً؟! ما أظنك تبقيه يوماً واحداً، فلماذا قبلت أن تفعل هذا مع الله، وأنت لا تفعله مع نفسك، وتأنف أن يكون عبدك كذلك؟! فإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، يقول الله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] والتوكل: هو اعتماد القلب على الله، وهذا الذي كان يميز الصحابة رضي الله عنهم عن غيرهم، كان الواحد منهم تزهق نفسه ولا يقترب من محرمات الله، وكان الواحد يترك باباً من الحلال إذا اقترب من باب شبهة؛ خشية أن يقع في الشبهة لماذا؟ لأن لديه توكلاً كاملاً على الله أنه لن يضيعه.
فأنت عبده وأنت صنعته، فلن يضيعك.
ثم سوء الظن بالله أن تظن أنك إذا ركبت معاصيه أعطاك، وإذا أطعته حرمك، هذا سوء ظن بالله تبارك وتعالى.
أنت إذا كنت فقيراً فلذ بغني، ولا أغنى من الله؛ قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40].
انتبه إلى كلمة (نحن) مع أن الكلام يمكن أن يفهم بدونها: (إنا نرث الأرض من وعليها) لكنه قال {إِنَّا نَحْنُ} [مريم:40] ضمير العوض: {إِنَّا نَحْنُ}، يعني: هذا كله إليه؛ فالله سبحانه وتعالى له الملك وحده، وهو القادر على شيء.
وأصحاب النظام العالمي الجديد لو أحبوا أن يصنعوا مكيفاً مركزياً للعالم، يدفئ العالم في الشتاء، ويجعله برداً في الصيف فوالله لن يستطيعوا ذلك أبداً، ولو أنفقوا أموال الدنيا كلها.
فالقادر هو الله، والرازق هو الله، بيده خزائن السموات والأرض.(117/3)
هجرة صهيب الرومي رضي الله عنه
بعض الشباب يذهبون إلى الخارج -بلاد أوروبا- يبحثون عن عمل، فيرتكبون المعاصي والمنكرات في سبيل جمع المال، وهذا لا يجوز، ولم يكن هذا دأب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.
فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه خطر بباله أن يأخذ جميع ماله الذي جمعه طول عمره، ويهرب في الليل من مكة إلى المدينة فاراً بدينه، فعلم المشركون أنه سيهرب، فلحقوه بالخيول، فقبضوا عليه في منتصف الطريق، فقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، وتريد أن تأخذ المال وتذهب؟! فقال: أرأيتم إن خليت بينكم وبين المال -أعطيتكم المال- أتخلون بيني وبين وجهي؟ أي: بيني وبين الجهة التي أريد أن أذهب إليها؟ قالوا: نعم.
فأعطاهم المال غير نادم ولا آسف، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال له: (ربح البيع يا أبا يحيى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]) فهذه صيغة عقد، وهذا العقد ينقصه توقعيك أنت فقط، لأن المشتري مضمون، وهو الله تبارك وتعالى، فهذا عقد بينك وبينه، هل توقع على هذا العقد أم لا؟ {إن الله اشترى} هو ذا العقد، ينقصه توقيعك أنت، ولكن أكثر الناس يهاب أن يوقع.(117/4)
نعمة الابتلاء
اعلم أن كل إنسان على وجه هذه الأرض مبتلى، فليكن بلاؤك في ذات الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يُرْزَقْها بعمله، ابتلاه حتى يبلغها).
أي أن البلاء ليس شرطاً أن يكون في الله تعالى، كرجل مؤمن ولكنه لا يحافظ على النوافل والقربات المستحبة، وقد كتب الله له منزلة، فإنه إن لم يبلغ المنزلة التي سبقت من الله له بعبادته، ابتلاه الله عز وجل ليرفعه إليها.
فإذا ابتليت في ذات الله كان أشرف لك لماذا؟ لأن سلفك في ذلك هم الأنبياء، وحين تلتفت في الطريق، تجد أن أسلافك هم الأنبياء تطمئن نفسك.
وأنت عندما تسجن (مثلاً) من أجل دينك تختلف اختلافاً كلياً مع ذلك الذي يسجن من أجل الحشيش أو القتل أو غير ذلك فلا بد أن يصيبك بلاء، فاقبل أن يكون في الآخرة عند ربك لماذا؟ لأن سلفك هم الأنبياء، والصحابة والتابعين، والأئمة المتبوعين، وهم أتباع الصادق صلى الله عليه وسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه).(117/5)
في الابتلاء سلامة للقلوب من أمراضها
إن المرء يوم القيامة يوزن بقلبه، وسلامة هذا القلب فيه سلامة العقل، وكثير من الناس يظن أن العقل في الدماغ، وهذا غلط، فالعقل في القلب وليس في الدماغ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] فالعقل في القلب وليس في الدماغ، فسلامة القلب معناها سلامة عقلك.
وهذا يعني: سلامة تفكيرك.
وهناك قصة مشهورة نشرت في الجرائد بمناسبة أن الدكتور مجدي يعقوب الجراح المصري الذي يقطن في لندن، قد أجرى عملية نقل قلب لشاب إنجليزي عمره تسع عشر سنة، ونجحت العملية عشرة على عشرة إلا أنها دمرت خلايا مخ الشاب، فرفع والد الشاب قضية على هذا الدكتور يطالبه بتعويض.
فبمناسبة هذا الخبر نشرت الجرائد قصة الدكتور برنر -أول طبيب نقل قلباً في الدنيا، وكان هذا سنة (1963م أو 1965م) - نقل قلباً لمريض في سويسرا، وبعد أن نقل هذا القلب بطريقة ميكانيكية جيدة، بدأ المريض يخلط بين الأمور؛ وظن في البداية أن ذلك من تأثير البنج، لكن المريض لم يفق وظل يخلط دائماً.
وبعد ذلك نقل هذا الطبيب برنر قلباً لرجل آخر، فبدأ هذا الرجل أيضاً يخلط بين الأمور، ويأتي بكلام لا يفهم معناه، فأرسل الدكتور مساعديه ليستقصوا عن صاحب القلب الأصلي، فوجدوا أن المريض الذي نقل إليه القلب يهذي بوقائع حقيقية لصاحب القلب الأصلي؛ مع أنه لا لقاء بينهما ولا يعرف أحدهما الآخر؛ لكنه يهذي بقصص وحكايات لصاحب القلب الأصلي حينئذ أسقط في يد هذا الدكتور، وعقد مؤتمراً صحفياً، وأعلن بأسى بالغ اعتزال مهنة الطب؛ لأنه جنى على رجلين، ثم قال: ما قيمة إنسان إذا كان يعيش في فلك إنسان آخر، يفكر بتفكيره، ويعيش في أحلامه، ويتخلى عن حياته؟! واعتزل الطب بسبب هذه المسألة، وهناك بعض الأطباء ينسون الفوط وأجهزة التليفونات في بطن المريض أحياناً، ويعتبرونه أمراً عادياً، وهذا فيه جناية على المريض.
واعلم أن العبد يوم القيامة يوزن عند الله بقلبه: (يأتي الرجل السمين البدين لا يزن عند الله جناح بعوضة) لماذا؟ قال ابن القيم رحمه الله: لأن العبد يوزن عند الله بقلبه: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].
وهذا القلب إنما يستمد مادة حياته من المحن ومن العوارض ومن المتاعب، وأول ما تريحه يموت، فالقلب بخلاف الجوارح، فعندما تأكل وتشرب جيداً تنمو الجوارح، وتكبر العضلات، وينتفخ صدرك، وتصير بحالة جيدة، فإذا قطعت الأكل لمدة أسبوع، تجد أنك قد نحفت، وأن العضلات بدأت تتفسخ تضمر؛ فالجوارح تستمد حياتها من الراحة أما القلب فهو يستمد حياته من المحن، ففيها سلامة القلب، فالقلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن، ولذلك اختار الله عز وجل البلاء، فجعله من نصيب أوليائه؛ لا لهوانهم عليه، ولكن ليحصن قلوبهم؛ لأن أحدهم لو استراح، وركن إلى الدنيا، ضعف قلبه، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً وأدناهم الناس همة هم أهل الترف، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16].
(أمرنا مترفيها) يعني: بالطاعة: {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، وفي قراءة أخرى (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها) أو (أمّرنا مترفيها) لكنها قراءة شاذة -أعني: (أمّرنا) - لكن العلماء يقولون: إن القراءات الشاذة تستخدم للتأنيس، كقراءة: (أمّرنا مترفيها) أي: جعلناهم أمراء، تخيل إنساناً أميراً وجاهلاً، فلا يشتهي شهوةً إلا وجدها عند أطراف أصابعه.
إذاً: حين ابتلاك الله عز وجل ليس لهوانك عليه، ولكن ليضمن سلامة قلبك له تبارك وتعالى، فلا تبتئس.
إن المؤمن مصاب ومبتلى، لكن مصيبته ومبتلاه في ذات الله: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وسلامة قلبك تقتضي إذا شعرت بأي تغير في هذا القلب أن تتصل بالخالق سبحانه وتعالى مصرف القلوب.
سأضرب لكم مثلاً: لو أن شخصاً أحب أن يقتل ملكاً أو رئيساً، فهل يستطيع بمجرد أن يفكر بذلك أن يقتله؟ لا.
لا يستطيع ذلك، فلابد من أن يظل شهوراً أو سنين، يراقبه ويخطط لمصرعه، ولابد أن يعمل دراسة طويلة عريضة لماذا؟ لأن قتل الملوك ليس سهلاً، ومن الصعب جداً أن يقتل الإنسان ملكاً.
كذلك القلب -ملك البدن- لا يستطيع الشيطان أن يغتاله بسهم يصوبه إليه ابتداءً، فالقلب عليه حراسة شديدة؛ لأنه مِلْك الرب تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وهذا القلب آية من آيات الملك تبارك وتعالى.
وإذا مات قلب الإنسان، فقد سبقته ذنوب كثيرة وسنوات من الغفلة، فسهل على الشيطان إصابة قلبه.
فالإنسان الذي يريد أن يلقى ربه بقلب سليم -أول ما يشعر أن هناك تغيراً في هذا القلب؛ وفيه قسوة شديدة وعينه لا تتأثر بالقرآن- ينبغي له أن يبحث عن طبيب رباني يداويه.
ولو أنك أصبت -والعياذ بالله- بتصلب شرايين أو جلطة أو غير ذلك من الأمراض، فإنك تسارع إلى الطبيب لتعالج جسدك قبل فوات أوان نفع الطب، فلماذا حين يكون الأمر متعلقاً بروحك وقلبك لا تسارع إلى علاجه؟!(117/6)
الصحابة أطهر الناس قلوباً
إن الله تبارك وتعالى ما اختار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن نظر إليهم فوجدهم أطهر الناس قلوباً.
فهذا أبو الدحداح رضي الله عنه مرة -كما في مسند البزار- كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] وكان لـ أبي الدحداح بستان به ستمائة نخلة، وهذه بضاعة رائجة عند العرب.
والأسودان التمر والماء كانت أساس حياة العرب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بيت لا تمر فيه جياع أهله).
إنسان يقول: نحن ليس لدينا تمر ولا نأكل تمراً، ونحن -والحمد لله- في نعمة وشبع؟! نقول له: إن الجوع هنا ليس معناه أن تكون جائعاً دائماً، فأنت لو أكلت جبنة أو زبدة، فما هي إلا نصف ساعة أو ربع ساعة، وإذا بك جائع، لكن التمر بخلاف ذلك، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (جياع أهله) ليس شرطاً أن يظل جائعاً دائماً، ربما يكون جائعاً ربع ساعة، وربما يكون جائعاً خمس دقائق، ثم ينتهي جوعه.
وكانت التمور هي البضاعة الرائجة عند العرب، فـ أبو الدحداح رضي الله عنه حين سمع الآية قال: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟! قال: نعم.
قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ -ستمائة نخلة إن أعطيته إياها فماذا لي؟ - قال: لك الجنة.
قال: فإني أشهدك أنني أقرضت حائطي هذا ربي) وقام من المجلس وحاله ليس مثل حالنا؛ بمجرد أن نخشع وترق قلوبنا يقول أحدنا: خذوا روحي! وبعد قليل يأسف.
ما الذي جعلني أقول ذلك؟! ما الذي ورطني هذه الورطة؟! أما هؤلاء الصحابة فقد كانت حرارة الإيمان عندهم دائمة، فلما أقرض الحائط هذا كله لله تبارك وتعالى، قام من المجلس، والحائط هذا كان سوراً على الستمائة نخلة، وكانت بيته بداخل هذا السور، فوقف على الباب ولم يدخل؛ لأنه لم يعد ملكه، فقد أقرضه ربه، ونادى على امرأته: يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك؛ فإني أقرضت حائطي هذا ربي.
انظر إلى جواب المرأة! ما قالت: ما هذا الذي فعلت يا رجل؟! لماذا لم تكلمنا؟! أنت ماذا جرى لك؟! والأولاد أما تركت شيئاً للأولاد؟! قالت له: (ربح البيع يا أبا الدحداح، ربح البيع يا أبا الدحداح) أنعم بتلك النساء! والله إننا بحاجة إلى أن تتعلم نساؤنا من نساء الصحابة.
انظر إلى طلحة بن عبيد الله -أحد العشرة- في ليلة من الليالي قعد يتقلب في سريره وما استطاع أن ينام، يتقلب يميناً ويتقلب شمالاً وعيناه مفتوحتان، تقول له امرأته: ما بك يا طلحة؟! انظر إلى ما قالت له: (هل بدر منا شيء فنعجبك؟!) يعني: حصل مني شيء أسترضيك، طول الليل سهران ولا تستطيع النوم، هل فعلنا بك شيئاً؟ فقال لها: (نعم حبيبة المرء المسلم أنت! -أنت لا أحد مثلك- لكن جاءني مال ولا أدري كيف أفعل به).
انظر! جاءه مال ولا يدري أين يصرفه، هل تعرف ماذا قالت له؟ قالت له: (أنفق على أرحامك وفرقه فيهم) أرسله لأقاربك ووزعه عليهم.
قال الراوي: (فأنفق ثلاثمائة ألف) ثلاثمائة ألف فرقها في أقاربه فانظر إلى المرأة وهي تقول: (ربح البيع يا أبا الدحداح!) فخرج أبو الدحداح من كل ماله.
وهذه تقول: (أنفق على أرحامك) فأنفق ثلاثمائة ألف، فهذا هو الذي كان يميز جيل الصحابة.
وفي الصحيحين من حديث أنس أن عبد الله كانوا ينسبونه إلى غير أبيه -هو عبد الله بن حذافة - أبوه اسمه حذافة، فكانوا يقولون له: أبوك ليس حذافة؛ لأن أمك في الجاهلية فعلت وفعلت وجاءت بك من حرام، فـ عبد الله لم يتحمل هذه الكلمة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسألوني في مقامي هذا شيئاً إلا أخبرتكم، فقام عبد الله بن حذافة وقال: يا رسول الله! من أبي؟ -أمام الناس جميعاً حتى يسمعوا رده- قال: أبوك حذافة) فـ عبد الله بن حذافة بعد أن ذهب إلى البيت ماذا قالت له أمه؟ قالت: يا عبد الله! ما رأيت أعق منك! أوأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارفه أهل الجاهلية، فتفضحها على رءوس الأشهاد؟!) افترض أنني كنت في الجاهلية فعلت شيئاً وأن أباك ليس حذافة، فتكون بسؤالك قد فضحتني!!(117/7)
غضب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
ومن مواقف الصحابة الكرام: موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول عندما سمع أباه يقول: (لقد غبر علينا ابن أبي كبشة) وأبو كبشة هذا جد أم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو غير معروف، لكن جد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب وكان له شرف وسمعه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرتجز يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب لماذا عبد المطلب؟ لأنه كان له نباهة في قريش.
وكان المشركون إذا أرادوا أن يشتموا الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينسبونه إلى عبد المطلب؛ بل ينسبونه إلى أبي كبشة؛ فـ عبد الله بن أبي ابن سلول ما أحب أن ينسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جده، فقال: (لقد غبر علينا ابن أبي كبشة) غبر علينا: أي سحب السيادة منا، وسوى بيننا وبين العبيد والفقراء.
فسمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة، وسمعها عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فقام وقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، والذي أكرمك، لئن شئت لآتينك بعنقه؛ أي: مرني الآن آت لك برأسه لماذا؟ لأنه لم يكن عندهم أغلى من النبي عليه الصلاة السلام أبداًَ، فلم يكونوا يتحملون أي شيء يقال عليه: (لئن شئت لآتينك بعنقه) انظر إلى الانفعال- ويغضب للرسول عليه الصلاة والسلام كل هذا الغضب والقائل هو أبوه! - فقال عليه الصلاة والسلام: لا، وولكن بر أباك، وأحسن صحبته.
أنعم بهذا الخلق! الخلق الجميل والخلق النبيل الذي ليس له مثيل! انظر إلى حكمته عليه الصلاة السلام في التعامل مع عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كان يسبه صلى الله عليه وسلم ويشتمه، ومع ذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
: عبد الله بن أبي ابن سلول هو رجل واحد فقط، فلماذا قال: أصحابه؟ لأن الناس حين تنقل خبراً تضاعفه، فإن قتل واحداً قال الناس: قتل اليوم خمسة، وغداً يقولون: قتل عشرة، وبعد غد: قتل خمسة عشر، وما إن يصل الخبر إلى آخر شخص في الجزيرة العربية حتى يقولوا: محمد يقتل أصحابه! فيقول: -وقد كان عازماً على الذهاب- يقول: الحمد لله أني لم أذهب، فمحمد يقتل أصحابه! مع أنه لم يقتل إلا واحداً فقط! ولو أن شخصاً دخل القاهرة، فسرقت محفظته، وهو أول مرة يدخل القاهرة، فأول ما يرجع يسألونه: كيف أهل القاهرة؟ يقول: كلهم سَرَقَة! هل كلهم سرقوه؟ شخص واحد هو الذي سرقه، لكن هذا التعميم من مبالغة الناس.
انظر إلى شعبة بن الحجاج رحمه الله! قيل له: لم لا تحدث القصاص؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً! القصاص يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويضعون الأحاديث، ويأتون بالغرائب، ويخترعون القصص، ويسمعونها العوام ليأخذوا أموالهم.
ومن طريف ما يروى في ذلك: أن رجلاً لقي قاصاً فقال له: ألا تستحيي من هؤلاء الذين تقص عليهم هذه القصص؟! فقال له: أرأيت إن كان في بيتك بقر أكنت تستحيي أن تأكل أمامها؟! يعني: لو أن لك حظيرة وفيها بقر، فهل تستحيي أن تأكل أمامها؟! قال له: لا.
قال: أملهني حتى أعلمك، فقام وأخرج قصة، وبدأ يقطعها على الناس، وبعد أن انتهى من القصة، قال: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مس لسانه أرنبة أنفه فله الجنة) قال: فما بقي واحد إلا أخرج لسانه يريد أن يصل إلى أرنبة أنفه، فالتفت إلى صاحبه وقال: أقل لك: إنهم بقر؟! وقد أثر أن عبد الملك بن مروان قال للشعبي: حدثني بأعجب شيء مر بك.
فقال له: دخلت مرة الكوفة، فوجدت رجلاً من القصاص يتكلم ويكذب، ومن ضمن الكلام الذي قاله: إن الله تعالى خلق صورين، وفي كل صور نفختان.
يقول الشعبي: فبمجرد أن سمعته قلت: يا شيخ! اتق الله ولا تكذب، إنما هو صور واحد ونفختان.
قال: فأخذ نعله وضربني به، فتتابع الناس كل واحد يضربني بنعله، قال: والله ما تركوني حتى أقسمت لهم أن الله خلق سبعين صوراً، في كل صور نفختان! فلذلك قيل لـ شعبة بن الحجاج: لم لا تحدث القصاص؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً! طبيعة الناس عدم الصدق في نقل القول، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل هذا المنافق؛ لأن المفسدة في قتله أعظم من تركه حياً حتى مع الأذى.
والشاهد: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لما سمع أباه يسب النبي عليه الصلاة والسلام انفعل وغضب، والصحابة كلهم كانوا هكذا، والذي كان يميزهم أنهم كان لهم التزام كبير بالنص سواءٌ كان قرآناً أو سنة.
من أجل هذا: ينبغي لنا أن نعتني بقلوبنا، وألا نتساهل في أي شيء يطرأ على هذا القلب مهما كان دقيقاً.
وليس بكبير أن ترحل إلى محافظة أخرى أو إلى بلد آخر لتسأل عالماً من علماء القلوب عن شيء يقض مضجعك؛ فأنت لو أصبت بمرض عضوي فإنك تطوف الدنيا لكي تتعالج، فقلبك أولى أن تهتم به: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] لا يستطيع المرء أن يتوكل على الله حق توكله إلا إذا كان سليم القلب.
أسال الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا وإياكم قلوبنا، وأن يجعل حبه أحبّ إلينا من الماء البارد.
والحمد لله رب العالمين.(117/8)
احذروا خطوات الشيطان [2]
لا يزال الشيطان يدأب على كيد الإنسان واستدراجه لإيقاعه في المنكر والشر، والمطلب الأساسي للشيطان هو أن ينتهي بهذا الإنسان إلى أن يكفر بالله ويشرك به، لذلك فيجب على الإنسان أن يتعلم التوحيد ليتحصن به من كيد عدوه، وأن يعرف الله تعالى فهو ملجؤه وملاذة، وأن يجتنب مكائد الشيطان ويحذره.(118/1)
ذكر أجناس الشر الستة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فقد لخصت الآية عمل الشيطان ومراده، وأنه إنما يدعو الناس ليدخلوا النار، وهكذا كل من في قلبه غل إنما يتمنى أن يقع الناس في السوء، كما قال عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].
فكل من في قلبه غل يتمنى النار للناس، ولقد رأينا هذا في الذين انتحلوا فكر الخوارج من أهل التكفير، لا تقر عينه إلا إذا حكم بالكفر على كل الناس، ومن ارتكب أدنى مخالفة فهو من أهل النار عنده، عنده غل، كلما غضب تمنى أن يهلك غيره، وهذا التصرف في الحب والبغض، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أسلم مولاه، قال: (يا أسلم لا يكن حبك كلفاً ولا يكن بغضك تلفاً، إذا أحببت كلفت كما يكلف الصبي، وإذا أبغضت تمنيت التلف لمن أبغضته).
فالشيطان يدعو الناس إلى النار، هذا هو مراده، مفردات شره التي وضعها في الأرض على مذهبه لا تدخل تحت الحصر، لكننا حصرناها في الجمعة الماضية في ستة أجناس من الشر، هي كالأعمدة والطرق، كل فرد من مفردات عمل الشيطان إنما تندرج تحت جنس من هذه الستة.
الجنس الأول من الشر: أن يدعو الناس إلى الكفر، فإن أنجى الله العبد من الكفر دعاه إلى البدعة، فإن نجا من البدعة ولزم طريق السنة أوقعه في الكبائر، فإن نجا من الكبيرة أوقعه في الصغيرة، فإن نجا من الصغيرة شغله بالمباح الذي لا ثواب فيه ولا عقاب عن الأهم، فإن نجا من هذه شغله بالمفضول عن الفاضل، وإن كان المفضول خيراً أيضاً.
لابد أن يضع أمامه عقبة من العقبات، فإذا كان الشر مستطيراً إلى هذا الحد، فكيف غفل الناس عن تتبع مذهب الشيطان، حتى يجتنبوه.
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه(118/2)
التحذير من كيد الشيطان واستدراجه
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول كما رواه البخاري في صحيحه: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فقه الشر أن تكون عالماً بكل شَرَك ينصبه الشيطان لك، لكي لا يقع المرء فيه من حيث لا يدري، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] فهو يجرك خطوة خطوة، لا يجرك عنوة، ولا يجرك صراحاً، إنما يجرك خطوة خطوة، حتى في عبادتك.
عثمان بن أبي العاص كما رواه مسلم في صحيحه قال: (يا رسول الله إن الشيطان أتاني ليلبس عليَّ صلاتي، فقال: ذاك شيطان اسمه خنزب، فإذا جاءك فانفث عن يسارك ثلاثاً، قال عثمان: فلما جاءني نفثت عن يساري ثلاثاً فلم يأتني بعد) هذا الشيطان اللعين عمله الإضلال.
لقد رأيت أناساً نحلت جسومهم، وصاروا جلداً على عظم من الوسواس القهري الذي يغزو قلوبهم وعقولهم على غير إرادة منهم، وهم يخافون أن يموتوا على الكفر.
يأتي الشيطان فيوسوس له في ذات الله وسواساً قهرياً لا حيلة له في دفعه، فينسب الله إلى كل نقيصة عنده، وهو خائف أن يعتقد قلبه هذا اللفظ في الله فيموت على الكفر، فيأتي وقد ضاعت حياته؛ إذا كان عاملاً لا يعمل، أو كان موظفاً لا يعمل، لا ينام، لا يأكل، لا يشرب وهو خائف أن يموت على الكفر، فإن كان الوسواس أدنى من ذلك، وسوس له في الطهارة، فربما توضأ عشرين مرة وثلاثين ومائة، وبعض الناس يظل يتوضأ من أذان الظهر حتى يدخل العصر، وبعضهم لا يستطيع أن يأتي بتكبيرة الإحرام أبداً؛ لأنه يوسوس له، يقول له: أنت ما نويت، وما جئت بالنية.
لا يدعك على الإطلاق.
فإن كان الوسواس أدنى من ذلك قال له: لماذا تذهب إلى المسجد، ألا تقصد بعملك وجه الله؟ أجل.
يعني: ذهابك إلى المسجد هذا فيه رياء، داخل المسجد وخارج من المسجد تريد أن تقول للناس أنك لا تترك الصلاة!! فإن كان ضعيف العلم تأثر به، والوسواس أكثر فتكاً في العبَّاد، ولا يتمكن من العلماء أبداً، إنما يُهلك العبَّاد.
مثلاً: رجل عالم مقبل على ربه، خائف على ورعه وإخلاصه فجاء الشيطان وقال له: صلِّ في بيتك!! لا تصل في المسجد وراء إمام، فربما لا تدرك التسبيحات كما تريد وتقرأ كما تريد، بينما أنت في بيتك حر، تسبح عشرين تسبيحة أو مائة تسبيحة أنت إمامُ نفسك، وفي نفس الوقت أنت حريص على ورعك وتقواك ولا أحد يراك!! أول ما ينادي المؤذن فلتكن أول الخلق يصلي، بينما هم لا يزالون يصلون ركعتين بين الأذان والإقامة وينتظرون حتى تقام الصلاة، فأنت أول من بادر إلى ربه وصلى، وطوِّل في صلاتك.
هذه خطوة! الخطوة الثانية: الأذان، لماذا أنت مستعجل؟! هي كلها خمس دقائق، توضأ على راحتك وإن تأخرت عشر دقائق ثم بعد ذلك ربع ساعة، ثم نصف ساعة ثم يجمع الصلاة إلى بعضها، ثم يترك الصلاة.
الشيطان نَفسه طويل، لو كان عندنا من الجد في العمل جد الشياطين لكنا من أولياء الله، سئل الحسن البصري: أينام إبليس؟ قال: (لو نام لوجدنا راحة)، إنه لا ينام على الإطلاق، يعمل الليل والنهار، وكل يوم له خطة، ومذهبه واسع جداً، مفرداته -كما قلت- لا حصر لها.
الذي فرط في معرفة مذهب الشيطان ووقع في حبائله، ينبغي أن يبكي على نفسه طويلاً، وأن يكون كما قال الشاعر: نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للبكاء تعار العالم الذي لا يجد الوقت إذا مر على أصحاب المقاهي -وهم يلعبون- قال في نفسه: لو كان الوقت يباع لاشتريت أوقات هؤلاء المخبولين، الذين ضيعوا أعمارهم، فهكذا لو كانت عيون الناس تعار ليبكي المرء بها على ما قصر وفرط في معرفة مذهب الشيطان؛ لاشترى المرء عيناً يبكي بها.(118/3)
أنواع التوحيد وأهميته
والشيطان يريد أن يوقعك في شر الأمرين، ولذلك نحن ذكرنا أجناس الشر على حسب خطورتها: الشرك، البدعة، الكبيرة، الصغيرة، المباح، المفضول، ستة أجناس، آخرها أهونها، وأولها أعظمها.
فهو لا يرضى عن كفرك بديلاً، هذا مراده الأول والأصلي، فإذا عجز عن إيقاعك في الكفر أوقعك في أي جنس، والله تبارك وتعالى لما خلق الناس خلقهم جميعاً على التوحيد، كما رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطبة، فكان مما قال فيها: ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون -أو ما جهلتم- كل مال نحلته عبداً فهو حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرموا عليهم ما أحللته لهم، وأمروهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإني أنزلت إليك كتاباً لا يغسله الماء، فاقرأه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرِّق قريشاً قلت: ربي! إذاً: يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وأرسل جيشاً نرسل معه خمساً).
وفي هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى قال إنه خلق الناس على الإسلام جميعاً: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
فأول مأمور به: التوحيد، وهو الذي ينجيك من الخطر الأول -الشَرَك الأول- الذي ينصبه الشيطان لك، التوحيد الذي أهملته كثير من الجماعات الإسلامية التي تدعو الناس إلى الله؛ لكن ليس على طريق الرسل، التوحيد نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في القصد والطلب.
أنا لا أتصور أن تطلب من لا تَعرف، إذاً: لابد أن تعرف حتى تطلب، فأول نوعي التوحيد: توحيد الإثبات والمعرفة، وهذا متضمن لذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، وأنت إذا قرأت خواتيم سورة الحشر رأيت الأسماء الحسنى كأنها منظومة لؤلؤ، تهز القلب هزاً: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:22 - 24]، وكذلك إذا تأملت كثيراً من الآيات تجدها مختومة بصفات لله تبارك وتعالى.
وهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) هو المذكور في قوله تبارك تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، هذا هو توحيد الإثبات والمعرفة، عرفناه وأثبتنا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأثبتنا له الكمال المطلق.
النوع الثاني من التوحيد: هو توحيد الألوهية، توحيد العبادة أنك تقصده ولا تقصد أحداً غيره: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] والقرآن مليء بهذا الجنس.
وسورة (الكافرون) في توحيد الطلب والقصد، إذاً: تعرف ربك أولاً حتى تحبه، وتمثل قول القائل: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي أي: اختر أي قتلة تُقتلها، وإنما يختار المرء على قدر نبله وشرفه وتوحيد قصده.
أحببت ربك تقتل فيه، أحببت نبيك تقتل فيه، أحببت المال أحببت النساء أحببت الجاه تقتل فيه.(118/4)
قصة برطيطا العابد
وهناك مثل آخر أعجب: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17] علماء التفسير ذكروا قصة طويلة في سبب نزول هذه الآية، وهي لا تصح عن ابن عباس وإن ثبتت إلى مثل السدي وغيره.
خلاصة القصة: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يسمى برطيطا عَبَدَ الله في صومعة سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين، وكان إبليس الكبير يرسل لكل مؤمن شيطاناً على قدره، فإذا كان المؤمن كبير القلب لا يرسل إليه شيطاناً صغيراً، بل يرسل شيطاناً مدرباً عنده خطط كبرى، فإبليس نفسه له جولات مع برطيطا ولكن عجز، فجمع المردة يوماً فقال لهم: لقد أعياني أمر هذا الرجل، ألا يكفيني واحد منكم أمره؟ فقام الأبيض وهو شيطان مارد والأبيض اسمه، وهو الذي يتعرض للأنبياء، وهو أخطرهم، قال: أنا له.
قال: انطلق! فانطلق ليدعو الغلام، وحلق رأسه على هيئة الرهبان، وجاء صومعة برطيطا ونادى عليه فلم يجبه، كان برطيطا بدأ يتعبد يدخل في الصلاة عشرة أيام كاملة، لا ينتهي إلا بعد عشرة أيام، ويصوم فلا يأكل إلا بعد عشرة أيام، فالأبيض هذا جاءه وهو في أول العشرة أيام فتركه عشرة أيام في أسفل الصومعة لا يجيبه، فلما وجد الأبيض أن برطيطا لا يجيبه قام هو أيضاً فكبر وصلى، فلما انتهى برطيطا من الصلاة نظر من الصومعة فوجد رجلاً على هيئة حسنة وعلى وجهه خشوع وخضوع وإخبات، فندم على أنه لم يجبه، فأجابه: ماذا تريد؟ قال: أن ترفعني إلى منزلتك فأخدمك وأعبد الله معك، قال: إني عنك مشغول، وكبر ودخل في الصلاة، وتركه عشرة أيام أخرى في أسفل الصومعة، فبعد أن انتهى من الصلاة نظر من الصومعة إليه فوجده في غاية الجد والإخبات في العبادة، فقال له: ماذا تريد؟ قال: ارفعني معك أخدمك وأعبد الله معك، قال له: اطلع.
فطلع، فصارا في اجتماع.
برطيطا آخر جهده عشرة أيام، وإذا بالأبيض يصلي أربعين يوماً كاملة، فنظر برطيطا إلى عبادته واستقلها، قال: هذا تقصير مني! أنا فعلاً مخطئ لأني لم أجبه.
ثم بدأا يعبدان الله جميعاً، فقال له الأبيض: علمني! فقال له: لا.
أنت الأستاذ! أنت تعبد ربنا أربعين يوماً مرة واحدة، قال له: أنا سأعلمك ذلك، سأعلمك اسم الله الأعظم الذي إذا دعوت به أُجبت، قال له: ما هو؟ فقال: الاسم كذا، ثم نزل الأبيض يمشي في الأسواق، فذهب إلى رجل وصرعه، فأهله يبحثون عن طبيب، فعمل نفسه طبيباً وذهب، قال: ما حكاية هذا الولد؟ قالوا: مصروع، فأخذ يقلبه، فقال: هذا الرجل مصاب بعلة قوية، ليس له دواء إلا عند برطيطا، اذهبوا إليه، فذهبوا إلى برطيطا، وهو متلبس بهذا الولد معه، فأول ما قرأ كلمتين أو ثلاثاً برئ وفاق الرجل، بعد أن رقاه برطيطا بالاسم الأعظم بزعمه.
نزل الأبيض من صومعة برطيطا وذهب إلى إبليس وقال له: والله! لقد أهلكت الرجل! أي رجل يطيع الشيطان في أقل شيء طمَّع الشيطان فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لا يأتيك خير من قبله على الإطلاق.
بعد ذلك بدأ الأبيض يعمل في الناس مثلاً يصرع هذا ويصيب هذا بعلة، وكثر المرض في الناس جداً، وصار المنحوسون يتدافعون إليه ليشفيهم كما زعموا، فذهب الأبيض إلى فتاة من بنات الملوك وصرعها -عمها ملك وأخوتها ملوك- خنقها وجاء في زي طبيب، وقال لهم: لا يوجد حل غير برطيطا، فذهبوا إليه فأبى، قالوا: سنبني لها صومعة بجانبك وتعاهدها، فبينما هو يلتفت ذات يوم إذ رآها سافرة فوقع حبها في قلبه، فبدأ الشيطان يسول له، ما عليك إذا اقتربت منها وإذا فعلت وفعلت ثم تتوب، ما علموا أنك أذنبت ذنباً، وما على المرء إذا أذنب ذنباً واحداً وسعى وراء رحمة رب العالمين؟ فظل به حتى واقعها، فلما حملت قال له: قد فضحت نفسك وفضحت أشباهك!! فكل عابد سيشكون فيه.
وهذه الخطة إبليسية، حيث ينصبون لك رجلاً شبهك، وبعد فترة تكتشف أن هذا جاسوس كان يسعى للتفرقة بين الناس، والإيقاع بالدعاة.
الشيخ عبد الحميد رحمه الله سمعته مرة يقول: إن نسيت فلن أنسى رجلاً خدمني، وقرأ لي ثلاث سنين حتى اعتبرته ولداً من أولادي، وإذا بي أجده يدق بابي ذات يوم في الفجر، وجاء بالجند يقبض عليَّ.
فقال الشيطان للراهب برطيطا: فضحت نفسك وفضحت أشباهك، لأن الناس كلما رأوا عابداً سيقولون: وما أدرانا لعله يكون مثل برطيطا! لم يكن هناك أحسن من برطيطا، إذاً: ما الحل؟ فبعد أن اتضحت المسألة وعلم أنهم قاتلوه، جاءه وقال: هل تعرفني؟ قال له: لا.
قال: أنا صاحبك، وقد -والله- أحيط بك، المطلوب منك حتى أنجدك أن تسجد لي سجدة واحدة وأنجيك، فلما سجد قال: والله يا برطيطا هذا الذي طلبته منك! منذ خمس عشرة سنة وهو يتدرج به ليصل إلى هذه السجدة.
إذاً: ما هي آخر خطوات الشيطان؟ ما هو الذي يريده الشيطان بهذه الخطوات التي لا تبدو خطيرة؛ لكن إذا جمعت بعضها إلى بعض صارت جبلاً؟ لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى قال: والله يا برطيطا هذا الذي أردته منك! لكن لو جاءه أول مرة وقال: اسجد للشيطان لأبى عليه، ولكن تدرج به حتى إذا سجد قال: هذا الذي أردته منك، فأنزل الله عز وجل الآية على مقتضى هذه الحادثة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم(118/5)
فائدة ضرب المثل للكفر والكافرين
وقد ضرب الله عز وجل لنا مثل الكفر والكافرين، وهذا تمثيل.
وبضدها تتميز الأشياء فقال تبارك وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فأنت أيها الرجل تأمل هذا المثل: لو لم يكن في التمثيل من الكفر إلا هذا المثال لكان كافياً أن تترفع عن أن تقترب من أهله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] تعرف الراعي الذي ينعق -يعني: يرفع صوته إلى آخر حد- ينادي الأنعام: البهائم والبقر والخرفان.
الحيوانات سمعت؛ لكن هل عقلت؟ لا.
والكافر هكذا: يسمع لكن لا يعقل، وهذا السمع الذي حُرمه الكافر هو سمع القلب، لا سمع الجارحة، فكلٌ يسمع، قال الله عز وجل في بيان جزاء هؤلاء: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] مع أن الكافرين قالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] فقولهم: (قَدْ سَمِعْنَا) فهل سمعوا فعلاً؟ الله عز وجل قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] إذاً: سمعت الأذن ولم يسمع القلب.
فالسمع المفيد لصاحبه هو سمع القلب، فهذه الحيوانات كما أنها لا تعقل ما يقال لها وإن كانت تسمع صوتاً، فالكافرون كذلك، يسمعون آيات الله تتلى عليهم فيلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:26]، مع أن الأمثال -كما يقول العلماء- من باب المبين، يعني: لا يوجد أوضح من هذا، إذا طلبت توضيح الواضح.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل أنا أفهم أنه قد يلتبس عليك المجمل مثل: أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، صوموا رمضان، فأنت لا تفهم -من هذا وحده- كيف تقيم الصلاة ولا كيف تصوم ولا كيف تزكي؛ لأنه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، لكن إذا فصلنا فهل تأتي -أيضاً- وتسأل في المفصل؟! فالمثال الآنف الذكر من باب المبين.
وفيه يضرب الله عز وجل المثل بشيء واقعي ملموس أنت تعرفه لفكرة يجب اعتقادها.
فالكافر الذي ختم الله عز وجل على قلبه يسمع المثل الواضح فيستغرب ويسأل ويقول: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:26] ماذا يريد أن يقول بالضبط؟ إذ ثبت عليه البيان، هذا من الضلال البعيد كما قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، فتخيل الصورة! ذرات رماد لا تكاد ترى إلا لمدقق، فتصور هذا الرماد في يوم عاصف شديد الريح، هل تستطيع أن تجمع ذرة إلى ذرة، هذا إشارة إلى بعثرة أعمالهم، فلا ينتفعون بذرة منها، ولذلك ختم الآية وقال: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، وفي هذا المعنى يقول القائل الذي نعى حظه في الدنيا.
إن حظي كرماد فوق شوكٍ نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه عسر الأمر عليهم، فقال بعض اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه فضرب ربنا عز وجل المثل في إهدار أعمال الذين كفروا بمثل هذه الصورة.(118/6)
أهمية توحيد الإثبات والمعرفة بالنسبة لتوحيد القصد
فهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) ضروري لتوحيد القصد والإرادة، كلما عرفته أحببته، واعلم أنه لا يغيثك إلا هو، وليس لك منجى ولا ملجأ منه إلا هو أيضاً، فكلما عرفته اطمأن قلبك؛ لأن كل شر نفسي على وجه الأرض سببه اضطراب القلب وخوفه.
ما عمل الطب النفسي على وجه الأرض؟ عمل الطبيب النفسي أن يطمئن قلب المريض، ويعيد الثقة إليه، ويبين له أنه إنسان يحظى باحترام الآخرين وتقديرهم، فعمل الطب النفسي كله لأجل طمأنة القلب من ناحية المستقبل، فالطب النفسي كله وقف على عتبة آية من كتاب الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ونحن نعلم أن المحب مولع بذكر من يحب، ولذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم لنا أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار الموفقة؛ حتى تكون ذاكراً لربك في كل وقت، فما بال الناس لا يذكرون الله في الصباح ولا المساء، ولا يسبحونه وهم يتفكرون في مظاهر الكون؟! ولا يحبونه.
ولو أحبوه لشغفوا بذكره رغماً عنهم.
أحياناً الإنسان وهو نائم يهتف باسم من يحب، وإذا ابتلي بحب إنسان يراه كثيراً في المنام، واسألوا المحبين، يتمثل له المحب في اليقظة، ومن شدة ولعه يصطحبه في المنام أيضاً، والشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشيطان ذئب الإنسان)، لا يترك المرء لا في اليقظة ولا في المنام، فيجيئه في المنام بالكوابيس، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الرؤى ثلاثة) قسم منها تهاويل الشيطان، وحتى تردع هذا الشيطان الذي جاءك في المنام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أحدكم يتحدث بتلاعب الشيطان به).
شخص يقوم من النوم فيقول لك: يا أخي! البارحة طوال الليل أرى في منامي أني أطير والعفاريت تطير ورائي، إذ نزلت تنزل ورائي، وإذا طلعت تطلع ورائي، وأحياناً يرى نفسه يتردى من قمة جبل، فيستيقظ من منامه فجأة فيجد نفسه على السرير، فيقول: الحمد لله، ما زلت أعيش، أو أن هذا الذي أراه ليس حقيقة.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لِمَ يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به؟)، عندما يتحدث الإنسان بهذه الرؤى ينتفخ الشيطان ويقول: بقوتي صرعته، أما إذا تفل على يساره ثلاثاً فإن الرؤى لا تضره، والشيطان يتصاغر ويتصاغر حتى يكون كالذباب والذر من الحقارة، فهذا الشيطان لا يدعك حتى في المنام؛ لأنك أنت فريسته وغاية مطلوبه.
والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا الذكر؛ لأنه أولاً يشفي غليل القلب ويريح أعصابه، هذه فائدة الذكر الأولى.
الفائدة الثانية: أنه يحصنك من الشيطان، كما رواه الترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحارث الأشعري الذي أوله: (إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، وأمره أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن) الكلمة الخامسة في هذا الحديث، (قال يحيى عليه السلام: وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فاحترز في حصن حصين، وإن العبد يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله).
يعني هذه فائدة الذكر، حتى شرع الله لنا أن نذكره في أشد المواقف وهو لقاء العدو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، أول ما تذكر أنك مع الملك وفي معية الملك يستمد قلبك قوة، وفي حديث عياض بن حمار الذي ذكرناه آنفاً، قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (وأرسل جيشاً نرسل معك خمسة) يعني من الملائكة.(118/7)
حكم الجهل بالتوحيد
لابد أن تعرف ربك أولاً، ومن العجيب أن المرء قد يمارس مهنة من أدق المهن التي تحتاج إلى تركيز، وتحتاج إلى ذكاء عالٍ، فإذا هو في خلال سنة يأخذ دورة أو دورتين أو عشراً أو عشرين، وإذا به أحد المرموقين في هذا الفن مع شدة تعقيده، فإذا سألته عن ربه وجدته أجهل الناس به، مع أن معرفة الله أسهل من ذلك بكثير، فهل ذلك لأن معرفة الله صعبة؟ لا.
ولكن أهملوا، ولذلك المرء لا يغفر له جهله إذا لم يسع إلى إزالته.
نحن معاشر أهل السنة وإن كنا نَعذر بالجهل في أصول التوحيد أي: نقول لا يكفر؛ لكننا لا نرفع المؤاخذة عن الجاهل، إذا كان بإمكانه أن يرفع جهله، لماذا عرف أعقد من ذلك وترك معرفة الله وهي أسهل وأيسر؟! قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فمن أراد الوصول إلى الله وصل، لكن لا يصل إليه ويوحده إلا إذا عرفه وأحبه.
القرآن كله قائم على التوحيد وجزاؤه وواجباته، والشرك وجزاء أهله، فمن أول الفاتحة إلى الناس لا تخرج عن هذا الموضوع على الإطلاق: التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وحقوق التوحيد من الأمر والنهي.
فكل الأوامر والنواهي من حقوق التوحيد بمقتضى أنك رضيت بالله رباً، أي: تسمع وتطيع فيما أمرت به، وتنتهي عما نهيت عنه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [يوسف:40] أي: لا يحكم فيك إلا الله.
وذكر جزاء الموحدين مسألة ضرورية، حتى يحفز العاملين إلى العمل، فنصب الجزاء سنة قررها القرآن وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وهو يتكلم عن الجنة، تكلم كثيراً عن جزاء المطيعين لربهم تبارك وتعالى، وفصل هذا الجزاء وفصل نعيم الجنان، وكلما زاد التفصيل زاد التصور؛ لدرجة أنه فصل مرة بعض نعيم الجنان، فسأله رجل: (يا رسول الله! ثيابنا في الجنة أننسجها بأيدينا أم تفتق عنها ثمار الجنة؟ فضحك الناس، فقال: مم تضحكون، من جاهل يسأل عالماً؟ نعم يا أعرابي! تفتق عنها ثمار الجنة).
ويسأله في أدق التفاصيل، فيقول: أنت في عليين، في المقام العالي، ونحن دونك، فهل نراك؟ يسأله في مثل هذه الدقائق، وما أغراه في هذا إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فصَّل، وهذا كله دافع للعمل.
فأول ما ينبغي عليك أن تعلمه حتى تنجو من الشَرَك الأول الذي ينصبه الشيطان: أن توحد ربك، توحيد الإثبات والمعرفة، تحبه أولاً، فإذا أحببته جاء توحيد الطلب والقصد تلقائياً، لا تشعر بكلفة الأوامر ولا النواهي على الإطلاق.(118/8)
خطر الشرك في إحباط العمل
إن الحمد لله، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الشرك -أيها الإخوة الكرام- هو السيئة الوحيدة التي لا تبقي بعدها حسنة: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ولا توجد سيئة تحيط بالعبد كل الإحاطة إلا الشرك، ولذلك لا يقبله الله عز وجل من أي إنسان كائناً من كان.
قال الله تبارك وتعالى لأشرف خلقه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
ذكر الله عز وجل ثمانية عشر نبياً أولهم إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وأسوة الحنفاء: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86].
وليس هؤلاء فقط، وإنما ذكر بهؤلاء لشرفهم، وإلا المسألة عامة، قال تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:87 - 88].
لو أشركوا مع نزاهتهم وجلالتهم لحبط عنهم ما كانوا يعملون، فكيف أهمل المسلمون معرفة هذا الباب الخطير، وصار المرء إذا قال: يا جماعة! ابدءوا بالتوحيد، قالوا له: التوحيد موضوع طويل! إسرائيل أخذت الأرض، ونحن لا قيمة لنا، إنما نعيش على الهامش.
ويندب حظه! وهكم هتفنا بإخواننا: يا جماعة! ابدءوا بالتوحيد قبل توحيد الكلمة، يجيبك قائلاً: الطريق طويل! فاستعجلوا؛ ولذلك ما جنوا شيئاً، ولن يجنوا شيئاً، كل دعوة لا تبدأ بالتوحيد فهي فاشلة.
فهذا باب خطير، ينبغي أن يعتني المرء به، أولاً: لسلامة قلبه، وليستمتع بالدنيا، لا يستمتع بالدنيا إلا أهل الله، وهم الذين يرون الدنيا جميلة، فمن أجل أن تستمتع بالدنيا عليك أن تعبد ربك، ووحد الاتجاه، فإن الله تبارك وتعالى ضرب مثلاً للمشرك -مهما كان عنده من الجاه والمال والسلطان- وأنه لا يشعر بسعادة على الإطلاق: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].
هذا هو مثل المشرك، رجل له عشرة مالكين، وليتهم على قلب رجل واحد، بل متشاكسون، إذا قال واحد منهم: شرِّق يقول الآخر: غرِّب، حتى ولو لم يكن في الغرب فائدة، لكن يريد أن يعانده فقط، وهذا معنى (متشاكسون) وهم كلهم أسياده، وكل واحد منهم عنده القدرة أن يوقع العقاب بهذا العبد؛ لأنه سيده، يقول أحدهم: يا ولد! اذهب إلى الشرق، الثاني قال: بل إلى الغرب، الثالث قال: بل إلى الشمال، الرابع قال: إلى الجنوب، وقال الخامس: اجلس مكانك، فإذا لم يطع الأول ضربه، وإذا لم يطع الثاني ضربه، والثالث والرابع فهو مضروب منهم جميعاً.
أشقى إنسان على وجه الأرض هو هذا الإنسان لا يجد السعادة على الإطلاق.
إذا احتاج شيئاً يوماً من الأيام فيذهب إلى أحد أسياده فيقول له: أريد كذا، فيقول له سيده: هل طاوعتني؟ لماذا أعطيك وأنت لم تطاوعني، قلت لك: اذهب شرقاً؛ فسمعت كلام الثاني وذهبت غرباً، لا حسنة لك عندي، ويذهب إلى الآخر فيقول له: لا جميل لك عندي! فالرجل لا يستطيع أن يقوم بمطلوب ملاكه، فهو مضروب وملام ومهان، ولا يحفظون له جميلاً ولا حسناً.
هذا جزاء من لم يوحد الجهة، وحِّد الجهة تسترح وتنجُ من أول شَرَك ينصبه الشيطان لك وهو الشرك، أعاذنا الله وإياكم من الشرك ظاهره وباطنه.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا(118/9)
أسئلة وأجوبة [1](119/1)
معنى (جواب الحكيم) في عبارات الفقهاء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
السؤال
قرأت في بعض الكتب عن (جواب الحكيم) فما معنى هذه العبارة؟
الجواب
معنى (جواب الحكيم) أن يزيد المفتي في جوابه على سؤال السائل زيادة لا تتم الفائدة من الجواب إلا بها، مثال ذلك: قال صلى الله عليه وسلم -وقد سألته امرأة، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما-: (أنها حملت صبياً صغيراً ورفعته، وقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر)، فجواب السؤال تم بقوله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
وما سألت المرأة: هل لها أجر أم لا، إنما زادها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة؛ لأن الإنسان لا يعمل إلا إذا أُجر، هكذا خلق الله عز وجل الإنسان، لذلك خلق له الجنة والنار كترغيب وترهيب، على خلاف ما ينسبونه إلى بعض الصوفية كـ رابعة العدوية وغيرها، التي كانت تقول: لو كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، ولو كنت أعبدك طمعاً في جنتك فأحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك فلا تحرمني من وجهك! ويقولون: إن الذين يعبدون الله عز وجل طمعاً في الجنة وخوفاً من النار إنما يعبدونه عبادة التجار، ويقولون: إن عبادتهم مدخولة؛ لأنهم يقولون: إن الذي يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار لم يخلص في عمله.
وهذا قول مخالف للآيات القرآنية، ومخالف لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فذكر ربنا عز وجل أن الذي يدخل الجنة قد فاز.
ولا يتصور أن يعبد الرجل ربه بغير أجر وجزاء (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داود- وقال له: إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن).
أي: حول سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار ندندن.
فالإنسان إذا لم يعمل لحافز فترت همته، ولذلك فأنت ترى في الدنيا القطاع العام نظامه فاشل، والقطاع الخاص نظامه ناجح، لأن القطاع الخاص يربط الأجر بالإنتاج، لكن القطاع العام مثل الدواوين، هذا الرجل له مرتب سواء عمل أو لم يعمل سيأخذ مرتبه.
القطاع الخاص يقول صاحبه مثلاً: القطعة بدرهم، فحينها يقول: وأنا لماذا أجلس فارغاً؟ أستكثر من القطع لأجل أن أستكثر من الدراهم هذا كله بسبب الحافز.
والصحابي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة.
فكان يأكل تمرات، فرمى بالتمرات، وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل).
فتصور الحوار الآتي: هل كان هذا الرجل يبادر فيلقي بالتمرات ويدخل في غمرات القتال؟ لا.
وفي أيام قتال ابن الزبير مع عبد الملك بن مروان، جاء رجل إلى ابن الزبير وقال له: أقاتل معك -وأنا فارس مشهور- فكم تعطيني إذا أبليت بلاءً في القتال يعني؟ قال: أعطيك كذا وكذا.
فقال: أعطني المال؟ قال: حتى نرجع، نقاتل ونرجع.
فتولى عنه الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي ديناً وتعطيني دراهمك نسيئة.
أي: ما يضمن لي أن أرجع، فالرجل لأنه لم يعطه ابن الزبير ترك القتال معه، فكذلك الإنسان.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قالت المرأة: (ألهذا حج؟ قال: نعم.
-ثم حفزها لما يعرفه من طبيعة الإنسان أنه إذا عمل أجر- قال: ولك أجر).
لأن الإنسان قد يقول: هذا صبي صغير، وأنا أؤخر الحج حتى يبلغ وتكتب له الحجة، فكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حافزاً للمرأة، وللرجال الذين يسمعون هذا الحكم حتى يأخذوا أولادهم إلى الحج.
ومنه أيضاً ما رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن حل الميتة، إنما سألوا عن طهورية ماء البحر أهو طاهر؟ فكان يكفي الشطر الأول في الجواب: (هو الطهور ماؤه) لكن زادهم الرسول عليه الصلاة والسلام حكماً لم يسألوا عنه، وهذا من تمام شفقته عليه الصلاة والسلام بهؤلاء السائلين.
فإذا كان هؤلاء الأعراب استشكلوا طهورية ماء البحر، فلأن يستشكلوا ميتة البحر أولى، إذا كان استشكلوا الشيء المشهور المعروف، فلأن يستشكلوا ما هو أغمض منه أولى، وهؤلاء أعراب يركبون البحر، فقد يغيب الرجل خمسة عشر يوماً في البحر وينفد زاده، وقد يضطر إلى أكل السمك أو أكل حيتان البحر، وليس عنده أي معلومة هل ميتة البحر حلال أم حرام؛ فأشفق عليهم فأفتاهم.
ولو قال شخص: لم يكونوا صيادين.
فنقول: لا؛ لأنه ورد في بعض طرق الحديث أنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، ولو كانوا يصطادون السمك لكان هذا ظاهراً جداً بالنسبة لهم.
لكنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، فربما نفد زاد هؤلاء فظنوا أن ميتة البحر تدخل في عموم الميتة في القرآن، فلا يأكلون، قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] و (الميتة): اسم جنس محلى بالألف واللام، يفيد العموم، أي: حرمت عليكم كل أنواع الميتة.
وقد يقول شخص: السمك والجراد معروف للناس جميعاً أنه مستثنى من الميتة؟ نقول: لا، هذا معروف لنا، لكن بالنسبة لهؤلاء الأعراب لم يكن معروفاً، فأنت إذا عرفت أن أحد كبار الصحابة المجتهدين لم يكن يعرف هذا الحكم سهل عليك أن تعرف أن هؤلاء الأعراب لا يعرفون الحكم.
فهذا الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد روى خبره هذا البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطاهم جراباً فيه تمر، فكان يعطينا الحفنة من التمر فنأكلها.
فلما كاد التمر أن ينفد كان يعطينا تمرة تمره، فكنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر أكلنا ورق الشجر -يضربونه بالعصي ثم يطحنونه، ثم يأكلونه، فسمي هذا الجيش جيش الخبط، الذي هو نسبة إلى ورق الشجر الناشف- فظلوا يأكلون ورق الشجر شهراً حتى قرحت أشداقهم.
قال: ثم قذف البحر لنا دابة عظيمة يقال لها العنبر -دابة عظيمة: حوت من حيتان البحر، لكنه عظيم الخلق- قال: وجلس ثلاثة عشر رجلاً منا في وقب عينه -مكان العين هذه مكث فيه ثلاثة عشر واحداً من الصحابة- قال: وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال.
فأول ما رمى البحر هذا العنبر على الشاطئ قال أبو عبيدة: ميتة! لا تأكلوه -لم يكن عند أبي عبيدة خبر أن ميتة البحر مستثناة من عموم الميتة في كتاب الله عز وجل-.
ثم قال لنفسه: نحن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون، فكلوه -إذاً أبو عبيدة أيضاً لما أكل لم يخالف النص القرآني: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، فحمل هذا الأمر على الضرورة، وأكلوا- وأخذوا من لحمه وشائق -أي: وضعوا عليها ملحاً وقددوها-.
فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك قال: (هذا رزق رزقكموه الله عز وجل، فهل معكم منه شيء؟).
فإذا كان أبو عبيدة بن الجراح وهو من هو في العلم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقع طاعون عمواس وأراد أن يخرج قبل أن يعرف الحكم، فقال له أبو عبيدة: أتفر من قدر الله يا أبا حفص؟ قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها -يعني: كان أدبه، لكن أبا عبيدة كانت له مكانة عند عمر وكان جليل القدر والعلم، وكأنما يقول: أفمثلك في علمه يقول مثل هذا الكلام؟ - نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.
فإذا كان هذا الحكم يخفى على مثل أبي عبيدة بن الجراح فله أن يخفى على مجموعة من الأعراب أولى وأولى، والرسول عليه الصلاة والسلام علم استشكال هؤلاء عن ماء البحر، فأعطاهم هذا الحكم الزائد الذي لم يسألوا عنه؛ رحمة بهم.
ومن هذا الباب أيضاً: قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما ذهب يبحث عن راهب يفتيه: هل له توبة؟ فدل على راهب فأتى إليه، فقال: هل لي من توبة؟ قال: لا؟ فقتله فأتم به المائة، ثم أذن الله له بالتوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض.
فدلوه على راهب عالم، فقال له: إني قتلت مائة نفس، ألي توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعملون الصالحات.
قال: (ألي توبة؟ قال: نعم) وهنا تم الجواب.
كل الزيادة القادمة هذه من تمام (جواب الحكيم) لا تتم الفائدة، ولا ينتفع هذا الرجل إلا بتمام الفتوى.
(ألي توبة؟ قال: نعم.
-الزيادة- (ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوم يعملون الصالحات).
أول زيادة: فيها أمانة العا(119/2)
حكم إطلاق اللحية في الشرع
السؤال
أنا شاب التزمت قريباً، وأطلقت لحيتي، وطال جدال بيني وبين والدي وإخوتي، فهم يقولون: اللحية لا ضرورة لها الآن، وأهم شيء القلب، ويقولون لي: ليست اللحية واجبة، وليس عندي من المعلومات الشيء الكثير لمناقشتهم، فأرجو أن تفصل هذا الأمر؛ لأنه مهم جداً بالنسبة لي حتى أقنعهم؟
الجواب
الحقيقية أن الذي يزعجني قول بعض الناس للذي يطلق لحيته، مثلاً: هل صنعت كل شيء من الواجبات فما بقي إلا اللحية؟! فيهونون عليه هذا الحكم.
إذا نظرنا إلى الدين بهذه الصورة فلن يفعل أحد قط شيئاً من الخير، فمثلاً: سرت في الشارع ووجدت زجاجة مكسورة يمكن أن تجرح إنساناً ما، فأخذتها ووضعتها بجانب الطريق، فيأتيني رجل يقول لي: هل فعلت كل شيء إلا حمل الزجاجة من على الأرض؟ هل يستقيم هذا الكلام؟! وهل العبادات بعضها مترتب على بعض بحيث إذا لم تفعل هذه لا يحل لك أن تفعل الأخرى؟! بل الرسول عليه الصلاة والسلام يقول -كما في الصحيحين -: (إن امرأة بغياً من بني إسرائيل -بغياً: أي: تتاجر بعرضها- رأت غصن شوك من على الأرض فحملته فنحته جانباً، فشكر الله لها؛ فغفر لها).
أنت لا تدري ما يقبل من عملك؛ لذلك لا تكف عن فعل الخير أبداً، الزجاجة التي تحملها عن الأرض لعل الله عز وجل يكفر عنك ذنوبك كلها بهذه الزجاجة، فهذه الزجاجة قد تكون عند الله عز وجل أفضل من قيامك وصيامك، وأنت لا تدري، وهذا ليس تهويناً للصيام والقيام، هل أنت تتصور أنه ورد لك في النصوص -إذا لم تكن تعلم هذا النص- أن غصن شوك يسقط ذنب امرأة تاجرت بعرضها، وزنت وغصن شوك يسقط كل هذه الجرائم من على أكتافها؟! أنت لا علم عندك علم بالذي يتقبل من أعمالك، أحياناً قد تعمل عملاً وتتصور أنه أجل عمل عملته ولا تؤجر عليه، وتعمل عملاً آخر وليس عندك اهتمام كبير به فالله عز وجل يغفر لك به.
اللحية ليست كما يظن كثير من الناس أنها مستحبة، بل هي واجبة، والفرض والواجب عند جماهير العلماء واحد.
لماذا هو فرض؟ نقول: إن الأوامر ثلاثة أقسام: الواجب، والمستحب، والمباح.
والمباح: يعتبر أمراً من جهة الصيغة -وهناك خلاف بين العلماء هل المباح أمر أم لا- كأن أتكلم على جهة الصيغة الآن، فالأوامر إما أن تكون من الأعلى للأسفل، أو من الأسفل للأعلى، أو من النظير للنظير.
فالأوامر من الأعلى للأسفل تفيد الإلزام، ومن الأسفل للأعلى تفيد التوسل والرجاء، والنظير للنظير تفيد الطلب، فإذا قال الله عز وجل لنا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
(تب): فعل أمر من أعلى، أي: لا خيار لك في الترك، لابد أن تفعل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيث ما كنت) فعل أمر، يبقى هذا يفيد الإلزام.
مثال الأمر من أسفل للأعلى: أنت تقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي (اغفر): فعل أمر، لكن هل أنت تأمره؟ لا، أنت تتوسل إليه.
والأمر من النظير للنظير: أقران أنداد فأحدهم يقول للآخر: افعل كذا هذا على سبيل الطلب وليس على سبيل الإلزام.
هذه حقيقة الأمر! فالعلماء يقولون: الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب إلا أن تأتي قرينة تصرفه عن الوجوب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اعفوا اللحى) (ارخوا اللحى) (وفروا اللحى) وفي لفظ آخر: (ارجوا اللحى).
أما (اعفوا) فهو من تمام الترك، تترك اللحية حتى تكثر، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، (حتى عفوا): أي كثروا.
و (ارجوا اللحى): من قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106]، أي: متروكون، أي: أتركوها.
و (فروا اللحى): من التوفير.
فكل هذه الأوامر معناها: تمام الترك.
القرينة التي تصرف هذه الأوامر مثل أن يأتي رجل قد حلق لحيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيرحب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذه قرينة تدل على أن الأمر لا يفيد الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، وقال له: لماذا حلقت لحيتك، فإن اللحية فرض؟ أما إذا لم ينكر عليه وهو لا يقر على الباطل، إذاً: هذا يدل على أن اللحية ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، إذا فعلتها تثاب عليها وإذا لم تفعلها لا تعاقب.
فهل ثبت أن أحداً من الصحابة حلق لحيته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؟ الجواب: لا، أبداً.
هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق لحيته؟ لا.
لم يثبت شيء من هذا إطلاقاً.
والعلماء يقولون: يبقى الأمر على حالته الأولى، وهو أنه يفيد الوجوب.
فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما يقول: (اعفوا اللحى وقصوا الشارب، وخالفوا اليهود والنصارى) ولكن هنا شبهة سمعتها من أستاذ في قسم الحديث، عندما كانوا يستقدمونه في ندوة عن الرأي التي كان يرد فيها على الشباب، فقال: بل لو قلت: إن حلق اللحية هو السنة لما أبعدت.
لماذا يا فلان؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خالفوا اليهود والنصارى) والقساوسة والحاخامات ملتحون مربون لحاهم، فالمفروض أنا حتى أخالف هؤلاء أحلق لحيتي.
فهل هذا الكلام صحيح؟ لا؛ لأن لفظ اليهود والنصارى اسم جنس محلى بالألف واللام يشمل جميع اليهود والنصارى، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: وخالفوا القساوسة والحاخامات، إنما قال: (خالفوا اليهود والنصارى).
فالنصارى الموجودون أكثر من مليار مثلاً، واليهود الموجودون افترض أن عددهم خمسة عشر مليون يهودي على وجه الأرض.
كم واحد ملتحٍ في النصارى؟ لا تكاد تجد نصرانياً يعفي لحيته إلا القسيسون الكبار، فأنت لو وجدت قساً شاباً أعفى لحيته اعرف أن هذا متعصب لدينه جداً، لأن اللحية غير معروفة في القسيسين أنفسهم إلا في كبار السن.
ولو سلمنا أن كل القسيسين أعفوا لحاهم كم تكون نسبتهم إلى العدد الكلي؟ لا يشكلون أية نسبة مئوية مذكورة، يبقى هل لا يزال النصارى يحلقون لحاهم أم لا؟ الجواب: نعم لازالوا.
لازال اليهود يحلقون لحاهم أم لا؟ نعم لازالوا؛ لأن هذا اسم جنس يشمل كل يهودي على وجه الأرض، ويشمل كل نصراني على وجه الأرض.
ولو سلمنا أن كل النصارى على وجه الأرض أعفوا لحاهم، وكذلك كل اليهود أعفوا لحاهم، فما موقفنا؟ هل نحلق لحانا مخالفة لهم عندما أجمعوا جميعاً على إعفاء اللحية؟ الجواب: لا، لأن إعفاء اللحية من سنن الفطرة، التي هي القدر المشترك في كل دين لا يتغير: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، فالفطرة هي جملة من الأوامر الثابتة التي لا تتغير من شريعة إلى شريعة، ولا من قول إلى قول.
فهم إذا تركوا لحاهم فلم يحلقوها فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية، ونحن أيضاً مأمورون أن لا نحلق لحانا لماذا؟ لأنها من سنن الفطرة كما في صحيح مسلم رحمه الله.
إذاً: على أي محور لا يحل لمسلم أن يحلق لحيته، أضف إلى ذلك أن اللحية هي شعار المسلم الظاهر، فأنت عندما تمشي في الشارع هل تستطيع أن تميز بين المسلم وغير المسلم؟ لا تستطيع، اختلطت الأزياء والأشكال، حتى ذاب المسلم في وسط الكافر.
فهذا كمال أتاتورك ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا، ومن جملة ما فرضه على الناس (القبعة) وهي خاصة بالإنجليز وشعارهم، فأول ما فرض القبعة قام علماء الدين جمعياً وقالوا: لا يجوز، فبدءوا يقبضون عليهم ويحاكمونهم ويعدمونهم، فكان ممن أعدم في هذه الآونة رجل عالم، أصدروا عليه حكم الإعدام، لكن قالوا: لكي نبين أننا أناس ديمقراطيون، فسنرتب له محاكمة هزلية وندينه، ثم نقرأ عليه حكم الإعدام، لأننا لو أعدمناه مباشرة سيبقى بطلاً، فنحن لكي نفوت عليه البطولة ولا يبقى رمزاً ندينه أولاً ثم بعد ذلك نعدمه.
جاء القاضي وقال له: عجباً لكم يا علماء الدين! ما أتفهكم! هذه العمامة التي تلبسها إذا جعلتها على رأسك قلتم: مشروعة، وإذا استبدلتها (برنيطة) قلتم: غير مشروعة، ما هو الفرق بينهما وهذا قماش وهذا قماش؟ قال العالم: أيها القاضي! إنك تحكم علي وخلفك علم تركيا، فهل تستطيع أن تستبدله بعلم إنجلترا وهذا قماش وهذا قماش؟ فبهت، لكنه نفذ عليه حكم الإعدام أيضاً.
عندما يلبس الشخص (القبعة) القضية أن هذا شعار لا ينبغي أن يرتديه المسلم، فعندما يجد الشخص أولاداً يلبسون ملابس رياضية عليها علم أمريكا، وأحياناً عليه علم إسرائيل، نجمة داود على صدر الولد، فالولد هو يرفع شعاراً لعدوه على صدره يحمله، وهو لا يدري بل هو غافل! فاختلطت أزياء المسلمين بالكافرين، تمشي في الشارع لا تستطيع أن تقول: هذا مسلم وهذا كافر أبداً، لكن إذا رأيت رجلاً أعفى لحيته ويمشي في الشارع أنت تقول: هذا مسلم.
اللحية إعلان للهوية، أضف إلى ذلك أن غياب اللحية أضاع علينا أحكاماً أخرى مرتبطة باللحية، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
فإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا، فقال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام) والحديث الأول يقول: إن إفشاء السلام مستلزم لوجود المحبة المستلزمة للإيمان، قال: (أفشوا السلام بينكم) فكيف أفشي السلام وأنا لا أستطيع أن أميز المسلم من غير المسلم؟ وأنا منهي أن ألقي السلام على الكافر -اليهود والنصارى-؟ فبهذه الطريقة أنا لا أستطيع أن ألقي السلام، فضاع علينا شيء عظيم.
كذلك المسلم له حقوق على المسلم لا يأخذها الكافر، فمثلاً: تشميت العاطس، ففي سنن أبي داود أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم النبي صلى الله علي(119/3)
تعريف بأبي حمزة السكري
السؤال
وقفت في بعض الأسانيد على راو اسمه أبو حمزة السكري، فمن هو؟
الجواب
أبو حمزة السكري هو أحد الرواة من طبقة سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، وهو من الرواة عن الأعمش رحمه الله، وهو راوٍ ثقة، وإنما قيل له: السكري لحلاوة كلامه، كان كلامه كالسكر.
فمن ضمن كلام أبي حمزة رحمة الله عليه، ونحن أمة مليئة بالعظماء، فهذا أبو حمزة لا يعرفه أحد، كثير من الناس لا يعرفون أبا حمزة السكري، وقلامة ظفر أبي حمزة بكل العظماء الذين يلمعونهم في الغرب لنا، في علم الاجتماع، وعلم الفلسفة، وعلم النفس، يريدون أن يقنعونا أن هؤلاء الناس عظماء.
هؤلاء العظماء الذين يلمعونهم في الغرب عندما تأتي تبحث عن سيرتهم تجد الذي كان شاذاً جنسياً، والذي كان يلاط به ويلوط، والذي يريد أن يرفعه لأجل أن يجعل له قيمة، نحن أمة كلها عظماء، عندنا ألوف مؤلفة من العظماء.
فهذا أبو حمزة السكري كان يقول: (ما مرض جار لي قط إلا قومت نفقته في مرضه، وتصدقت بها أن عافاني الله مما ابتلاه به) أي: إذا مرض جاره، وذهب للطبيب فأعطاه أدوية بقيمة أربعة آلاف درهم أو خمسة آلاف درهم تصدق بهذا القدر.
انظر العظمة! كان ممكن إذا مرض أن ينفق هذه العشرة آلاف درهم على المرض، طيب! ما رأيك أنه قد لا يؤجر على العشرة آلاف درهم لماذا؟ لأن التداوي ليس بواجب، بل هو مباح، فلو أن رجلاً مرض فأبى أن يتداوى، لا أثم عليه، وليس واجباً.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما مرض قالوا: (نأتيك بطبيب؟ قال: الطبيب نظر إلي، فقال: إني فعال لما أريد) فترك التداوي جائز.
فأنت إذا أنفقت على رفع العلة تنفق على شيء جائز، فلا يكون التداوي واجباً إلا إذا انضاف شيء آخر كأن يكون مرضك يؤثر في القيام بواجب معين، فحينئذ قد يرت قي التداوي إلى درجة الوجوب، ليس لذاته ولكن لغيره.
فيقوم هو يتصدق، فالصدقة هذه مقبولة، فيها شكر لله عز وجل مع أن فيه هذا المرض.
وذات مرة أراد جار أبي حمزة أن يبيع داره، فجاءه المشتري، فقال له: بكم تبيع هذه الدار؟ قال: أبيعها بألفين لثمن الدار، وبألفين لجوار أبي حمزة.
فبلغ ذلك أبا حمزة فأرسل إليه أربعة آلاف درهم، وقال له: لا تبع الدار.
انظر علماءنا! كان كلامهم جميلاً، عندما تقرأ ترجمة أبي حمزة السكري تستمتع، وهذا رجل غير معروف، فكيف بعلمائنا العظام الكبار الذين هم مشهورون بيننا؟ تجد سيرتهم أطيب وأطيب؛ لأن الكل كان يحرص على نقل سيرتهم، فمثلاً: الرواة الذين لا تعرفهم الجماهير الحسن بن صالح بن حي، وله أخ كان اسمه علي بن صالح بن حي، وكلاهما ثقة، وعلي هو أوثق الرجلين، والاثنان توأم، فهذا علي لم يكن يمشي أمام أخيه أبداً، ولا يتقدمه، ولا يجلس قبله، فسئل: فقال: هو أكبر مني، أتى الدنيا قبلي.
انظر إلى الاحترام! هو جاء إلى الدنيا قبله بدقيقة واحدة، فما كان يمشي أمامه، ولا يجلس قبله، وهو الذي كان يخدمه، وكان علي بن صالح والحسن هؤلاء لهم أم، فكانوا يقسمون الليل أثلاثاً: الحسن يقوم الثلث الأول، وعلي يقوم الثلث الثاني، وأمهم تقوم الثلث الآخر، ماتت أمهم فقسما الليل بينهم، ثم مات الحسن فقام علي بالليل كله.
وكان لهم جارية -وهذا الخبر رواه العجلي في كتاب الثقات في ترجمة الحسن بن صالح - ثم باعوها، فاشتراها رجل، وفي الليلة التي اشتراها الرجل فيها قامت قبل الفجر وجعلت تقول: يا أهل الدار! الصلاة الصلاة! فقالوا لها: أذن للفجر؟ قالت لهم: لا تصلون إلا الفجر.
قالوا: نعم.
قالت لهم: لا تقومون الليل؟ قالوا: لا.
فلما أصبح الصباح ذهبت إلى الحسن، وقالت: ردني إليك، فإنك بعتني لقوم سوء لا يقومون الليل.
نعم، حُق لها أن تكون عابدة، زاهدة، قوامة لليل؛ لأن البيت كله بيت عبادة، لا يعرف الكسل.
نحن لا نعرف شيئاً عن الحسن بن صالح بن حي ولا عن أمه، لذلك أنا أحض على قراءة سير الأسلاف، اقرأ سير العلماء يرق قلبك وتجد الأسوة الطيبة في الاقتداء، لاسيما في زمان الغربة الذي كل شيء فيه يقول لك: هلم إلى النار! ولله در أبي سليمان الخطابي لما كان يقول: وليس غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين (بست) وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي ليست غربة الإنسان في شقة النوى، أن تترك بلدك وتذهب إلى أي بلد آخر أبداً، لكن غربة الإنسان في عدم الشكل، أن لا يكون لك نظير، الإنسان يعيش في وسط أهله وإخوانه وهو غريب، لا يجد له إلفاً ولا نظيراً، يتجرع الغربة وحده.
أنت بحاجة إلى أن تقرأ سير هؤلاء الأسلاف ليصبروك، وليطول نفسك على السير في هجير الحياة والله أعلم.(119/4)
حكم نتف الإبط وحلق العانة أثناء الصيام وحلق العانة
السؤال
هل يجوز نتف الشعر أثناء الصيام؟ وهل حلق العانة يكون بإزالة الشعر تماماً أم يكفي قصه؟ وهل هو واجب أم مستحب؟
الجواب
أما نتف الشعر فلا يضر بالصيام، يجوز للصائم أن يزيل شعره، كأن ينتف الإبط مثلاً.
وأما العانة فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر بنتف الإبط وحلق العانة، ولم يقل: ونتف العانة.
وسئل أبو سليمان الخطابي عن عادة النساء في نتف العانة فنهى عن ذلك، وقال: (إن هذا يخالف النص، ثم إنه يرخي الفرج ويؤذيه) إنما السنة في العانة الحلق، والحلق لا يعني الإزالة، ولا النتف، فالسنة في العانة الحلق، والنتف يكون للإبط.
ومعلوم عند جماعة العلماء أن حلق العانة، ونتف الإبط للاستحباب والله أعلم.(119/5)
حكم زكاة الحلي
السؤال
عندي ذهب أستخدمه كحلي، ولكن لا أرتديه كثيراً، وأزكي عنه، فهل أعتبر ممن يكنزون الذهب والفضة، وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهب الذي يستخدم كحلي: إنه سوار من نار؟
الجواب
أما إذا كان المرء يزكي عن هذا الذهب فلا جناح عليه، إذا زكى عن ذهبه فقد زال عنه شره، ولا يكون كنزاً، إنما الكنز المذموم: أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، ومعلوم أنه لا يجب في مال المرء المسلم إلا الزكاة، فإذا زكى عنه فلا جناح عليه.
وأما بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام هل قال للذي يستخدم الذهب والفضة أنه يرتدي سواراً من نار؟ فهذا الحديث صح، لكن حمله العلماء على المرأة التي تتفاخر به، أو على المرأة التي لا تخرج زكاته.
وبهذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين، والله أعلم.(119/6)
أسئلة وأجوبة [2](120/1)
معنى تنبيه المحدثين على إرسال الراوي
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
السؤال
الراوي إذا ذُكر في ترجمته أنه يرسل أو يرسل كثيراً، ما معنى ذلك؟
الجواب
المحدثون ينبهون على الإرسال، ويقصدون به عادة الإرسال الخفي، لأن هناك بعض الناس لا يفرقون بين التدليس وبين الإرسال الخفي فيخلطون بينهما؛ فلذلك إذا كان الراوي ممن يرسل فلا يجوز إطلاق التدليس عليه، وعلى سبيل المثال قتادة، كان يرسل كثيراً، ويدلس أحياناً، يقولون في ترجمته: (يرسل) صيانة له من الوصف بالتدليس؛ لأن بينهما فرقاً، فالمدلس لابد أن يصرح بالتحديث كي يقبل منه، أما إذا عنعن فعند إذٍ تجرى عليه قواعد عنعنة المدلس، بخلاف المرسل.(120/2)
حكم تعليق التمائم
السؤال
بعض الناس يعلقون التمائم وفيها ألفاظ غير معروفة وأسماء جن؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا بأس بالرقية ما لم تكن شركاً) فمن الشرك أن يستعين الإنسان بالجن، فبعضهم يكتب تمائم وكلمات معينة يستعين فيها بالجن، لكن الإنسان إذا رقى إنما تجوز له الرقية بفاتحة الكتاب أو شيء من القرآن، أو بدعاء معروف لا يكون فيه شيء من الشرك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا بأس بالرقية ما لم تكن شركاً) ففيه جواز الرقية بشرط ألا يكون فيها شرك، ولا يشترط في الرقية أن تكون بالمأثور المعروف، بل بأي دعاء؛ بشرط ألا يكون فيها شرك، لأن الشرك مضاد للتوحيد.
والذي يرقي لابد أن يكون رجلاً مخلصاً؛ لأن كما قيل: كان عمر بن الخطاب يرقي بالفاتحة، فاستدعوا رجلاً يرقي، فقال: هذه الفاتحة وليس عمر، يعني: كل إنسان يمكنه أن يرقي بالفاتحة ويحصل المقصود، لكن تجد أن الله سبحانه وتعالى يجعل الشفاء على يدي شخص ولا يجعله على يد الآخر، وهذا يختلف من شخص لآخر باختلاف الإخلاص والخشية.(120/3)
فضائل معاوية رضي الله عنه
السؤال
يقولون: إن معاوية بن أبي سفيان لم يصح في فضله دليل مخصوص، فهل هذا صحيح؟
الجواب
نعم، صحيح، لم يصح في فضل معاوية بن أبي سفيان عند أكثر المحدثين شيء خاص به، لكن استظهر الإمام البخاري وغيره لـ معاوية فضل الصحبة، وإن فاته الفضل الخاص، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره أن يستدعي له معاوية ليكتب شيئاً من الوحي أو نحو ذلك، فوافاه وهو يأكل، فقال: بعدما آكل.
فأرسل لـ معاوية مرة بعد مرة وهو يقول: حتى آكل، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أشبع الله بطنه) فقال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ: لعل هذه منقبة لـ معاوية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أم سليم: (أوما تدرين ما اشترطت على ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة وأجراً) فإذاً: ثبت لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في هذا الأمر ما ثبت بدلالة الحديث.
وقد أطبق جميع أهل السنة على فضله ومدحه، وقد ولي الخلافة عشرين سنة ما اشتكى منه أحد، وكان حليماً، وله مناقب كثيرة شهد له بها الصحابة أنفسهم.(120/4)
تكفير الحاكم ونتائج الخروج عليه
السؤال
قضية تكفير الحاكم أصبحت منتشرة وخاصة عند الشباب المبتدئين أو قليلي العلم، فما توجيهاتكم نحو هذا الأمر؟
الجواب
المسألة فيها تفصيل نظري أكثر من العملي وهي من المسائل المهمة، لكن المسلم المعاصر لا يستطيع أن يفعل شيئاً، نفترض أنه يوجد حاكم مستبد وظالم في بلدة من البلدان، ما عسى المسلم المعاصر أن يفعل؟ قد يأخذ حكم المسألة نظرياً فقط كالذين يكفرون الحكام، ثم ماذا بعد ذلك؟ لا يعمل شيئاً، فلذلك البحث في هذه المسائل سيكون بحثاً نظرياً أكثر منه عملياً.
وأنا أعتقد أن كل الناس يعرفون الآن أن الحكام ما بين كافر وفاسق، لا تكاد تجد رجلاً يمكن أن ينجو من واحدة منهما: إما كافر، وإما فاسق.
فإذا كان كافراً أو فاسقاً ما هي النتيجة؟ هل سيخرج عليهم؟ إذا كان هذا الرجل كافراً فلا بيعة له في أعناقنا -مع أنك ترى أنه لا بيعة في الأصل- فما يبقى إلا مسألة وجوب الخروج عليه.
فهذا الوجوب يسقط بعدم الاستطاعة، فمسألة الخروج على الحاكم هذه مسألة صعبة جداً، يقول ابن كثير: كل الويلات التي وقعت في هذه الأمة بسبب محاولة الخروج على الحكام، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فالخروج على الحكام هو أصل البلاء الذي أصاب الأمة من لدن عثمان بن عفان عندما خرجوا عليه رضي الله عنه حتى هذه الساعة.
فإذا كان الإنسان لا يستطيع الخروج على الحاكم، فإن الواجب يسقط بعدم الاستطاعة، والمهم في المسألة أن مؤدى الباحث في النهاية أنه لا يستطيع أحد أن يخرج على أي حاكم في الظروف الحالية؛ لأنه ما عندهم ما يستطيعون أن يخرجوا به، فلذلك الكلام ليس له كبير جدوى.
مداخلة: ما حكم التحاكم إلى هذا الحاكم الطاغوت؟ الشيخ: كفرنا بالطاغوت على اختلاف أشكاله، وليس المقصود بالحاكم نفسه هو الطاغوت لا، كل ما يتحاكم إليه من دون الله تبارك وتعالى فهو طاغوت، وأنت لابد أن تعلم أن هذه المسألة طويلة جداً، وذيلها طويل، والحقيقة أحياناً يكون فتح هذه المسائل على سبيل الإجمال فيه خلل كبير، لأن أغلب الخلل يأتي بسبب إجمال القول في هذه المسائل، فعندما يسمع أي إنسان قولاً مجملاً يحتمل أكثر من وجهة فممكن أن يوجهه على ما يريد؛ فلذلك فهذه المسائل أظن أن الإجمال فيها لا ينبغي، وأن الأولى والأصوب القول المفصل، ويوضع للبحث محاور وعناوين، وكل عنوان يتكلم فيه بإسهاب، ويرد على المعارضات والشبهات الواردة على هذا الباب.
وهذه المسألة جديرة بتصنيف كتاب يستوعب الكلام عليها من كتب أهل العلم، ويجيب على الشبهات جواباً وافياً، وإن كانت هذه الردود منثورة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكنها تحتاج إلى من يجمعها.(120/5)
تقديم اليدين حال الهوي إلى السجود
السؤال
ما هي السنة في الهوي إلى السجود: على اليدين أم على الركبتين؟
الجواب
الصواب أن النزول على اليدين، وحديث النزول على الركبتين ضعيف، قال الدارقطني رحمه الله: (تفرد به شريك بن عبد الله النخعي، وليس بقوي فيما تفرد به).
والصواب: النزول على اليدين لحديث أبي هريرة في الصحيح الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) فهذا نص واضح جداً وصريح، وما أُعلَّ به ليس بعلة في الحقيقة، وسنده جيد يحتج به.
بالإضافة إلى أنه عضد بأثر ابن عمر الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه معلقاً وهو صحيح عن ابن عمر أيضاً: أنه كان ينزل بيديه قبل ركبتيه وقال الأوزاعي: أدركت الناس ينزلون بأيديهم قبل ركبهم.
وإذا نظرنا إلى العلة وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى المسلم أن يتشبه بالبعير، علمنا يقيناً أن النزول بالركبة هو التشبه بالبعير دون النزول باليدين، بعض الناس يقول: إن البعير ينزل بيديه، كل ذي أربع، يداه الأماميتان ورجلاه الخلفيتان، فيقول صاحبنا: إن أول ما ينزل البعير على الأرض ينزل بيديه اللتين هما الأماميتان، فالمفروض أن المسلم ينزل بركبتيه ولا ينزل بيديه؛ لأنه لو نزل بيديه يكون قد تشبه بالبعير، وهذا الكلام عجيب أن يقوله عربي! لأن البعير ركبتاه في يديه، هو أصلاً لا يمشي على رجليه مثلنا حتى يكون أول ما يُنزل يديه لا، بل هو يمشي على يديه ورجليه أصلاً، فعندما تقول أنت: إنه يضع يديه أولاً.
هما موضعتان في الأرض دائماً على أصل خلقته، ويمشي بهما على الأرض، لكن أول شيء يصل من البعير إلى الأرض حال البروك ركبتاه، فيبقى أن مناط المسألة الركبة وليست اليد لاختلاف خلقة الإنسان عن البعير.
فإذا كان أول شيء يصل إلى الأرض من البعير ركبتاه فلا ينبغي أن يكون أول ما يصل من المسلم إلى الأرض -حال الهوي إلى السجود- ركبتاه أيضاً، والمسألة تنحل بهذا، وأما قول ابن القيم رحمه الله: وركبتا البعير ليستا بيديه، فهذا كلام لا يعقل ولا يعرفه أهل اللغة، افتح كل كتب المعاجم العربية تجد في مادة (ركب) أنه يقول: وكل ذي أربع ركبتاه في يديه وعرقوباه في رجليه، وهم متفقون على ذلك.
ومما يدل على ذلك أيضاً الحديث الذي رواه البخاري وأحمد: لما طارد سراقة بن مالك النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر الصديق لما خرجا من الغار قال سراقة بن مالك: (فدعا عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين).
هذا نص من صحابي أيضاً أن الركبة إنما تكون في اليد، فإذا كانت الركبة في يد البعير، وأنه إذا أراد أن ينزل نزل عليها، فلا ينبغي للمسلم أن يكون أول ما يصل إلى الأرض منه ركبتاه.
فلذلك الصواب في المسألة: هو النزول باليدين وليس الركبتين، والمسألة فيها كلام طويل.(120/6)
رواية من ساء حفظه وكتابه صحيح
السؤال
كيف يميز بين رواية الراوي الذي صحت كتابته وساء حفظه؟
الجواب
بالنسبة للراوي الذي صحت كتبه وساء حفظه، فإذا روى حديثاً يكون هناك قرائن تدل على أنه روى هذا من حفظه أو من كتابه، ويكون مذكوراً في ترجمته، وأحياناً قد يخص بعض الرواة، فيقال: إذا روى فلان عن هذا الراوي فإنما يكون من كتابه، فإذا كان الراوي مختلفاً تماماً، فيقال: إن هذا سمع منه قبل الاختلاط أو بعده.
أما إذا لم نجد أي إشارة إلى أنه روى هذا الحديث من حفظه أو رواه من كتابه فالأصل التوقف حتى نجد له متابعاً، فإذا وجدنا له متابعاً جيداً روى نفس ما روى، يدل على أنه حفظه، ويرتفع الوهم؛ لأن الوهم أقرب من الواحد وأبعد عن الاثنين، كـ عبد الله بن نافع كان صحيح الكتاب، ولكنه كان إذا حدث من حفظه وهم.(120/7)
رواية يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله
السائل: هل تقبل رواية يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله؟
الجواب
نعم إذا كان قبل توليه القضاء.
السائل: فتكون روايته عن شريك قبل القضاء أجود؟ الشيخ: هذا يكون أجود، يعني: لعلك تريد أن تشير إلى رواية يزيد بن هارون عن شريك في ما يتعلق بحديث الركبتين.
لكن حديث الركبتين هذا لم يروه إلا يزيد بن هارون، وقد نص ابن حبان وغيره أن يزيد سمع من شريك قبل أن يسوء حفظه، لكن ذكر الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية: أنه إنما ساء حفظه لما ولي القضاء في الكوفة، فهو في الكوفة سيء الحفظ، وقد نسلك رواية يزيد بن هارون عن شريك لولا ما رواه الخطيب في الكفاية عن يزيد بن هارون قال: دخلت الكوفة فرأيت كل أهلها يدلسون غير شريك وهشيم، فهذا يدل على أن يزيد بن هارون دخل الكوفة وأخذ من شريك بن عبد الله النخعي في وقت سوء حفظه.
فحينئذ يلزمنا أن نعلم إذا كان يزيد أخذ هذا الحديث عن شريك قبل أن يدخل الكوفة أم لا، فنحن نتوقف في روايته مثل حماد بن سلمة سمع من عطاء بن السائب قبل الاختلاط وبعد الاختلاط، فصار المحققون يتوقفون في حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب؛ لأنهم لا يدرون أهذا مما تحمله حماد عن عطاء قبل الاختلاط أم بعد الاختلاط، فإذا ثبت أن يزيد بن هارون دخل الكوفة، وأخذ عن شريك بن عبد الله النخعي يبقى أنه لا يتأتى القول: إن يزيد ممن سمع قبل الاختلاط فقط، بل سمع قبل وبعد، فحينئذ نتوقف في روايته ولا نعطيها حكم الثبوت إلا إذا علمنا أنه رواها عنه قبل سوء حفظه، وروايته عنه قبل سوء حفظه عند توليه القضاء أجود.
أنا أقول: (أجود) لأنه ثبت أن شريك بن عبد الله النخعي له أوهام وأحاديث خالف فيها الثقات المتقنين، برغم أنها كانت رواية الذين سمعوا منه قبل الاختلاط، فكأن حفظه لم يكن بذاك حتى قبل الاختلاط.
مداخلة: هل من الممكن أن نقول: إنه حسن الحديث قبل اختلاطه؟ الشيخ: نعم.
مداخلة: فرواية من روى عنه قبل اختلاطه تعد صحيحة؟ الشيخ: نعم، صحيحة.
مداخلة: وهل يشمل هذا الحكم بعض تلاميذه؟ الشيخ: من ثبت أنه سمع قبله فقط.
مداخلة: هل سمع منه وكيع قبل اختلاطه؟ الشيخ: نعم، ويبقى أن رواية وكيع عن شريك أقوى.
مداخلة: وهل تقبل روايته قبل الاختلاط مطلقاً حتى حال التفرد؟ الشيخ: نعم، ولذلك فقد قلت: يضعفونه مطلقاً لأنه كان كثيراً ما يروي أحاديث رواها عنه أناس قبل الاختلاط، وكان يقع فيها مخالفات للثقات الأثبات، مثل ابن لهيعة، فإن بعض العلماء كـ ابن حبان يقول: إنه قبل أن يختلط كان عنده لا مبالاة في الرواية أصلاً، لكن لما اختلط ساء حفظه جداً، يعني: أن حفظه كان قبل الاختلاط بنسبة (70%)، فلما احترقت كتبه كان نسبة حفظه (50%) أو (40%)، وهذا الوضع من تصرفات العلماء بالنسبة لرواية شريك، وانظر رواية الدارقطني رغم أن أحاديث النزول بالركبة من رواية يزيد بن هارون وتفرد بها عن شريك إلا أن الدارقطني لم يعبأ بهذا القيد الذي ذكروه، قال: وشريك بن عبد الله النخعي ليس بقوي فيما تفرد به، وقد تفرد بهذا الحديث، فلم يلتفت إلى رواية يزيد وأنه سمع قبل أو بعد.(120/8)
رؤيا النبي في المنام
السؤال
شخص يدعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره أنه المهدي وأنه سيلي أمر الأمة! فماذا يقال في شأنه؟!
الجواب
هذا حسبه سقوطاً أن يدعي لنفسه.(120/9)
اشتراط القرشية في ولي الأمر
السؤال
هل يشترط في ولي الأمر أن يكون قرشياً؟!
الجواب
أغلب أهل العلم يشترطونها، لكن على التسليم بهذا الشرط: إذا اختلطت الأنساب ولا يعلم أن هناك قرشياً فليتول أفضلهم وأعلمهم وأقواهم ورعاً وديناً، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبداً حبشياً) أي: ليس قرشياً، لكن أغلب أهل العلم على اشتراط أن يكون الأئمة من قريش، وذلك إذا عُلم.
أما أن يبني دعوته على قوله: أنا رأيت رؤيا وتحققت إذا قابلت هذا الرجل فاسأله عن صفة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن كثيراً من الناس يقول لك: أنا رأيت الرسول في المنام، لكن عندما تقول له: صف لي الرسول عليه الصلاة والسلام: لا يستطيع أن يصفه.
كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا جاء شخص إليه وقال له: أنا رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: صفه لي.
فإن لم يوفق في وصف النبي عليه الصلاة والسلام كما رآه الصحابة يقول له: لم تر شيئاً.
مداخلة: هل يسبق ظهور المهدي أمارات وعلامات وأشراط؟ الشيخ: نعم، وآخر الزمان لابد من علامات وأشراط تأتي قبل المهدي وقد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.(120/10)
خروج الحسين رضي الله عنه على يزيد
السؤال
ما حكم خروج الحسين رضي الله عنه على يزيد؟
الجواب
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:134].
مداخلة: هناك خلاف في يزيد؟! الشيخ: إي نعم، مختلف فيه، ومنهم من وصل به الحال إلى تفسيقه، ولا شك أنه لم يكن كأبيه ولا يقاربه، وكان جائراً، لكننا نكف اللسان عنه؛ لأنه لا يترتب عليه كبير شيء إلا مجرد السب.(120/11)
خروج بعض الصحابة والعلماء على الحكام
السؤال
إجماع الصحابة -أو حتى بعضهم- على الخروج على الحاكم الجائر هل يعد ناسخاً للأحاديث الآمرة بالصبر على الولاة الظلمة؟
الجواب
أحاديث الصبر على الولاة الظالمين ليست بمنسوخة بطبيعة الحال؛ لأنه لا ينسخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا الحديث نفسه، ولا يمكن أن يفتي أحد على خلاف الحديث -ولا يصلح- حتى وإن كان صحابياً، ثم هل هذا إجماع؟ لا، ليس عمل واحد أو اثنين أو ثلاثة من الصحابة يسمى إجماعاً؛ لأن أهل المدينة إذا أجمعوا على شيء وقد خالفهم أهل البصرة والكوفة والحجاز ومكة ومصر فلا يسمى هذا إجماعاً، والحسين رضي الله عنه خطأه ابن عباس وابن عمر، وخرج وراءه في الطريق، وحاول أنه يثنيه عن الخروج، وابن الأشعث لما حاول أنه يخرج خطأه العلماء بالخروج، ولـ ابن كثير كلام ممتاز في البداية والنهاية في فتنة ابن الأشعث مع الحجاج، وقال: إن كل شر أصاب هذه الأمة بسبب الخروج؛ وإنه يجب عليهم أن يصبروا؛ لأن هذه الأحاديث محكمة، وليس هناك إجماع أصلاً.
مداخلة: وهل خروج بعض الصحابة والتابعين يعتبر دليلاً شرعياً؟ الشيخ: لو قلنا: إن هذا دليل فلن يصل إلى أن يكون دليلاً شرعياً، إذا قلنا: فعله الصحابي أو قد ثبت عنه، فمثلاً أبو هريرة رضي الله عنه لما رآه أبو رافع وغيره وهو يتوضأ في الميضأة وحده فكان يوصل الماء إلى كتفه، وهم كانوا ينظرون إليه ويستغربون، فقال: هل أنتم هنا؟! لو علمت مكانكم ما توضأت هذا الوضوء، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ وضوءه) هذا تفسير من دلالة النص، وكذلك ابن عمر عندما كان يروي أحاديث كثيرة في الوضوء كان يرفع أشفار عينيه ويغسل أشفار عينيه -أي: جفونه- من الداخل حتى عمي، وقال مالك: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر -ويشير إلى قبره عليه الصلاة والسلام- فمن الممكن أن يجتهد الصحابي، ومن الممكن أن يخطئ في اجتهاده، لكن أحاديث الصبر على الولاة -وهي كثيرة- ولا تنسخ بالإجماع أبداً؛ لأنه ليس هناك إجماع أصلاً، والإجماع لا ينسخ حديثاً صحيحاً فضلاً عن حديث مشهور، فتبقى الأحاديث على دلالتها كما هي.
مداخلة: الخروج على الحاكم هل تراعى فيه المصالح والمفاسد؟ الشيخ: مسألة تقدير المصالح والمفاسد لابد من اعتبارها، ولابد أن نعرف: هل صح ذلك عن الصحابة أم لا؟ وما هي الملابسات التي جعلتهم يقولون بذلك؟ المسألة لا تفهم هكذا، فقد كانوا من أحوط الناس، ومن أشدهم حرصاً على وحدة المسلمين، مهما كان من هذا الظالم الجائر، وصلاة ابن عمر خلف الحجاج معروفة، وصلاة الصحابة خلف ولاة الجور معروفة، كان يصلي هذا وهذا وهذا، ويقول: أنا عنهم غير راض، وإذا أذن للصلاة في أي مكان يصلي خلفهم.
ونحن لم نجرب في الخروج إلا كل شر، فالمسألة ترتبط -تبعاً لذلك- بالمصالح والمفاسد، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بعدم الخروج حفاظاً على المسلمين من الفتن التي عصفت بالأمة وصارت نتائجها تفوق الحصر بل تفوق الخيال!!(120/12)
عدم مشروعية وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع
السؤال
هل يعد من باب الاجتهاد وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الركوع في الصلاة؟!
الجواب
الصحيح عدم الوضع، إذ أن هذه هيئة، والهيئة لابد لها من دليل خاص، ولا يدخل الاجتهاد في الهيئة، وواضح أن ما أخذ عن طريق العموم يعد اجتهاداً، والإنسان إذا تدبر وتأمل النقل عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنهم ما تركوا شيئاً إلا نقلوه حتى ثني أصابع القدمين، والتفريج في أثناء القبض على الركبة، وضم الأصابع أثناء تكبيرة الإحرام، وأثناء السجود على الأرض، ينقلون هذا بهذه الدقة، ثم لا يهتم أحد منهم قط أنه كان إذا قال: (سمع الله لمن حمده) قبض اليمنى على اليسرى؟! هذه هيئة، ومعروف أن الهيئات لا اجتهاد فيها، لا تؤخذ بدلالة العموم كما تؤخذ بقية الأحكام الشرعية، فلذلك يبقى هذا الإثبات مفتقراً إلى دليل خاص.
مداخلة: ما هو الدليل على العموم؟ الشيخ: العموم في أنه كان يضع اليمنى على اليسرى في القيام، فهذا عموم يشمل القيامين معاً، فأخذت هذه الهيئة بدلالة الاجتهاد بالدليل العام، وهذه هيئة، والهيئة لا يدخلها الاجتهاد كبقية الأحكام الشرعية، فلابد لهذه الهيئة من نص مثل أية هيئة في الصلاة، إذ كل هيئة لها نص إلا هذه، ما أخذت إلا بطريق العموم.
وأيضاً هذه الهيئة -مع أنها مشهورة- غير مذكورة في كتب الفقه، ولا يدندن عليها ولا يعول عليها، إنما ذكرها بعض العلماء.
مداخلة: على هذا هل يعد وضع اليمنى على اليسرى بعد الركوع بدعة؟! الشيخ: لا، الأمر أهون من ذلك، يعني: افترض أني من العوام، وأئمتي الذين أتلقى عنهم الفتوى هم شيوخنا في الحجاز، فلا ينبغي التشديد ولا النكير في هذه المسائل ولا الظن بها أنها بدعة.(120/13)
أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية
السؤال
هل يجب أخذ ما زاد من اللحية عن القبضة؟
الجواب
لا، الحقيقة أن فتوى وجوب الأخذ من اللحية مما يجب تركه من فتاوى الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ كان قبل ذلك يفتي بجواز الأخذ، وهذا مستقيم مع الآثار والأحاديث، لكن الإفتاء بوجوب الأخذ من اللحية، وجعل إسبال اللحية كإسبال الإزار هذا بعيد جداً، فكان ينبغي على الشيخ رحمه الله أن لا يتبنى فتوى إلا إن كان له فيها سلف، وهذه الفتيا بالوجوب ليس له فيها سلف يقيناً، إنما الاقتصار على القول بأن ابن عمر كان يأخذ وهذا فعل لا قول.
وأيضاً لو افترضنا أن ابن عمر قال: خذوا من اللحية هل قول الصحابي يفيد الوجوب؟ لا يفيد الوجوب، فإذا قلنا: إن ابن عمر جاءت عنه روايات مطلقة بالأخذ بغير حج أو عمرة، ورواية البخاري مقيدة بالأخذ في الحج والعمرة، فالصواب في هذه المسألة حمل المطلق على المقيد، فيبقى الرواية المقيدة في البخاري هي المقدمة على غيرها مطلقاً، فيبقى القول بجواز الأخذ في الحج والعمرة.
لكن -في الحقيقة- القول بوجوب الأخذ وتأثيم الذي لا يأخذ من اللحية هذه الفتوى لا أعلم أحداً قد أفتى بها، فسبحان الله! كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك.
مداخلة: هل صح ذلك عن أحد من الصحابة غير ابن عمر؟ الشيخ: ليس هناك شيء يصح عن الصحابة بالأخذ من اللحية إلا عن ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنه، وأما عن أبي الدرداء وغيره فالأسانيد كلها ضعيفة، وكان هناك أثر ذكرته للشيخ قديماً -ولكن قبل أن يقول في هذه المسألة بجواز الأخذ فقط- وهو أن علي بن أبي طالب كان له لحية سابغة تصل إلى سرته، ولم أكن أعلم تخريجه آنذاك حتى وقفت في التمهيد لابن عبد البر أنه صح عن علي بن أبي طالب أنه كانت له لحية سابغة تملأ ما بين المنكبين، وكان يخضبها.
فهذا فعل علي بن أبي طالب، وهو صحابي من الأربعة الخلفاء، ولحيته تصل إلى سرته وتملأ ما بين المنكبين، ويتعارض مع ما فعل ابن عمر، فإما أن نقدم واحداً منها، وإما أن نسقط الاستدلال بهما معاً، ولا نقول بذلك، ولا شك في تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند التنازع، بالإضافة إلى أن النظر إلى السنة العملية لفهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام يكون إذا اشتهرت وأجمع عليها الصحابة أو أفتى بها أكثرهم، لكن نحن ما عندنا إلا ابن عمر والروايات مختلفة عنه، وكما قلنا: الرواية المطلقة تحمل على المقيدة، إذا كان في حج أو عمرة، أما الروايات الأخرى التي تقول: إنه كان يأخذ بإطلاق، فنحن نحملها على معنى الرواية المقيدة اتباعاً للأصول.
إذاً: عندنا قيدان: قيد زماني في الحج والعمرة، وقيد موضعي أنه يأخذ ما زاد عن القبضة؛ لكن الأمر لا يتجاوز أبداً حدود الجواز، ولا أعلم قائلاً بجواز الأخذ من اللحية من العلماء فضلاً عن الوجوب؛ لأن وجوب الأخذ من اللحية فيه تأثيم للذي يترك لحيته.
وهذا الحديث والفتوى كان من سلبياتها أن الذين يريدون حلق اللحى -المتضجرين من اللحية- صارت لحاهم أقل من حبة الأرز! لماذا؟ بدعوى أن الأخذ من اللحية واجب، وصاروا يتهكمون على الملتحي ويقولون: يؤخذ من عمل المرء بقدر ما تطول لحيته، ويتكلمون كلاماً طويلاً بناء على فتوى الشيخ.
وأنا -وهذا مبلغ علمي- أرى أن هذه الفتوى شاذة، وأنه لم يقل بها أحد قط قبل الشيخ -أي: القول بالوجوب- هذه الحقيقة، ومن مذهب الشيخ رحمه الله تعالى أنه لا يتبنى حكماً إلا إذا كان مسبوقاً إليه، فمن الذي قال من العلماء بأن تطويل اللحية فيما يزيد عن القبضة لا يجوز؟ مداخلة: ذُكر ذلك في فتح الباري؟ الشيخ: لا، الفتح ذُكر فيه الأخذ، ولم يذكر وجوب الأخذ.
وتأثيم من لم يأخذ لا أعلم أحداً من العلماء قال به بهذه الصورة، نعم بعضهم قد يكره، لكن هل الكراهية تقتضي التحريم؟ مداخلة: هل إعفاء اللحية وعدم حلقها عادة؟ الشيخ: هذه ليست عادة.
وكونها من سنن الفطرة مما يدل على وجوبها، إذاً: سنن الفطرة دالة على الوجوب لوحدها، فإذا كانت الفطرة هذه لا تتغير من نبي إلى نبي، بل يفطر كل العباد عليها، فمتى كانت عادة إذا كانت من سنن الفطرة أصلاً كالاختتان وغيره؟! فإذا كانت هي من سنن الفطرة، والأصل في سنن الفطرة الوجوب وليس الإباحة، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام فحض على إحيائها بأحاديث متكاثرة؛ إذاً: الأصل فيها أنها عبادة، نسأل الله أن يغفر لنا وللشيخ.(120/14)
الوضوء لقراءة القرآن
السؤال
ما حكم الوضوء لقراءة القرآن؟
الجواب
أكثر العلماء على استحبابه، إلا إذا كان الإنسان يحفظ أو يدرس أو نحو ذلك، فمن العلماء من رخص بالترك للمشقة، والشوكاني وغيره من العلماء قالوا بإباحة قراءة المصحف على غير وضوء، معتمدين على أن الضمير في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79] يعود على أقرب متعلق وهو الكتاب المكنون، وليس على القرآن الكريم، أي: لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون، فيقول الشوكاني: ليس هناك دليل أصلاً على منع قراءة المصحف بدون وضوء، وحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) قال: إن لفظ (طاهر) لفظ مشترك، وحقيقة اللفظ المشترك أنه لا يصل إلى معنى من معانيه إلا بدليل مستقل، فيطلق على المسلم، ويطلق على الماء الطاهر، ويطلق على الماء المطهر إلخ، ثم قال: إنَّ جعْل المقصود به هنا الطهارة من الحدث لابد له من دليل آخر حتى يعين هذا المعنى الذي أراده، وله كلام معروف.
مداخلة: فلو أن شخصاً تبنى قول الجمهور؟ الشيخ: إذا تبنيت قول الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات: عليك بسنن الجمهور في الخلاف، إلا أن يكون لديك بحث خاص وأقمت الحجج على أن هذا هو الصواب، وأنت خالفت الجمهور فلك ذلك إن كنت أهلاً له هذا من حيث الإجمال.
مداخلة: إذاً: فنبقى على قول الجمهور حتى يبحث أحدنا بدقة في المسألة؟ الشيخ: كما قلت، وكما تكلمنا الآن وقلنا: عليك بسنن الجمهور.(120/15)
الصلاة جماعة خارج المسجد
السؤال
ما حكم الجماعة في غير المسجد؟
الجواب
جماعة؛ لأنه لا يشترط أن تكون الجماعة في المسجد.
ولا يأثمون؛ لأن المقصود إقامة الجماعة، في أي مكان، وليس المسجد شرطاً لإقامة الجماعة، بمعنى: لا تقام الجماعة إلا في المسجد لا، المقصود إقامة الجماعة في أي مكان.(120/16)
معنى حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)
السؤال
ما معنى (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن سنة سيئة)؟
الجواب
( من سن سنة سيئة) مثلاً: في بلد من البلدان أراد رجل أن يسن سنة الجاهلية الأولى بالنسبة للسارق، فقال: الشريف إذا سرق سنتركه، والوضيع إذا سرق سنقطع يده، وأعاد هذه المسألة كرة أخرى في هذا البلد، ومات ومضى الناس على هذا الذي سنه.
والمقصود بالسن في قوله: (من سن سنة سيئة) (السنة) بالمعنى الاصطلاحي: ما ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا ما ينسب إلى الناس، ولذلك قال (من سن في الإسلام).
إذاً: كل رجل يأتي فيقطع يد الوضيع ويترك الشريف عليه إثم كل رجل يفعل ذلك من بعده، وكذلك لو جاء رجل -مثلاً- فوجد الناس يحلقون لحاهم، والنساء يمشين سافرات، فجاء فأحيا فيهم سنة اللحية، وأحيا فيهم سنة النقاب، فهذا ينسب النقاب إليه وينسب اللحية إليه، وإن لم يكن جاء بذلك من عنده؛ لأنه هو الذي أحياها فنسبت إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس تقتل إلا وكان على ابن آدم الأول كفل منها) لأنه أول من سن القتل.(120/17)
حكم الكلام أثناء قضاء الحاجة
السؤال
ما حكم الكلام أثناء قضاء الحاجة؟!
الجواب
يجوز الكلام أثناء قضاء الحاجة، وعادة الإنسان أنه لا يتكلم إلا إذا كان محتاجاً، ولا يوجد شخص بكامل قواه العقلية يدخل الخلاء ولا يحلو له الكلام إلا وهو يقضي الحاجة.
مداخلة: ألا يدخل في ذلك النهي عن الكلام على الغائط؟! الشيخ: ربما؛ لأن كلمة (على الغائط) إما أن تكون في وقت قضاء الحاجة، وإما إذا انتهى المرء من قضاء الحاجة ووقف، فهذا أحد المعنيين، لكن يحمل على ذلك بقرائن أخرى لا شك.
وهنا مسألة: التسمية للوضوء داخل الخلاء إذا سمى الله تبارك وتعالى في قلبه فقد تم المراد، يعني: ليس ضرورياً أن يجهر بها، ويرفع صوته.(120/18)
حكم صيام يوم السبت
السؤال
هل صحيح أنه لا يجوز صيام يوم السبت إلا أن يكون فرضاً؟!
الجواب
هذا صحيح؛ لأن الحديث صحيح، والذي يتبنى صحة الحديث لا يسعه إلا أن يقول بما قال الشيخ في مسألة صيام السبت، والذين يرون عدم النهي عن صيام السبت يضعفون الحديث أصلاً، لكن لو قلنا للذين لا يقولون بتحريم صيام السبت إلا في الفرض: هبوا أن الحديث صحيح من باب الجدل؛ لا يدعه إلا أن يفتي بالفتوى: أنه لا يجوز صيام السبت، لكنهم أصلاً يقولون بجواز صيام السبت؛ لأن الحديث ضعيف لديهم.
مداخلة: هل هذا على سبيل إفراد السبت؟! الشيخ: لا يوجد لفظ: (إفراد) في الحديث، بل الحديث يقول: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم).
مداخلة: وهل هذا مثل إفراد الجمعة؟ الشيخ: لا، الجمعة فيها نص (نهى عن إفراد الجمعة).
مداخلة: ألا يعارض حديث النهي عن صيام السبت حديث آخر؟! الجواب: لا تعارض؛ لأن حديث النهي مقدم عند التعارض، إذ لو كان عندنا حديثان: حديث يمنع وحديث يبيح، ولم نستطع الجمع يقدم دليل المنع؛ لأن الأصل في العبادات المنع، ومتى كان الجمع ممكناً فذاك، ولو كان الحديث هكذا: (لا تصوموا يوم السبت) كان ممكناً أن نقول: لا تصوموا يوم السبت إلا أن يكون يوماً قبله، أو يوماً بعده، لكن لا يوجد أي وجه للجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث الأخرى التي تبيح صيام السبت؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فصارت المسألة واضحة جداً؛ لأن لفظ الحديث يساوي: (لا تصوموا يوم العيد).
فصارت المسألة واضحة جداً, لأن: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) مثله أيضاً: (لا تصوموا يوم العيد) , والعيد لا يصام عند المسلمين.
مداخلة: هل يمكن الجمع بين الحديثين؟ الشيخ: لا تستطيع أن تجمع أصلاً, يعني: كيف تجمع بين قوله: (لا تصوموا يوم العيد) وبين استحباب صيام الإثنين أو الخميس, إذا جاء العيد يوم الإثنين أو يوم الخميس هل يشرع للإنسان أن يصوم يوم العيد؟ لا يشرع له أن يصوم.
إذاً فقوله: (إلا فيما افترض عليكم) قيد صوم السبت بالفريضة, فالترجيح إذا تعارض الحديث المانع مع الحديث المبيح الآذن فإن المنع يقدم, لأن الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل بالإباحة.
مداخلة: هل يصوم الحاج يوم عرفة إذا كان يوم إثنين أو خميس؟ الشيخ: يترك صيام عرفة, لأن يوم عرفة ليس فرضاً بل هو مستحب, ولذلك لا يصوم الحاج يوم عرفة.
مداخلة: هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين صوم السبت والأحد؟ الشيخ: هذا صحيح, ولكن كل هذا حكمه حكم الصورة الأولى, كان أكثر صيامه عليه الصلاة والسلام السبت والأحد, ومن الممكن أن نقول: إن هذا كان في الأول, ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا يوم السبت).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(120/19)
لماذا لا نحب الله؟!
إن العبد قد يحب مخلوقاً فيتعلق به، ويصير ذكره على لسانه، فإذا به يدمن ذكر المخلوق وينسى الخالق الكبير! ألا وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك أمرنا الله عز وجل بذكره والتعلق به في أحلك الظروف عند اشتداد الكروب وتتابع المحن، وأمرنا كذلك بذكره عند طول الغربة، فالإنسان عندما يفارق الأهل والأوطان ويغيب عنهم طويلاً يستوحش فيصير ذكرهم على لسانه، وبالمقابل فهو لا يشعر بالوحشة إذا غفل عن ذكر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(121/1)
توطيد دعائم الدين في بناء المساجد والحب في الله
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد أخبر العارفون بالإسلام من الكلام عن أدواء المسلمين، والبحث عن العلاج لها.
وفي ظني أن أمراض المسلمين لا تخرج عن شيئين، ومن تدبر صنيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة لاح له هذا الأمر، فمِن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة فعل شيئين: الشيء الأول: أنه بنى المسجد.
الشيء الثاني: أنه آخى بين المهاجرين والأنصار.
لا تستقيم الدنيا -فضلاً عن الآخرة- للناس إلا بهما؛ بنى المسجد لتوطيد العلاقة بين الناس وربهم، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار لتوطيد العلاقة بينهم.
فالعلاقة تكون بين العبد وربه أولاً.
ثم بين العبد وأخيه.
جاء في صحيحي البخاري ومسلم: من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عمرو بن عوف، فمكث فيهم أربع عشرة ليلة، ثم نادى بالأنصار، فجاء بنو النجار مدججين بالسلاح، فأتى حتى وصل إلى فناء دار أبي أيوب الأنصاري -وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حيث أدركته الصلاة- فنظر فرأى حائطاً لبعض بني النجار، فقال: يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا -أي: أعطوني هذا الحائط بالثمن لنبني المسجد عليه-، فقالوا: والله لا نأخذ عنه ثمناً ولا نطلبه إلا إلى الله عز وجل، وكان في هذا الحائط نخل، فأُمِر به فقُطِع، وكان فيه خرب فسويت، وقبور للمشركين فنبشت، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قَبْل أصحابه يحمل اللَّبِن، وهو يبني المسجد ويرتجز: اللهم لا عيش إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان الصحابة رضي الله عنهم يحملون اللَّبِن، حتى إن عمار بن ياسر إذ ذاك مريضاً، وكان ناقهاً: -أي: في فترة النقاهة بعد مرضه- فكان يحمل لَبِنَتين لَبِنَتين، والناس يحملون لَبِنةً لَبِنة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن ظهره، ويقول: يا ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية).
وكان هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
فتمتين العلاقة بالله عز وجل هي الأصل.
وتمتين العلاقة بين الناس بعضهِم ببعض فرعٌ على هذا الأصل.
فإذا اتقى المرء ربه، لم يظلم أخاه.
إذاً: الأصل هو تمتين علاقتك بالله، وهذا هو الذي ندندن عليه، لو استقام العود لاعتدل الظل، وكيف يعتدل ظل والعود أعوج؟! وجرب أن تعبد ربك بالحب، فلو عبدته بالحب لرأيت فرقاً عظيماً جداً بين أدائك للعبادة به، وبين أدائك للعبادة بدونه.(121/2)
كثرة نعم الله علينا وضعف محبتنا له
لماذا لا نحب الله؟! هذا سؤالٌ مر! لكنه واقع ما له من دافع! لماذا لا نحب الله عز وجل وقد تحبب إلينا بسائر نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]؟! وإنما قال: نعمة على الإفراد ولم يقل: نِعَم؛ لأنه إذا جاز لي أن أعجز عن عد نعمةٍ واحدة، فلأن أعجز عن عد نعمه من باب أولى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم:34].
وربنا عز وجل يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] أي: لا يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه، لا يرد الصنيعة إلا لئيم، وكثير من العباد لئام، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أقل الناس هو الذي يشكر، والاعتراف بالنعمة أول بوابة الحب.
ولذلك لما شمخ إبليس لعنه الله بأنفه، وحاج ربه تبارك وتعالى، وأقسم أنه سيقف على الطريق لعباده يصدهم عن الله عز وجل قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] أكثرُ شيء مُرُّ: أن تُسْدِي الصنيعةَ ثم تتهم بأنك أسأت، البريء المظلوم: هو أشد الناس تجرعاً للمرارة.
فلو نظرت إلى موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، لعلمت مدى المرارة التي تجرعتها العفيفة، الغافلة المؤمنة، لما اتهمت في عرضها بالزنا.
ومع ذلك فيا لَحِلْمَ الله! ما أحلمه على عباده! كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أحدٌ أصبر على أذى يسمعه من الله! إنهم ليدَّعون أن له ولداً، وأنه لا يحيي الموتى ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم، ولو أن العبد ملأ طباق الأرض ذنوباً ثم تاب مسح ذنبه واجتباه، وجعله من أوليائه، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى).
فأكثر شيء وأثقل على النفس: رد الجميل، ولذلك قال إبليس: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
فلماذا لا نحب الله عز وجل، وهو الذي يتحبب بالنعم؟! من أهم العلامات في محبة الله تبارك وتعالى أنك تؤثر عليه ولا يضرك لوم اللائمين، بل تستعذب الأمر كلما ضيقوا عليك، هذه هي الثمرة العظيمة من المحبة في حال إقبالك عليه تبارك وتعالى، إقبال قلبك فإن الإقبال لا يكون إلا بالقلب، ثم تنفعل الجوارح بالقلب، ففي حال إقبالك على الله تبارك وتعالى تشعر بذاك السمو، كما حدث بذلك الأنصاري، كما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسندٍ قوي: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، فدخل الصحابةُ دار رجلٍ من المشركين، فأصابوا امرأته -أي: أسروها- فلما جاء المشرك وعلم بالأمر أقسم أن يريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دماً، ثم قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً، وهم في بعض الطريق عرسوا -أي: ضربوا بخيامهم وباتوا- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن رجلان يكلآنا في نومنا؟ فقام رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، فقالا: إنا نكلؤك يا رسول الله! فنام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وانتصب هذان، فقال الأنصاري للمهاجري: تكفيني أول الليل أم آخره؟ قال: بل أكفيك آخره، فنام المهاجري ووقف الأنصاري وصف قدميه لله عز وجل ودخل في الصلاة، فجاء الرجل المشرك يبحث عن المسلمين -لأنه أقسم أن يريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دماً- فرأى هذا واقفاً، فعَلِم أنه طليعة المسلمين، وأنه هو الذي يحرسهم، فجاء بسهم وضربه، فلم يتحرك، فذهب المشرك وانتزع السهم منه، ثم عاود فضربه وهو لا يتحرك، فعاود المشرك فانتزع السهم منه، ثم جاء الثالثة فضربه، والمسلم لا يتحرك -الأنصاري- ثم ركع، ففر المشرك، وإذا بالأنصاري يموت دماً، فأيقظ المهاجري فلما رآه كذلك فزع، وقال: ما هذا؟ فأخبره بالأمر، فقال له: رحمك الله فهلا أيقظتني؟ قال: والله لولا أنني على ثغرٍ من ثغور المسلمين ما قطعت صلاتي حتى أتم قرآتي ولو تقطعت نفسي).
فأين إحساس هذا الإنسان؟! ثلاث مرات يُضْرَب بالسهم ويُنْزَع السهم منه، ومع ذلك لا يتحرك، هذا هو الإقبال على الله تبارك وتعالى.
إن آباءنا ما ربونا على محبة الله عز وجل، ولا على تعظيم حرمات الله عز وجل؛ لأنهم عاشوا في أيام الاشتراكية ومسخ الهوية الإسلامية، وشربوا كل الهزائم، فورثوا هذا الضعف، آباؤنا يطلبون منا تحصين حياتنا، ويطلبون منا أن نكون في حالنا، ويطلبون منا أن نأكل عيشاً كالأنعام، هذه مطالب الآباء حتى الساعة.(121/3)
من مقتضيات الشهادتين(121/4)
من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله استشعار عظمة الله
من مقتضيات (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) أنه إذا وصلك الأمر من الله عز وجل أن تعتقد أنك ترى هذا الأمر، وإذا وصلك الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتقد أنه هو الذي يأمرك، وهذا معنى قولك: أشهد، أي: أرى بعيني: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد:9] الغيب ضد الشهادة، فعندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: كأنك تقول: أنا أشاهد الله، فإذا علمت أنك بنظر الله عز وجل لم يقف قلبك على مشهد العصيان أبداً، ولا تستطيع.
وجاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أوصني، قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك) فهل يستطيع رجلٌ مهما كان فاجراً جريئاً أن يأتي على أصلح الناس في قومه فيفجر أمامه؟! لا أظنه يجرؤ على ذلك، يقول: (أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك).
فإذا قلت: (أشهد أن لا إله إلا الله) كأنك تراه، وإذا قلت: (أشهد أن محمداً رسول الله) كأنك تراه وهو يأمرك.
وللأسف الشديد أن المشركين الأوائل كانوا يفقهون هذه الكلمة أكثر من بعض المنتسبين إلى العلم الآن من المسلمين، كان أبو جهل أفقه لمعنى (لا إله إلا الله) من هذا الذي ينسب إلى العلم ويقول: إن الطواف بالقبور ليس شركاً! لماذا قامت الحروب؟! ولماذا صَبَر العرب على حشد الغلاصم، وقطع الحلاقم، ونفذ الأراقم، ومتون الصوارم؟ لا إله إلا الله! يا أخي! قل: لا إله إلا الله وانته.
لماذا تقوم الحروب؟! لماذا تسبى النساء؟! لماذا نضحي بالأموال الكثيرة؟! كان يمكنهم أن يقولوها وينتهوا؛ لكنهم أبوا أن يقولوها، ورضوا أن يدخلوا في حروب متوالية ولا يقولوها، لأنهم كانوا يفهمون أن معنى لا إله إلا الله أن الحكم لله، وليس لأحدهم بعد ذلك أن يأخذ أو يتسلط بالبغي والعدوان.(121/5)
من لوازم شهادة أن محمداً رسول الله استشعاره بأنه الآمر
ومن لوازم (أشهد أن محمداً رسول الله) أن تتخيل النبي عليه الصلاة والسلام في كل أمرٍ يصلك على لسان رجلٍ ثقةٍ عالم إذا قال لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا تعتقد أنه هو الذي يأمرك، ورأيت مرة في مسجد خاتم ذهب في يد رجل، فقلت وأنا أتكلم: مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصحابة يوماً وهو آخذ الحرير في يدٍ والذهب في يدٍ، وقال: (هذان حرامٌ على ذكور أمتي، حل لإناثها) فإن كنت ذكراً فاخلع الذهب؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: (حرام على ذكور أمتي).
يا أخي! تخيل أنك صحابي، وأنك جالس الآن وأمامك النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى ذلك الذهب، فقال لك: اخلع الذهب؛ لأن هذا لا يحل لك، ما هو الرد؟ فسكتَ.
فقلت: لا.
أنا أريد أن أسمع الرد منكم جميعاً، الرسول عليه الصلاة والسلام واقف الآن ومعنا في هذا المسجد، ورأى بعض المسلمين يلبس الذهب، فقال: اخلع عنك الذهب، فقالوا جميعاً: نسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام ونخلع الذهب، وأنا أنتظر أن يخلع الرجل الذهب، فلم يخلع! هذا هو الفرق بين هذه الأجيال المتعاقبة وجيل الصحابة.(121/6)
كيف مكن للصحابة ولم يمكن لنا؟
الآن في باكستان عندما قالوا: إنهم أجروا ست تجارب نووية، خرج الناس يضربون بالرصاص في الشوارع فرحين، لا يصدقون أنفسهم، وبعض المسلمين انتشوا وشعروا بشيء من العز، رغم أن هذا لا قيمة له في الحقيقة، كل هذا ذر للرماد في العيون.
أمة ضعيفة مستضعفة، تعيش على هامش الدنيا.
قال لي أحد الإخوة: إن أهم خطر يواجهنا الآن هم اليهود، يجب أن نعلم أولادنا ورجالنا ونساءنا طبيعة اليهود.
فقلت لمحدثي: وما الفائدة؟! عرفناهم أنهم جبناء، كما قال الله عز وجل، وأنهم لا يحبون بعضهم، بأسهم بينهم شديد؛ لكن بعد كل هذا أنت تعرِّف مَنْ؟ تعرِّف رجالاً لم يحققوا عبودية الله في أنفسهم وأولادهم؟! ما هي الفائدة؟! إن حقيقة دائنا أننا لسنا عبيداً لله كما أمر الله، في بيوتنا كثيرٌ من المخالفات ليس للدولة فيها دخل، لماذا لا تزيل هذا التلفاز من بيتك؟! لماذا لا تحجب امرأتك؟! لماذا لا تحجب ابنتك؟! لماذا تصلي في البيت أنت وأولادك والأذان على رأسك؟! مخالفات كثيرة يجب على ولي الأمر ورب البيت أن يزيلها ومع ذلك لا يزيلها! هذا الذي ما نزع خاتم الذهب من يده رغم سماعه للكلام، في مقابله صحابي آخر روى قصته الإمام مسلم في صحيحه، أنه كان يلبس خاتم الذهب، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فنزع منه الخاتم، وقال: (أيعمد أحدكم على جمرةٍ من نارٍ فيضعها في يده، فلما هم الصحابي أن يقوم من مجلسه وقد ترك الخاتم على الأرض، قال له بعضُ الصحابة: خُذ خاتمك فانتفع به، فقال: ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) حتى لا ينتفع به، ولا يأخذه عنده، هذا هو الفرق.
فالعبادة تكون بالحب، وهذا الحب ثمرته الإقبال على الله، فرق كبيرٌ بين هذا وبين الذي يعبد الله عز وجل كالموظف الذي يذهب إلى الديوان ليوقع.
فالذي يحب الله تبارك وتعالى يستعذب اللوم فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
ويرحم الله أحد الشعراء المجيدين لما قال: وقف الهوى فيَّ حيث أنت فليس لي متأخرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ وأهنتني فأهنتُ نفسي جاهداً ما مَن يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إن كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذةً حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ وقال الآخر: يخط الشوقُ شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زور ويوهن لي طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنوري إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني مِن سرورك في سرور ويرحم الله أبا الطيب المتنبي حيث يقول أيضاً في هذا المعنى: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم طالما أن هذا يرضيك رب فزده؛ لأن المسارعة إلى مرضاة الله تبارك وتعالى من ثمرتها الصبر، كما قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83 - 84] كلما عجلتَ إلى الله عز وجل رضي عنك.(121/7)
من علامات حب الله الإكثار من ذكره
أيها الإخوة الكرام: هل يعجل ويمد الخطا إلى الله غافلٌ عن ذكره؟! إننا نرى في سير المحبين: أن الرجل إذا تعلق قلبه بحب آخر أكْثَرَ من ذكره، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نكثر من ذكره وهذا علامةُ الحب.
وسن لنا النبي صلى الله عليه وسلم الأذكار الموظفة في الصباح والمساء وما بينهما إقامةً لذكر الله، وإعلاناً لحبه، فأول مذكورٍ إذا فتحت عينيك هو الله، وآخر مذكورٍ إذا أغمضت جفنك هو الله، هكذا فليكن الحب! إذا فتح المرء عينيه أول شيءٍ يقرع لسانه هو ذكر الله عز وجل، شرع لنا الأذكار، إذا استيقظ المرء يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله -أول كلمة ينطق بها- والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أول ما تستيقظ ترفع راية العبودية أن المُلْك لله، وأنك عبد ليس لك ملك، كله عاريةٌ مستردة، فلماذا يستطيل على الخلق؟! وأعجب ما يكون أن يقطع رجلٌ رحم أخيه للمال! الذي يقطع رحم أخيه للمال فبِعه بيعاً رخيصاً بثمن بخس، ليس لأحدٍ ملكٌ على الحقيقة، إنما هو ملك اعتباري وله آثار مترتبةٌ في الدنيا، إذا سرقه أحد قُطعت يده؛ لكن إذا نظرنا بصورة أوسع وجدنا أنه ملك اعتباري بالنسبة لملك الله عز وجل.
فالإنسان إذا أصبح يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فهذا دليل على الافتقار، وأنه ليس بيده شيء، وأنه محتاج للذي بيده الملك، فأول شيء يعلنه: (الملك لله) مع فقرك إليه: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله).
إذا أصبح عليك الصباح، وفتحت عينك، وحركت لسانك، وذكرت ربك أنك أفضل من الذي حصل الدنيا جميعها، فكونك تذكر الله عز وجل، هذا شكرٌ يحتاج إلى حب، فإذا عجزت أن تؤدي شكر الحب فمتى تؤدي الشكر؟! (والحمد لله، ولا إله إلا الله).
وهذا أيضاً إعلامٌ منه أنه عبدٌ، وأن له إلهاً يعبده.
ثم في قوله: (الحمد لله) إشارةٌ دقيقة بعد ذكر الملك في (أصبحنا وأصبح الملك لله) والحمد لله أي: أن الملك له لا لغيره، لو كان الملك لغيره لشقينا {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100] بل يد الله ملأى، لا يغيضها شيء سحاء الليل والنهار.
قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم ما أنفق منذُ خلق السماوات والأرض) كم أنفق منذُ خلق السماوات والأرض؟! لو أرادت الدول كلها أن تعمل تكييفاً مركزياً للكون -حرارة في أيام الشتاء، وبرودة في أيام الصيف- فسيعجزون عن ذلك ولا يستطيعون، انظر إليه كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض! لما قرأتُ هذا الحديث خطر ببالي أن أقدر النفقة التي أنفقها ساكنو الشارع الذي أسكن فيه -وهو شارع طوله: خمسون متراً فقط- فحسبت بالآلة الحاسبة واعتقدت أن مسكني مقياس في البناء والتشطيب والديكورات، وهو مسكن متواضع جداً جداً بالنسبة للناس الذي يشتري أحدهم الشقة بسبعين مليون جنيه.
أحد أصدقائي له صديق سعودي عنده شقة من دورين في عمارة وهذا السعودي أراد أن يبيع هذه (الفيلا) الصغيرة، ووكل صديقي أن يبيعها، وأعلن إعلاناً في الصحف أن هناك (فيلا) للبيع، في ميدان لبنان، والمواصفات مع صاحب الإعلانات، يقول: كاد قلبي أن يقف عندما اتصل لي أحدهم وقال: بكم تبيع هذه (الفيلا)؟ قال: بمليون وسبعمائة ألف.
قال له: أكيد تشطيبها سيء.
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنه ثمن بخس، مليون وسبعمائة ألف! فخطر ببالي أن أعمل حساباً للشارع الذي نسكن فيه ثلاثين عمارة، في كل عمارة خمسة أدوار، كل دور يكلف كذا، والتشطيب كذا.
ثم خطر ببالي أن آخذ الشارع الذي بجانبي، والشارع الذي بجانبي، فإذا بي أجد خلال ثلاثة أو أربعة شوارع فقط أن النتيجة معي: ستين مليون جنيه، فوزع تلك النتيجة على المدينة كلها، ثم وزعها على الجمهورية كلها، ثم وزعها على العالم، وانظر هذا العالم كله الذي هو مبني على الأرض كم نتيجته؟ ثم تدبر قوله صلى الله عليه وسلم فانظر كم أنفق منذُ خلق السماوات والأرض؟! لتعلم غناه، ومع ذلك وحتى تقوم الساعة يقول الله عز وجل: (لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم قاموا في صعيدٍ واحد فسأل كل واحدٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أخذتَ إبرة وأدخلتها في البحر المحيط، فانظر كم أخذَتْ هذه الإبرة من البحر، فهذا الذي ينقص مما عند الله تبارك وتعالى، فالحمد لله أن الملك له، تبارك وتعالى: (يدُه ملأى لا يغيضها شيء سحاء الليل ولا النهار).
أولاً: تقول: الحمد لله بعد ذكر الملك، أي: الحمد لله أن الملك له.
ثانياً: أن الله عز وجل {وَلَو يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11].
وتدبر يا أخي الكريم إذا وقعت في مظلمة فإنك تتمنى تَلَفَ ظالمك وتتمنى له الشر، ومن غيض قلبك تتمنى لو أنه أمامك وأنه عُرِّض لأفتك الأمراض، وأنه ذليل وأنك تتشفى فيه.
الله عز وجل ليس كعباده، يملأ الإنسانُ الأرضَ ظلماً وبغياً وعدواناً ويستجيب الله له ويتوب عليه، ويجعله من أفضل أوليائه، وهذا هو الفرق بين صفات الله وصفات عباده، صفات الله عز وجل كلها حسنى.
فالحمد لله أن الملك له، هذا أول ذكرٍ تذكره أيها الأخ الكريم عندما تفتح عينك في الصباح، فكم عدد المسلمين الذين يفتتحون يومَهم بغير الذكر؟! إذا علمت أن عددهم أقل من القليل، علمت أن أكثر أهل الأرض أدعياء للمحبة، ولا يحب أحدٌ أحداً إلا أكثر من ذكره، كما ذكر سفيان الثوري على رابعة العدوية، فذكر شيئاً من الدنيا، فقالت: يا سفيان من أحب شيئاً أكثر من ذكره! فقال لها: صدقتِ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(121/8)
جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام: جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام في النصوص، قرآناً وسنةً.
فإذا أرسل المرء طرفه في حياة هؤلاء يتعجب منهم، أنهم يؤدون العبادة بكل الحب، ومن أراد أن يقلدهم عجز وتعب، قال لي قائلٌ يوماً: كلما قرأتُ سير العلماء أو سير الصحابة، فأردت أن أجتهد كاجتهادهم عجزتُ، فما هو السبب؟ قلت له: السبب أن الأمر يمر بمراحل، فالأمر على ثلاثة أقسام: - أمر وجوب.
- أمر استحباب.
- أمر إباحة.
والنهي على قمسين: - نهي تحريم.
- نهي كراهية.
فإذا أمرت بأمر فهو أحد هؤلاء الثلاثة، ولا أتصور أنك تفعل الأمر المستحب وأنت مقصر في الواجب؛ لذلك فإن من درب نفسه على الواجب سهُل عليه فعل المستحب؛ لأن باب المستحب واسع جداً، لا يأتي على فعل كل المستحبات إلا نبي.
لكن الواجب يستطيع كل مكلفٍ أن يفعله، لماذا؟ لأنه مأمورٌ به على سبيل الحث والإلزام، ويؤاخذ إذا قصَّر فيه، وإذا علمنا أن من أصول الشريعة أن الله رفع الحرج عن الناس، فلا يُتَصَوَّر أن يأمرهم أمر إيجابٍ يعجزون عن فعله.
إذاً: كل أمرٍ دل على الوجوب فبإمكان المكلف أن يفعله، فإذا عجز عن فعله عجزاً حقيقياً سقط الواجب عنه وصار معذوراً عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنْب).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).
إذاً: الواجب كله بإمكان العبد أن يفعله.
أما المستحب: فلا يستطيع الإحاطة بالمستحب كله إلا نبي.
ولذلك جُعل الاستحباب علامة الالتزام.(121/9)
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب
قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ في شيء أنا فاعله كترددي بقبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته).
إذاً: هناك حبان: 1 - حبٌ يأتي بعد الفريضة.
2 - حبٌ يأتي بعد المستحب.
قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذا هو الحب الأول (ولا يزال) تأمل هذا الفعل الأول: فَعَل ما افترضه الله فأحبه الله، ثم لا يزال، أي: باستمرار (يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وهي حرفٌ لانتهاء الغاية، تقول: أكلتُ حتى شبعت، مشيتُ حتى تعبت، فكلمة (حتى) حرف لانتهاء الغاية، ولم يذكر هذا اللفظ إلا في النوافل (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه) لكن هذا يدل على أن شوط المحبة لم ينته بعد، هو أحرز المحبة لكنه ما أنهى الشوط (ولا يزال يتقرب حتى) إذاً: لا يصل إلى آخر شوط المحبة حتى يتقرب إليه بالنوافل، فإذا وصل إلى آخر شوط المحبة، استحق الثمرة: (كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، إلى آخر الحديث.
ونحن نقيس التزام الإنسان عادةً بالنوافل، فهل تتخيل أن رجلاً يصوم يوم الإثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر أو يوماً دون يوم فيأتي عليه رمضان فيفطر؟! أنا أعلم يقيناً أنه لا يفطر رمضان لما أراه يصوم الإثنين والخميس؛ لكن يمكنه أن يصوم رمضان ويقصر في النوافل، هل رأيتم رجلاً قام الليل وضيع الفريضة؟ لكن يمكن أن يصلي الفريضة ويضيع قيام الليل.
إذاً: أي العلامتين أدل على التزام هذا الإنسان؟ متابعة النوافل لا الفرائض.
فأنت يا من تسأل! لماذا تعجز إذا أردت أن تقلد الصحابة؟ لو نظرت في نفسك لوجدت أنك قصرت في كثير من الواجبات، فأنى لك إحراز المستحبات؟ لا تستطيع الصبر على المستحب إلا إذا أديت الواجب كما أُمِرت، وكان الصحابة كذلك، فعلوا الواجب؛ لأنهم كانوا يحبون الله.(121/10)
الصحابة يتسابقون على الموت
يا أخي الكريم! أمرنا الله عز وجل بشيء فيه لمسةٌ جميلة، رأيتها واضحةً جليةً في حياة الصحابة، أنهم كانوا يذكرون الله عز وجل في أحلك الظروف.
والإنسان إذا وقع في شر يفقد عقله، ولا يستحضر في هذا المجال إلا من يؤمِّن نصره، ومن يحب، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
وأنت مقبل على عدوك وخائف نتيجة الحرب، اذكر الله عز وجل يثبت قلبك: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] وكان ذكرُ المحبوب في وقت الخوف من علامة الحب عند بني آدم انظر إلى عنترة بن شداد يقول: ولقد ذكرتكِ والرماح كأنها أشطان بئر في لَبان الأدهمِ فوددت تقبيل السيوف لأنها برقت كبارق ثغرك المتبسمِ هذا فائق جداً! الرجل في الحرب والكر والفر، وينظر إلى الرقاب وهي تطير.
الحرب قائمة على قدم وساق، يقول: إن الرماح كأنها أشطان بئر، أنت عارف عندما يكون ثَمَّ بئر ويريد الإنسان أن يستسقي الماء من البئر فيرسل الدلو بحبل، فالرمح عندما يدخل في صدر الفرس مثل هذا الدلو عندما ينزل البئر.
في لَبان الأدهم: أي في صدر الأدهم وهو الجواد الذي يركبه.
فـ (وددت تقبيل السيوف): من كثرة حبه لـ عبلة، فإن السيوف ذكَّرته بها وهي تلمع فأحب أن يصل إلى السيوف ويقبلها، ويرى أن هذا من علامة الفخار، أن يذكر محبوبه في مثل هذا الوقت! والله عز وجل أمرنا أن نذكره في وقت الخوف، فتن ظاهرة جداً، ومن قرأ غزوات المسلمين وجد هذا واضحاً جلياً، كانوا يتسابقون على الموت.
أنس بن النضر قَلَّ مَن يعرفه إلا الدارسون، وهو عم أنس بن مالك: في ليلة أحد وجد أنه سيموت في أول من يموت، ثم لما اشتدت الحرب وصرخ الشيطان: مات محمد، وانقسم المسلمون وجلس بعضهم يبكي فمر أنس بن النضر على جماعةٍ من المسلمين قد ألقَوا أسلحتهم وجلسوا يبكون قال: ما يبكيكم؟ قالوا: مات النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وقاتل حتى قُتِل.
وهذا عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله في صبيحة أحد قال لابنه جابر: يا بني! إني أراني سأقتل في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوص بأخواتك خيراً، وكان مِن أول مَن قُتِل.
وعبد الله بن جحش كان يقول: اللهم لقني عدواً عظيماً حرثُه -سلطان- عظيماً كيده، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني: فيم قتلت يا عبد الله؟ أقول: فيك يا رب.
وهذا عمرو بن الجموح كان شديد العرج، وكان له ستة أولاد كلهم من الفرسان يقاتلون في سبيل الله، فأراد في غزوة أحد أن يخرج فيقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أولاده: يا أبانا! إنك ممن عَذَر الله عز وجل؛ فبكى وقال: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، وشكاهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: دعوه لعل الله أن يرزقه شهادة، وماذا يفعل أعرجٌ في حرب فيها كر وفر؟ فقُتل أيضاً مع الذين قتلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يطأ بعرجته في الجنة وما بها من عوج).
فعندما تنظر إلى هؤلاء الصحابة الذين كانوا يتسابقون على الموت: أفتظن هؤلاء ينافس بعضُهم بعضاً على حُطام الدنيا؟ أبداً! فقضية العبادة بالحب كانت موجودة جداً عند الصحابة؛ لأنهم حافظوا على الفرائض التي هي على سبيل الوجوب، فهان عليهم المستحب، كالصبر على المظالم مثلاً: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنت كذلك فكأنما تسفهم المل -الذي هو الرماد الحار- ولا يزال معك عليهم من الله ظهير ما دمت على ذلك).
فأي الناس يصبر على مثل هذا الذي قاله هذا الصحابي؟ قليل.
فالمستحب دائرته واسعة جداً جداً، لا يحيط بها إلا نبي.
فهذه هي الأوامر، فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يراعون مثل هذا، فكان عندهم ذوق عالٍ جداً.
انظر ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عن أكل الغراب، فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، قال: (مَن يأكل الغراب وقد سماهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟!) فمجرد أن يسميه فاسقاً لا يؤكل.
انظر! يستدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، لو كان في الغراب خير ما سماه فاسقاً؛ فيستدل بالتسمية على تحريمه، وهذه حجةٌ عجيبة تدلك على ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الفطنة العالية.
وكذلك مثله ما رواه الطبراني في الأوسط بسندٍ فيه لين، أن عبد الله بن عمر وابنه سالم بن عبد الله، كانا عند الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فقال الحجاج لـ سالم: خذ هذا الرجل وخذ معك سيفاً فاضرب عنقه على الباب.
فأخذه سالم وأخذ السيف معه وانطلق به من الباب، فقال له سالم: أصليت الصبح؟ قال: نعم.
فقال له سالم: خذ أي طريق شئت.
ثم رجع والسيف في يده.
فقال له الحجاج: أقتلت الرجل؟ قال له: لا.
قال له: لِمَ؟ قال: لأن أبي هذا -وأشار إلى أبيه عبد الله بن عمر - حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن صلى الصبح فهو في ذمة الله).
شخص في ذمة الله كيف أقتله وأجور على حمى الملك، أأقتل مَن هو في ذمة الملك؟! فأطرق الحجاج وسكت.
فقال عبد الله بن عمر لابنه: إنك مسالم، إنما سميتك سالماً لتسلم! فكان له من تسمية أبيه نصيب.
هذه أشياء تعد في غاية البساطة بالنسبة لمواقفهم الكبيرة، وإنما تلقوا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بآذانٍ مفتوحة، وبقلوب مفعمة بالإيمان، وهذا سمت المحب، لا أن يسمع وهو متضايق كاره، فيذهب عليه نصف الكلام، أو ثلث الكلام أو ربع الكلام أو كل الكلام، إنما كانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيرمقونه، تكون أعينهم مثل (الكاميرا) المسجلة، ما يفعل هذا إلا محب.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(121/11)
أبو سفيان وهرقل [1، 2]
ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه قصة أبي سفيان مع هرقل، والتي ألقى فيها هرقل على أبي سفيان عدداً من الأسئلة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أسئلة دقيقة ومختصرة، وبعد أن أكمل أسئلته بدأ يطابق إجابات أبي سفيان بما عنده من علم بصفات الأنبياء، فوجدها تنطق بنبوة محمد ورسالته.(122/1)
قصة أبي سفيان مع هرقل
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فدرسنا في هذا المساء حديث من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، واخترت هذا الحديث؛ لأن الإمام البخاري في تبويبه لمعاني الأحاديث عادةً ما يسلك كثيراً سبيل الإشارة؛ حتى يمرن ذهن القارئ ويعلمه استنباط الأحكام أو المعاني من الأحاديث.
هذا الحديث حديث جليل، وهو آخر حديث في أول كتاب في صحيح البخاري، وقد قسم البخاري رحمه الله صحيحه إلى كتب؛ كتاب بدء الوحي، كتاب الإيمان، كتاب العلم، كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة إلى آخره.
فأول كتاب بدأ به الإمام البخاري رحمه الله صحيحه: كتاب بدء الوحي، فذكر في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، أول حديث هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) الحديث وآخر حديث هو الذي سنشرحه في هذا المساء.
قلت: إن هذا الحديث طويل، ويشتمل على كثير من المعاني، ولكننا لا نستطيع أن نأتي على كل المعاني التي يزخر بها هذا الحديث، لكن سنقف على أهم هذه المعاني وأوضحها.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب وهو: ابن أبي حمزة، ومن الرواة عن الزهري، وأكثر من الرواية عنه، وهو إمام ثقة- عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره: (أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء -مدينة- فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: ادنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره.
ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، قال -يعني أبو سفيان -: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، -قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة- قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.
وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:64].
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر.
فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينما هم على أمرهم أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت.
ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل).(122/2)
الاختلاف في إسلام هرقل
هل هرقل مسلم أم كافر؟ نحن لا نعلم هل كل كلامه عن الرسول صلى الله عليه وسلم كلام مصدق، وهو يقول: لو كنت عنده لغسلت عن قدمه، واستدعائه البطارقة والعلماء والأساقفة وقوله لهم: ألا تريدون أن يثبت الله ملككم فتؤمنوا بهذا النبي؟ يعني كل كلام هرقل يدل على أنه مؤمن، لكن لما رأى نفرتهم، ويئس من أن يؤمنوا قال: ردوهم علي، وقال: إنما قلت مقالتي لأختبر شدتكم على دينكم، فقد رأيت أنكم أشداء على دينكم، فرضوا عنه وسجدوا له، فكان ذلك آخر أمر هرقل.
ووردت بعض الروايات الضعيفة والتي جاء فيها أن هرقل كان كافراً، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كفره، والتي تخالف قول ابن عباس أو قول الراوي: (فكان ذلك آخر أمر هرقل) فنقول: إن كان الرجل آمن وأراد الاحتفاظ بملكه فله -يعني أمره إلى الله عز وجل- ولا نقطع فيه بكفر ولا إيمان إلا بدليل واضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات).
الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل الكتب إلى الآفاق، عامل كل ملك أرسل إليه الكتاب بجنس احترامه أو إهانته لكتاب النبي عليه الصلاة والسلام.
فهرقل لما عظم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وعظم الخطاب حفظ الله له ملكه، وكسرى لما مزق الخطاب دعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام فمزق الله ملكه وقتله ابنه.(122/3)
حكم رواية الكافر بعد إسلامه
كان أبو سفيان رئس في قريش رغم أنه لم يكن مؤهلاً لهذه الرئاسة، لكنه رئس بسبب ذهاب أكابر قريش بموقعة بدر، فقد قتلوا جميعاً، وقد رئس مبكراً.
فـ أبو سفيان هو من قص هذه القصة التي حدثت له وهو كافر، وهنا قاعدة حديثية وهي: الكافر إذا أسلم فحدثنا بعد إسلامه بشيء فعله أو شاهده قبل أن يسلم -أي: وهو كافر- هل يقبل منه أم لا؟ قال العلماء: العبرة في حال الأداء، أن يكون مسلماً، ليس هناك مانع أن يسمع الحديث وهو كافر، لكن لو قص علينا القصة وهو كافر نردها عليه؛ لأننا لا نأمن أن يزيد أو ينقص أو يحرف.
لكن بعد أن دخل في الإسلام وعلم أن الكذب على الله ورسوله من أعظم الجنايات، وثبتت عدالته عندنا يقتضي أن نقبل خبره حتى وإن كان هذا الخبر حدث أيام ما كان كافراً.
ومن الأمثلة على ذلك: قول جبير بن مطعم رضي الله عنه: (دخلت المدينة فوافيتها -قبل أن يسلم- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب بسورة الطور) فالإمام البخاري روى هذا الحديث في صحيحه وقال: باب القراءة في المغرب.
رغم أن جبير بن مطعم لما سمع الحديث كان كافراً، لكن العبرة في وقت الأداء -أي: وقت ذكر الحديث- أن يكون العبد مسلماً أدى أحد فرائض العدالة.
فـ أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه يحكي القصة التي حصلت له أيام ما كان كافراً؛ لأن القصة هذه حدثت -كما قال أبو سفيان - في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش في صلح الحديبية والذي كان سنة (6) هجرية.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتفق مع قريش أن يضع الحرب عشر سنوات، لكن كفار قريش نقضوا هذه المدة، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (8) وفتح مكة كما هو معروف.(122/4)
بداية الحوار بين أبي سفيان وهرقل
قال أبو سفيان: (إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام) كانت قريش قد عضها الفقر بنابه، وكان عندهم شيء شبيه بالمجاعة، حتى قال أبو سفيان كما في بعض الروايات الأخرى: (فما بقي من رجل أو امرأة في قريش إلا أعطاني شيئاً أبيعه) بسبب أن الحرب حصبت قريشاً؛ لأنهم ظلوا يقاتلون النبي عليه الصلاة والسلام مدة طويلة.
فلما علم هرقل أنهم في الشام أرسل في طلبهم، وفي بعض الروايات أن أبا سفيان قال: فبينما أنا مع رفقائي إذ جاء جنود هرقل فساقونا إليه.
فدعاهم في مجلسه ثم قال لترجمانه: قل لهم: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ هرقل رجل ذكي جداً، وقد قال عنه أبو سفيان: ما رأيت أدهى من هذا الأقلف.
الذي هو هرقل.
الأقلف: غير المختتن، وعدم الاختتان كان -بالذات في النساء- يترتب عليه فواحش كثيرة، وقد كانت العرب تعير الرجل فتقول له: يا بن القلساء.
والقلساء: التي لم تختتن.
والعوام يسمون الاختتان: طهارة؛ لأن المرأة إذا لم تختتن فإنها تكون كثيرة الحنين إلى الرجال، ولذلك تجد الفواحش تقع في أوروبا بسبب عدم الاختتان، والذين ينادون بعدم الاختتان فإنهم يعتدون على أنوثة المرأة؛ لأنهم يريدون أن تكثر الفواحش عندنا مثل ما كثرت الفواحش في بلاد الغرب بسبب عدم الاختتان.
وقد اختلف العلماء في كتب الفقه فقالوا: هل تجوز إمامة الأقلف أم لا، بل هل تجوز صلاته أم لا؟ لأنه يكون به بول مستمر.(122/5)
بيان ذكاء هرقل في طرح الأسئلة
فهرقل هذا داهية، دلنا على ذلك تصرفه، ونوعية الأسئلة التي سألها لـ أبي سفيان، وسوف نتعلم من أسئلة هرقل عدة دروس: الدرس الأول: قال: أيكم أقرب نسباً من هذا الذي يزعم أنه نبي؟ نستفيد من هذا السؤال شيئين: الشيء الأول: لماذا طلب أقرب النسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لأن الرجل إذا كان يربطه نسب بالنبي عليه الصلاة والسلام فإنه لن يكذب عليه، لاسيما إذا كان النسب شريفاً، بخلاف لو لم يكن من أقاربه؛ لأن الغريب يطعن في النسب، ومسألة الطعن في الأنساب كانت منتشرة في الجاهلية، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام الطعن في الأنساب من خصال الجاهلية، بل جعلها من خصال الكفر، فقال: (صنفان في أمتي هما بهما كفر: النياحة، والطعن في الأنساب)، والعرب كانوا يعظمون الأنساب غاية التعظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام دندن كثيراً على أن النسب لا ينفع عند الله، فقال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وقال: (يا فاطمة! اعملي فإني لا أملك لكِ من الله شيئاً).
ثانياً: قوله: هذا الذي يزعم.
نحن نعلم أن كلمة (زعم) أغلب ما تستخدم في الكذب؛ قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، و {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بئس مطية الرجل (زعموا)) لأن زعموا تدل على أنك لست متأكداً من كلامك، والأخبار يدخلها الصدق والكذب، طالما أنه لا يوجد تأكد من الكلام إذاً (زعم) مطية للكذب، فأكثر ما تستخدم هذه الكلمة في الكذب، لكن تستخدم أحياناً في الصدق، وهذا كقول ضمام بن ثعلبة لما جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟) إلى آخر القصة المعروفة.
قوله: (إن رسولك يزعم أنك تزعم) ولو كان ضمام بن ثعلبة يكذبه ما جاءه، فالزعم هنا محمول على الصدق، وكذلك بعض العلماء يستخدم الزعم في الصدق، كقول سيبويه في كتابه الشهير: زعم الخليل كذا وكذا.
والخليل بن أحمد الفراهيدي هو شيخ سيبويه، وصاحب كتاب: العين، وهو أول معجم في اللغة العربية.
وما قصد سيبويه أن يرد كلام الخليل، إنما قصد أن يحتج بكلام الخليل، فأورد كلام الخليل مورد الاحتجاج ومع ذلك يقول: زعم الخليل كذا وكذا؛ زعم: أي قال قولاً صحيحاً.
فهرقل لما قال: هذا الذي يزعم أنه نبي؟ فهذا نوع من التمويه والاستدراج لـ أبي سفيان؛ لأن أبا سفيان إذا علم أن هرقل منحاز للنبي عليه الصلاة والسلام انحيازاً كاملاً لعله يكذب، لا يصدقه، لكن إذا علم أنه يشكك في نبوته فهذا يجرئه على أن يقول كل ما عنده.
وهذا نوع من الاستدراج الذكي، فأنت عندما تتهم شخصاً فلا تباشره بالاتهام؛ لأنه يمكن أن ينكر كما حدث في قصة الساحر والراهب، لما علم الملك أن هناك بذرة إيمان بدأت تنبت في المملكة، ثم علم أن جليسه قد آمن بسبب الغلام؛ فعلم أن الغلام يدعو الناس للإيمان، فالملك استدرجه، ولم يتهمه مباشرة، لذلك هرقل كان يعلم أن أبا سفيان عدو للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم يرد أن يستفزه، لكي يأخذ منه الخبر اليقين، ولذلك أفلح فعلاً في استدراجه وحاصره بالأسئلة.(122/6)
تحريم الكذب وبيان أنه من أعظم الذنوب
ماذا فعل هرقل ذلك الداهية -كما وصفه أبو سفيان - قبل أن يسأل أبا سفيان؟ قال له: اجلس.
وأجلس أصحابه خلف ظهره، وقال للترجمان: قل لهم إني سائله، فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: ولولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه.
انظر إلى الترفع عن الدنايا، مع أن الذي منعه عن الكذب ليس هو الإيمان، وليس هو الخوف من الله عز وجل، وإنما الخوف من أن يتهم بالكذب، والكذب ما أباحه الله قط إلا أنواعاً معينة أباحها بضوابط معينة، لكن مطلق الكذب ما كان مباحاً أبداً.
ولذلك يقول سفيان بن عيينة -وهذا الكلام صحيح، رواه الإمام النسائي، ليس في السنن ولكن في جزء له، جزء حديثي- قال سفيان: كل ذنب جعلت فيه الكفارة فهو من أيسر الذنوب، وكل ذنب لم تجعل فيه الكفارة فهو من أعظم الذنوب؛ لذلك لم يجعل الله للكذب كفارة؛ لأنه إذا أمرك بكفارة وأديتها يسقط الذنب.
ومن الأدلة على ذلك: قصة الغامدية التي زنت ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، فرجمها النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يصلي عليها، فامتنع عمر، ووقف أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تنح عني يا عمر، فوالله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).
كيف وقد جادت بنفسها لله عز وجل؟ والرجم إنما هو كفارة لهذا الذنب، فالمرأة لقيت الله عز وجل ولا شيء عليها، بل إن توبتها تسع سبعين من أهل المدينة ونحن نعلم أن أهل المدينة كانوا كلهم صحابة، فلو قسمت توبتها على سبعين صحابي لوسعتهم.
أما إذا كان الذنب عظيماً فالله تبارك وتعالى لا يجعل فيه كفارة، كقتل المؤمن، فإن الله ما جعل في قتل المؤمن عمداً كفارة، لذلك احتج بعض العلماء بترك الكفارة في قتل المؤمن -قتل العمد- على أن القاتل -قاتل المؤمن عمداً- لا توبة له، قال: لأنه لو كانت له توبة لأذن له بكفارة كما أذن لقاتل المؤمن خطأً.
فالكذب هذا لم تجعل فيه الكفارة؛ لأنه من أعظم الذنوب، وهو قبيح في ذاته، لذلك فالكذب عند العلماء من المحرمات لذاتها.
المحرمات قسمان: قسم محرم لذاته، وقسم محرم لغيره.
المحرم لذاته: أي لما يشتمل عليه من القبح في ذاته، كالقتل، وكالشرك بالله، والكذب، والزنا؛ لأنها قبيحة في ذاتها، فهي حرام.
حرام لغيره: أي أنه في الأصل مباح، لكن اقترن به صفة نقلته من الحل إلى الحرمة، فمثلاً: الصلاة فريضة، لكن الصلاة على الأرض المغصوبة باطلة على رأي الحنابلة، ومكروه على رأي الباقين.
فنقول: إذا رأيت شخصاً يصلي على أرض غصبها من إنسان حتى لو أخذ أرض الإنسان وبنى عليها مسجداً، فإن الصلاة فيه تكون كالصلاة على الأرض المغصوبة، فلا يمكن أن يأتي أحد ويقول: كيف تكون الصلاة باطلة وهو إنما صلى في المسجد؟ فنقول: لا.
المسألة ليست كذلك، فالصلاة صحيحة في نفسها سواء كانت فريضة أو مستحبة، لكن لما اقترنت صلاته بالصلاة على الأرض المغصوبة كانت حراماً.
ومثل ذلك: الذي يبيع العنب لمن يجعلونه خمراً، فيكون هذا البيع حراماً، مع أن بيع العنب في الأصل حلال، لكن لما باعه لمن يجعلونه خمراً أصبح هذا البيع محرماً.
وكذلك الصلاة في الثوب المغصوب، كأن يسرق أحد ثياباً ثم يلبسها ويصلي بها، فهذه حكمها حكم الأرض المغصوبة، ومن الفقهاء من يقول: لا يجوز له أن يصلي في الثوب المغصوب، وإنما يصلي عرياناً.
لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهو لا يستطيع أن يواري عورته، فيصلي حسب ظروفه، أما أن يسرق الثوب أو يغصبه حتى يصلي فيه فهذا لا يجوز.
إذاً: فالكذب لا سيما على الله ورسوله محرم لذاته، ومع ذلك فالذي جعل أبا سفيان لا يكذب إنما هو الترفع، وفي رواية ابن إسحاق قال أبو سفيان: (قد كنت سيداً مطاعاً في قومي، فأنفت أن أُنسب إلى كذب).
هي هذه مقتضى الرئاسة، ولذلك كان من أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة: ملك كذاب.
لماذا يكذب وهو ملك؟ ما كذب إلا لأنه في نفسه كذاب، مستمرئ للكذب حتى أن الكذب أصبح كالصفة الجبلية فيه، لذلك كان من أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
فأنفة أبي سفيان وترفعه عن الدنايا جعله لا يكذب.
وفي بعض الروايات أنه قال: ولو كذبت ما كذبوني، لماذا؟ لسببين: السبب الأول: أن أبا سفيان هو الملك المطاع فيهم، ولا يعقل أن يُرد عليه في مثل هذا المجلس العلني.
السبب الثاني وهو الأهم: لأنهم يريدونه أن يكذب؛ لأنهم هم أيضاً يعادون الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن مصلحة هؤلاء أنهم أيضاً يكذبوه، ولذلك قال أبو سفيان: لو كذبت ما كذبوني.(122/7)
هرقل يسأل أبا سفيان
جاء في بعض الروايات الأخرى أن أبا سفيان أول ما جلس وسأله هرقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هو ساحر هو كذاب.
فقال له هرقل: ما سألتك عنه لتكتمه.
فخجل الرجل من نفسه، فبدأت المحاكمة، وبدأت الأسئلة التي حاصر بها هرقل أبا سفيان، وأسئلته ذكية جداً ومرتبة، وهي كذلك مختصرة، و (خير الكلام ما قل ودل).
بدأ هرقل يسأل أبا سفيان فقال: أيكم أقرب نسباً؟ قال أبو سفيان: أنا أقرب إليه نسباً.
وجاء في بعض الروايات الأخر -أظنها في البخاري - أنه قال: هو ابن عمي.
لأنهما -أي أبو سفيان والرسول عليه الصلاة والسلام- يشتركان معاً في الأب الرابع وهو عبد مناف، ولذلك قال أبو سفيان كما في الروايات الأخرى قال: ولم يكن في الركب أحد من عبد مناف غيري.
فالرسول اسمه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
وأبو سفيان: أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
فاشتركوا في الأب الرابع، فلهذا قال: هو ابن عمي.
ثم قال له: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ يعني: هل ادعى أحد النبوة قبله؟ قال: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملِك؟ قال: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
أسئلة قوية جداً ومركزة، وفي صلب الموضوع، ولذلك أي إنسان يستجوب أحداً فلابد أن يدرس القضية أولاً، ويجعل كل الأسئلة في محور القضية، ويكون السؤال دقيقاً بحيث لا تجعل المسئول يفكر كثيراً في الجواب أو يدخل في تفاصيل لا حاجة لذكرها.
فكانت أسئلة هرقل محدودة بحيث لم تسمح لـ أبي سفيان أن يدخل في تفاصيل لا حاجة لها، وقد استثمر هرقل الإجابات المختصرة لـ أبي سفيان بعد ذلك، وأقام عليه الحجة بأن النبي عليه الصلاة والسلام رسول، ورسالته حقة من جنس إنكاره للرسالة.
وقد كانت إجابات أبي سفيان هي نفس الدليل الذي أثبت به هرقل صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وصدق رسالته؛ فقد قال لـ أبي سفيان: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.(122/8)
بيان أن الرسل تبعث في نسب قومها
قوله: (فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها) أي: في أفضل نسب؛ لأن الخلق دائماً يهتمون بالأنساب، وهذه من خصال الجاهلية الموجودة في الخلق إلى أن تقوم الساعة.
فقريش بعد ما أقيمت عليهم الحجة من كل صوب، ماذا قالوا؟ قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
القرآن جميل! وكلام طيب! لكن لو أنزل على رجل عظيم من أهل الأنفة، والشرف! فقال سبحانه وتعالى راداً عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
لذلك لم تزنِ امرأة نبي قط، ولا جاء نبي أبداً من سفاح؛ لأن هذا قدح مباشر في رسالته، كما أنه ممكن أن يكون أبو النبي كافراً لكن لا يكون زانياً.
الزنا قبيح جداً، ولذلك كما يقول ابن عباس: (ما زنت امرأة نبي قط) لكن ممكن تكفر.
يعير بالزنا أشد مما يعير بالكفر، وإن كان الكفر هو رأس الخبائث كلها، وكأنه لهذا -لهذا المعنى- برأ الله تبارك وتعالى موسى من قذف بني إسرائيل إياه؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنوا إسرائيل يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يذهب إلى مكان بعيد في النهر ويخلع ملابسه وينزل يسبح.
وفي أحد الأيام شك بنو إسرائيل في موسى عليه السلام فقال بعضهم لبعض: لماذا لا يستحم معنا؟ إنه آدر -آدر يعني: عظيم الخصية؛ عنده عيب في الخصية- فاتهموه بهذه التهمة- وبينما كان موسى عليه السلامة يستحم وقد كان وضع كل ملابسه على حجر، فإذا بالحجر يأخذ ملابسه ويذهب، فخرج موسى يجري وراء الحجر عرياناً، فمر الحجر على بني إسرائيل وهم في النهر، وموسى عليه السلام يجري وراء الحجر فمر عليهم عرياناً، وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر!) يعني: أعطني ثوبي أيها الحجر! فوقف الحجر، فموسى عليه السلام من غضبه أمسك العصا وظل يضرب الحجر، قال عليه الصلاة والسلام: (لو شئت لأريتكم ندبات العصا على الحجر) أي: أن العصا تركت آثاراً على الحجر.
فقال بعضهم لبعض بعد أن رأوا موسى عليه السلام مستوي الخلق، قالوا: ما بالرجل من بأس.
قال بعض العلماء: إنما أراهم الله تبارك وتعالى ذلك؛ لأنه يمكن أن يرتقي إلى الشك في ذرية موسى عليه السلام، ونحن نعلم أن الحيوانات المنوية تخرج من الخصية، فإذا كانت الخصية فيها عيب أو ما شابهه فيكون هذا سلم للطعن في ذرية موسى عليه السلام.
فأنزل الله تبارك وتعالى قوله في ذلك في هذه القصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69].
فقد كان الناس يهتمون بمسألة الحرص على الأنساب؛ لذلك كل الرسل أرسلت في نسب قومها، فالقدح في النسب مشكلة كبيرة جداً ممكن تقوض الرسالة.(122/9)
موافقة هرقل لأقوال أبي سفيان في النبي صلى الله عليه وسلم
قال هرقل: وسألتك: هل أحد منكم قال هذا القول؟ يعني: زعم أنه نبي.
فذكرت: أن لا، يعني: لا.
ليس هناك أحد ادعى هذه الدعوة.
قال: فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، لكن ما قال قبله أحد قط هذه الدعوى، فمن أين يأتي بها؟ قال: وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت: أن لا.
قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
يعني: شخص أبوه كان ملكاً، وهو الآن قاعد في المنفى، وجعل له حكومة مؤقتة، ويريد أن يرجع البلد مرة أخرى، مثل ابن فاروق، فهؤلاء متطلعون لحكم أبيهم.
المملكة مثل الأرض الخاصة، ولذلك لا يسمح بالحريات في المملكات، إنما يسمح بالحرية ولو كاذبة في النظام الجمهوري.
أصل النظام الجمهوري: أن لا يكون هناك حاكم دائم، لكن المملكة هذه ملك للحاكم فإذا مات سيأخذها من بعده ابنه أو أخوه فقال له: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.(122/10)
اعتراف أبي سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كاذباً
قال: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا.
فقلت: أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
إجابة ملزمة! يعني: رجل لم تجربوا عليه كذباً، ويتعفف عن الكذب عنكم في قضاياكم العادية، فهل هذا الرجل يكذب على الله؟! هذا الذي يسميه العلماء: القياس الجلي، أو القياس الأولوي.
القياس الأولوي صورته: أن يستدل بنفي الأقل على نفي الأكثر، كقوله تبارك وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] إذاً هذا من باب أولى يحرم الضرب، لكن لو قال: ولا تضربهما، فكان يجوز أن تقول: أف.
هذا هو القياس الجلي أو القياس الأولوي، فهو عندما ينهاك عن الأقل فقد حرم عليك الأكثر، فقوله: (لا تقل لهما أف)، يعني: من باب أولى الضرب، لكن لو قال لك: لا تضرب، فجائز أن تشتم؛ لأن النهي عن الضرب ليس فيه النهي عن الشتم، لكن النهي عن التأفف فيه نهي عن الشتم وعن الضرب.
فإذا كان لا يكذب على الناس فمن باب أولى أنه لا يكذب على الله، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
بعد أن سأله عن الكذب سأله عن الغدر.
لماذا أخر الغدر عن الكذب؟ هذا من باب تقديم الخاص على العام، وهنا قاعدة مهمة جداً، يقول العلماء: تقديم الخاص على العام يفيد الاهتمام.
مثلاً لو قلت لك: لا تأكل الضأن ولا اللحم لا فرق بين الضأن واللحم، كان ممكن أن أقول لك: لا تأكل اللحم.
فذكري لتحريم الضأن قبل اللحم يدل على أن الضأن بالذات محرم تحريماً مؤكداً، فتخصيصي لذكر هذا النوع من اللحم قبل ذكر سائر اللحوم دلالة على تأكيد منع هذا اللحم، إذاً هذا فيه اهتمام بالشيء الذي أفردته، الذي هو الخصوص.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي بدأ به البخاري صحيحه: (إنما الأعمال بالنيات) الحديث في آخره: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) الخاص هنا ذكر بعد العام ولا فرق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرت عيني في الصلاة) وبعضهم يرويه: (حبب إلي من دنياكم ثلاث) لفظ (ثلاث) باطلة، لا أصل لها في الحديث، والحديث نفسه يؤكد أنها باطلة؛ لأن الصلاة ليست من الدنيا، إنما (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب) وبعد ذلك تبدأ بكلام جديد (وجعلت قرت عيني الصلاة) فالنساء من الدنيا بنص الحديث، فكان من الممكن أنه لا ينبه عن المرأة وهي داخلة في الدنيا، لكن طالما أنه أفردها بالذكر رغم أنها داخلة في الدنيا فيكون تأكيداً على فتنتها، كأن يقال: انتبه من الدنيا وبالذات المرأة.
فعندما تفرد هذا الجزء من العام بالذكر فإنك تهتم به، وذلك كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] خصص الصلاة والنسك بالذكر، ثم جمعهما في قوله: {وَمَحْيَايَ} والمحيا منه الصلاة والنسك، لو أن الآية تقول: (قل إن محياي ومماتي) لعلمنا يقيناً أن الصلاة داخلة في الموضوع، لكن كونه يذكر الصلاة والنسك على سبيل الخصوص وبعدها يعمم الكلام، فهذا يدل على تأكيد الاهتمام بهذين: النسك الذي هو الذبح، سواءً كان يقصد به ذبح الحج أو غيره، والصلاة.(122/11)
الغدر أعم من الكذب
أيهما أعم الكذب أم الغدر؟ الغدر أعم من الكذب؛ لأن الغدر يمكن أن يتم بأشياء كثيرة غير القول، فقد يكون بالفعل، يعني: بالجوارح وهي كثيرة، أذكر منها حديثاً رواه أصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمّن الناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين -يعني قال: كل الناس آمنون، إلا أربعة رجال وامرأتين- قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا إهدار عام لدم هذا الإنسان، أي واحد يقابله يقتله، يعني: أنه لم يندب أحداً لقتله: (ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) لأنه كان فيما مضى أي إنسان يتعلق بأستار الكعبة مهما كانت جريمته حتى وإن قتل فهو في أمان، فكان كل من قتل تعلق بأستار الكعبة.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا تأكيد على إهدار دمائهم.
وهؤلاء هم: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي السرح، وعبد الله بن خطل، وعكرمة بن أبي جهل، والمرأتان لم تذكر أسماؤهما.
أما مقيس بن صبابة فأدركوه في السوق فقتلوه، وكذلك قتلوا عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.
أما عكرمة فهرب، وركب البحر، ولما أوشكت السفينة على الغرق، قال صاحب السفينة: إنه لن تنفعكم آلهتكم هنا، فلا ينفعكم إلا الإخلاص، فأخلصوا في الدعاء، ولذلك عند الشدة لا تجد أحداً منافقاً أو مرائياً بل يخلص أشد الإخلاص.
فقال عكرمة: (والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلن ينجني في البر غيره، والله لئن سلمني الله لآتين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم بين يديه فقبل منه.
بقي عبد الله بن أبي السرح، والذي كان أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، فأول ما علم أن دمه مباح هرب عند عثمان، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، فلما علم عثمان بن عفان بذلك، أخذ عبد الله بن أبي السرح وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تعلمون مكانة عثمان رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان عزيزاً غالياً، فجاء عثمان رضي الله عنه ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله وراءه، فقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يبايعه، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فلم يبايعه -ثلاثاً- فبايعه بعد الثالثة، ثم قال لأصحابه -وهنا الشاهد-: أليس منكم رجل رشيد، إذ يراني كففت بيعتي -كففت يدي عن بيعة هذا- فيقوم إليه فيضرب عنقه؟ فقالوا: يا رسول الله! هلاّ أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)؛ لأن خيانة العين من الغدر، وسميت كذلك؛ لأنك تظهر شيئاً وتبطن آخر.
فخيانة العين من الغدر، والغدر يمكن أن يكون باليد، وبالعين واللسان، لذلك كان الغدر أعم من الكذب، والكذب أخص من الغدر، فالكذب جنس من أجناس الغدر.
ولذلك سأل أولاً عن الكذب ثم سأل عن الغدر.
وجد أبو سفيان فرصة ذهبية يغمز فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حين سأل هرقل أبا سفيان فقال: (هل يغدر؟ قال: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها) الله أعلم، جائز يغدر.
قال: (ولم تمكني كلمة أقول فيها شيئاً إلا هذه)؛) لأن هرقل كان يحاصره بالأسئلة، فلم يستطع أن يجد أي فرصة إلا هذه، فقوله هذا إشارة إلى أنه يمكن أن يغدر، أما الكذب فلا.
حقيقة أنا لم أعلم أحداً في المناظرة يطبق هذا المنهج إلا شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو يناظر تحس أنه أسد خرج من القفص، وهو يناقش في القفص يقول له عندما يتقابل سؤالان: قل: نعم أو لا، أو فيه تفصيل؟ وبعد ذلك يقول للسائل: قل الذي تريده، يعني مثلاً: شخص سأل عن مسألة في أصول التوحيد هل يعذر قائلها أم لا؟ فيقول: قال تبارك وتعالى كذا وكذا وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وقال العلماء كذا فيدخلك في متاهة، فكان يحاصرهم فيقول: هل يعذر أم لا؟ ويقول له: قل نعم أولا؟ ما الفوائد من هذه الطريقة؟ فوائد هذه الطريقة: أنك إذا سألته عن تفصيل فقال: لا، فلو قال بعد ذلك: نعم، فقل له: ألم تقل: لا، فلماذا غيرت كلامك، لكن لو أنك تركته من البداية ولم تناقشه، فإنه يقول لك: أنت لم تفهمني جيداً، ولم يكن قصدي هذا ويدخلك في متاهات أنت في غنى عنها.(122/12)
بيان أن الضعفاء هم أتباع الرسل
يقول هرقل: (وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هذا التقليد الجاهلي بدأ يعود بصورة موسعة في هذا العصر، شخص من كبار العلمانيين عندنا، والله سبحانه وتعالى ابتلاه بمرض عضال، ونذكر هذا لنُذكِّر أنه ما انتصب رجل لحرب الله ورسوله إلا رجع مدحوراً، وكان هذا الرجل قد كتب مقالاً في أحد الجرائد، وقد أغلقت هذه الجريدة بعد هذا المقال، قال: إن الذين يظهرون التدين تدينهم غير حقيقي؛ لأن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي، يعني: وجد نفسه فقيراً ففزع إلى الله، فنقول: هل هذا خطأ؟ لا، شخص وجد نفسه فقيراً، وعرف أن كل الأغنياء لا يملكون لأنفسهم غنى، فرجع إلى الغني الكبير، فهل هذا يعيبه؟ قال: هذا التدين لابد أن يكون منبعثاً من القلب، يعني: يتدين بدون هدف، ولا يكون مصلحياً، هكذا قال! ثم ذكر قول رابعة العدوية: (اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك الكريم فلا تحرمني من وجهك).
هذا كلام خاطئ! فهل الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسأل الله الجنة ويعوذ به من النار كان يعبده عبادة التجار؟!! كل الأنبياء كانوا يسألون الله عز وجل الجنة ويعوذون به من النار، ويسألونه العافية، ويعوذون به من المرض.
فيقول: إن التدين الحقيقي أن يقبل الإنسان على الله دون أن يكون له غرض، فالإنسان إذا لم يكن له حافز لم يعمل، وهذه طبيعة الإنسان، فنحن مثلاً على المستوى الدنيوي عندما نأتي بشخص ونقول له: اعمل كذا وكذا، وسوف نعطيك مائة جنيه، فإنه سيعمل ليل نهار حتى ينجز هذا العمل ويحصل على المائة جنيه، ولو لم يكن هناك مقابل فإنه لن يقوم بأي عمل؛ لأن هذه مربوطة بتلك وهي طبيعة الإنسان، لذلك الله تبارك وتعالى جعل الجنة للمطيعين، وجعل النار للعصاة، لماذا؟ لأن الإنسان لا يتحرك إلا بحافز، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) عندما تتأمل هذا الحديث تجده يؤكد الكلام الذي قلناه، فالإنسان إذا قامت الساعة وفي يده فسيلة، فإنه سيتركها ولن يغرسها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (فاغرسها)، فلماذا أمره أن يغرسها؟ لأن الإنسان يتصرف بما جبل عليه، فهو عندما يزرع نخلة فإنه إنما يزرعها ليأكل منها هو وأولاده، لكن لو علم أنه لن يأكل منها أحد ولن ينتفع منها أحد ما غرسها، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: خالف طبعك، خالف جبلتك واغرسها.
لما جاء صحابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: (يا رسول الله! -وكان يأكل تمراً- مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) لماذا؟ لأن الذي سوف يحبسه عن الجنة أنه يأكل التمرة هذه، فألقى التمرة وقاتل حتى قتل.
لكن لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك شيء، فهل من الممكن أن يرمي التمر ويذهب يقاتل؟ بل سيقول: آكل وأستريح، ولذلك لما جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير أيام فتنته مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وقال له: أنا فارس مغوار! ومقاتل شجاع! يمكن أكون في المقدمة، لكن كم تعطيني؟ قال له: أعطيك كذا وكذا، قال له: زدني، فقال له: بعد أن نرجع، فتولى الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي نقداً وتعطيني دراهمك نسيئة.
الإنسان معروف أنه لا بد أن يعمل لشيء، لذلك خلق الله الجنة والنار، وجعل الجنة درجات، وقد كان من الممكن أن تكون درجة واحدة، لكن كل إنسان يجتهد أن يكون في أعلى الدرجات في الجنة.
والنار -عياذاً بالله- جعلها دركات من أجل أن العبد إذا اقترف المعصية يخاف، فيستقل من المعاصي بقدر ما يمكن.
فعندما يأتي هذا العلماني ويقول: التدين الحقيقي يجب أن يكون إلى الله بدون دافع، فهو جاهل، لا يعرف شيئاً، ولم يقرأ شيئاً من الوحي، ولا حتى يعرف طبائع الناس، يقول: إن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي العام! هل هذا يعاب الإنسان به؟ لا يعاب الإنسان به، لذلك دائماً تجد كل أتباع الرسل في كل زمان هم الضعفاء، لا تجد منهم السادة، ولا تجد منهم أصحاب المناصب، بل تجد دائماً أصحاب المناصب والأشراف هم أصحاب الهوى، وهم أعداء الأنبياء، ولذلك النظام الجديد الذي يجتاح العالم الآن وبكل أسف دخل على العالم الإسلامي، والذي هو تقليص دخل الفقراء، فأنت عندما تنظر الآن شروط التقديم في الكليات العسكرية تجدها تغيرت عن قديم، فقد كانوا قديماً يقولون عندما تذهب إلى النظام الاشتراكي: إن الكل يتساوون في الطابور هذا جنب هذا، الآن أصبح في استمارة التقديم لا بد من معرفة إذا كان هناك أحد قد سبقك في هذا المجال فقالوا: لأن القلاقل التي حدثت في مثل هذه الأجهزة حدثت بسبب المتدينين، الذين هم الفقراء، ولا يمكن أن يبيع أحد منهم دينه من أجل شقة أو سيارة، فغيروا النظام إلى النظام الملكي، فتكون هذه المناصب للأعيان وأولاد الأعيان، لماذا؟ لأنهم أصحاب دنيا، وكل آمالهم من الدنيا شقة وسيارة، ورصيد في البنك، فإذا عملت كل هذه الأشياء فسيوافقون على أي قرار أو عمل.
فأتباع الأنبياء دائماً ضعفاء، وهذا لا يعيبهم، لماذا؟ لأن الحق لا ينتصر بقوة العدة ولا العدد فقط، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فالنصر من الله تبارك وتعالى، ونحن لا نملك تأثير الأسباب، العدة والعدد لهما دور في الانتصار لكن ليست هي السبب الرئيس في النصر؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم انتصروا في بدر وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً أمام ألف رجل من قريش خرجوا مدججين بالسلاح، ومع ذلك نصرهم الله تبارك وتعالى على عدوهم لما جمعهم على غير ميعاد.(122/13)
قوة الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب
(قال: وسألتك يزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: وكذلك أمر الإيمان حتى يتم) يزيد الإيمان كالقمر، فيبدأ كالهلال ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يصير بدراً.
قال: (وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطةً على دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا) هذا شيء طبيعي، فإذا كانوا يزيدون فإنهم لا ينقصون، ولا يرتد أحد منهم.
(قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب) يعني: كأنها استقرت في نفس أنسجة القلب، ويكون مثاله كمثال اللون إذا اختلط بالماء فلم يترك جزئيات الماء، فإنك عندما تأتي بالشاي وتضعه في الماء، وتتركه لمدة سنة، فإنه لا يمكن أن يتغير لون الشاي؛ لأن الشاي اختلط بجزئيات الماء، بخلاف التراب؛ فإنك لو أتيت بالماء وخلطته به، وتركته خمس دقائق فإنك ستلاحظ أن التراب نزل تحت الماء، هذا هو الفرق بين مخالطة البشاشة والمخالطة العامة، فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلب كان كمثل ذلك الشاي، لذلك لا يرتد الإنسان أبداً مهما عذب وأوذي، وأعظم دليل على ذلك: أبو جندل بن سهيل بن عمرو فإن أباه سهيل بن عمرو عندما علم أنه أسلم قيده بالحديد، فلم يصبر على ذلك، فقرر أن يهرب، وذهب ماشياً وهو مقيد بالحديد من مكة إلى الحديبية، وكان من ضمن الاتفاق بين المشركين والمسلمين أنه إذا جاء أحد من مكة مسلماً فإنهم يردونه، ولما وصل أبو جندل إلى الحديبية إذا به يفاجأ بأبيه وهو جالس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل: هذا أول ما أطالبك به، فطلب منه الرسول أن يتركه، لكن سهيلاً لم يوافق على ذلك، وأصر على أخذ ابنه معه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي جندل: (ارجع)، فحزن المسلمون لذلك أشد الحزن، ومع ذلك كله لم ييأس أبو جندل، ورجع وهو راضٍ بأمر الرسول رغم كل التعب الذي عاناه في سفره من مكة إلى الحديبية وهو مقيد بالحديد.
ولذلك عندما سأل هرقل: (أيرتد أحدٌ منهم سخطةً على دينه؟)، كان ذلك نوع من التأكيد؛ لأنه عندما سأله: (أيزيدون، أم ينقصون؟ قال له: بل يزيدون) كان هذا دلالة على أنه لن يرتد أحد؛ لأنه لو كان أحد يرتد فإنهم سينقصون، لكنه قال هذا ليؤكد أن هذه الزيادة ليست أي زيادة، فالرجل إذا دخل في الإسلام وأشرب قلبه بالإيمان فلا يمكن أن يرتد عن دينه.
قال: (فكذلك أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب).(122/14)
ضرورة ترك ما كان عليه الآباء من الجهل والضلال
قال: (بم يأمركم؟ قال يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم).
ثم قال هرقل: (سألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان).
فقرن بين عبادة الأوثان وقول الآباء؛ لأن اتباع الآباء وثن، وكان هذا قول الكفار، فقد كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فاتباعهم لهذا الوثن صدهم عن الحق.
وضع هرقل كلمة عبادة الأوثان مكان كلمة الآباء، ولم ينكر عليه أبو سفيان ويقول: أنا لم أقل هذا، أنا قلت أنه قال واتركوا ما يقوله آباؤكم، فإقرار أبي سفيان وسكوته عن الاعتراض على هرقل غيَّر كلامه دلالة على أنه موافق ومقر.
اتباع الآباء في غير الحق وثن، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لهم: (اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم) إذا كان أبو سفيان يذكره على أنه رد للرسول عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى ذكر كلامهم هذا في معنى الربوبية، فقد كانوا يقرون بأن الله يسلمون تبارك وتعالى وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] لكنهم لا يقرون به في باب الألوهية، من ذلك {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] لماذا؟ إذا كان الرب واحد وأنتم تقرون بذلك، فما المانع أن يكون هو الإله الواحد أيضاً الذي يستحق أن يعبد دون غيره؟ فـ أبو سفيان يقول هذا على سبيل القدح في رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هرقل لأنه كان قد قرأ الكتاب العبراني، وكانت عنده خلفية بالشرائع السابقة، وعنده خلفية بدين المسيح عليه السلام؛ فكل ذلك أتاح له الفرصة أن يرد على أبي سفيان، فقال له: (قال: فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف) هذه أشياء لا يمكن للإنسان كامل العقل أن يعترض عليها، ولذلك قريش بعدما رأت أن كل شيء مدموغ بالحجة، قالت المقالة التي ذكرها الله تبارك وتعالى عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].(122/15)
ملك القلوب هو الطريق إلى الملك الحقيقي
قال هرقل: (فإن كان ما تقوله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين) وهذا دليل على أنه لا يمكّن في الأرض إلا لمن استأثر بقلوب من عليها، ولا يكون بقلة الأدب، ولا بالعنف.
وهنا نكتة في منتهى اللطف، وهي في قصة يوسف عليه السلام، وذلك عندما ألقوه في الجب، وبعدها أخرجوه، ثم ذهب إلى العزيز، وكان لا يزال صغيراً، والله سبحانه وتعالى بعدما ذكر أنهم استقبلوه وأحبوه قال: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:56] يوسف عليه السلام لم يمكن له في الأرض إلا بعدما خرج من السجن وصار وزيراً، فأين التمكين؟ طالما دخل قلب هذا الرجل، فهذا هو الملك الحقيقي، ابن آدم لا يمكن أن يتنازل بما يملك إلا إذا كسب أحد قلبه، فإذا ملكت قلوب الناس فهذا هو الملك الحقيقي، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:56].
لذلك نقول: يا من ترغب بالملك، املك قلوب الناس تضمن الملك الذي تحت أرجلهم، ولذلك هرقل جزم وقال: (إن كان حقاً ما تقول فسيملك موضع قدمي هاتين)، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام قال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63].
الآن بعض الجماعات الإسلامية منذ خمسين سنة تحاول أن تقيم -لا أقول دولة حرة- بل حياً في بلد، ومع ذلك لم يستطيعوا، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام خلال عشر سنين أقام دولة كانت تخاف منها معسكرات فارس والروم، بماذا أقامها؟ أقامها بتأليف القلوب.
ومن الأمثلة على ذلك: لما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، جاء سعد وقال: اختر أجمل نسائي فأطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها، وخذ شطر مالي، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق.
ما الذي حدث للعرب؟!! كان العرب إذا نظر أحد إلى امرأته قام فقتلها، بينما سعد بن الربيع يقول الآن: أتنازل لك عن أجمل نسائي؟! ما الذي حدث؟! الله عز وجل غيَّر قلوب هؤلاء، وكل فساد على الأرض بسبب تحول القلوب.
جاء في رواية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قرأ قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] يبكي حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك فقال: كان لي بنت في السادسة من عمرها، وعندما أخذتها لأضعها في التراب كانت تزيل التراب عن لحيتي.
لكن بعد الإسلام أصبح الصحابة رقيقي القلوب، فكانوا كثيري البكاء، وكان الواحد منهم إذا سمع شيئاً من الوعيد، أو آيات من القرآن يسيل دمعه مباشرة، والعين كلما كانت كثيرة البكاء دل ذلك على زكاء النفس.
أبو بكر الصديق كما في صحيح البخاري: (همَّ أن يخرج من مكة مهاجراً إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال له: أين تذهب يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي -فماذا قال له زيد؟ وكان زيد رجلاً كافراً آنذاك- قال: يا أبا بكر! مثلك لا يخرج ولا يُخرج؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر) خروجك خسارة! خروج المصلحين والأتقياء من أي بلد أكبر خسارة! مكارم الأخلاق هي الطريق الطبيعي لكسب قلوب العباد، ولذلك كانوا يبحثون عن أي وسيلة لغزو القلوب فيحاولون إيقافها.
فمثلاً: حصل زلزال في مكان ما، فقامت بعض الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة وأتت ببعض المعونة وقامت بالمساعدة، هذا معناه أن الناس سوف يقولون: إن أصحاب الجماعة الإسلامية هم الذين أتوا بهذه المعونة، فقالوا: من أراد أن يساعد فلا يذكر اسمه ولا اسم جماعته؛ لأنهم يعلمون أن غزو القلوب مسألة خطيرة.
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما طعن عبد الله بن أبي في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد الصحابة: (يا رسول الله! دعنا نضرب عنقه، قال: أخشى أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لأن الذي هو في البادية لا يعلم شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: هذا يقتل أصحابه، أين الوفاء والإخلاص؟ فيصده ذلك أن يدخل في الإسلام، فالمصلحة الراجحة تقتضي أن أعامله بالمعروف.
غزو القلوب هو الملك الحقيقي، لذلك أنصحكم أن تعملوا على كسب القلوب، فإنك إذا استطعت إن تكسب قلب إنسان فتكون كأنك ملكته، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما كان يدعو إلى التصدق، استغل عمر هذه الفرصة وقال: (اليوم أسبق أبا بكر) فتصدق بنصف ماله، وأبو بكر عندما تصدق أخذ كل ماله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت مثله، وقال لـ أبي بكر ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: لا أسابقك بعد اليوم).
صهيب الرومي خرج من مكة إلى المدينة بالليل، وعلم كفار قريش بخروجه فلحقوا به وأمسكوه قبل أن يصل، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال، والله لا يكون أبداً، فقال لهم: إن تركت لكم المال تخلون بيني وبين الهجرة؟ قالوا: نعم، فأخبرهم بمكانه، فلما وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقص عليه ذلك قال له: (ربح البيع أبا يحيى)، فهؤلاء ما ضحوا إلا بعد ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.
فلذلك هرقل استدل بهذه الصفات الحميدة؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيملك موضع قدميه، وفعلاً ملك الرسول عليه الصلاة والسلام موضع قدمي هرقل.(122/16)
الأمر بإنزال الناس منازلهم واللطف بهم في الدعوة
قوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب الذي أرسله إلى هرقل: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) لما ذكر نفسه نسبها إلى العبودية، ولما ذكر هرقل نسبه إلى العظمة؛ لأن هرقل رجل كافر، وهو يدعوه ويتألف قلبه، فلهذا لابد أن ينزله منزلته: (أنزلوا الناس منازلهم).
يا أيها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى! إننا خسرنا كثيراً بإهمالنا لهذا الأصل، فقد يذهب أحدنا إلى قرية أو قبيلة للدعوة، فيعترض عليه رجل من كبار القبيلة، وهو أجهل من أبي جهل، فالواجب عليك ألا تحمل عليه بالكلام، لأن خسارتك لهذا الرجل خسارة كبيرة؛ لأنه قد يمنعك من دخول القبيلة أو القرية، فتحرم من دعوة أهل هذه القرية، أنا لا أقول لك: أقره على باطله، وليس هذا هو لازم القول، لكن أقول لك: استخدم القول اللين في توصيل الحق ولا تسكت عن باطل.
يعني مثلاً: جاء رجل إلى محمد بن سيرين، وقال له: رأيت أن أسناني سقطت، فذهبت إلى فلان فقال لي: إن أولادك سيموتون، فأحزنني ذلك، قال له: بل سيبارك الله لك في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، فالتعبير نفس التعبير لكن اختلفت الصيغة؛ لأنه إذا كان آخر أهله موتاً، فهذا يعني أن أولاده سيموتون قبله.
وبعض الناس يرتاح عندما تخبره بأشياء تسره حتى وإن لم تكن صحيحة لكنه يرتاح لمثل هذا الكلام.
رجل عظيم في بلد من البلدان، وهو رجل فاسق، وأنا أريد أن أدخل هذا البلد، ما المانع أن أقول له: سمعتك سبقتك، والحقيقة أنت مشهور جداً، وكنت أتمنى أن أراك، وأنت أقررت باطلاً في المسألة هذه؟ وأدخلت في الدين ما ليس منه؟ وأخرجت من الدين ما هو منه؟ فسيتصور الرجل أن هذا كله مدح.
وكان أحدهم في أيام التعذيب قد عذبه الجلاد أشد التعذيب -نسأل الله العافية- وبعد أن أكمل تعذيبه قال له: ادع لي، فقال له: الله يعينك ويحميك.
(يعينك) يعني: يطردك، و (يحميك) يعني: يحميك بالنار، فالجلاد اعتقد أن معنى (يحميك) من الحماية، يعني: يحرسك.
وسمعت شخصاً يقول لرجل: أنت من الأكابر، فأنكر عليه أحدهم، وقال له: الأكابر هم المجرمون، فقال له: ليس الأكابر الذين نعرفهم؟ فالإنسان يتلطف في هؤلاء الناس.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل بالرسالة، ما قال: إلى الكافر بن الكافر هرقل؛ لأن هذا نوع استعداء، لكن قال: (إلى هرقل عظيم الروم) وهو فعلاً عظيم الروم، وقد نسب نفسه عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عنده من الإيمان للعبودية؛ لأنها أشرف صفة يوصف بها العبد، كما قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] قالوا: لو كانت هناك صفة أشرف من صفة العبودية لنسبه إليها؛ لأن هذه من أشرف الليالي، فوضع نفسه تواضعاً لله تبارك وتعالى، كما ثبت في مسند مالك وأحمد وغيرهما: (أن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا صوت باب يفتح من السماء، فقال جبريل: يا رسول الله! أو لا تدري ما هذا؟ قال: لا، قال: هذا باب ما فتح قبل اليوم، ولا يفتح بعد اليوم) نزل منه ملك، هذا الملك نزل لتخيير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربك يخيرك، ملكاً رسولاً أجعلك، أم عبداً رسولاً؟ قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره، فأشار إليه: أن تواضع لربك، فقال: بل عبداً رسولاً) هذا هو الشرف؛ فالإنسان الذي ينسب نفسه للعبودية يعلو: (كفى شرفاً أن أكون لك عبداً، وكفى لي عزاً أن تكون لي رباً).(122/17)
معنى قول أبي سفيان: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة)
الفائدة الأخيرة وهي: بعدما ارتفعت الأصوات في الجلسة، وكثر الصخب، قال أبو سفيان: (فخرجت وقلت: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة) أمِر: يعني زاد، من قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] أمرنا هنا ليس من الأمر؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، وهذه لها تأويلات؛ منها: أمرنا بمعنى: كثرنا، (أمرنا مترفيها) أي: كثرناهم، وزدنا في عذابهم، وهذا كقوله تبارك وتعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام، لما قتل الخضر الغلام قام موسى فقال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، ولما خرق السفينة قال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71] (إمراً) أي: كثير الفساد، فما قال (إمراً) في الغلام، وإنما قال في السفينة؛ لأن كلمة (إمراً) يعني: كثير الفساد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد وغيره: (خير المال سكة مأبورة -النخل عندما تؤبره- ومهرة مأمورة) مأمورة يعني: كثيرة النتاج؛ تولد كثيراً.
فكلمة: (أمِر) أي: لقد كثر وانتشر وشاع.
قال: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أبو كبشة هو الجد الأعلى لأم الرسول عليه الصلاة والسلام، لماذا لم يقل: لقد أمِر أمر ابن عبد المطلب؟! فلماذا نسبه إلى جد غامض غير معروف؟! تحقيراً له؛ لأن العرب كانت إذا حقرت إنساناً نسبته إلى جدٍ غامض غير معروف في الناس.
وفي حديث رواه ابن حبان والبزار بسندٍ حسن: (أن عبد الله بن أبي ابن سلول مر على النبي عليه الصلاة والسلام فرآه في أجمة، فقال: لقد غبَّر علينا ابن أبي كبشة) غبَّر علينا، أي: أخذ مننا السلطان فبلغت هذه الكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (والذي بعثك بالحق، لو أمرتني لآتينك برأسه، قال له: لا، برَّ أباك، وأحسن صحبته).
النسبة إلى الجد المشهور شرف، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
ما كان يقول: أنا ابن عبد الله إلا في الرسائل التي كان يرسلها، فقد كان يقول فيها، (من محمد بن عبد الله)، لكن في قريش كان ينسب نفسه إلى جده عبد المطلب؛ لأنه كان أكثرهم نباهة في قريش.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يزيدنا وإياكم علماً، وأن يغفر لنا وإياكم، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(122/18)
الرؤيا والغيبة
تنقسم الرؤيا إلى ثلاثة أقسام: رؤيا صالحة من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه، فكل ما يراه الإنسان في منامه لا يخرج عن واحدة مما سبق.
والرؤيا سواء كانت صالحة أو مكروهة لها أحكام وآداب ينبغي مراعاتها، وعلى معبر الأحلام أن ينتقي أحسن الألفاظ عند تعبيره للرؤى والأحلام.
واختلاق الرؤى والكذب على الناس في ذلك ولو بغرض الخير محرم شرعاً.(123/1)
صور وأنواع الرؤيا
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5].
هاتان الآيتان اشتملتا على جملة من الفوائد، وأعظم هذه الفوائد أو أظهرها هي الرؤيا، والرؤيا من المبشرات كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يبق شيء من النبوة إلا المبشرات)، فأثبت بهذا القول: بأن الرؤيا بشرى، وكما في حديث أبي قتادة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)، وكذلك في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه)، فكل ما يراه الإنسان في منامه لا يخرج عن واحدةٍ من هذه، الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا تحزين -أي: تهويل- من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه.(123/2)
الفرق بين رؤيا الصالح والكافر
في صحيح البخاري: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، وفي هذا الحديث: الرؤيا الحسنة، وفي بعض الروايات الأخرى: (الرؤيا الصالحة)، وفي رواية: (الرؤيا الصادقة)، وكلها بمعنى الرؤيا الحسنة.
(من الرجل الصالح) قيد الصلاح هنا مهم؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث: (الرؤيا جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، فهل رؤيا الكافر إذا صحت تكون جزءاً من النبوة؟
الجواب
لا.
لماذا؟ لدلالة هذا الحديث، لذلك كان هذا القيد مهماً.
بعض الكافرين رؤياهم صحيحة، كالملك: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43] وهو كافر صحت رؤياه، ورؤيا هرقل، لما رأى له صاحبه ظفر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وأخذ ممالكهم، وهذا صح في صحيح البخاري، وكان ذلك صحيحاً، فيقال: الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، ويراها الرجل الصالح، فإذا رآها الكافر، لا تكون جزءاً من النبوة؛ لأن النبوة تشريف، فكيف يشرف الذي كفر بها أصلاً؟! وهذا القيد ومثله في الأحاديث ينبغي اعتباره؛ لأننا إذا أهملنا مثل هذا القيد، دخل تحته مثل هذه الجزئيات التي لا تقررها الشريعة، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له)، فذكر الصلاح هنا دل على أن الولد الفاسد لا يستجاب له، ولا ينتفع الوالد بالولد الفاسد لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمجيء هذا الولد وبال عليه في الدنيا والآخرة، فإذا دعا الولد الفاسد لأبيه لا يستجاب له.
فلأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الولد الصالح، وقيد الولد بالصلاح، ووصفه بالصلاح، دل هذا على أن الفاسد ليس كذلك.(123/3)
بشارة الرؤيا الصالحة
فقوله عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا الحسنة -أو: الصالحة، أو: الصادقة- من الرجل الصالح، جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، وإنما كانت الرؤيا الصادقة جزءاً من النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما بشر بالوحي بشر بالرؤيا الصادقة، كما قالت عائشة رضي الله عنه: (كان أول ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني من مبشرات النبوة- الرؤيا الصالحة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح) لذلك صارت جزءاً من النبوة.
قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)؛ فأثبت أن الرؤيا بشرى؛ لكن بعض الرؤيا لا تكون بشرى: إنما تكون نذارة لصاحبها، فهل تدخل هذه في البشرى؟ نعم.
مثل: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (كنت شاباً عزباً، أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الناس يرون رؤى، فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤولها لهم، فقلت في نفسي ذات ليلة: لو كان فيَّ خيرٌ لرأيت رؤيا، قال: فنمت في هذه الليلة، فرأيت -لكن يا لهول ما رأى- ملكين يجراني إلى النار، وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، فأخذاني فأوقفاني على شفيرها -أي: على حافتي النار- فإذا فيها أناسٌ معلقون من أرجلهم عرفتهم، وإذا ملكٌ أخذني منهم، وقال لي: لم ترع، أي لا تخاف، فاستيقظتُ وأنا أقول: أعوذ بالله من النار)، وكأنما هاب أن يقصها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وفي الرواية الأخرى قال: (عبد الله رجلٌ صالح لو كان يقوم الليل)، قال راوي هذا الحديث، سالم ابنه: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا.
فهذه الرؤيا وإن كان ظاهرها مفزعاً كما أفزعت ابن عمر رضي الله عنهما، إلا أنها كانت من أوائل المبشرات؛ إذ دله النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينجيه من النار.
وقد يكون الإنذار من جملة البشرى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165] يبشرون الذين آمنوا، وينذرون الذين كفروا، فإن الكافر إذا أنذر فأسلم كانت النذارة بمنزلة البشرى للمؤمن، إذاً فالنذارة تختلف: فقد تكون نذارةً محضة أو بشارة على حسب الأثر المترتب، فرؤيا ابن عمر وإن كان ظاهرها مؤلماً إلا أن عاقبتها كانت حسنة، استفاد منها ابن عمر، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً.(123/4)
قص الرؤيا على العالم الناصح
لكن ينبغي أن لا يقص الرجل رؤياه إلا على عالمٍ أو ناصح؛ فإنه إذا فعل غير ذلك خسر.
ويستفاد هذا من قوله تبارك وتعالى، قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، فدل هذا على أنه لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على ناصحٍ محق، أو على عالمٍ بها، وقد ورد هذا صريحاً في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فليحمد لله وليستبشر بها)، هذا القدر أيضاً في صحيح البخاري، لكن زاد مسلم: (ولا يقصها إلا على من يحب).
فإن الرؤيا إذا كانت بشرى فصادفت سامعاً ماكراً قلبها عليه، فلا تكون في حقك رؤيا إنما تكون تحزيناً حينئذٍ: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، فقد علم يعقوب عليه السلام حسد إخوته له، فإذا قال لهم: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، حسدوه، وقلبوا له التأويل، لذلك لا ينبغي أن تقص الرؤيا إلا على عالم، فإن الرؤيا لها ضوابط في التفسير، وليس كما يقول الناس: الرؤيا بالعكس، هذا غير صحيح، فقد يرى الإنسان في الرؤيا شيئاً سيئاً ويقع كما رأى، وسأذكر نماذج لذلك الآن، لكن إذا قصها على عالم -وعنده ضوابط التأويل- استفاد الرائي.(123/5)
استخدام الألفاظ الحسنة لتعبير الرؤيا
جاء رجلٌ إلى بعض المعبرين في زمان ابن سيرين رحمه الله، وقال: إني رأيت أن أسناني سقطت، فقال له: يموت أولادك، فحزن الرجل، ولم يقتنع بهذا التأويل فذهب إلى ابن سيرين، وابن سيرين كما يقول الإمام الذهبي: كان له تأييد إلهي في تأويل الرؤيا، وصار علماً على المعبرين، فقال يـ ابن سيرين: رأيت أن أسناني سقطت فقال لي فلان: سيموت أولادك، فقال له: أبداً، بل سيبارك الله في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، مضمون التفسيرين واحد، إذا طال عمره حتى يكون آخرهم موتاً قطعاً سيموت أولاده قبله، لكن انظر إلى حسن الإلقاء، حسن التعبير عن الرؤيا، حتى وإن كانت مؤلمة، وهذه لا يفعلها إلا عالم أو ناصح.(123/6)
الرؤيا قد تتحقق في الواقع
قد تقع الرؤيا كما رئيت وتتحقق في الواقع، كرؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل غزوة أحد، قال: (رأيتُ أنني في درعٍ حصينة، هززت سيفي فانقطع رأسه، ورأيت بقراً تنحر والله خير)، فاقترح عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يهاجمهم، قال: نبقى في المدينة، فإن هاجمونا صددناهم، فقالوا: والله يا رسول الله ما دخلوها علينا في جاهلية، أفيدخلونها علينا في الإسلام؟! قال: فشأنكم إذاً؛ فلما خرجوا من عنده لام بعضهم بعضاً وقالوا: رددنا على النبي صلى الله عليه وسلم رأيه، فرجعوا إليه، قالوا: يا رسول الله ما ترى؟ وكان قد لبس اللأمة، واللأمة هي درع الحديد يلبسها المقاتل في القتال يتقي بها ضربات السيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه أن يضعها حتى يقاتل).
فأول النبي صلى الله عليه وسلم سيفه الذي انقطع بمقتل رجلٍ من أهله، فكان حمزة، وأول البقرة التي تنحر: بنفرٍ من أصحابه يقتلون، فقتل سبعون.
لذلك قال: والله خير.
فرأى هذه الرؤيا فوقعت كما رأى فليس قلب الرؤيا بالعكس ضابطاً من ضوابط التأويل، لا.
لكنها تحتاج إلى عالمٍ ناصح.(123/7)
آداب الرؤيا الصالحة والمكروهة
الرؤيا الصادقة لها آداب، والرؤيا المكروهة لها آداب إذا رأيت الرؤيا تحبها فاحمد الله وبشر بها من تحب، وإذا رأيت الرؤيا تكرهها، فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنها منه، ثم ابصق عن يسارك ثلاثاً إذا انتبهت من نومك، ولا تحدث بها أحداً أصلاً؛ فإنها لا تضرك، ثم قم فصل وتحول عن جنبك الذي كنت نائماً عليه، وقد ورد هذا في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ومسلم: (وإذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليبصق حين يفزع من نومه عن يساره ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً؛ فإنها لا تضره) وفي صحيح البخاري قال: (ثم يصلي ويتحول عن جنبه الذي كان عليه).
ما هو الضابط بين الحلم وبين الرؤيا؟ الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (الرؤيا الصالحة من الله) وقال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها)، ولا شك أن ما يراه الإنسان من تلاعب الشيطان به من جملة ما يكره، فإن كان الأمر كذلك، فكيف قص ابن عمر رؤياه التي يكرهها على الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يكتمها، ولم يبصق عن يساره ثلاثاً؟ الضابط ما بين الرؤيا التي تدخل في جملة الرؤيا الصالحة وتكون في النذارة، وما بين الرؤيا التي لا ينبغي أن يقصها المرء أصلاً: أن الرؤيا التي لا ينبغي أن يقصها المرء أصلاً: هي التي لا منفعة منها، كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في صحيح مسلم، جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت رأسي قطعت وأنا أتبعها، رأسه قطعت وتطير أمامه، وهو وراءها يريد أن يأخذها- فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به).
ترى مثلاً أنك تهبط من جبل عالٍ أو أنت تطير وهناك شيطان يطير وراءك، أو نسر يطير خلفك، وبعد أن ينتبه الإنسان من نومه ويجد نفسه على السرير يحمد الله، فهذه الرؤيا من الشيطان، ولذا قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: لا تقصها إذا أصبحت؛ لأنها من تلاعب الشيطان.
إذا رأى الرجل شيئاً من النار، عذاب النار، أو مشتقات النار، وألقي في روعه أن هذا من حيات النار مثلاً أو من ثعابين النار فعليه أن يطلب التأويل، أما إذا رأى رأسه تطير وهو يطير وراءها، فأي شيء في ذلك؟! وضابطٌ آخر ذكره العلماء وهو إذا كان المرء يعلم أنه من الصالحين، بأن يقوم بما افترض الله عليه ظاهراً، ويجتهد في تصحيح نيته؛ فإذا رأى ما يكره فليقصها على عالمٍ أو ناصح، فإن هذه أيضاً تدخل من جملة النذارة؛ أما إذا علم المرء من نفسه تقصيراً فيما فرض الله عليه، وعدم تصحيح لنيته فهذا من تلاعب الشيطان به.(123/8)
تأويل الرؤيا بما فيها من ألفاظ
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن رؤيا يأخذ تأويل الرؤيا من الأسماء أو من بعض الألفاظ الموجودة في الرؤى، كما قال له رجل: رأيت أنني أكل من رطب ابن طاب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرى أن ديننا طاب)، فحمل الرؤيا على المحمل الحسن من الاسم، وهذا أحد ضوابط التأويل.
كما قابل النبي صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب في أول الإسلام، فقال له: ما اسمك؟ فقال: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح، فأخذه من اسمه، جاء قومٌ وكانوا قد أسلموا فقال: ممن القوم؟ قالوا: من غفار، قال: غفر الله لها، وأنتم؟ قالوا: من أسلم، قال: سلمها الله، فأخذها من الاسم أيضاً؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير الاسم القبيح لأجل هذا.
(جاءته امرأةٌ قال لها: ما اسمك؟ قالت: عاصية، قال: بل أنت جميلة)، وسماها جميلة كما في صحيح مسلم، وجاءه رجلٌ قال له: ما اسمك؟ قال: غاوي بن ظالم، قال: بل راشد بن مقسط فغيره.
وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما اسمك؟ قال: طارق بن شهاب، قال: ممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: قال: فالحق بيتك فإنه يحترق.
فرجع الرجل إلى بيته فوجده احترق.
فيأخذ مفسر الأحلام من الاسم أو من بعض مفردات الرؤى تأويل الرؤيا، فيذكر الذي يستحسنه السامع، ويكتم بعض الذي يكرهه، إن وقع في روعه ذلك لمصلحة الرائي.
كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت شجرةً ينطف منها السمن والعسل، والناس يأخذون منها، فمن مقلٍ ومن مستكثر، ثم رأيت سبباً ممدوداً بين السماء والأرض -السبب هو الحبل يقول هذا الكلام للرسول عليه الصلاة والسلام- فتعلقت به فعلوت، فتعلق به رجل بعدك فعلا، فتعلق به رجلٌ بعده فعلا، فتعلق به رجلٌ بعده فانقطع، ثم وصل له بسبب فعلا، فقال: أبو بكر: بأبي أنت يا رسول الله لأعبرنها، أي: دعني أؤولها، قال: نعم.
قال: أما الشجرة: فهي الإسلام، وأما الشيء الذي ينطف منها: أي يقطر، فهو القرآن، والناس من مستقلٍ منه ومن مستكثر، وكلما استكثر أخذ حلاوة وشعر بها، وأما السبب فهو الحق الذي أنت عليه، يعليك الله به، ثم يأخذ به رجلٌ بعدك، فيعليه الله به، ثم يأخذ به رجل بعده فيعليه الله به، ثم يأخذ به رجل بعده فينقطع، ثم يعليه الله به، بأبي أنت يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال له: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فحلف عليه وقال: بالله عليك ما الذي أخطأت فيه، قال: لا تقسم، وفي رواية الدارمي، قال: فأبى أن يخبره.
لذلك نحن لا ندري على وجه التحديد ما الذي أخطأ فيه أبو بكر في التأويل؛ لكن تأويلها جزءٌ منها ظاهر، وهو السبب الحبل المدود من السماء إلى الأرض، أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ثم أخذ به أبو بكر فعلاً، ثم أخذ به عمر فعلاً.
ثم أخذ به عثمان فانقطع به، وتلك الفتنة التي جرت في أواخر عهد عثمان، وقتل بسببها، واقتتل المسلمون بسببها، ثم وصل له فعلا.
ويمكن أن تعلم هذا أيضاً في حديث آخر في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستاناً وأمرني بحفظ الباب، وقال: لا يدخلن أحد؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وفي البستان بئرٌ، فكشف عن فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فجاء أبو بكر، قلت: على رسلك، أي تمهل، ودخل، فقال: يا رسول الله أبو بكر في الباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له بعدما بشره بالجنة، فدخل أبو بكر وجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فقال أبو موسى الأشعري يحدث نفسه: إن يرد الله بفلان خيراً وهو أخوه، فليأت به الساعة لماذا؟ لأنه يقول له: ائذن له وبشره بالجنة، إذاً استفاد من البشرى، قال: فجاء عمر، قلت: على رسلك، فدخل فقال عمر بالباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة، ودخل عمر، فجلس بجانب أبي بكر فكشف فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به، ويقصد أخاه، قال: فجاء عثمان فقلت: على رسلك، فقلت: عثمان بالباب؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهذا هو السبب الذي انقطع، فانقطاع الحبل كان من هنا، ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال: عثمان الله المستعان! ودخل فلم يجد مكاناً، فجلس قبالتهم في الجانب الآخر من البئر.(123/9)
ضابط في الغيبة
إذا كان الكلام على جهة التعريف بالأشخاص فلا مانع، أما إذا كان على جهة التنقيص فلا يجوز، ومن هنا نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل القوم الجعد القصار)، وبين قول عائشة رضي الله عنها: (حسبك منها أنها قصيرة)، السيدة عائشة رضي الله عنها خرجت الكلمة منها على جهة التنقيص، لذلك كانت حراماً وكانت غيبة، إذا لا مصلحة من ذكر أنها قصيرة، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل القوم الجعد القصار)، فإنه جرى مجرى التعريف لهم، كما لو قلت أنت: فلان الأعرج الذي يسكن بجانبنا، هل تعرفه؟ أو الأعمى أو الأحول، كل هذه العيوب، أنت أجريتها مجرى التعريف؛ لكن إذا خرجت من التعريف إلى التنقيص أو التحقير كان غيبة؛ كأن يأخذ المتكلم من نفس اسم الإنسان سباً، أو يجزئ الاسم إلى مقطعين فيصبح سباً أو لعناً أو نحو ذلك؛ فهذا كله محرم لا يجوز؛ إذ لا مصلحة في ذلك إلا الهجاء وهو محرم.
مثل نفطويه - نفطويه أحد علماء النحو الكبار- ولقب بـ نفطويه، على مقياس سيبويه؛ لأنه جرى على طريقة سيبويه في النحو.
كان بين نفطويه وبين ابن دريد، صاحب كتاب جمهرة اللغة، ما يكون بين الأقران من التنازع والتنافر، فقال نفطويه: ابن دريد بقرة فيه لؤم وشره قد ادعى بجهله وضع كتاب الجمهرة وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره يقول: إن كتاب الجمهرة أصلاً ليس من تأليف ابن دريد، بل أخذ كتاب العين، وسطا عليه، وقدم فيه وأخر، ونسبه لنفسه، فـ ابن دريد هجاه وقال له: من سره أن لا يرى فاسقاً فليجتهد أن لا يرى نفطوَيْه أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي نواحاً عليه نفطويه: نفط، أي: بترول، أحرقه الله بالنصف الأول من اسمه، يعني بالجاز، وجعل الباقي صراخاً عليه: ويه ويه، ويه.
فهذا قطع اسمه نصفين على سبيل الهجاء وعلى سبيل الذم، وهذا لا يجوز.
وقد اختلف العلماء في ضبط اسم نفطويه وكل من جرى هذا المجرى، هل هو نِفْطَوَيْه، أو نِفْطُويَه، فأهل اللغة يقولون: (نفطُويَة، سِيُبَوُيَة، زَنْجُوُيَة، مَنْجُوُيَة)، هذه كلها ألقاب لعلماء، وأهل الحديث يقولون: (سِيْبَوَيْه، نِفْطَوَيْه، زِنْجَوَيْه، مِنْجَوَيْه وهكذا)، وطبعاً واضح أن أهل الحديث أخف وألطف؛ لأن نطقهم نفسه لطيف، فهم يذكرون الضبطين في نفطويه، فـ ابن دريد على ضبط أهل الحديث: من سره أن لا يرى فاسقاً فليجتهد أن لا يرى نفطوَيْه إلى آخر ما قال.
ابن بسام جرى على مجرى علماء اللغة، فقال: -وهذه الرؤيا ادعاها ابن بسام وسنذكر حكمها عند الكلام على الرؤى وأحكامها-: رأيت في النوم أبي آدماً صلى عليه الله ذو الفضل فقال أخبر ولدي كلهم من كان في حزنٍ وفي سهل بأن حوا أمهم طالقٌ إن كان نفطوية من نسلي فهو حين: رأيت في النوم أبي ويقص هذا الكلام، فهذا الفعل محرم؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (من أرى عينيه ما لم تريا، فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: (من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد شعيرة وليس بفاعل)، وهذا سنذكره عند الكلام على الرؤى وأحكامها، أن الإنسان لا يجوز له أنه يدعي أنه رأى حلماً، لكي يخيف شخصاً مثلاً، رجل عرف عنه بأنه يأكل أموال اليتامى ظلماً، فيقول شخص من أهل الخير -وهو كاذب في ذلك- لأبناء هذا المعتدي: رأيت أباكم في المنام موثقاً بالقيود، وإذا بشخص يضربه قائلاً له: أموال اليتامى يا مفتري أكلت مال النبي، وغايته من اختلاق هذه الرؤيا تخويف هذا الرجل الذي يأكل أموال اليتامى، فلا يجوز أن يفتري هذا الحلم بسبب الخير هذا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام منعنا أن نفتري في الأحلام؛ لأن الأحلام مبشرات، والأحلام لا يؤخذ منها أحكام شرعية؛ لأن الأحلام مبشرات، وهي جزء من النبوة، فلو ترك الناس هكذا، للعبوا بالنبوة، كما قال مالك: أيلعب بالنبوة؟!(123/10)
الأمور التي لا تحرم فيها الغيبة
القدح ليس بغيبة في ستة متظلم ومعرف ومحذر ومجاهر فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر(123/11)
حكم من استفتى فذكر غيره بما يكره
(ومستفتٍ) إذا أراد رجل أن يستفتي حتى لو كشف بعض ما يتأذى منه خصمه أو جاره أو زوجه، فإنه لا جناح عليه، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (جاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح -الشح: أشد البخل- فهل عليَّ أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ (ووقع في بعض الطرق: بغير علمه) فقال لها عليه الصلاة والسلام: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
فأذن لها أن تأخذ من مال زوجها الشحيح بغير إذنه، الشاهد من الحديث قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح)، ولو علم أبو سفيان: أنه وصف بالبخل في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام لتأذى من ذلك، لاسيما أن البخل يتأذى منه كل النبلاء، وأقول: النبلاء؛ لأن بعض الناس لؤماء، يرى أحدهم أن البخل حنكة وتدبير للمعاش، مع أن البخل من أدوأ الأدواء؛ كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام، لما قال: (يا بني سلمة من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس، لكننا نبخله -وفي رواية- لكنه بخيل، قال: وهل هناك داء أدوأ من البخل؟!) يعني أقبح ما يوصف به شريف القوم البخل، إنما سيدكم هو عمرو بن الجموح، وكان فقيراً ضعيفاً متضعفاً.
ولا شك أن أبا سفيان لو علم أنه نسب إليه الشح لانزعج، لكن المرأة ما قصدت أن تذهب وتفضح أبا سفيان، إنما ذهبت تستفتي -وهنا تنبيه: بعض النساء يجلسن مع بعض، وتقول: أنا لا أجد ما آكل، زوجي لا يطعمني، أو الولد يقول على أبيه كذا، أو الأب يقول كذا على ابنه، من باب الشكوى والتنفيس، ولكن أنت تقولين هذا الكلام لمن لا يستطيع رفع الظلم عنك، فإذا كانت شكواك لمجرد التنفيس، فهذه من الغيبة المحرمة، إلا إذا قلت هذا الكلام لمن تطلب منه المشورة التي هي قائمة مقام الفتوى أو مساوية للفتوى، فلان بخيل ولا يؤكلني، ماذا أفعل؟ إذا كانت المسألة هكذا، خرجت مخرج الفتوى، أما إذا كانت شكوى محضة، لا ينبني عليها فائدة، فهذا كله داخلٌ في باب الغيبة المحرمة.(123/12)
حكم الغيبة لإزالة المنكر
ومن طلب الإعانة في إزالة منكر؛ لأنه لا يمكنك إزالة المنكر إلا إذا وصفت المنكر للذي ترجو منه العون، ولا يصح أن تقول له: انهض معي لنزيل المنكر دون أن تخبره ما هو المنكر ومن الذي قام به، فإذا لم تخبره فإنه لن ينهض معك لتغيير هذا المنكر ولن يحرك ساكناً.
كما روى الإمام أبو داود وابن الجارود في المنتقى: أن شخصاً ذهب إلى مسجد من المساجد، فسمع جماعة يقرءون قرآناً عجباً، ليس مثل القرآن الذي سمعه الجن {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2] فقد كان قرآناً عجباً بالنسبة لهم، وهو قرآن يهدي إلى الرشد، إنما سمع قرآناً عجباً يهدي إلى الفقر، سمعهم يقولون: واللاقمات لقماً والخابزات خبزاًً والعاجنات عجناً! فأول ما سمع هذا الكلام ذهب إلى ابن مسعود، وقال له: سمعت الآن أقواماً يقرءون كذا وكذا، وكان أميراً على الكوفة، فأرسل صاحب الشرطة فجاء بهم؛ فكان أحدهم رسول مسيلمة الكذاب الذي أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ مسيلمة بعث رسولاً لكي يقول للرسول صلى الله عليه وسلم آمن بي! فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك)، وأبى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقتله؛ لأنه رسول، فلما وجده ابن مسعود قال: والله لأقتلنك، وأمر به فقتله، لماذا؟ لأنه انتفت عنه الصفة التي من أجلها عُصِم دمه، امتنع الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لولا أنك رسول لقتلتك)، لكنه الآن ليس رسولاً.
إذاً هذه الأوصاف الستة التي لا يكون فاعلها مغتاباً ولا يأخذ حكم المغتاب: القدح ليس بغيبةٍ في ستة متظلم ومعرف ومحذر ومجاهرٍ فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم على الخير.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.(123/13)
حكم تعريف شخص ما بعيب فيه
تعريف شخص ما بعيب فيه كالعمى والعرج وغيرها، لا يجوز إذا خرج مخرج التنقيص، وأما إذا خرج مخرج التعريف فهذا لا إشكال فيه، وهذا هو القسم الثاني: الذي لا تكون فيه الغيبة محرمة.
القدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلم ومعرفٍ ومحذر(123/14)
التحذير لا يدخل في الغيبة المحرمة
المحذر هو من يقول مثلاً: لا تكن كفلان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ كما في الحديث الصحيح: (لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه).
فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما ذكر فلاناً تنقيصاً له وذماً، أنه كان يقوم الليل فتركه؟ فحذره أن يكون مثله، وكما لو ذهب بعض الناس إلى القاضي أو إلى الحاكم، فقال: إن فلاناً يفعل كذا، وأخشى أن يفعل كذا وكذا، واحذر من فلان فإنه يفعل كذا وكذا، وذكرهم بالسوء، فهذا كله جائز.(123/15)
حكم غيبة أهل البدع
و (مجاهر فسقاً) فلو جاهر الرجل بالفسق؛ فإنه ليس لأهل المعاصي حرمة، وليس لأهل البدع من باب أولى حرمة، ولذلك لما سئل الحسن، أنه يوجد رجل فيه بدعة فهل أفضحه؟ قال: نعم، وقال: ليس لهم حرمة.
وهذا ظاهر من الحديث الأول في صحيح مسلم، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه يحيى بن يعمر، لما قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق أن لقينا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً منه، فقلنا: أبا عبد الرحمن إنه ظهر أناس يتقفرون العلم، ويقرءون القرآن، وذكر من شأنهم -أي من عباداتهم ومن جدهم ومن اجتهادهم ونحو ذلك- وأنهم يقولون: إن الأمر أنف -بمعنى: أن الله لا يعلم بالأمر حتى يحدث- فقال عبد الله بن عمر: إذا لقيتهم، فأخبرهم أنني منهم براء، وهم بريئون مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أنفق أحدهم مثل أحدٍ ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم ساق الحديث.
فـ عبد الله بن عمر تبرأ منهم، مع أن ولاية المؤمن للمؤمن من أعظم القربات، إلا أنه تبرأ منهم، ووقع فيهم وهم غائبون، فلا شك أن هؤلاء لو علموا أن ابن عمر تبرأ منهم لأحزنهم ذلك، ومع ذلك لم يأبه عبد الله بن عمر بذلك، ولولا ذلك ما عرف المسلمون أهل البدع من أهل السنة، ونحن نجد أن العلماء صنفوا في أهل البدع كتباً، وذكروهم بأسمائهم، وذكروا قبح مقالاتهم ليحذرهم المسلمون.
ولذلك الإمام أحمد لما سئل عن تبيين بدعة المبتدع، قال: نعم هي أولى من جهاد الكفار، وهذا كلام كله فقه؛ لو قيل -وهذه هي الليلة الختامية لـ إبراهيم الدسوقي - لو قلنا لكم جميعاً وقلنا للمسلمين جميعاً في سرادق عظيم: كيف يسمح بهذا المحفل الشركي في ديار المسلمين؟! كيف يطوف بهذا القبر ألوف مؤلفة، يقصدونه كما نقصد نحن البيت العتيق؟! وجعلنا نستنفر الناس والهمم تجد أن الذي سيقف بجانبك قليل، وإذا دعوت الناس أن يقفوا معك ضد اليهود الكفار، الذين عداوتهم ظاهرة، فنحن لا نحتاج إلى جهد أننا نثير الجماهير حتى الغافلة في مقاومة الكافرين.
لذلك كان القدح في المبتدع أولى من القدح في الكافر؛ لأن الكافر عداوته ظاهرة لكل أحد، والكل يستنفر ضده.
لما عرضت مسرحية رسمت فيها الكعبة، وأتوا بامرأة عارية، ترقص على الكعبة من فوق، وبعد ذلك يخرج بئر بترول من تحت الكعبة؛ من أجل أن الذين عندهم البترول والكعبة في أرضهم هذا هو سلوكهم، ونتساءل: كيف هانت الكعبة حتى ولو بالكرتون على مثل هذا المخرج؟ وكيف أجيزت من الرقابة؟ وكيف طلعت هذه العارية على مسرح الجماهير؟ هذا العمل مثل ما كتب الشاعر في صحيفة الأهرام منذ أربع سنين، حين قال: (الله في مدينتي ينام على الرصيف)، تقول له: لماذا؟ يقول لك: يا أخي! الله المقصود به: الفضيلة، الخير، هذا التعليل العليل الذي تكلم به.
نحن نعرف أن هذا اللفظ الجليل (الله) لم يسم به أحد إلا الله؛ عندما يقول: (الله في مدينتي ينام على الرصيف) هذا كلام كفري صريح لا يحتاج إلى تأويل معنى آخر.
فهناك أشياء معينة الجماهير كلها يمكن أن تتبناها، على رأس ذلك إذا كان معسكر العدو من الكافرين الذين يتربصون بالمسلمين وعداوتهم ظاهرة، بخلاف المبتدعة: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويأكلون من ذبائحنا ويستقبلون قبلتنا، لذلك كان هتك هؤلاء المبتدعة واجباً، وهذا داخل في جملة التحذير، أنا أقول: لا تقرءوا لفلان ولا تأخذوا الفتوى من فلان، فإنه جاهل أو أنه يلعب بدينه، أو أنه كذا وكذا، وأذكر فيه صفات، لو علم بها لانزعج مني.
وسبق أن قلنا أن أهل المعاصي ليس لهم حرمة، وأن أهل البدع داخلون في ذلك من باب أولى.(123/16)
الانتماء لله ورسوله
الانتماء لله ورسوله من أسباب انتصار السلف على أعدائهم وظهورهم عليهم؛ لأن الانتماء لله ورسوله يُشعر المرء بالعزة بدين الله وأنه منتمٍ إلى الله عز وجل، فيبذل كل ما يستطيع لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته، وقد كان في حياة السلف الكثير من الصور التي تدل على صدق انتمائهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.(124/1)
ترك الانتماء لله ورسوله من أسباب الوقوع في المهالك
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الانتماء لله ورسوله هو من أسباب انتصار السلف على أعدائهم وظهورهم عليهم، لذلك ينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم صدق الانتماء لله ورسوله، ونحن في زمان صار فيه ترك الانتماء قاعدة من قواعد البحث العلمي، وكتبت فيه رسائل دكتوراه وماجستير، وأطلقوا عليه اسم: الانحياز العلمي؛ حتى أصبحوا يحذرون منه ويقولون: لا تنحاز لفلان ولا علان.
هذا الحياز العلمي المزعوم هو الذي جعل رجلاً مثل الدكتور طه حسين -الذي صار عميد الأدب العربي مع وجود الأدباء الأفاضل مثل الرافعي مثلاً- هو الذي جعله يذهب إلى القول بأن القرآن الكريم ينبغي أن نعرضه للنقد ككتاب أدبي من كتب الشعر والنثر، وطرد من الأزهر وفصل، وكفروه، لكنه تاب والله أعلم.
الانتماء هو الذي رفع الغرب، فهم مع أنهم لا يعبدون الله لكن ينتمون إلى بلادهم محبون لها، لذلك صنعوا الأعاجيب لها.
الانتماء لله ورسوله الركن الذي ميز الصحابة، ووجد في هذا العصر من يعتدي عليهم بكلام لا يليق بهم وهؤلاء لو ركب بعضهم بعضاً حتى بلغوا عنان السماء ما وصلوا إلى شسع نعل أحدهم، وقد وجدت لأحدهم كتاباً يتحدث فيه عن الصحابة والجنس، ولما قرأت بعض كلامه اقشعر جلدي والله؛ فقد تكلم عن عمر بن الخطاب كلاماً لا يقوله كافر، مع ما لـ عمر من المكانة عند جماهير المسلمين، فالذين يعتدون على الصحابة دمهم مباح.
ما هي جريمة عمر التي عرضها هذا الكاتب؟ قال في كتابه: إن عمر بن الخطاب لم يكن رجلاً نبيلاً؛ لأنه لما أراد أن يتزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وكانت فتاة صغيرة، استخدم سلطته كأمير المؤمنين، وكان يقول لـ علي بن أبي طالب: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب مقطوع إلا نسبي، وكل سبب مقطوع إلا سببي) وأنا أريد أن يكون لي سبب ونسب بآل البيت، فكأن هذا الكاتب يريد أن يقول: إن عمر كاذب؛ لأنه يريد المتعة، وإنما قال ذلك ذريعة للوصول إلى هدفه.
يقول الكاتب: برغم معارضة الحسن وعقيل لهذا الزواج إلا أن جهود ابن الخطاب أثمرت، وهذه الأساليب المتباينة عهدناها من الحكام في كل زمان ومكان: أن أقوالهم تخالف أفعالهم؛ لأن ابن الخطاب قد وعظ الناس وأمرهم بتخفيف المهور، إلا أنه لما أراد أم كلثوم أمهرها أربعين ألفاً.
وقصة الاعتراض (أصابت امرأة وأخطأ عمر) قصة منكرة كاذبة، ما كان لمثل عمر أن تخفى عليه الآية وتذكره امرأة وهو المعَلم، لا يصح سندها أبداً، لكن هذه هي مشكلتنا؛ وهي أننا نصدق كل ما يقال لنا، ويجب أن نعلم أنه ما من مبتدع ولا مبطل يحتج بحجة إلا تكون أحد شقين: إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة.
يقول الكاتب: وبعد ذلك وافق علي بن أبي طالب؛ لأن عمر بيده مقاليد الأمور، ويعطي للصحابة باجتهاده، فطعن في علي بن أبي طالب أيضاً بأن زوجه ابنته لأجل المال؛ حتى لا يمنع عطاءه من بيت المال.
وبعد ذلك يستمر الكاتب فيقول: وبعد ذلك جاءت أم كلثوم فلم يتحمل عمر على طول كشف عن ساقها -هذا الكلام يكتب عن عمر بن الخطاب - فقامت أم كلثوم، وقالت له: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك.
هذا الجزء من القصة حدث فعلاً إلا أن لها تأويلاً وهو: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يصاهر علي بن أبي طالب للسبب المذكور، قال له علي بن أبي طالب: إن أعجبتك فهي امرأتك، فـ عمر لم يأتِ لخطبتها إلا وقد أعجبته، فصارت بذلك زوجة لـ عمر، لكن أم كلثوم لم تكن تعلم بذلك.
كما أن هذا الكاتب يصور الصحابة الأجلاء على أنهم طائفة كان كل همهم النساء! يرمونهم بدائهم.(124/2)
صور من الانتماء لله ورسوله في تاريخ السلف(124/3)
سلمة بن الأكوع وصدق الانتماء
أيها الإخوة الكرام! صدق الانتماء يطيل النَّفس في البذل والجهاد، قصرت أنفاس كثير من الناس بضعف الانتماء أو بعدم وجوده، وخذ هذا المثل الذي ما سمعته أذناك ولا رأته عيناك: صحابي جليل لا يعرفه أكثر الناس، وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قص قصة عجيبة وخبراً غريباً على شجاعته وبذله وقوة قلبه، وجرأة جنانه على الأحداث، وهذا الحديث حفظه لنا الإمام مسلم في صحيحه رحمة الله عليه، قال سلمة: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وكنا أربعة عشر مائة-ألف وأربعمائة- فجاءوا على البئر وقد عطش الناس وعطش الظهر -الحيوانات- قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم على جبل ركية -أي: على حافة البئر- فإما دعا وإما بصق، قال: فجاش الماء فسقينا واستقينا، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة، قال: ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة تحت الشجرة فكنت في أوائل من بايع، ثم دعا الناس إلى البيعة، فقال لي: ألا تبايع يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! قد بايعت في أوائل الناس، قال: وأيضاً، فبايعته فدعا الناس إلى البيعة ثالثاً، فقال لي: ألا تبايع يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! بايعتك في أوائل الناس وفي وسط الناس، قال: وأيضاً، فبايعته للمرة الثالثة، وكان قد أعطاني حجفة أو درقة -وهي تشبه الترس الذي يستخدمه الرجل في القتال- لما رآني عزلاًًً من السلاح، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين درقتك التي أعطيتك؟ قلت: يا رسول الله! لقيت عمي عامراً وهو عازل من السلاح فأعطيته إياها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليّ من نفسي) قال سلمة: وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله أخدمه وأسقي فرسه، وقد تركت مالي وأهلي مهاجراً إلى الله ورسوله.
قال: وراسلنا المشركون في الصلح حتى اختلط بعضنا ببعض ومشى بعضنا في بعض -يعني: وضعت الحرب أوزارها- قال: فأتيت شجرة فكسحت الشوك التي تحتها -يعني: كنسته- واضطجعت، فجاء أربعة نفر من المشركين فوقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم -لا يستطيع أن يقتلهم؛ لأن الحرب وضعت أوزارها وهم في معاهدة- قال: وتحولت إلى شجرة أخرى، ونام المشركون الأربعة تحت الشجرة وعلقوا سيوفهم.
قال: وبينما أنا مضطجع إذا بصارخ: قتل ابن جنيد -من المسلمين- قال: فحينئذٍ قمت فاخترطت سيفي وسللته، وأخذت سيوف المشركين فجعلتها ضغثاً في يدي -يعني: حزمة- ووقفت عليهم، فقلت: والذي كرم وجه محمد لو نظر إليّ منكم أحد لضربت الذي فيه عيناه، وأخذتهم أستاقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بعمي عامر أتى برجل من العبلات يقال له: مكرد، على فرس مجفف -مكسو- ومعه سبعون من المشركين -أتى بهم أسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوهم يكن عليهم بدء الفجور وثناه)، وعفا عنهم -يبدءون هم بالفجور ونقض العهد، ويثنون أيضاً فتكون لنا الحجة البالغة في قتلهم- وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفلوا راجعين إلى المدينة، وهم راجعون إلى المدينة كان هناك جبل بين المسلمين وبين بني لحيان من المشركين؛ لأن هذا الجبل كانت عيون الرسول صلى الله عليه وسلم عليه يحرسون المسلمين، فكان الذي يرقى الجبل يستغفر له- قال سلمة: فرقيت الجبل في هذه الليلة مرتين أو ثلاث مرات، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره -والظهر هي: النوق التي تحمل الأثقال أرسله مع غلامه رباح، ومع سلمة بن الأكوع -.
قال: فلما أصبحنا إذا بـ عبد الرحمن الفزاري -وكان رجلاً كافراً- يقتل راعي النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ كل الإبل، قال: فلما رأيت ذلك، أعطيت الفرس لـ رباح وقلت: أوصل هذا الفرس إلى طلحة بن عبيد الله، وقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المشركين قتلوا غلامه وأخذوا سلاحه.
ثم صعد على قمة الجبل ووجه صوته إلى المدينة وصرخ ثلاث مرات: واصباحاه قال: وانطلقت وراءهم وأنا أرميهم بالنبل -وكان سلمة أسرع من الخيل- قال: فجعلت أضرب رحالهم، فيسقط السهم بين أكتافهم فأقول لهم: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع -يقال عن اللئيم: راضع، وإنما سمي اللئيم راضعاً؛ لأن البخيل من العرب كان إذا أراد أن يشرب اللبن، يذهب إلى ثدي الناقة ويمصه حتى لا يسمع الجيران، فقيل: لئيم راضع-.
قال: وانطلقت وراءهم أضربهم بالسهم، قال: فوالله ما خلق الله بعيراً من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: من النوق التي يملكها- إلا خلفته ورائي -تركوا كل شيء- قال: وتركوا ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون -يتخففون رجاء الفرار- قال: حتى وصلوا إلى مضيق جبل واحترزوا مني ولم تصل سهامي إليهم، فصعدت قمة الجبل وجعلت أرديهم بالحجارة، حتى جاء ابن بدر الفزاري فقال: ما لكم؟ قالوا: نحن في هذا البرح من الغلس فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: هذا الرجل قال: ألا يقوم أربعة إليه -وسلمة على قمة تل صغير يستمع- قال: فلما أمكنوني من الكلام، قلت لهم: تعرفونني؟ قالوا: لا.
من أنت؟ قال: أنا سلمة بن الأكوع، والله لا أريد منكم رجلاً إلا نلته، ولا تريدون مني شيئاً فتحصلوه مني.
فقال رجل: أظن ذلك، فلا نقدر عليه، قال: وجلسوا يتغدون، قال: فما تركتهم يأكلون -ضربهم بالسهام والنبال- فتركوا الغداء وفروا، فجاء فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أو أربعة أولهم: الأخرم الأسدي، وثانيهم: أبو قتادة الأنصاري، وثالثهم: المقداد بن الأسود، قال: فلما جاء الأخرم أخذت بعنان فرسه، وقلت له: لا يقتطعونك، انتظر حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فقال لي الأخرم: يا سلمة! إن كنت تعلم أن الله حق وأن النار حق وأن الجنة حق فلا تحل بيني وبين الشهادة.
قال: فتركته فتناجز هو وعبد الرحمن الفزاري الذي قتل راعي النبي عليه الصلاة والسلام، فقتل الأخرم فرس عبد الرحمن وقتل عبد الرحمن الأخرم، وأخذ الفزاري الكافر فرس الأخرم وركبه وفر، قال: فلحقه أبو قتادة الأنصاري فقتله، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال: إنهم في بني غطفان، وبعد أن ظفر الرسول عليه الصلاة والسلام بظهره ذبح بلال له ناقة وجعل يشوي له من كبدها وسنامها -وكان كل هذا بالليل- فقال له سلمة: انتدبني مع مائة رجل نتبعهم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في النار -في ضوء النار- وقال: أأنت تفعل ذلك؟ قلت: أجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رَجَّالتنا سلمة)، وقفلوا راجعين إلى المدينة.
قال: وكان رجل لا يسبق شداً -يعني: سريع جداً- فجعل يقول: ألا من مسابق ويكررها، فقال له سلمة: إنك لا تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً، قال: نعم، إلا رسول الله، فقال: يا رسول الله! ائذن لي؟ قال: فاستبقنا، قال: فقفزت قفزتين ووقفت أستبقي نفسي إلخ.
فيجب علينا أن نمسك ألسنتنا عن الطعن في الصحابة؛ لأنه ليس هناك جيل يضاهيهم أبداً، فقد اختارهم الله لصحبة نبيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: نظر الله عز وجل في قلوب العالمين، فاصطفى قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ونظر في قلوب العالمين فاصطفى أصحاب محمد له.
هذه أمثلة قليلة يضيق عنها الحصر، وشجاعتهم أعظم، وبذلهم في الله عز وجل يضرب ببعضه المثل.
الانتماء قضية مصيرية؛ لأنه يبنى على هذا الانتماء دين المرء، ونحن في هذا العصر أحوج ما نكون إلى هذا الانتماء؛ لأنه في وقت ظهور الإسلام كان الناس بين مؤمن وكافر، وكان الوضع في مكة برغم شدته أخف من المدينة؛ لأنه ظهر في المدينة منافقون، يظهرون الإسلام ويكيدون ويوقعون بين الأحباب، وهذا لم يكن موجوداً في مكة، فصار العبء جسيماً وثقيلاً.
وفي عصرنا ظهر الكفر والنفاق معاً، ليس كفراً فقط، وليس نفاقاً فقط، إنما هو كفر ونفاق.(124/4)
معاذ ومعوذ وصدق انتمائهما
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينما أنا في الصف يوم بدر إذ رأيت غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -ما بين الاثني عشر سنة والأربعة عشر سنة- قال: فجاءني أحدهما فغمزني، وقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: يا ابن أخي! وما تريد منه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن التقى سوادي بسواده -أي: جسمي بجسمه أو شخصي بشخصه- ما أتركه حتى يموت الأعجل منا، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا هو دليل الانتماء (أشد حباً لله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) هذا هو داعية الانتماء.
قال: لئن التقى سوادي بسواده لا أتركه حتى يموت الأعجل منا، قال: وجاءني الغلام الآخر فغمزني وقال لي مثلما قال الأول، وكل منهما حريص على أن يقتل أبا جهل قبل أخيه؛ لأن عدو الله ورسوله لا يجوز له أن يحيا بيننا أبداً، ولا يحل لنا أن نلقي إليه بالود أبداً، هذا قادح في المحبة والانتماء.
قال: فلم أنشب -أي: لم يمر إلا وقت قصير- حتى رأيت أبا جهل يجول في الناس -أي: يضطرب، قلق، يذهب ويأتي ليس له مكان ثابت- قال: فلما رأيته، قلت لهما: هذا صاحبكما، قال: فابتدراه فضربه كل بسيفه فقتلاه، ثم اختصما على سلبه -السلب: ما يكون عند الرجل المقتول من المغانم، والمجاهد إذا قتل الكافر فله سلبه؛ متاع ويكون ملكاً للمجاهد الذي قتله، فاختصم هذان الغلامان فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل يقول: أنا -لأن قتل عدو الله ورسوله شرف- فقال عليه الصلاة والسلام: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
فقال: أرياني، فلما نظر إلى سيفهما، قال: كلاكما قتله).
الغلام الأول: معاذ بن عمرو بن الجموح، والغلام الآخر: معاذ بن عفراء، وفي رواية أخرى أن اللذين قتلا أبا جهل: هما معاذ بن عفراء ومعوذ بن عفراء.
فينبغي علينا أن نعلم أبناءنا صدق الانتماء لله ورسوله، وألا يأخذهم في الله لومة لائم؛ لأن الانتماء إنما هو موالاة الله ورسوله.
ومن صور الانتماء لله ورسوله: ما حدث في غزوة أحد (لما كانت الدولة للمشركين وصعد أبو سفيان -قبل أن يسلم- على قمة الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أسفل الجبل، وقد أشاع الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فصعد أبو سفيان على قمة الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه، قال: أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه، فلما ظن أن هؤلاء ماتوا -لأن قوام الإسلام كان بهم- قال: أُعل هبل، فحينئذٍ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).
هذا إظهار لعزة من عبده المسلمون، وإعلاء لجناب التوحيد، نهاهم أن يجيبوه أولاً، فأحسن جد الإحسان، وأمرهم أن يجيبوه ثانياً فأحسن جد الإحسان، إن ذواتنا ينبغي ألا يكون لها وزن في الله تبارك وتعالى، ذواتنا ينبغي أن تمحى، لأن هذا هو مقتضى تجريد الإخلاص لله عز وجل.
فينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم حب الله، وأن يظهروا نعمه التي أنعم بها عليهم، وقد قرأت آيات في سورة الفرقان يعدد الله فيها نعمه على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:47 - 54].
فانظر كيف يتحبب الله عز وجل إلى العباد بنعمه، ويرقق قلوبهم بها، ومع ذلك {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].
وهذه من ألطف الآيات في مدح المؤمنين؛ لأن الكافر ظهير على ربه، فلا يرى عدواً لله عز وجل إلا وضع يده في يده، بخلاف المؤمنين.
وتأمل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ} [الفرقان:55]، فالذي يعبد ما لا ينفعه إنما هو مجنون؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من ينفعه ويضره، فما وجه ذكر الضرر في الآية: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55] فكأن إلحاق الضرر بالمعبود نعمة، لأن الإله لا يكون إلهاً حتى يضر وينفع، فيضر كل نفس فيها داعية الألوهية، ولو خلي بين الجبار وبين ما في صدره لقال: أنا ربكم الأعلى، كما تجرأ فرعون على قولها فأظهرها وجبن غيره فأضمرها.
قال رجل مرة -وضرب بيده ضرباً شديداً على المنضدة وهو يخطب-: أنا الحاكم {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، هكذا قال وقد أهلكه الله {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20]، ما الذي جرأه على أن قال هذه المقولة التي تفرد بها الله تبارك وتعالى دون ملوك الأرض؟ فكل واحد منا عنده داعية الألوهية لأن يكون جباراً عنيداً، فحينئذٍ هذا لا ينفعه إلا إلحاق الضرر به، فيكون إلحاق الضرر به نعمة.
وقد كان هناك غلام ابن تسع سنين وأصيب بشلل في أطرافه الأربعة، وكان لا يستطيع أن يحرك إصبعاً واحداً، ثم امتن الله عز وجل عليه بالشفاء بالأسباب التي خلقها، فاسترد عافيته، والعجيب أنه أصبح يعمل أشق الأعمال بعد ذلك؛ وذهب إلى العراق وفعل كل شيء: زنى، وشرب الخمر أليس المرض في حقه كان نعمة؟ لو أنه بقي طريح الفراش طيلة عمره، أليس هذا أفضل من أن ترتد إليه العافية، فإلحاق الضرر بمثله نعمة ينبغي أن يشكر العبد ربه عليها، هو ضرر بالنسبة لنا، لكنه رحمة في علم الله عز وجل، إذاً: لا يستقل بمعرفة ما يصلح العباد مما يضرهم إلا الله عز وجل ورسله بتعليم الله إياهم.
القرآن مليء بهذه الآيات، قف على هذه الآيات واشرح لولدك نعم الله عز وجل وآلاءه، وإذا ذُكر الله عز وجل فينبغي أن يظهر ذلك على وجهك، وعلى طريقة جلستك، فإن كنت مضطجعاً فاعتدل في جلستك واجهر بتسبيح الله عز وجل، فالأولاد ليسوا أغبياء، فعيونهم كالكاميرات المسجلة تحفظ كل شيء تراه ثم يطبقونه فيما بعد، فهم في غاية الذكاء وإنما هم عاجزون عن التعبير.
وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يظهر ذلك عليك، قال الإمام مالك رحمه الله: كان أيوب السختياني إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نرحمه محبة له، هذا أصل الانتماء وأسه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] والصحابة عندما تمكن حب الله من قلوبهم استرخصوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الله عز وجل، واليوم أصبح ترك الانتماء قاعدة في البحث العلمي، وهو ما يعرف بالحياز العلمي، والكفار لا يحيزون، ولو حازوا فليس عندهم من يعظمونه فينحازون إليه، ونحن نعلم أن المرء بغير انتماء لا يعمل أبداً، لأن الله عز وجل خلق الناس لهدف، فلا يمكن أن يكون هناك شخص لا يعمل لهدف، فمتى ترك الكافرون انتماءهم فهم ينتمون إلى التراب، ونحن ننتمي إلى العزيز الوهاب، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، لا مساواة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فعلمهم أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم).
روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -والفتى الحزور: هو الذي ناهز الاحتلام- فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) تعلموا الإيمان أولاً، لذلك لم يكذبوا الله ورسوله ولم يتوقفوا عند آية قط، ولم يقفوا عند حديث أبداً، ولا اعترضوا على الله بآرائهم، ولا ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمحض أهوائهم؛ لأنهم آمنوا أولاً، فهان عليهم ما يجدونه بعد ذلك، فالانتماء هو البوابة إلى الإيمان.(124/5)
الأسئلة(124/6)
شبه وردود
السؤال
كيف يرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته إلى بيت رجل آخر، وهي لا تعلم أنها زوجته؟
الجواب
الحاصل يا أخي الكريم! أنها كانت ناهزت الحيض، فأنت عندما ترسل ابنتك إلى أخ لك في الله لتخبره أنك تريده أو نحو ذلك، كل هذا جائز لا شيء فيه، ولا أرى شبهة في المسألة.
أما مسألة إذا عقد الرجل على امرأته فهل يجوز له الدخول عليها؟ فمن العلماء من يقول: لا يجوز للعاقد أن يجامع المعقود عليها إلا بإذن وليها، وأنا أتبنى هذا الرأي، والحجة في ذلك: سداً للذريعة، وهب أنه جامعها ثم طلقها، فإن هذه المرأة ستكون حاملاً، فيسوء ظن الناس في عرض الرجل وفي عرض المرأة، ولذلك شرع الإشهار حتى يعلم كل الناس أن هذه المرأة تزوجت، ويوم أن تطلق ويطلبها رجل آخر يقال: هذه ثيب، لكن رجل جامعها وطلقها وهي معقود عليها، فيسوء الظن بها، أضف إلى ذلك أنه قد يعقد الرجل عليها ويعجز عن توفير السكن، وقد يظل سنة أو سنتين وهو يبحث عن السكن فتحمل المرأة، وقد حصل أن بعض النساء حملت في العقد وأسقطت لماذا؟ ليس عنده شقة.
فمنع العاقد أن يجامع المعقود عليها هو من باب سد الذريعة فقط وكفى.
مداخلة: أين الولي والشهود؟ الجواب: ليس في القصة أنه لا يوجد ولي، لا سيما وأن الحسن بن علي وعقيل بن أبي طالب كانا يعلمان بذلك.
لا تظنوا أن الصحابة تفوت عليهم هذه البدهيات التي خطرت لكم، تظن أنك فهمتها ولم تفت عليك وفاتت على علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب.
المهم أننا في هذا العصر نعاني من الكافرين والمنافقين على السواء؛ الكافرون يكفرون بالله، والمنافقون يحسنون كفرهم وينقلونه إلينا باسم العلم، والجماهير عاجزة عن الرد، فكلما تكلم أحد قالوا: هل أنت متخصص، الكلام هذا لأهل التخصص.
ومثال ذلك: القضية الطارئة على الساحة الآن؛ وهي قضية الاستنساخ: وذلك عندما يقوم المنافقون بتمهيد الطريق لهذه القضية وتغطيتها، ويتهمون الله عز وجل، ويكتبون ذلك على صفحات الصحف، فيوهنون من عزم المؤمنين.
فالمؤمنون يتمنون لو يقوم بعض العلماء بالرد على هؤلاء ليشفوا صدور المؤمنين، ويردوا كيد الكائدين، حتى لا تقم لهم قائمة، وحتى لا يفكر أمثال هؤلاء أن يكتبوا يوماً ما على صفحات الصحف والمجلات، بالطعن في الدين أو مخالفة رسول رب العالمين فعندها ينهزمون ويرتدون على أعقابهم خائبين خاسئين، وإلا فكم هي القضايا التي ينشرونها بين الفينة والأخرى وآخرها ما سمعتم بقضية الاستنساخ التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يخزي أعداء هذا الدين والمتربصين به ويجعل الدائرة عليهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(124/7)
أين العلماء الربانيون؟
إن مشكلة عصرنا الحاضر الذي طغى عليه الجهل هو غياب العلماء الربانيين؛ فبغيابهم غابت دعوة الحق، وبغيابهم رفع الأقزام رءوسهم لينشروا الباطل، ويسفهوا علم الكتاب والسنة، ويشككوا فيهما بإيراد الشبه والضلالات العقلية والكلامية، ولا مخرج من هذا إلا بعودة أمثال هؤلاء العلماء، فعلينا أن نسعى جاهدين في تربية أبنائنا التربية الصحيحة، وتعليمهم القرآن والسنة والأخلاق، لنرتفع بمستوى هذه الأمة إلى المكانة التي تستحقها إن شاء الله.(125/1)
ظهور أقزام العلمانيين عند غياب العلماء الربانيين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فقد اخترت عنوان هذه المحاضرة هذا
السؤال
أين ذهب العلماء الربانيون؟ وكيف السبيل إلى وجدانهم؟ ذلك أن العالم الرباني وحده هو الوقود الحقيقي لحركة هذه الأمة، والذي يتطلع إلى سير السالفين ويدمن الاطلاع عليها يرى عشرات المئات بل الألوف من هذه النماذج المشرفة، التي نفتقر عشرة منها أو نفتقر خمسة منها في عالمنا الإسلامي الكبير المنتشر الأرجاء، ولست مبالغاً إذا قلت: إن الرجل إذا أدمن الاطلاع على سير السالفين شعر بغربة عميقة جداً، بين هذا الواقع السلبي الذي يعيشه المسلمون الآن، وبين ماضيهم المشرق جد الإشراق، على حد قول شوقي فيما قال: بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات هنالك نوران: بيدك قرآن وسنة، ومع ذلك كلما وجدت حفرةً سقطت فيها! لا يجدي هذا النور العظيم مع رجل لا يرى! إن مشكلة هذه الأمة: عدم وجود العلماء الربانيين الذين يأخذون بنواصي أفرادها إلى الخير، ولو أن كل مسلم أمعن النظر في هذه المصيبة التي ابتلي المسلمون بها الآن أقل ما يمكن أن يفعله أن يريق الدموع، أما الأسى والحزن فهذا محله القلب، وإلا فهذه الرءوس الكثيرة جداً في عالم المسلمين اليوم الجاهلة، التي تأخذ بنواصيهم إلى كل شر، ولا أدري بأي قرآن أو بأي سنة أو فهم لأصول المسلمين ينظر هؤلاء إلى النصوص الشرعية! أنا عجبت أشد العجب -ولعلكم عجبتم لأن هذا أمراً كان مشهوراً في الجرائد الرسمية- من هذا الفاصل الهزلي الرديء الذي نشرته (صحيفة الأهرام) في شهر مارس الماضي عن النقاب.
وهذا الصحفي - أحمد بهاء الدين - تاريخه معروف لدينا جميعاً، لم يعجبه حكم المحكمة الإدارية أن الطالبات لهن الحق في ارتداء النقاب؛ لأن هذا من الحرية الشخصية، فوقف على كلام رجل يوزع جهله يمنةً ويسرة، فلخص منه كلاماً يدل على أن هذا الرجل لم يعرف أين باب الإسلام.
أبجدياته الإسلام يجهلها هذا الرجل الذي صنف كتاب (حجاب ونقاب في نظر الدين) وانتهى بحثه الراقي العلمي الدقيق إلى أن النقاب لا يوجد له أثر لا في القرآن ولا في صحيح السنة وأنه إنما دخل مصر مع المماليك.
وأنا لا يعنيني هؤلاء، ولست أقف عندهم طويلاً، إنما أقف على فتوى الدكتور عبد الغني الراجحي الذي دبج اسمه بقوله: العميد الأسبق لكلية أصول الدين، وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر.
لقد بعث ثلاث رسائل إلى هذا الرجل أحمد بهاء الدين يقول له: قرأت -وأنا أروي بالمعنى- بشغف مقالاتكم الرائعة عن نظر الإسلام في النقاب، وما أوردتموه من قول العلماء الثقات.
أين هم العلماء الثقات؟! الفنجري؟! هذا الهنجري رجل واحد فكيف صار هو العلماء؟! وصار من الثقات؟! ثم قال: وقد أحسنتم الاستدلال! يقول عنه هذا القول مع أنه لم يأت بشيء، هل تتصورون أن النافي أتى بدليل؟ كلما سألته يقول: لا أدري، لا أدري، لا أدري، الذي يثبت شيئاً لابد أن يأتي عليه بالدليل، أما النافي فكما يقول بعض علماء الأصول: لا دليل على النافي خلافاً لـ ابن حزم.
المهم أن هذا الرجل يقول: لم يثبت، لم يصح، لم يأت، لم لم.
فأين قول الراجحي عنه: لقد أحسنتم الاستدلال؟ هذا يذكرني بقصة شاب محام أراد أن يجتهد فتبنى قضية رجل ضليع في إجرامه، التهمة عليه (100%) فوقف في ساحة المحكمة قال: يا سيادة القاضي! إن موكلي بريء، والدليل على أنه بريء: أولاً أما ثانياً: فهذا يدلنا إلى الدليل الدامغ لبراءة المتهم، وهذا ما سأشرحه في ثالثاً.
سيدي القاضي! بعد الذي ذكرته من الأدلة الملزمة أطالب ببراءة موكلي.
أين هذا الذي ذكره هذا المحامي الناشئ في الدفاع عن هذا الرجل الضليع في إجرامه؟! هذا العميد الأسبق لكلية أصول الدين يصل في نهاية البحث إلى أن النقاب نحكم عليه بالحرمة وأنه بدعة، وأنا استغرب جداً أن يجهل رجلٌ هذه الأبجديات المبثوثة في جميع دواوين المسلمين!! فيأتي هذا الرجل فيتكئ عليه كثير من الآباء لإرغام بناتهم لخلع النقاب ويقولون: هذا هو العميد الأسبق لكلية أصول الدين، وأستاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر! يقول: لم يصح لم يوجد بل أنا أفتي بأنه بدعة محرمة في ظل الظروف السياسية الموجودة!(125/2)
نماذج مشرقة لعلماء ربانيين(125/3)
العالم الرباني: محمد شاكر
بل أنا لا أذهب بكم بعيداً وأسوق لكم حكاية حكاها لنا الشيخ العلامة، آخر أعيان المحدثين في الديار المصرية، وشيخ الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى وطيب ثراه، يقول وهو يخاطب أحد الأدباء الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمتين نابيتين، ولعلكم قرأتم القصة في (كلمة الحق) كتاب صدر لشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
يقول: إن السلطان فؤاد كان يصلي الجمعة في العابدين، فاستحضروا الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عبدان؛ لأنه كان خطيباً مفوهاً، وكان السلطان يحب أن يصلي وراءه دائماً، دعته الأوقاف ونقلته إلى مسجد آخر حتى يخطب الجمعة، وصادف في هذه الفترة أن طه حسين عميد الأدب العربي، أتى بالدكتوراه في اللغة العربية من فرنسا، فشل في أن يأخذها في بلاد العرب فأخذها في بلاد الأعاجم.
فأراد الخطيب محمد المهدي أن يثني على الملك فؤاد بمناسبة أنه قادم يصلي الجمعة، فقال يمتدح الملك فؤاد: ما عبس وما تولى لما جاءه الأعمى.
الأعمى: هو طه حسين، ما عبس فيه ولا تولى، بل هش له وبش، وأرسله إلى فرنسا يحضر الدكتوراه.
وبعد أن صلوا الجمعة قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر -وكان وكيل الجامع الأزهر- وقف وقال: أيها الناس! صلاتكم باطلة والخطيب كافر، فأعيدوا الصلاة؛ حدث هرج ومرج والسلطان واقف، وهو يقول: أيها الناس! صلاتكم باطلة وخطيبكم كافر.
وبعد ذلك إمام مسجد عابدين رفع إلى السلطان الفتوى يأمره بصلاة الظهر، وكان هذا الرجل - محمد المهدي - له ظهر وله مستشارون، فأقنعوه أن يرفع شكوى ضد الشيخ محمد شاكر.
الشيخ محمد شاكر أفتى بهذا لأن في قول الخطيب تعريض بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن الملك فؤاد صنع أفضل مما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما جاء ابن أم مكتوم عبس وتولى، ولما جاء طه حسين إلى الملك فؤاد ما عبس ولا تولى، قال: هذا تعريض في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز وإن كان الخطيب يعتقد ذلك فهو كافر.
وأرسل الشيخ محمد شاكر إلى مستشرقين أجانب ممن لهم خبرة بدلالات الألفاظ على المعاني، وأراد أن يستقدمهم ليقول لهم: هل استخدام الخطيب لهذه العبارة فيها تعريض بالمقام النبوي أم لا؟ ولم يرجع لشيخ من شيوخ الأزهر حتى لا يقال: انحازوا له.
فلما علم أن القضية في النهاية ستحدث فتنة وخسراناً فيها محمد المهدي وقد أذله الله، قال الشيخ أحمد شاكر: وأقسم بالله لقد رأيت هذا بعينيّ، طال الزمان بالرجل محمد المهدي -والذي كان من أشهر خطباء مصر، حتى إن الملك فؤاد كان يحرص على الصلاة عنده- فلقد رأيته خانعاً ذليلاً فراشاً لأحد المساجد يتلقى نعال المصلين، فتواريت عنه وهو يعرفني وأنا أعرفه؛ حتى لا يراني، فلست مشفقاً عليه فلم يكن يوماً موضعاً للشفقة.
الشيخ محمد شاكر رحمه الله لا يعرفه كثير من جيلنا؛ والسبب في هذا: انقراض علم التراجم، لم يعد هناك أناس يعتنون بتراجم العلماء العاملين كما اعتنى سلفنا كالحافظ ابن كثير والحافظ شمس الدين الذهبي، والحافظ المزي ثم أتى بعد ذلك الحافظ زين الدين العراقي، ثم أتى بعد ذلك الحافظ ابن حجر، وبعد ذلك الحافظ شمس الدين السخاوي والسيوطي إلخ، حتى وصل إلى الشوكاني فصنف البدر الطالع في العلماء، وكل قطر حسب همة علمائه ففقهاء اليمن لهم كتاب في مجلدين فيه تراجم فقهاء اليمن.
أما هنا في مصر ففقراء جداً في فن التراجم، فالشيخ محمد شاكر لا يعرفه جيلنا إلا من خلال المطالعات الدقيقة، لاسيما إذا كان مثلاً الشيخ أحمد شاكر -وهو من أعيان المحدثين- هو الذي ذكر هذه الواقعة، ولولا أنه ذكرها لاندثرت، ولا يوجد كتاب في التراجم بالنسبة للمعاصرين إلا كتاب الزركلي الذي هو كتاب الأعلام، ولكنه كتاب مختصر جداً لا يروي غليلاً.
فالحاصل: أن أمثال هؤلاء العلماء أين هم في الأمة المسلمة الآن، الذين يقودون المسلمين إلى صدع بالحق مهما كلفهم ذلك؟ كيف يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم إذا جاز للعالم الرباني -إن كان موجوداً- أن يخاطب بهذا الحماس هذا الجمع، وأضعاف أضعاف هذا الجمع، أمام جهاز التلفاز الذي ذكروا في آخر إحصائية أن المشاهدين الدائمين لهذا الجهاز يتجاوزون خمسة عشر مليوناً، من في البيوت النساء والأطفال ومن في المقاهي إلخ، فضلاً أنه في فترة المساء تزداد الكمية جداً، وكذلك في أيام الجمعات والإجازات يزداد عدد المتفرجين.
إذا جاز للعالم الرباني أن يخاطب هذا الجمع، فيفاجئ أن هناك جهازاً لا يمكن منه العالم الرباني يهدم له كل هذا الذي يقوله، يخرج الرجل من هنا جذوة نار في منتهى الحماس، حتى إذا دخل البيت ولم يشم رائحة الإسلام ولا الآداب الإسلامية؛ انطفأت هذه الجذوة، ويظل ما بين الأخذ والرد حتى ييأس أو تموت نفسه اللوامة.
قال لي بعض الناس -بعد أن ذكرت له استنكار العلماء واستنكار كل من له ذوق إسلامي على هؤلاء النسوة اللاتي يمشين في الشوارع عاريات-: أنا أنظر إليهن ولا أشعر بشيء من الشهوة، فأين الفتنة المزعومة التي تذكرها؟! فقلت له: أنا لا أكذبك، وأنت صادق حين تقول: إن نفسك لم تتحرك بشيء من الشهوة، ولكن أستطيع أن أجزم الآن بأن نفسك اللوامة قد ماتت، النفس اللوامة التي إذا رأت المنكر قرعت تلقائياً، الإنسان المفطور على هذا الدين أول ما يرى المنكر يقرع له ويحس به، قال بعض العلماء المعاصرين: كانوا قديماً يدورون بين سنة وبدعة، ونحن الآن ندور بين بدعة وردة! مبتدعنا إن تهاون قليلاً سقط في الردة، وكانوا قديماً إذا تهاون رجل في السنة سقط في البدعة؛ هذا كله المسئول عنه غياب العالم الرباني العامل بعلمه، فيأخذ كل هذه الجموع إلى طريق الله عز وجل وإلى طريق السعادة.(125/4)
العالم الرباني: العز بن عبد السلام
يا أيها المسلمون! أين العالم الرباني؟ أين فيكم مثل العز بن عبد السلام هذا العالم القوي الشكيمة؟ لما جاء الملك أيوب -وكان ملكاً على مصر- في احتفال رسمي للدولة، وهو قاعد على الكرسي شامخاً، وحوله الناس يقبلون الأرض، ودخل العز فصرخ وقال: يا أيوب! تذكر إذا قال الله عز وجل لك: ألم أملكك الأرض ثم تبيح شرب الخمر في الحانة الفلانية، وتترك الدار الفلانية للدعارة والزنا؟! فغضب الذين حول الملك أيوب كيف يناديه بـ أيوب ولا يقول له: يا أمير المؤمنين! أو يا أيها الأمير! أو يناديه بالكنية؟ فقال أيوب: وأين ذاك يا سيدي -يقول للعز -؟ قال: في الحانة الفلانية والحانة الفلانية.
قال: يا سيدي! هذا أنا لم أفعله، إنما هذا كان من زمان أبي.
قال: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]؟ فأمر أيوب بإبطال هذه الحانات وما فيها من المنكرات.
قال له أبو الحسن البادي -وقد انتشرت الواقعة في الديار المصرية-: ألم تهب الرجل؟! قال: يا بني! إني استحضرت هيبة الله عز وجل فرأيت السلطان قدامي كالقط.
كيف يمكن أن يستحضر بهذه السرعة إلا إن كان هذا الرجل مدرباً على استحضار النية الصالحة من كثرة إدمانها، والعز بن عبد السلام هذا مثل قريب، ولو ضربت الأمثلة في القرون الفاضلة لرأيتم العجب.(125/5)
وجود العلماء الربانيين ينشر الأدب والأخلاق في الأجيال
ومن أشد المصائب التي حلت بديار المسلمين بفقدان العالم الرباني: غياب الأدب.
هذه النهضة العلمية التي يعيشها المسلمون اليوم لم تواكبها نهضة أخلاقية، بدليل أنك تجد الرجل منا يتبع كثيراً من النصوص النظرية، بينما يعجز عن تطبيق حديث واحد في حياته.(125/6)
الإمام الشافعي وأدبه مع محمد بن الحسن الشيباني
عندنا مثل رفيع جداً للإمام الشافعي مع الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة -رحمة الله على الجميع- مع أن الإمام الشافعي كان أرفع وأعلى قدراً من محمد بن الحسن، فقدره كقدر أبي حنيفة رحم الله الجميع، وكان محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف يمشيان على أصول أبي حنيفة، وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن دونه وعمن مثله).
أي: لا يستنكف الإنسان النبيل أن يأخذ فائدة ممن هو أقل منه.
فالإمام الشافعي ذهب إلى الإمام محمد بن الحسن الشيباني يتلقى عنه علم أبي حنيفة، فكان لا يعجبه بعض ما يقوله محمد بن الحسن ولكنه لا يعترض، كان يسكت، فإذا قام محمد بن الحسن ناظر الشافعي أصحابه فظهر عليهم، الشافعي يقول لهم: تقولون كذا؟ فيقولون: نعم.
يقول: فما تقولون في كذا؟ وما تقولون في كذا؟ فيلزمهم الحجة فلا يستطيعون جواباً، فتكرر هذا الأمر مرات، فأبلغوا محمد بن الحسن وقالوا: إنك تقوم فيناظرنا الشافعي فلا نستطيع أن نرد عليه.
فقال محمد بن الحسن: هلاّ ناظرتني.
فقال الشافعي: إني أجلّك عن المناظرة.
انظر إلى الأدب العالي! قال محمد: فلابد.
فقال له: أنتم تقولون -وهذا نوع من أدب الشافعي في المناظرة مع أستاذه الذي هو من أقرانه محمد بن الحسن الشيباني أنتم تقولون بنقض الوضوء بالقهقهة؟ قال: نعم: أي: ولو أن رجلاً قهقه في الصلاة بطلت صلاته وفسد وضوءه.
قال: فما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة، أي: بينما هو يصلي فمرت امرأة قال لها: أنت زانية.
قال: صلاته باطلة.
قال: فما حال طهارته؟ قال: كما هي.
قال: سبحان الله! أقذف محصنة في الصلاة عندكم أهون من قهقهة؟! فألجمه.
قال: فأخذ محمد نعله وانصرف.
وهذا الشيخ العلامة النحرير ذهبي العصر الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في كتابه العظيم -أنا أنصحكم أن تشتروا هذا الكتاب- كتاب التنكيل بما في تأويل الكافرين من الأراجيف، هذا أعظم كتاب قرأته في باب الرد، فهو يلزم الخصم الحجة بمنتهى الأدب، فذكر مما ذكر في مناظرات الشافعي مع محمد بن الحسن الشيباني، وأن الشافعي لم يعجبه قول محمد بن الحسن في المياه، وفي نجاسة المياه، فقال له: إنكم لتقولون قولاً لعله لو قيل: تخطاطأ فقال قولكم لكان قد أحسن التخاطؤ.
! هذه عبارة راقية جداً، قال الشيخ العلامة عبد الرحمن اليماني رحمه الله: فكان الشافعي رحمه الله يستوفي حقه حتى في التشنيع، ولكن انظر كيف شنع! هذا القول رغم أنه شديد جداً إلا أنه رقيق، هذا كله ما ورثه الإمام الشافعي ولا ورثه محمد بن الحسن إلا بعد ذهاب الكبر، والقعود أمام الشيوخ، فمصيبتنا عدم وجود العلماء الربانيين الذين نرسل إليهم أبناءنا حتى يتلقون العلم منذ نعومة أظفارهم، وجيلنا هذا جيل حسبه أن يكون قنطرة للجيل القادم، ما منا من أحد إلا أدرك هذا الإسلام وهذا العلم على مشارف الجامعة، لكن بعدما ذهبت السنون الأولى الخطيرة في حياة الإنسان، وهي أيام الصغر: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وإني لأذكر قصةً فيها هذا المعنى: أن رجلاً أعرابياً تزوج امرأة على امرأته الأولى، وكان البيتان متجاورين، فصعدت جارية المرأة الجديدة على السطح، فوجدت جارية المرأة القديمة على الباب، فأنشدت وقالت: وما تفعل الرجلان رجلٌ صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت تعرض بالمرأة القديمة، وأن المرأة الجديدة هي سيدتها، فتكرر هذا الكلام من جارية المرأة الجديدة، فبينما هي تمر يوماً إذ قالت لها جارية القديمة: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وهذا شيء واقع، أنت قد تكون ولدت هنا في الإسكندرية في منطقة معينة، ثم تذهب إلى بلاد الدنيا ويكون لك شأن عظيم، فإذا رجعت تشعر بحنين في قلبك وأنت تشاهد ملاعب صباك كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل يحن كل إنسان إلى جذره الأول، إلى حياته الأولى فلو كانت حياتنا تمشي على الفوضى كما كانت حياة كثير منا وأدركتنا عناية الله عز وجل، فهذا لا يتصور فيه الثبات مثل الذي ينشأ منذ نعومة أظفاره على محاسن هذا الدين.(125/7)
خلق التابعين مع ابن مسعود
إن وجود الشيوخ بكثرة ينقل الأدب لطالب العلم مع العلم، وهذا ميراث متوارث وليس شيئاً جديداً، فقد روى الدارمي في سننه بسنده الصحيح إلى يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، قال: بينما نحن جلوس على باب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة، إذ جاء أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس فقال: أما خرج أبو عبد الرحمن؟ فقلنا: لا.
فقعد معنا.
انظر إلى هؤلاء الناس يقعدون على درج البيت! وهذا شيء يجب على إخواننا أن يتفطنوا له، لكن اليوم يكاد الجرس أن يتلف من كثرة الدق على الباب، وكأن أدب الاستئذان ثلاث مرات قد ذهب، وربما يطرق الباب مائة مرة، ولقد أحصيت مرةً أن رجلاً طرق الجرس علي ستاً وثلاثين مرة، أعدّها عداً، ومازال واقفاً، حتى إن الجرس تلف، وما أدري هل هو السبب أم تكاثرت عليه الدقات.
فأين هذا من فعل هؤلاء السادة؟ يجلس بعد صلاة الغداة ولا يدق على عبد الله بن مسعود الباب، لأنه هو الذي يحتاج إليه، ويقعد على درج البيت ولا يراه من العيب، حتى إذا خرج عبد الله بن مسعود قال: فاكتنفناه.
(اكتنفناه): يعني عن يمينه وعن شماله ووراءه وأمامه، وهذا هو فعل العالم الرباني حقاً، لا يفعل كما يفعل بعض الجبابرة يمشي في الأمام والكل وراءه، هذا ليس من الهدي، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (تقدموا وخلوا ظهري للملائكة) وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يتقدم الصفوف، وهذا من أعظم ما يكون أن يكون الرجل في أخريات الناس، يزجي الضعيف ويساعد المحتاج، هب أن رجلاً سقط لا يدري به أحد، من يكون المسئول عنه؟ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في أخريات الناس.(125/8)
النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الصحابة
وقد حفظ لنا جابر بن عبد الله الأنصاري قصةً رائعة جداً في صحيح البخاري قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة، فبينما نحن قافلون إذ أعيا ناضحي تحت الليل -الناضح: الجمل- وأرهقه السير، فجعل يضربه حتى يستنفره فلم ينفر الجمل، فجعل يقول: ما زال لنا ناضح سوء.
قال: فإذا بي أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من هذا؟ قال: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول جابر.
قال: ما دهاك؟ قال: أعيا ناضحي تحت جنح الليل.
أمعك عصا؟ فناوله العصا، فضربه فارتدت إليه العافية -إلى الجمل- فركب جابر جمله، وركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته، قال جابر: فجعل الجمل يسبق ناقته، هذا الجمل الذي أعيا يسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تلحق! وفي صحيح مسلم وغيره أن امرأةً أخذت ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام وفرت عليها -لعلمها أنه لا يلحقها شيء وكانت المرأة أسيرة- فنذرت إن نجاها الله لتنحرن هذه الناقة جميلاً لها! فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بئس ما جازتها!) يعني: أهذا جزاؤها أن الله عز وجل جعلها سبباً في نجاتها، وهي تريد أن تكرمها بأن تذبحها! فقال: (بئس ما جازتها، لا نذر فيما لا يملك المرء، ولا نذر في معصية الله عز وجل).
المهم أن هذا الجمل يسبق الناقة وجابر يشد خطامه؛ لأنهم كانوا يرون أنه من سوء الأدب أن يتقدم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر في رواية البخاري ومسلم أن رجلاً أعرابياً صعد على قعيد -القعيد: ولد الناقة- وأطلقه، فسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ما رفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه) يريد أن يطيب من خاطرهم.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتسامر مع جابر، ويتفقد أحواله إلى آخر القصة).
فالحاصل أن من هدي العلماء والأمراء الربانيين أنهم لا يتقدمون في الأمام كما هو واقع في الجاهلية، وفعل الأوروبيين الكفرة الذي أخذه كثيرٌ من المسلمين اليوم، حيث يرون أن في التقدم شيء من الشرف، ويجعلون الكراسي في الأمام، ويكون عن اليمين فلان وعن الشمال فلان، إذا غاب فلان إذاً لابد أن يقعد على الكرسي، حتى أنا رأيت بنفسي أن الصف الأول في المسجد محجوز لجماعة معينة، وإذا أردت أن تأخذ لك محلاً في الصف الأول يمنعونك، وبالفعل منعوا رجلاً رأيته بنفسي، قالوا: هذا مكان الحاج فلان.
والحاج فلان لا يدخل إلا في نصف الخطبة، حتى جعلوا الصفوف الأولى للكبراء بخلاف الهدي المعروف، الذي يجب على المسلمين أن يتوارثوه.
(خرج عبد الله بن مسعود مع أبي موسى الأشعري قال: فاكتنفناه، فقال عبد الله بن قيس: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، وما رأيت إلا خيراً) ثم ساق بقية القصة.
الحاصل: أن وجود المشايخ بكثرة كان سبباً مباشراً لأدب طالب العلم، أما أن يتعلم الإنسان من الكتب فقط، ولا يسعى أن يتلقى العلم عن الشيوخ، أو حتى على الأقران الذين سبقوك في هذا المضمار؛ فإن هذا يصيب الأمة -في الحقيقة- بأضرار كثيرةً جداً.
أضرب لكم هذا المثل الخطأ: نحن أعاجم بالنسبة للغتنا العربية، فيأتي الرجل ويفسر القرآن والسنة بما يعرفه من الألفاظ المتوارثة الآن، وهذا لا يجوز أن يفسر بالألفاظ الحادثة بل لا بد أن يفسر القرآن والسنة باللغة التي نزل بها القرآن على العرب، وباللسان الذي كان الصحابة يفهمونه لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فنحن أعاجم بالنسبة للغتنا العربية.
فإذا دخل رجل المكتبة لكي يقرأ في كتاب فلعله لا يقرأ الجملة صحيحة، وأنا رأيت رجلاً في بعض المسائل كمسألة تقديم اليدين على الركبتين في الصلاة، فيذكر الحاكم في مسنده أثراً عن ابن عمر في أنه يقدم يديه على ركبتيه، ثم قال الحاكم: والقلب إلى رواية ابن عمر أميل؛ لأن في ذلك روايات كثيرة عن الصحابة والتابعين.
فهو يأتي ويقول: القلب أميل.
أي: أن الحديث مقلوب! تصور! الحاكم يقول: القلب أميل إلى رواية ابن عمر لأن له شواهد عن الصحابة والتابعين.
وهذا يقول: الحديث مقلوب ومعنى ذلك أن قلبه يميل إلى ترجيح رواية ابن عمر لأن لها شواهد كذا وكذا.
وليس (القلب أميل) أي أن الحديث مقلوب.
وما غر بعض إخواننا من الشباب إلى انتحال فكر الخوارج أو هذه الأفكار المبتدعة إلا لأنهم عكفوا على الكتب فقط، فأعملوا الكتب بعقولهم هم ولا يقبلون تراجعاً ولا يتنازلون عن فهمٍ فهموه، حتى أوصلتهم الجرأة أن تجرءوا على الأئمة الشافعي وأحمد وغيرهم، بل أنا بنفسي سمعت رجلاً منهم عندما قلت له: قول ابن عباس:) كفر دون كفر) فقال: نحن رجال وهم رجال.
يعني: يجعل نفسه قرين ابن تيمية، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، ولو ترقى قليلاً وجعل نفسه المزي، وابن مندة، وابن جرير، ثم ترقى قليلاً فجعله نفسه أحمد، والشافعي، ومالك، وهذا لن يعجزه فقد تجرأ على جيل الصحابة مباشرةً، وقال: نحن رجال وهم رجال! فقلنا: إن كنت تقصد الذكورة؛ فنحن لا ننازعك فيها فأنت ذكر، لكن إن كنت تقصد المقام والفهم فشتان! فقد توفرت لـ ابن عباس دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)، فماذا توافر لك أنت؟! فإذا به يلقي هذه المفاجأة التي أنكرها عليه إخوانه أنفسهم، فقال: وما يدريك أن الله استجاب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؟! تصل به هذه الجرأة إلى هذا الحد؛ لأنه لا يرى من يعقب عليه؛ والسبب إنه يأخذ من الكتب مباشرةً، فيفهم ويكتب ما يريد، ولو تعود أن يقعد لشيخ فإنه يهاب أن يتكلم في حضرته؛ لأنه قد يتكلم خطأً، وقد كان نظام الإجازات قديماً من أقوى الأشياء التي كانت تجعل طالب العلم لا يتكلم إلا بعد علم، وبعد أن يجيز له أستاذه وشيخه، حتى إذا رأى شيخه أخطأ ما كان يهجم عليه.(125/9)
غياب العالم الرباني سبب في فقدان الأدب
وكيع بن الجراح وهو أحد الأئمة الثقات الحفاظ، شيخ أحمد وغيره، ولم يثبت أنه كان شيخ الشافعي، ولم يثبت له لقاء به الشافعي، وأنبه على هذا عرضاً؛ لأنهم ينسبون إلى الشافعي بيتين من الشعر، يقول: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي بل الإمام الشافعي كان من طبقة وكيع، فكيف يمكن أن يتتلمذ عليه أو أن يكون شيخاً له، إلا إن كان من باب رواية الأقران عن بعضهم، ولم يثبت هذا أيضاً، إنما هو شيخ للإمام أحمد، والإمام إسحاق بن راهويه.
فكان وكيع يقول: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا عن كل مائة حديث بخمسة.
أنا أرجو أن ينظر كل مسلم في محفوظاته من الأحاديث النبوية، ثم ينتقي خمسة أحاديث فيترجمها إلى الواقع العملي.
فغياب العالم الرباني هو السبب في هذه النهضة العلمية التي لم تواكبها نهضة أخلاقية، وأنا هنا أبين لكم أن فقدان الشيوخ هو السبب المباشر لغياب الأدب، ولا يتصور أحدكم أن التلميذ كان يذهب إلى الشيخ يتلقى عنه علماً نظرياً فقط، إنما كان يتلقى عنه الأدب مع العلم، ومن أعظم ما استفاده التلامذة من الأساتذة الكبار: الذل وانكسار النفس وذهاب الكبر؛ لأن هذا العلم لا يصلح إلا بتواضع وإخلاص نية.(125/10)
الأعمش يعلم طلابه الأخلاق والأدب
لو أخذنا رجلاً عالماً جليلاً كبيراً وهو سليمان بن مهران الأعمش أحد الأئمة الكبار القراء الحفاظ -حفاظ أهل الكوفة- هو شيخ شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم من الأئمة الثقات الكبار.
كان عنده من شدة الخلق على تلاميذه شيئاً يضرب به المثل، حتى حكى الخطيب في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أنه كان عسراً جداً في الرواية، ولا يكاد يحدث بحديث، مع أن طلاب العلم عندهم نهم، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) فكان طالب العلم لا يشبع، لاسيما عند الثقة الحافظ الإمام؛ فإنه شرف كبير أن يروي حديثاً عن الأعمش وأن يتسند له.
فكانوا يتهافتون عليه تهافت الفَراش على النار، وكان هو شديد الامتناع في التحديث، فكل يوم يذهب أصحاب الحديث بكراريسهم ومحابرهم بالمئات يقرعون عليه الباب ويدخلون، فلما ضاق بهم ذرعاً اشترى لهم كلباً، فكلما سمع وقع أقدام أطلق الكلب لكي يفرق هذا الجمع، ونرجو أن تتصورا رجلاً كـ شعبة يجري أمام الكلب! أتظن أن شعبة زهد في الأعمش لا سيما أنه كان يماثله مئات في ديار المسلمين؟ أبداً، ما كانوا يزهدون في هؤلاء الأئمة؛ لأنهم ربوا على الأدب، يطلق عليهم الكلب، وبعد أن يؤدي الكلب مهمته يرجع والأعمش جذلان -مسرور- فيعودون مرة أخرى فيطلق عليهم الكلب.
وذات يوم جاء أصحاب الحديث بكراريسهم ومحابرهم وقرعوا الباب، فإذا الكلب غير موجود، فدخلوا على الأعمش دخول المنتصر، فوجدوه يبكي! فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! فقال لهم: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اقعدوا أحدثكم، فحدثهم يومئذٍ بحديث -بحديث واحد- وخرجوا كأظفر ما يكون، كأنه رجل فتح حصناً؛ لأنه أخذ حديثاً من الأعمش.
وذات مرة خرج الأعمش في جنازة رجل، وكان به عمش وكان يحفظ ألف ألف حديث -يعني: مليوناً بأرقام اليوم- بإسنادها ومتنها، لا يدخل إسناد في متن، ولا يختلط رجل بآخر، مع شدة في خلقه.
وذات مرة وهو في مجلس التحديث -وكان يكره أن يجلس أحد إلى جواره- فجاء طالب علم جديد لا يعرف طريقة الأعمش، فجلس بجواره، والطلاب لا يستطيعون أن يقولوا للرجل: ابعد، لكن لو علم الأعمش أن الرجل قعد بجانبه سيفض المجلس؛ فسكتوا، فشعر به الأعمش؛ فظل يبصق عليه حتى انتهى المجلس، يقول: حدثني فلان -ويبصق عليه- حتى انتهى المجلس، والرجل ساكت خشية أن يقول شيئاً، فيقطع الأعمش المجلس.
وقال له رجل مرةً: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه ولزقه بالحائط وقال: هذا إسناده! تصور رجل بهذه العسرة في التحديث كيف يتهافتون عليه، ولا يزهدون فيه!! اليوم لو أن أي طالب علم رأى من معلمه شيئاً يشينه اعتزله ولا يقابله في الطريق، ولا يسلم عليه، هذا إن كان من المتقين، وإلا ربما افترى عليه أيضاً، فأين هذا من ذاك؟! كان الأعمش بمثل هذا الخلق يكسر الكبر في نفوس تلاميذه، ويعلمهم التواضع الجم، وكان -فيما نحسب- حسن النية، جعل الله له لسان صدق في هذه الأمة، فلا يذكر إلا بالجميل.
وورث أبو بكر بن عياش منه هذا العسر في الرواية، فقالوا له يوماً: حدثنا بحديث.
قال لهم: لا، ولا بنصف حديث.
فقالوا له: حدثنا بنصف حديث.
قال: اختاروا: السند أو المتن؟! فقال له رجل يريد أن يمدحه إلى نفسه: أنت عندنا إسناد -يعني ينتظر أن يقول لهم متناً- فقال لهم: كان إبراهيم يدحرج الدلو.
! قال الخطيب: فانظر! ضن عليهم أن يحدثهم بحديث ينفعهم.
ولا يتصورن أحد أن هذا الفعل من هؤلاء السادة فعل شائن، بل كان من أجل أفعالهم لتأديب طلاب العلم، وكان الأعمش يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، وما رفعني إلا الحديث لماذا؟ لأنه واضح من لقبه، فهو لقب بـ الأعمش لعمش كان في عينه، وليس من الغيبة: أن يذكر الرجل بالعيب الذي فيه على سبيل التعريف وليس على سبيل التنقيص، وهذا موجود بكثرة كـ الأعمش وكـ الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، أما غندر فهو لقب ليس بعيب، وغندر هو لقب محمد بن جعفر وهذا ليس من العيب الخَلقي، غندر أي: المشرد بلغة أهل الحجاز، وأطلقها ابن جريج على محمد بن جعفر عندما كان يشرد في مجلسه.
ومثلاً كـ ابن علية ينسب لأمه إسماعيل بن علية، والأحول ونحو ذلك.
فكل هذه الأوصاف إذا قيلت في جزء التعليم فقط لا تعد من الغيبة، وإن قيلت على سبيل التنقيص فهذه غيبة.(125/11)
الفرق بين شباب السلف الصالح وأبنائنا
هنا قصة طريفة جداً رواها الخطيب في كتابه (الكفاية في علوم الرواية) تبين لك الشعور بالمسئولية وكيف يصير هذا الشاب الطموح إماماً إذا تعاهدته، يروي هذه القصة من طريق أحمد بن النضر الهلالي، قال: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس سفيان بن عيينة -وهذا عالم في الرواية، وشيخ الشافعي، ومن أقران مالك، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز- إذ دخل صبي صغير؛ فضحك بعض من في المجلس، فتلا سفيان قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] ثم قال: لو رأيتني يا أبا نصر وأنا ابن عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي قصار، أكمامي صغار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار مثل الزهري وعمرو بن دينار، أقعد بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، مقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير.
ثم ضحك سفيان بن عيينة، قال أحمد: ثم تبسم أبي وضحك، قال عمار بن علي: ثم تبسم أحمد وضحك، إلى آخر الإسناد، حتى وصلت البسمة إلى الخطيب البغدادي.
فانظر إلى سفيان بن عيينة وله عشر سنين، ويختلف إلى من؟ إلى الزهري، وإلى عمرو بن دينار الذي أدرك جابراً، والزهري أدرك أنساً وسهل بن سعد، أي: أنهم من كبار التابعين، قال: (فأقعد بينهم كالمسمار) أي: أنه دائم الجلوس، لا يقوم حتى يقوموا.
نحن الآن يقعد فينا مفت ولو كان عمره ستون سنة، فيصير كـ البخاري وهو ابن أحد عشر عاماً.
كان مجلس البخاري مجلس يقعد فيه مائة ألف أو يزيدون وما في وجهه شعرة -أي: لم تنبت له لحية- بل إذا انحدرنا إلى التاريخ القريب نجد أن الحافظ ابن حجر العسقلاني مات وللسيوطي من العمر ثلاث سنين، ومع ذلك كان والد - السيوطي - يأخذه وهو ابن ثلاث سنين حتى يتشرف بمجالس أصحاب ابن حجر، مع كونه لا يدري وليس هناك تحمل ولا إجازة لأنه صغير، ومع ذلك كان يأخذه، ويمتن الحافظ السيوطي فيما بعد ويقول: كان أبي يأخذني إلى مجالس أصحاب ابن حجر وهو ابن ثلاث سنين فقط، لا يدري، والولد اليوم يكون عمره عشر سنين ولا يحضر الصلوات إلا بالضرب.
بل هناك أعجب من ذلك: مات عبد الرزاق وللزبري من العمر ست سنوات فقط، وروى الزبري مصنفات عبد الرزاق كلها، ولم يطعن أحد من العلماء في سماع الزبري من عبد الرزاق بن همام الصنعاني علامة اليمن وإمامه، ودونك المعجم الصغير للطبراني، لا يروي الطبراني شيئاً عن عبد الرزاق إلا من طريق إسحاق بن إبراهيم الزبري! وهناك أحد الرواة روى سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، أبو داود له رواه: كثيرون لسننه، فتجد في بعض الروايات ما ليس بمرضي، فأحياناً يقول: رواه أبو داود.
وتبحث عنه في سنن أبي داود فلا تراه، فيكون هذا مثلاً من رواية أبي بكر ابن داسة، فإذا أردت أن تظفر برواية ابن داسة فعليك بسنن البيهقي، لأن البيهقي لا يروي حديثاً من سنن أبي داود إلا من طريق ابن داسة وليس من طريق اللؤلؤي.
فيبقى عندنا روايتان لسنن أبي داود: رواية أبي علي اللؤلؤي وهي المطبوعة الآن بين أيدينا، ورواية ابن داسة: وهي الموجودة في سنن البيهقي، وفيها زيادة في الأحاديث على رواية اللؤلؤي.
فأتى هذا الراوي شيخ شيخ الخطيب وكانت آخر عرضة سمعها من أبي علي اللؤلؤي وهو ابن خمس سنين، وروى كتاب أبي داود كله عن اللؤلؤي بسنده إلى أبي داود بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل السنن، ولم يطعن أحد في روايته وهو ابن خمس سنين أين هؤلاء؟!! كيف يتأتى للمسلمين أن يظفروا بمثل هذا إلا بعد أن توجد طبقة علماء ربّانيين، الذين لا يبيعون دينهم، والذي يصبرون على الحق المر، إذا زل العالم زل بزلته عَالمَ.
عندما أنظر إلى شيخ الأزهر -وهو لابس أكبر عمامة موجودة في البلد- فأراه في جنازة أحد الوزراء يمشي في الصفوف الأمامية والموسيقى تدق، والنعش على مدفع، وهو لا ينكر، كيف يتأتى للعوام أن يعرفوا الحق من الباطل بهذا الوضع؟! فإذا أنكرنا ذلك قالوا: شيخ الأزهر قد فعلها؟! يمشي في جنازة مخالفة لجنازة المسلمين لا يشك في هذا أحد أن هذا ليس من ريح الإسلام، إنما هذه جنازات أوروبا، ويذهب ويأخذ بيديه الشريفتين الورد ويضعه على قبر الجندي المجهول، قام ووضعه على نعش المتوفى.
كيف يمكن للعوام أن يعرفوا الحق من الباطل وأكبر رأس فيهم يفعل هذه الأفاعيل؟ بل كيف يمكن للعوام أن يصلوا إلى الحق وهم يرون أن أحد الكبار فيهم يسأل: ما الذي يعجبك يا مولانا؟ قال: والله أنا يعجبني فريد شوقي، والأغاني القديمة التي كان يغنيها عبد الوهاب، وأغاني أم كلثوم بألحان رياض السنباطي، لأنه هادئ قليلاً! أسمع هذا الرجل وأتعجب في نفسي وأقول: كيف للدعاة إلى الكتاب والسنة أن يتقلدوا كل هذا حتى يصلوا إلى قلوب العوام؟!! متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم(125/12)
العالم الرباني ومهمته
مهمة العالم الرباني شاقة جداً؛ لأنها تتمثل في أمرين: الأمر الأول: أن يأخذ الخرافة من نفوس الناس، وأن يرفع كل هذه الأشلاء.
الأمر الثاني: أن يصب الإسلام الصحيح في هذه النفوس، وقد يموت وتموت بعده أجيال قبل أن ينتشلوا الخرافة من قلوب المسلمين، فضلاً عن أن يبذروا بذرة الإسلام الصحيح، هذا هو البناء الصحيح، ليس هناك إيمان إلا بعد كفر، أن تكفر بالطاغوت ثم تؤمن بالله عز وجل؛ لأنه لا يستقيم أن تؤمن بالله وهناك طاغوت في قلبك، ارفع الأشلاء والأنقاض ثم ارم الأساس الصحيح، فهذا الركام الذي يرمى على الساحة الإسلامية وتبتلعه اللصوص، فكيف لي بمعول أجتث به هذه الشجرة الملعونة في حياة المسلمين؟! وقد تتقطع الأعناق والرقاب دون اجتثاثها؛ لأن هناك أيد كثيرة جداً تحرص على أن تظل هذه الشجرة الملعونة.
فمهمة العالم الرباني شاقة جداً، وهم مبتلون بتحريف النص عنهم أيضاً، وإشاعة الإشاعات أيضاً عنهم، فلا يكاد يسلم عالم رباني من إشاعات مغرضة تشوه تاريخه، وحسبنا بالشيخ ناصر الدين الألباني محدث العصر.
هذا الرجل افترى عليه كثيرون جداً ما لم يقله، وبسبب هذه الافتراءات شرد في بلاد الأرض، فلا ترى له وطناً ولا سكناً، وحياته في الفترة الأخيرة مؤلمة جداً، عالم مثل هذا العالم يشرد في بلاد الأرض؛ ولأنه يرى حرمة السفر إلى بلاد الكفر فهو لم يتجه إلى أمريكا وفرنسا أو غيرها وإلا لوجد حرية كبيرة، فظل على حدود الإمارات ستة أشهر! ممنوع من دخولها! وممنوع من دخول الكويت! وممنوع من دخول السعودية! وممنوع من دخول سوريا كيف لهذا الرجل أن يعيش؟ وما دخَل الأردن إلا بتزكية خاصة من تلميذه الشيخ محمد بن إبراهيم الشقرة وكيل وزارة الأوقاف وإمام مسجد دار الصفوة، فدخل إلى الملك حسين بصفته الشخصية يطلب منه دخول الشيخ ناصر الدين الألباني إلى الأردن مع التعهد بألا يلتقي بأحد، وأجبروه أن يكتب على باب (الفيلا) (ممنوع مجيء أكثر من اثنين) لأنه تجمهر، ولا بد من موعد على الهاتف.
وفي الأيام الأولى ضيقوا عليه بشدة، لكن في الأيام الأخيرة وبعدما أنسوا جانبه تركوا له هذا الأمر، حتى أنه -في زيارتي لعمان- دعا مجموعة للغداء وصادف أن كنت فيهم، وكنا خمسة وعشرين فرداً، فخرجوا فقلت للشيخ: هذه اللافتة تقول: ممنوع دخول أكثر من اثنين.
قال: هم دخلوا اثنين اثنين! هو سريع البديهة جداً! فهذا العالم لا يوجد له مكان يستريح فيه، وقبل ذلك منعوا دروسه العامة في مسجد عمر في الزرقاء، حتى أنه لم يتمكن أن يلقي دروساً على طلاب العلم إلا في بيت أحدهم خلسة بعد صلاة العشاء.
وعندما وقع مؤتمر السنة والسيرة النبوية في مصر لم يستدعوا الشيخ ناصر الدين الألباني -وهو أعظم الناس منة على المسلمين في هذا العصر للسنة والسيرة النبوية وما قالوا للشيخ ناصر: تعال وشرفنا حتى ولو عضواً، لا تتكلم.
ومثل هؤلاء العلماء الربّانيين، انظر إلى معاملة الجهات الرسمية لهم! كيف يمكن أن ينتفع المسلمون بهم وهم مشردون في الأرض؟! بل الأغرب من ذلك: أنه حصلت مصادرة في بعض البلاد وهجوم الشرطة على المكتبات، كتاب تحذير الساجد، وكتاب (حرمة التصوير) للشيخ الألباني والشيخ ابن باز ولفيف من العلماء، وتحقيق شرح العقيدة الطحاوية لماذا يا إخواننا؟ قالوا: هذه الكتب ممنوعة، والأزهر نص على أنها ممنوعة! كيف ممنوعة؟! بالذات الشيخ ناصر الدين الألباني وتعليقاته.
أهذه معاملة العلماء الربانيين العاملين؟! جحود شديد! إيجاد هؤلاء العلماء الربانيين يتمثل فيك أيها المسلم في معاملة ولدك، من منكم قال في نفسه: أنا نذرت ولدي هذا لله؟ وجد وسعى حثيثاً في تربيته على الهدف الذي يريد، من منكم فعل هذا وبدأ يقوم لولده الدعامة الأساسية، بأن يوصله إلى المشايخ لكي يتعلم، ويكون له مكتبة، ويزيح هذا الجهاز من البيت إن كان موجوداً، ويبدله بالكتب، فأول ما يشب الولد لا يرى إلا موضع الكتب، فينغرس في قلبه حب الكتب، وأنت لا تسمع عن أحد من العلماء النابغين إلا وأبوه كان عالماً، وجده كان عالماً إلخ.
وإذا نظرت إلى شيخ الإسلام رأيت جده أبا البركات شيخ الحنابلة، ثم أباه عبد الحليم شيخ الحنابلة، فمن الطبيعي جداً أن يكون ابن تيمية شيخ الحنابلة، لأن جده وأباه أساس المذهب الحنبلي في دمشق، كذلك ابن مندة، أسرته بيت عريقٌ في العلم، وكلهم علماء، وكذلك والمقادسة كلهم علماء أيضاً، فلتكن أنت أول طالب علمٍ في أسرتك، فيأتي أولادك فتهتم بهم، وقل: هذا لله، أنا سأربيه حتى يكون عالماً، عندنا آلاف الأطباء والصيادلة والمهندسين! عندنا الآلاف في كل شيء، لكن ما عندنا علماء شرعيون، تحدث فتنة جديدة -هرج ومرج- ولا ندري من يفتي فيها الفتوى الصحيحة، أقرب مثال على ذلك اللحوم المستوردة، عندما كنا نقرأ الأخذ والرد نستغرب جداً؛ لأنه لا يوجد من يحكم هذه القضية لماذا؟ لأن المعطيات غير موجودة، تحدث فتوى جديدة يحتار فيها الشباب حتى يصلوا إلى عالم واحد مثلاً في آخر الأرض يصنع الفتوى، والله يعلم إن كان الجواب يصل الجواب صحيحاً، أو باطلاً، مشكلة كبيرة! وكان ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه يقول: وإني لأنظر إلى كل الصناعات فأجدها كفيت إلا هذه الصنعة، فكأنها التي عناها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا) قال ابن حبان: فكأن العلم -علم الحديث والفقه- هو العلم المعني بالانتزاع.
كل يوم في مصر إذا راح عالم شغر مكانه سنين طويلة، أخبروني بعد الشيخ أحمد شاكر: كيف صارت الديار المصرية خالية ممن يفقهون بالحديث، أين الفقهاء من الطراز الكبير الموجودون في مصر؟! لعل المخلصون منهم لا يجدون وسائل الإعلام، هناك بلا شك طاقات كبيرة جداً في مصر، ولكنها متوارية، حتى يكاد أن يقال: إنه لا يوجد أحد، إذا مات الواحد منهم شغر مكانه فترة طويلة من الزمن، حتى يخلفه آخر، وهذه مشكلة كبيرة تدل على الشيء الذي يعاني المسلمون منه الآن.(125/13)
مسئوليتنا نحو أبنائنا
أقبل على الله عز وجل بنذر ولدك أن يكون أحد العلماء الشرعيين فيأخذون بيد الأمة، انظر كثير من الإخوان يعاني بأن ابنه ليس بنبيه، ويعلم ابنه اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الألمانية! ويخرج الولد صفر اليدين من اللغة العربية، حتى أن هذا الأمر واقع -بكل أسف- وموجود عند كثير من الإخوة الذين يتصور أن وسطهم أنقى من وسط العوام، فتجد الولد يجيد كل اللغات إلا اللغة العربية فهو أعجمي فيها، ولقد عايشت هذا بنفسي عندما درست اللغة العربية في الكلية فوصل بي الأمر أنني كنت آخذ الكتاب من أوله إلى آخره إعراباً لا أكاد أخطئ في لفظة ولا في كلمة ولا في تعليق، وقبل أن أجيد اللغة العربية كنت أسوق الكلام مكسوراً، وإن قلت الشعر قلته ملحوناً، فإن قال لي قائل: لم رفعت هذا أو كسرت هذا؟ وقفت لا أدري شيئاً، أهذا الذي يجب على المسلم؟ أهذا الذي يجب علينا تجاه لغتنا العربية؟! فأنا أدعوكم -وأرجو الله عز وجل إن كنت صادقاً في هذه الدعوة أن يجعل لها محلاً في قلوبكم- إن لم يكن هناك نية فاستحضر النية في أن تربي ولدك بأن يكون عالماً شرعياً ربانياً، يأخذ بيد هذه الأمة، بعد أن جروا وراء الطب والهندسة إلخ، فإن الناس لا يفتئون يجرون وراء هذه، ولا أحد يجري وراء العلم الشرعي إذ لا وظيفة له، وهذا بكل أسف لمحناه ظاهراً في القرن السابع الهجري وما بعده، لمحنا بُعد الناس عن علم الحديث، وإقبالهم إلى علم الفقه بسبب الرواتب، لأن الفقيه له وظيفة، ويمكن أن يعين -مثلاً- قاضياً في الفتوى، ويمكن أن يعين إماماً وخطيباً، يمكن أن يعين مدرساً، أما علم الحديث فما يجدي شيئاً ولا يجلب لصاحبه رزقاً؛ فأعرض كثير من الناس عنه.
بل تجد الفقيه الكبير قد يُعرض عن الجهر برأيه في مخالفة مذهبه مثلاً أو في مخالفة الدولة حرصاً على الراتب، ونحن لا نعيبهم بهذا فهم بشر، وهذا حدث لـ تقي الدين السبكي -وكان أحد العلماء الذين اكتملت فيهم آلة الاجتهاد- فهو أحد الذين وقفوا ضد شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان له مساجلات كثيرة علمية ومناصحات علمية أيضاً.
قال ولي الدين بن عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم ولي الدين هذا ابن الحافظ زين الدين العراقي - لشيخه سراج الدين البلقيني: ما الذي جعل تقي الدين السبكي لا يسلك سبيل الاجتهاد كما سبقه شيخ الإسلام ابن تيمية وقصر نفسه على المذهب الشافعي؟ فسكت سراج الدين البلقيني ولم يجب، قال ولي الدين: عيبه أن ذلك من الأعطيات؛ لأن تقي الدين إن خالف المذهب الشافعي واجتهد وأخذ بالدليل وإن كان يعارض المذهب فهو يعتبر رأس المذهب الشافعي؛ أقصوه عن رئاسة المذهب، فلذلك لم يفعل ليحوز الراتب.
انظر هذا شيء من ضعف البشر، لكن هناك ألف حسنة في مقابل هذا عند تقي الدين السبكي رحمه الله.
فكان من أول القرن الثامن وما بعده الحرص الشديد على تعلم العلم الذي يجلب الراتب ظاهراً جداً وملاحظاً، وقد ظهر عندنا الآن بصورة فاحشة جداً، إن قلت: علمه العلم الشرعي، ولا داعي أن تدخله المدارس، أو تدخله الأزهر، أو تعلمه أنت وتتعاهده.
فيقول: ومن أين يعيش إذا كبر؟ فإنه لا بد من وظيفة، وعز العالم من عز الدولة، والدولة الآن لا تتبنى العلم الشرعي، إذا رأيت الدولة تهتم بالعلم الشرعي رأيت أعز رجلٍ فيها هو العالم، وإذا رأيتها تهتم بالفن، والرقص، وتهتم بكل هذه الأشياء المنكرة؛ فاعلم أن العالم الشرعي هو الذي يكون تحت الأقدام.
وهذا واضح جداً كالشمس ولا يحتاج إلى دليل، ففي مسرحية قال لي محدثي: في أول المسرحية أتوا بهيئة التدريس مدرسين وطلاب لينشدوا نشيد المدرسة، وهي تتكون من مدرس اللغة العربية، ومدرس الإسلامية، ومدرس الرياضيات إلخ، فقلت له: وكيف عرفت أن فيهم مدرس الإسلامية؟! قال: لأنه كان يلبس جبة وعمامة -أزهري- ثم بعد أن درسوا حصصهم أخذوا دوراً في الرقص البلدي، فكان أفضل من يرقص فيهم صاحب الجبة والعمامة، لدرجة أن الذي حدثني قال: وقعت على قفاي من شدة الضحك ودمعت عيناي - وليس دمعة حزن- على منظر هذا الشيخ وهو يرقص هذا الرقص بحماس بالغ.
هذا يدل على مهانة هؤلاء العلماء ونظرة الدولة للعلماء الشرعيين، يأتي فيرقص سبحان ربي!! والله إن آخر شيء يمكن أن أتوقعه أن يثور الناس، أو يتكلم العلماء الرسميون حتى ذراً للرماد في العيون، لكن أين العالم الرباني الذي يستنكر هذا ولو حتى على رقبته؟ ماذا يريد المرء إلا ذكراً خالداً؟ تصور لو أن رجلاً كان في منصبٍ، ثم ذهب إلى بعض صحف المعارضة وأدلى ببيان يستنكر فيه المخالفات الشرعية الموجودة، ويقول لهذا: أنا أقدم استقالتي.
فيقدم استقالته ويذهب، ما هي المشكلة؟ لا يفيق الإنسان إلا بعد أن يترك الكرسي، وهذا دليل على أنه ليس بعالم أصلاً، وإنما نقول: عالماً تجوزاً، ولأن هذه هي تسمية العوام له.
ولدينا مثال حي جداً: الدكتور زكريا البدوي، أنا لست أنسى له هذا الموقف في مسجد صلاح الدين -عذراً أنا أسمي لأن التسمية مهمة جداً في هذا العصر؛ لأنه لا يكفي أن نقول: ما بال أقوام، لأن الشر صار مستطيراً جداً من كل ناحية، حتى لا يدري المسلم أين الخير وأين منبعه؛ من كثرة الشرر المتطاير- في المنيل، وكان الشيخ عبد الرقيب صقر يجمع التبرعات لأفغانستان، وكانت هناك أشياء كثيرة، فأراد رئيس الدولة أن يصلي في هذا المسجد، وكان الدكتور هو وزير الأوقاف، فأمر بإخراج كل المعونات التي في المخازن -وهي لا تضر- ورماها في حديقة المسجد حتى تلفت أشياء كثيرة وهذا لماذا؟ من أجل أنه إذا مر لا تقع عينه على طبيخ، ولا يشم إلا أصل رائحة المسجد وما في البساط وما في الأدوية وما في الأحذية، وهذا شيء الدولة تتبناه ولا تمنعه: أن ترسل لأفغانستان المعونات، حتى جاءت الجمعة الثانية فقام الشيخ عبد الرقيب يدعو من قلبٍ حار والمسجد يكاد ينخلع من تأمين المصلين.
مرت الأيام وأخرج الدكتور من الوزارة، وإذا به يشتعل ناراً ضد الحكومة، ولعل المتابعين في الصحف أدركوا لفحة النار والهجير تخرج من قلب هذا الرجل على الأزهر وعلى شيوخ الأزهر: المنافقون الممالقون إلخ، وأين كنت يوم كذا ويوم كذا؟ لا يفيق الإنسان حتى يترك هذا المنصب، هذا يدل على أنه ليس بعالم أصلاً، فضلاً عن أن يوصف بأنه عالم رباني.
إن صلاح هذه الأمة لا يكون إلا بوجود العلماء الربانيين، ولئن كنا نعاني من عدم وجودهم فأنا أدعوكم إلى أن يجند كل واحد منكم ولداً من أولاده لدراسة العلم الشرعي، وحفظ القرآن الكريم، وأن يمشي على سير الصالحين حتى إذا وصل الولد إلى سن الخامسة عشر أجيز بالفتوى.
لو ضمنّا في هذه الأمة عشرة أو عشرين من هذا الطراز نأمل إن شاء الله عز وجل أن يصلح الله الحال، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه قائداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم العرض عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.(125/14)
الأسئلة(125/15)
ذكر القدح في الأشخاص يكون حسب المصلحة
السؤال
هل يجوز أن يسمى الرجل بما فيه من العيب والقدح؟
الجواب
تسمية الرجل والإخبار بما فيه كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي المصلحة فيما يقول، فأحياناً يقول: (ما بال أقوم) في موضع، ويصرح في موضع آخر، إذا كان يستلزم النصيحة المحضة والتحذير لا مانع من التصريح، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -والحديث في الصحيحين- لما جاءته فاطمة بنت قيس تخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية بن أبي سفيان وأبي جهم أنهما خطباها فقال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) فإذا كان هذا في شأن امرأة، ولم يخفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلمه في معاوية بن أبي سفيان وفي أبي جهم، فمصلحة الأمة المسلمة لاسيما مع كثرة الشر يستدعي أن يصرح الإنسان بالتحذير من هؤلاء الناس، لاسيما والفتنة تأتينا من طريقهم، وهم يمكنون من الصحف الرسمية وغير الرسمية، ومن وسائل الإعلام، فإذا علم المسلم أن هذا إنما يأتيه من ورائه دخن كان على حذر منه.(125/16)
الحديث الضعيف لا يفيد العلم
السؤال
هل الحديث الضعيف يفيد العلم؟
الجواب
لا يفيد الحديث الضعيف بشيئاً من العلم، لا في فضائل الأعمال ولا في الأحكام الشرعية على المذهب الراجح.
مداخلة: ابن حجر ذكر شروطاً للحديث الضعيف في إفادته العلم؟ الجواب: أنت لو قرأت شرح الشروط الثلاثة التي ذكرها الحافظ ابن حجر في العمل بالحديث الضعيف تجد أنه ذهب في النهاية إلى منع العمل بالحديث الضعيف، وأنا أحيلك على مقدمة تمام المنة للشيخ ناصر فقد تكفل بشرح هذه الثلاثة الشروط.(125/17)
أين نحن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟!
إن علو الهمم شيء أساسي في بناء الأمم، فرجل ذو همة يحيي الله به أمة، وإن الناظر إلى حياة الصحابة رضوان الله عليهم ليجد في علو همتهم وعزمهم وقوة إيمانهم ما يدعو للعجب، فلذلك مكن الله لهم في الأرض وأيدهم بنصره، وما صارت الأمة الإسلامية اليوم إلى هذه الدرجة من الضعف والذل وتسلط الأعداء؛ إلا بسبب دناءة الهمم وخستها في جميع مجالات الحياة، فإذا أردنا أن نرفع هذا الذل عن أمتنا؛ فعلينا أن نرجع إلى سير أسلافنا وننشرها في مجتمعاتنا؛ لأن في نشر سير مثل هؤلاء الأبطال دعوة إلى علو الهمة ونشر الفضيلة.(126/1)
الولاء والبراء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: إن الولاء والبراء روح الإيمان، وولاؤك لله ورسوله والمؤمنين فريضة، وبراءتك من أعداء الله ورسوله والمؤمنين فريضة أيضاً، فأهل الفساد هم أهل السلطان، وأهل الشوكة في غالب الأزمان يطارودنك ويضطهدونك، وهذه ضريبة معجلة يدفعها أهل الإيمان.(126/2)
علو الهمة خلق أسلافنا
سأل سائلٌ فقال: كلما قرأت في تراجم أسلافنا في جدهم وعزمهم وقوة إيمانهم، وأردت أن أقلدهم فيما يفعلون أفشل، وأنا صادق في الطلب، لست بمراءٍ، أريد أن أقتفي أثرهم، لكنني أرجع مثل موجٍ منكسرٍ أو جيش منهزم فما هو الفرق؟ ولماذا أرجع منهزماً، وهم يظفرون الجولة بعد الجولة؟! نقول: اعلم -أيها المحب- أن الفارق هو علو الهمة، فعلو الهمة يورثك طول النفس، وقد كان أسلافنا كلهم أصحاب همم عالية.
كان الشيخ سعيد الحلبي -وهو قريب العهد منا- يلقي درسه في مسجدٍ بدمشق، فدخل عليه إبراهيم باشا الكبير وكان الشيخ ماداً رجله وهو يلقي الدرس، فدخل إبراهيم باشا فلم يغير الشيخ هيئته، فتألم إبراهيم وكظم غيظه وانصرف، ثم أرسل له بألف ليرة ذهبية، فرد الشيخ الحلبي هذه الدنانير الذهبية ومعها رساله قصيرة يقول فيها: (إن من يمد رجله لا يمد يده).
إذاً: مد رجله كان مقصوداً، فهكذا عزتهم بالعلم، ما كانوا يطمحون لدنيا؛ فما فُل شيءٌ من عزمهم ولا كُسِرت شوكتهم.
لكن خساسة الهمم غزت كل مجالات حياتنا، ولنضرب لذلك مثلاً: ما نشر في جرائدنا الرسمية وغير الرسمية: مأتم وعويل لماذا؟ لمصرع أشهر زانيةٍ في القرن العشرين! أهلكها الله عز وجل، فقامت الصحف وصدرت الصفحات الأولى عن حياتها ومآثرها.
ومن المبكي حقاً: أنه في اليوم الثالث من ربيع الثاني، سنة ألف وأربعمائة وثمانية عشر هجرية، رحل عن دنيانا أحد الأفذاذ الكبار من أساتذتنا، كان نجماً من نجوم الأدب والدفاع عن الإسلام في مصر والعالم كله على مدار ستين عاماً: الشيخ الإمام الكبير العلم -طيب الله ثراه، وسقا جدثه- الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله.
هذا الرجل الفذ مات ولم يحرك الإعلام ساكناً، برغم أنه كان نجم الأدب، وكانت له قناةٌ لا تلين، فقد ترك الجامعة، ليرد على أستاذه طه حسين في مزاعمه في الشعر الجاهلي، وكان طه حسين أستاذ محمود شاكر، فترك الجامعة ليرد عليه، ورد عليه وانتصف منه سنة ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، والرجل يكتب ويدافع، ووقف وقفةً بطولية ضد من سموه أستاذ الدين: أحمد صبحي السيد، وعبد العزيز فهمي وغيرهم.
هؤلاء أرادوا أن يحولوا اللغة العربية إلى اللغة العامية، وأن يستبدلوا الحروف العربية بالحروف اللاتينية، فوقف ضد هؤلاء وقفة شامخة، وكان كالجبل الأشم، ورحل الشيخ محمود شاكر ولم يحرك الإعلام ساكناً حتى وزارة الثقافة -الذي هو يعتبر رأسها، وهو الذي زانها- لم تنع الرجل، وهو لا يحتاج إليها بطبيعة الحال.
وزارة الثقافة لم تدفع له ثمن الكشف، بل وزارة الثقافة في الكويت هي التي دفعت تكاليف الكشف في غرفة الإنعاش وغرفة العناية المركزة لهذا العالم.
عقوق مستمر وجحود للكبار.
عش مجبراً أو غير مجبر فالخلق مربوطٌ مقدر والخير يهمس بينهم ويقام للسوءات منبر هكذا يقال: (للسوءات منبر)، أما الخير فيهمس به بينهم، فيموت الرجل ويرحل عن دنيانا، ولا أحد يذكره! هكذا فليكن العقوق، هكذا فليكن الجحود ونكران الجميل! لكن الرجل -أحسبه والله حسيبه- ما كان يرجو من هؤلاء مدحاً ولا جزاءً ولا شكوراً، لكن هذا نمط يغزو حياتنا كلها، عقوق لعلمائنا وجحود لفضلهم.(126/3)
دناءة الهمم
امرأة تعترف بالخيانات، ويجري وراءها الذين أخلدوا إلى الأرض، وصرعهم الملك الذي لا يبقى إلا وجهه، وتصرمت عنهم الدنيا والشهرة التي أهلكتهم.
كل حيّ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خفوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها التاجر قل لي أين ذاك الجبروت كنت مطبوعاً على اللطـ ـف فما هذا الصموت ليت شعري أهمود ما أراه أم قنوت أين أملاك لهم في كل أفق ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك التخوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القو ل ولا حي يقوت عمرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعوت إنما الدنيا خيالٌ باطلٌ سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
هذا الشاب الذي صرع خلف المرأة العاهرة أعطاها في حفل العزاء الأخير خاتم من الماس بمليون جنيه، والله أعلم هل خطر بباله أن يؤدي الزكاة المفروضة على المليارات أم لا، إنما البكاء على خساسة الهمم! إن أسلافنا ولدوا وهم ينظرون إلى السماء، فتعلقت أنظارهم بالثريا، وهؤلاء ولدوا وهم ينظرون إلى الأرض، لا يرون إلا شراك النعل وموضع القدم فتعلقت أنظارهم بالثرى: إن الهوان حمار الدار يألفه والحر ينكره والفيل والأسد ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوطٌ برمته وذا يشج فما يأوي له أحد هذا هو الهوان، خساسة الهمم دخلت في حياتنا حتى في اختيار الزوجة، وهذا الكلام له صلةٌ متينة بموضوعنا في جيل التمكين، ومواصفات هذا الجيل التليد.
فلو أن رجلاً ذهب إلى الصحراء، واشترى فيها الفدان الذي لا يزرع بمائة ألف، لقال الناس: مخبول ومجنون، يدفع مائة ألف في فدان لا يزرع؟ فهذا الذي ينكره الناس يقعون فيه إذا ذهبوا ليحضروا الحفل الأسطوري الاستفزازي في بلد أغلب أهله جياع، وينشر على صفحات الجرائد: قطعة الجبن بثلاثمائة دولار -يعني: بألف جنيه- قطعة جبن توضع في سندوتش، قطعة جبن بألف جنيه، وفي هذا الحفل يؤتى بمجموعة من البغال المستوردة بمبالغ باهظة تقدر بخمسة عشر ألف دولار؛ لترفع ذيل فستان العروس، وتغطى نوافذ الصالة بثمانية آلاف متر حرير طبيعي، وجعلوا يعددون أشياء لا تدخل تحت الحصر! المهم أن قيمة الحفل الإجمالية بلغت أربعة ملايين جنيه! فيا ترى هذه المرأة المخطوبة كم مهرها؟ وكم مؤخرها؟ وإذا كان الذي أُنفق على ذلك أربعة ملايين، فيا ترى بكم ذهبُ هذه المرأة.
أليس هذا لدفع المال الكثير للأراضي البور، هذه المرأة أليست مثل الأرض البور، ما الذي سيخرج من صلبها؟! يدفع ألوفاً مؤلفة بصدد مثل هذا النمط من النساء الذي ورد في الحديث الصحيح أنه مثل الجرب، المرأة الفاسدة مثل الجرب، فهذا رجل يطلب معاشرة امرأة جرباء، ويدفع فيها كل هذا المال، وإنما هي خسة الهمة في الطلب! فإذا كان هذا مقياسه في طلب شريك حياته، فما بالك ببقية مجالات حياته.
الذي ميز بين الجيل الأول العظيم وبين الأجيال المتعاقبة -كجيلنا مثلاً- هو علو الهمة، فعلو الهمة يطيل نفسك في البذل، وإذا طال نفسك لا يضرك الأذى في الله، ولا يضرك ما فاتك من الدنيا.(126/4)
قصة أصحاب الكهف
تدبرت قصة أهل الكهف، وأرسلت طرفي فيها مرةً ومرة، فوقفت على بعض المعاني: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [الكهف:13 - 14].
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمي سوى العالي من الشجر الحشيش في الأرض ما يضيره الرياح والبروق والرعود، ولا يتأثر إلا الشجر العالي الطويل القامة، كذلك المحن لا يهتز لها الذين أخلدوا إلى الأرض؛ إنما تصيب القمم وأصحاب الهمم، تأمل في الآيات: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:13 - 14]، (إذ قاموا) بعد (ربطنا)؛ لأنه لا يقوم ولا يصبر إلا إذا استقام قلبه؛ فلذلك تقدم ذكر الربط على القلب قبل القيام، والمصائب التي تأتي زرافات ووحداناً لا يتحملها إلا قلبٌ جسور، يستوي معه التبر والتراب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما بيتي والسجن إلا واحد) فعلام ما يأسى؟! هذا من أثر الربط على القلب، ومن الذي ربط؟ الله هو الذي ربط، والذي يربطه ويكرمه لا يحله أحد، فتبارك الذي ربط {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] لا انفصام لهذا الربط.
{إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] والمدهش أن هؤلاء الفتية كانوا أولاد علية القوم! فسبحان الذي يخرج الحي من الميت، أولاد علية القوم، البيوت الراقية، تنحو وتركوا مظاهر الترف، وآوتهم الهمم إلى كهفٍ، لكن: قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا ونظرة بعين رضاك تجعل الكافر وليا {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، كهفٌ خشن لكن لا يحسون بذلك، تركوا الترف والدعة انحيازاً إلى جانب الله عز وجل.
وقصة أهل الكهف قصةٌ فريدة؛ لأن هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها مثل هؤلاء الفارين بدينهم دون الأنبياء، قصص القرآن تدور على الأنبياء؛ لأنهم الأسوة والقدوة والمثال، فضُرب المثل بأصحاب الكهف ليقال للناس: لكم فيهم أسوةٌ.
لزوم الكهف معناه: الاعتزال.
والعزلة في المجتمع الفاسد لا بد منها.
والعزلة قسمان: عزلةٌ بالبدن، وعزلةٌ بالقلب، فإذا استطعت أن تخرج من بلدك إذا استعلى فيها العصيان فاخرج، فإن السلف كانوا يفعلون ذلك: خرج بعض العلماء من بلدٍ يسب فيه عثمان رضي الله عنه، وقال: لا أقعد في بلدٍ يسب فيه عثمان ورحل، ونحن نعلم أن انتقال الإنسان من دار إلى دار كم يكلف! لكن إذا عجزت فلا أقل من اعتزال هؤلاء بقلبك، فلا تشاركهم في اهتماماتهم، ولا تعينهم على باطلهم، ولذ بإخوان الصدق.
واعلم أن العزلة لها ضوابط، حتى لا يئول الحال أن تعتزل الناس جميعاً فتأتي بأفكار هدامة مثلما حدث لبعض الجماعات المنحرفة: اعتزل ثم بمضي الزمان كفر الناس، وقال: هؤلاء ليسوا بمسلمين؛ لأنهم رضوا بالتحاكم إلى القوانين الجائرة، فأورثته العزلة تكفير المجتمع فهذه عزلة غير محمودة.
فعدم فهم العزلة الشرعية أحد الأسباب المفضية إلى ضعف عقيدة الولاء والبراء.
وإن الجهل بمراتب الأحكام الشرعية له أثر في وهن عقيدة الولاء والبراء، فهذا الجهل الذي نراه -قد أطبق على المسلمين- هو أحد الأسباب الرئيسية في ضعف عقيدة الولاء والبراء.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يُسب ويُشتم، ويرسم بالصورة المهينة التي تعلمونها جميعاً، ومع ذلك -كما قلت- لم تصدر أي جهة رسمية أو أي صحيفة استنكاراً على ذلك، ولما ماتت الزانية تكلم ثلاثة رؤساء، ونددوا بالمخابرات البريطانية والفرنسية، وقالوا: إن هذا اعتداء على الحرية الشخصية.
فهل الحرية الشخصية تعني الفجور؟! تكلم ثلاثة رؤساء، ونشر كلامهم في الجرائد الرسمية.
ولكن عندما يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحركون ساكناً.
فانظر إلى هذا التباين لتعلم إلى أي مدى ضعف الولاء والبراء عند المسلمين.
علو الهمة في الحيوان يجعل له قيمة، فالأسد قالوا: إنه ملك الغابة لماذا؟ لأن الأسد لا يأكل الجيف أبداً، ولا يأكل الطعام البارد على الإطلاق، بخلاف الكلاب، والذباب، فكلما ذبّ الكلب وطرد آب ورجع، وقد جاء في قول القائل: تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة دائر الشركاء فيه ولا ترد الأسود حياض ماءٍ إذا كان الكلاب ولغن فيه وتأمل في كلب أهل الكهف، كلبٌ تبع الصالحين فنبل ذكره وعلا قدره، وذكر في كتاب الله المجيد! وهذا كلب تعلق بآدمي يموت، فكيف إذا تعلقت بالحي الذي لا يموت؟! كم يكون قدرك، وكم يكون نبلك! فلماذا نرضى بالدون وخساسة الهمم.
الولاء والبراء أن تتولى الله ورسوله، وتتبرأ من الكافرين والفاسقين والمنافقين.
ولابد أن تصبر على ما يصيبك؛ لأن أصحاب الولاء والبراء يدفعون الضريبة عاجلة، ولكن الله وعدهم فقال: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(126/5)
صور من حياة السلف في علو الهمة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام: إنني إذا ضربت المثل أحياناً ببعض أهل الكفر، لا أقصد الاحتجاج بهذا المثل، إنما أقصد إثارة الهمم؛ فإن المرء إذا رأى الرجل الدون يرقى وهو خامل؛ عز عليه أن يظل في هذا الخمول، وما أورد مثل هذه القصص في موضع الحجة على الإطلاق، ولا أحتج بهؤلاء، ولا أرفع بهم رأساً على الإطلاق، إنما أرفع الرأس بالقرن الأول، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، القرون الثلاثة المفضلة، التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).(126/6)
سعد بن معاذ رضي الله عنه
هناك القلوب لا قيمة لها، لأن كعبتها التي تدور حولها الشهوات، بخلاف الجيل الأول، فقلوبهم من القلوب التي تطوف حول العرش.
ومن هذه القلوب: قلب الذكي الذاكي سعد بن معاذ رضي الله عنه.
سعد بن معاذ كان رجلاً، بشراً من البشر يمشي على الأرض بقدميه، ولما مات اهتز له عرش الرحمن أتصدق؟! يا له من عبد! قيمة هذا العبد: يهتز له عرش الرحمن يوم يموت، له عند الله قدر: (إن العرش اهتز يوم مات سعد) وكان سيداً شريفاً مطاعاً نبيلاً من نبلاء الرجال، محبباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(126/7)
أنس بن النضر رضي الله عنه
ومن هذه القلوب: قلب أنس بن النضر رضي الله عنه.
هذا السيد الذاكي صاحب هذا القلب لما كسرت الربيع بنت النضر ثنية جارةٍ لها وأردوا القصاص أبى عليهم أنس، وقال: (تكسرون ثنية الربيع! لا، والله لا تكسر أبداً، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والثنية: مقدمة من الأسنان- فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أنس! كتاب الله القصاص.
قال: يا رسول الله! تكسر ثنية الربيع! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر أبداً، فليأخذوا الدية.
وهم يرفضون ذلك -لا بد من القصاص، لابد أن تكسر سنها- فلا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أنس! كتاب الله القصاص.
وهو يقول: لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر أبداً؛ حتى رضي القوم بالدية.
فحينئذٍ يقول صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) يا له من عبد! كم قدره وكم يساوي أن يقسم على الملك الجليل! أن يقسم عليه أن يفعل كذا! فيبر الله قسمه ويفعل.
كم يكون قدر هذا العبد!! ولو أن رجلاً لاذ بأعظم أهل الدنيا، فإنه لا يستطيع فعل شيء، فهذا فرعون الجبار ما ملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.
وهذه الظاهرة ظاهرة التطوس.
مثل أن يكون هناك ديك أو دجاجة فيجعل من نفسه طاووساً ومهما صنع فهو من الدجاج، وهذه الظاهرة تسمى ظاهرة التطوس.
لكن الملك الجليل أقسم عليه عبدٌ من عباده فأبره، لأن هذا النمط من البشر قلوبهم تطوف حول العرش، لا يطوف القلب حول العرش إلا بعلو الهمة وصدق الإيمان؛ لذلك ندندن دائماً على علو الهمة.
من علو الهمة: ألا تنظر حولك، فلو نظرت حولك لاستوحشت بقلة السالكين، ولذلك الله عز وجل منَّ على أهل الكهف لما قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] الضرب على الأذن نعمة من الله، لا تسمع الناس؛ لأن أكثر المصائب التي تفتك بالعزم سببها الناس، فالضرب على الأذن نعمة جليلة.
فلو كنت ماض فصم أذنك إلا عن نداء الحق، واعلم أن كثرة مخالطة الناس تفتك بالعزم، وبالذات في هذا الزمان، الصدع بكلمة الحق مر وعواقبه وخيمة، لكن يبقى بعد ذلك جلالة الذكر عند الله سبحانه وتعالى.
اليوم عندما يريدون أن يلمعوا الزعماء القوميين يعملون المسلسلات والأفلام، وأي إنسان ينظر إلى إنسان من هؤلاء يتمنى أن يكون مثله، بالرغم أنه لا وزن له على الإطلاق، لكنهم لمعوه فقط، وهو لا وزن له.(126/8)
إبراهيم الحربي
ومن أعلام علو الهمة: أولئك الأفذاذ الذين عاصروا الإمام أحمد والإمام البخاري، وغيرهم من أئمة الإسلام الذين لا تعرفهم الجماهير.
هل أحد منكم سمع بـ إبراهيم الحربي؟ إنه الإمام الكبير العلم، صاحب كتاب: (غريب الحديث)، وأحد تلاميذ الإمام أحمد، وأمتنا تمتاز بكثرة العمالقة! وإذا أردت أن تعد العمالقة الشوامخ في أمتنا تكل من كثرة العد.
إبراهيم الحربي رحمه الله رجل صاحب همة عالية.
قال: (اشتكيت ضرسي عشرين عاماً، فما شعرت بي أمي ولا امرأتي).
مريض مريح، المريض في العادة يكون مزعجاً: تجده يتأوه آه آه آه ويجهد أهله، ولا يكف عن الأنين، يوجع قلب الذين من حوله.
وهناك مريض لطيف خفيف، يمرض ولا يشعر به أحد، ما أخبارك؟ الحمد لله، أنا بخير، ويلهج بذكر الله والثناء على الله عز وجل.
فـ إبراهيم الحربي من هذا النوع، مع أن هناك حديث موضوع، لا أقول عنه حديث، ولكن أقول: إنه كلمة مشهورة وهي حق فعلاً بين الناس: (لا ألم كألم الضرس، ولا وجع كوجع العين) أي إنسان لديه حس حديثي يعرف أن هذا الذي وضعه طبيب، يعني: هذا ليس عليه أنوار النبوة (لا ألم كألم الضرس -انظر إلى هذا الكلام! - ولا وجع كوجع العين) فعلاً: ألم الضرس من أشد الآلام؛ لأن مكانه الرأس، والرأس به السيطرة الكاملة على الجسم، حتى أن الشافعي رحمه الله، لما أراد أن يبين أن وقوف الشريف بباب اللئيم مسألة لا تطاق ولا يقدر عليها؛ جعل يعدد المحالات الممكنة، فذكر منها: وجع الضرس، فقال رحمه الله: لقلعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمسِ كل هذا مستحيل! وقرُّ بردٍّ وقود فرد ودبْغُ جِلدٍ بِغيرِ شَمسِ ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ بربعِ فلسِ كل هذا: أهونُ من وقفةٍ لحرٍّ يرجو نوالاً ببابِ نحسِ وقفة الحر على باب اللئيم أعظم من هذا الذي قاله الشافعي رحمه الله.
انظر الهمة العالية في كظم الألم، برغم أنه لو قال: آه، واشتكى ونحو ذلك فهذا مباح، لا شيء فيه، وأن الإنسان إذا عاده عائد فشكا له علته من باب التنفيس، ليس من باب الشكوى، وجاز له ذلك، كما في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (مرضت بمكة مرضاً أشفيت فيه على الموت -والكلام هذا كان في حجة الوداع- قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يعودني.
فقلت: يا رسول الله! إنه قد بلغ بي من الألم ما ترى -يشتكي له ويقول له: انظر ما حصل لي، وما وصلت إليه صحتي من التدهور- وعندي مال وأريد أن أوصي به) فذكر المرض ليس على سبيل التشكي والتسخط على قدر الله تبارك وتعالى جائز، ولكن كظمه من باب الندب.(126/9)
محمد بن واسع
ومن علو الهمة أيضاً: ما قاله محمد بن واسع رحمهُ الله، محمد بن واسع هذا يعرفه الله، وقل من الناس من يعرفه، لما تقرأ سيرته تبكي على نفسك، هو صاحب الكلمة الشهيرة: (لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني)! وكان محمداً من العباد الزهاد.
كان يقول: (إني لأعرف الرجل يبكي عشرين سنة، ورأسه بجانب امرأته ما تشعر امرأته به).
يعني: يبكي من خشية الله فتدركه العبرة، فلا تشعر امرأته به، ورأسه بجانب رأسها! يا لعلو الهمة! ولذلك حق لمثله أن يكون في زمرة السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم صلى الله عليه وسلم: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
أنت تعرف الدمع، إنما يسوقه قائدان، الدمع لا ينزل إلا إذا ساقهُ قائدان: القائد الأول: قائد الخوف.
والقائد الثاني: قائد الشوق.
الخائف باكٍ والمشتاق باك، كلاهما يبكي، فالخائف من الله عز وجل يبكي، والمشتاق إلى لقائه يبكي أيضاً، فالذي عمَّر قلبه بذكر الله عز وجل إذ قلبه يطوف حول العرش إنما يبكي: إما فرقاً وإما شوقاً، فلا يزال يبكي أبداً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
ومشكلتنا في هذا الزمن مشكلة همم، ولذلك نحن نحتاج إلى من يبرز، وأنا أهيب بالدعاة وطلاب العلم أن يعقدوا المجالس في سير السلف، وأن يقرءوا سير السلف، ويقفوا عند المثال التربوي في سير هؤلاء العظماء، ويعرضوها على الجماهير.(126/10)
أبو بكر بن أبي داود
أبو بكر بن أبي داود خرج يطلب أبا سعيد الأشج، ويكتب عنه الحديث، واشترى ثلاثين مداً باقلاء، وكان معه أرغفة فإذا أراد أن يأكل ذهب شطر الفرات، فينقع الرغيف في الماء ثم يأكل والله المستعان! وفي هذا قصة طريفة وهي تعرف برغيف أبي نوح، والشاعر يقول: يجوع ضيف أبي نو حٍ بكرةً وعشية فجاع بطني حتى وددت طعم المنية وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية الرغيف هذا مصنوع على حجر الطن وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية فقمت بالفأس كيما أدق منه شظية أي: يأكل، ولا يأتي باللقمة إلا بالفأس، فقام يأكل لقمة فثلم الفأس، طارت قطعة من الفأس، تثلم الفأس وانطاع مثل سهم الرمية خرجت اللقمة هذه كالقذيفة فشج رأسي ثلاثاً ودق مني ثنية أي: شج رأسه وكسر أسنانه، فهذا هو رغيف أبي نوح، أشهر من أبي نوح، وهو رغيف خالد الذكر! قلنا: إن ابن أبي داود خرج لطلب الحديث وكان معه أرغفة، فإذا أراد أن يأكل ذهب إلى شط الفرات فينقع الرغيف ساعة، ثم يأكل ويمضغ أربع حبات فول، وينطلق إلى أبي سعيد الأشج يطلب الحديث، فنفذ زاده، ولكنه كتب عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث.
الله أكبر! ما هذه الهمم!! أبو بكر بن أبي داود هل تعلمون من أبوه؟ أبو داود صاحب السنن الشهيرة، وأحد الكتب الستة، والكتب الستة هي: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة.
الصحيحان: هما البخاري ومسلم.
السنن الأربعة: أول هذه السنن مرتبة عند أهل العلم: سنن أبي داود؛ للثناء والذكر، وحسن التبويب.(126/11)
جليبيب رضي الله عنه
أيها المسلمون: هل أحدٌ منكم يعرف جليبيباً؟ يعز علي أن يكون أغلب المسلمين لا يعرف من هو جليبيب!.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوةً مع أصحابه، وبعد أن انقضت الغزوة، قال: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: نعم.
نفقد فلاناً وفلاناً.
ثم قال: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: نعم.
نفقد فلاناً وفلاناً.
ثم قال لهم: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: لا.
قال: ولكني أفقد جليبيباً فالْتَمِسُوه في القتلى، فالتَمَسُوه فإذا هو قد قتل سبعة وقتلوه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف عليه وقال: قتل سبعةً وقتلوه، هذا مني وأنا منه (سبع مرات)) وكما ورد في صحيح ابن حبان، سبع مرات وهو يقول: (هذا مني وأنا منه)، هذا جليبيب من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منه، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! لكن في زمان الضعف ينبغي أن نظهر هؤلاء الذين يملكون الإعلام في العالم، وهم اليهود، والصحافة الضعيفة في البلاد التابعة لليهود تكون بوقاً وظلاً للصحافة القوية، فإعلام المسلمين إعلام يهودي يسير على نفس الخطة، والمهم -عندهم- رواج الصحيفة، لا يهم ما الذي ينشر فيها، فكل يومٍ يلمع جناة وشذاذ.
وحتى في احتفالاتهم البدعية المنكرة يأتون بشخصيات فاسدة كما حدث في المعهد النموذجي لمدينة نصر -المعهد الأزهري- في يوم عيد الأم، والذي يحز في النفس أن يحتفل بها في المعاهد الأزهرية، في هذا اليوم أتوا بالأم المثالية في المعهد الأزهري، الأم المثالية، أما وجدوا أُماً محترمةً في هذا المجتمع يقدمونها للبنات والشباب إلا مثل هذه؟! أنا أذكر هذه النماذج لتحس بمعنى الغربة، فإلى متى هذا اللهو واللعب؟! وإلى متى هذا التغافل الذي نعيشه في بيوتنا وطوفان الفساد الكاسح يعلو أسرنا ومجتمعاتنا.
إننا نحتاج إلى إظهار أمثال جليبيب رضي الله عنه، الرجل الذي كان نكرة في قومه؛ حتى أنه كما روى ابن حبان بنفس السند في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ: أريد أن أخطب ابنتك.
قال: نعم، ونُعمى عين، فقال صلى الله عليه وسلم: ولكن ليست لي.
قال: إذاً: حتى أستشير أمها.
فجاء إلى الأم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ابنتك.
فقالت: نعم، ونعمى عين، قال لها: لا، ولكن ليس له.
قالت: لمن إذاً؟ قال: لـ جليبيب.
قالت: لـ جليبيب! لا والله، قد جاءها فلانٌ وفلان، أنزوجها جليبيباً) رجل نكرة، لكنه عند الله معروف، وما يضر العبد أن يكون مجهولاً عند الناس لا يعرف إذا كان الله يعرفه، فمعرفته سبحانه هي التي تنفع العبد، وإذا نسي الله عبداً هلك ولو ذكره العالم أجمع.
إن أويس القرني رحمه الله، وقد زكاه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال: (خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس).
المهم أن أويس القرني لما جاء إلى عمر بن الخطاب وعرفه عمر، قال له: ادع لي -لأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى أن من قابل أويساً فليطلب منه الدعاء- فقال له: أنت أولى أن تدعو لي، إنك حديث عهدٍ بسفر صالح، فدعا له، فقال له عمر: إلى أين تتجه؟ قال: إلى مكان كذا.
قال عمر: تحب أن أكتب لك إلى عاملها -أكتب له رسالة يهتم بك، وينزلك المنزل السهل الجميل- فقال له: لأن أكون في غبراء الناس أحب إلي.
أي: دعني من الشهرة، أنا لو تهت في الناس هذا أحب إلي، فما زال في هذا البلد، ففطن الناس إليه فجاءوا جماعات يطلبون منه الدعوات كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام وأوصى، فلما علم أن الناس فطنوا له؛ هام على وجهه في الأرض! لا يضر أن يجهلك الناس وأن يجهلوا قدرك إذا كان الله عز وجل يعرفك.
فـ جليبيب لم يكن له ذكر، ولم يكن معروفاً، فقالت المرأة: ومن جليبيب؟ قد طلبها فلانٌ وفلان، فتكلمت الفتاة المؤمنة من وراء الستر، وقالت: ويحكم! أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اسمعن يا معاشر النساء! ويحكم: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اجعلوا أمري لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجت جليبيباً، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء جميل رقيق جامع، قال: (اللهم صبّ عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً)؛ لكن جليبيباً خرج إلى الغزوة بعد وقتٍ قصير من الزواج ومات، قال ثابت: فما وجدنا امرأةً أنفق منها في المدينة.
كل يريد الظفر، كلٌ يريد أن يتزوجها ويحظى بالعيش معها.
هكذا إذا أردنا الاحتجاج أورثنا أمثال هؤلاء، فليس عندنا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نكرة على الإطلاق، فكلهم أعلام أفذاذ كالجبال الشامخة، إن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زياد بن أبيه وكان رجلاً غشوماً، فقال له: يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاة الحطمة، فلا تكن منهم) شر الرعاة الحطمة، عندما يكون راعي غنم، وليس عنده حلم، فكلما يصطاد غنمة يضربها، إذاً: سيموت الغنم ولن تبقى معه غنمة، فشر الرعاة الذي يحطم، الغشيم، الذي ليس عنده حلم، فيقول له: (إياك أن تكون منهم) فرد زياد بن أبيه عليه فقال له: اجلس، فإنك من نخالة أصحاب محمد.
أي: أنت لست من الأكابر، أنت من الحثالة، من الذين لا يزنون شيئاً، فرد عليه عائد بن عمرو الصحابي الجليل رضي الله عنه فقال له: أوفيهم نخالة؟ لا.
والله إنما كانت النخالة في غيرهم وبعدهم -أي: يعرض به- وأما هؤلاء فليس فيهم نخالة على الإطلاق.
فهذا النمط هو الذي نحتج به؛ لكن أحياناً نذكر بعض نماذج من الكفرة؛ من باب استثارة الهمم، لما ترى الرجل الدون الحقير، الذي يقاتل للتراب يرتفع وأنت صاحب دعوة الحق، ما زلت ضعيف الهمة فهذا يحفزك.
هناك ولاية من ولايات أمريكا اسمها ولاية هيوبتن، وهيوبتن اسم رجل، هذا الرجل خطب في البرلمان الأمريكي خطبة بليغة جداً خطف بها قلوب الأعضاء، وبعد انتهاء الخطبة قال له الرئيس الأمريكي: إن ولاية هيوبتن التابعة لكندا ولاية حيوية وخطيرة، ونحن نريد أن نضمها إلى أمريكا، وقد ابتعثتك لهذه المهمة.
فقال له: اعطني مالاً ورجالاً وآتيك بها.
قال له: لو كان عندي مالٌ ورجال ما انتدبتك، ولكن تذهب وحدك بلا دولار واحد سوى الرجل الذي سيعبر بك النهر إلى هناك.
وذهب الرجل الذي عنده ولاء أرضي، وكان عظيم الخطابة، فالمتهم الذي لبسته كل أسباب الإدانة يخرجه بريئاً منها، ومضى على هذا، وأخذ الصيت العظيم العريق العالي في البلد، بعدما كان له هذا الصيت بدأ يخاطب الناس عن ضرورة الاستقلال عن كندا، واستطاع بعد فترة من الزمن وبعد قناعة السكان أن يحقق طموحه، فاستقل أهل الولاية عن الوطن الأم وانضموا إلى أمريكا، ورجع الرجل إلى بلده بهذه الولاية بغير رصاصة واحدة، فأبقوا اسمه على أشهر مدينة في أمريكا: ولاية النصر؛ تخليداً لذكراه.
وهذا الرجل حقير، ليس له قيمة، لكنه استطاع أن يصل إلى مراده بالدجل والباطل، وفعل الذي يريد، ونحن معنا كتاب الحق، الكتاب المهيمن على كل الكتب، الكتاب الوحيد الذي ليس فيه نقطة واحدة ليست منه؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولى حفظه بنفسه، لو وكل حفظ الكتاب إلينا لبدلنا وحرفنا مثل اليهود والنصارى، لكنه حفظه تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] معنا هذا الكتاب العظيم وعجزنا عن استرداد بيت المقدس الذي اغتصبه اليهود.
وهذا كله بسبب ضعف الهمم والعزائم.
فعلو الهمة هو وقود استمرار في عقيدة الولاء والبراء، الضريبة التي تدفعها كل يوم لولائك لله ورسوله، وبراءتك من أعداء الله ورسوله، ولا يصبر عليها إلا ذو همة.
قال بعض العلماء: إن القلوب جوالة: قلب يطوف حول العرش، وقلبٌ يطوف حول الحش.
وأغلب أغنياء الأرض قلوبهم من النوع الثاني، قلوبهم تطوف حول الحُش، فكل حياتهم أكل وشرب، ونزه وفسح، وقضاء للشهوات، فهذا الشاب شبابه الذي ذهب ولا قيمة له حتى في الدنيا، وكانت هذه الجنازة المهيبة التي تذكرنا بجنازة تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العظمى، والجنازة المهيبة هذه للمفاخرة، وهو لا قيمة له حتى في الدنيا، بل على العكس، خرجت الصحف تتكلم وتقول: أصحاب الدماء الزرقاء كيف لهم أن يمسوا بشرة الأميرات؟ وهم يقولون: إن العرب جرب.
ما هي حياة هذا الشاب؟ يقولون: كان هوايته اقتناء النساء مثل الميدالية، كما أنك تحب أن تقتني ميدالية أو كتاباً، وتقتني شيئاً نفيساً، فهذا كانت حياته اقتناء النساء الجميلات، والسهر في الملاهي الليلية.
أبوه ثري جداً، رجل في غناء فاحش إلى أبعد الحدود، له الطائرات الخاصة، وكراج كامل، كراج كبير جداً، كل الكراج هذا عبارة عن سيارات حديثة في العالم، سيارات لا يقدر أن يقتنيها أحد، يركب كل سيارة في السنة مرة، وهذا مثل أحذية العندليب الأسمر التي هي إلى حد الآن موجودة ومعروفة، وأنا لا أعلم لماذا احتفظوا بها حتى الآن! وكلما تأتي الذكرى السنوية يقومون بأخذ لقطة للأحذية، ما الأمر؟! الأحذية هينة أو ماذا؟ يقولون لك: الفقيد والمأسوف على شبابه كان يلبس سبعة عشر جزمة! أرأيت عقول هؤلاء الناس؟! فهذا لديه مليارات ما الذي خرج به وقد صار رهين قبر منبوذ في ضاحية من ضواحي لندن؟! ما قيمة دنياه كلها، وما قيمة ما فعل؟ لا قيمة لها على الإطلاق: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، ما أحسن هذه الآية! تهز القلب هزاً: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى(126/12)
أهمية نشر سير السلف في المجتمعات
فنشر سير السلف الصالح في مجتمعات المسلمين عودة إلى الفضيلة، وعودة إلى علو الهمة مرةً أخرى؛ لأن بعض الناس قد يرى أن الناس الكبار بدءاً من الرسل والصحابة مستواهم عال، فنحن أين وهم أين! فيصده هذا البون الشاسع عن التأسي، وأنا لما أتيت بسير العلماء الذين هم أقل من القرون الأولى -أقل من الصحابة في المنزلة- وقد فعلوا مثل هذا، ليتحفز الإنسان على أن يكون أمثال هؤلاء.
إذاً: أهم باب في علو الهمة: أن تطالع سير السلف بدءاً من الصحابة رضي الله عنهم إلى العلماء العاملين.
إذاً: علو الهمة لا بد أن تتسلح به وأنت ماضٍ في مسألة الولاء والبراء، وهذه مسألة خطيرة، نعم يطول الكلام بنا فيها، لكن حياتنا كلها مرهونة بها.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(126/13)
تحطيم الرءوس وضرب الرموز [1]
إن الطعن في الرموز والقيادات أسلوب موجود منذ القدم، فهذا رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول عندما أشاع حادثة الإفك لم يكن يقصد الطعن في عائشة رضي الله عنها، وإنما كان يقصد الطعن في ذات النبي صلى الله عليه وسلم في المقام الأول، وها هي رايات المنافقين تخفق في عصرنا، فهذه الكتب التي تطبع وتباع على الأرصفة، وفيها من الطعن في رموزنا وأصولنا ما هو إلا امتداد لتلك الرايات القديمة، فالواجب على أمة الإسلام أن تدافع عن الرموز والأصول؛ وذلك بإيجاد الكوادر العلمية القادرة على مجابهة الأعداء، والمحافظة على رموزنا وأصولنا ومبادئنا وثوابتنا.(127/1)
تلاعب العلمانيين في أصولنا سببه غياب دور العلماء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام! ذكرتُ في الجمعة الماضية تهجمَ بعض الكاتبين الجهلة على أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعواهم أنها مثلوبة، رغم أنها في أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل بإجماع الأمة، وهما صحيحا البخاري ومسلم.
وذكرت من جملة الفوائد التي عددتها في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، وأن من أخطر ما يواجهه المسلم العامي هو اختلاط العالم بشبيه العالم.
اختلاط العالم بشبيه العالم معناه: أن يذهب رجل مريض إلى رجل جاهل يظنه طبيباً ولا علم له بالطب فيقتله؛ لأنه جاهل.
أرسل إلي بعض المسلمين كتاباً، هو امتداد لهذه الحلقة التي يريد العلمانيون أن يطوقوا المسلمين بها، وهو الطعن في أصول الإسلام، هم لا يستطيعون الآن أن يتكلموا في القرآن؛ لأن القرآن محفوظ لفظه، لكنهم يلعبون في معناه، ويحرفون الكلم عن مواضعه والعلماء يقولون: إن اللفظ المجمل لا ينتفع به إلا بوجود اللفظ المبيِّن: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] هل تستطيع أن تقيم الصلاة دون أن تعرف كيفيتها؟ هل تعرف الظهر كم ركعة، والعصر كم ركعة، والمغرب كم ركعة؟ لا.
إذاً البيان في السنة كما قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
فالسنة هي البيان للقرآن، فلو جاز أن يُلعب في هذا البيان ضاع اللفظ القرآني ولم يُنتفع به، وصاحب الكتاب رجل مغمور غير معروف، وهذه من آفات غياب لجنة كبار العلماء، الأطباء لهم نقابة، حتى جمعية الرفق بالحيوان لها نقابة، وبإمكانها أن ترفع قضية على رجل ضرب حماراً، العلماء ليس لهم نقابة ولا رابطة، أين هيئة الأبحاث؟! أين الأزهر؟! تنشر هذه الكتب في مطابع، وتأخذ ترقيماً رسمياً في دار الكتب المصرية، وتجد فيها طعناً على البخاري، وأن البخاري لا يفقه شيئاً لا في الحديث ولا في الفقه! عندما يهملون العلماء الحقيقيين، ويهتمون بهؤلاء الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً ما الذي بقي لنا؟!(127/2)
الطعن في الرموز هو دأب المنافقين في القديم والحديث
الطعن على الرموز مقصود، ولا زال هذا دأب المنافقين منذ القديم فهذا عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لما أشاع عن عائشة رضي الله عنها حديث الإفك، إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصد عائشة، إنما كانت سبباً فقط، أراد أن يقول: إن امرأة النبي صلى الله عليه وسلم زانية: أراد أن يقول هذا وقصده الطعن عليه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كاد المسلمون أن يقتتلوا ليس لـ عائشة رضي الله عنها في حد ذاتها، إنما لما ألم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التجريح والطعن؛ وذلك باتهام امرأته بالزنا.
ولا تزال حرب إسقاط الرموز حرباً خسيسةً خبيثةً، والآن هي تدور على أشدها، الطعن على صحيح البخاري، وعلى صحيح مسلم بشبهات تنطلي على كثير من الناس فيظن بعضهم أن كل من أمسك قلماً كان عالِماً.
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سوَّدت وجهك بالمدادِ العالِم لا يكون عالماً إلا بأصول؛ لكن الخطورة على العوام، الذين لا يفرقون بين العالم وشبيه العالم، وشتان بينهما استدلالاً واستنباطاً وفهماً.
يُذَكِّرني هذا الخلط بين العالم وبين شبيه العالم بقصة رواها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب: الأغاني فيقول: إن الشاعر ثابت بن جابر المشهور بـ (تأبط شراً) لقيه رجل أحمق من ثقيف يكنى أبا وهب، فقال له أبو وهب: بم ترعب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميماً وضئيلاً؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل أقول له: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد.
فقال له أبو وهب: أبهذا فقط؟ قال: نعم.
فقال له أبو وهب: فهل تبيع لي اسمك؟ فقال له تأبط شراً: بكم؟ قال: بحلتي -وكان يرتدي حلة جديدة جيدة-، وبكنيتي أي: أعطيك حلتي وكنيتي وأنت تبيعني اسمك.
فقال له تأبط شراً: اتفقنا، هات الحلة، فأخذ حلته وقال له: أنت تأبط شراً وأنا أبو وهب.
ثم أنفذ تأبط شراً أبياتاً ثلاثة يخاطب فيها زوجة هذا الثقفي الأحمق فقال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تكنى بي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس وبأسي وسورتي؟ وأين له في كل فادحة قلبي هو أخذ اسمي نعم؛ لكن هل أخذ قلبي؟ وهل أخذ جرأة جناني على الأحداث؟ وهل أخذ صبري عندما أخذ اسمي؟ فهكذا شبيه العالم يلبس أزياء العلماء؛ لكنه في الحقيقة ليس عنده شيء من العلم، فليس كل من أمسك قلماً كان عالماً.(127/3)
شبه العلمانيين حول حديث الرجل الذي أمر أبناءه بحرقه وذره والرد عليها
لقد قام العلماني وجمع أحاديث مختارة من صحيحي البخاري ومسلم، فهي متفق عليها، والعلماء يقولون: إن الأحاديث المتفق عليها التي رواها البخاري ومسلم هي أقوى الأحاديث، فيأتي فينتقي أقوى هذه الأحاديث ويضعفها، ويقول: هي مكذوبة! ويثير عليها شبهات لا تنطلي ولا تنفق في سوق أهل العلم، منها: الحديث الرائع الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن أبي سعيد الخدري، وهو مروي أيضاً عن حذيفة بن اليمان، وعن عقبة بن عامر الجهني، وعن معاوية بن حيدة، هؤلاء جميعاً رووا هذه القصة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل فيمن كان قبلكم رزقه الله مالاً وولداً، وفي رواية: أغاثه الله مالاً وولداً لم يعمل خيراً قط -وفي مسند الإمام أحمد- إلا التوحيد) وفي سنن الدارمي من حديث معاوية بن حيدة: (أن هذا الرجل لم يكن يدين بدين، وقد انفرط من عمره زمان، وبقي من عمره شيء، ولم يعمل خيراً قط، وذكر عقبة بن عامر: أنه كان يعمل نباشاً للقبور) بعد ما تدفن الجثة يأتي ويسرق الكفن، وفي الصحيحين: (أن الرجل كان يسيء الظن بعمله، فجمع أولاده وقال لهم: أيُّ أب كنت لكم؟ قالوا: يا أبانا كنت خير أب، قال: فلن أعطيكم شيئاً من مالي، حتى تعطوني الميثاق أن تفعلوا ما آمركم به، قالوا، وما تأمرنا؟ قال: إنني لم أعمل خيراً قط ولئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.
قالو له: ماذا تريد؟ قال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، فإن الله إن قدر عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل صنعوا ما أمرهم أبوهم، قاموا فحرقوه حتى صار فحماً ودقوه وذروا نصفه في البحر، ونصفه في البر، فأمر الله عز وجل البحر أن يرد ما أخذ، وأمر البر أن يرد ما أخذ، وقال له: كن، فكان، فلما وقف بين يديه قال: عبدي ما حملك على أن فعلت ذلك؟ قال: خَشْيَتُك يا رب، قال: أما وقد خشيتني فقد غفرت لك).
يا عباد الله! ما هو المعنى المستنكر في هذا الحديث؟! أدعوكم إلى أن تجتهدوا وفيكم من هو أعقل منه، وفيكم الأذكياء، فليقل لي واحد منكم ذكي عاقل فاهم لقن: أي معنى مستنكر في هذا الحديث حتى يقال: إن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم؟! العلة التي أوردها هذا الكاتب المغبون الخاسر، قليل الحظ من الفقه والفهم، هي: أن هذا الحديث فيه أن الرجل أنكر قدرة الله عز وجل، ومنكر القدرة كافر، ونحن نعلم أن الكافر لا يدخل الجنة، هكذا الأصول؛ الرجل إذا مات على الكفر لا يدخل الجنة هكذا أعلمنا ربنا عز وجل، فهذا الحديث يخالف الأصول قرآناً وسنةً في أن الكافر لا يدخل الجنة.
العلماء يقولون: لا يجوز الاعتراض على ظاهر النص في بداءة الرأي، لا بد من إعمال النظر، والنظر هل هذا المعنى الذي أورده صحيحاً أم لا؟ وإذا كان لا يعلم فلماذا لم يطالع كتب أهل العلم، وقد قال أهل العلم في ذلك كلاماً في غاية الوضوح؟ أفما وسعه ما وسع أهل العلم جميعاً، وكلهم يصدق هذا الكلام؟! الرجل أسرف على نفسه، كان يعمل نباشاً، وكان مسرفاً في المعاصي، فأدركه الخوف من الله عز وجل، والخوف من الله عز وجل هو من المقامات العلية، لا يحققها إلا المؤمنون.
وقال الله -عزَّ وجلَّ-: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فإن كان مؤمناً خاف ربه.
وقال ربنا عز وجل عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50].
وقال تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
فكلما عظم إيمان العبد عظم خوفه من الله عز وجل، وكيف لا وأنت امتثل واعتبر بكلام عمر رضي الله عنه لما كان يقول: ليت أم عمر كانت عقيماً! ليت أم عمر، لم تلد عمر! ليتني كنت قشة! لو كان لي قلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله يوم ألقاه، يقول هذا عمر؛ فالآمن من عذاب الله عز وجل، والآمن من مكر الله هو الأقل إيماناً، والذي يتحرك في الدنيا وهو آمن! مَن الذي أعطاه صكاً بالأمان؟! كيف لا يخاف على نفسه؟ ولذلك الإمام البخاري أورد هذا الحديث في كتاب الرقاق، قال: باب الخوف من الله، وأبرز هذا الحديث، وقد رواه في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أحدها.
فالرجل غلب عليه الخوف من الله، ومعلوم أن الخوف إذا غلب على إنسان فقد جل عقله، وصواب تفكيره، وليس هذا مخصوص بالخوف فقط، بل بالفرح الشديد أيضاً.
العبد إذا فرح فرحاً شديداً أذهله، وإذا خاف خوفاً شديداً أذهله.
وفي ذلك أحاديث يظهر منها أن هناك إنكاراً لقدرة الله، أو إنكاراً لعلم الله، منها: الحديث الذي رواه مسلم، من حديث محمد بن قيس بن مخرمة، قال: قالت عائشة لي أو لنا: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى قالت: إنه لما كان في ليلتي التي هي لي، جاء ففتح الباب رويداً رويداً ومشى رويداً رويداً، فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق، قالت: فانطلقت وراءه فإذا هو ذاهب إلى البقيع، فذهب إلى البقيع فرفع يديه ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف راجعاً؛ فانحرفت، فأسرع؛ فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر- أي: مشى الهوين- فأحضرت، وسبقته فلما دخل عليها حجرتها إذا أنفاسها تتلاحق وتتردد، فقال: ما لك يا عائش؟ حشيا رابية؟ فقالت له: لا.
فقال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم) فما يقولون في عائشة؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فها هي عائشة رضي الله عنها كانت تجهل أن الله أحاط علمه بكل شيء، فقالت: (يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ -أي: مهما كتمنا الله يعلم- قال لها: نعم) فهذا ظاهرٌ أنها تنكر إحاطة الله عز وجل بالعلم، فهل نكفرها، أو يقال: كيف سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يقل لها: اغتسلي وانطقي بالشهادتين؟! وأيضاً فقد روى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة، رجل يمشي مرة ويكبو مرة، وتدفعه النار مرة، فلما خرج منها التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة تحتها ماء بارد، ولها ظل ظليل، فقال: رب! ادنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فقال الله عز وجل: عبدي! إن أدنيتك منها تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إي وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة فيشرب من مائها ويستظل بظلها، -رجل خارج من النار فوافَقَ ظل شجرة- فرفعت له شجرة هي أحسن من الأولى، فقال الرجل: رب! ادنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل له: ما أغدرك يا ابن آدم! أوَلم تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيقول له: ألا أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! فيقول: إي وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه منها، ثم تفتح له أبواب الجنان، فيرى المؤمنين يتنعمون ويتضاحكون على سرر متقابلين، فيسكت ما شاء الله له أن يسكت، ثم يقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أوَلم تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال له: ادخل الجنة -في بعض طرق الحديث:- يدخل الجنة ثم يقول: يا رب! وجدتها ملأى -ليس لي مكان فيها- فيقول له: ادخل الجنة ولك مثل الدنيا، فيقول العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبدو نواجذه، ثم يقول: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: من ضحك رب العزة لما قال له العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك الله عز وجل ويقول: ألا إني لا أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر -وفي حديث أبي سعيد الخدري - قال: ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها).
ما يقال في هذا الإنسان وهو يواجه ربه ويقول: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) وهل يجوز لعبد أن يخاطب ربه بمثل هذا المقال؟ لما غلب عليه الفرح الشديد فقد عقله.
ولماذا نذهب بكم إلى الدار الآخرة، فهذا مثال حصل في الدنيا، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم بأرض فلاة، كان معه راحلته وطعامه وشرابه، فنام فاستيقظ فلم يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فبحث عنها حتى يئس منها، فقال: أرجع إلى مكاني وأموت، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح).
إذا غلب الخوف على إنسان ذهب بعقله أو جله، وإذا غلب الفرح على إنسان كان كذلك.
فهذا رجل -أي: الذي أمر أبناءه بإحراقه- يائس من النجاة، وهو جاهل بإحاطة الله عز وجل وتمام قدرته؛ لكنه كما في مسند الإمام أحمد جاء بالتوحيد، يعني: أن هذا الرجل مسلم لكنه يجهل كمال قدرة الله عز وجل، والذي بلغ به هذا المبلغ هو شدة خوفه، فقال لأولاده ذلك، فلما علم الله عز وجل أن الرجل خائف، وهو أعلم بعبده إذا كان دعياً أو صادقاً، قال: (ما حملك على أن فعلت ذلك) والعبد أراد أن يفلت من ربه، فابتكر هذه الطريقة فقال لأولده: (احرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في يوم عاص(127/4)
شبه العلمانيين حول قول سليمان: لأطوفن الليلة على مائة امرأة والرد عليها
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
من جملة الأحاديث التي أنكرها أيضاً حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيحي البخاري ومسلم قال صلى الله عليه وسلم: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو قال على تسع وتسعين امرأة، كلهن تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه قل: إن شاء الله، فلم يقلها، فلم تلد واحدة منهن أحداً إلا امرأة واحدة ولدت نصف إنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما لو استثنى -يعني لو قال: إن شاء الله- لولدت كلهن فارساً يقاتل في سبيل الله، وكان أدعى لحاجته) فيقول: إن هذا الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم بالحجج الآتية: أولاً: أنه ليس في مقدور أي إنسان أن يجد طاقةً ووقتاً أن يجامع مائة امرأة في ليلة واحدة، ثم قال: -وكتبها هكذا بالحرف الأسود كنوع من التنبيه- وأرجوا الالتفات إلى هذا؛ لأنه هام.
ثانياً: قال: كيف يقول نبي من أنبياء الله هذا اللفظ غير المهذب في وسط الناس، إنني سأفعل كذا وكذا؟ ثالثاً: كيف لنبي من أنبياء الله أن يشترط على الله عز وجل، أن تلد النساء الذكور، يقول: (كلهن تلد فارساً يقاتل)؟ وما أدراه أنه سيخرج فارساً، قد تخرج امرأة؟ فكيف يشترط على الله تبارك وتعالى مثل هذا؟ أرأيتم كيف الاعتراض على حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالجهل؟! يجب على أهل العلم أن يوقفوا هذه المهزلة، الجهات الرسمية الذين يغطون في النوم، الذين يتقاضون مرتبات من الدولة، أين جهات الرقابة في الأزهر؟ تخرج كتب كل يوم وتجد من يقوم بطبعها، بعد أن يأخذوا ترقيمها دولياً من دار الكتب، أين هذه الجهات الرسمية؟ وما عملها؟ وهل يستحقون الراتب الذي يأخذونه إذا كان مثل هذه الكتب تباع على الأرصفة، ويُطْعَن فيها على كتاب الله عز وجل، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلم الجهلة في دين الله عز وجل؟! متى يصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ إذا جلس الأكابر في الزوايا وإن ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أشراط الساعة: التماس العلم عن الأصاغر) والعلماء لهم تأويلات في الأصاغر، فقال بعضهم: الأصاغر هم أهل البدع، وقال بعضهم: الأصاغر يعني في العلم، الذين ليس عندهم علم، وكاتب هذا الكتاب رجل له مسجد يخطب فيه، ويدرس هذا الكتاب وأمثاله على الطلبة، كيف لا يطرد مثل هذا الإنسان؟ وكيف يُعترض على مثل هذا الحديث الجميل بمثل هذه الاعتراضات التافهة؟ أولاً: قوله: هل يستطيع رجل أن يأتي مائة امرأة في ليلة؟ أو هل الليلة يستطيع فيها الرجل أن يجد وقتاً لمجامعة مائة امرأة؟ للرد على هذا أقول: إن القدرة على إتيان النساء من تمام الفحولة، وكمال الرجولة، ولا زال العجز عن إتيان النساء معرة عند بني آدم، وأنبياء الله عز وجل لهم تمام الكمالات، فكيف ينكر على من ملَّكه الله عز وجل رقاب الإنس والجن والطير أن يكون له شيء هو موجود عند بعض بني آدم؟! وآسف أنني أقول مثل هذه البدهيات، يضطرنا مثل هذا أن نقول مثل هذا الكلام لنبين هذا التهافت.
ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فلا زال كل شيء في تناقص؛ الزمان والإنسان).
قال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم ستين ذراعاً فلا يزال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة).
تخيل إنساناً طوله ستون ذراعاً في الهواء: (فلا زال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة) كذلك الزمان، كان اليوم أطول.
ومن علامات اقتراب الساعة قِصَر اليوم، وفي حديث الدجال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلبث فيكم الدجال أربعين يوماً، يوم كسنة -بعدِّكم-، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامكم) فهذا يوم في آخر الزمان كسنة، ومع هذا لو تنزلنا وقلنا: إن اليوم الذي كان في أيام سليمان عليه السلام بقصر يومنا، فإتيان المرأة كم يستغرق من الوقت؟ خمس دقائق؟ عشر دقائق؟ لديك أربع وعشرون ساعة، عشر ساعات يأتي كل عشر نساء في ساعة، أيُعْتَرض على هذا الحديث، بمثل هذا الاعتراض التافه الذي لا قيمة له؟ ثم إن الحديث يقول: (قال سليمان عليه السلام لأطوفن) فهل يرى أحد منكم رزقه الله الذوق والفهم أن لفظة: (لأطوفن) غير مهذبة؟! بل هي من ألطف الكنايات في الدلالة على هذا الفعل، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف:189] فانظر إلى الكناية الجميلة!: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] فقوله: (لأطوفن) من ألطف الكنايات؛ لكن الرجل مصاب في ذوقه وفهمه، حتى يرى أن مثل هذه الكناية اللطيفة ليس فيها ذوق.
ثم هل في الحديث أن سليمان عليه السلام جمع الناس وقال: إني سأفعل كذا وكذا؟ لقد ورد في صحيح البخاري: أن صاحب سليمان الذي راجعه وقال له قل: إن شاء الله! ملك، الرواية تقول: (فقال له الملك) رفيقه وصاحبه الذي كان يجالسه قال له: قل: إن شاء الله، فإما أن يكون سليمان عليه السلام قال هذا الكلام بصوت مرتفع فسمعه الملك، فقال: قل: إن شاء الله، وإما أن يكون كالمحدث نفسه بصوت عالٍ وتراه وكأنه يحدث هذا أو ذاك، فأي عيب فيه؟ وهل ترون في هذا اشتراطاً على الله عز وجل؟ لو قال رجل منا: أنا ما تزوجت إلا ليرزقني الله عز وجل برجالاً يتفقهون في دين الله، ويدفعون عن كتاب الله، أيشترط على الله بهذا؟ أم أن سليمان عليه السلام قالها على سبيل الرجاء والتمني؟ وهل لو قلت: أتمنى أن يرزقني الله بعلماء، تكون قد اشترطت على ربك عز وجل أن يرزقك البنين دون البنات؟ أترون هذا أيها الإخوة الكرام في هذا الحديث الجميل الجليل؟ مع ذلك يعترضون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، وفي الكتاب أكثر من أربعين حديثاً رواه البخاري ومسلم كلها مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم حسب زعمه، ومع ذلك فالكتاب يطبع ويباع.(127/5)
مكانة العلماء والدور العظيم الذي يقومون به
قلت لكم في الجمعة الماضية: إن الآيات التي تتكلم عن اليهود رفعت من المناهج المدرسية، والآيات التي تتكلم عن كفر النصارى رفعت من الكتب المدرسية، فما يؤمننا أن يأتي جيل بعد ذلك يرفعها من المصحف؟! ولا زال الزمان يستدير، وكلما مات عالم لا يشغل مكانه عالم مثله في العلم، لا يزال العلم يتناقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرنا بزواله، فقال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن ينتزع العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً -وفي الرواية الأخرى:- حتى إذا لم يَبق عالمٌ، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا، فلا يزال العلم يتناقص إلى يوم القيامة).
أيها الإخوة الكرام! أأتإن الدفاع عن أصولنا واجب، لا بقاء لنا على ظهر الأرض إذا لم تبقَ أصولنا قرآنٌ وسنةٌ.
ودعوة التقريب الآن بين الشيعة وبين أهل السنة أيضاً هي إحدى الطامات التي تسعى إلى هدم أصولنا، والتشكيك فيها، فهؤلاء الشيعة يضحكون على السذج من أهل السنة بدعوتهم إلى التقريب، بينما تراهم يضربون رموزنا، ويحطمون رءوسنا وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوى التقريب دعوى باطلة؛ لأن الاختلاف معهم في الأصول.
فاللعب في الأصول على أشُدِّه، وضرب الرءوس على أشُدِّه.
فلا بد أن ينتبه المسلمون إلى ذلك.
وأخيراً أؤكد على ضرورة إيجاد الكوادر العلمية، وهذا الأمر مسئولية في أعناق المسلمين.
فتفريغ الطاقات والكوادر صار الآن ضرورةً؛ لكي نجابه هذه الهجمات الشرسة على كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ لنا ديننا.
اللهم احفظ ديننا.
اللهم قاتل الكفرة المارقين الذين يصدون عن سبيلك.
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربِّ آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(127/6)
تحطيم الرءوس وضرب الرموز [2]
لقد قام العلماء الأوائل بواجبهم في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وفي مقدمة هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، فقد بذلوا أرواحهم وأموالهم من أجله صلى الله عليه وسلم، ثم تلاهم التابعون ومن بعدهم، فهذا يحيى بن معين يوقف حياته كلها في الذب عنه وعن سنته، وكذلك رفيقه الإمام أحمد، فما حصل له من بعض خلفاء بني العباس مشهور، وغيرهم.
ولازال العلماء يذبون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن سنته، فسنة الدفع سنة ربانية لا يمكن اختفاؤها، فهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(128/1)
وجوب الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
هناك عالم شهير معروف لدى أهل العلم -وإن كان جماهير المسلمين لا يعرفون عنه شيئاً- وهو الإمام أبو زكريا يحيى بن معين رحمه الله، لقد كان يحيى بن معين رفيق الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أحمد معروف عند العوام جميعاً بحكم انتشار مذهبه الفقهي، كان ابن معين رحمه الله أحد الحراس الأشداء الأقوياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولََكَمْ أضرَّ بالكذابين والمغفلين وتوجعوا منه كثيراً! ومع ذلك كان لا يفتأ أن يقذف بالسهام إليهم، ولا يعبأ بنكيرهم ولا بكلامهم.
قيل له يوماً: ألا تخشى أن يكون هؤلاء الذين تكلمت فيهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال لهم: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبَّ إلي من أن يكون الرسول خصمي، يقول لي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكذِبَ عن سنتي؟ فالدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجب لأسباب منها: السبب الأول والأهم: هو حفظ الدين؛ لأنه إذا جاز لنا أن نترك الأدلة تفلتت منا دليلاً وراء دليل، سيأتي علينا زمان وليس عندنا دليل معتبر لا القرآن ولا السنة؛ فالمنافقون والعلمانيون يبدءون بالسنة، ثم يُثَنُّون بالقرآن، ونحن الآن في زمن الغربة، وقد سمعنا بآذاننا أن بعض رؤساء الدول العربية قال: إنه يريد أن يشطب بعض آيات المصحف، وقد صدرت فتوى في السعودية وفيها: أنه إذا لم يرجع عن هذا الكلام فهو كافر.
وهذا الرئيس أصدر كتاباً اسمه: (الكتاب الأخضر)، شكله مثل البطيخة، من داخله أحمر، ومن خارجه أخضر، فهو شيوعي، الزحف الأحمر على ديار المسلمين، يقول: إن هناك آيات لابد أن تشطب منها كلمات، وهي قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] نشطب ماذا منها؟ قال نشطب: ((قُلْ)) [الإخلاص:1] لماذا؟ قال: لأن هذا الكلام كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن ثَمَّ نشطب هذا الكلام الموجه له، فعندما تأتي تقرأ سورة الإخلاص تقول: (هو الله أحد)، انظر إلى جرأة هذا الإنسان وإلى كلامه! هذا في وقتنا الحاضر فما بالك إذا مضت القرون وظهر الخبث أكثر من ذلك، ولم يوجد علماء، ما الذي يمكن أن يجري في بلاد المسلمين؟! فالآن الطعن على السنة واضح جداً، والمقصود به الطعن على كتاب الله عز وجل؛ والمسلمون لا يدرون ما المقصود من طعنهم بالسنة؟! إذاً ترك الأدلة تتفلت منا، مسألة خطيرة جداً! فلا يكون عندنا أي أدلة نستدل بها.
فالدفع واجب لهذا.
ومن الأسباب: حماية لجناب النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة له.(128/2)
رد عقلي على من طعن في رواة صحيح البخاري
نقول: مَن مكتشف الجاذبية الأرضية؟ يقولون: إسحاق نيوتن.
أليس كذلك؟ لو أني قلت الآن: إن هذا غلط، ومن قال: إن إسحاق نيوتن هو مكتشف الجاذبية الأرضية، كل هذا كلام غلط؟! أترى أن الناس سيردون عليَّ أم لا؟ سيردون عليّ، نقول لهم: مَنْ يكون إسحاق نيوتن؟ والذين نقلوا عنه المذهب ماذا يساوون؟ نحن الذين نقول: نشترط في الناقل أن يكون ثقةً عدلاً، لكي نقبل كلامه؛ لأن الفاسق خبره مردود، كما قال الله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فاتفق العلماء: أن من رُمِي بالفسق أو ثبت عليه أن خبره مردود، لا يُقبل لا في الدين ولا في الدنيا، لو جاء رجل أمام القاضي وادعى دعوة، قال له القاضي: أين شهودك؟ فقال: شاهدي فلان.
تعال يا فلان! أتشهد أن هذا الرجل له حق؟ قال: نعم.
أشهد.
وبينما هو يقول: نعم.
أشهد، إذ دخل من باب المحكمة رجل، وقال: أيها القاضي! إن هذا الشاهد سب والديه، فإن القاضي مباشرةً يسقط شهادة الشاهد، أو أنه يتعاطى الخمر، أو يشرب حشيشاً، تسقط شهادة هذا الشاهد؛ لماذا؟ لأنه فاسق.
وهذا في الدنيا، فالدين من باب أولى.
فالذين نقلوا إلينا خبر أن إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية الأرضية، نقول لهم: سموا لنا رجالكم، أخرجوهم لنا، من يكونون؟ ماذا تظنونهم؟ إن أغلبهم كفرة، ومع ذلك هؤلاء العلمانيون يقطعون بنسبة هذا الاكتشاف إلى إسحاق نيوتن.
حسناً! رواة صحيح البخاري لماذا طعنتم فيهم، وفي رواياتهم؟ على هذه الروايات وقد نقلها الإمام البخاري عن الثقات العدول إنهم أئمة، فهم نجوم الدجى فلماذا رددتم عليهم رواياتهم؟ بل ما يجري الآن في دنيا الناس يقولون: إن هناك أطباقاً طائرة، يوجد من الناس من يصدق بأن هناك أشياء اسمها: الأطباق الطائرة، ويأتي ناس من الكواكب، لا سيما من كوكب زحل، ويقولون: جاء أناسٌ على طائرة قَدْر هذا، ونزلوا في صحراء كذا، وعملوا كذا، ورآهم شهودُ عَيَانٍ، وليسوا عَيَاناًَ، وعَيَّاناً، وكلاماً من هذا، وبعض الناس يصدق مثل هذا الكلام! إذاً هل تصدقون أنتم هذا الكلام؟ ومن نقل إلينا هذا الكلام؟ إنها المخابرات الأمريكية، أفيهم عدل واحد؟! إن هؤلاء كلهم كفرة.
إذاً عندما ينقلون هذا الكلام، لماذا يُصَدَّق نَقْلُ هؤلاء الكذبة، ويُرد على المسلمين العدول نَقْلُهُم؟! فالمسألة -إذَنْ- ليست مسألة تحاكمٍ علميٍ، المسألة مسألة أهواء.(128/3)
مسألة الدفاع عن الدين وتحمل التبعات
إن مسألة الدفع لها تبعات، فلا يضيرنا على الإطلاق أن يغضب هؤلاء، أو أن يشنوا علينا هجمات، أو أن يقول: الحياة الجنسية عند علماء الإسلام وأن يفتعلوا علينا قصة من القصص، وحكاية من الحكايات، وينشرونها في وقت ما: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] وإذا خشي أهل العلم وطلابه من هجمات العلمانيين على أعراضهم بسبب الذود عن دين الله عز وجل فلن يحققوا التوحيد: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] ولذلك لا ينبغي أن يتعلق قلب العالم أو طالب العلم إلا بالله وهو يبلغ دعوة الله، فلا تتعلق بالعوام ولا بنصر العوام، فإنك قد تصبح غريباً فريداً فذاً منبوذاً وحدك، مثلما كان الإمام أحمد رحمه الله في فتنته الشهيرة، كان الإمام أحمد يحضر مجلسه مائة ألف محبرة، فلما أُخِذ ليُجْلَد لم يوجد بجانبه رجل واحد، أين ذهب هؤلاء؟! في حين أن الروايات تقول: إن المأمون سمع همهمة على باب القصر وتمتمة، فقال: ما الخطب؟ قيل: العوام يشتكون من قلة اللحم، نعم.
اللحم يقل والخبز يقل والزيت يقل ومن الممكن أن يقوم الناس بالتخريب من أجل الدنيا، ويحْرِقوا (الأتوبيسات) والمنشآت العامة، هذه المسألة سهلة جداً؛ لكن أن يؤخذ واحد من أهل العلم، ويُجْلَد أو يُشْنَق أو يُعْدَم أو نحو ذلك فهذه مسألة لا تهم العوام كثيراً.
لأجل هذا فإن العالم يجب أن يتعلق قلبه بالله عز وجل.
وهذا الرجل الذي برأ نفسه وهو يتكلم عن بعض رواة هذا الحديث، ويقول: إن فلاناً قال: فلانٌ سيئ الحفظ، وفلاناً قال: فلانٌ هذا لا يُحْتَجُّ به، وهم رواة صحيح البخاري.(128/4)
الضابط لرواية البخاري ومسلم عمن تُكلِّم فيهم
نحن يا إخواننا نضع ضابطاً عاماً بالنسبة لرواية المتكلَّم فيهم في الصحيحين.
الإمام البخاري كان إماماً فذاً، له اختيار واجتهاد، وسيئُ الحفظ ليست كل رواياته ساقطة، وكذلك الثقة الثبت العدل ليست كل رواياته مقبولة.
الإمام مالك وهو مَن هو ثقةً وإتقاناً وضبطاً، رد عليه علماء الحديث بعض أحاديثه.
سفيان بن عيينة، سفيان الثوري، الزهري، شعبة بن الحجاج، منصور بن المعتمر، منصور بن زاذان، الأعمش هؤلاء الثُّلَّة، ما من واحد من هؤلاء إلا رد العلماء عليهم بعضَ أحاديثهم.
كذلك مَن ابتُلِي بسوء حفظ فليس كل حديثه مردوداً.
إذاً: إذا أخرج الإمام البخاري ومسلم حديثاً في الصحيحين لراوٍ تَكَلَّم فيه بعض أهل العلم، نقول: لماذا خَرَّج له البخاري وهو مُتَكَلَّمٌ فيه؟
الجواب
أن الإمام البخاري إذا تَكَلَّم العلماء في راوٍ فإنه ينتقي من أحاديث هذا الراوي ما لم يُنْكِرْه أهل العلم.
هذا إمامٌ ليس سهلاً، فعندما يكون الراوي مُتَكَلَّماً فيه، وليس كلُّ ما روى باطلاً ولا خطأً، فـ البخاري كان ينتقي الأحاديث انتقاءً.
فكل حديث أودعه البخاري في صحيحه وفيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه، إنما انتقاه البخاري على عين، فلا يُطْعَنُ عليه بدعوى أن الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه، هذا هو الضابط.
عندما تجيء وتقول: الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه فكأنك تقول: إن البخاري مثل بائع اللُّب (الزعقاء) لا يميز، فأنت بهذا أهدرت اختيار البخاري، وألغيت اجتهاده، وهذا لا يجوز؛ لأن المَلَكَة في الاجتهاد في علم الحديث تشكل نصف العلم، فدراسة المصطلح والطرق: النصف، والمَلَكَة: النصف الآخر.(128/5)
الرد على من زعم أن البخاري ليس عنده دراية بعلم الحديث والفقه
إن البخاري مَن هو في العلم والفقه؟! لكن يأتي هذا المغبون الخاسر ويقول لك ماذا؟ بعد أن أورد حديث سليمان عليه السلام وقوله: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة) يقول: ويبدو أن البخاري كان رجلاً طيباً، عنده سذاجة وتلقائية، ولم يكن له كبير دراية بعلم الحديث ولا الفقه.
الإمام البخاري ليس عنده دراية بعلم الحديث والفقه؟! البخاري ذروة في الفقه، دعنا من الفقه الآن.
أيكون الإمام البخاري ليس له دراية بالحديث؟! إذاً: من الذي له دراية في الدنيا؟! يعني: لو قال رجلٌ: إن سيبويه لا يعرف النحو لحصبه أهل الأرض بالحجارة؛ لِمَا توافر عندهم جميعاً أن سيبويه المُبَرَّز العالِم الكبير الذي وضع أصول النحو، وأنه هو مقدم أهل البصرة، كما أن الكسائي مقدم أهل الكوفة.
فعندما يأتي شخص ويقول: إن سيبويه لا يعرف شيئاً في النحو، أو يقول مثلاً: إن عاصم بن بهدلة لا يعرف شيئاً في القراءات، والقراءة المشهورة: حفص عن عاصم، أو يقول: إن نافعاً لم يكن يعرف قراءة القرآن! فانظر! عندما تبلغ الجرأة بهذا الشخص فيقول هذا الكلام! وبعد ذلك يقول: وهذه المحنة الكبرى في أمتنا؛ يأخذون الدين بحسب شهرة الرجال، ولتذهب المبادئ العقلية إلى الجحيم.
لذلك -بسبب هذا وغيره- كان علينا عبء الدراسة المستفيضة للسنة حديثاً حديثاً: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
إن الذي يغيظني هو: احتجاجه بالآية، يعني: كلُّ الكلام الذي فات كَوْمٌ، واحتجاجُه بالآية: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] كَوْمٌ آخر.
وهذا يذكرني بالرجل الذي يُحكى عنه: أن امرأة ذهبت لتستأجره لقتل قاتل زوجها، فلما أتت إليه قالت له: أنا فقيرة وراعية أيتام! قال لها: نقتله لوجه الله.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، سيقتله لوجه الله! لا يأخذ منها نقوداً! فانظر! عندما يتكلم عن البخاري الإمامِ العَلَمِ الفرد! وماذا سيحدُث لو تكلموا عن أمثالنا، ممن ليس لهم حكمة البخاري، ولا مكانته ولا عظمته؟! شيء عجيبٌ أن لجنة الفتوى وكبار العلماء ما زالت تغط في نومها حتى الآن! اصحوا من النومَ، أنا عندي ثمانية عشر كتاباً، أشعلت حرباً على السنة في خلال سنتين، وأنا لا أجمع هذا الكتب ولا أشتريها إنما تصلني من مسلمين غيورين على دين الله عز وجل، يقولون: رُد، فأرسل نسخاً منها إلى إخواني وأقول لهم: رُدوا على هذا الخبث المنتشر، والإنسان إذا قرأ الكتاب يجد فيه أشياء غريبة جداً، وفيه أشياء من الشبهات، وفيه أشياء وردت في كتب أهل العلم، وأهل العلم ردوا عليها؛ ولكنهم يغضون الطرف عن رد أهل العلم.(128/6)
عدم الحكم على المعين حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع
ففي الحديث الذي بدأتُ به في خطبة ماضية، حديث الرجل الذي أمر بحرقه بعد موته وذره في الريح، هذا أصل من الأصول التي يعتمد عليها أهل السنة في الرد على الخوارج.
فالجماعة الذين يحاربون التطرف هذا حديث يرد على أهل التطرف بحق، وهم الذين يكفِّرون جماهير المسلمين ولا يعذرونهم كمثل الرجل الذي يطوف بقبر فهؤلاء يكفرونه، أما نحن فلا نكفره عيناً، الخوارج وجماعة الهجرة والتكفير والتوقف يكفرونه عيناً، ونحن لا نكفره حتى نقيم عليه الحجة الرسالية التي يكفر بها، وذلك بتوفر الشروط وانتفاء الموانع، وهذا هو الاعتدال، مع اعتقادنا أن ما أتى به جُرْم من أعظم الجرائم، نحن لا نهون من جرمه؛ ولكن لا نكفره بعينه، وإن كان جرمه عظيماً، وعظَمة جرمه تتضح من حديث أبي واقد الليثي -الذي رواه الترمذي وصححه- قال: (كنا حديث عهد بإسلام وخرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمررنا على شجرة للمشركين وقد علقوا عليها أسيافهم، وكانوا يسمونها: ذات أنواط، فقال بعض المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]).
ألا ترون الفرق بين قول الصحابة حديثي العهد بالإسلام، وبين قول أصحاب موسى له؟ الفرق واضح، أصحاب موسى قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وهؤلاء قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) اجعل لنا شجرة، وليس من اتخاذ الشجرة قصد للعبادة، فمن الممكن أن يتخذوا الشجرة ليعلقوا عليها أسيافهم؛ لكن أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم مجرد المشابهة بكلام الكافرين، فالتشبه بالمشركين في الكلام مرفوض فكيف بفعلهم؟! فأنا أسوق هذا الكلام للجماعة الذين يعملون الأناشيد الإسلامية، ويأخذون بعض نغمات أهل الفجور في أغانيهم، فيَنْظِمُون أغاني يزعمون أنها إسلامية، مصحوبةً بدف على أوزان الأغاني الفاجرة، وشخص أخبرني أن ثمة شريطاً نازلاً: لُوْلا لُوْلا لُوْلا لُوْلاكِ لُوْلاكِ لُوْلا لُوْلا إسلامنا ولست أعرف من (لُوْلا) هذه؟! ولا ماذا يقصد بهذا الكلام؟! وقيل: إن ثمة أغنية فاجرة أيضاً على نفس الوزن، يقولون: نحن نستغل شهرة الأغنية والإيقاع، ونعمل أنشودة على وزنها؛ لأن الجماعة الذين تعودوا سماع النغمة المنحرفة هذه سيسمعون النغمة المعدلة، وأذنه لا تنكر الكلام.
فانظر إليهم كيف تشبهوا بأهل الفجور! وما الذي ينطبع في أذهان المستمعين وقد حفظوا الأغنية الفاجرة عندما يسمعون الكلمات الجديدة؟! هذا مَثَلُهم كَمَثَل ممثلٍ فاجر كان ليلة أمس في أحضان امرأة لا تحل له في الفراش، واليوم يمثل عمر بن عبد العزيز في مسلسل، البارحة كان رجلاً فاجراً، والآن لابسٌ العمامةَ، ومعه لحية، ويعظ الناس، وتراه يسكب الدمع من عينيه، اتقِ الله يا مفتري! بالأمس في أحضان امرأة لا تحل لك، واليوم تمثل شخصية عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة العادل الورع.
ما الذي يمكن أن يخطر ببالك عند مشاهدتك لهذا؟! أليس هذا طعناً على عمر بن عبد العزيز؟! أليس هذا نوعاً من الخلط في ذهن المستمع أو في ذهن المتفرج؟! وهكذا تبهت الشخصيات القوية الكبيرة! وعندما تبهت هذه الشخصيات بمثل هذا فما معنى هذا؟! الله عز وجل كرَّمنا كمسلمين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فنهانا في صلاتنا أن نتشبه بالكلاب، وبالثعالب، وبالديوك، نهى عن نقر الديك، وافتراش الكلب، واحتفاز الثعلب، ونهى عن بروكٍ كبروك البعير، كل هذا إكرام لك ألا تتشبه بحيوان على الإطلاق، فكيف تتشبه بالكافرين؟! مجرد موافقة الكافرين في أقوالهم ممنوعة.
تجد بعض الجماعة يقولون: ( Mersi)! (Sorry)! (Pardon)! لماذا يا جماعة؟! أَعَقِمَتْ لغتُنا العربية أن تجد فيها ألفاظاً لطيفة وجميلة؟! أَعَقِمَتْ ألفاظُنا العربية؟! إخوانُنا أصحابُ المحلات الذي يكتبون أسماءً أجنبية على محلاتهم، والله إنني أرى أن أشرفَ منهم الرجل (الدَّغْل) صاحب الفول والطعمية الذي في المنصورة والمحلة، انظر! رغم الاسم العَكِر إلا أنه أشرف؛ لأن (الدَّغْل) لفظ عربي.
فنحن نقول لإخواننا الذين عَقِمَت اللغة العربية عندهم أن يجدوا لفظاً عربياً مشرفاً: ارفعوا هذه الأسماء الأجنبية من على المحلات.
عدوُّك الذي يقاتلُك والذي يهلكُك ها أنت ترفع عنوانَه، ولغتَه على باب محلك، أولادُك لابسون للفنائل التي عليها العلم الأمريكي، يرفعون العلم الأمريكي على صدورهم، مُعْظَمُ ملابس الأطفال عليها كتابات باللغة الأجنبية، فينطبع في أذهان الأولاد تقديس وتعظيم هذه اللغة.
فمجرد المشابهة ممنوعة، فكيف بالفعل؟! وإن كان هناك فرق بين قول أصحاب موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً} [الأعراف:138] وقول الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) إلا أنهم شابهوهم، فقد أنكر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، وقال: (إنها السنن، قلتم كما قالوا) فنَزَّلهم بمنزلة أصحاب موسى، مع أن قصدهم خلاف ذلك.
هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: أن هذه المشابهة بالقول مدعاة إلى المشابهة بالفعل.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم أن يعظموا شجرةً، مع أنهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، فكيف بدعاء الناس للأولياء في المقابر، واعتقاد الناس أنهم يضرون وينفعون! ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يكفرهم، ولو كان في هذا تكفير لهم، لأمرهم بالاغتسال ونطق الشهادتين.
فهذا يدل على أن من نشأ ببادية أو ببلد ليس فيه علماء ينشرون الكتاب والسنة، فارتكب شيئاً من هذه المخالفات أنه يُعذَر، وليس معنى العذر بالجهل أنه يصير سليماً، لا.
بل سيؤاخذ عند الله بتقصيره في طلب العلم، ولكن لا يكفَّر، هذا معنى العذر، لكنه يؤاخذ؛ لأنه قد عرف كل شيء بتفاصيله، فكيف لم يعرف دينه؟! لكن معنى قول أهل السنة: أنه يُعذر بالجهل أي: لا يكفَّر، وليس معناه رفع المؤاخذة بالكلية.
وكذلك أيضاً من هذه الأصول: الحديث الشهير: أن معاذ بن جبل لما ذهب إلى الشام وجد الناس يسجدون للأساقفة، فقال: (لِمَ تسجدون لهم؟ قالوا: نسجد لهم تكريماً وتحيةً لهم، فقال: النبيُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بأن أسجدَ له، فلما رجع خرَّ بين يديه ساجداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ؟! فقلت: يا رسول الله! رأيت الناس يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن أسجد لك، فقال: يا معاذ! إنه لا ينبغي أن يُسْجَدَ إلا لله، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، أي: لِعِظَمِ حقه عليها) ولو كان السجود لغير الله يكْفُر فاعلُه مجرداً لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كفرتَ، اغتسل وانطق بالشهادتين، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل له ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عَذَرَه.
وهذا كله داخلٌ تحت هذا الأصل العظيم.
فتصوَّر عندما يضيع هذا الأصل ويضيع هذا الأصل ويضيع هذا الأصل إذاً: ما الذي يبقى لنا مع هؤلاء المبتدعة، فضلاً عن الأعداء؟! فيا جماعة! لوذوا بعلمائكم، وارجعوا واعرفوا مَن هو العالِم الذي يُرْجَع إليه، فإن علماء الفتوى يقولون: إن العامي مقلد في كل شيء، إلا في اختيار من يقلده، فإنه مجتهد.
إذاً: العامي مجتهد في اختيار مَن يقلده، ومن يتبعه في دين الله عز وجل، فإذا كنت مجتهداً فكيف لا تعرف الفرق بين العالِم وبين شبيه العالِم؟! متى يبلغ البنيان يوماً تمامَه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ ولله در من قال متوجعاً: لو كان سهماً واحداً لاتقيتُهُ ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ(128/7)
الأسئلة(128/8)
حكم صيام النصف الأخير من شعبان
السؤال
هذا يسأل عن صيام نصف شعبان؟
الجواب
إذا كان الصيام بدأ من نصف شعبان، فهناك حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) مع حديث: (لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين).
فالجواب أولاً: إن حديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) طعن في صحته الإمام أحمد وغيره، وقال: هذا حديث منكر، وصححه بعض أهل العلم.
وعلى التسليم بصحته فنحن نقول ما قال العلماء: إن هذا يكون في حق من ليس له صيام الراتب، فاستأنف الصيام من نصف شعبان.
فالذي لم يتعود على صيام الراتب، إذا انتصف شعبان فلا يصُم.
أما من كان له صيام راتب فهذا له الحق أن يصوم بعد نصف شعبان بشرط أن لا يصوم قبل رمضان بيوم أو يومين خشية أن يصوم يوم الشك.
إذاً: الجمع بين الحديثين أن مَن كان له صيام راتب فله أن يصوم؛ لكن قبل رمضان بيوم أو يومين يقطع الصيام، والذي لم يكن له صيام راتب فإنه لا يصوم بعد النصف من شعبان.(128/9)
حكم أخذ التعويضات من العراق والكويت
السؤال
هناك أسئلة كثيرة عن أموال التعويضات التي تأتي من العراق ومن الكويت، هل هي حلال أم لا؟
الجواب
نعم.
حلال.
خُذْها.(128/10)
الإسراء والمعراج وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء إماماً
السؤال
هل التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في المسجد الأقصى، وصلى إماماً بهم قبل أن يُعْرَج به إلى السماوات العُلى، وإن كان كذلك فلماذا كان يسأل عن كل نبي وعن اسمه عند دخوله إلى كل سماء، وكان الأنبياء يسألون عن اسمه أيضاً؟
الجواب
أما مسألة أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم: فهذا ثابت في الخبر.
وأما مسألة الصلاة بهم وكيف كانت الصلاة فلم يرد في الأحاديث، أو على حد علمي لا أعلم حديثاً من هذه الأحاديث كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء.
أما لماذا كان يسأل؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل بنفسه، وإنما جبريل كان يخبره، ولم يكن ليتقدم بين يدي جبريل عليه السلام بشيء، فهذه أول رحلة له صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف شيئاً، فكان يسكت حتى يعلمه جبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم، وليس معنى أنه عُرِّف بهم أنه لا يعرفهم، أعني: أحياناً قد تعرف إنساناً ما ويأتي إنسانٌ فيقول لك: هذا فلان الفلاني، فتقول: نعم.
أعرفه، فليس معنى أن فلاناً عرَّفك به أنك لا تعرفه، ولَمْ يرد في الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعرفهم؛ لكن هذا داخل في أدبه صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.(128/11)
فضل حفظ القرآن وحقيقته
السؤال
أريد أن أعرف فضل حفظ القرآن مع أن الصحابة معظمهم كان لا يحفظ القرآن، ومع العلم أني حفظت جزءاً من القرآن؛ لكن الشيطان يسيطر عليَّ حتى لا أحفظ، أريد أن أعرف فضل الحفظ؟
الجواب
أحاديث فضل الحفظ ليس فيها معنى الحفظ المجرد، بل فضل الحفظ مع العمل كما في الحديث: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأْ وارقَ ورتلْ كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) هذا الحديث لا يشمل مَن حَفِظ القرآن وأكل به، أو لعب به، أو اشترى به ثمناً قليلاً بداهةً.
فكل الأحاديث في فضل الحفظ: إنما هي في الحفظ مع العمل، وليست في الحفظ المجرد، ولذلك تدرك فضل الصحابة بهذا البيان.
صحيحٌ أنه لم يكن أغلبهم يحفظ القرآن؛ لكن كانوا يقفون عند حدود ما أنزل الله عز وجل، كما روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن عثمان، وابن مسعود قالا: كنا إذا حفظنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نعمل بهن، فحفظنا العلم والعمل جميعاً.
إذاً: الصحابة كان كل شغلهم أنهم يتعبدون، ويحولون هذا القرآن إلى واقع عملي، إذا وردت: (اتقوا الله) فإنهم يقفون عند الآية ليحققوا التقوى.
إذاً: فضيلة الحفظ ليست في الحفظ المجرد العاري عن العمل، ولهذا صدق ابن عمر وصدق حذيفة لما قالا: (لمقام أحدهم في الصف ساعة خير من عمل أحدكم في الدنيا كلها).(128/12)
حكم قراءة كتب أهل البدع
السؤال
ما تقولون في كتاب: عرائس المجالس، للثعلبي؟
الجواب
كتاب: عرائس المجالس، لا يحل مطالعته، وكذلك كتاب: مكاشفة القلوب، للغزالي أبي حامد لا يحل مطالعته، وكذلك كتاب: إحياء علوم الدين، لا تطالعوه، لماذا؟ لأن فيه خبثاً كثيراً في باب السلوك والتصوف، وخروجاً عن الجادة، وعن مذهب السلف، وفي العقيدة أيضاً فيه خروج عن مذهب السلف، وهو في الفقه ليس له ميزة على بقية الكتب الأخرى، وكثير من العلماء حذروا من مطالعة كتاب: إحياء علوم الدين إلا للعالِم بما فيه.
والحقيقة أن أبا حامد الغزالي نَدِم على كثير من هذه الأقوال التي أنفق عمرَه فيها، ومات وصحيح البخاري على صدره، وكان يقول: أنا قليل البضاعة في الحديث، يعني: أن بضاعته ضعيفة في الحديث.
وأظن لو أن الله عز وجل مد في عمره لرجع عن كثير مما قال، واعتقد ما يعتقده أهل السنة في مثل هذه المعاني المهمة.(128/13)
حال حديث: من أحب أن ينظر إلى قصور الجنة
السؤال
ما صحة حديث: (من أحب أن ينظر إلى قصور الجنة، فلينظر إلى بيت المقدس، فإنه من قصور الجنة).
الجواب
هذا حديث ضعيف.(128/14)
ضابط الاحتجاج بالمصالح المرسلة
السؤال
احتج بعض الناس بالمصالح المرسلة بالنسبة لوضع علامات في المسجد، ليسوي المصلون صفوفَهم، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
هذه الفتوى قلتها قبل ذلك مطولة، وذكرتُ أدلتها؛ ولكن لا مانع أن أذكرها بشيء من الاختصار ما أعتقده في هذه الفتوى: وأن مد الخطوط على الأرض كما هو في كثير من المساجد لتسوية الصف، هو في اعتقادي بدعة.
المصالح المرسلة من شروط الاحتجاج بها: أن لا يرد نص في الكتاب أو في السنة للدلالة على الفعل، ويشترط أن يكون له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بإمكانه أن يفعل.
فنحن نقول: لماذا نضع الخط على الأرض؟ الجواب: لنصف الصفوف.
السؤال: صف الصفوف مسئولية مَن؟ مسئولية الإمام.
فالإمام قبل أن يصلي ينبغي عليه أن يصف الصفوف، أو يرسل من يصف الصفوف له، مثلما كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في مطعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأرسل رجلاً فصف الصفوف حتى إذا لم يرَ خللاً كبر، فقال: الله أكبر، فما هو إلا ريثما أن قرأ حتى قال: طعنني الكلب أو قال كلمة نحو ذلك، ثم ساق حديث طعنه رضي الله عنه.
فصَفُّ الصفوف مسئولية الإمام.
السؤال: هل كان بوسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يشد خطاً على الأرض، أم أن هذا صعب بالنسبة له؟ سهلٌ بالنسبة له أن يشد خيطاً على الأرض.
هل هذا الخط كان له داعٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعم.
كان له داعٍ، وهو تسوية الصف.
لَمَّا كان له داعٍ وكان باستطاعته أن يفعل ذلك ولم يفعل، دل ذلك على أنه لا يجوز لك أن تفعل، إذ لو كان مشروعاً لفعل.
إذاً! هذه البدعة كم لها مِن السنين؟ كم سنة عمرها؟ أقصى مدة: خمس عشرة سنة، يعني: أنها بدعة جديدة ليس لها أثر في كتب الفقهاء، ولم يفتِ بها أحد من الفقهاء المتبوعين، بل هي بدعة حديثة.
هذه البدعة كان من آثارها السيئة: أن الإمام يعطي قفاه للمصلين ويقول وقفاه لهم ووجهه إلى القبلة: استووا يرحمكم الله، فضيَّع واجبه الذي كان من المفروض أن يفعله، فهذه البدعة ما نجمت ولا ظهرت إلا بسبب تقصير الأئمة في القيام بواجبهم.
إنما لو صح أن نقول: هذه من المصالح المرسلة: إذا لم يكن لها مقتضىً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِد نص بمنعها، ثم إن المصالح المرسلة تحقق لنا مصلحة، مثل: تغريم الصُّنَّاع، ومثل: إشارة المرور، كما هو معلوم أن الصُّنَّاع يغلب عليهم الإهمال، فتذهب لتعطيه سيارتك ليفكها، فيضيِّع عليك نصف السيارة، فتشتري قطع الغيار كلها من جديد.
فكان ينبغي أن يُغَرَّم الصانع هذا كله، وهذا مشروع، وحقق الشاطبي أنه مشروع، وأفتى به علي بن أبي طالب وغيره، واعتبر أن هذه من باب المصالح المرسلة، لِمَا غلب على هؤلاء الصُّنَّاع من الإهمال.
فتضمينُهم هذا يعتبر هو المراد في الشريعة، وحزمٌ ضد فوضى هؤلاء.
وكذلك مثل إشارة المرور، هل ثَمَّ نهي عنها؟ هل كان بإمكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يعملها قبل هذا؟ لم يكن هناك مقتضى، وليس هناك نهي عنها، وهي تحقق مصلحة للمسلمين، فهذه تكون داخلة في باب المصالح المرسلة.
لكن الخط لا يدخل في هذا بسبيل، لاسيما أننا نشد الخط لعبادة؛ لأن تسوية الصف داخل في باب العبادة.
والله أعلم.(128/15)
حاجة الدعاة إلى طلب العلم الشرعي
الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فهو أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون.
ولقد ضرب علماؤنا الأولون أروع الأمثلة في طلبهم للعلم، وعلو همتهم، وذكائهم، وحرصهم على أوقاتهم، وتواضعهم عند الطلب، ورحلتهم إليه، وغربتهم للحصول عليه، وثنيهم الركب عند المشايخ، بل وفناء أعمارهم في سبيل تعلم العلم وتعليمه؛ فلذلك يجدر بناء الاقتداء بهم وشحذ الهمم في سبيل هذا العلم.(129/1)
فضل العلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
فإن أعظم شيء يورث -باتفاق أهل الأرض- هو العلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم).
والمقصود بالعلم: هو العلم الشرعي الذي يقرب العبد من ربه تبارك وتعالى.
والإمام البخاري رحمه الله لما ذكر كتاب العلم في صحيحه بدأ بذكر فضل العلم، فقال: (باب العلم قبل القول والعمل) ثم ذكر قوله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، فقدم العلم أولاً، إذ لا يتأتى قبول العمل إلا إذا كان على علم؛ فإن العبد لا يعلم الذي يحبه الله ويرضاه إلا عن طريق الرسل، فلذلك حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طلب العلم، فقال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وفي بعض الأحاديث المرفوعة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، وهذا من أعظم الشرف لطالب العلم، وفي بعض الأحاديث المرفوعة أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الحيتان في البحر لتستغفر لمعلم الناس الخير).
فتحصيل العلم من أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، والذي يبحث عن العلم -لاسيما العلم الذي يقرب من الله تبارك وتعالى- رجلٌ عالي الهمة لا يرضى بالدون.(129/2)
صفات يجب أن يتحلى بها طالب العلم
إن طلب العلم لا يتأتى إلا إذا توفر في طالب العلم صفات جمعها الإمام الشافعي بقوله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ وتلقين أستاذ وطول زمان فهذه الستة الشروط إذا وضعها طالب العلم نصب عينيه وصل إلى مراده، ويكون الخلل في طلبه بقدر الخلل في تركه لصفة من هذه الصفات.
وكل إنسان يريد أن يطلب العلم، وكثير منهم لا يصل إلى ذلك؛ لأنه لا يعرف الطرق التي تؤدي إليه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في قصة الذين أنكر عليهم التسبيح بالحصى، لما قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما نريد إلا الخير.
قال: (وكم من مريدٍ للخير لا يبلغه).
لأنه لم يسلك السبيل التي أمر الله بها.(129/3)
طول الزمان في أخذ العلم
(وتلقين أستاذٍ وطول زمان) فطول الزمان مهم، والإنسان يتعجب من بعض الذين لهم في العلم شهرين أو ثلاثة، ثم يقول لك: أنا علمت هذا بالاستقراء كم طلبت العلم؟! سنتين ثلاث عشر عشرين؟! أي استقراء عند المتأخرين الذين لو سرق السارق فهارس كتبهم لتوقفوا؟ الاستقراء يحتاج إلى طول الوقت في طلب العلم.
لذلك أريد أن أنبه الآن على قضية انتشرت انتشار النار في الهشيم، ولها علاقة بطول الزمان: هناك جماعة خرجوا وقالوا: لا يُحتج بالحديث الحسن لغيره، وعلماؤنا المتقدمون ما كانوا يحتجون به.
أقول: هذه القضية النقاش فيها قديم ومعروف، ولكن أخطر شيء على هذه القضية هو دخول الصغار فيها، ونحن نعرف أن الحديث الحسن لغيره فيه كلام عند العلماء في مسألة الاحتجاج به وترك الاحتجاج به، ولكن أن يأتي صغير ليس له فهم المحدثين، ولم يمارس هذا العلم، وليس له من الذكاء كمان كان للمتقدمين، ويقول: لا يحتج بالحديث الحسن لغيره؟ لو قرأت كتب المصطلح كلها، وحفظتها عن ظهر قلب؛ لا تصير محدثاً؛ لأن علم الحديث علم صعب، كما قال الذهبي: علم صرف، لا يسلم قياده لأحد، يحتاج إلى عمر طويل، ولابد من الذوق والملكة، وهذه لا تكون إلا بطول العمر، وانظر إلى العلماء في آخر أيامهم، وانظر إليهم في أوائل أيامهم ترى أن هناك فرقاً حتى في تنزيل الفتوى على مقتضى حال المخاطب، وما استفاد هذا إلا بطول العمر والزمان.
فهذه بعض الإشارات للصفات التي ينبغي لطالب العلم أن يتحلى بها.
أخي لن تنالَ العلمَ إِلا بستةٍ سأنبيكَ عن تفصيلِها ببيانِ ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ وتلقينُ أستاذٍ وطولُ زمانِ نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(129/4)
الأخذ عن المشايخ وعدم الاقتصار على الكتب
(وتلقين أستاذ) مسألة الطلب، والأخذ عن المشايخ مهمة جداً؛ لأن الاقتصار على الأخذ من الكتب ضرره أكثر من نفعه، والأخذ من المشايخ يعطيك ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: أنه يقصر لك العمر.
الفائدة الثانية: أنه يسدد لك الفهم.
الفائدة الثالثة: أنه يعطيك الأدب.
(يقصر لك العمر) الكتاب يمكنك أن تقرأه في شهر، والشيخ قد يلخصه لك في درس واحد أو في درسين، فالإمام القرافي في بداية كتابه (الفروق) أول فرق بدأ به: الفرق بين الشاهد والراوي، قال: وإنما ابتدأت بهذا الفرق لأنني ظللت ثمان سنوات أسأل عنه كل من ألقاه من أهل العلم، فما شفاني أحد.
كان له عشرات المشايخ، حتى وقف على كتاب (البرهان للجويني) فوجد فيه العبارة التي يريدها.
فتقصير العمر بأن الشيخ يلخص لك الكتب.
(تسديد الفهم): كانوا قديماً يكتبون، وكان الناسخ من العلماء، أما الآن فنسأل الله تبارك وتعالى السلامة، فتجار الحشيش أصبحوا أصحاب المطابع، وبسبب ذلك يخرج الكتاب وهو مليء بالتصحيفات، وقل أن تجد صفحة إلا وفيها عشرات التصحيفات، والتصحيف أكبر جناية على العلوم، كانوا يقولون: (لا تأخذ العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي).
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله قصةً عجيبة: ذكر أن رجلاً كان يحفظ القرآن وحده، ولم يتلقاه عن شيخ، وأنتم تعلمون أن الخط قديماً كان ليس فيه إعجام، أي: النقط لم تكن موجودة.
فهذا الرجل ليس له مشايخ في القرآن فكان يحفظ لوحده، ومن ضمن ما حفظ سورة الفاتحة، وحفظ منها آية خطأ، وهو إمام ويقرأ بالناس، فزارهم ذات يومٍ عالمٍ، فاستضافه الإمام وقال له: عندي بعض الأسئلة في القرآن، قال: في أي سورة؟ وظن أنه سيقول له: في البقرة، فقال: في الفاتحة (إياك نعبد وإياك تسعين أو ستين؟) و (نستعين) إذا كانت غير منقوطة فيمكن أن تكون (تسعين) أو (ستين) ثم رد على نفسه بسرعة قبل أن يرد الرجل عليه وقال: على كل حال أنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط! ومثال آخر: وهذا الموقف حدث في السنوات الماضية، رجل كان يقرأ: ((إلهكم التكاثر)) قال له الشيخ: يا ابني ((ألهاكم)) قال: بل ((إلهكم)) وهي مكتوبة في المصحف ((ألهكم))، قال له: ((ألهاكم)) قال له: أنحن في البخاري؟ هذا قرآن!! هذا رجل يقرأ من المصحف.
وقد سمعت رفيقاً لي في الجامعة يقرأ: (وقيل يا نوح اهبط بسلم) هي (بسلام)، والذي غره أنها (بسلم) لأنه لا يعلم أن الألف الصغيرة هذه تقرأ! وهذا إنسان في الجامعة، غداً سيتخرج أستاذ ولا يعرف كيف يقرأ القرآن الكريم!! إذا كان هذا وقع في القرآن الكريم وقد نقل بالتواتر بنقل الكافة عن الكافة ولا خفاء فيه، فما بالك بكتب الحديث، فلو درس الحديث لكانت جناية على العلم وأهله، وكيف إذا أخذ طالب العلم العلم من الكتب التي دخلها تصحيف كثير؟! مرة بعض المحدثين كانوا ينسخون وكانوا في منتهى الدقة في النسخ، وكان لـ ابن عباس صاحبان: أحدهم: كنيته أبو جمرة، والآخر: كنيته أبو حمزة.
فلو أخذنا النقطة من (الزاي) والنقطة من (الجيم) فلن تستطيع أن تفرق بينهما، فكانوا إذا رووا حديثاً عن أبي حمزة يكتبون فوقه (حور عين) لكي يبين لك: أن هذه (ح) وليست (ج)، وكل هذا حتى لا يقع التصحيف.
وذات مرة أحد الولاة أرسل للأمير، وقال له: إن المخنثين كثروا في البلد فما الحل؟ فقال الأمير لكاتبه: اكتب له: (احص من عندك من المخنثين).
فكتب الكاتب: (اخص من عندك من المخنثين)؛ فدعاهم فخصاهم، وانظر ماذا فعلت هذه النقطة!! وتعلمون أن من القراء السبعة أصحاب القراءات المتواترة حمزة الزيات - حمزة بن حبيب - ولقب (الزيات) التصق به بسبب حكاية تقال عنه أنه قرأ القرآن وحده، فكان يقرأ ((ألم)) ((ذلك الكتاب لا زيت فيه))! فقال له أبوه: قم واطلب العلم على الشيوخ.
فبدأ بطلب العلم من ذلك الوقت؛ فلقبوه (بـ الزيات).
ووقع هذا قديما مع حرص علماء الحديث على ضبط الكتب، ومع ذلك كان يقع التصحيف، فما بالك الآن؟! تجد مطبعة كبيرة وليس عندها مصحح، وصاحبها على استعداد أن ينفق الملايين في نص الكتاب وتجده يبخل أن يعطي راتباً عالياً لمصحح؛ فلذلك المصححون هربوا من المطابع، فكم من الجناية ستدخل على طالب العلم لو اقتصر على قراءة العلم من الصحف! منذ -حوالي- خمس عشرة سنة كان هناك مسألة من المسائل التي لا يكون المرء سلفياً إلا إذا خاض فيها، وهي: مسألة النزول للسجود هل يكون على الركبتين أو على اليدين، وتذهب إلى أي مكان وتجد كل الشباب يستفتون فيها، فجمعني المجلس مرة برجل، يقول: إن النزول على الركبتين هو الصحيح، وقال لي: إن الحاكم روى في المستدرك عن ابن عمر حديثاً، وقال: إنه يميل إلى قول ابن عمر.
قلت: أنا أعرف أن الحاكم يرى تقديم اليدين على الركبتين، وينقل هذا عن كثير من الصحابة والتابعين.
قال: لا.
قلت له: حسناً هات المستدرك.
فأتى بالمستدرك فأخذنا نقرأ وبعد أن أتى بحديث ابن عمر أنه كان ينزل بيديه قبل ركبتيه، قال الحاكم: والقلب إليه أميل.
فقال: انظر، هو يقول: الحديث مقلوب.
وانظر إلى فهمه للكلام! فـ الحاكم يقول: أنا قلبي يميل إلى تقديم اليدين على الركبتين.
لكنه فهمها؛ لأنه متعصب لرأي معين ويريد أن ينتصر له، والصواب: أن يبدأ بركبتيه قبل يديه.
إذاً: الأخذ عن الشيوخ يسدد لك الفهم، ويقصر لك العمر، ويرزقك الأدب.
وأفضل ما ينتفع به طالب العلم: هو الأدب، أما الذي يقرأ من الصحف فهو من أجرأ الناس على العلماء، وما تجرأ هؤلاء الذين يتكلمون على العلماء ويشتمونهم ولا يعرفون قدرهم؛ لأنهم لم يجالسوا العلماء.
وقد كان العلماء قديماً لهم خطة في تأديب التلاميذ، وكانوا يقسون عليهم قسوة لا يكاد يتحملها أحد، وأخص بالذكر من هؤلاء؛ لأنه يكفينا مؤنة ضبط المثال الإمام الأعمش، أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش.
فقد روى الخطيب البغدادي في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أن أصحاب الحديث كانوا يهجمون على الأعمش؛ لأنه إمام ثقة، والرواية عنه شرف، فأراد أن يؤدبهم وأن يطردهم من البيت؛ فاشترى له كلباً، أول ما يسمع صوت الأقدام اقتربت من البيت يطلق عليهم الكلب، وكان ممن يذهب إليه شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري فيجرون أمام الكلب! والكلب يظل يجري وراءهم حتى يخرجهم إلى مسافة بعيدة ويرجع.
وهكذا، حتى كان ذات يوم اقتربوا من البيت وهم على حذر أن يخرج الكلب، فاقتربوا ولم يخرج الكلب، فهجموا عليه ودخلوا الدار، فلما رآهم بكى.
قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: مات الكلب.
وجاءه رجلٌ غريب وقال: يا أبا محمد اكتريت هذه الدابة بدينار، ودفعت للرجل نصف دينار، وأريد أن تحدثني حديثاً.
قال له: اكترِ بالنصف الآخر وارجع.
وأبى أن يحدثه.
وذات مرة كان يمشي في جنازة، وكانت الجنازة لا ترفع فيها الأصوات، وكان الأعمش كفيفاً، فأخذ أحد التلاميذ بيده وقال: آخذ بيدك يا أبا محمد، فأخذه وظل ينحرف به ولم يحس الأعمش بالأمر، وظل ينحرف به إلى أن بعد عن الجنازة، والأعمش ساكت مستأمن للرجل، فقال له الرجل: أتدري أين أنت يا أبا محمد؟ قال له: لا.
قال: أنت في جبانة كذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً، فلما علم الأعمش أنه لا فائدة قال: اكتب حدثني فلان، حدثني فلان حتى ملأ الألواح، فلما رجع به وكان الأعمش متغيظاً منه، والطالب يعلم ماذا سيفعل به الأعمش إذا دخل البلد، قابله رفيق له فأعطاه الألواح، ومضى حتى أوصله إلى الدار، وقال: وصلت إلى الدار يا أبا محمد.
فأمسك بعنقه وقال: خذوا الألواح منه.
قال: قد مضت الألواح يا أبا محمد.
قال: كل ما حدثتك فهو كذب -حتى لا ينتفع به- فانظر إلى التلميذ المؤدب ماذا أجاب: أنت أعلم بالله من أن تكذب! وقد ورث هذه الخصلة في الشدة أبو بكر بن عياش.
فذات مرة قال له أصحابه: حدثنا بحديث.
قال: ولا بحديث.
قالوا: حدثنا بنصف حديث.
فقال لهم: اختاروا السند أو المتن.
فقالوا له: أنت عندنا إسناد.
قال لهم: كان إبراهيم يدحرج الدلو.
قال الخطيب البغدادي: فانظر إليه ظن عليهم أن يحدثهم بما ينفعهم.
وماذا يعني أن إبراهيم كان يدحرج الدلو؟ ماذا يستفيدون منه؟ أبى عليهم.
فهل كان هؤلاء العلماء يمنعون العلم عن أهله؟ لا.
فـ الأعمش أحاديثه تملأ دواوين الإسلام.
بل هذه الطريقة كانت تكسر الشموخ الذي عند طلاب العلم، وبعض طلبة العلم يأتي حلقة الشيخ وقد استحضر نسبه وجاهه وماله، وهذا لا يصلح أن يطلب العلم، ولابد أن يكون عليه سمت طلبة العلم وإلا فإنه لن يفلح.
والإمام الشافعي رحمه الله باتفاق العلماء كان أعلم وأعلى كعباً من محمد بن الحسن الشيباني، ويكفي أن الشافعي رحمه الله مجتهد مطلق، ومحمد بن الحسن رحمه الله مجتهد منتسب إلى المذهب، فلما أراد الشافعي أن يحصل علم أهل العراق ذهب يتتلمذ على محمد بن الحسن، ولم يذهب الشافعي إليه وقد وضع في ذهنه أنه الشافعي وأنه أعلم من محمد بن الحسن، وإنما ذهب إليه في سمت التلميذ.
فكان يجلس في الحلقة يسمع فتاوى محمد بن الحسن ولا تعجبه، ويرى أن الدليل على خلافها، ولكن يمنعه أدبه أن يواجه الأستاذ بما يكره أمام التلاميذ، فكان محمد بن الحسن(129/5)
الغربة والرحلة في طلب العلم
(ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ) الغربة هنا لها معنيان: المعنى الأول ووهو المشهور: هو الرحلة لطلب العلم، أن تغترب وتترك أهلك ودارك لتطلب العلم.
وهذه الرحلة من مفاخر العلماء، لاسيما علماء الحديث؛ لأننا لا نعلم من اشتهر بها أكثر من علماء الحديث، ولهم في الرحلة أشياء عجيبة! أنت الآن بين يديك مكتبة ضخمة جداً ولا تعرف منها إلا القليل، وصحيح البخاري -مثلاً- به قرابة ألفين وخمسمائة حديث وتزيد قليلاً بدون المكرر.
فكم عانى البخاري في سبيل جمع هذه الأحاديث؟! وكم رحل وكم تعب في تصنيف هذا الكتاب! والواحد منا قد يجلس في ليلة يؤلف رسالة، ويجمع صفحة من هنا وصفحة من هناك، ثم يقول لك: راجعته في مجلسين وأخرج رسالة.
والإمام البخاري، الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث صنف صحيحه في سبع عشرة سنة، ومرة دخل بغداد، وكان أهل بغداد ينتقصون الأفاضل، فقال رجل من أهل بغداد: إن البخاري لا يحسن أن يصلي.
فسمعه رجل وأخبر الإمام البخاري وقال: إن رجلاً يقول: إنك لا تحسن أن تصلي.
فقال البخاري: لو شئت لسردت لك عشرة آلاف حديث في الصلاة قبل أن أقوم من مجلسي هذا.
عشرة آلاف حديث في الصلاة يسردها كما يقرأ أحدنا ((قل هو الله أحد)) ومع ذلك صنف كتابه في سبع عشرة سنة، وجمعه من كل الأمصار.
الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله له قصة لطيفة جداً في الرحلة إلى طلب العلم، ذكرها الإمام ابن حبان في مقدمة كتابه: (المجروحين)، وذكرها أيضاً الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) عن أبي الحارث نصر بن حماد، قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: أبو الحارث الوراق: فخرج شعبة من الدار فلطمني ودخل.
فجلست أبكي، قال: وبعد قليل خرج شعبة، وكان مع عبد الله بن إدريس.
-ولو أن الشيخ الآن فعل هذا بتلميذه فلطمه فإن التلميذ سيرد الكف مباشرةً- فلما خرج شعبة وجده يبكي، فقال: مازال يبكي؟ فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل.
قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، ثم استقبل شعبة الحديث يسوقه وهذا حديث واحد من ألف ألف حديث كان يحفظها شعبة، وشعبة أمير المؤمنين في الحديث! قال: إني سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، هل سمعته من عبد الله بن عطاء؟ وأبا إسحاق السبيعي كان يدلس؛ وكان شعبة شديد النكير على المدلسين، حتى إنه كان يقول: لئن أزني أحب إلي من أن أدلس.
ولا يتبادر إلى الذهن أنه لو خُيِّر بين التدليس والزنا أنه سيقدم الزنا لا.
فهذا على سبيل المبالغة في التنفير من التدليس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير: (أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور)، فلو ذهب إلى أبي بكر الصديق مثلاً، هل يجوز له أن يشهد؟ لا.
وكقوله تبارك وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] مع قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] والمقصود أنه كان شديد الإنكار على المدلسين.
وكان يقول: لئن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس.
وأبو إسحاق من المدلسين، فسأله شعبة هذا
السؤال
سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وهذا من أكبر الدلائل على أنه دلس، فقال: مسعر بن كدام -وكان جالساً مع أبي إسحاق السبيعي - قال: يا شعبة! عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة.
وكان شعبة؟ يسكن في البصرة.
قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، قال: فدخلت مكة فأتيت عبد الله بن عطاء؛ فإذا رجلٌ شاب، فقلت له: حديث عقبة بن عامر في الوضوء، سمعته منه؟ قال: لا.
حدثني سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال: شعبة فذهبت إلى مالك بن أنس -الإمام مالك - قلت له: حج سعد بن إبراهيم؟ قال: لم يحج هذا العام.
-إذاً هذا سيكلفه رحلة إلى المدينة- قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
من عندكم خرج -أي: من البصرة- قال له: من حدثك؟ فقال له: زياد بن مخراق.
قال شعبة: حديثٌ مرة مكي، ومرة مدني، ومرة بصري! دمّر عليه، لا أصل له.
قال شعبة: فانحدرت إلى البصرة وأنا كثير الشعر، وسخ الثياب، فلما دخلت على زياد بن مخراق، قلت له: حديث الوضوء، فقال: ليس من حاجتك، فقلت لا بد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتي.
قال: فذهبت إلى الحمام فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، فقلت: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
حدثني شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب رواه: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر.
كم رجلاً سقط من الإسناد؟ سقط سعد بن إبراهيم، وزياد بن مخراق، وشهر بن حوشب، وأبو ريحانة، أربعة سقطوا من الإسناد، وهذا حتى تعلم خطورة التدليس.
قال شعبة: حديث صعد ثم نزل، دمّر عليه، لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي.
ونحن الآن قد يكون هناك عالم في الكويت -مثلاً- وأنت تريد مسألة، فيدركك الكسل، ولا ترحل إليه، فهل أحدنا عنده الهمة التي كانت عند شعبة لما سمع حديثاً فيه فضل عظيم: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية) فرحل كل هذه الرحلة في سبيل التأكد من هذا الحديث!! ولكن لا يفوتني أن أقول: إن هذا الحديث صح عن عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب في صحيح مسلم.
قال ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم، ليس البكاء على الفقر، فالفقر أبداً لا يفوت صاحب الهمة العالية.
والإمام أبو حاتم الرازي -الذي قلامة ظفره تساوي عشرات المنتسبين إلى العلم اليوم- أراد أن يخرج من الري إلى بعض البلدان ليجمع الحديث، ولم يكن معه نفقة فأجّر نفسه عند بعض القوافل، وجد قافلة ذاهبة إلى البلد التي يريد، فأجر نفسه عندها، يغسل لهم الصحون ويقوم عليهم حارساً في الليل، ويقيد لهم الدواب، وهو أبو حاتم الرازي، الذي يبدأ بذكره إذا ذكر علماء الحديث وعلماء الجرح والتعديل، وما أنف من ذلك؛ لأنه سيوصله إلى محبوبه، والإنسان في سبيل الوصول إلى محبوبه يرضى بالذل، ويتجرع الهوان.
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان فقيراً والدنيا تحت قدميه، ومرة أرسل إليه المتوكل بأموال فردها ولم يقبلها، فأرسلها المتوكل إلى ابنه صالح، فلما قبلها صالح أغلق الإمام أحمد الباب الذي بينه وبين ابنه صالح، ولم يكن في بيته دقيق، فذهب إلى صاحبٍ له كان يثق به، فاستعار منه دقيقاً، وقال لامرأته: اخبزيه.
وبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فقال: بهذه السرعة! فقالت له: كان فرن صالح موقداً، فخبزت فيه.
فأبى أن يأكل الخبز؛ لأنه خبز في فرن صالح الذي قبل جوائز الأمراء، مع أن قبول الجوائز ليست ممنوعة، فـ ابن عمر كان إذا جاءه مال قبله، وقال: أنا لا أسألهم من دنياهم شيئاً ولا أرد رزق الله.
ولما ذهب الإمام أحمد إلى عبد الرزاق بن همام في اليمن نفدت النفقة، فقالوا له: خذ هذه الأموال وأرجعها لنا في بغداد، فأبى ذلك وأجر نفسه عند القبائل، فالفقر ما كان يحول دون تحصيل العلم أبداً، وإنما البكاء على خساسة الهمم، ونحن عندنا الآن مراجع لم يحلم بها كبار العلماء.
فالشيخ أحمد شاكر رحمه الله -وهو لا يخفى عليكم- في حواشيه على المحلى لـ ابن حزم كان يتمنى أن يرى بعينيه مصنف عبد الرزاق، أو مصنف ابن أبي شيبة، ويقول: أين هي؟ وقد كانت بين يدي صغار الطلبة أنذاك.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! ومصنف عبد الرزاق الصنعاني، ومصنف ابن أبي شيبة قلما تخلو مكتبة طالب العلم منهما الآن، وكذلك موارد الظمآن في زوائد ابن حبان، ما رآه الشيخ أحمد شاكر.
إذاً: الغربة ضرورية لطالب العلم؛ لأن الرجل ما كان يعظم في نفوسهم إلا إذا اغترب ورحل؛ لأنه يأخذ ما عند علماء الأمصار من العلم ويضمه إلى علمه، فيعظم في نفوس الطلبة.
وبسبب هذه المسألة نشأ تدليس اسمه (تدليس البلدان والأماكن) بسبب التبجح في ذكر الرحلة، فمثلاً هنا في هذا البلد -أي: في مصر- ربما تجد شارعاً يسمى بشارع دمشق فأقوم أنا وآتي بالشيخ وأجلسه في هذا الشارع: فيحدثني.
فأقول: حدثني فلان بدمشق.
فأنت أول ما تسمع (دمشق) تظن أني تركت البلد ورحلت وأنا أسافر وإنما هو في شارع دمشق، أو حي اسمه بغداد، فتقول: حدثني فلان(129/6)
الحرص على الأوقات وعدم تضييعها
(ذكاءٌ وحرصٌ) من أعظم ما يحرص عليه طالب العلم هو الوقت، فالوقت هو العمر، وطالب العلم لا يعرف المجالس التي تضاع فيها الأوقات بغير فائدة ولا يعرف الجدال العقيم، فهذا تضييع للوقت.
ومن علامة حسن التحصيل: الحرص على الوقت، وكان علماؤنا -رحمة الله عليهم- من أحرص الناس على أوقاتهم، وأذكر لكم مثالاً على ذلك: ابن عقيل الحنبلي مؤلف كتاب: (الفنون) وهذا الكتاب في ثمانمائة مجلد، طبع منه مجلدان، ابن رجب الحنبلي في ذيل الطبقات يقول: حدثني رجل أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة.
وابن عقيل هذا كان رجلٌ كالرجال.
أي: له حياته الخاصة، وله زوج وأولاد، وكان عالماً في البلد، فكان يدرس الطلاب، ويقضي بين الناس إلخ، ومع ذلك صنف كتاباً يقع في ثمانمائة مجلد، وهذا الكتاب من الكتب المفقودة!! كيف تسنى له أن يكتب كتاباً في ثمانمائة مجلد؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار أكل الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.
انظر كيف كان يلاحظ أن هناك تفاوتاً في المضغ، ويقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.
فكان رجلاً لا يضيع وقته حتى في وقت راحته.
يقول ابن الجوزي في كلام ما معناه: إن كثيراً من الناس يأتي ليضيع الوقت بحجة أنه مشتاق، ويأتي فيقعد وليس له كلام.
فيقول: ودفع الناس فيه إيغار للصدر -لا يستطيع أن يقول للناس: لا تأتوا.
إذاً: ماذا يفعل؟ - قال: فأعددت لذلك الوقت حزم الدفاتر، وبري الأقلام.
فإذا جاء الناس ينظرون إليه وهو مشغول؛ لأن حزم الدفاتر وبري الأقلام وقطع الورق أمر ضروري، يقول: إنما تركتها لأعملها في حال وجودهم، ويستثمر وقته إذا خلا بنفسه.
والإمام الثقة أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، يقول: دخلنا مصر أنا ورفقة لي، فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ، وفي ليلنا ننسخ، قال: فذهبنا إلى درس بعض المشايخ فوجدناه مريضاً، فقلنا: نأكل.
قال: فاشترينا سمكة فلما ذهبنا بها إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر فتركناها وانطلقنا، قال: ولم نستطع أن نشويها فأكلناها نيئة.
وهذا الإمام العلم الكبير عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: كنت أقرأ على أبي وهو قائم، وهو نائم، وهو يمشي، وهو في الخلاء.
وقال بعض العلماء: أبصرت الخطيب البغدادي يطالع جزءاً وهو يمشي في الطريق، وكذلك الدارقطني كان كذلك، فما كانوا يضيعون شيئاً من أوقاتهم؛ لأن الوقت هو العمر، ولذلك كان العالم منهم عالم بحق.
فإذا تكلم في فنٍ من الفنون تجده بحراً.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الرجل الذي يبهر العقول، تقرأ سيرته فلا تمل، قد كان حريصاً جداً على وقته، وقد بارك الله له في وقته، حتى قال ابن القيم في الوابل الصيب: لقد رأيت منه شيئاً عجيباً، كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة! مع أن الكتابة والتأليف تحتاج إلى استحضار ذهن وترتيب أدلة، وشطب وكتابة، وتقديم وتأخير، أما شيخ الإسلام فقد كان كالسيل الهادر إذا كتب أو ألف، ولم يكن كأحدنا: يبدأ يظلم الغرفة، ثم يستوحي، ويأكل قبلها، ويتناول الشاي وهذه الأشياء تضيع نصف الوقت في الإعداد لهذا الذي سيكتبه.
فهذا الإمام العلم كان أصحاب المذاهب يأتون عنده ليستفيدوا في مذاهبهم ما لا يعلمونه واقرأ المناظرة التي كانت بينه وبين ابن المرحل في الحمد والشكر؛ ستستغرب جداً! إذا رأيت طالب علم يضيع أوقاته مع هذا وذاك وفي مجالس لا فائدة منها فاعلم أنه لن يفلح أبداً، حتى يضرب على نفسه حصاراً في مرحلة الطلب.
ولا تنشغل في مرحلة الطلب بتحضير الدروس والمحاضرات، فإن العمر -إن شاء الله- طويل، وأهم شيء أن تغتنم أيام الطلب، ثم ستظل تدعو إلى أن تموت، فلا تضيع وقت الطلب في الدعوة أو في التدريس أو في المناظرات حتى تحكم أمرك.(129/7)
الافتقار وعدم الاستغناء عن الغير
(ذكاء وحرصٌ وافتقار) الافتقار معناه: أنك مهما حصّلت من العلم فلا تظن نفسك على شيء، بل تظن أنك محتاج بصفة دائمة إلى غيرك، وأول ما تشعر بالاستغناء عن الغير تكون قد خسرت كثيراً، ولذلك ترى تكبر الناس بعضهم على بعض، واستهانة بعضهم ببعض بالجهل والبغي والعدوان؛ كل هذا بسبب أنهم لم يجربوا هذه الصفة (الافتقار).
وقد كان المشايخ يذعنون لتلاميذهم، قال يونس بن عبد الأعلى رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة فاختلفنا، فجاءني إلى بيتي وطرق بابي ودخل، فأمسك بيدي وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟.
وهذا الكلام نهديه إلى العشرات الذين تعج بهم الساحة الإسلامية الآن: (يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: لا نكون إخوة إلا إذا اتفقنا (100%)؟! ومنذُ متى اتفق الناس؟! فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قادة الناس، ومعادن العلم، وأولى الناس بكل فضيلة اختلفوا، وعندما تنظر في اختلافهم تجده اختلافاً رفيعاً، فالذين إذا اختلفوا تفرقوا يدل ذلك على أنه لم يجمعهم أصل جامع، وإلا فقد تفرقني عنك مسألة وتجمعني بك ألف مسألة!.
تعال أيها المختلف معي، وابسط مسائلك جميعاً، وانظر كم مسألة أنا متفق معك فيها، تجدني متفق معك في أكثر المسائل وأغلبها ولا أختلف معك إلا في الشيء القليل.
إذاً: فلماذا نختلف؟! الإمام الترمذي روى في سننه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فاعترض عليه ابن عباس، وقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعامٍ أجده في كتاب الله حلالاً؟! يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم -أي: الماء الساخن-؟ أي: إذا اغتسلت بماءٍ ساخن، فهل يلزمني أن أغتسل بعدها بماءٍ بارد! إذاً: فما فائدة تسخين الماء؟! فقبض أبو هريرة رضي الله عنه كفه بعد أن ملأها حصى وقال: (أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار.
يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال).
وما علمنا أن أبا هريرة خاصم ابن عباس، مع أن هناك مسائل أخرى اختلفوا فيها، وكذلك عندما منع عمر بن الخطاب أبا هريرة من التحديث لم يحقد عليه.
فأولئك كانت تجمعهم أخوة الإيمان، وكل شيء يأتي بعد ذلك فأخوة الإيمان أقوى.
لذلك افتقار طالب العلم مسألة مهمة جداً، أن يشعر دائماً أنه لم يصل إلى شيء، وأن يذعن لغيره، وهذا الإمام البخاري، وهو الإمام العلم الكبير، حدث عن تلميذه الإمام الترمذي، حتى إن الترمذي عندما كان يروي هذا الحديث كان يقول: أخذه عني محمد بن إسماعيل كنوع من التبجح والتفاخر أن أستاذه أخذ عنه.
وما أجمل ما قاله سفيان الثوري رحمه الله: لا ينبل الرجل -أي: لا يكون نبيلاً- حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه؛ لأن الكتابة عن الإنسان الذي هو تحتك بدرجة العلم أو الفضل نوع من النبل.
والافتقار مهم جداً لطالب العلم، وأساسه التواضع وعدم الاعتداد بالنفس.(129/8)
الذكاء وأهميته في طلب العلم
أول هذه الصفات: الذكاء.
وهذا شيءٌ بدهي؛ لأن العلم لا يسلم قياده لبليد، والعلم واسع جداً، وليس له قرار وليس له قعر، والشيء الذي يموت الإنسان وهو مدين به الجهل، فقد يموت وهو أغنى الناس، وقد يموت وهو أعظم الناس سلطاناً، ولكن كل إنسان يموت وهو مدين بجهله، فلا يمكن لإنسان أن يصل إلى قعر العلم.
الإمام ابن جرير الطبري -الإمام المفكر الكبير صاحب التاريخ المشهور- له مذهب -وإن كان هذا المذهب قد اندثر- وكان يطلق عليه: المذهب الجريري، وهذا اطراد أنه لم يكن شافعياً، لم ينتسب إلى الشافعي، وإنما كان صاحب مذهب مستقل، بلغ من محفوظاته أنه كان يحفظ الألوف المؤلفة من الأحاديث والمتون، حتى قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير؟ فقالوا: في كم ورقة يكون؟ قال لهم: في ثلاثين ألف ورقة.
قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة.
ثم قال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ من لدن آدم عليه السلام إلى الآن؟ قالوا: في كم ورقة يكون؟ فقال نحواً مما قال في التفسير.
فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم.
فأملاه في نحو قدر التفسير.
هذا الإمام -مع سعة علمه- لما دخل عليه بعض أصحابه وهو يحتضر، تذكر مسألة في الفرائض، فدعا بصحاف ودواة وقلم ليكتب هذه المسألة، فقال له صاحبه: أفي هذه الحال -أي: وهو يعالج الموت-؟ قال: أموت وأنا عالم بها خير من أن أموت وأنا جاهلٌ بها، وهذا الإمام دونك البحر فاغترف، ومع ذلك يموت وهو يستزيد من العلم.
والإمام مالك رحمه الله تعالى -مع خبرته وسعة علمه، وإطباق الجميع على توثيقه والثناء على سعة علمه- سمعه عبد الله بن وهب -كما في سنن البيهقي- يقول: بأنه ليس على الناس أن يخللوا البراجم في الوضوء -البراجم: هي ما بين الأصابع- قال ابن وهب: فلما خف المجلس -وهذا من أدبه- قال: فقلت له: كيف تفتي بذلك وعندنا فيه سنة؟ قال: وما ذاك؟ فقلت: حدثني عمرو بن الحارث وابن لهيعة وساق سنده إلى المستورد بن شداد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يخلل ما بين الأصابع) فقال مالك رحمه الله: هذا حديث حسن، وما سمعت به إلا الساعة.
قال ابن وهب: فسمعته بعد ذلك إذا سئل عن تخليل الأصابع يفتي بذلك الحديث.
فهذا الحديث ما عرفه الإمام مالك.
إذاً: العلم ليس له قعر، فلا يمكن أن يناله البليد، ومن علامة ذكاء الإنسان أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره.
وإني أستغرب عندما يأتي طالب العلم إلى رجل ويقول له: أخبرني بكتاب أبدأ به في الفقه؟ فيقول له: عليك بالمحلى لـ ابن حزم، أو يقول: عليك بنيل الأوطار للشوكاني، أو سبل السلام! وهذه الكتب إنما تعنى بذكر الخلاف، وهذا لا زال مبتدئاً ولا يعرف الراجح من المرجوح حتى تدخله في الخلاف، وعليك أن تصف له كتاباً مختصراً يبدأ بالمسائل المتفق عليها، أما أن يبدأ هذا الرجل الطلب في الكتب التي تعنى بذكر الاختلاف فهو لابد أن يصير إلى حالٍ من هذه الحالات الثلاث: إما أن يسوء ظنه بالعلماء، ويقول في نفسه: لو كان العلماء على حق لما اختلفوا والدليل واحد.
أو أن يتخير من الأقوال ما يعجبه، فيكون بهذا أعمل هواه.
أو يخرج من الكل.
حتى قيل في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قيل: (الرباني) هو الذي يعلم بصغير العلم قبل كبيره.
وهذا قول لم يذكر قائله الإمام البخاري، وقول ابن عباس: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]: أي كونوا فقهاء حكماء.
قال الإمام البخاري: وقيل: (الرباني): هو الذي يبدأ بتعليم صغار العلم قبل كباره.
وصدق من قال: (غذاء الكبار سم الصغار) أي: لو أن رضيعاً أعطيته قطعة من اللحم فإنه سيموت، وكذلك المبتدئ في العلم لو أعطيته مسألة كبيرة وضخمة فإنها تؤذيه.
ولذلك يكون من ذكاء طالب العلم أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وأن يبدأ بما يجب عليه عيناً، من معرفة التوحيد حتى يتجنب الشرك، ومن معرفة تصحيح عبادته، ونحو ذلك.
ولكنك قد تجد الرجل لا يستطيع أن يجود كتاب الله عز وجل، وأول ما يبدأ يبدأ بمصطلح الحديث أو بأصول الفقه! إذاً: هذا الرجل ليس بذكي، وهذا يهدر كثيراً من وقته، وأول شيء يجب على طالب العلم أن يمتاز به هو الذكاء.(129/9)
طبقات الناس الأربع
جاء مدح العلم وأهله في الكتاب والسنة وذلك تحفيزاً وتشجيعاً للسير في طريق طلب العلم، والانضمام إلى ركب العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ومن بين تلك الأحاديث التي مدحت العلم وأهله حديث: إنما الدنيا لأربعة نفر، فكان صاحب العلم والمال في صدارة الأصناف الأربعة، وبأرفع منزلة، ويليه صاحب العلم فقط، وكان صاحب المال فقط بأخبث المنازل، ويليه الذي ليس عنده مال ولا علم.(130/1)
الصنف الأول: صاحب العلم والمال
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة الكرام! جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: فرجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه؛ فهذا بأفضل.
ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته؛ فهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه؛ فهذا بأخبث المنازل.
ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته؛ فهما في الوزر سواء).
هذا الحديث قسم الناس إلى طبقات أربع، لا يخرج رجل على الإطلاق من واحدة منها، هناك طبقة أساسية وأخرى تابعة، فالناس في الحقيقة طبقتان رئيسيتان: الطبقة الأولى: هي أفضل المنازل، والطبقة الثانية: هي أخبث المنازل، والرجل الثاني والرابع كلاهما تابع.
بأفضل المنازل على الإطلاق، فهو رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فما الذي رفع الرجل الأول؟ إنه العلم، والرجل الثالث: بأخب المنازل لقد آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فما الذي انحط بهذا الرجل؟ إنه الجهل.
إذاً الممدوح في هذا الحديث هو العلم وليس المال، لذلك كان الرجل العالم الثاني الفقير بأفضل المنازل أيضاً، وهذا يدلك على أن صاحب المال غير ممدوح إلا إذا انضاف إلى هذا المال علم.
لا يشترط أن يكون الغني عالماً، ولو كان عالماً فبها ونعمت، ولو لم يكن عالماً فليتعلق بعالم.
إن المال وحده لا يمدح صاحبه بمجرده، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية: القرآن، وفي رواية: العلم- فهو يقضي بها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) إذاً الرجل الثاني: (رجل آتاه الله مالاً) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما ذكر صاحب المال بعد صاحب العلم؛ لأن المال لا يمدح إلا بعلم؛ ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر صاحب العلم لم يذكر معه شيئاً، قال: (رجل آتاه الله علماً) ولما ذكر صاحب المال قال: (ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) فذكر هذا القيد (في الحق)؛ لأن العبد إذا سلط ماله على هلكته في الباطل كان مذموماً، من أين للرجل الجاهل الغني أن يعلم أن هذا حق أو باطل إلا بعلم؟! فإما أن يكون عالماً أو يتعلق بعالم.
إذاً الممدوح الأعظم في هذا الحديث هو العلم، ولله در علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).
لو رميت أي إنسان بالجهل احمر وجه من الغيظ حتى لو كان كذلك، عيره بأي شيء إلا الجهل، هذا مما يدلك على أن العلم ممدوح.
ومن شرف العلم أن يخلد ذكر صاحبه عبر القرون، أين الأغنياء أيام الإمام مالك وأيام الإمام أحمد وأيام الإمام البخاري؟ هل لهم ذكر؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]؟ إنما نحن الآن نذكر هؤلاء الأئمة أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكلما ذكرناهم ترضينا عنهم، هذه بركة العلم، لذلك قدمه الرسول عليه الصلاة والسلام.
والعلم ممدوح في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، قال البخاري رحمه الله: قدم العلم على كلمه التوحيد؛ لأن الله عز وجل لا يعرف إلا بالعلم.
والعلم بحر لا ساحل له، يرده الناس فكل يأخذ على قدر ما طاقته، كل إنسان معه إناء يغترف من البحر على قدر الإناء الذي معه، هناك إنسان يرد على القرآن فلا يكاد يأخذ منه شيئاً، وهناك رجل يرد فيغترف منه الكثير، لذلك هناك فرق بين الذي يقرأ القرآن وهو عالم به والذي يقرأه هذاً.
مثلاً: من أوسع أبواب زيادة الإيمان، باب أسماء الله عز وجل وصفاته، كلما تدبرت هذا الباب كلما ارتقى إيمانك مع كل مرة تتدبر فيها، مثلاً اقرأ قوله عز وجل -وهذه الآية أولى الناس بها هم النساء-: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
الخشوع هو الذل سواءً كان في أهل النار، كما قال الله عز وجل: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:9]، أو في المؤمنين المخبتين قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] خاشعون: أي ذليلون.
وقال تعالى: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] وكذلك المرأة التي لا تحمل تراها خاشعة ذليلة منكسرة؛ لأن مهنتها الأولى في الحياة أن تلد، تحمل وتضع، هذا بعد عبادة الله عز وجل، إذا لم ترزق المرأة بالحمل فإنها تكون في غاية الذل والخشوع، كالأرض تماماً: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] فإذا أنزلنا عليها الماء -أي: حملت- اهتزت وربت، ترى البشرى على وجهها، وتحس هذه المرأة وتشعر بطعم الحياة، مثل الأرض تماماً.
وهذا مثل المرأة التي قالت لزوجها: مالِ أبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذاك بأيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا نخرج ما قد يغرس فينا فالمرأة كالأرض تماماً {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] وترى هذا المعنى جلياً واضحاً في أول سورة الحج، أي: الربط ما بين الأرض والمرأة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] هي هذه المرأة والحمل {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6].
فإذا قرأت المرأة هذه الآيات وتدبرتها على هذا النحو؛ ازداد إيمانها {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] أحياها بعد أن كانت تحتضر كل يوم، فأحياها الله عز وجل، وأحيا أملها، وجدد رغبتها في الحياة لما حملت ووضعت.
فلما نقرأ القرآن على هذا النحو، تقرأه بقلب شاهد خاشع، فإننا سنخرج بمعان جديدة، وآلة ذلك: العلم؛ لذلك العلم ممدوح في ذاته، فأول رجل ممدوح على وجه الأرض بعد النبيين، وهو هذا الرجل الذي آتاه الله علماً ومالاً.
أول بركات العلم أنه يحيي قلبك ويسددك.
الرجل الثاني: الذي آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، وقد وصل إلى هذه المنزلة الرفيعة بالعلم.
لذلك أحسن اختيار من يتأسى به، فهذه من بركة العلم، إما الرجل الرابع الجاهل الذي لم يحصل الدنيا ولا الآخرة، لا علم ولا مال، لما أراد أن يقلد بسبب جهله اختار أسوء رجل، فمثله كمثل الرجل الذي ورد ذكره في الحديث الضعيف الذي رواه أبو الشيخ في كتاب الأمثال، وأنا أذكره ليس كحديث: (مثل الذي يسمع الحكمة فيأخذ شر ما فيها، كمثل رجل أتى راعي غنم، فقال: يا راعي الغنم! أعطني شاة ناوية -أي: سمينة- فلما رآه الراعي طماعاً، اختار له، فقال له: لا، أريد الأخرى.
قال: دونك الغنم، اختر ما شئت، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم).
لما وكله إلى اختيار نفسه اختار الكلب، استسمنه فاختاره؛ لأنه وكله إلى اختياره هو.
فهذا الرجل الرابع لما أراد أن ينظر إلى من يتأسى اختار أشر رجل، أما صاحب العلم فقد اختار أفضل رجل؛ لذلك ما ضره أن يكون فقيراً؛ فقد رفعه الله بالعلم حتى صار بنيته مع صاحب العلم والمال.
الرجل العالم إذا آتاه الله المال وضع المال في موضعه، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه: يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه؛ فهذا بأفضل المنازل) فانظر كيف رتبها، قال: (يصل به رحم(130/2)
الصنف الثاني: صاحب العلم فقط
قال في الحديث: (ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو صادق النية -هكذا عند الترمذي - يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله؛ فهو ونيته).
(هو ونيته) ترجمة هاتين الكلمتين في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فالنية عبادة مستقلة لا تفتقر إلى غيرها، وكل العبادات تفتقر إلى النية، وانظر إلى الرجل الثاني كيف وصل إلى مرتبة الأول! لتعلم جلالة النية وخطورتها.
إنما ضيعنا على أنفسنا كثيراً من العبادات والأعمال المباحات بعدم عقد النية، انظر إلى ما يقول الحديث: (إنما الأعمال بالنيات -يعني: لا عمل إلا بنية- وإنما لكل امرئ ما نوى -ثم ذكر النيتين- فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله) التكرار علامة التعظيم والإكبار؛ هذه هي طبيعة التكرار.
والتكرار إما أن يكون للتأسيس أو التوكيد، فهذا تعظيم وتفخيم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله -لم يقل: فهجرته إليهما، إنما قال:- فهجرته إلى الله ورسوله) كقول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74] * {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] هذا أعظم من تعيين العقوبة، لو قالوا: جزاؤه من وجد في رحله أن يجلد؛ لكان أقل، إنما: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] يعني الذي يخطر على بالكم افعلوه، إذاً هذا أبلغ للعقوبة من أن يعين عقوبة.
وكذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] هذا أعظم من تعيين الأجر كأن يقول: له الجنة، له الفردوس الأعلى، له كذا وكذا لا، طالما وقع أجره على الله، فتخيل أنت كيف يكون الأجر! فهنا تعظيم الهجرة إلى الله ورسوله، بخلاف الشطر الثاني: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها) ما قال: فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، إنما أضمر وأجمل، والإجمال تحقير.
وتأمل هنا: (فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة) والمرأة من الدنيا، فكان كافياً أن يقول: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فأفرد ذكر المرأة للاهتمام بها والإشعار بفتنتها وخطورتها.
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) (أضر: أفعل تفضيل، أعظم فتنة يبتلى بها الرجل المرأة، تجد الرجل الضخم يصير صغيراً جداً أمام المرأة! ربنا سبحانه وتعالى قال هكذا، قال يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33] من الصبوة، أي: يصير كالصبي، وكم من أملاك الناس انتقلت إلى النساء في لحظات إقبال الرجل على شهوته، فبينما هو في أوج شهوته تقول له: وقّع، فيوقع على كل شيء، ويعمل أي شيء، وينفذ كل طلباتها، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر النساء! ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم منكن!).
إذا رأيت الرجل خارج البيت وجلست معه تقول: هذا الرجل لو أن عقله وزع على أمة من المجانين لصاروا عقلاء، لكن هذا العقل الكبير يتوارى أمام المرأة! لذلك كانت فتنة النساء فتنة عظيمة ولا يعصمك منها إلا الله.
يوسف عليه السلام نبي عريق النسب، النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن يوسف فقال: (هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) من مثله؟! فلو جاز لإنسان أن يعصم من الدنايا لعراقة نسبه لعصم يوسف عليه السلام، ومع ذلك قال لله عز وجل: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] إنها فتنة عظيمة! لذلك كل المؤتمرات التي تعقد باسم التنمية والبيئة المقصود بها النساء: مؤتمر السكان، مؤتمر الغذاء، مؤتمر الكساء، أي مؤتمر تجد المرأة لها نصف جدول الأعمال في ذلك المؤتمر.
مؤتمر السكان كان المقصود به إفساد المرأة، لأنهم خرجوا من المؤتمر بثلاثة أشياء: الشيء الأول: الدعوة إلى الاختلاط في الدراسة.
بعض المدارس هنا في القاهرة كانت تفصل بين الجنسين، والآن بدأت تفتح باب الاختلاط بدعوى أن الميزانية انتهت.
لذلك نجد الاختلاط من الابتدائي إلى الجامعة، الوالد بجانب البنت، وهذا الاختلاط يكون نتيجته ظهور الفواحش.
إن الزنا لا يكون إلا برضا المرأة، تسعمائة وتسعة وتسعين امرأة من الألف تجد المرأة هي المسئولة عن الزنا، وامرأة واحدة من الألف تغتصب، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى لما ذكر الزناة قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2].
ممكن البنت تكون متربية في بيئة نظيفة، فحتى مع هذا الاختلاط لا يصل الولد إليها، فقالوا: لابد إذاً من عامل مساعد حتى تتم الفاحشة، ما هو العامل المساعد؟ تجريم الختان!! ظهر التقرير الرسمي في الصحف أنها عادة جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، كأنهم يخاطبون الصم البكم العمي، افتح أي كتاب فقه صغيراً أو كبيراً ففيه الحديث عن سنن الفطرة، تجد الختان مذكوراً، افتح أبواب الطهارات والغسل تجد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) وما زال إلى الآن في الأزهر ومناهجه تدرس الختان، كيف تأتي وتقول: عادة جاهلية؟!! هذا الرجل يتهم خمسة عشر قرناً بمن فيه من المسلمين بارتكاب العادة الجاهلية! إذاً: ما هي الأدلة؟ قال: بنات الرسول عليه الصلاة والسلام لم يختتن.
فهل عندك دليل أنهن لم يختتن؟ لا لم يرد دليل.
إذاً لم يختتن كيف؟!.
أنت يا رجل تدعي دعوى، أين الدليل على أن بنات النبي صلى الله عليه وسلم لم يختتن؟ يعني بنت أبي جهل تختتن وابنة الرسول لا تختتن.
وآخر يقول لي: وأنت ما أدراك أن بنت أبي جهل اختتنت؟ أقول لك: إن الختان كان عادة فاشية في العرب، هذا هو الأصل في البيئة العربية، فهل اليهود يختتنون والمسلمون لا يختتنون؟! كان العرب يختتنون، وكان العرب عندهم إذا أراد أحدهم أن يسب الآخر يقول له: يا ابن القلفاء.
والقلفاء: هي المرأة التي لم تختتن.
والمرأة إذا لم تختتن تكون كثيرة الحنين للرجال، فكأنه لما شتمه قال: يا ابن المرأة الكثيرة الحنين إلى الرجال، أي: غير عفيفة.
فإذا كان هذا الخلق فاشياً عند العرب فلماذا بنات الرسول عليه الصلاة والسلام هن اللاتي يستثنين دون نساء العرب؟ انظر كيف يتهم الرسول!! ويهون عليهم أن يرموا بناته بمحاربة الاختتان، من أجل أن يصل إلى قضية! أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً! والراجح في المسألة: وجوب اختتان المرأة وليس استحباب ختان المرأة، ولا يوجد دليل صارف عن الوجوب إلا حديث منكر في مسند الإمام أحمد، ويتضح من لفظ الحديث وسياقه أن عليه صنعة الفقهاء، كأنه فتوى، والرجل المجرب لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: هذا ليس من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، والحديث يقول (الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء) هل هذا شكله حديث؟! وسند الحديث ضعيف، وهو منكر.
وآخر يقول: إذاً ما دعواك على وجوب الختان، وأن المرأة إذا لم تختتن فهي آثمة؟ الدليل قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].
حسناً! ما هو وجه الاستدلال في الآية؟ نقول: إن هذه الآية لما يضم لها قول النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (على قولين: قالوا: إنه اسم المكان الذي اختتن فيه.
لكن الراجح أنه اسم الآلة التي قطع بها الجلدة التي تواري الحشفة.
إذاً اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم، وقد أمرنا أن نتبع ملة إبراهيم وجوباً، إذاً يجب علينا أن نختتن.
لكن يأتي آخر ويقول لك: الكلام هذا للرجال، ما الذي جعلك تدخل النساء فيه؟ نقول: إن كل الأدلة الشرعية إذا قيلت؛ فإنه يقصد بها الرجال والنساء معاً، حتى يأتي دليل على تخصيص فئة دون فئة، هذا هو الأصل في الأدلة (مثل قوله عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتموني أصلي) للرجال والنساء، (: خذوا عني مناسككم) للرجال والنساء، (: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) للرجال والنساء، كل دليل من القرآن والسنة فالأصل فيه قصد الرجال والنساء إلا أن يأتي دليل يخصص الرجال عن النساء.
فهل ورد دليل يخصص الرجال عن النساء في هذا؟ أبداً، لم يرد دليل صارف، إذاً بقي الأمر على الوجوب، وهذه فتوى الشافعي، بل جماهير الشافعية على أن الختان واجب.
فلما يأتي آتٍ فيقول: لا يوجد الختان في دين الله.
ينبغي أن يعاقب؛ لأن إخرج الحق من الدين مثل إدخال الباطل فيه.
والرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (إذا التقى الختانان) قال الإمام أحمد: لما قرأت هذا الحديث استدليت به على مشروعية ختان المرأة، أي: إذا التقى فرج الرجل مع فرج المرأة، هذا اختتن وهذا اختتن فقيل: الختانان.
ثم إن الختان من سنن الفطرة، وسنن الفطرة هي القدر الثابت في كل الشرائع الذي لا يتبدل، ولهذا كانت اللحية على قول من صحح الحديث من سنن الفطرة.
فقال: إذاً نحن لما نجرم الختان، فهذا يكون عاملاً مساعداً لتهيج المرأة حتى لو كانت عفيفة، فتطلب رجلاً، هذا ثانياً.
ثالثاً: حسناً إذا هيجناهم ووقعوا في(130/3)
الصنف الثالث: صاحب المال فقط
الرجل الثالث -الذي آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً- شيخ هذه الطائفة قارون، آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، وكل أغنياء الأرض الآن رأس مالهم كله هي الفكة التي كانت مع قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] رجل غني جداً.
قارون يضرب به المثل في الغنى، والله تبارك وتعالى قد سجل قصته في آخر سورة القصص، قال عز وجل: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] * {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] انظر إلى النصائح الجميلة! قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77].
هنا نكتة لطيفة: كلمة: (ما)، في (فيما)، كان قارون معه مالاً، فقالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] أي: ما معك سخره للدار الآخرة.
فـ (ما) هنا يقول العلماء: إنها من صيغ العموم، لكن المقصود بهذا العموم المال دون سواه؛ لأن الذي جاء به السياق هو المال، مع أن اللفظ جاء عاماً شاملاً لكل شيء.
والعلماء يقولون: قد يكون الكلام على جهة العموم ومعناه على جهة الخصوص، كيف؟ مثلاً لفظة: (الناس) عموم، يدخل ضمنها اليهود والنصارى والمسلمين والمجوس وكل الناس، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، أي: كل الناس، وقد أكد ذلك بمؤكدين: كلمة (الناس) فيها الألف واللام إذا دخلت على النكرة تفيد العموم، وكلمة (جميعاً) في آخر الآية أفادت العموم أيضاً، فالمقصود بالناس هنا كل الخلق.
ونقرأ قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27] الناس هنا هم المسلمون فقط، مع أن هؤلاء ناس وهؤلاء فهذا لفظ عام لكن معناه الخصوص.
إذاً: ما الذي يجعلنا نعرف أن (ما) في هذه الآية تفيد الخصوص؟ قلنا: السياق؛ لأن السياق من المقيدات، أنت مثلاً لو جاءك ضيف: وقلت له: تفضل، أنت عزيز علي وكريم، تفضل، وعزمته على العشاء.
ماذا تفهم: هل أنا أهين أم أكرم؟ أُكرم.
لكن عندما نقرأ قول الله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] إهانة أو إكرام؟ إهانة، دل على ذلك سياق الآيات.
كذلك نحن نقول: السكوت علامة الرضا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تستأذن البكر.
قالوا: يا رسول الله! إن البكر تستحيي) يعني إذا قلت لها: يا ابنتي! جاء فلان الفلاني يريد أن يتقدم إليك ويخطبك، فإنها تستحيي وتخفض رأسها ولا تتكلم، إذاً سكوتها هذا علامة رضا، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذنها صماتها).
لكن جاء عن ابن عباس في صحيح البخاري في حديث طويل جاء فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فبلغ عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فقال: فلبست ثيابي وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في الغداة، والرسول صلى الله عليه وسلم في مشربة -المشربة: مثل الحجرة عالية قليلاً- ولها باب.
فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الغرفة ووكل بالغرفة رباح -غلام الرسول- وقال له: اجلس على باب الغرفة حتى لا يدخل أحد، قال عمر بن الخطاب: فجئت فاستأذنت رباحاً.
فقلت له: ائذن لـ عمر.
فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.
قال عمر: فجلست بجانب المنبر).
ففهم عمر أن السكوت هنا ليس علامة رضا فلم يدخل، لأن السياق يفهم أن الرسول غضبان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه على حسب الإشاعة الشائعة التي ظهرت.
قال: (ذكرتك له فصمت، فجلست بجانب المنبر، قال: غلبني ما أجد، ثم قلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست، ذكرتك له فصمت ثلات مرات، قال عمر: فلما هممت بالانصراف ووصلت إلى الباب؛ ناداني الغلام فقال: قد أذن لك).
إذاً نحن نعرف أن السكوت علامة للرضا أو للغضب من خلال السياق.
كذلك قصة كعب بن مالك في تخلفه عن غزوه تبوك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر -تبسم- استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك، جاء المعذرون من الأعراب الذين تخلفوا عن غزوه تبوك يعتذرون، والرسول صلى الله عليه وسلم يقبل منهم.
قال كعب بن مالك: (فدخلت عليه فلما رآني تبسم تبسم المغضب)) ابتسم ابتسامة صامتة، ابتسامة غضب.
فالعلماء يقولون: إن السياق من المقيدات.
إذاً كلام قوم موسى مع قارون هو بخصوص المال، و (ما) هنا وإن كان ظاهرها العموم لكن المراد بها المال، أي: ابتغ في مالك الدار الآخرة.
{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وهنا درس للدعاة إلى الله عز وجل: أن يراعي مقتضى الحال.
عندما تقول لغني: اخرج من كل مالك، دعه وراء ظهرك وتعال ورائي، هذه ليست طريقة دعوة؛ لأنه لن يخرج، لكن إذا قلت له: استمتع بالمباح، كل واشرب على مزاجك، طالما أنه حلال فلا بأس.
لكن هناك من العلماء من قال في تفسير: ((ولا تنس نصيبك من الدنيا)) أنه الكفن، وهذا التفسير فيه قسوة في الدعوة، والأصح أن نجري اللفظ على ظاهره: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: تمتع بالمباحات ما شئت، دون إسراف، ولا تجرده من المال كله.
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] انظر إلى التذكير! يا إخوان! الغنى الطارئ يسوء به الخلق، لذلك تجد الطبيب الذي أبوه طبيب يعامل زملاءه معاملة رقيقة، وطالما أنه أستاذ في الجامعة، أول ما يرى زميله يقول: تعال، تفضل أنت زميلي، ويظهر له التودد والتلطف، هناك فرق بين معاملة هذا الطبيب الذي هو طبيب وأبوه طبيب وجده طبيب وبين الطبيب الذي هو الوحيد في أسرته طبيباً.
كذلك الإنسان العريق في الغنى تجد في غناه طعماً، بخلاف الإنسان الذي طرأ عليه الغنى مثل قارون، يكون لئيماً خسيساً، لا يتذكر نعمة الله عليه.
ولا أدل على ذلك من القصة الشهيرة التي رواها مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان ثلاثة ممن كانوا قبلكم أراد الله أن يبتليهم: أقرع وأبرص وأعمى في بني إسرائيل، فأرسل إليهم ملكاً، جاء للأبرص وقال له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي لوناً حسناً وجلداً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله.
قال له: أي المال تحب؟ قال له: الغنم.
أعطاه الغنم وقال له: بارك الله لك فيه.
ذهب للأقرع: ما تشتهي؟ قال: شعراً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله.
قال له: أي المال تحب؟ قال له: البقر.
قال له: خذ البقر، بارك الله لك فيها.
ذهب للأعمى: ما تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله.
قال له: أي المال تحب؟ قال: الإبل.
قال: هذه ناقة عشراء، بارك الله لك فيها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فكان للأول وادي من الأغنام، وللثاني وادي من الأبقار، وللثالث وادي من الإبل) والوادي بمنتهى مد البصر.
ثم جاءت ساعة الامتحان، فجاءهم نفس الملك، لكن أتى الأبرص بصورة رجل أبرص، لكي يحنن قلبه، عندما يراه يقول: سبحان الله! أنا كان شكلي هكذا، الحمد لله الذي جملني، فيتذكر.
ربنا سبحانه وتعالى من لطفه يعطيه مقتضى يتذكر به البلاء فيشكر؛ لأن هناك من الناس من ينسى، فيذكره.
فلما جاء في صورة الأبرص، قال له: (أنا عابر سبيل انقطعت بي الحبال، ولا حيلة لي إلا بالله ثم بك، فهل تعطيني -ما قال له: نصف الغنم أو ثلثها أو ثلاثة أرباعها- غنمة واحدة فقط، أتبلغ بها في سفري، حيث أنني عابر سبيل انقطعت بي الحبال، وليس لدي أي حيلة؟ قال له الرجل (اللئيم): الحقوق كثيرة.
(وهناك أناس يعاملون الله عز وجل بهذه المعاملة، يكون تاجراً كبيراً ويقول لك: والله هذه السنة أنا خسران، وتجده قد بنى عمارة وبدَّل السيارة.
المعلوم أن التاجر الخسران يبيع، لا يسدد ولا يشتري.
هذا التاجر يحسب من الألف مثلاً يكسب خمسين جنيهاً، إذا خسر عشرين يعتبر نفسه خسران، هو يحسبها هكذا، ويقول لك: والله هذه السنة أنا خسران.
إن الله عز وجل يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وهل الله عز وجل يريد منك شيئاً؟! أنت ملكه! ولقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يد الله ملأى لا يغيضها شيء، سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء) انظر كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض، لما قرأت هذا الحديث اقشعر جلدي، ثم طلعت في دماغي فكرة: الشارع الذي أسكن فيه به حوالي خمسين بيتاً، فقلت: أنظر الخمسين بيتاً هذه كم تساوي مليوناً، وطبعاً افترضت تفصيل الشقق عندهم مثل شقتي، هناك طبعاً أناس تفصيلهم مختلف، مثلاً واحد هنا يملك (فيلا) في ميدان لبنان مكونة من شقتين فوق بعض، في عمارة بها سبع عشرة غرفة، يريد أن يبيعها بمليون وسبعمائة ألف، يقول لي الشخص الذي كان يستقبل مكالمات المشترين: أحدهم اتصل بي، يقول لي: الفيلا بكم؟ قلت له: بمليون وسبعمائة ألف.
قال: الظاهر أن تفصيلها غير جيد.
انظر يا أخي! هذه الدنيا كيف تمشي، سبحان الله! فأنا قلت: سأحسب تكلفة هذه المباني بعد أن حصرت البيوت، المهم عملت حسبة كانت نتيجة الخمسين بيتاً نحو خمسة وستين مليوناً، باع(130/4)
الصنف الرابع: الذي ليس لديه مال ولا علم
الصنف الرابع: (ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً) وهو هذا الذي: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
هذا الرجل ليس لديه مال ولا علم، لذلك أساء اختيار من يتأسى به، وأول ما أحب أن يختار اختار كلب الغنم الذي ذكرنا قصته من قبل.
العالم لأنه عالم أول ما أراد أن يتأسى اختار أفضل رجل على وجه الأرض: رجل آتاه الله مالاً وعلماً.
أما هذا الرجل الذي ما عنده علم فقد اختار أسوأ رجل على وجه الأرض، الذي هو: رجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فهذا بأخبث المنازل).
الإنسان العامي ليس له مذهب، مذهبه مصلحته، ولذلك ممكن يبدل مذهبه كل يوم.
العامي رجل سياسي، والسياسي لا دين له، والذين قالوا هذه العبارة هم السياسيون أنفسهم، قالوا: إن السياسة ليس لها مبادئ، ولا دين لها، ممكن يتخذ القرار الآن ويتراجع عنه غداً؛ لأن الوضع يستلزم هذا.
العوام سياسيون، يقول لك: خذه بالسياسة.
العوام هم الذين خذلوا علي بن أبي طالب رغم أنهم كانوا مثل الرمل كثرة.
ولما سأل الحسين رضي الله عنه رجلاً عن أهل العراق: (ما أخبار أهل العراق؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك) هو يذبحك ومع ذلك يترحم عليك.
مذهب العوام بالكيلو، وليس بالحصر، هل تعلم ما معنى بالكيلو؟ يأتي رجل مثلاً يقول للناس: إن السنة كذا وكذا.
فيقول له: يعني كل هؤلاء لا يفهمون وأنت الذي تفهم.
مذهب العوام كلما وجد أن العدد أكثر كلما كان هذا دلالة على أنه حق، مع أن الله عز وجل قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام:116].
العامي يجد ويجتهد في طلب شهوته وهواه، فإذا لم يحصل رجع إلى العكس، أحدهم سافر إلى الخارج، فقيل له: ماذا تعمل يا أخي هناك؟! يقول لك: أغسل الصحون.
حسناً: أنت عندما كنت تأكل في طبق الفول، وأبوك أو أمك يقول لك: ضعه في المطبخ.
كنت تقول: هذا ليس عملي.
فلماذا تذهب هناك تغسل أطباق الخنازير وكئوس الخمر؟! لماذا؟ لقد خرج ليجمع المال فرجع بخفي حنين.
هل تعرف قصة خفي حنين؟ كان لدى حنين جمل سمين، وكان هناك لص ذكي، مثل قصة الخروف التي حصلت في القاهرة، حيث محاكم القاهرة الكبرى التي فيها العجائب! شخص سمع خروفاً يصيح على عمارة، فصعد العمارة وأخذ الخروف ووضعه على كتفيه ونزل، قابل شخصاً على السلم، فخاف أن يكون صاحب الخروف، فماذا قال اللص؟ قال له: إنتم بتعرفوا أكل اللحم؟ تريدون شراء فروق بستين جنيهاً؟! فالرجل قال له: خير، لماذا زعلان؟ ما الموضوع؟ قال: يطلعوني إلى الدور الخامس وينظرون إلى الخروف، ثم يقولون لي: هذا جلد على عظم، ويعطونني فيه ستين جنيهاً! قال له: يا أخي لا تغضب، هات الخروف وخذ ستين جنيهاً.
قال: حلال عليك.
أخذ اللص ستين جنيهاً وصعد الرجل بالخروف، الجيران كان لديهم خروف، والرجل من فرحته نزل ليشتري البرسيم ليأكل الخروف، وصاحب الخروف الأصلي أيضاً صاعد يطعم الخروف.
قال له: إيه يا عم؟! متشكرين جداً، والله ما كنت أعرف أنك تعز الخروف، اشتريت له برسيماً على حسابك؟ قال له: لا، هذا خروفي.
خروفك! كيف خروفك؟ أنا الآن اشتريته.
وتشاجرا مع بعض، واللص أخذ القيمة وهرب بها! وهذا مثل لص حنين، رأى الناقة جميلة فقال: أنا أريد أن أسرق هذه الناقة، لكن كيف أسرقها وصاحبها راكب عليها؟ فقام ووضع فردة حذاء على شجرة في الطريق، وبعد نحو نصف كيلو متراً قام ووضع الفردة الثانية على فرع شجرة أخرى، فـ حنين كان يمشي فوجد الفردة الأولى، قال: يا سلام! لو كان لها أخت! وتركها.
وهذا مثل الرجل المغترب الذي نزل إلى القاهرة، ولم يجد أي فندق ينام فيه، فوجد (لوكندة) للنوم، فقرأها لو كَنده للنوم -أي: لو كان هذا للنوم- هو قرأها هكذا وهذا كان يقول: لو أن أختها موجودة! المهم مشى نصف كيلو متراً فوجد أختها، قال: أنا سأربط الناقة وأذهب لكي آتي بالفردة الأولى.
وكان اللص له بالمرصاد، أول ما ترك حنين الناقة؛ قام اللص وركب الناقة وهرب.
رجع حنين بفردة الحذاء الأخرى أين الناقة؟ لم يجدها.
فلما رجع إلى قومه قالوا: يا حنين! بم رجعت؟ قال: بالخفين.
إذاً (رجع بخفي حنين) مثل يضرب للذي يرجع بالخيبة والخسران.
فهذا سافر إلى الخارج وغسل الأطباق ورجع بدون مال، أول ما يعود، يقال له: يا فلان أين المال؟ يقول: والله يا أخي المال ليس كل شيء، يعني هؤلاء الذين لديهم المال ماذا صنعوا به؟! إذاً لماذا لم تقل هذا الكلام قبل أن تخرج؟ إذاً العامي على استعداد أن يرجع إلى الصفر إذا كان سيريح نفسه، أو إذا كان هذا يرضيه، فهذا هو مذهب العوام.
وانظر إلى الجماعة الذين يقولون: نحن أكبر جماعة في العالم، نحن اليوم انضم إلينا خمسة آلاف، أربعة آلاف، ثلاثة آلاف.
هذا الكلام لا قيمه له {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:23] أي: ليس كل المؤمنين رجال.
يقول العلماء: هذا على مذهب العوام الطغام، ومن سار سيرتهم من أشباه الأنعام.
العوام لا مذهب لهم، أخفقوا في الاختيار لمن يقلدونه ويتأسون به؛ لذلك نالوا الخزي والخسران بدون شيء.
فالرجل الرابع لا معه دنيا ولا معه آخره، لذلك كان بأردأ المنازل وأخبثها.
إن على كل شخص منا أن يسأل نفسه وليكن أميناً في
الجواب
من أي الأصناف أنا؟ الإمام البخاري كان اسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، نحن كلنا نعرف البخاري، لكن لا نعرف والده.
كان أبوه -رحمة الله عليه- تاجراً غنياً، لما حضرته الوفاة دعا ابنه الإمام البخاري، وقال له: يا بني! لقد تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة.
يستحيل أن يقترب من الحرام.
كيف تأتى لمثل هذا الرجل ألا يقع في كل ماله درهم فيه شبهة؟! إن ذلك بسبب الاتصال بالعلماء، كان يمشي معهم دائماً.
الإمام البخاري لما ترجم لوالده، وأحب أن يذكر منقبة من مناقبه، ومعروف أن الإنسان إذا أوجز يذكر أفضل ما يجد، لو قلت لك: صف لي أباك في كلمة واحدة؟ فإنك ستذكر أفضل ما تتخيله في أبيك.
فالإمام البخاري لما ترجم لوالده ترجمه ترجمة موجزة في سطر؛ لقد بحث عن أجل عمل عمله فقال: رأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه فقط.
إذا قيل العمران: أبو بكر وعمر، الشيخان: البخاري ومسلم، الحمادان: حماد بن زيد وحماد بن سلمة، السفيانان: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري.
قالوا في ترجمة حماد: لو قيل له: القيامة غداً؛ ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، انظر إلى الجلالة! أنا أذكر وأنا طفل صغير أنهم كانوا يقولون: القيامة ستقوم يوم الأحد، لا أنسى هذا اليوم أبداً، في هذا اليوم كان كل الناس في المسجد تبكي.
المهم: هذا المنظر لا أنساه أبداً، وحماد لو قيل له: القيامة غداً لا يقدر أن يزيد في عمله شيئاً، هذا يستحق أن يُرى أم لا؟ لكن انظر اتصاله بأهل العلم، يأخذ الفتوى مجاناً.
فلماذا قصرت في طلب الفتوى ودخلت في البيوع المحرمة والبيوع التي فيها شبهة؟! أنت رجل صاحب مال، ليس عندك وقت تتعلم، إذاً اتصل بعالم، اجعله مستشاراً لك، لا تقدم رجلاً ولا تؤخر أخرى، فأنت إذا قلت له: ما حكم الله في ذلك؟ هو إذا أخطأ؛ فلا جناح عليك.
إذاً نحن يا إخواننا! ننظر بعد هذا الحديث من أي الأصناف الأربعة نحن؟! إذاً الصنف الثالث والرابع نعوذ بالله وإياكم أن نكون منهما، إذاً ما بقي إلا الصنف الأول والثاني، وإنما صار الصنف الأول والثاني ممدوحين بالعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(130/5)
آداب طالب العلم [1 - 2]
العلم هو ميراث الأنبياء، لذلك كان طلبه والاشتغال به من أعظم أنواع العبادة وكفى به شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو واقع فيه لذلك كان بد على طالب العلم أن يتحلى بآدابه، وأن يجتنب كل ما يقدح فيه حال طلبه للعلم.(131/1)
فضل العلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة الكرام! درسنا في أمور تتعلق بطلب العلم، وهي نبذٌ مختصرة، وإلا فالأمر طويل جداً، لكن السعيد ينفعه القليل، والمكابر لا ينفعه الكثير.
أذكر بين يدي هذه المحاضرة أبياتاً أشرحها، وهذان البيتان نظمهما أحد العلماء نصيحة لطالب العلم؛ فقال: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان هذه الستة الأمور هي عماد طالب العلم، ومن أهدر واحدة منها كان الخلل في بنيانه بقدر ما أهدر، وهي مراتب متفاوتة بعضها أعلى من بعض، ولا يستقيم بنيان طالب العلم إلا بها جميعاً.
والعلم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).
فإنك إذا قلت لرجل جاهل: يا جاهل! احمرّ أنفه من الغيظ؛ لأن الجهل عار وشنار، فالكل يتبرأ منه، ولو قلت له: يا عالم، لاغتبط؛ لأن العلم شرف؛ وكم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم! كان الأعمش رحمه الله يقول: (والله لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)؛ لأنه كان عنده عمش في عينيه، فلو كان بقالاً لاستقذره الناس، فرفعه الله بالعلم، وكان طلبة العلم يتهافتون عليه مع الإهانة الكبيرة التي كان يتعمد أن يفعلها بهم.
فالمقصود: أن العلم يرفع صاحبه، وهذا شيءٌ ذاتيٌ في العلم، وأشرف العلم هو: معرفة الله ورسوله، ومعرفة ما افترضه الله عز وجل على العباد، وهو العلم الشرعي.(131/2)
صفات وآداب طالب العلم
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان(131/3)
طول الزمان
قوله: (وطول زمان)، وهذا إشارة إلى أن المرء إذا طال عمره في العلم كان أقوى في الفتوى، فما أعجب اعتراض بعض طلاب العلم على المشايخ وهو ليس له في طلب العلم إلا سنة واحدة! نسأل الله السلامة! عمره سنة واحده في طلب العلم ومع ذلك ما ترك أحداً إلا وقال: أخطأ فلان وفلان وأنا أعرف طالباً في الجامعة كتب كتاباً يحكم فيه بين المتنازعين في الحديث، عالمان من العلماء الكبار متنازعان في تصحيح حديث.
قال: فلما رأيت الشيخين الجليلين اختلفا أحببت أن أفصل بينهما.
أهذا من الأدب؟ طالب يفصل النزاع بين البخاري ومسلم إن طول العمر يكسب الملكة في الاستنباط، وهي لا توجد في الكتب ولا تدرس، بل تحتاج إلى عمق وممارسة.
مثلاً: مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر، ورد فيها هذا حديث صحيح وهو من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعاً في الحضر من غير سفر ولا مطر، فسئل ابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته)، مع أن الأصل أن الصلاة تقام في وقتها: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، لكن هذا الجمع في الحضر يحتاج إليه بعض الناس، كدكتور سيعمل عملية تستمر ست ساعات، وفتح بطن المريض قبل الظهر بساعة، فسيأخذ ست ساعات، بمعنى أن الظهر سيضيع عليه، فلو قلنا له: اترك المريض واذهب إلى الصلاة؛ لن يرجع إلا وقد مات المريض.
لكن نقول له: لك رخصة في جمع التأخير، فاعمل العملية وأخر الظهر إلى وقت العصر لماذا؟ لأن هذا فيه حرج، فترك المريض وبطنه مفتوحة حرج شديد.
كذلك مثلاً: إذا كان المريض أباً أو أماً أو أخاً، وهناك ضرورة ملحة لأن تقف بجانبه، فيجوز لك أن تترك صلاة الجماعة، وتجمع بين الصلوات، لكن إذا أتى رجل وقال: هل يمكن لي أن أجمع بين الصلاتين، وليس عنده عذر، وأجزت له؛ فسوف يتخذ هذا الحديث ذريعةً لإهماله، ويجمع الظهر مع العصر، ويقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الظهر والعصر.
فالواجب عليك لمثل هذا الصنف من الناس ألا تعطيه الفتوى بالجواز.
وهذا مثال آخر يبين أن الملكة لا تأتي إلا بالممارسة: أبو حاتم الرازي رحمه الله، مر عليه حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن زيد بن عبد الله، فقال أبو حاتم: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش.
لقد أصبح يسمع الحديث فيعرف راويه، كما يتذوق أحدنا في بيته الأكل فيميز بين الجيد والرديء، فأصبحت هذه الأحاديث عند أبي أبي حاتم من كثرة الدربة والممارسة لها علامة خاصة، فأول ما يسمع بحديث للأعمش يقول: هكذا أحاديث الأعمش رجل له ملكة، وهنا قال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين - وعمرو بن الحصين متروك، كذبه بعض العلماء- قال أبو حاتم: ثم رحلت إلى بلد كذا وكذا وإذا بي أجد الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان عن جابر، قد دلسه الأعمش فأسقط عمرو بن الحصين.
ما الذي عَّرف أبا حاتم أنه من حديث عمرو بن الحصين؟! لأن أحاديث عمرو بن الحصين لها مذاق خاص عند أبي حاتم الرازي.
وهذا يحصل بالدربة، ولممارسة، وبكثرة النظر.
(وطول زمان) إشارة إلى أن العلم لا يذلل لصاحبه إلا بطول الزمان.
وكم من مسائل كنت أتشبث بها وأظنها هي عين الصواب، فتبين لي فيما بعد أنها عين الخطأ.(131/4)
صور من تأديب العلماء لطلابهم
فـ الأعمش -سليمان بن مهران- رحمه الله، كان يقول: (لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)، وهو أشهر من أذل علماء الحديث، كان كلما يأتي إليه طالب ويقول له: حدثني حديثاً، يأبى عليه.
وفي ذات مرة خرج في جنازة، فعلم أحد طلاب الحديث بخروجه، فتبعه وأخذ بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد! وهم يمشون في الجنازة، فأخذ الطالب ينحرف به عن الطريق حتى وصل به إلى مكان خالٍ من الناس.
فقال: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا.
قال: أنت في جبانة كذا وكذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً.
فحدثه حتى ملأ الواحة، وعاد به إلى البلد، وفي الطريق أعطى هذا الطالب الألواح لزميل له، ومضى مع الشيخ ليرده إلى البلد، فلما سمع الأعمش الأصوات عرف أنه في البلد، فأمسك الطالب وجعل يصرخ: أخذ مني الألواح، فقال له الطالب: لقد أعطيتها فلاناً، فقال الأعمش: كل ما حدثتك كذب، فقال: أنت أعلم بالله من أن تكذب.
فإذا أتى طالب العلم إلى حلقة العلم وهو رافع أنفه لأنه فلان ابن فلان؛ فإنه لا يصلح لطلب العلم، ولأجل ذلك كان الشيخ يقسو عليه ويكسر داعي الكبر فيه.
ولله در مجاهد بن جبر حين قال: (لا يتعلم اثنان: مستحٍ ومتكبر)، فالمستحي يحمله الحياء أن يظهر بمظهر طلاب العلم، والمستكبر: يرى أن هذا العمل لا يناسبه، فهو ابن فلان أو ابن علان، ولذلك لا يتعلم إلا من كُسر فيه داعي الكبر.
وجاء رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ الأعمش بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده.
وجاء رجل من الغرباء إلى حلقة الأعمش، وكان الأعمش لا يحب أن يجلس أمامه أحد، فجاء والمجلس ممتلئ ولا يوجد مكان إلا بجانب الأعمش، فقعد بجانبه، فكان الأعمش يقول: حدثنا فلان، ويبصق عليه، فصبر الطالب على هذا البصاق حتى انتهى المجلس.
ومما يروى في شدة الأعمش مع تلاميذه: أنه عندما أكثروا عليه، وكل يوم يأتون إلى منزله، اشترى كلباً، وكان الكلب عندما يسمع أقدام المحدثين يلحق بهم، فيهربون، وفي ذات مرة كان هناك ثلاثة تلاميذ وهم: أبو إسحاق السبيعي، وشعبة، وسفيان الثوري، فذهبوا إلى بيت الأعمش، وكانوا كلما أتوا إليه خرج عليهم الكلب، فيفرون ويرجعون مرة أخرى، فذات يوم اقتربوا من البيت بحذر خشية أن يخرج عليهم الكلب، وكانوا كلما اقتربوا لا يسمعون حسيساً للكلب، حتى وصلوا الدار ولم يخرج الكلب، فدخلوا على الأعمش، فلما أحس بهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟!! قال: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: الكلب.
وهل كان الأعمش شحيحاً بحديثه؟ لا.
بل كان الأعمش من أكثر الناس حديثاً، وحديثه منتشر ومبثوث في الكتب.
لكن لم هذه الشدة؟ لتأديب طلبة العلم، وقد ورث عنه هذه الشدة تلميذه: أبو بكر بن عياش، فقد كان شديداً، فجاءه تلاميذه يوماً فقالوا: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، فقال: ولا بنصف حديث، فقالوا له: رضينا منك بنصف حديث، فقال: اختاروا السند أو المتن؟ والسند: هو سلسلة الرجال، وسمي سنداً لأن كل راوٍ يسند ما سمعه إلى شيخه، وهذا يسنده إلى شيخه وهكذا، فقيل: مسند، أو قيل: سند، والمتن: هو الكلام نفسه، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: يا أبا بكر! أنت عندنا إسناد، فأعطنا المتن، فقال: (كان إبراهيم يدحرج الدلو).
فقال الخطيب البغدادي: انظر إليه! شح عنهم بما ينفعهم.
ومع ذلك كانوا يتهافتون عليه.
والإمام يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل (أكبر موسوعة للرواة) أتى إليه رجل مستعجل، وقال له: حدثني بحديث أذكرك به.
فقال له: (اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل).
أي: إذا كنت تريد أي شيء للذكرى، فاذكر رفضي تحديثك، وأبى أن يحدثه.
وعلماء الحديث كانوا يفعلون هذا تأديباً لطالب العلم.
وهذا أبو يوسف كان معه حلقة تضم بعض طلبة العلم، وذلك في حياة أبي حنيفة، فبعث أبو حنيفة أحد تلامذته وأمره أن يسأل أبا يوسف بها، فحضر حلقته وبدأ يسأل، فسأل السؤال الأول فأجاب أبو يوسف، فقال السائل: أخطأت، وكذا في السؤال الثاني والثالث.
فقال أبو يوسف: والله ليس هذا من قولك، هذا من قول أبي حنيفة، ومعنى ذلك أنه وصلت أبا يوسف الرسالة التي أرسلها أبو حنيفة، فكأنه قال له: لست شيخاً، ولا تصلح أن تكون شيخاً الآن، فرجع أبو يوسف فلزم مجلس أبي حنيفة إلى أن مات.
وكذلك ما يروى عن الإمام الشافعي أنه عندما ذهب يتعلم ويأخذ العلم عن محمد بن الحسن الشيباني -والإمام الشافعي أرفع قدراً في العلم وأتبع للآثار من محمد بن الحسن، مع جلالة الكل رحمة الله عليهم- فذهب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس في مجلسه كالتلميذ، وكان لا يعجبه بعض ما يفتي به محمد بن الحسن، فكان لا يواجه محمد بن الحسن في المجلس، ويقول له: أنت أخطأت، لكن كان الشافعي بعدما يقوم محمد بن الحسن من المجلس يقوم ويناظر بعض طلابه فيظفر عليهم، ولا يستطيعون الإجابة، فلما أكثر الشافعي عليهم شكوه إلى محمد بن الحسن، وقالوا له: عندما تقوم من هنا يأتي والشافعي فيلزمنا بإلزامات لا نستطيع أن نرد عليه، فلما جاء محمد بن الحسن وجلس في المجلس قال للشافعي: بلغني أنك تجادل أصحابي وتناظرهم، فهلا ناظرتني، فقال له الشافعي: إني أجلك عن المناظرة.
أي: لأنك شيخي، وأنت أرفع من أن يناظرك مثلي.
فقال له محمد بن الحسن: لابد أن تناظر.
فناظره الشافعي فظفر عليه، فرجع محمد بن الحسن إلى كثير من أقوال الشافعي، رحمة الله عليهم أجمعين.
وقد استعمل الشافعي هذا الأدب وهو عند مالك، فقال: (كنت أقرأ الموطأ على مالك فأصفح الورق صفحاً رقيقاً لئلا يسمعه مالك).
وهذا الأدب ورثه تلاميذ الشافعي، فهذا الربيع بن سليمان المرادي راوي كتب الشافعي، يقول: والله ما جرئت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ.
وأنا والله لقد انتفعت بهذا غاية النفع، عندما رحلت إلى الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1406هـ) ووجدت أن الأدب هو الذي يجعل للتلميذ منزلة في قلب الشيخ.
وكان الزهري الإمام العالم محمد بن مسلم يقول: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً حينما كان يماري ابن عباس)، وذلك أن أبا سلمة كان كلما أتى ابن عباس يدخل معه في جدال، وكان ابن عباس يحجب عنه علمه ولا يفيده.
وأبو سلمة كان إذا علم علماً ظهر به.
وقد سمعته عائشة رضي الله عنها يحدث بحديث: (الماء من الماء)، وهذا كان في أول الإسلام.
(الماء الأول) هو الغسل -ماء الاغتسال- و (الماء الثاني) ماء المني.
والمعنى: أ، الرجل إذا أمنى اغتسل، فقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ، فصار الاغتسال بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)، وعند مسلم: (وإن لم ينزل)، على خلاف بين العلماء، فعندما سمع أبو سلمة حديث: (الماء من الماء) من بعض الصحابة؛ كان دائماً يردده، وفي ذات مرة كانت عائشة تسمعه، فقالت: (يا أبا سلمة! أتدري ما مثلك؟ إن مثلك كمثل الفرّوج يسمع الديك يصيح فيصيح) أي: لست بعالم، فهي تريد أن تقول: أنت لم تتحقق مما تقول، إنما سمعت رجلاً يصيح فصحت، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) أي: لقد قلت قولاً لم تتحققه.
وأبو سلمة هذا بخلاف ابن جريج، فقد قال ابن جريج: (لقد استخرجت علم عطاء بالرفق).
فقد لازمه عشرين سنة، فأخذ عنه كل علمه بالرفق.
وابن حبان -صاحب الصحيح- تلميذ ابن خزيمة -صاحب الصحيح أيضاً- كان يرحل بعد ابن خزيمة في كل سفر، ويكتب عنه كل شيء، وذات مرة كان ابن حبان يسأله حتى تضجر منه ابن خزيمة، فقال له: تنح عني، فقام ابن حبان وأمسك القلم وكتب: تنح عني.
وقال: لا أدع كلمةً للشيخ إلا كتبتها، فقد أستفيد منها يوماً ما.
وأنا عندما ذهبت إلى الشيخ الألباني كنت آتيه فيتعذر بضيق وقته، فقلت له: أعطني خمس دقائق، لأنني ما رحلت إليه إلا لكي أسمع منه.
فقلت في نفسي: إذا كنت خرجت من بلدي لطلب العلم فسيصلح الله أمري، وإذا كنت خرجت رياءً فجزاءً وفاقاً لي سأرجع خائباً، فجئنا في فجر اليوم التالي، فقال لي: سأعطيك عشر دقائق كل يوم، ومنَّ الله عليَّ، حتى أصبحت هذه العشر الدقائق ساعة، فكنا يوم نخرج معه بالسيارة، ونسأله أسئلة وهو يجيب عنها.(131/5)
طلب العلم على أيدي المشايخ
قال: (وتلقين أستاذ) أي: الأخذ على المشايخ، وعدم الأخذ من الكتب، وكانوا يقولون: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي.
لأنك عندما تأخذ العلم من الصحف أو من الكتب فقد يخطئ الناسخ في نقطة واحدة فيتغير معنى الكلام، وعلماء الحديث لهم كتب في ذلك حصدوا بها الكتب المصحفة، مثل كتب التصحيف والغلط في الكتاب.
فإن: القرآن الكريم الذي نقلته الأجيال عن الأجيال، بأعلى درجات التواتر، نجد من يخطئ في قراءته.
ولنذكر لذلك بعض الأمثلة: كان هناك رجل في الكلية يسمعني وأنا أتكلم وأقول: لا يوجد حفظة، وهناك أناس لا يستطيعون قراءة القرآن فظن أنني أبالغ، فقال: إن كل الناس يقرءون القرآن، فقلت له: اقرأ، فقام وأخذ المصحف، وفتح على سورة هود، فقرأ قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} [هود:48]، فقال: (بسلَّم)، مع أن هذا هو رسم المصحف، لكنه ظنها (بسلَّ) وهي (بسلام)! وهناك إمام قام يؤم الناس فقرأ سورة التكاثر فقال: (إلهكم التكاثر)، -أي: ربكم- فقالوا له: إنما هي (ألهكم)! وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في أخبار الحمقاء والمغفلين: أن رجلاً عالماً دخل قرية من القرى، فاستضافه إمام هذه القرية وقال له: عندي بعض إشكالات في القرآن أريد أن أستشيرك فيها -وهو إمام الجماعة- فقال له العالم: تحدث، فقال: قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك ستين أم تسعين؟) وكانوا في الزمان الأول لا يعجمون الحروف -أي: لا يضعون عليها النقاط- فقد استحدثت هذه النقاط فيما بعد، فكانوا يكتبون بلا إعجام، فكلمة (نستعين) لو أهملت فقد تقرأ (تسعين)، فقال الإمام للعالم: وإياك تسعين أم ستين؟ ثم قال: وعلى أي حال فأنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!! فهذا يحصل في كتاب الله عز وجل، فكيف بكتب الحديث؟! ومن طريف ما يذكر في سبب تسمية الإمام حمزة بن حبيب (بـ الزيات) -وهو أحد القراء السبعة - قالوا: إن هذا اللقب التصق به لأنه كان يقرأ في أول سورة البقرة فقرأ: (الم، ذلك الكتاب لا زيت فيه) فقال له أبوه: قم واطلب العلم على أيدي الشيوخ، فسمي منذ ذلك بـ الزيات من أجل قراءته: (لا زيت فيه).
وآخر من طلبة الحديث قرأ قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] فقال: (فضرب بينهم بسنور له ناب).
فإذا كان التصحيف وقع في القرآن الكريم مع جلالته وعظمته وكثرة الحافظين له، فما بالك بكتب الحديث الذي لا يكاد يضبطها إلا أفذاذ أفراد بعد أفراد، فعلماء الحديث قد استحدثوا ضوابط في ضبط الكلام.
مثلاً: عن ابن عباس يروي راويان، واحد كنيته أبو (حمزة) والثاني كنيته أبو (جمرة).
فكانوا يكتبون فوق أبي حمزة: (حور عين)، حتى تعرف أنها حاء وليست جيماً، وعلماء الحديث ابتكروا أساليب لحفظ الكتب لم تتفتق أذهان البشرية عنها.
وفي ذات مرة بعث أمير المؤمنين إلى أحد الولاة فقال له: إن المخنثين أفسدوا البلد فأحصهم أي: عدهم، وأجر عليهم التعزير.
وقال للكاتب: اكتب إليه: أحصِ من عندك من المخنثين، فوضع الكاتب نقطة فوقها فصارت (اخصِ من عندك من المخنثين) فدعاهم الوالي فخصاهم، وهذا كله بسبب نقطة واحدة.
وفي أيامنا هذه تعسرت القراءة الصحيحة لعدم وجود الضابطين المدققين، فتجد طالب العلم بعد ضياع المدققين يقرأ في الكتب، ويخطئ في فهم كثير من الأشياء.
فكان لابد من الدراسة على أيدي المشايخ، فقد أصبحت ضرورة أكثر من أي عهدٍ مضى؛ لأن الطالب لا يميز الصحيح من التصحيف.(131/6)
فوائد الأخذ عن المشايخ
والأخذ عن الشيوخ له ثلاثة فوائد: يقصر لك العمر، ويسدد لك الفهم، ويرزقك الأدب.
الفائدة الأولى: يقصر لك العمر: فإنك تأتي على مسألةٍ ما فتسأله فيها؛ كالقراءة خلف الإمام -مثلاً- فيلخص لك هذا المبحث الذي وصل البحث فيه إلى مجلد أو مجلدين في بضع كلمات.
ولو جلست تبحث في هذا الموضوع لمكثت عدة أشهر، لكن الشيخ يختصر لك الزمان.
الفائدة الثانية: يسدد لك الفهم: كمسالة النزول بعد الركوع: هل يبدأ بالركبتين أم باليدين؟ فقد تناقشت أنا وأحد الإخوة فيها، فكان يقول: يبدأ بالركبتين، وأنا أقول: باليدين، وكان ممن قال بذلك: الإمام الحاكم النيسابوري.
فقلت لصحابي: من قال بقولك؟ فذكر عدداً من العلماء حتى ذكر الحاكم، فقلت له: وأنا أقول بقول الحاكم، والحاكم يرى صحة أحاديث النزول باليدين، فقال لي: إن الحاكم قال: (إن أحاديث النزول باليدين مقلوبة)، والحديث المقلوب مثاله أن يروي الراوي حديث: (ورجل تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) هكذا: (ورجل تصدق بشماله حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله)، فيقلب الحديث، ويسمى هذا الحديث مقلوباً.
فقلت له: أين ذكر الحاكم هذا الكلام؟ قال: في المستدرك.
فقلت: هات المستدرك.
فاتضح أن الحاكم بعدما روى أحاديث النزول بالدين، قال: وفي هذا آثارٌ عن الصحابة والتابعين، والقلب إليه أميل.
ففهم أن قول الحاكم:) والقلب إليه أميل) أي أنه مقلوب.
فقلت له: هذا قلب الحاكم أي: نفسه، فـ الحاكم يقول: وقلبي يميل إلى ما أثر عن الصحابة والتابعين.
وهذا مثال على أن الطالب عندما يقرأ لوحده في الكتب يخطئ في فهم كثير من المسائل.
وأذكر مثالاً آخر: رجل صنف رسالة، وهو ممن يذهب مذهب الخوارج، فقال حديث:: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) هذا الحديث إنما هو في أهل الصلاة والزكاة.
وأهل الكبائر: أي: أهل كبائر الأعمال، فقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] قال: (وإنها لكبيرة) يعني: شفاعته لأهل الكبائر.
مع أن العلماء يقولون: إن هذا الحديث في أهل كبائر الذنوب.
فهذا ما تبنى هذا الرأي إلا لأنه لم يقرأ إلا من الكتب؛ فكان لابد من الأخذ عن المشايخ.
- الفائدة الثالثة: الأدب: ومن أهم ما يزرقه طالب العلم من أخذه عن المشايخ: الأدب.
وعلماء الحديث كانوا يقسون على تلاميذتهم ليؤدبوهم وليكسروا الغرور فيهم.(131/7)
الغربة في طلب العلم
قال: والغربة على نوعين، وولا ينبل طالب العلم إلا إذا حقق النوعين معاً: النوع الأول: أن يكون غريباً في وسط الناس، له اهتمامات غير اهتمامات الخلق هم يبحثون عن الضياع وعن المتع وعن الدنيا، وهو يباينهم تماماً، كما في الأبيات التي تنسب للشافعي: سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي يا من يحاول بالمنايا رتبتي كم بين مستقل وأخرواقي أبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي والإمام الخطابي رحمه الله له بيتان من الشعر فيهما يتوجع فيهما ويذكر هذا النوع من الغربة فيقول: وما غُرْبَةُ الإنسان في شقة النَّوَى ولكنَّهَا والله في عَدَمِ الشكْلِ وإنى غريبٌ بين بُسْت وأهلها وإن كان فيها أُسْرَتِي وبها أهْلي يقول: ليست الغربة أن تغترب عن بلدك، لكنها في عدم الشكل: أي: ألا يكون لك شكل.
أنت من أهل السنة وكل الموجودين مبتدعة أنت غريب أنت طالب علم نافع وكل الذين حولك من أرباب الدنيا فأنت غريب، لا يوجد لك شكل، ولا يوجد مثلك.
و (بست) وهي اسم المدينة التي كان منها أبو سليمان.
هذا هو النوع الأول من الغربة.
النوع الثاني: وهو أنبل وأعظم، وهو الذي يسميه العلماء: الرحلة في طلب العلم، أن يغترب المرء عن بلده وأولاده لطلب العلم، وعلماء الحديث أعظم الناس منة على هذه الأمة بهذه الرحلة، فأكثر الناس رحلة هم علماء الحديث، فكم من ليالٍ افترشوا فيها الغبراء والتحفوا السماء! وفارقوا الأهل والأوطان والديار في سبيل تحرير لفظة واحدة أنت لا تقيم لها الآن وزناً!!(131/8)
نماذج من رحلة أصحاب الحديث
ذكر ابن حبان في مقدمة كتاب المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق، وهو متروك، لكن القصة وردت من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة، وذكرها كذلك الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وكذلك أبو موسى المديني.
يقول أبو الحارث الوراق: جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، فعندما انتهى من الحديث كان شعبة خارجاً من الدار، فلطمه، وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس، فقعد أبو الحارث الوراق نصر بن حماد يبكي، فقال: عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث.
لقد سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث -وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، وكان شعبة يحفظ ألوفاً مؤلفة من الأحاديث، فلو كانت عشرة آلاف فقط لعلمت مدى ما بذله شعبة في طلب الحديث وفي تصحيحه - قال: سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، فقلت له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ وشعبة سأل أبا إسحاق هذا السؤال لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد، فخشي أن يكون أبو إسحاق قد دلس فيه.
والتدليس معناه: عمل شيء بالخفاء، ويعرفه العلماء فيقولون: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، مثلاً: أنا في عصر الإمام أحمد وأقول: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس، فأنت عندما تريد أن تحدث بهذا الحديث فتقول: حدثنا فلان، قال حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس.
فإذا حصل لك شيء وسافرت، وحدثت بعشرة أحاديث في حال غيابك، وعندما عدت من سفرك أخبرك بها بعض إخوانك ممن حضر المجلس، فإذا حدثت بهذه الأحاديث العشرة عني مباشرة فستكون قد دخلت الدائرة الحمراء، فإما أن تكون كذاباً أو تكون مدلساً، فيجب عليك إذا أردت أن تحدث بهذه الأحاديث العشرة أن تقول: حدثنا فلان -أي زميلك- عن فلان -أي أنا- عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس وبهذا تكون قد نزلت درجة في السند، والعلو هو أن تقلل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يسمى: تدليس الإسناد وهو أكثر أنواع التدليس دوراناً في الأسانيد، والذي يدلس يحدث بلفظ (عن)؛ لأن (عن) لفظة تحتمل السماع وعدمه، وهذا معنى قول المحدثين: (وقد عنعنه) أي: رواه بلفظ (عن).
المهم: أن أبا إسحاق السبيعي كان ممن يدلس تدليس الإسناد، وشعبة كان يكره التدليس جداً، وكان يقول: التدليس أخو الكذب.
وكان يقول: لأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس.
وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أدلس.
فلما سأل شعبة أبا إسحاق السبيعي وقال له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ غضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وكان يجلس مع أبي إسحاق السبيعي مسعر بن كدام، وهو أحد الأئمة الثقات الكبار الحفاظ، وكان أبو حاتم الرازي يقول عنه: مسعر المصحف، أي: أنه يحفظ الحديث كما يحفظ المصحف.
فقال مسعر: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة.
وهم حينئذ في البصرة، قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته: هل سمعت حديث الوضوء من عقبة بن عامر؟ فقال: لا.
إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم.
وهو مدني، فلقيت مالكاً في الحج، فقلت له: حج سعد بن إبراهيم؟ قال: ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وتحركت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
ولكن حدثني زياد بن مخراق، من البصرة، فانحدرت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: ليس من حاجتك، فقلت: لابد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني، قال: فذهبت إلى الحمام فغسلت ثيابي وأتيت، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
حدثني شهر بن حوشب، فقلت له: شهر عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر.
هذا هو التدليس! فقد أصبح بين أبي إسحاق السبيعي وبين عقبة بن عامر أربعة رجال، فقال شعبة: حديثٌ صعد ثم نزل لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي.
لله در علماء الحديث والجرح والتعديل! ولا أستطيع أن أجد عبارة توفي حق علماء الحديث.
كان الإمام أبو زكريا يحيى بن معين يحدث يوماً، وعندما وصل في سند الحديث إلى الأعمش رأى أحد تلاميذه أخذ غفوة، فتابع ابن معين الحديث وأملى عشرة أحاديث، حتى وصل إلى الحديث العاشر وفي سنده ذكر الأعمش، فاستيقظ ذلك التلميذ وظن أنه لم يفته شيء من الحديث، فتابع كتابته من الأعمش، فاختلط عليه حديث في حديث آخر، وفاتته عشرة أحاديث، فعندما جاء هذا التلميذ يحدث قال له ابن معين: كذبت.
هذا الحديث ليس هذا سنده؛ لأنك كنت نائماً، وإذا لم تكن مصدقاً لما أقول فانظر إلى أصحابك فليس عندهم هذا الحديث عن الأعمش.
ومما يروى في ذلك: أن أبا نعيم الفضل بن دكين -وهو من الأئمة الحفاظ- كان من طريقته إذا جلس للتحديث: أن يقعد على كرسي يدور، وكان يجلس الإمام أحمد بن حنبل عن يمينه ويجلس يحيى بن معين عن يساره، فدفع يحيى بن معين مرة الفضول وقال: أريد أن أختبر الفضل هل هو حافظ ثبت أم لا؟ فقام يحيى بن معين فأتي بورقة وكتب فيها خمسين حديثاً، أربعون حديثاً من أحاديث الفضل وعشرة أحاديث ليست من أحاديثه.
فإذا قرأ: الفضل رحمه الله هذه الأحاديث ولم يميز بين حديثه وحديث غيره، فدرجة الحافظ لا تنطبق عليه، أي: فهو (سيئ الحفظ).
فعرض يحيى بن معين الفكرة هذه على أحمد بن حنبل، فقال له أحمد: لا تفعل، فإن الرجل ضابط حافظ، فقال له: لا بد أن أعملها، وأخذ يحيى بن معين الورقة وأعطاها لأحد العلماء واسمه أحمد بن منصور الرمادي، وكان أحمد بن منصور يجلس مع الطلبة، فلما خف المجلس قليلاً قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطى الورقة للفضل، فنظر فيها الفضل وجعلت عيناه تدوران، ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي بعد أن أعطاه الورقة، (أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل هذا؛ وليس هذا إلا من عمل هذا)، قال: ثم أخرج رجله ورفس يحيى بن معين فألقاه على الأرض، وقال: تعمل هذا عليَّ؟ قال: فقام يحيى وقبل جبينه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، ووالله لرفستك أحب إليَّ من رحلتي.
أي: لو لم يخرج من هذه الرحلة إلا بهذه الرفسة لكان قد حصّل شيئاً كثيراً.
وشعبة بن الحجاج كان أشد رجل يعادي المدلسين، وكان يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس).
وهذا الكلام خرج مخرج الزجر والتنفير، لأنه لو عرض عليه الزنا والتدليس فلن يزني.
وقول الله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]، مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] وأنت عندما تقول لابنك محذراً: العب، أنت حر! فهل معنى هذا أنك أبحت له اللعب؟ لا.
والرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء إليه النعمان بن بشير وأراد أن يخص أحد أولاده بعطية، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أشهد على هذا غيري)، فلو ذهب إلى أبي بكر فهل ستنفعه تلك الشهادة؟ لا.
إذاً هذا خرج مخرج الزجر.
فهو يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس).
فـ شعبة يعلم أن أبا إسحاق يدلس، فقال له: أسمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق.
ومن غضبه تعرف أنه دلس، فقد أسقط أربعة من السند وكان يجالس أبا إسحاق السبيعي.
مسعر بن كدام فقال: (يا شعبة! عبد الله بن عطاء حي بمكة.
أي: إذا أردت التأكد فارحل إليه.
قال شعبة: فخرجت من بلدي إلى الحج لا أريد إلا الحديث.
خرج شعبة إلى الحج يريد أن يلقى عبد الله بن عطاء من أجل أن يسأله، هل سمع الحديث من عقبة بن عامر أم لا؟ قال شعبة: فدخلت على عبد الله بن عطاء في مكة فإذا هو رجلٌ شاب، وقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة(131/9)
الافتقار والتواضع
قال:) وافتقار) الافتقار إذا أخطأه طالب العلم لم ينتفع بعلمه، والافتقار: هو التواضع وخفض الجناح للأقران فضلاً عن العلماء، فالعلم يهدي إلى التواضع، وكلما تبحر الإنسان في العلم؛ كلما أدرك فداحة ما كان فيه قبل ذلك من الجهل، لما يرى رجوع العلماء عن مسائل أبرموها، ويعتقد أنه ليس أفضل منهم، بل لقد كانوا أذكى منه، وكان لهم مئات المسائل، وربما لم يكن له إلا شيخ واحد أو أكثر، لكنه لا يصل إلى عشر معشار هؤلاء، ومع ذلك أخطئوا في مسائل، فيرحم نفسه ويرحم الآخرين.
وقد قرأت لبعض الذين صنفوا رسائل وطاولوا فيها جبال الحفظ والفقه بجهل عظيم، فلو كانت هيئة كبار العلماء لها قوة؛ لما انتشر كل هذا الفساد، وخير دليل على ذلك: نقابة الأطباء عندما أعلن وهو دكتور أحمد وهو دكتور الجهاز الهضمي، وهو رجل مشهود له بالكفاءة في جراحة الجهاز الهضمي على مستوى العالم -أعلن أنه اكتشف علاجاً للإيدز وبدأ يجربه على بعض المرضى؛ قامت الدنيا ولم تقعد كيف تجربه قبل أن يدخل المجالس الطبية العالمية، ويصرح لك به، أأرواح الناس لعبة؟! ومع نباهة الرجل ومع جلالة منصبه في الطب أوقفوه عن ممارسة المهنة.
وهؤلاء الذين يلعبون بالدين بهذه الرسائل التي يؤلفونها، وينقضون ديننا عروة عروة باسم المنهجية العلمية والحياد العلمي، ولا أحد يقول لهم: لماذا تكتبون هذا؟ لا حساب؛ لأن الهيئة في غاية الضعف، لا تملك لساناً ولا يداً، فهناك من كتبوا باسم المنهجية العلمية ويردون على كبار العلماء وكبار الحفاظ ويتهمونهم بالجهل، وهذا كله من باب الكبر وعدم الاعتراف بالجميل والله الذي لا إله غيره، لو وُجد واحد من هؤلاء الذين يكتبون الآن في الزمن الأول لما صلح أحدهم أن يصب الماء على الشيخ ليتوضأ، فضلاً عن أن يؤصل في مسألة علمية! لقد لبسوا لبوس العلماء فضللوا العوام الذين لا يفرقون بين العالم وبين شبيه العالم! وهناك قصة طريفة في مسألة الخلط بسبب اللباس، ذكرها أهل الأدب، ومنهم: أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة أحد الشعراء الصعاليك في الجاهلية وهو ثابت بن جابر، وله لقب مشهور به: تأبط شراً، قيل: أنه وجد الغول في الصحراء مثل الخروف، فوضعه تحت إبطه ودخل على أهله، فلما رأوه وعرفوا أنه الغول، قالوا: يا ثابت تأبطت شراً، فألقى به، فلقب تأبط شراً، وهو أحد أشهر ثلاثة شعراء صعاليك، وهم ثلاثة شعراء: ثابت بن جابر، والشنفرى، صاحب اللامية الرائقة التي منها هذا البيت الجميل: وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذى وفيها لمن خاف القِلَى متحول والشاعر الثالث: عروة بن الورد هؤلاء هم أشهر الشعراء الصعاليك.
فـ ثابت بن جابر - تأبط شراً - قابله ثقفي أحمق، فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ فقال: أذكر لعدوي أنني تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه أريد، قال: أبهذا فقط؟ قال له: فقط.
فقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: بهذه الحُلة الجيدة -وكانت لديه حلة جديدة- وبكنيتي -وكان يكنى بأبي وهب فقال له: موافق، فقال الثقفي: لك حلتي ولك كنيتي، فقال له: وأنت تأبط شراً، فذهب الرجل مسروراً، فكتب تأبط شراً ثلاثة أبيات وبعثها لامرأة الثقفي الأحمق؛ قال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسم اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبي أخذ اسمي لكن هل أخذ جراءة قلبي؟ هل أخذ بأسي وصبري وجلدي على الأحداث؟ لم يأخذ هذا كله، إنما أخذ الاسم فقط.
فطالب العلم إذا دخل العلم بلا افتقار لم ينتفع، فلا بد أن يفتقر ويخفض الجناح لأقرانه، ويعلم أن الله لم يختصه بالفضل، وأن هناك من هم أذكى منه وأقدر منه، وأكثر قبولاً عند الناس منه.
ومسألة القبول هي من الله عز وجل، فإذا رضي الله عز وجل عن العبد جعل له قبولاً عند الخلق، فإذا مضى بهذا التواضع انتفع كثيراً بعلمه، وانتفع به، إنما إذا اعتقد أنه هو العالم المحقق المحرر، فإنه لا يكاد ينتفع، ولا يجعل الله عز وجل له لسان الصدق الذي يبحث عنه كل طالب علم.(131/10)
الاهتمام بتدريس كتب الأدلة
إذاً فهذا الحديث عندما ندرسه نأخذ منه فقهاً، ونأخذ منه علماً وأدباً، ولذلك ننصح الذين يتصدون لتدريس الفقه بتدريس كتب الأدلة، فإذا رأى الشيخ أن من المصلحة تدريس متن فقهي، ساغ له ذلك بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند الطلاب، وأنهم إذا ظهرت لهم الحجة فلا يقدمون عليها قول أحد كائناً من كان، وليكن هذا في حدود الأدب، فمثلاً: أحد الإخوة أعطاني رقعة لا أدري هل هي حاشية على كتاب ما أم ماذا؟ يقول المحشِّي: قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد بن منصور: (وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به)، فعلق المحشي قائلاً: (وهذا خطأ شديد كثيراً ما يقع فيه الحافظ ابن حجر).
! أما (كثيراً ما يقع فيه) فليس هذا أدباً مع الحافظ، لكنه يقع في بعضه، وهذا لا يكاد يسلم منه الإنسان، فلو جمع عشرون خطأً للحافظ ابن حجر لما كانت كثيرة.
فالشيخ إذا رأى تدريس متن فقهي ساغ له ذلك، ولكن بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند التلاميذ، وأن يعلمهم أن يتعصبوا للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من تعصبهم لأي إمام؛ لأن الأئمة الكبار أرشدونا إلى ذلك، وعباراتهم في تبرئة أنفسهم أحياءً وأمواتاً موجودة في الكتب، وهذا المعنى قد نظمه أحد العلماء المتأخرين نظماً رائعاً جداً، فقال في أرجوزة له طويلة -وسأذكر وجه الشاهد منها في أن العلماء رسخوا عند تلاميذهم تعظيم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أولى أن يُتعصب له من قول الإمام- فقال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذٌ بأقوالي حتى تعرضا على الحديث والكتاب المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر مقالة الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي وبعد ذلك ذكر أبياتاً في التقليد، وذكر القصة الخرافية الموجودة في بعض كتب المتأخرين من الأحناف أن عيسى بن مريم حنفي المذهب، وهذه القصة الخرافية تقول: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل إلى الأرض وقد دُرس القرآن ودرست السنة، والناس سوف يسألونه أسئلة وهو يريد أن يجيبهم، لكنه لا يعرف شيئاً، فيقول: يا رب! أريد أن أجيب على أسئلة الناس، فيقول الله عز وجل له: اذهب إلى نهر جيحون وستجد يداً مرفوعة من الأرض وبجوارها صندوق، فافتحه وستجد الفقه كله في ذلك الصندوق، فيقصد عيسى بن مريم نهر جيحون، فيجد يداً مرفوعة، وبجوارها صندوق، فيفتحه فيجد فقه أبي حنيفة، ويحمد الله عز وجل أنه وصل إلى فقه أبي حنيفة، ويبدأ يقضي به بين الناس.
والعجيب أن الراجز صاحب هذه الأبيات التي ذكرت بعضها، هو حنفي المذهب، يقول: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب وهذا كله من مسائل التقليد التي جاءت في القرون المتأخرة.
إذاً: نقول: إن الشيخ إذا درس متناً فقهياً، أو درس كتاباً من كتب الأدلة، لابد أن يرسخ تعظيم الدليل عند تلاميذه، وإذا رد على عالم أخطأ فلابد أن يتأدب مع هذا العالم؛ لأن هذا العالم أراد الحق فأخطأ، وهذا المنتقد له أيضاً أخطاء، فلو عاملناه بنفس المعاملة لخطأناه، والعلماء الكبار الفحول كان لهم من الذكاء والدربة والممارسة أضعاف أضعاف هذا المتأخر.
ولعلنا نذكر نبذاً يسيرة، وهذا الاستطراد الطويل أردت به أن أبين تعظيم الدليل؛ لأن تدريس الأدلة من أعظم مميزاته: أنه يرسخ ملكة الاستنباط، ويجعل الطالب يأخذ من الدليل الواحد عشرة أو خمسة عشر حكماً فقهياًَ، فإذا جاءت مسألة من مسائل النوازل استطاع الفقيه أن يستخرج هذه الأحكام؛ لأنه مدرب على الدليل، بخلاف الذي يحفظ متناً فقهياً فقط، فإنه لا توجد عنده هذه الملكة، فإن هذه الملكة لا تكون إلا لرجل اهتم بدراسة الأدلة، لكن في حدود ما ذكرت من الأدب والتماس العذر.
ولا أنصح طالب العلم المبتدئ بقراءة كتاب: (المحلى) لـ ابن حزم، فإنه من أضر الكتب على طالب العلم المبتدئ، مع ما فيه من الفوائد والمسائل الفقهية؛ لأنه كتاب يحتاج إلى شخص ينقي فكر ابن حزم، ويأخذ من ابن حزم قوة اتباعه للدليل ثم يعطيه لطالب العلم خالصاً من الشوائب.(131/11)
الحرص واستغلال الأوقات في الطلب
قال: (وحرص): الحرص هو الوقت، فهو رأس مال طالب العلم.
وبكل أسف تجد كثيراً من طلبة العلم يقضون الليالي الطويلة في المكتبة من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، ولو سألته: ماذا حصلت؟ لما استطاع أن يجيب عليك؛ لأنه يقرأ ورقتين في المحلى ثم يغلقه، وورقتين من كتاب المغني ويغلقه وهكذا؛ صحيح أنه يقرأ كل يوم، لكنه ما حصل شيئاً مذكوراً، وقد يقضي عشر ساعات أو خمس ساعات في نقاش عن مسألة واحدة.
فمثلاً: قبل خمس عشرة سنة كانت هناك مسألة مشهورة بين طلاب العلم، وكانت هذه المسألة تعتبر جواز المرور إلى العلم، فالذي لا يعرفها يعتبر جاهلاً، وهي مسألة نزول المصلي بعد القيام من الركوع إلى السجود، بماذا ينزل أولاً إلى الأرض بيديه أم بركبتيه؟ وقد دفعني ذلك إلى تضييع شهر كامل أبحث عن كلام العلماء، وعن التصحيح والتضعيف، حتى أخرجت رسالة في هذه المسألة.
فالوقت هو العمر، وانظر إلى العلماء الذين حصلوا كيف كانوا، فهذا ابن عقيل الحنبلي له كتاب يقع في ثمانمائة مجلد، وقد كان ابن عقيل رجلاً متزوجاً، ولديه أولاد، وهو يريد أن يوفر لهم لقمة العيش، وحاجياتهم وحاجيات زوجته، وكذلك كان يتصدر للإفتاء، ومع ذلك صنف كتباً كثيرة، وهذا الكتاب واحد منها، واسمه: كتاب الفنون.
وقد طبع منه مجلدان.
فكيف استطاع ابن عقيل أن يكتب كل هذه الكتب؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ فالرجل يراعي ويراقب الوقت الذي ما بين مضغ الخبز وسفَّ الكعك، يريد أن يستفيد من هذا الوقت لقد كان يضيع على نفسه متعة الطعام.
والخطيب البغدادي كان يمشي وهو يطالع جزءاً.
يقول: ابن أبي حاتم كنت أقرأ على أبي وهو جالس، وأقرأ عليه وهو قائم، وأقرأ عليه وهو يمشي، وأقرأ عليه وهو في الخلاء.
ويقول: دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فذهبنا ثلة في نهارنا ندور على الشيوخ، فذهبنا إلى بيت بعض الشيوخ فقالوا: إنه مريض، فقلنا: فرصة لنأكل، فدخلنا السوق فاشترينا سمكة، فلما وصلنا إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر، فتركناها، وانصرفنا، ومكثنا ندور على الشيوخ ثلاثة أيام حتى خشينا أن تفسد، فأكلناها نيئة!! لم يتفرغوا لشوائها.(131/12)
من صفات طالب العلم: ألا يبدأ بالمناظرات والجدل
إن طالب العلم النبيه لا يبدأ بالمناظرات في بداية حياته العلمية، فلا تناظر مناظرة مكابر مجادل، لكن ناظر مناظرة مستفيد.
قال أبو حاتم الرازي: كنت مع أبي زرعة ومحمد بن مسلم وكنا جماعة، فقلت لهم: من أغرب عليَّ حديثاً لـ مالك أعطيته كذا وكذا، والحديث الغروب الغريب الشاذ وكان علماء الحديث يحفظونه للمذاكرة، فيقول: كم تحفظ حديثاً غريباً لـ مالك؟ فيقول الآخر: أحفظ ثلاثين حديثاً، وهو يعتقد أنه أحفظ رجل فيهم، فيفاجأ أن صاحبه هذا يحفظ مائة حديث، فيشعر باحتقار لنفسه.
هذه هي المناظرة الجميلة.
وأبو نعيم الفضل بن دكين -أحد الآخذين عن الإمام الكبير العلم مسعر بن كدام - قال وهم في جنازة مسعر: (اليوم تفدون إلي وتأخذون مني حديث مسعر،) فجاءه محمد بن بشر، فقال: كم تحفظ عن مسعر؟ قال أبو نعيم فقلت: أحفظ كذا وكذا، فقال لي: أتحفظ كذا؟ قلت: لا.
وكذا؟ قلت: لا.
قال: وكذا؟ قلت: لا، قال: حتى جاءني بسبعين حديثاً ما سمعتها قط، فقمت مستخزياً.
فلا تحتقر أحداً؛ لأنك لا تدري فقد يكون غيرك أعلم منك وأورع منك؛ بل لو ظننت أنك أقل خلق الله عز وجل لكان خيراً لك فلا توجه الاتهامات، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! إن الله وزّع الفضل على الخلق، ولم يجعل العلم محتكراً في أقوام؛ بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن المتقدم، ويحييه بقول تالٍ يعتمد على ماضٍ، والتالي ليس كالماضي في العلم، بل السلف أعظم علماً جملةً وتفصيلاً، وليس معنى أنني انتقدت الإمام البخاري في جزئية أنني فقته، وإذا فقته في جزئية، فقد فاقني في مائة ألف، وليس معنى أن الخضر ادخر الله له ثلاث مسائل أنه أفضل من موسى لا والله فليس بأفضل منه، بل قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، ولا يقتضي هذا أن يكون المفضول أعظم من الفاضل؛ لأن الفاضل له أشياء كثيرة جداً يفوق المفضول فيها.
فالإمام أبو حاتم الرازي يقول: من أغرب علي حديثاً لـ مالك فله كذا وكذا.
قال: فاجتهدوا أن يردوا علي فلم يستطيعوا، ثم عقب أبو حاتم قائلاً: ووالله ما أردت إلا أن أستفيد.
أي: هو تحداهم لكي يخرج ما عندهم؛ لأنه يريد أن يستفيد.
ورحم الله ابن حبان حين قال: قال الشافعي ثلاث كلمات لم يتفوه بها أحد قبله: (وددت أن هذا العلم ينتشر ولا ينسب إلي) تجريداً للإخلاص، وقال: (ما ناظرت أحداً على الغلبة، بل ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه).
لأن المقصود تحرير الحق، ولا يهم أن يجري على لساني أو يجري على لسانك، المهم أن يظهر الحق.
فكون الإنسان يذهب ليناظر وهو حريص على أن يَغلب، لن يستفيد بحق أبداً، وهذا الفعل ضد الحرص النافع.(131/13)
الذكاء والمنهجية في طلب العلم
أول صفات طالب العلم: الذكاء، وهو معرفة نوعية ما يدرس، فليس من الذكاء أن يبدأ طالب العلم بمسائل الخلاف، فمسائل الخلاف تحتاج إلى ترجيح، وهو بَعْدُ ليس له ريش، فكيف يحلق في سماء المجتهدين؟! ليس من ذكاء طالب العلم أن يبدأ حياته العلمية بدراسة كتب الفقه المقارن التي تعنى بذكر المسائل المختلف فيها مع الترجيح؛ لأن طالب العلم إذا بدأ هذه البداية فسيكون أسيراً لصاحب الكتاب الذي درسه.
فلو بدأ الطالب بدراسة كتاب: نيل الأوطار للشوكاني، أو بدأ بدراسة كتاب: سبل السلام للصنعاني، فـ الصنعاني والشوكاني -رحمة الله عليهما- وازنا بين الأدلة ورجحا؛ أما أنا كمبتدئ في طلب العلم فلا أدري أصاحب الكتاب أصاب في هذا الترجيح أم أخطأ؟ فهو قد يخطئ في الترجيح، فإذا وازن بين الأدلة وعرض المسائل وانتهى إلى حكم بالحل أو الحرمة أو بالتفصيل، وأنا ليس عندي ملكة أفهم بها إذا كان مصيباً أو مخطئاً، فحينئذ أصبح مقلداً لصاحب الكتاب، مع أنني ما درست الفقه المقارن إلا لأفر من التقليد، ثم وقعت فيه عندما اخترت الكتاب بغير بينة.
ومن كان له خبرة بكتب الخلاف يجد أن مصنف الكتاب لا يُسْهب في عرض أدلة المخالفين مثلما يسهب في عرض حجته التي رجحها، وأنا أقول هذا الكلام بعد دراسة عشرين عاماً، وما عرفت ذلك إلا في أواخر هذه السنوات، حينما درست بعض المسائل المختلف فيها، فوجدت أن السمت العام للذين يرجحون أنهم لا يُعنون بعرض أدلة المخالفين مثلما يُعنون بعرض أدلتهم، فإنهم يذكرون أدلة المخالفين على سبيل الإجمال، ثم يذكرون أدلتهم على سبيل التفصيل، فيقع الطالب أسيراً لاجتهاده؛ لأنه عرض حجته واجتهد في عرضها، وقد يكون الحق في خلافها.
فلو بدأ طالب العلم بدراسة كتب الفقه المقارن؛ فإنه سيقع في تقليد صاحب الكتاب أراد أن يفر من التقليد فوقع فيه.
ولذلك كان أفضل العلم ما تتلقاه عن شيخ يعتني بتدريس الأدلة، مع الاستفادة من كتب العلماء الذين صنفوا في المذاهب الفقهية؛ لأن كتب المذاهب الفقهية فيها ثراء وفيها خير عظيم، ومن الظلم البيِّن إحراقها وإهمالها على اعتبار أنها كتب مذاهب، فكتب المذاهب قد بينت كثيراً من معاني أحاديث الأحكام واجتهد مؤلفوها في الجمع بينها، ولذلك نقول: الفرق بين تدريس الأدلة وبين تدريس كتب المذاهب فرق جوهري.
فلو درست كتاباً في المذهب فإنك تستطيع أن تعلم الحكم الفقهي في كل واقعة وفي كل نازلة وفي كل جزئية، أما كتب الفقه المقارن فإنها لا توجد عند طالب العلم ملكة الاستنباط، ولا أخذ الأحكام الجزئية من الأدلة الشرعية، بخلاف ما لو درس الأدلة.(131/14)
إجابة المفتي بأكثر من سؤال المستفتي
ولو وجدت عالماً يدرّس كتب الأدلة، سواء كانت كتباً متقدمة مثل الكتب الستة وما جرى مجراها، أو الكتب التي عنيت بجمع هذه الكتب مع حذف الأسانيد، مثل منتقى الأخبار للجد ابن تيمية، أو بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، فإنك تجده يشرح الحديث ويستخرج منه عشرين حكماً في عدة أحكام مختلفة.
مثال ذلك: أول حديث في بلوغ المرام حديث أبي هريرة: (أن ناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر يُتوضأ به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فقد ورد هذا الحديث في أبواب المياه، لكننا نستطيع أن نستخرج منه بعض الأحكام الأخرى التي لا تتعلق بالمياه، مثل: باب الصيد والذبائح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته)، ويدخل هذا الحديث في أدب المفتي والمستفتي، ويستفاد منه جواب الحكيم، وهو أن يجيب المفتي بأكثر من سؤال السائل؛ لأن مصلحة المستفتي لا تتم إلا بهذه الزيادة.
فقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فسيكون
الجواب
نعم.
توضئوا.
وهذا جواب كاف، لكن هل أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا؟ لا.
بل قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، فلماذا زادهم هذه الزيادة في الجواب؟ عندما تقرأ في كتب أدب الفتوى والمفتي والمستفتي تجد هذا الكلام: (ولا ينبغي للمفتي أن يوسع الجواب على سؤال المستفتي لئلا يشوش عليه).
والظاهر أن قولهم هذا فيه تعارض مع هذا الحديث، فإن الحديث فيه زيادة على السؤال، لكن الذي يحل الإشكال هو في تتبع طرق الحديث، فقد ورد في بعض طرق هذا الحديث: أن هؤلاء الذين سألوا كانوا يصطادون اللؤلؤ، فقد يغيبون أيام في البحر، وقد ينفد زادهم، وقد يستشكلون ميتة البحر إذا أعملوا كتاب الله عز وجل، ولماذا نستبعد هذا وقد استشكلت ميتة البحر على واحد من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد فقهاء الصحابة وهو أبو عبيدة بن الجراح، والذين كانوا يركبون البحر معه؟ فقد قالوا: أنها ميتة، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة -وهي غزوة سيف البحر، أو غزوة جيش الخبط- وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطانا جراب تمر، قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرتين تمرتين، فلما أوشك التمر أن ينفد كان يعطينا التمرة فنمصها ونشرب عليها الماء، حتى نفد التمر، فكنا نأكل من ورق الشجر اليابس، قال: ثم رمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها العنبر، وجلس منا ثلاثة عشر رجلاً في عينه، وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، وأتى أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فأقامه، وجاء بأطول جمل، وركب عليه أطول رجل، فمر من تحته، فقال أبو عبيدة بن الجراح: ميتة لا تأكلوه -لم يكن مع أبي عبيدة إلا ظاهر كتاب الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، ولم يكن لديه دليل الخصوص، وهذا هو الواجب، فإذا وصلك دليل عام فلا تتوقف وتقول: سأبحث عن الخاص فربما خصص؛ لأن الأصل في الأدلة العموم، كما حرره الإمام الشاطبي في الموافقات، فإذا بلغك حديث عام أو دليل عام ولا تعرف له مخصصاً فلا تتوقف في الأخذ بالدليل العام؛ لاحتمال أن يكون ليس له مخصص، فتكون قد أهدرت العمل بالعام ولم تظفر بالخاص.
ثم قال: ولكننا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا)، فعمل بآية أخرى وهي قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، فإذا كان مثل أبي عبيدة يستشكل ميتة البحر؛ أفلا يستشكلها أعرابي لا نعرف محله من العلم؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام بثاقب نظره -وهو سيد المفتين- نظر إلى هذا الرجل فرآه استشكل شيئاً لعله لا يُستشكل، فإذا استُشكل هذا الشيء اليسير عليه، فمن باب أولى أن يستشكل الشيء الأعظم منه، فلذلك أفاده بهذا الجواب مع أنه لم يسأله عنه، وهذا ما يسميه العلماء: جواب الحكيم.
ولنأخذ مثالاً آخر: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وهو حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب)، كلمة (راهب) إذا أطلقت يستشف منها العبادة أكثر من العلم، وهناك استشكال من أعظم أبواب الضرر، وهو الخلط بين العالم وبين الشبيه بالعالم، فإن كثيراً من العوام إذا رأوا رجلاً ذا لحية عظيمة بادروا إلى سؤاله، وربما يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً قط، لكنه فعل ما افترضه النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن أطلق لحيته.
وهناك رجل خباز من بلدنا، لا يعلم شيئاً إطلاقاً، فسافر إلى بلد آخر، فدخل المسجد ليصلي الجمعة، وكان الخطيب في ذلك اليوم غائباً، فنظر الناس إلى من في المسجد فلم يجدوا إلا هذا الرجل صاحب السمت الجميل واللحية الطويلة، فقالوا: هذا خطيبنا اليوم، فطلبوا منه أن يخطب بهم، فصعد المنبر وضل يفرك يديه ويقول: اتقوا الله اتقوا الله وتلعثم كثيراً، وهو يتصبب عرقاً، وبعد أن انتهى من الصلاة قرر قراراً، ويا ترى ما هو هذا القرار؟ هل قرر أن يتعلم؟ لا.
بل قرر أن يحلق لحيته؛ حتى لا يقع في مثل هذه الورطة مرة أخرى!! فبدلاً من أن يقرر أن يتعلم، أو يحفظ خطبة واحدة في حياته يلقيها إذا وقع في مثل هذا الموقف، قرر أن يحلق لحيته!! فالناس يخلطون ويظنون أن كل صاحب لحية عالم صحيح أن اللحية فرض، ولا يجوز لمسلم أن يحلقها أبداً، وهذا بإجماع العلماء، ولم يخالف في هذا إلا الخالفون من المتأخرين الذين لا يخرقون إجماعاً ولا ينعقد بهم إجماع، والأئمة الأربعة على حرمة حلق اللحية، لكن اللحية ليست دليل العلم.
فعندما سأل هذا الرجل عن أعلم أهل الأرض قالوا له: اذهب إلى فلان الذي لا يفارق صومعته، والرجل عابد وليس عنده علم، ولو استشكل شيئاً من المباح فإنه يتركه؛ لأنه رجل ورع.
والأصل: أن تتورّع في نفسك ما شئت، لكن لا تنقل ورعك في الفتوى، فالفتوى إما أن يكون الأمر جائزاً أو غير جائز، وبعد أن تقول له: هذا جائز؛ قل له: وإن تورعت فهو أفضل، ولذلك فلا بد أن يكون المفتي عاقلاً ذكياً، مدركاً، صاحب فطنة، حتى يستطيع أن ينزل الفتوى على مقتضى حال المستفتي.
فذهب هذا الرجل إلى الراهب فقال له: إنه قتلت مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: قتلت مائة نفس وتريد أن تتوب؟! لا توبة لك، أنت في جهنم وبئس المصير.
وهذا العابد رجل جاهل؛ لأنه أمام رجل كان يذبح ضحاياه وليس في قلبه رحمة، ومع ذلك يجيبه بهذا الجواب، فعندما يكون الرجل بهذه المثابة يذبح ضحاياه، كان الأولى أن يقول له: تعال غداً حتى أبحث عن الجواب، حتى ينجو بنفسه؛ لأن الرجل سفاح ولا يتورع، فقد قتل تسعة وتسعين، فعندما أكمل به المائة فليس هناك أي غرابة، لاسيما وأنه قد أغلق عليه باب الأمل، فسيواصل إجرامه.
إذاً الراهب لم يكن ذكياً حين قال: ليس لك توبة، ولذلك قتله، فراح ضحية لسانه، ثم منَّ الله عز وجل عليه بنفس السؤال وقال: دلوني على أعلم أهل الأرض.
فدلوه على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟.
الشاهد في الحديث قوله: (قال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم)، إلى هنا هذا جواب كافٍ، لكنه لا تتم توبته إلا بالزيادة التي لم يسأل عنها، وأخبره بها المفتي (قال: نعم.
ومن يحجب عنك باب التوبة؟) هذه الزيادة الأولى، والزيادة الأخرى: (اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعبد الله معهم)، فهو لم يسأله عن الخروج من بلده، إنما سأله سؤالاً واحداً فقط وهو: هل لي من توبة؟ ودائماً الذي يعصي الله عز وجل في أرض فإن العلماء ينصحونه أن يفارق هذه الأرض؛ لأنه إذا رأى مسرح الجريمة فربما يعتريه الشوق للرجوع إليها، وبالذات الذي ابتلي بداء عشق النساء، فإن العلماء ينصحونه أن يفارق تلك الأرض؛ لأنها مليئة بالذكريات مع عشيقته.
وهذا مثل ما كان يفعل قيس مجنون ليلى، كان إذا دخل القرية بعدما رحلت منها ليلى، يمشي مثل المجنون، ويقبل جدران القرية كلها، وهو يقول: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فمثل هذا إذا أراد أن يبرأ من داء العشق فلابد أن يفارق أرض العصيان؛ لأن الإنسان عنده حنين دائماً إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه.
فالعالم نصح ذلك العاصي نصيحة ذهبية؛ لأن العاصي لو بقي في أرض العصيان ربما يرجع إلى المعصية، ولذلك قال له: اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات.
ومعنى هذا: أنه لا يوجد فيهم من يجاهر بالعصيان.
إذاً: هذا الرجل لن يستطيع أن يمارس المعصية فيهم، لذا كان من تمام النصيحة أن يأمره بالخروج، مع أن السائل لم يسأله عن هذا الأمر، وهذا هو ما يسمونه بـ (جواب الحكيم)، وهو أن يراعي المفتي مصلحة المستفتي.
ومنه أيضاً: (أن امرأة رفعت صبياً في الحج وقال: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم.
ولك أجر)، ولم تسأل المرأة: ألي أجر أم لا؟ وكان يكفي في الجواب أن يقول: نعم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمه من محبة الناس لتحصيل الأجر ذكر ذلك ليكون حافزاً لها، وهكذا(131/15)
الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له
وأختم هذا الدرس بفائدة ذكرها العلماء، يقولون: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
والكلام هذا موجه لأحد الجهلاء العابثين الذي نشر كتاباً بعنوان: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب).
وقد تكلم عن مفهوم المخالفة في هذا الكتاب ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى:.
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]؛ فمفهوم المخالفة: ولو جاءكم عدلٌ فلا تتبينوا، المفهوم عكس الكلام.
إذاً: ضبط الكلام الذي هو مفهوم المخالفة، فأول الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)، قال العلماء: فيه دلالة على أن المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الكلام إذا ورد مقيداً ثبت الحكم للمقيد وانتفى عما عداه، فإذا قلت: لا تنتقب المرأة المحرمة، فقد قيدت الحكم بإحرامها، إذاً عكس الإحرام أن تنتقب، فقال مؤلف هذا الكتاب: إن مفهوم المخالفة ليس بحجة، وإذا قلتم أن مفهوم المخالفة حجة، فأنا ألزمكم بأكل الربا، قال: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فعلى قولكم يجوز أن يؤكل مرة واحدة، هذا مفهوم المخالفة -حسب زعمه-: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، مفهوم المخالفة كلوا ضعفاً واحداً، فنقول: لو أننا قلنا بمفهوم المخالفة مثلكم لأحللنا الربا.
وهذا رجل جاهل؛ لأن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له، ليس له مفهوم ولا يعتبر به، فلما كان العرب يضاعفون أكل الربا قال الله لهم: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فليس في ذلك حل لأكل الربا ضعفاً واحداً؛ إذ أن الكلام تنزل على الغالب من فعلهم، وإلا فأنا ألزم هذا الجاهل بإلزام لا انفكاك له منه، وهو: أن الله عز وجل حرم على الرجل أن يتزوج ابنة امرأته التي هي ربيبته، قال الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، فنقول: الربيبة في الحجر، أي: التي ربيتها في حجرك، فربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تتزوج الربيبة التي ربيتها في حجرك، فهل يجوز أن تتزوج الربيبة التي لم تربها في حجرك؟ لا يجوز إذاً: هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأن المرأة إذا كان لها ابنة صغيرة وتزوجت، فإنها تأخذها إلى بيت زوجها، هذا هو الغالب من فعل النساء، وليس الغالب أن تترك المرأة بنتها الصغيرة تتربى عند زوجها الأول، بل الغالب من فعل النساء أن المرأة تصطحب ابنتها الصغيرة لتتربى عندها في حجر زوجها الجديد، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهومه هدر، ولا يعتبربه.
ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، فلو كان زوجها غائباً وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها الصوم.
فما معنى: (وزوجها شاهد)؟ قالوا: قيد الامتناع بالحضور، فهذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الرجل لا يحتاج إلى زوجته إلا وهو شاهد معها، فعندما غاب عنها لا يحتاج إليها عادة، فخرج الكلام مخرج الغالب، وإلا فلو سافر وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها أن تصوم، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهوم المخالفة خبر لا يعتبر به.
وهذا الفهم لا يحصله الإنسان إلا بعد وقت في البحث، وبجميع الأمثلة؛ حتى يكون عنده تطور في القواعد، وملكة في الاستنباط، ولذلك فطول الزمان جزء مهمٌ في تنمية الملكة التي تكون عند العالم المتبحر، ولا تكون عند طالب العلم المبتدئ.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(131/16)
الأمثال في الكتاب والسنة [1]
كثيرة هي الأمثال التي ضربها الله ورسوله في الكتاب والسنة، مما يوحي بأهمية تلك الأمثال في بيان ما يلتبس على الأذهان وإقامة الحجج والبراهين.
وجل تلك الأمثال إنما تناقش أصول العقيدة وتجليها فينتفع بها المؤمنون، ويعقلها العالمون، وأما غلاظ القلوب وأغبياء العقول فيزدادون جهلاً.(132/1)
الحكمة من ضرب الأمثال
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فالمثل إذا ضُرِبَ فالمقصود به: تبين فكرةٍ مجملة قد تلتبس على الأذهان.
إذاً: المثل من باب المبيّنَ، فالذي يعجز عن فهم المثل ينبغي أن يبكي على نفسه؛ لأن المبيّنَ إذا لم يُفهم فلن يُتعقل شيء: فليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل إنما يتلبس على المرء ما أُجمِل، فإقامة الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] كلام مجمل، فلو سألت: كيف أقيم الصلاة؟ فأنا لا أدري كيفية إقامتها، كان معك الحق في هذا السؤال.
لكن لو قلت لامرئ: الصبح ركعتان، والظهر والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات، فإذا لم يفهم عدد الركعات؛ فإنه ينبغي له أن يبكي على نفسه -إذا سأل: كيف ذلك؟ - بعد هذا البيان.
وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] مجمل، فإذا سأل امرؤ: كيف نحج؟ قلتُ له: افعل كذا وكذا، وقف هنا، وادع هنا ولا تقف هنا؛ فإذا سأل: كيف ذلك؟ فينبغي له أن يبكي على نفسه.
فالأمثال إنما تُضرب لتقريب الفكرة، والله تبارك وتعالى قال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
ونقل ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عن بعض السلف أنه قال: إذا لم أفهم المثل في كتاب الله بكيت على نفسي.
أما غلاظ الأكباد والعقول، فلا يفهمون المثل وإن كان واضحاً جلياً، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] يقولون: ماذا أراد بضرب هذا المثل؟ فالذين كفروا هم الذين لا يفهمون الأمثال وإن كانت واضحةً جلية.
وقد أكثر الله عز وجل في كتابه من ضرب المثل، وكان قصده تعالى من ذلك أن يفهم خلقه كلامه.(132/2)
أمثال قرآنية
سوف نقف مع بعض الأمثال في القرآن:(132/3)
ضرب المثل بالرجل الذي فيه شركاء متشاكسون
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم نختتم الأمثال من القرآن بذكر رجلٍ هو أشقى رجل على وجه الأرض.
قال تعالى في سورة الزمر: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} هذا الطرف الأول للمثل.
الطرف الثاني: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].
((رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)) أشقى رجل على وجه الأرض هو هذا الإنسان، عبدٌ فيه شركاء متشاكسون، أي أن كل واحد منهم يعاند الآخر، ينتظر أن يأمر الآخر بأمرٍ حتى يأمر بضده، وهؤلاء المتشاكسون لهم عبدٌ واحد، إذا صادف العبد رجلاً منهم جره واستخدمه.
فلنفترض مثلاً عشرة من المتشاكسين يكره بعضهم بعضاً، وكلما أمرَ أحدهم بأمر، أمر الآخر بضده، كنوع من العناد والمشاكسة، عناد، فقال الأول -مثلاً- لهذا العبد: اذهب إلى الجهة الفلانية وائتني بكذا، واعلم أنك إذا لم تطع أمري عاقبتك.
فبينما هذا العبد الشقي ذاهبٌ إلى الجهة التي أمره أن يذهب إليها السيد الأول إذ قابله في الطريق المالك الثاني: - إلى أين يا غلام؟ - أمرني فلانٌ أن أذهب إلى جهة المشرق لآتي بكذا.
- لا، اذهب إلى المغرب وائتني بكذا.
ذهب إلى المغرب طبعاً لم يقض حاجة الأول.
- يا غلام! لم لم تطع أمري؟! - والله يا لقد أمرني فلان.
-أنا ما لي وماله! تعال هنا.
ويوقع به العقوبة، فبينما هو متوجه إلى المغرب قابله المالك الثالث: - إلى أين؟ - إلى كذا.
- لا، تعال اذهب إلى الجهة الفلانية.
- فيسأله الثاني: لم لم تفعل؟ - جرني الثالث.
- وأنا ما لي! تعال! فيعاقبه، فلا هو محمودٌ عندهم جميعاً ولا يقضي لهم شيئاً جميعاً، وإذا استجار بواحدٍ منهم قال له: وهل فعلت لي شيئاً حتى تستجير بي؟! أمرتك فلم تمتثل، فمهما يقدم من عذرٍ لا يقبل منه! تعلمون على وجه الأرض أشقى من هذا العبد! فالذين يعبدون آلهةً متكاثرة أمثال هذا الإنسان.
{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] ليس له إلا مالك واحدٌ وآمر واحد، إذا أمره ابتدر أمره، ونفذ ما يريد، فيعرف له ذلك ويكافئه، وإذا اعتذر عذره.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء: ((ورجلاً سالماً لرجل)) فمن المستريح؟ أنه هذا الرجل السالم.
حسناً: يا جماعة! يا معاشر العقلاء! هذان الاثنان هل يستويان مثلاً؟ فلما كان المثل واضحاً غاية الوضوح ومع ذلك ضل عنه الذين كفروا؛ قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].(132/4)
ضرب المثل ببيت العنكبوت
مثلٌ آخر: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:41 - 43].
المثل هنا: مضروب ببيت العنكبوت، وأوهن البيوت هو بيت العنكبوت، وآية ذلك لو أن ابنك الرضيع الذي يحبو على الأرض صادف بيت عنكبوت، وجمعه بيده لكان قادراً على ذلك! طفل رضيع يجمع بيوت العناكب في يده، فالذي يحتمي بإلهٍ دون الله كالذي يحتمي ببيت العنكبوت.
قال ابن نوح عليه السلام له لما قال له: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:42 - 43] جبل عالٍ سامق شامخ، أين الموج الذي يصل إلى الجبل؟! {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43] الجبل مخلوق وانظر! {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12]، انظر إلى الإحاطة والقدرة: ((فتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمر)) ولم يقل: (وفجرنا عيون الأرض) إنما قال: ((وفجرنا الأرض)) صارت كلها عيوناً؛ لأن جملة (وفجرنا عيون الأرض) فيها إشعار أن هناك بعض مناطق الأرض لم يخرج منها ماء، إنما ((وفجرنا الأرض)) أي: صارت الأرض كلها عيوناً تخرج الماء.
ماءٌ من فوق، وماء من تحت، {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]، {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43].
فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله إذا جاء ضرٌّ لا يدفعون عنكم شيئاً، فلماذا عبدتموهم مع وهاء بنيانهم؟! وقال بعض علماء العصر: إن بيت العنكبوت بيتٌ واه ضعيف؛ لأن أنثى العنكبوت تقتل الذكر بعد التلقيح، قالوا: فكأن البيت الذي لا يحكمه رجلٌ وتحكمه امرأة من أوهى البيوت هذه محنة جسيمة عظيمة كبيرة! أوهى البيوت بيتٌ تحكمه امرأة، ويمشي بتدبير امرأة! {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
ثم قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(132/5)
ضرب المثل بخلق الذباب
مثلٌ آخر: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74].
فانظر إلى هذا التعقيب! (قويٌ عزيز) بعد إثبات عجزهم أن يخلقوا أخس حشرة موجودة، سمي الذباب ذباباً؛ لأنه كلما ذبّ آب، كلما دفعته رجع إليك، فضرب الله عز وجل المثل بهذا الذباب الخسيس.
ولذلك استنكف المشركون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، فقالوا: أما يستحيي رب محمدٍ أن يضرب لنا المثل بالذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] (فما فوقها): كالذباب والعنكبوت فهذا مثل يفهمه العقلاء.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)): وأداة النداء من معانيها أو من فوائدها: التنبيه والإيقاظ، (يا) فأنت تعطي أذنك كل النداء، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) لما سمعوا النداء أصاخوا بآذانههم، {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] ودائماً تضرب الأمثال في التوحيد، وليس في الأحكام الشرعية.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] وأصل الخلق الإيجاد من العدم؛ لكن إذا بنيت على موجود لا يقال: خلقت؛ لأن هناك مغالطة حصلت في هذا العصر في مسألة الاستنساخ.
أول ما استنسخوا النعجة (دوللي) قالوا: لقد استطاعوا أن يخلقوا نعجة! وكذبوا؛ لأنهم أتوا بخلية من كائنٍ حي، والخلية هي من خلق الله عز وجل، فبنوا عليها فأين الخلق؟ لكنهم لبسوا على ضعاف العقول، وما أكثرهم! حتى قال قائلهم -وكفر بهذه المقالة-: إن ميلاد النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح! فزعموا أن العباد فعلوا ما لم يفعله ربهم! ومع ذلك أفتى علماؤهم وأذكياؤهم: أن الاستنساخ تدمير للبشرية؛ لأن المستنسخ له نفس مواصفات الخلية، فلو أخذوا -مثلاً- خليةً من إنسان عمره -مثلاً- أربعون سنة، عنده مرض السكر والضغط والسل -أو أي مرض من هذه الأمراض- واستطاعوا أن ينموا إنساناً من هذه الخلية، فسوف يكون عمر هذا الولد الرضيع أربعين سنة، وسوف يكون وهو رضيع مريض بالسل والضغط وبكل الأمراض التي في الخلية، فتصور أن طفلاً رضيعاً به كل هذه الأمراض، وحين يصل إلى عمر عشر سنين سوف يمشي على عكاز! إذاً فنيت البشرية، أين طاقات الشباب وأين السواعد التي تبني الحضارات لما يكون ابن عشر سنين عنده كل هذه الأمراض؟! فالاستنساخ تهديد للبشرية كلها، فهل يستطيعون أن يخلقوا الخلية؟! هذا هو المذكور في هذا المثل ((لن يخلقوا ذباباً)) لا خلية الذباب ولا الذباب، ((ولو اجتمعوا له))، لا يوصف أحدٌ بأنه إله إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره على غيره ولا يغلب، فإذا غُلِب لم يكن إلهاً، وإذا أمر فلم يمض أمره لم يكن إلهاً.
فلو سلمنا جدلاً أن آلهتكم -أيها المشركين- كلها اجتمعت بطاقاتها ومواهبها وقدراتها جميعاً لا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، وليس هذا فقط، بل هناك مسألة أحط من ذلك لا يستطيعونها أيضاً {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} وكأنه سبحانه وتعالى قال: لا يستطيعون، وأنا سأدلل لكم على أنهم أحقر من أن يخلقوا بأن أذكر شيئاً تافهاً لا يستطيعونه أيضاً.
((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)) لا نكلفكم أكثر من طاقاتكم، ولن نقول: اخلقوا، عرفنا أنكم عجزة؛ لكن هذا ذبابٌ مخلوقٌ لله، وقع في إناء أحدكم وأخذ رشفةً من الشراب الذي يشربه، هل يستطيع أن يرجع هذا الشراب الذي أخذه الذباب من إنائه؟! هذه مرحلة أحط وأدنى من الأولى، ومع ذلك لا يستطيعونها {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] المطلوب: هو الذباب الضعيف، والطالب: هو هذا الكافر الذي ملأ الأرض فساداً، وقال بعضهم: (أنا ربكم الأعلى)؛ لكنه عاجز عن استنقاذ شيء من الذباب: (ضعف الطالب والمطلوب).
فإذا كان هؤلاء الذين تعبدونهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، فهم لا يستوون مع الله، فلماذا فعلتم هذا، وساويتم بين الله وبين الآلهة التي لا تستطيع أن تخلق ذباباً؟ يا حسرتاه {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] إذ سووا بينه وبين الذي لا يخلق ذباباً! {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74].(132/6)
ضرب المثل بالرجل الأبكم الذي هو كَلّ على مولاه
ثم ضرب مثلاً آخر عجيباً، أشد وضوحاً من الأول فقال عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [النحل:76] انظر إلى وضوح هذا المثل أكثر من الأول! {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] أربعة أوصاف لهذا العبد المخذول: أبكم لا يتكلم، والكلام نعمة؛ ولذلك شنّ علماء المسلمين الغارة على الجهمية حين زعموا أن الله لا يتكلم، فقال مفتريهم عند تفسير قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، قال: إن الله لا يتكلم.
صفة الكلام صفة كمال، وعدمها صفة نقص عند المخلوقين، فكيفَ بالخالق عز وجل؟! فقال أهل السنة: هو متكلمٌ كان ولم يزل متكلماً؛ لأن عدم الكلام نقص.
فهذا رجلٌ أبكم، عاجز لا يقدر على شيءٍ، ومن تمام عجزه أنه كلٌّ على مولاه.
نحن نعبد الله لأسباب كثيرة: منها أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، ومنها: أن يوصل النفع إلي، ويدفع الضر عني، فأنا إذا احتجت أقول: يا رب.
إذاً: أنا الذي أحتاج، وإلهي هو الذي يمدني.
تصور العكس: أن إلهك الذي تعبده يحتاج إليك! هذا الرجل كلٌٌّ على مولاه، المفروض أن مولاه اشتراه لينتفع به، لكن مولاه هو الذي يخدمه، وهو الذي يشتغل له، فهذا العبد كلٌّ على مولاه.
ولو قال له مولاه: مللت منك وليس منك أي فائدة: اذهب إلى الجهة الفلانية، ائتني بفلان، أو احضر لي كذا وكذا: (أينما يوجهه لا يأت بخير) إذا بعثه في معروف يأتي بمصيبة، لا ينطق، ولا يقدر على شيء، وأنا الذي أنفق عليه، فإذا أردت أن أستخدمه مرة جاءني بمصيبة! الطرف الأول من المثل.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76]، أجيبوني أيها العقلاء! هل يستوون؟ مثل في غاية الوضوح.
وهذان المثلان ضربهما الله عز وجل لنفسه مع الآلهة من دونه.
هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟ لا يأمرُ إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، ولا يأمرُ إلا إذا كان متكلماً، إذاً يأمر هي ضد (أبكم لا يقدر على شيء) أبكم: يعني لا يتكلم، في مقابله يأمر، لأنه لا يأمر إلا إذا كان متكلماً، ثم لن يأمر إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، فهذا في مقابل: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأن ذاك العبد الأبكم جاهل لا يعرف الخير من الضر.
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ولا يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، فهذا في مقابل: {أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ}.
لكن هذه الكلمة المجملة {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76] كانت كلها صفات في مقابل صفات النقص الأولى.(132/7)
ضرب المثل بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء
في سورة النحل قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:73 - 74]، ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلين؛ ليبين أنهم لا يعلمون؛ وأن واقعهم ينادي أنهم لا يعلمون حتى وإن ادعوا أنهم يعلمون، واقعهم ينادي بجهلهم، فهذا الجاهل الغبي كيف يضرب المثل لربه؟! وانظر إلى ترفق الله عز وجل بالعبد، وصبره على ضرب المثل له، وبسطه للعبارة! وهذا كله ينبئ بسعة حلمه على عبيده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:75] أي: لا يستوون {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:75 - 76] أربع صفات: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76].
تأمل هذا المثل ما أجمله وما أعجبه وأقواه في إقامة الحجة! مفتتح الآيات {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} [النحل:73] الشيء العجيب كلمة (شيئاً) هذه! ما موقعها؟ مع أنها لو حذفت استقام السياق: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض ولا يستطيعون) الكلام مستقيم، لكن جاءت كلمة: (شَيْئًا)، هكذا منصوبة كأنها بدل، قال بعض النحاة: إنها بدل من (رزقاً)؛ أي أنك تستطيع أن تضع البدل مكان المبدل منه وتصح العبارة، كأن تقول: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئاً) والرزق داخل في الكلام، لكن جاءت (رزقاً) ثم قال: (شيئًا).
الرزق شيء، فكأن تقديم الرزق على الشيء من باب تقديم الخاص على العام، وهو عند علماء الأصول يفيد الاهتمام؛ كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فالصلاة والنسك أخص، والمحيا أعم، لو قلت: (إن محياي لله) دخل فيه الصلاة والنسك وكل شيء، لكن تقديم الصلاة والنسك فيه دلالة على الاهتمام بالصلاة والنسك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، مع أن المرأة من الدنيا، فكان يمكن حذف المرأة ويقال: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والمرأة من الدنيا، لكنه أفرد المرأة بالذكر بعد الدنيا إشعاراً بفتنتها وخطورتها.
فبدأ الله عز وجل بذكر أن الآلهة من دونه لا يملكون للعباد رزقاً، وهذه قضية خطيرة وحيوية في حياة الناس.
كم الذين داهنوا أعداء الله عز وجل، بل كانوا عوناً لهم بدعوى أكل العيش! كم الذين ارتكبوا المحرمات ولا يزالون يقول لك: أكل عيش! ماذا أفعل؟! المرتب الأولاد الأكل الشرب… فارتكبوا المحرمات بدعوى الأكل والشرب والرزق! فالله عز وجل ذكر هذه القضية الخطيرة الحيوية في حياة الخلق، بدأ بها: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:73].
حسناً: هذا لا يملك لك رزقاً لماذا تعبده؟ واقعك في الدنيا يكشف أنك اتبعت كل جبارٍ عنيد من أجل الرزق ولقمة العيش، فلماذا خالفت هنا؟! ثم ضرب الله عز وجل مثلاً فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل:75]، وهذا واقع في حياة العرب، كان عندهم عبيد، وكانوا يعلمون أن العبد المملوك لا يقدر على شيء أبداً، لذلك من العلماء من لم يجز شهادة العبيد لماذا؟ قال: لأن العبد في ملك سيده، فقد يُدعى العبد للشهادة، فيقول له سيده: لا تذهب، فهو مسلوب الإرادة، ولا بد له أن يطيع سيده؛ فتضيع الشهادات وتضيع الحقوق؛ لذلك قال: هذا عبدٌ مملوك لا تناط به الشهادة، ولا يملك حل شيءٍ ولا ربطه.
فيا أيها العرب: عندكم عبيد، وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون شيئاً، فنضرب المثل لكم بما تعلمون.
وقال: (مملوكاً) حتى يظهر المعنى؛ لأنه لو قال: ((وضرب الله مثلاً عبداً)) فقد تتصور أن المراد مطلق العبودية، التي تشمل الحر والمملوك؛ لكنه أراد أن يخرج الحر من ضرب المثل، وأن المثل مضروبٌ للملوك.
كلمة (عبد مملوك) معناها: أنه لا يقدر على شيء، لكنه أبان عن عجزه الكامل ودفع كل تأويلٍ يتأول به فقال: ((لا يقدر على شيء)) من باب التأكيد والبيان، كما قال تعالى في مفتتح هذا الربع في سورة النحل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]، مع أنه مستقرٌّ عند جميع الناس أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة، إلهان: مثنى، فهما اثنان، إنما جاء هذا للتأكيد، كما لو قلت: أنا رأيتك بعيني، مع أنك لا ترى إلا بعينيك، أو تقول: أنا سمعتك بأذني، مع أنك لا تسمع إلا بأذنيك.
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هذا هو الشطر الأول من المثل، ثم قال تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}: أي وضرب الله بالرجل الحر المثل، وتأمل كلمة (منّا) هذه التي تفيد الإمداد الشخصي، ملك من الملوك يمد رجلاً يقول: أنا الذي أعطيتك.
إمداد شخصي.
فالله عز وجل يقول: أنا الذي أمده، وأنا الذي أرزقه، وفيه عناية بهذا العبد.
{وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}: رجلٌ حر، ينفق ماله سراً وجهراً، يميناً وشمالاً، وعنده رافد ومعين لا ينضب، وهو: أن ملك الملوك -تبارك اسمه- هو الذي يمده، فهو رجل لا يخشى الفقر ولا الفاقة، فهو ينفق ببذخ وسخاء بالله عليكم هل يستوون؟! انظر إلى وضوح المثل فهو واضح جداً جداً؛ ولذلك قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]، حمد الله عز وجل نفسه أنهم لا يستوون في عقل أي عاقل، وحمد الله عز وجل نفسه أن الذين كفروا لا يعلمون، إذ لو علموا لشغبوا على الذين آمنوا؛ فليظل هؤلاء في جهلهم يرتكسون.
وهكذا يحمد الله عز وجل نفسه أنه لا يوصل الخير إلى الذين ظلموا، قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] فحمد نفسه بعد إهلاك الذين ظلموا؛ لأن في إهلاكهم نجاة للذين آمنوا.
وفي غيابهم أيضاً نجاةٌ لحجج الذين آمنوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافقٌ عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأنه يضل الناس، منافق له لسانٌ عذب يستطيع أن يقيم الحجج ويزين الكلام، فمع نفاقه لا يخلو كلامه من آيةٍ وحديث.
فمع حسن العرض وتزيين الكلام بالآية والحديث يظن الناس أنه من الحق؛ فيفتتنوا، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة: (منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).
فإضلال الذين كفروا عن موضع الحجة نعمة؛ لذلك حمد الله نفسه عليها: (هل يستوون)؟ أي إنسان عنده مسكة من عقل يقول: لا يستوون، فقال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.(132/8)
ضرب المثل بالصراط المستقيم
أخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبوابٌ مفتحةٌ، وعليها ستورٌ مرخاة، وعلى رأس الصراط داعٍ، يقول: هلم -عباد الله- إلى الصراط ولا تتعوجوا، وفوق الصراط داع، كلما أراد الإنسان أن يفتح باباً قال: ويحك! لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه.
فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله عز وجل، والأبواب: محارم الله تعالى، والداعي على الصراط: كتاب الله عز وجل، والداعي من فوق الصراط: هو داعي الله عز وجل في نفس كل مسلم).
وهذا حديث صحيح، وهو من أجمل الأحاديث وأعذبها، وهو كثير الفوائد! والمقصود من ضرب المثل: تبيين الفكرة المجملة؛ لأن العمل بالشيء فرعٌ عن تصوره، فإذا تصورت الشيء عملته.(132/9)
الصراط: معناه وأساليب وروده في القرآن
الصراط هو الطريق، وكلما جاء الصراط في كتاب الله مفرداً غير مقيدٍ بوصف؛ فإنما يقصد به الصراط المستقيم، والمستقيم وصفٌ للصراط لكن لو قلت: لفظة (الصراط) بلا وصف لا مستقيم ولا أعوج، إذا جاء الصراط مفرداً غير موصوف في كتاب الله عز وجل فيقصد به الصراط المستقيم، وهذا يدلك على أن لفظة (الصراط) تحمل في معناها لفظة الاستقامة، كما قال عز وجل: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]، ناكب: أي منحرف، ولم يقل: (عن الصراط المستقيم) والسياق أعلمنا أن الصراط هنا هو الصراط المستقيم؛ فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يمكن أن يمشوا على الصراط المستقيم.
وقال شعيب عليه السلام لقومه: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86]، الصراط هنا المقصود به الصراط الحسي أو المعنوي أو كليهما معاً، {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} لا تقعدوا في كل طريق ((تُوعِدُونَ)) أي: تهددون الذين آمنوا؛ إذ سلكوا الصراط إلى الله {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، فكلمة (وتبغونها عوجاً) دليل على أن الصراط الذين يصدون عنه مستقيم؛ لذلك أرادوا أن يجروا الذين آمنوا إلى غيره من الطرق المعوجة.
وكلما اعوج الطريق طال، وأنت إذا رسمت بين أي نقطتين خطّاً معوجاً، فالمسافة بين النقطتين إذا كان بينهما خط مستقيم مثلاً عشرة أمتار، لكنها على الخط المعوج صارت عشرين متراً.
ولذلك لما وصفوا الخط المستقيم قالوا: هو الخط الفاصل بين أقرب نقطتين، هو هذا المستقيم.
إذاً كلما استقام الطريق، قصر وقرب في إيصال سالكه إلى المقصود.
ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نقرأ في اليوم سبع عشرة مرة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] لماذا؟ لأن الصراط المستقيم هو أقصر طريق موصل إلى المقصود، كلما كان الطريق معوجاً كلما طال على سالكه، لذلك قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
الصراط: وصف بالاستقامة في آيات كثيرة جداً: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73].
{نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53].
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175].
آيات كثيرة فيها ذكر الصراط المستقيم، أو ما يقوم مقام الاستقامة، كقول تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] فـ (السوي) هنا: بمعنى المستقيم أيضاً.
وفي سورة (ص) في الآيات التي تذكر تسور الخصمين على داود: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:21 - 22]، فكلمة (سواء) هنا هي مثل السوي في قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} وهي مثل كلمة (المستقيم) في قوله تعالى: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].(132/10)
أوصاف الصراط المستقيم
إن الله تبارك وتعالى أمرنا أن ندعوه، فنقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والصراط المستقيم له أوصاف وميزات: منها: أنه مستقيم.
فتصور رجلاً أعمى لا يبصر، ووضعت قدميه على هذا الصراط، وقلت له: يا بني! امش، لا تنحرف.
رغم أنه أعمى فسيصل فهذا هو الحق ليس به خفاءٌ فدعني من بنيات الطريق (بنيات الطريق) هي الطريق المعوجة، والبصير يتوه في الطريق المعوج، والأعمى لو صففت قدميه على طريق مستقيم لمضى وهو أعمى ووصل فكيف إذا كان مبصراً؟! فلا يضير أن يكون الطريق طويلاً ما دام مستقيماً.
وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره -وهو حديث صحيحٌ أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض خطاً طويلاً، وخط حوله خطوطاً قصاراً، ثم قال: هذا صراط الله) طويل، لكنه مستقيم، من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة هو صراط واحد، قد فنيت فيه الأمم، ومات فيه ألوف النبلاء، بل ملايين النبلاء، ولا يزال في الطريق بقية، لا تسقط الراية منه، إنما يسلم بعضهم الراية لبعض، راية التوحيد.
قال: (هذا صراط الله، وهذه صرط الشياطين، على كل صراط شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها، مولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(132/11)
تحت كل محنة بشرى [1]
من المحن تأتي المنح، وتحت كل مصيبة خير لصاحبها ولا أدل على ذلك من قصة أم موسى عليه السلام، فقد ابتلاها الله تعالى بأن أمرها أن تلقي ولدها في اليم، ثم انقلبت محنتها منحة وخيراً، ومثلها قصة الإفك؛ فقد كانت محنة ومصيبة في البداية على عائشة رضي الله عنها، ولكن الله تعالى جعل من بعدها خيراً كثيراً لها وللمسلمين، وغيرها من القصص.(133/1)
فوائد من قصة موسى عليه السلام
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].(133/2)
لا تستبعد جلاء المصيبة والمحنة
أما أم موسى فإنها أمة من إماء الله عز وجل، شرفها الله تبارك وتعالى ورفع قدرها وأعلى كعبها مرتين: المرة الأولى: يوم ولدت موسى فاصطفاه الله عز وجل، والمرة الثانية: يوم أوحى إليها وربط على قلبها، واختصها من بين نساء العالمين بذلك.
ففي قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] كان مقتضى الأمر أن يقول: (إذا خفت عليه فأخفيه) أي: فأحرزيه بصندوق في مكان آمن، لكن أن يقال لها: إذا خفت عليه فألقيه إلى المجهول! وألقيه في البحر، وهي لا تدري أين يقذفه الموج، ولا من الذي يستلمه بيديه، فأي أمن في هذا؟! فمن أعظم الفوائد التي تستفاد من هذا الموضع: أنك لا تستصعب جلاء المصيبة، ومهما جاءك من محنة ظاهرها الألم الشديد، فأمِّل في الله خيراً أن يكون تحتها الخير العميم، وهكذا كل مصيبة يحتسبها العبد لا بد أن يجد تحتها خيراً.(133/3)
عدم استحقار الناس
أول الفوائد في هذه الآية: في قول الله تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} والوحي إعلام بخفاء؛ وهو من الله إلى العبد شرف للعبد.
فإياك أن تحقر أحداً، فإنك لا تعلم منازل الناس عند الله، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين -يعني: يلبس أسمالاً بالية- مدفوع بالأبواب - إذا فتحت بابك فرأيته أغلقت دونه الباب؛ لأنك استقذرته؛ ولم يملأ عينك- لو أقسم على الله لأبره)، والذهب أنفس المعادن، ومع ذلك فعندما تستخرجه من باطن الأرض، تستحقره بعينك وتمتهنه، ولا تراه يساوي شيئاً حتى يدخل النار.
وكثير من العباد مثل الذهب، يداري أصله طمراه وثيابه، وبذاذة هيئته، فلا تحقرن عبداً.(133/4)
قصة أنس بن النضر وإقسامه على الله
وهذا الحديث قيل في صحابي جليل لا يعرفه جماهير المسلمين، وهو أنس بن النضر، أحد الأوائل الذين قتلوا يوم أحد مع عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله.
حدثت مشاجرة بين أخته الربيع بنت النضر وبين جارة لها، فاعتدت الربيع على جارتها فكسرت ثنيتها -والثنية مقدم الأسنان- فأراد الناس أن يقتصوا من الربيع، فأبى أنس، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون القصاص، فأبى أنس، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر أبداً).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أنس! كتاب الله القصاص).
وهو يقول: (لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية الربيع أبداً) ولا زال النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا أنس! كتاب الله القصاص).
وهو يأبى، حتى قبل الناس الدية، وتنازلوا عن القصاص، فحينئذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فـ أنس كان يقول: (لا والذي بعثك بالحق لا تكسر) ويقسم بالله، حتى وفى الله ذمته، وقبل الناس الدية.
أما أم موسى؟ فإنها أمة من إماء الله عز وجل، شرفها الله تبارك وتعالى ورفع قدرها وأعلى كعبها مرتين: المرة الأولى: يوم ولدت موسى فاصطفاه الله عز وجل، والمرة الثانية: يوم أوحى لها وربط على قلبها، واختصها من بين نساء العالمين بذلك.
ففي قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] كان مقتضى الأمر أن يقول: (إذا خفت عليه فأخفيه) أي: فأحرزيه بصندوق في مكان آمن، لكن أن يقال لها: إذا خفت عليه فألقيه إلى المجهول! وألقيه في البحر، وهي لا تدري أين يقذفه الموج، ولا من الذي يستلمه بيديه فأي أمن في هذا؟ فمن أعظم الفوائد التي تستفاد من هذا الموضع: أنك لا تستصعب جلاء المصيبة، ومهما جاءك من محنة ظاهرها الألم الشديد، فأمِّل في الله خيراً أن يكون تحتها الخير العميم، وهكذا كل مصيبة يحتسبها العبد لا بد أن يجد تحتها خيراً.(133/5)
عبر وعظات من قصة الإفك
إن أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون في وجود النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات: هي مصيبة الإفك، هذه الحادثة التي هي أعظم المصائب التي أصابت ديار المسلمين، والتي نزل في شأنها مطلع سورة النور، وقد قصتها علينا صاحبة القصة عائشة رضي الله عنها، كما رواه البخاري ومسلم، وهي كلها محن، ومع ذلك قال الله عز وجل لنا: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
وعندما نسوق القصة سيُعلم كيف يخرج الخير من الشر، وما هو ضابطه قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرجت معه، فصار السهم على عائشة رضي الله عنها فخرجت في تلك الغزوة -وهي غزوة المريسيع، أو غزوة بني المصطلق- فلما قضوا غزوتهم ورجعوا قافلين إلى المدينة، أرادت عائشة رضي الله عنها أن تقضي حاجتها، وكانت تركب الجمل داخل الهودج -والهودج: هو الغرفة التي كانت تزف فيه العروس قديماً أيام الحياء، فقد كانت توضع المرأة في هذا الصندوق الخشبي، ويوضع على ظهر بعير وتزف، فهذا هو الهودج-.
فأرادت السيدة عائشة وهي راكبة في هذا الهودج، أن تقضي حاجتها، فأمرت الذين يرحلون بالبعير أن يسرعوا أمام الجيش، لتقضي حاجتها، حتى إذا جاء الجيش مشوا جميعاً، فاستحثوا الذين يرحلون البعير وتقدمت، وأنزلوا هذا الهودج على الأرض وأعطوها أقفيتهم حتى تنزل، فنزلت وأوغلت في الصحراء، حتى قضت حاجتها ورجعت، وبينما هي راجعة تحسست صدرها فإذا عقد لها قد انفرط، فرجعت من نفسها؛ لأنها كانت جارية حديثة السن، ليس لها خبرة، وكان من المفترض أن تقول للذين يرحلون بها: لقد انقطع عقدي، فانتظروني.
لكن لحداثة سنها تصرفت من عند نفسها.
فرجعت إلى مكان قضاء حاجتها تبحث عن عقدها، وبعد مدة قدرها الرجال الذين يصحبونها بمدة قضاء الحاجة فظنوا أنها قد جاءت ودخلت في الهودج، فحملوا الهودج يظنونها فيه، ووضعوه على البعير واستحثوه فنفر، ومضوا.(133/6)
العالم لا يترخص في موضع الفتنة
لأجل هذا نهى العلماء أن يترخص العالم في موضع الفتنة؛ لأنه إذا ترخص في موضع الفتنة ظن العوام أن الرخصة هي الحكم الشرعي، يقول العلماء: إن العالم في زمان الفتنة ينبغي أن يأخذ بالعزيمة ولا يترخص.
فهذه المحنة الجسيمة التي ابتلي بها المسلمون جميعاً، وابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه بها، انجلت عن هذا الخير العميم، وكشف الله عز وجل بها المنافقين للناس!(133/7)
ضرب رءوس المجتمع ضرب للمجتمع
ومن الفوائد العظيمة التي تستقى من حديث الإفك: أن ضرب الرأس هو أعظم مصيبة يصاب بها المجتمع.
فالرأس مع بقية المجتمع مثل السهم، فإن الرأس المدبب في مقدمة السهم إذا كسر، لا يستفاد ببقية السهم في الاختراق، فحفاظ المجتمع على رأس السهم ضرورة، ولو ضاع رأس السهم لضاع الكل خلفه، وليست هناك لنا أي مصلحة في تدمير رءوس المسلمين، بل أعداؤنا يرون في تدمير الرءوس خفة مئونة.
إذا أسيء الظن بالرأس فسدت المبادئ والقيم، ولذلك فأعداؤنا يحرصون على تشويه سمعة علمائنا، وعلماؤنا هم رءوسنا، بهم نمضي، وبغيرهم نحن ضائعون، وتعرف قيمة المجتمع بكثرة علمائه الذين يدلون على الله، لا بكثرة أطبائه ولا مهندسيه ولا فدائييه، إنما المجتمع يقاس بكثرة علمائه أو بقلتهم، بعزهم وشرفهم أو بمهانتهم.
فهذا المنافق صوب السهم إلى عائشة رضي الله عنها ليتهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهكذا لو أن رجلاً رأساً أشيع عنه أنه زانٍ، أو أنه مرابٍ، أو أنه فاجر، فإنه إذا صعد على المنبر وأمر الناس بتقوى الله لا يكون لكلامه رصيد، فنكون قد ضيعنا كل هذا المجتمع بفساد واحد، وصدق من قال: إذا زل العالمِ زل بزلته عالَم.(133/8)
نزول براءة عائشة رضي الله عنها
قالت: (وتحولت، فوالله ما قام أحد من البيت ولا قام أحد من المجلس إلا وقد أنزل الله براءتي، تقول: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بكلمة، إنما كنت أظن أن الله سيري نبيه رؤيا يبرئني بها، فلما نزل الوحي قامت أمي فجاءتني فقالت: قومي إليه واحمديه -اشكري الرسول عليه الصلاة والسلام- فقالت عائشة: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، الذي أنزل براءتي).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سُر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فجاء مستبشراً يضحك وهو يقول: (يا عائشة! أبشري فإن الله برأك).(133/9)
موقف أبي بكر من مسطح بن أثاثة
ثم أقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، وقد كان فقيراً ينفق عليه أبو بكر، فنهاه الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، فقال أبو بكر: (بلى، أحب أن يغفر لي، والله لا أنزعها منه أبداً)، وفرق الله عز وجل بين المنافقين والمؤمنين، وكان ذلك بالإفك كما قال الله عز وجل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].(133/10)
حدوث الفتنة بين الأوس والخزرج في المسجد
حينئذ قام سعد وقال: (والله لا تقدر ولا تستطيع)، مع أن عبارة سعد بن معاذ لطيفة، وفيها تحرز لطيف.
فلما قال سعد بن عبادة ذلك، قام له أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال: (والله إنك لمنافق وتجادل عن المنافقين)، فقاموا لبعضهم في المسجد، وثار الحيان: الأوس والخزرج، والرسول عليه الصلاة والسلام واقف على المنبر، وأخرجوا السلاح، ووقفوا لبعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم بيديه، فلا زال يهدئهم ويخفضهم حتى سكتوا(133/11)
عار الزنا أعظم من عار الكفر
إنها محنة لم يمر المسلمون بمثلها قط زوجة نبيهم تتهم بالزنا! وهو عار، حتى إن الكفر برغم أنه أفدح المصائب كلها، إلا أنه ليس فيه من العار ما في الزنا! كان والد إبراهيم عليه السلام كافراً، ولم يعير إبراهيم بأبيه، وكان ابن نوح وامرأته كلاهما كافر، ولم يعير نوح أبداً بكفر ابنه ولا بكفر امرأته، وكانت امرأة لوط أيضاً كافرة، ولم يعير بها لوط عليه السلام، فالزنا فيه من العار ما ليس في الكفر، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنه: (لم تزن امرأة نبي قط)، قال ذلك في قول الله عز وجل: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، قال: ليست الخيانة خيانة عرض.
فتتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا وهم أحياء!! فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وعائشة تبكي ليلها ونهارها، وأعظم شيء فت في عضدها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبرئها، بل هو متردد، وقد استلبث الوحي شهراً كاملاً لا ينزل؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، فكان عليه الصلاة والسلام يدخل البيت، ويقول: (كيف تيكم؟) ثم يخرج.(133/12)
اشتداد الأمر على عائشة
حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بعد شهر كامل، فجلس على طرف سريره، وكانت أول مرة يجلس فيها، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه).
فحز ذلك جداً في نفسها، وكانت تنتظر أن يبرئها لتاريخها معه، ولا يتوقف في شأنها، بل يقول هي بريئة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتكلم عن هوى نفسه، وهوى نفسه أن تكون امرأته بريئة، بل ينتظر الوحي حتى ينزل، فلا يتقدم بين يدي ربه، ولذلك سكت ولم يتكلم، قالت عائشة: (فلما قال ذاك قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة).
فذهب هذا النهر الفياض على مدار ثلاثة أيام، لم تجد قطرة دمع واحدة في عينها.
ومن أصعب الأشياء: الانتظار، فإن الإنسان المحكوم عليه بالإعدام، وهو ينتظر الحكم، لا يأكل ولا يشرب، وجسمه ينحل؛ إذ أن أصعب شيء في حياة الإنسان انتظار نتيجة لا يدري ما هي! لكن لو عرف أنه ميت أو حي فإنه يستريح، وهكذا لو مات ابن رجل ودفنه بيده خير له من أن يضيع ويبحث عنه في المستشفيات وفي أقسام الشرطة، وفي بلاد الله، وهو لا يدري أحي ابنه أم ميت؟ بل إنه يقول: لو مات لكان خيراً لي، ولاسترحت؛ لأن الانتظار سيء للغاية.
فقد كانت عائشة رضي الله عنها تبكي باستمرار وهي لا تدري ما الذي يكون، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبدئها، بل قال لها تلك الكلمة التي زادت من ألمها وحزنها، حتى قالت: (قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، وقلت: إنني إذا قلت لكم: إنني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، وإذا قلت لكم: إنني فعلت -والله يعلم أني بريئة- لتصدقنني بذلك، فوالله ما أجد لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
وجاء في بعض الروايات أنها قالت: (وتاه عني اسمه)، وأبو يوسف هو يعقوب عليه السلام، لكنها بحثت عن اسم يعقوب في ذهنها فلم تجده من الهم، والهم يضيع الملكات، ويضيع الذكاء والبديهة.(133/13)
استخدام العبارات اللطيفة ومراعاة مشاعر الآخرين
حينئذ قام سعد بن معاذ سيد الأوس، الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات، فقال: (يا رسول الله! أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك).
انظر إلى التحرز الجميل، ويا ليت إخواننا يتأدبون بهذا الأدب! قبل أن يأتي الإسلام كانت هناك حروب طاحنة بين الأوس والخزرج، فمن الله عليهم بالإسلام، وصاروا إخوة متحابين، لكن بقيت بقايا في النفوس، فـ سعد بن معاذ تحرز لنفسه وراعى التاريخ القديم -تاريخ العداوات والحروب- فأخرج هذه الجملة الدقيقة، قال: إن كان من الأوس ضربت عنقه، ولم يستثن ولم يتحرز؛ لأنه سيدهم، وإن كان من إخواننا من الخزرج، فقدم لفظ (الأخوة) ولم يقل: ضربت عنقه؛ لأنه خاف من حدوث فتنة، وبرغم لطافة العبارة فقد حدث الذي خاف منه.
فلم ترض هذه الكلمة سعد بن عبادة زعيم الخزرج؛ لأن أراد أن ينال شرف الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فـ سعد بن معاذ تكلم عن الأوس، فيريد هو أن يتكلم عن الخزرج ويقول أيضاً: إن كان من الخزرج ضربت عنقه، فساءه أن سعد بن معاذ يتكلم عن الخزرج وهو حي.(133/14)
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن عائشة رضي الله عنه
قالت: (وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في شأني، فسأل أسامة بن زيد فأخبره بالذي يجد في نفسه له من الود، قال: يا رسول الله هم أهلك، لا نعلم إلا خيراً.
أما علي بن أبي طالب فقال: (يا رسول الله! النساء غيرها كثير -لماذا تعني نفسك؟ طلق وتزوج، والنساء غيرها كثير، فلا تتعب نفسك- وإن تسأل الجارية تصدقك.
فأرسل إلى بريرة فقال: (أي بريرة، هل رابك شيءٌ من عائشة؟ قالت: لا والذي بعثك بالحق، غير أنها كانت جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله)).
هذا هو عيبها، تعجن العجين وتتركه بلا غطاء، فكان يأتي الدجاج ويأكل العجين.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك صعد المنبر وجمع الصحابة، وقال: (أيها الناس! من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما أعلم عن أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما أعلم عنه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).(133/15)
خوض المنافقين وبعض المؤمنين في الإفك
وكان الذي تولى كبره هو المنافق الأعظم عبد الله بن أبي ابن سلول، ومجمل ما أشاعه: أن صفواناً وقع على عائشة، فاتهمت العفيفة الشريفة الغافلة في عرضها، وهي لا تدري، وهذا المنافق يتكلم، واستجاب لكلامه بعض المسلمين الأخيار كـ حسان بن ثابت، فقد تكلم، وتكلمت أيضاً حمنة بنت جحش، أخت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها.(133/16)
معرفة عائشة بحديث الإفك
ورجعت عائشة إلى بيتها مريضة، واشتكت من مرضها شهراً كاملاً، وهي ولا تعلم بالخبر، والمدينة تغلي، حتى خرجت ليلة مع أم مسطح قبل المناصع -وهو مكان يقضون فيه حاجتهم- وكانت العرب إذ ذاك تستنكف أن تتخذ الكنف في البيوت -أي: دورة المياه- إنما عندهم الصحراء، فأيما رجل أو امرأة أراد أن يقضي حاجته فإنه يذهب إلى الصحراء.
فـ عائشة رضي الله عنها خرجت مع أم مسطح لتقضي حاجتها، وكانت قريبة لها في الرحم، فقضوا حاجتهم، ثم وهم راجعون عثرت أم مسطح في مرطها، أي: تعثرت في ثوبها، فقالت: (تعس مسطح!).
تدعو على ابنها، وهذه كلمة كانت تخرج وتجري على لسان العرب، لا يقصد بها الدعاء، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ!) أي: فقدتك، ومثل هذا في قصة الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه واحتلم، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تجدون لي رخصة أن أتيمم من الجنابة؟) لأنه إذا اغتسل دخل الماء في رأسه فربما يموت، فقالوا: (لا نجد لك رخصة) فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قتلوه قتلهم الله)، فليس المقصود بهذا حقيقة الدعاء بالقتل، وإنما همو يجري مجرى التوبيخ.
فقالت أم مسطح: (تعس مسطح!) فقالت عائشة: (فأنكرت عليها ذلك، وقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟! فقالت: أي هنتاه! أولا تدرين ما يقول؟ قالت: وما يقول؟ فقصت عليها حديث الإفك، وما يخوض الناس فيه.
قالت: فازددت مرضاً على مرضي، وظللت ليلتي أبكي، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فلما أصبحت استأذنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتي أبوي، وذلك لأستوثق من الخبر، قالت: فجئت فدخلت على أمي - أم رومان - فقلت: أي أماه! ما الذي يتحدث الناس فيه؟ قالت: هوني عليك يا بنيتي، فوالله لقلما وجدت امرأة وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
فقالت عائشة: سبحان الله! أوقد تحدث الناس بذلك؟! قالت: فبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: ويريبني أني لا أجد اللطف الذي كنت أجده من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشتكي).
فلا يريبها شيء إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام يكون شديد اللطف معها إذا مرضت، وهي الآن مريضة ثلاثين يوماً، شهر كامل، ومع ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقول لها غير كلمتين اثنتين فقط، طوال ثلاثين يوماً، يدخل وهي مريضة طريحة الفراش، وحولها أمها وبعض النساء وأبو بكر الصديق، فيدخل فيسلم، ثم يقول: (كيف تيكم؟) (تيكم): اسم إشارة، أي: كيف هذه؟ كيف حالها؟ هذا فقط هو ما كان يقوله طيلة شهر، وهي تستغرب أين اللطف المعتاد؟! ولا تجد سبباً، حتى وجدته بعد شهر كامل.(133/17)
النوم في الفزع نعمة
والنوم في مواطن الفزع نعمة؛ لأن الخائف لا ينام بل يصاب بأرق، فإذا نام في موضع الخوف فالله هو الذي أمنه، كما قال عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] وكيف ينام رجل يستعد للحرب وعدوه في مقابله؟ لكن هذا أمن من الله تعالى.(133/18)
عثور صفوان على عائشة رضي الله عنهم
فنامت حتى ينقضي عليها الليل، قالت: (وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني في أخريات الجيش).
صفوان بن المعطل السلمي الصحابي كان يتأخر بطبعه، وفي بعض الروايات أنه كان نئوماً، وكان إذا نام لا يستيقظ إلا بصعوبة، حتى يأخذ راحته في النوم.
فهو عندما استراح الجيش نام، فتركوه نائماً ومضوا، وكان إذا أفاق من نومه بحث في المعسكر إذا خلف أحد شيئاً، أو نسي أحد شيئاً، فيصيب الإداوة أو يصيب القدح، ثم يذهب فيعرفه لهم، فجاء صفوان متأخراً كعادته، وكان يعرف عائشة؛ إذ كان يراها قبل الحجاب، قالت: (فلما رآني استرجع -قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- فاستيقظت لاسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، فوالله ما كلمني كلمة، سوى أنه أناخ بعيره فركبت عليه فاستنفره فمضى خلف الجيش، حتى أدركناهم موغلين في حر الظهيرة)، وخاض الناس في حديث الإفك.(133/19)
التماس العذر للمسلم
تقول عائشة رضي الله عنها: (وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يحملن اللحم، إنما كان يكفيهن العلقة من الطعام).
وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه، فـ عائشة رضي الله عنها تلتمس لهم العذر الذي جعلهم يحملون الهودج ولا ينتظرونها، تقول: (كانت النساء خفافاً) أي: خفاف الوزن، لم يثقلهن اللحم، فظن الناس -لخفة النساء آنذاك- أنها في الهودج، لذلك فهي تلتمس العذر لهم ولا تلومهم، ولم تقل لهم: لماذا لم تنتظروا؟ وتلقي عليهم الملام.
فمضوا وظفرت هي بعقدها، قالت: (وجئت ديارهم فلم أجد بها داعياً ولا مجيباً، فظللت مكاني، وعلمت أنهم إذا فقدوني رجعوا إلي)، وهي في صحراء شاسعة مترامية الأطراف وحدها، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه على امرأة حديثة السن وحدها في صحراء مقفرة قاحلة، قالت: (فألقى الله علي النوم فنمت).(133/20)
محنة أخرى لعائشة رضي الله عنها
وأيضاً فقد كانت عائشة رضي الله عنها سبباً في خير آخر نحن حتى الآن نستمتع به، لكن ما جاء هذا الخير إلا ببلاء حدث لها رضي الله عنها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة -والعلماء يقولون هي غزوة ذات الرقاع، وغزوة ذات الرقاع كانت بعد غزوة بني المصطلق، فقد حدثت الحادثة بعد حديث الإفك- تقول: (كنا في غزاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فانقطع عقد لي، وبرك عليه الجمل، فقلت: يا رسول الله! انقطع عقدي، فحبس الناس علي يبحثون عن العقد، فحان وقت الصلاة وليس معهم ماء، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ عائشة -وقيل: في حجرها- وجاء الصحابة إلى أبي بكر يقولون: ألا ترى ما فعلت عائشة؟! حبستنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنا على ماء! قالت عائشة رضي الله عنها: فجاء أبو بكر فعاتبني وقال ما شاء الله أن يقول، وقال: حبست الناس وفعلت وفعلت، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي)، لأنها لا تريد أن تزعجه حتى يتم نومه.(133/21)
أدب الزوجة مع زوجها
الكلام هذا نوجهه للزوجات الفاضلات المزعجات، التي لا تترك الزوج ينام، ودائماً تزعجه وتؤذيه، ولا ترعى له حقوق، فـ عائشة تقول: (ما يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي) وانظر إلى شدة موجدة عائشة على أبيها، فلم تقل: فجاء أبي وقال ما شاء الله أن يقول؛ بل قالت: (فجاء أبو بكر)؛ لأن لفظ الأبوة يشعر بالحنو، وهو قد جعل يؤنبها ويعاتبها، فلم يَحْنُ في هذا الموقف، فسمته باسمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سرقت المرأة المخزومية متاعاً، وجاء أسامة بن زيد يستشفع، قال: (يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟! والله لو أن فاطمة بنت محمد)، لم يقل: لو أن فاطمة ابنتي؛ لأن لفظ البنوة يشعر بالحنو، وهذا حد من حدود الله لا يجوز فيه المجاملة، فقال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فلم يقل: ابنتي، حتى لا تدركه الرحمة والحنو عليها بمقتضى البنوة.(133/22)
نزول رخصة التيمم
تقول: (فجاء أبو بكر فعاتبني وقال ما شاء الله له أن يقول، وقال: حبست الناس وفعلت وفعلت، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح والناس على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر! واستنفروا الجمل فوجدوا العقد تحته)، فبسبب هذه المحنة نزلت رخصة من أعظم الرخص، وهي التيمم، وهو بدل عن الماء في الطهارة.(133/23)
صفة التيمم
والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وليس هناك مسح للساعد، والحديث الذي ورد في ذلك حديث منكر عند أهل الحديث، إنما التيمم ضربة واحدة، تضرب على الأرض، ثم تفرك يديك، ثم تمسح وجهك لا أكثر من ذلك.
ومن نعمة الله علينا أن هذا التيمم أيضاً يرفع الجنابة، كما في الصحيحين أن عمار بن ياسر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما كانا في سفر فأجنبا، فأما عمار فقال: فتمرغت في التراب كما تتمرغ الدابة في الأرض، يريد أن يصل التراب إلى كل جسمه، أما عمر بن الخطاب فلم يعرف الحكم فلم يصلِّ، ورجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يكفيكما ضربة للوجه والكفين)، وهذه الضربة ترفع الجنابة وتثبت الوضوء، وليس كما يفعل بعض الناس حيث يتيمم لرفع الجنابة ثم يتيمم للوضوء.
ففي الحديث الذي ذكرته لم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا ضربة واحدة للوجه والكفين؛ ترفع بها الجنابة ويثبت الوضوء.
إنها رخصة عظيمة، لكنها ما جاءت إلا بعد محنة.
وإذا كانت المحن تأتي منها المنح، فمن المحن مصائب لا تنجلي عن خير، فما هو الفرقان بين المصيبة التي تنجلي عن خير والتي تنجلي عن شر؟ إذا وقعت بك مصيبة فأردت أن تنجلي عن خير فعليك بأمرين: الأمر الأول: أن تسلم لله فيما قضى، وتعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تتسخط.
الأمر الثاني: أن تحسن ظنك بالله، وأن الله عز وجل لا يقدر لك إلا الخير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
والحمد لله رب العالمين.(133/24)
كتاب ضد الإسلام
أصيب المسلمون بذلة وصغار وضعف في الإيمان، وموت غيرة في القلوب مما أدى إلى تصدر أهل الكفر والنفاق من بني جلدتنا في ميادين التعبير والانتقاد، والرد والجواب، فكان أول ما بدءوا بانتقاده والطعن فيه هو ديننا الحنيف، وأئمتنا وقادتنا الذين سطر التاريخ ذكرهم، ولم يكتفوا بذلك حتى طعنوا في نبي الأمة، وخالق الكون سبحانه وتعالى، ومما يزيد الطين بلة سكوت أهل الحق عن أهل الباطل، وعدم الغيرة لحرمات الله سبحانه وتعالى؛ لذا يجب تحذير الناس من أمثال هؤلاء الزنادقة وكشف فضائحهم وعوارهم في الصحف والمجلات وعلى المنابر وفي الندوات؛ وإلا أصابنا الله عز وجل بالويل والعذاب.(134/1)
سيطرة أهل الباطل وطعنهم في الدين في ظل ضعف المسلمين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن إحدى القواعد التي يعلمها المتصفح للتاريخ أن قوة المسلمين وضعفهم تقاس بقوة النفاق أو الكفر، فحيثما رأيت الكفر يعلو؛ فاعلم أن المسلمين ضعاف، وحيثما رأيت النفاق هو الغالب فاعلم أن دولة المسلمين هي الأقوى.
لقد كانت الدور في مكة تعج بالكافرين مع قلة المؤمنين آنذاك، فلما صار للمسلمين دولة في المدينة ظهر النفاق لأول مرة، ولم يكن قبل ذلك إلا الكفر المحض، رجل لا يستطيع أن يكفر في ظل دولة قوية، فاضطر أن ينافق ليحفظ ماله ودمه؛ لأنه لو جهر بالكفر إما أن يقتل وإما أن تضرب عليه الجزية، لو كان من أهل الكتابين وظل على كفره تضرب عليه الجزية والصغار والذلة، فظهر المنافقون في المدينة لما صار للمسلمين دولة، بخلاف مكة لم يكن إلا الكفر المحض في مقابل الإسلام الضعيف.
وأنت إذا اعتبرت هذه القاعدة -وهي ثابتة في كل الأزمان- حتى تصل بتصفحك إلى زماننا ترى أن الكفر هو الغالب؛ لضعف المسلمين وهوانهم على غيرهم، وما هانوا على غيرهم إلا بعد أن هانوا على أنفسهم، نبينا صلى الله عليه وسلم يشتم مرتين علناً، وليس له في الأرض نصيب، ليست هناك دولة في الأرض تتبنى هذا الرسول، كتاب: آيات شيطانية، ما تحرك إلا الخميني الرافضي، ومعروف ماذا فعلت بريطانيا، سحبت السفير، وقطعت العلاقات بمجرد التهديد بقتل مواطن، يزعمون أنه مواطن، والدولة يجب أن تدافع عن مواطنيها، مع أننا نعلم أنه منذ قامت هذه الثورة في إيران، وقد قتلوا من الإنجليز وفجروا في داخل بريطانيا كثيراً، ومات أناس كثيرون وما فكروا في قطع العلاقات، كأن الذين ماتوا في الانفجارات ليسوا مواطنين.
ما صار سلمان رشدي مواطناً إلا بعد أن سب نبي الإسلام! ومنذ شهرين في جريدة العربي في لندن أيضاً يخرج رجل يصف النبي صلى الله عليه وسلم -قطع الله لسانه، وشلت يده- بأنه سيد الحمقى، وأجرى هذا الحكم على بعض أصحابه كـ أبي ذر، وعلى سبطه الحسين، يوصف رسولنا عليه الصلاة والسلام بهذا وليست هناك دولة تقطع العلاقات الدبلوماسية ذراً للرماد في العيون وانتصاراً لهذا النبي، كأنه ليس هناك أحد على دينه في الأرض! ومما يدل على ضعف هوان المسلمين أن الكاتب يكتب اسمه بمنتهى الصراحة؛ لأنه يعلم أنه لن يعاقب.
قديماً كان الذي يريد أن يشتم حاكماً أو يشتم طريقةً، أو يسب مذهباً كان يكتب اسماً مستعاراً، كما تعلمون في بعض الكتب كغاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي -وهو من أنفع الكتب- كتب اسمه على الكتاب أول مرة باسم مستعار؛ لأن السلطان عبد الحميد آنذاك كان يقرب الصوفية، ومنهم النبهاني المغضوب عليه، فلو أنه كتب اسمه لقتل، ولو أن المطبعة التي طبعت الكتاب كتبت اسمها لأغلقت، فاضطر أن يكتب على لوحة الكتاب اسماً مستعاراً حتى لا يقع تحت طائلة العقاب، لكن هذا يكتب اسمه صريحاً، والجريدة معروفة، ومقر الجريدة معروف، وعنوانها.
ثم يكتب هذه المقالة التي هي عظيمة ولا يتحرك المسلمون! ولا تكتب الجرائد الرسمية استنكاراً بالعناوين الكبيرة! هوان وضعف! يجعل الحر ذليلاً يتجرع الذل، أمرّ شيء على نفس الحر هو أن يظلم ولا يستطيع أن ينتصر، كما أنه أمر شيء أن يظلم رجل وهو بريء، ولا يستطيع أن يثبت أنه بريء، ومن كان بريئاً فظلم؛ سلوه عن المرارة التي يجدها في حلقه.
ولكن لا عليكم {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] نزلت هذه الآية بعد ثمان سنوات من الهجرة، لما ظهرت بوادر من بعض المسلمين بالتخاذل عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فبكتهم الله تبارك وتعالى، قال: إن لم تنصروه في هذا الموضع {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] ما نحتاج إليكم، ولم يكن واحد منكم موجوداً آنذاك وانتصر وهو ثاني اثنين، هذا إن لم تنصروه، فنحن نعلم أن ضعف المسلمين بسبب الكفر الذي مد عنقه ويده، وهو مطمئن أنه لن يقطع له عنق، ولن تبتر له يد.
هذا على المستوى العام الدولي، أما على مستوى المسلمين في خاصة أنفسهم فيوجد كُتَّاب الفتنة، ودعاة الضلال، الذين يوهنون عرى هذه الأمة، وكثير منهم لا أقول: منفسخ، لكن صلته بدينه ضعيفة، أي شبهة تنقله عن الحق الذي كان يعتقده؟! وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال في وصيته النافعة لـ كميل بن زياد: (ورجل تابع لأهل الحق ليس له بصيرة في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض).
هناك من الناس من يمشي مع كتيبة أهل الحق، لكن لا يعلمون هذا الحق علم اليقين، ولم تتذوقه قلوبهم، فإذا قابلت الواحد منهم أية شبهة ترك كتيبة أهل الحق وزاغ، لذلك كان واجب العلماء الربانيين أن يذودوا عن حمى الإسلام لأجل هؤلاء العوام، وأن يحوطوهم ويدفعوا شبه أهل الضلال والزيغ؛ حفظاً للذين يمشون مع أهل الحق لكن لا بصيرة لهم بهذا الحق، فيزيغ عن طريق الحق لأية شبهة مهما كانت سقيمة.(134/2)
الرد على شبهات زعيم الطرق الصوفية(134/3)
الرد على استحباب المبتدعة تسييد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة
يقول: (ومضى جمهور المحققين) هكذا، من هم جمهور المحققين؟ هو وأمثاله (على أنه يستحب أن يسيد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة والتشهد خلافاً لثالوث التكفير ابن تيمية: وابن القيم وابن عبد الوهاب) هكذا بالنص، يعني: وأنت ترفع الأذان تقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؛ لأن تسييده أدب، وترك تسييده قلة أدب، ووضع صورته على عنوان المقال، صورة رجل حليق، كأنه يرى أنه من الأدب -وهذا على أصله الفاسد الذي قعده- أن يخالف.
إذا أمرك الرسول بأمر ورأيت الأدب في خلاف ما أمر، اسلك سبيل الأدب، مع أنه يدحض باطله أيضاً -وهم جهلة بالسنة وبالأصول- يدحضه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي محذورة الصحيح الذي رواه النسائي وأبو داود وغيرهما (: الآذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة) فلو زدت (سيدنا) زاد عدد الأذان عن تسع عشرة كلمة، ومعلوم عند جماهير أهل الأصول أن الأرقام قطعية الدلالة، وليست ظنية؛ لأنه لا خلاف في مدلول الرقم.
فإذا سمعت قوله تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] لا تقل: هو يقصد تسعين جلدة، أو يقصد مائة وعشرين جلدة، أو يقصد ما تقوم به العقوبة قل أو كثر؛ لأن لفظ مائة عدد، ولا يختلف أحد من العباد في تأويله، وهذا يدل على أنه قطعي الدلالة، إذ لا يجوز الخلاف على مدلوله، بخلاف بعض الألفاظ التي تحتمل قولاً أو أكثر فتكون ظنية الدلالة، كقوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] فالمساجد هنا ظنية الدلالة؛ لأن معنى مسجد واقع بين معنيين كلاهما تحتمله أصول اللغة، فمن قال أن معنى المساجد هي مواضع الصلاة، يكون معنى (وأن المساجد) هنا جمع مسجد، ومن قال بأن المساجد هي أعضاء السجود؛ يكون المعنى أن هذه الأعضاء لا تسجد لغير الله، وأن السجود لغير الله لا يجوز.
وعلى ذلك تكون الألفاظ ظنية الدلالة لا تقطع بقول فيها وتخطئ الآخر، بخلاف الأعداد إذ لا خلاف بين أحد على تأويل العدد، فيكون قطعي الدلالة، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأذان تسع عشرة كلمة) فلو قلت: (سيدنا) زاد العدد عن تسعة عشرة، وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لمقطوع به دلالة، وليس في أذان بلال ولا في غيره، ولا استحب أحد من الذين تدور عليهم الفتيا بين المسلمين أن يقول الرجل: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، وإن كان هو سيد ولد آدم ولا فخر.
لكن ما علاقة هذا بذاك؟ يقول: (من أذن فسلك سبيل الأولين في الأذان؛ لا مانع، لكن لا يجوز له أن ينكر على من زاد سيدنا في الأذان لأنه سلك سلوك الأدب) هذه شبهة إبليسية، تعلمون من أين أخذها هذا الرجل؟ وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] فما من شبهة وضعت في الأرض إلا أوحى بها إبليس.(134/4)
الشبهة الأولى: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله
بعض المجلات التي هي على لسان حال بعض الطرق الصوفية كتب زعيم الطريقة الأولى مقالاً وافتتح به المجلة بعنوان (أيها القرنيون! هل فهمتم؟) والقرنيون نسبة إلى القرن، أي: أيها البهائم! أيها العجول! أيها الخرفان! هل فهمتم؟ ثم كتب عنواناً أصغر منه يقول فيه -فض الله فاه-: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله ثم قال: (إن العلماء المحققين يقولون: إن سلوك الأدب راجح على امتثال أمر الله، وحجتهم في ذلك هو فعل الصديق الأكبر رضي الله عنه لما كان يصلي بالمسلمين (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصفق الصحابة؛ فنظر أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم فرجع، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اثبت فرجع؛ فصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: يا أبا بكر! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهذا أبو بكر سلك سبيل الأدب وخالف الأمر.
هذه المقالة التي نتجوز في تسميتها شبهة؛ لأنها أضعف من ذلك، لكن هذه كفيلة بنقل جماهير كبيرة من العوام؛ لأن ظاهرها يدل على ما قال هذا المخذول، كأن الرجل عندما كتب ما علم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا، والله الذي لا إله غيره ما وقف أحد لأهل الحق إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا صافحهم أحد ولو كان من خطباء إياد إلا فضحوه، ولا قاتلهم مقاتل ولو كان من بقية قوم عاد إلا أكبوه على وجهه وبطحوه؛ لما لهم من الحجج البالغات، والأدلة النيرات، حق موجود مع أهله، والحق له قوة كامنة في ذاته كما قال تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] الحق قذيفة، قوته، في كونه حقاً، مهما صرح به ضعيف.
قد تجد أهل الباطل والضلال عندهم جميع الإمكانات التي ينشرون بها ضلالهم، وتجد أهل الحق ضعافاً لا يملكون شيئاً، ومع ذلك يصل الحق إلى الناس ولا يصل الباطل بالرغم من الإمكانات؛ لأن قوة الحق في كونه حقاً، (بل نقذف) كأن الحق قذيفة، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] وأصل الدمغ: هو شد الرأس حتى الدماغ، فإذا وصل الشج حتى الدماغ مات المشجوج أو هلك أو فني أو تلف، فإذا ما سلط الحق على الباطل زهق الباطل كما قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] زاهق: أي تالف.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أرسل جيشه يقاتل، فجاءه الرسول بعد انقضاء النهار بالبشرى -بشرى الفتح- فقال له عمر: (متى بدأتم القتال؟ قال -مثلاً-: بدأناه في نحو الظهيرة.
ومتى فتح لكم؟ قال -مثلاً-: فتحنا بعد العشاء.
فبكى، وقال: باطل يقف أمام الحق هذه المدة! ما هذا إلا شيء أحدثته أو أحدثتموه) لأن الباطل زاهق، ليس له نفس؛ لأنه لا يملك مقومات الحياة، فكيف يقف باطل أمام حق نصف نهار، هذه عقوبة بشيء أحدثته أو أحدثتموه.
يقول الصوفي: (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله).
هذه مقالة كافرة، يعني: أيها المريب إذا أمرك الله بأمر فرأيت الأدب على خلاف ما أمرك الله؛ خالف الأمر واسلك سبيل الأدب، أستغفر الله فإن ناقل الكفر ليس بكافر، كأن أمر الله خال من الأدب، كأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أدب، ثم يحتج لهذه -ونحن نزهق باطله أيضاً- بفعل أبي بكر، ولكن نسوق الواقعتين لتروا الفرق بينهما، ولا يساوي بينهما إلا من طمس الله على بصيرته فأعماه.
الواقعة التي احتج بها رواها الشيخان من حديث سهل بن سعد: (أنه كان خلاف أو قتال في بني عمرو بن عوف، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أصحابه إليهم، فأذن بلال، فلما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أبي بكر وقال: أقيم الصلاة؟ قال: نعم.
فأقام الصلاة، وتقدم أبو بكر وكبر تكبيرة الإحرام، وجعل يقول دعاء الاستفتاح، وفي أثناء قوله لدعاء الاستفتاح جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فصفق الصحابة، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته، فلما أكثروا من التصفيق؛ التفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يخترق الصفوف إلى الأمام، فرفع يديه فحمد الله، ثم نكص -أي: رجع- فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة معناها: اثبت.
لكنه رجع، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ثم قال له: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذه هي الواقعة، نحن نزهق باطل هذا الكاتب بواقعة أخرى لـ أبي بكر رضي الله عنه رواها الشيخان أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فكان يصلي لهم إماماً، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة -وهذا في أواخر عمره عليه الصلاة والسلام- وجد في نفسه خفة، فأمر العباس وآخر أن يحملاه، فحملاه ورجلاه تخطان على الأرض، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد صلى ركعة، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية، فأراد أبو بكر أن يرجع، فقال له: اثبت؛ فثبت.
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب أبي بكر) ما يقولون في هذه؟ كان أبو بكر سيئ الأدب عندما قال له: اثبت، فثبت؟ لو جاز أن نقول: ناسخ ومنسوخ؛ لقلنا: إن هذه الرواية ناسخة للأولى، لأن هذه كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أبو بكر وصلى إماماً، لكن ليس في المسألة ناسخ ولا منسوخ؛ لكن ما الذي جعل أبا بكر في المرة الأولى يرجع، وجعله في المرة الثانية يثبت ولا يرجع؟ في المرة الأولى لم يكن صلى شيئاً من الصلاة، فاستساغ أن يرجع، لكن في المرة الثانية كان قد أتى بركعة، فلم ير لنفسه جواز أن يرجع، إذ أنه قضى شطر الصلاة، هناك فرق بين الحالتين، بين هذه وتلك.
ثم إن الصحابي قد يفعل الشيء على خلاف ما يأمره به، ربما يكون في الأمر شيء أو أمر أو نحو ذلك، وهذا قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، قال: فلذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجع ولم يمتثل الأمر.
كان أبو بكر يظن في ذلك الوقت -مثلاً- أنه لا يجوز لأحد أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أن يرجع، فلهذا الظن لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، أو ربما كانت الأحكام لم تكن قد استقرت أو استقر كثير منها، يرى أن يرجع، ولم يكن عنده علم بأنه يجب أن يثبت، أو يستحب أن يثبت أو نحو ذلك؛ لذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم.
استمر الكاتب -وهو قد وضع هذه القاعدة ليتفلت من الإسلام كله؛ لأن الإسلام تكاليف، وأهل الزيغ والضلال لا يقدرون على تكاليف الإسلام، فيريد أن يفعل ما يمليه عليه هواه فيثبت هذه القاعدة- يقول: وعلى مقتضى القاعدة كذا.
نحن لم نسلم لك القاعدة أولاً، بل هدمناها، فلا تناقشني في الفرع فإن الأصل أعوج.(134/5)
كاتب عجوز يختم حياته بحوار مع الله بعنوان الشهيد إبليس
يعزون في بعض الكتب مناظرة لإبليس، رد عليها ابن القيم وغيره، أن إبليس قال: لم يعذبني ربي وأنا الذي وحدته؟ إن الملائكة أشركوا؛ لأنني أبيت أن أسجد إلا له -أمره أن يسجد لآدم، قال: أنا لا أسجد لآدم، أنا لا أسجد إلا لك- فأنا الذي وحدته، وهم سجدوا لآدم فأشركوا.
وإبليس أمر، فرأى أن الأدب في مخالفة الأمر، فكيف يعاقب؟ كأنه على مقتضى أصول هؤلاء إبليس بريء، وهذا ما يدندن به أصحاب الجبر، الذين ينسبون للقضاء والقدر كل الذنوب، زنا الله كتب علي ذلك، وكيف أفر مما كتب علي، وهذا مدندن حتى وصل إلى الأدباء الذين لا علاقة بينهم وبين دينهم.
كاتب عجوز كان قد ذهب إلى فرنسا وعمره آنذاك (83) عاماً، فلما رجع -وهذا نشر في جريدة الأهرام وقتها- سئل: ما الذي لفت نظرك في فرنسا؟ قال: الزواج الجماعي.
يا عجوز! يا ابن الثمانين الزواج الجماعي! ما أعجبك (الميراج) أو (البيجوه) أو أعجبك التقدم، إنما أعجبك الزواج الجماعي! عشرة رجال بنسوتهم، كل رجل يطوف على امرأة، وكل امرأة تطوف على رجل هذا هو الذي أعجبك! ثم ختم حياته بحوار مع الله على صفحات صحيفة الأهرام، كتب قصة بعنوان (الشهيد) -يقصد إبليس- قال: أراد إبليس يوماً أن يتوب، فذهب إلى شيخ الأزهر وقال: أريد أن أتوب.
فقال له شيخ الأزهر: حسناً، هذا شيء جميل، ولكن قال: ولكن ماذا؟ فحك شيخ الأزهر في لحيته، ثم قال في نفسه: ولكن إذا تاب هذا مم يستعيذ المؤمنون؟ يقولون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يوجد شيطان! الآيات التي تسب الشيطان وتلعنه ماذا نفعل بها؟ إذاً توبة الشيطان يترتب عليها حذف بعض آيات القرآن الكريم لا.
قال له: هذا الأمر ليس من اختصاصي، هناك جهات عليا.
فقال له: قد أمرت أن آتي رجال الدين، وأنت أكبر رأس موجود.
قال له: الأمر ليس من اختصاصي، أنا اختصاصي إعلاء مجد الأزهر.
فخرج إبليس يائساً، وصعد إلى فوق، فقابل جبريل عليه السلام.
انظر إلى الكذب والافتراء والقبح عندما يصوغ كلاماً على لسان جبريل عليه السلام! فيقول جبريل: ما نستطيع؛ لأنك إذا تبت هذه الأساطير التي يرددها الناس ماذا نفعل بها؟ فوصف ما قاله الله في قرآنه بلعن الشيطان بأنه أساطير! فلما حاور جبريل عليه السلام يئس من التوبة فنزل، وصرخ صرخةً وقال: إني شهيد.
فتجاوبت له المجرات والفلك والأشجار والبحار، ورددت صدى صوته، فكأن هذه الأجرام تعلم أن إبليس بريء.
فصور إبليس أنه بريء أراد أن يتوب فقالوا له: لا.
لقد لعناك، ومعنى أن ترجع في توبتك أن نرجع في لعننا لا.
فصور الله على أنه ظالم، وإبليس بريء أراد أن يتوب فأبوا أن يقبلوا توبته! كيف ينشر مثل هذا الكلام على مستوى المسلمين في بلدانهم وفي حياتهم، حتى على مستوى الأسرة؟! ما أخذوا هذه الشبهة إلا من إبليس (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله) بل نقول كما قال العلماء المحققون: الامتثال هو الأدب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(134/6)
شرح قاعدة: مذهب العامي مذهب مفتيه
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ليس من الصواب أن يُسكت عن هؤلاء بدعوى أن هذا الكلام لا يستحق الرد، بعض الناس يقول: لا تشغلوا أنفسكم بالرد على مثل هذا؛ لأنه واضح البطلان، فلا ترد عليه.
ويقال: إن نفوس بني آدم متنوعة، فمنهم النفس التي تقبل مثل هذا السقوط، بل أشد من هذا السقوط، هناك نفوس ضعيفة جداً تتمنى مثل هذا القول حتى تعلق عليه أخطاءها، كما يقول قائلهم: (اجعلها في رقبة عالم واطلع سالماً).
مع أنه قد يعلم في قرارة نفسه أنه باطل.
جادلني رجل في فوائد البنوك بعدما أفتى المفتي بجوازها خلافاً لجميع علماء المسلمين، فهناك من هو متأرجح، وهو يعلم في قرارة نفسه أن وضع الأموال في البنوك حرام، لكن يقول: أريد أن أحتفظ بها؛ لأني لو أخرجتها سأنفقها، وأنا أعيش على عائداتها، فأنا مضطر أن أضعها في البنك.
وهو كاذب في دعوى الاضطرار، فلما وجد أن المفتي أفتى بذلك قال: الحمد لله، (مذهب العامي مذهب مفتيه) فأنا تبع لهذا المفتي.
هذا لا يقبل منه مثل هذا الاعتذار عند الله عز وجل، فمتى يكون مذهب العامي مذهب مفتيه؟ إذا لم يكن للعامي رأي سابق يركن إلى هواه فيه، فالرجل يسأل عن مسألة يريد أن يعرف الجواب لينفذه، فحينئذ مذهبه مذهب مفتيه؛ لذلك قال العلماء: لا يجوز للعامي أن يدور بالسؤال على أكثر من مفتي؛ لأن العامي لا يستطيع أن يرجح هذا حق أو هذا باطل، فمعنى أنه يدور بالسؤال على أكثر من مفتي -وهذا يقول له: حلال، وهذا يقول له: حرام ماذا يفعل العامي؟ يخرج من القولين جميعاً- لو كان عنده أكثر من قول سيتبع هواه في بعض الأقوال، لذلك قالوا: (مذهبه مذهب مفتيه) ولا يكرر السؤال على أكثر من مفتي إلا إذا حاك في صدره شيء تجنباً للهوى.
فبعض الناس ينتظر فتوى كهذه، وبعض الناس على أحر من الجمر ينتظر من يفتي بحل الزنا، يريد أن يتنفس، وهناك بعض الناس ينتظر حل السرقة، أو من يفتي بعدم جواز قطع يد السارق، وقد وجد من قال بذلك، فنفوس العباد متنوعة.(134/7)
قصص وخرافات صوفية
هناك الكثير من القصص الخرافية التي يدندن حولها الصوفية بجميع طرقها والتي يتبعها ألوف العوام، وينسبون فيها أشياء من خصائص الله لمشايخهم، والله العظيم أنا قرأت كتاباً لوكيل كلية أصول الدين، وهو شيخ طريقة صوفية يقول: إن جده كان يحيي الموتى وقال: من أراد أن يتأكد فليذهب إلى قسم شرطة كذا بمحافظة الشرقية في الورقة الفلانية في الملف الفلاني، شخص قُتل، ثم عجزوا أن يعرفوا من القاتل، فجاء جدي رضي الله عنه فأحياه، فقال: قتلني فلان، ثم مات ما شاء الله! مكتوب في ملف للشرطة كأنه في الزبور قرآن نزل! نصدق نحن هؤلاء؟! لو أقسم على المصحف -وهو كلام الله عز وجل وصفة من صفاته- أنه رأى ذلك لأقسمت بالله عز وجل أنه كاذب، هذا شيء يقطع به.
وقد أقسم لي جماعة -وهم عند علماء الحديث يبلغون حد التواتر، أكثر من عشرة، لكن لا قيمة لاجتماعهم؛ لأن الناقل لابد له من الثقة والضبط، وهؤلاء لا نعرف عنهم شيئاً، لكنهم عشرة أو ثلاثون أو أربعون -يقولون: إن فلاناً أوصى أن يدفن في بلده، وكان يعيش في غير بلده، فلما مات اجتمع أهل الرأي من أهل بيته وقالوا: ليس هناك داع أن نتجشم نقل جثمانه إلى بلده، ندفنه هنا.
فخالفوا الأمر، فلما أرادوا أن يحملوا نعشه طار النعش، حتى إنهم جميعاً خلعوا أحذيتهم ليجروا خلفه، وذهب إلى قبر لم يكن فتحوه -هم فتحوه ليدفنوه هنا فحاولوا حمل النعش فتسمَّر في الأرض، وأبى هذا الميت أن يدفن إلا في هذا القبر، فلما لم يستطيعوا أن ينقلوه إلى آخر دفنوه في ذلك القبر، وأقسموا -جماعتهم- لي أنهم رأوه بعد العشاء يخرج من المقبرة في طبل وزمر يتجه إلى بلد أبيه نصدق هؤلاء وهم يقسمون بالله العظيم أنهم رأوا، ما أخبرهم أحد، ونحن نعلم أن الشياطين تلبس كثيراً، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (قد تحمل الشياطين بعض نعش الموتى ليفتتن به بعض الناس كنوع من الفتنة).
ولكن نقول: ضعوا أي نعش لأي ولي تزعمون في سيارة، فإن طار بها فأنتم صادقون، لماذا لا يطير إلا على أكتافكم؟ حدثني أخي -وكان قديماً أحد الذين يروجون مثل هذه الخرافات- قال: مات فلان وهو رجل مدفون وله قبة، فقال ابنه الخليفة: لا يحمل في المحمل فلان لماذا؟ لأن فلاناً هذا إذا حمل فإن النعش له يمشي، والذين كانوا يحملونه طبخوها بالليل، فقالوا: يا إخواننا! نحن عندما نمشي سنقع، لازم نجري، هو الذي يأخذنا.
فأراد ذلك الرجل أن يثبت كذب هذه الدعوى، فحمل في محمل سابق، فكان يمشي هكذا، هم يشدونه وهو يرجع القهقرى.
فقال ابنه الخليفة: لا يحمل في المحمل فلان.
لأنهم طبخوها.
هناك من يصدق هذه الترهات، بالله عليكم أهذه أقوى أم التي سقتها وأتيت لها بدليل من البخاري؟ كل باطل تقدر على أن ترده، فما اجتمع الباطل وصار كتلةً إلا نقطة بنقطة، وما السيل إلا من اجتماع القطر، ولا تستهن بصغيرة إن الجبال من الحصا.
رجل أراد أن يفسر قول الله تبارك وتعالى بالتفسير العصري، فقال في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] قال: هذا للذي ينظر بشهوة، أما إذا نظر رجل إلى جمال امرأة ليقول: سبحان الخالق العظيم، فلا جناح عليه ما شاء الله! يتأمل في جمال امرأة! يا أعمى! {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] كيف عميت عن نفسك وأنت مثلها في الخلق حتى تقول: إذا نظر وقال: الله الله! فهذا يؤجر، فهذا لا يدخل في الآية، ولا نستبعد أن يكون هناك من ركنوا إلى هذه وقالوا: والله الرجل هذا عالم، مفسر، بخلاف أولئك الجامدين الذين يعنتوننا، كيف لا نستمتع بهذا الجمال؟ وما الفرق بين المرأة وبين زهرة في البستان؟ إذا كنتم تحرمون النظر إلى المرأة فحرموا النظر إلى الزهور انظروا إلى القياس الفاسد! كالذي قال: الموسيقى حلال كما أنك تستمتع بصوت العصافير والبلابل، وإذا جاءت الريح على الشجر سمعت موسيقى، وهذه ليست حرام، فهذه أيضاً ليست حرام.
هذا قياس إبليس إذ قاس الطين على النار، وما علم أن الطين مادة الحياة، وأن النار أصل كل خراب، الطين هو النماء، وهو الخضرة، وهو الإنسان، والنار خراب ودمار وحر، فكيف يقيس هذا على ذاك؟! نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، اللهم ثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم آت هذه الأمة أمراً رشداً، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(134/8)
نداء الغرباء
الاغتراب عن الأوطان من أصعب ما يعايشه المرء في حياته، فإنه يكاد يجد له صاحباً، ولا يركن إلى أنيس.
ورغم قسوة هذه الغربة إلا أن غربة الدين أشد قسوة، فما بالك برجل غريب بين أهله لا يكاد يجد منهم موافقاً، ولا في طلب الحق مرافقاً، فليت شعري أي غربة يعيشها الدين وأهله في هذا الزمان.
لكن على غريب الدين أن يتأسى بمن سبقوه في الغربة الأولى؛ ليتخذ من سبيلهم طريقاً ومنهجاً، ويجعل من سيرتهم معيناً ومنهلاً.(135/1)
غربة الدين في انطلاقته الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه، عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وبلال وجابر، وجماعة من الصحابة تجاوزت عدتهم خمسة عشر صحابياً، فهو من الأحاديث المتواترة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن غربة المسلم تتجدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل وانقطاع، وقد عمت الأرض الوثنية والشرك، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد قال بعضهم لبعض: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7].
أقوام تعودوا على تعدد الآلهة، وعلى تعدد الأنداد لرب العالمين، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد، وهو أرفق وأوفق قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] وكالوا له ولأصحابه العذاب والتهم التي هم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده مع بعض المؤمنين به، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام، جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: من أرسلك؟ قال: الله أرسلني.
قلت: أرسلك بماذا؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان.
قال: ومن معك؟ قال: حر وعبد) إشارة إلى أبي بكر وبلال، والنبي صلى الله عليه وسلم الثالث، وعمرو بن عبسة هو الرابع، لذلك قال: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام).
وقال سعد بن أبي وقاص كما في البخاري: (لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام) وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: (لقد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم وامرأة وخمسة أعبد وأبي بكر).
كان الإسلام يعاني من قلة الأتباع؛ لأن المجتمع الجاهلي الذي تسود فيه الوثنية لا يأذن لمثل هذه الدعوة أن تنتشر؛ لأن فيها دعوة إلى إزالة الفوارق، وأن يصير أبو جهل كعبده الذي يبيعه في الأسواق سلعة، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكانوا يأنفون من ذلك، وكانوا إذا طافوا بالكعبة لا يأذنون للعبيد أن يطوفوا معهم، فكيف يقفون في صف واحد يدعون الله تبارك وتعالى، وما منعهم من قبول الإسلام إلا الكبر.
بدأ الإسلام غريباً في أهل الجاهلية، والذي يتأمل غربة الأصحاب الأوائل يرى أن غربتنا في هذه الأزمان هي ذات الغربة، ولكن هناك فرق بين الغرباء، فالغرباء الأوائل كانوا يستعلون بإيمانهم؛ لذلك لم يبالوا بالعذاب، فلم يفتنهم، وكانوا يحتسبون العذاب في الله تبارك وتعالى، بخلاف المتأخرين من الغرباء، فإن إيمانهم هش ضعيف، لذا فإنهم يفتتنون عندما ينزل بهم العذاب، وتسود وجوههم كما يسود المعدن غير الأصيل إذا تعرض للنار.
فالغربة مظاهرها واحدة، لكن شتان بين الغرباء.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغرباء قال: (هم الذين يُصلحون إذا فسد الناس) وضبطها بعضهم (هم الذين يَصلحون إذا فسد الناس).
كان أهل الإسلام بالنسبة لأهل الأديان غرباء، واليوم صار أهل السنة بالنسبة لأهل البدعة غرباء، لم يكن في مكة إلا كفر وإسلام، ولم يكن النفاق قد ظهر بعد، متى تعرف أن الإسلام صار له شوكة، وأنه ساد؟ إذا رأيت النفاق فاعلم أن للإسلام عزة، لكن إذا رأيت الكفر فاعلم أن الإسلام ضائع؛ لأن الكفر لا يظهر ولا يشرئب عنقه إلا في غياب الإسلام والسلطان الشرعي، فإذا عز الإسلام ظهر النفاق.
ولذلك لم يظهر النفاق في مكة، لم يكن ثم إلا كفر وإيمان، إنما ظهر النفاق في المدينة بعدما عز الإسلام وصارت له دولة؛ فلم يزل يعامل المنافق على الظاهر، والمنافق يريد أن يحفظ دمه، ويحفظ ماله، فيظهر الإسلام ويبطن الكفر، وليس لنا إلا الحكم بالظاهر.
أحد القضاة الذين أخذوا على أنفسهم أنهم لا يقضون في الحدود إلا بما شرع الله ورسوله، كان إذا جاءه زانٍ محصن حكم عليه بالرجم، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، في كتاب الله تبارك وتعالى، لكن آية الرجم نسخت، والنسخ -هو: رفع الحكم المتقدم- عند العلماء على نوعين: الأول: رفع النص مع بقاء الحكم، والثاني: بقاء النص مع رفع الحكم.
فمن النوع الأول: آية الرجم.
ثبت في مستدرك الحاكم -وأصله في صحيح البخاري - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كنا نقرأ فيما نقرأ من القرآن (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة، بما حظيا من اللذة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فهذه آية كانوا يقرءونها في القرآن الكريم، ثم رفعت الآية وبقي حكمها، وعلى هذا جميع أهل الإسلام، إلا من شذ من أهل البدعة، وأجمع جمهور الأصوليون على ذلك.
ومن النوع الثاني: يبقى النص ويرفع الحكم كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فهذه الآية فيها إظهار لفائدة الخمر؛ لكنها لا تساوي شيئاً بجانب الضرر، فلا يجوز لأحد أن يحتج بهذه الآية ويقول: أنا سأشرب الخمر للفائدة التي فيها؛ لأنها نسخت بآية المائدة.
فهذا القاضي جاءه مرة رجل زان، وكان المحامي الذي يدافع عنه حتى يخرجه ويحقق له البراءة يتمنى أن يحكم في القضية هذا القاضي؛ لأنه يعلم أنه إذا حكمت المحكمة عليه بالرجم -ولا أحد يطبق عليه حد الرجم- فمعنى حكمه هذا أنه سيخرج من السجن، فإذا حكمت المحكمة على فلان بالرجم، أي: بالقتل، مع عدم وجود سلطان شرعي يقيم حد الله تبارك وتعالى ويحفظ حدوده، فإن هذا الحكم بالموت يساوي البراءة في هذه الأزمان؛ لأننا نعيش غربة ثانية للدين.
فلما أعلن القاضي حكمه، والذي يقضي عليه بالرجم.
ضجت القاعة بالتصفيق، وعانقوا المجرم الأثيم لماذا؟ لأنه لا يوجد من يطبق حد الرجم، ولو حكم عليه بالسجن لسجن؛ لكنه لا يريد أن يبدل حكم الله، وهو إذا حكم بحكم الله كان الحكم بمثابة البراءة لهذا المجرم.
يا للغربة! لا يوجد سلطان يحمي حدود الله في الأرض، من سب الله سجن ستة أشهر، ولم ينفذ هذا القانون ساعة، ولو سب الذات الملكية يسجن في الحال دون محاكمة.(135/2)
غربة الدين في هذا الزمان
غربة أهل الدين في هذه الأزمنة المتأخرة، مع عدم وجود النصير، ومع قلة الأتباع، ومع قلة الصبر؛ يجعل الغربة مضاعفة.
(الذين يُصلحون إذا فسد الناس) أو (الذين يَصلحون إذا فسد الناس) يدل على انتشار الفساد العريض، مع قلة الداعين إلى السنة، حتى يصير الواحد منهم أغرب من فرس دهماء في غلس، أرأيت إلى الفرس السوداء شديدة السواد إذا وقفت في ظلمة الليل البهيم أتستطيع أن تبصرها؟ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40].
إن الغرباء الأولين كانوا يستعلون بإيمانهم لذلك كانوا يستهونون العذاب، تخلل الإيمان ووصل إلى شغاف قلوبهم، وما تساوي الدنيا إذا خرجت روحك إلى النعيم، كأنها حبيسة في زجاجة، فإذا خرجت من عنقها خرجت إلى الفضاء الواسع، فمن الذي يرضى بالسجن؟ فالدنيا سجن المؤمن، إذا خرج منها إلى اللذة والنعيم المقيم كان ذلك أعز أمانيه، لذلك كان يتمنى أن يخرج من الدنيا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (اعلموا أنكم لا تلاقون ربكم إلا إذا متم) إذاً فالموت عند هؤلاء أمنية؛ لأنه لا يستطيع أن يلقى الله إلا إذا مات، فإذا قتله المشركون قال كما قال الأولون: (فزت ورب الكعبة) ما كانوا يرتعدون للموت؛ لذلك كانوا يقدمون على نصر هذا الدين بعد تحقيقه في الواقع.
لماذا لا يشعر المسلمون الآن بلذة الدين؟ لأنه لا يراه حساً، لا يراه حقيقة واقعة، لا يمارسه، إنما هو نصوص نظرية نصوص صارت أثراً.
إن أصول الإسلام حبيسة في دور الكتب، فما طبع من الكتب في تفسير القرآن وتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم يغطي الأرض، فلو أنك بسطت الكتب المطبوعة في تفسير كلام الله وكلام رسوله لملأت الأرض بالكتب، وأقول: إن ما لم يطبع من الكتب يساوي ما طبع مرتين أو أكثر، وهي حبيسة الخزانات العامة أو الخاصة، وكأنها تحف في متحف، وهذا كلام الله ورسوله، تفسيره وبيان مراده، نصوص انعزل المسلمون عنها، لم يشعروا بحلاوتها؛ لأنهم لم ينقلوها إلى الواقع، بخلاف الغرباء الأولين، كان الواحد منهم إذا قرأ الآية لم يتجاوزها حتى يعمل بها، لذلك قل فيهم من كان يحفظ القرآن كله، فكان من يحفظ القرآن كله من الصحابة قلة قليلة.
ونحن فينا -بحمد الله- من يحفظ القرآن كله، ولكن أقلهم من يعمل به، يقرءونه ولا يدرون معانيه، وبعضهم يقرؤه ويحرف الكلم عن مواضعه، كالذي يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع ألف جنيه فيقال له: لم هذا السعر الغالي؟! يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] فماذا نفعل في هؤلاء؟! إن هؤلاء يحتاجون إلى عمر، فمثل هذا يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] ولم ينزل الله الآية لذلك، فهو يحرف الكلم عن مواضعه، فضلاً عن الباطنية أعداء الدين، الذين يحرفون الكلام تحريفاً هشاً لا يقبله العقل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] يقولون: البقرة عائشة، وهل يوجد في أي قاموس من قواميس اللغة أن البقرة من معانيها عائشة؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] أبو بكر {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] عمر {وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] عثمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] علي.
ما هذا الجهل؟! لم يقفوا عند عدم فهم كلام الله فحسب، بل حرفوه.
هذا أوان الغربة الثانية إن الغريب له استكانة مذنب وخضوع ذي دين وذل مريب يقف كأنه مذنب بلا ذنب، ويضع رأسه في الأرض، وحقه أن يعز، وحقه أن يرفع رأسه، لكن لضعف تربيته وتنشئته لا يستطيع أن يستعلي بالإيمان، بين قوم تسودهم بعض صفات الجاهلية، وليست الجاهلية فترة زمنية قبل الإسلام، إن الجاهلية مذهب وخلق، فتوجد بعض صفات أهل الجاهلية في أهل الإسلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر (إنك امرؤ فيك جاهلية) وكان ذلك في أوج عز الإسلام، مما يدل على أن المرء قد يجتمع فيه جاهلية وإسلام، ويجتمع فيه كفر وإيمان، ونفاق وإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وباتفاق العلماء أن من يفعل ذلك ليس بكافر، بل هو مسلم.
ليس من يخلف وعده يكون منافقاً في الدرك الأسفل من النار لا، إنما هو مسلم فيه شعبة من النفاق، فهذا إسلام ونفاق اجتمعا في عبد واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهناك العشرات من المسلمين بل الملايين يحلفون بالنبي والولي، ومن يحلف برأس أبيه، ومن يحلف بشرف فلان، وهذا كله شرك وكفر؛ لكنه كفر دون كفر ولا يخرج من الملة، فهذا كفر اجتمع مع إسلام في رجل واحد، فإن الجاهلية توجد في العبد المسلم؛ لأن الجاهلية خلق وليست فترة زمنية قبل الإسلام.(135/3)
غربة الدين في الوقت الحاضر متمثلة في غربة أهل السنة
إن غربة الإسلام غربة خاصة، والسني في هذه الأيام غريب في أهله، بل يقول بعض الأبناء -وكثيراً ما شكي إلينا ذلك، ونسأل في مناسبات متعددة-: - أبي حلف عليّ: إنك إذا صليت في مسجد سني فأمك طالق ماذا أفعل؟ - أبي حلف عليّ: إذا أطلقت لحيتك فأمك طالق، أو يخرجني من البيت ماذا أفعل؟ إن التطرف في الدين خير من التطرف في الدنيا، مع أن كلاهما مذموم، لكن الذي يتطرف في الدين أبعد عن الانحراف والفساد العريض من الذي يتطرف في الدنيا، فإذا خفت على ولدك أن يدمن (الهيروين) فدعه في أحضان أهل السنة والجماعة.
إن من الغربة أنك إذا صدعت بكلمة الحق أوخذت على ذلك، وقيل لك: عندنا أوامر ألا تتكلم في هذا الأمر، هذا على المستوى الخاص وعلى المستوى العام خذ مثلاً واحداً: وهو ما حدث في فرنسا في العام الماضي، فرنسا بلد المجون والدعارة التي اتسعت لكل شيء؛ للـ (ميني جيب) و (الميكروجيب) والعراة، لما لبست بنتان صغيرتان الحجاب قامت قيامة الفرنسيين، حتى اضطر رئيس الدولة وامرأته أن يتكلما في هذا الأمر شخصياً بنت تلبس الحجاب فتهتز دولة كفرنسا التي تعد بنت الكنيسة البكر، والداعية إلى النصرانية، تهتز كلها وهي دولة عظمى لحجاب فتاة؟! وقد اتسعت للـ (ميني جيب) و (الميكروجيب)، واضطر رئيس الدولة أن يدلي ببيان في ذلك.
إنهم رأوا أن هذا الحجاب ليس مجرد قماش يوضع على الرأس، إن هذا رمز، كما أن هذه اللحية رمز، أما الذين يهونون من الهدي الظاهر فيقولون: (ربنا رب القلوب)، نعم هو رب القلوب، ولكن هو الذي أمرك بإصلاح ظاهرك كما أمرك بإصلاح باطنك، فلم فرقت؟ إن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن.
ليس الحجاب قماشاً يوضع على الرأس، إنه رمز، والبنت التي لبست الحجاب مغربية، ومما يندى له الجبين وتدمع له العين أن ملك المغرب نفسه أيضاً يتدخل ويأمر والد هذه البنت أن يمنعها من لبس الحجاب، رئيس دولة عظمى يتدخل!! ورئيس الدولة التي منها هذه البنت يتدخل أيضاً!! لماذا رؤساء الدول يتدخلون في هذه المسائل؟ ما عهدناهم يتدخلون! إن سلمان رشدي الأفاك الأثيم الكافر -لأن توبة الزنديق لا تقبل عند جميع العلماء- الذي سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم أمهات المؤمنين بالدعارة، وأفتى الخميني بقتله، فأول ما أفتت إيران باستباحة دمه غضبت إنجلترا، وسحبت السفير من إيران، رغم أنه يعتبر رجلاً عادياً لماذا سحبتم السفير؟ قالوا: هذا رجل ألف كتاباً مثلما يؤلف الكثيرون.
أيسب رسول الإسلام، وتتهم نساؤه بالدعارة ولا صريخ؟! إن بابا روما لو سجن لقامت الدنيا.
في (مدرسة المشاغبين) أتوا برجل له عمامة ويلبس الجبة والقفطان وهو يرقص، ولا يجرءون على أن يضعوا مكانه قسيساً هذه غربة ما لها من دافع! ماذا يفعل المسلمون الضعاف أمام هذه الغربة على المستوى العام على مستوى الدول، وعلى المستوى الخاص؟! (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) أيها الغرباء في الغربة الثانية! طوبى لكم، طوبى لكم وحسن مآب، طوبى للغرباء (الذين يصلحون إذا فسد الناس) لا تيئس من روح الله، ولا يحملنك كثرة المخالفين على اليأس من إيصال الحق إلى القلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كانوا يدعون الواحد بعد الواحد، لكن الواحد منهم كان يزن أمة ونحن غثاء كغثاء السيل، (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن.
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت).
نسأل الله تبارك وتعالى أن يلطف بهؤلاء الغرباء، وأن يمدهم بروح منه، وأن يعزهم، وأن يعز الحق بهم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(135/4)
عدم تمكين المصلحين سبب في غربة الدين
إننا نعيش الآن غربة شديدة محكمة، والذي ضاعف منها ضعفنا أيها الغرباء، فنحن ضعاف لا نتحمل العذاب والفتن، لاسيما مع وجود الرءوس الجهلة الذين يفتون الناس بغير علم، ويسمع لهم، ويمكنون من أجهزة الإعلام.
ماذا يفعل المخلصون؟ إن أكثر خطيب الآن في مصر يحضر له الناس في خطبة الجمعة لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف.
فهب أن نصيحته المخلصة وصلت إليهم، كم يكون قد استمع لها؟ عشرة آلاف رجل وامرأة.
أثبتت الإحصائيات الرسمية في أوائل الثمانينات أن العدد الثابت الذي يجلس لمشاهدة جهاز التلفزيون عشرة ملايين إنسان، ويزيد هذا العدد في المساء إلى ثلاثين أو أربعين مليوناً، لكن العدد الثابت عشرة ملايين إنسان، فإذا خرج عليهم جاهل يقول لهم: إن الموسيقى حلال؛ بدليل: أن الرياح إذا أتت على الشجر، واصطدمت بالفروع أصدرت أصواتاً تشبه العزف، وإن الطيور لتغرد، وإنك لتقرأ القرآن وقد أمرت بالتغني به، وهذا يدل على أن الموسيقى حلال وهذا يصادف هوى الجماهير التي تريد أن تثبت لنفسها أنها مسلمة من غير أن تخرج من أهوائها.
رجل يأكل الربا وإذا قلت له: لا يجوز لك أن تأكل الربا وعليك أن تترك كل هذه الملايين، عز عليه ذلك، فإذا قلت له: فوائد البنوك حلال، ولا شيء في ذلك، شعر ببرد الرضا؛ لأنه صار مسلماً موحداً مع وجود عدة ملايين تدخل في جيبه، ليس مستعداً أن يضحي بها؛ لذلك إذا قلت لصاحب الغناء: أرح أعصابك بموسيقى كلاسيكية، أو بموسيقى رومانسية، وأنت بذلك لست مخالفاً لدينك؛ شعر بالرضا، فإذا سمع بعضنا يقول له: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف) ولم يصادف ذلك هوى نفسه قال: أنا آخذ بفتوى الأول، فعندما تناقش أولئك: ما الذي دعاكم إلى إصدار مثل هذه الفتوى؟ قالوا لك: إن الفقه يتطور إن الفقه يتجدد.
فنعوذ بالله من أولئك الذين سماهم بعض الأذكياء بـ (المجددينات)! قال له سائله: وما المجددينات؟ وأي جمع هذا؟ ليس بجمع مذكر (مجددون)، ولا بجمع مؤنث (مجددات) أي جمع هذا؟! فأجابه إجابة أبدع من التسمية، وقال له: هذا (جمع مخنث سالم)، فأقسم له سائله أن اللغة العربية في أشد الحاجة لهذا الجمع، خصوصاً في هذه الأيام.
ماذا نفعل في أولئك (المجددينات) الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (يحدثونكم بما لا تعرفون وآباؤكم) لا نعرف هذا في آبائنا الأولين، غربة استحكمت على الغرباء مع ضعف إيمانهم وجهلهم، وكثرة الفتن عليهم، فلا شك أنهم يختلفون عن الغرباء الأولين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(135/5)
استغلال منابر الإعلام في نشر الفتاوى المتضاربة مما يفقد العامة الثقة في العلماء
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الذي يفرق بين الغرباء الأولين وبيننا في الغربة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصدر الضوء بالنسبة للغرباء.
لقد شكا كثير من العلماء من تولية منصب الإفتاء لرجل ليس ضليعاً في الفتوى؛ لأن الأمر -كما قال الأولون-: (إذا زل العالم زل بزلته عالَم)، فهذا المفتي لابد أن يكون عالماً متيناً، بمعنى أنه يجب عليه أن يغضب لله ورسوله، لكن يبقى يفتي الناس، ويرى المنكر ولا يتمعر وجهه؛ فهذا يفقد مصداقيته.
وعندما يفتي -مثلاً- بأن فوائد البنوك حلال، وتقوم الصحف الرسمية والمجلات بنشر هذا الرأي، وبتمجيد المفتي، حتى إن مجلة (أكتوبر) جعلته الرجل الأول في استفتاء عام (89م) كلاعبي الكرة والممثلين، ولا يستغرب ذلك؛ لأن الجماهير العريضة كانت تنتظر فتوى تحليل الربا.
وفي نفس الوقت يفتي -وقد أصاب في ذلك- أنه لا يجوز أن تقام مسابقات ملكات الجمال؛ لأن هذا يعتبر عهراً رسمياً، امرأة تأتي ليقيسون أردافها ووسطها ونهديها بالمقاس، ويعرضون العورات على مرأى ومسمع من الناس، وفي الفنادق الكبرى، ولها تصريح رسمي، وعندما يقولون لهم: هذا لا يجوز؛ لأن هذا حرام، فلا يستمعون لهم، ولا يقيمون لهم وزناً.
يهللون للأولى ويتعامون عن الثانية إن المرء ليفقد ثقته في أمثال أولئك.
وجاء آخر وأول ما تولى منصب الإفتاء قال: إن اتحاد المطالع هو الراجح، وإذا رأينا الهلال في بلد مجاور لنا يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم.
وبعد ذلك جاء في رمضان الثاني وقال: اختلاف المطالع هو الأصل، ولا عبرة باتحاد المطالع، فإذا رئي في بلد يشترك معنا في جزء من الليل فلا يجب علينا أن نأخذ برؤيتهم، ونشر هذا القول في (الأهرام).
فجاء هذا العام وقال: إن اتحاد المطالع هو الأفضل، وهو الراجح، فإذا رُئي الهلال في بلد يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم.
فهل نبدل الفتاوى كما نبدل النعال؟! فهذا يدل على أنه لا يوجد تأصيل علمي؛ لأن المرء إذا اعتمد على اجتهاده في فتوى، فهو يفتي أولاً عن دليل راجح له بعد بحث طويل مقنع، فمثل هذا لا يتحول عن اجتهاده بسهولة، لاسيما والأدلة مبسوطة في مواضعها، فما الذي خفي عليه وعلمه حتى يبدل فتواه ثلاث مرات في سنتين؟! فما بالك بالذين يضلون الناس عن عمد أو عن جهل؟! مثال آخر: جماهير العلماء كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري وابن وهب وغيرهم من العلماء: أنه لا يجوز اجتماع قبر ومسجد في دين الإسلام، ولا يجوز بناء المساجد على القبور.
ومع ذلك يخرج علينا رجل مشبوه مجيباً على سؤال نصه: هل اتخاذ المساجد على القبور شرك؟ قال: ومن قال هذا؟ ليس بشرك.
وحتى يثبت عملياً أنه ليس بشرك عقد مجلسه الدائم في مسجد الحسين، فانظر إلى هذه الغربة التي يعيشها الحق وأهله! إذ يرى الذين يدخلون ويقبلون الأعتاب، ويسألون المدد من غير الله تبارك وتعالى، ويرى شرطياً يقف حتى ينظم المرور من اليمين إلى الشمال، كما لو كانوا يطوفون بالبيت العتيق ولا ينكر، ولا تهتز له شعرة، وهذا دليل عند العوام والطغام أن القبر يجوز أن يجتمع مع المسجد، وأن دعاء الأموات ليس بشرك! فماذا يفعل الدعاة المصلحون؟ فهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم لوكان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث تكسرت النصال على النصال، وضعفت أبدان الدعاة عن تحمل العذاب، وتحمل مخالفة الجماهير العريضة لهم؛ حتى صار الواحد منهم كالغريب في أهله.(135/6)
التقيد بالمنهج واقتفاء هدي النبي سبب لتمكين الصالحين وانتشار الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أشرنا إشارة عابرة إلى أن الغربة تنقسم إلى قسمين، وهي: غربة خاصة، وغربة عامة.
فأما بالنسبة للغربة الخاصة فهي: أن يكون الرجل غريباً في خاصة أهله أو غريباً في قومه، ذلك أن الجماهير العريضة إذا ابتعدت عن قبس الضياء أوغلت في الظلام، وهذا أمر حسي مشاهد، ننقله إلى الأمر المعنوي الآخر لو أن هناك مصباحاً، وله ضوء قوي، وكلما اقتربت من المصباح كلما شعرت ببهاء ضوئه ولمعانه، وكلما ابتعدت عن هذا المصباح شعرت أن الضوء يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى تدخل في ظلام حالك لا يخالطه نور، هذا هو المثل الحسي الذي نشعر به جميعاً ونراه.
الأمر المعنوي الذي يضرب له هذا المثل هو الهدى والضلال، فبقدر قربك من مصدر الضوء صلى الله عليه وآله وسلم بما أتانا من قرآن وسنة؛ بقدر ما يكون إحساسك بنور الإسلام وبهائه ولامع نوره، وبقدر بعدك عنه وانسلاخك منه؛ بقدر إيغالك في الظلام.
لا تظن أن ذلك الظلام الدامس الذي يشكو منه الغرباء في المرحلة الثانية يدوم، لن يدوم إن شاء الله مع مراجعة الضوء الأول.
إن ظلام الليل كلما اشتد آذن بمولد الفجر، ولذلك ترى أحلك فترات الليل سواداً وظلاماً هي التي تسبق نور الفجر، فإذا راجعت الضياء تخلصت من هذه الظلمات التي يعبر الله تبارك وتعالى عنها بلفظ الجمع في القرآن الكريم، ويعبر عن لفظ النور بالإفراد {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] لأن مصدر النور واحد، بخلاف مصادر الظلمات، فإنها متعددة: ظلمة الريبة، وظلمة الشك، وظلمة الكفر، وظلمة الأهواء، إلى آخر هذه الظلمات، فهي ظلمات تأتيك من أشياء متعددة.
وقد ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد وصححه الحاكم في المستدرك (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خط خطاً طويلاً على الأرض، وخط خطوطاً صغيرة عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا طريق الله -طريق واحد فقط- وهذه طرق الشياطين-ظلمات متعددة- على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فأنت تعترضك مصادر كثيرة من الظلمات، إن فاتك مصدر نهشك الآخر، وإن فاتك الثاني أدركك الثالث، ولا عصمة لك من هذه المصادر إلا بأن تعتصم بالأمر الأول.
نحن نرى الآباء الآن لا يملكون التأثير على أولادهم جاءني سائل يقول: ابنتي لا تريد أن ترتدي الحجاب، وأنا لا أريد أن أضغط عليها، أريدها أن تلبس الحجاب عن اقتناع تقتنع بماذا أيها المسكين؟ تقتنع بفرض الله عليها، وليس لها خيار في أن تقبل أو أن ترد، إن كانت من الذين آمنوا، ومن الذين أسلموا لله؛ ليس لها خيار، وليس لك خيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فهو لا يريد إجبارها حتى تقتنع هب أنها لم تقتنع؟ أين يذهب حكم الله؟ إذا هي لم تقتنع بحكم الله تقتنع بمن؟ لقد خلعت نفسها من دينها بهذا القول وهي لا تدري.
ويقول آخر: أنا لا أريد أن ألزم ابني كي يصلي؛ لأني لو ألزمته عليه حتى يصلي فسيصلي أمامي ولن يصلي من ورائي، ولو كانت المسألة بالإقناع فإنه لن يتركها.
بمثل هذا القول عرَّضنا حقائق الدين الثابتة للضياع؛ لأننا أخضعناها للمناقشات.
الغرباء الأولون كانوا يعتصمون بتنفيذ أمر الله لتجاوز مرحلة الغربة؛ لذلك مكن الله لهم.
نسأل الله ألا يمكن للعصاة في بلادنا؛ لأنهم عباد شهواتهم، تصور لو أن رجلاً يصلي هل يمكن أن يصدر أمراً باعتقال المصلين في صلاة الفجر؟! وهل يمكن أن يصدر أمراً بإلقاء القنابل المسيلة للدموع في المساجد؟! لو أنه يعظم حرمات الله ويعظم شعائر الله لا، نعوذ بالله أن يتمكن أولئك، إننا نريد أن يتمكن المؤمنون، لذلك هؤلاء لن يمكنوا حتى يراجعوا الأمر الأول؛ ليكونوا بذلك خليقين بالخلافة، {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] رأوا أن من استحقاقهم -وهم الملائكة- {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فرأوا أن استحقاق الخلافة تكون للمسبح والمقدس، وطالما ضاع التسبيح والتقديس لا تكون الخلافة.
لذلك يجب على المسلمين أن يراجعوا الأمر الأول، ولا يكن بأسهم بينهم على هذا النحو الذي نراه، إننا نرى جماعة يحاربون بعضهم في الخلاف الفرعي، ويمقتون بعضهم في الخلاف الفرعي أشد ما يمقتون اليهود والنصارى، والله العظيم! إن بعض المسلمين بسبب الخلاف في بعض المسائل الفرعية يكره أن يلقى أخاه، وإذا قابل النصراني قال له: صباح الخير، وبش في وجهه، وإذا رأى أخاه الذي اختلف معه في مسألة فرعية أخذ طريقاً آخر! وما ذاك إلا لضعف الولاء للإسلام والمسلمين؛ كل هذا فرع عن الإيغال في الظلمات؛ والبعد عن الأمر الأول.
ترى مفتياً من المفتين يستحسن البدع لما يرى في مقابلها من الكفر الصريح، لو سئل عن رجل يذكر الله -مثلاً- أو يعبده بطريقة مبتدعة، يقول لك: أليس هذا أفضل ممن يسهر في شارع الهرم؟ صاروا يقارنون أهل البدعة بأهل الكفر؛ فرأوا أن أهل البدعة على خير عظيم، وصارت الجماهير تمشي في ركاب أهل البدعة، وضاع أهل السنة.
ولا ننكر أن بعض الداعين إلى السنة جاهل بأساليب الدعوة وطرقها، فانظر -يرحمك الله- إلى البلاء يتكاثر حتى من الغرباء أنفسهم! بعض الداعين إلى السنة جاهل بأساليب الدعوة، لا يراعي حال المخاطب، نرى -مثلاً- رجلاً يسيد النبي صلى الله عليه وسلم -وهو سيدنا، وسيد ولد آدم- في الأذان، وفي الإقامة والتشهد، (أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله) فإذا قيل له: لا يجوز لك أن تسيده في هذه المواضع.
قال: يكرهون النبي يكرهون النبي؟! وما سبب غربتنا إلا محبته، هذا هو بيت القصيد، لو أراد الغرباء الدنيا لحازوها أكثر من طلابها، لكن سبب غربتهم محبته؛ والدعاء إلى سنته.
وهل يبغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كافر؟ واستدل بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الحديث المشهور بين الناس (من حج ولم يزرني فقد جفاني) كذب وموضوع، وبهت وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيارة ليست من مناسك الحج، ولو حج رجل ولم يزر النبي صلى الله عليه وسلم لعارض سفر أو مرض أو نحوه صح حجه بالاتفاق، قال: لأن الزيارة ليست فرضاً ولا ركناً ولا شرطاً في الحج، وجفوته صلى الله عليه وآله وسلم كفر فكيف يكفر من لا يفعل شيئاً مفروضاً عليه؟! فإذا قيل له: لا تقل سيدنا، قال: هؤلاء لا يحبون النبي؛ لأنهم وهابيون ونبزوهم بما يفتخر المرء به؛ لكن الأمر كما قال القائل الأول معاتباً معزياً لنفسه: إذا محاسني اللاتي أدل بها عدت عيوباً فقل لي كيف أعتذر إذا لمتني على التوحيد فقل لي كيف أعتذر؟ إذا اتهمتني أنني مستقيم كيف أعتذر؟! إن المنحرف إذا اتهم بانحرافه يعتذر بأنه سوف يراجع الطهارة ويراجع الصلاة، لكن إذا قيل للصالحين: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ماذا يفعل آل لوط؟ وكيف يعتذرون؟ إذا محاسني اللاتي أدل بها عدت عيوباً فقل لي كيف أعتذر فالرجل الصالح عندما ينبز بأنه متبع لأمر النبي عليه الصلاة والسلام فعليه أن يفخر بذلك ولا يبحث له عن أعذار يعتذر بها؛ لأنه في نهاية الأمر على الحق، وخصومه على الباطل، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.(135/7)
الرحمن فاسأل به خبيراً
السمة الظاهرة للقرآن المكي أنه يخاطب القلب، ومحوره الأساسي تعريف الناس بربهم، وبنعمه عليهم، وأنه هو المستحق للعبادة دون غيره مما يعبدونه من أصنام وأوثان ومعبودات باطلة لا تملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وسورة الفرقان نموذج للقرآن المكي، ففي كثير من آياتها تذكير للعباد بنعم ربهم عليهم، وأنهم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر والعرفان وإنما قابلوها بالجحود والنكران.(136/1)
من سمات القرآن المكي التذكير بالنعم
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سورة الفرقان سورة مكية، وللقرآن المكي سمة ظاهرة، وهي: أنه يخاطب القلب، روى البخاري في صحيحه من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: (دخلت المدينة في فداء أسارى بدر -وكان جبير إذ ذاك كافراً- فوافى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة المغرب، فذهب جبير إلى المسجد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور.
قال جبير: حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37]، قال: كاد قلبي أن يطير) لما سمع هذه الآيات.
السمة الظاهرة للقرآن المكي أنه يخاطب القلب، يعرف الناس بالله عز وجل، وأنه المنعم والمتفضل، فهو أهل أن يعبد دون غيره.
كما قال تبارك وتعالى في سورة النمل، وهي سورة مكية أيضاً: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:59 - 64] الذي فعل كل ذلك أولى أن يعبد ولا يعبد سواه.
دخل هشام بن عبد الملك المسجد النبوي فوجد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما جالساً في المسجد.
فقال له: (ألك حاجة؟ وهشام أمير المؤمنين، وهو الذي يقول لـ سالم بن عبد الله بن عمر في المسجد النبوي: ألك حاجة؟) فقال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: إني أستحيي أن أسأل غير الله وأنا في بيته، فلما خرج من المسجد تبعه هشام، وقال له: الآن خرجت من المسجد ألك حاجة؟ قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟! واعتز بالله عز وجل؛ فالذي يملك الدنيا والآخرة أولى أن يعبد.(136/2)
أواخر سورة الفرقان نموذج للتذكير بالنعم
في أواخر سورة الفرقان هذا النمط من تذكير العباد بالنعم، ثم ذكر ما يفعله العباد في مقابل هذه النعم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:43 - 44].
هناك نمط من البشر الكلب أفضل منه؛ فهو لا يستحق الحياة، وهذه شهادة الله عز وجل عليهم، وإذا جرح الله عز وجل عبداً فلن تجد له معدلاً أبداً: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
إذا جرح الله عبداً وسخط عليه لا يرفعه أحد: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أي: جعل هواه إلهاً، كلما أعجبه شيء فعله، لا يصدر إلا عن هوى نفسه، هذا هو الذي جعل إلهه هواه.
إن الله عز وجل علمنا وأدبنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى تؤمروا، هذا هو معنى قوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله).
من فعل ما لم يؤمر به فقد تقدم بفعله بين يدي الله ورسوله، ومن امتثل أمراً غير أمر الله عز وجل، فقد تقدم بين يدي الله ورسوله.
والذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله من المسلمين هم اليوم بالألوف المؤلفة يسمعون القول ولا يمتثلونه.
ربا البنوك أجمع العلماء على أنه حرام، وهكذا اتفقت كلمة المجامع العلمية على أنه حرام، وشذ رجل اتهموه بالجهل في أصول الشريعة، وقالوا: إنه لا يفقه شيئاً في الأصول! وكتبهم موجودة.
فقال: ربا البنوك حلال، فماذا كان رد فعل العامة تجاه هذه الفتوى؟ مذهب العامة أنه إذا قام رجل فقال قولاً يخالف المعهود عندهم يقولون له: أأنت أهدى أم كل هؤلاء؟ ويستدلون على الحق بالكثرة، وهذا ليس بدليل صحيح، فإن الله عز وجل وصم الكثرة بالضلال، قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75].
والحق مع القلة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، فلا تستدل على الحق بالكثرة، فإن الكثرة لم تكن مظهراً من مظاهر الحق أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).
فيقولون للرجل المتفرد -ولو كان معه الحق-: أأنت على حق وكل هؤلاء على باطل؟! وأنا أدين هذا العامي بمذهبه في هذه المسألة، وأقول له: أكل المجامع العلمية على ضلال وهذا وحده على حق؟! أين مذهبك؟! مذهبك أن الحق مع الكثرة، فلماذا خالفت الكثرة هنا، واتبعت رأي الفرد الشاذ؟! إنه الهوى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فلأن البنك يأتي له بفائدة ومكسب اتبع قول من يبيحه له.
فكلما هوي شيئاً اتخذه إلهاً، وعبده من دون الله عز وجل، قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
لقد اتهموا الحمار بالغباء، والحمار ذكي! لو أن الحمار مشى في طريق مرتين ألفه ولم يضل، فهذا الحمار المجني عليه أذكى من كثير من بني آدم، فإن ثلثي الكرة الأرضية يكفرون بالله العظيم.
{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
ثم شرع الله عز وجل يعدد نعمه على العباد، ويعدد ما فعله لهم، ثم ذكر النتيجة المحزنة بعد إنهاء تعداد النعم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:45 - 54].
تأمل! (وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي) أربع مرات، ضمير الرفع المنفصل هو يأتي لتأكيد التفرد، أي: هو الذي فعل لا غيره، لم يشاركه أحد في كل هذه النعم، فهو الذي فعل كذا وكذا وكذا وكذا، ما هي النتيجة؟ قال عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] فهذا هو رد الجميل، وهذه هي النتيجة؟ بعد تعداد كل تلك النعم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم! فهذا خطاب للقلب، وأي رجل عنده قلب يسمع هذا البيان، فإنه يرجع إلى الله عز وجل، ويخلع الأنداد من دون الله عز وجل؛ لأنه هو الذي تفرد بالعبادة، وهذه من طريقة القرآن الرائعة في إقامة الحجة على الناس.
أقام الحجة على أنه الإله المتفرد بالعبادة، بالنعم التي أنعم بها على العباد، فالذي أوجد، والذي خلق، والذي رزق أولى أن يعبد من دون غيره الذي لم يخلق شيئاً.
ثم تأمل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] نوع من الكفران بالله عز وجل سجله الله على العباد في هذه الآية: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:48 - 50] ما هو هذا الذي صرفه الله بينهم؟ المطر، الماء، وليس القرآن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، أي: صرفنا الماء بينهم؛ لأن الضمير ينبغي أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الماء وليس للقرآن ذكر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ} [الفرقان:48 - 49] والمراد به الماء (مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50].(136/3)
من مظاهر كفر العبد لنعم الله
ما هو وجه الكفران الذي عناه الله عز وجل؟ وجه الكفران ورد في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الشيخان أن الله عز وجل قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بي مؤمن بالكواكب).
أنزل الله عز وجل الماء، لكنهم يقولون لك: الرياح الشمالية العكسية الغربية هي التي دفعت الماء، ثم أبرق السحاب وأرعد ونزل الماء.
من الذي فعل كل ذلك؟ لا يذكرونه في كلامهم، لا يذكرونه في حديثهم، لا يقولون: أرسل الله الرياح وأرسل المطر وأرسل البرق، لا يقولون ذلك، إنما مطرنا بالرياح الشمالية الغربية العكسية، لا يذكرون الله، لماذا لا يذكرون الله وهو الذي فعل كل ذلك؟! (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب)، سنة من السنوات كتب عنوان في الجريدة الرسمية: "بحيرة ناصر أنقذتنا من الجفاف" عنوان! " {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] لو أن الله استرد هذا الماء، من الذي يرد الماء إليكم؟! لماذا لا تنسبون الفضل إليه تبارك وتعالى؟! هذا مظهر من مظاهر الجحود والكفران: أن تنسب الخير إلى غيره {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام)، كمية الماء التي قدرها الله عز وجل وتكفي العباد مقدرة، وتنزل كل سنة.
لكن أين يذهب الماء عندما يصاب العباد بجفاف؟! قال صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام، ولكن إذا عمل العباد بالمعاصي صرفه الله في البحر)، فكمية المطر هي هي، لكن لا تنزل عليهم، إنما تمطر على البحار، والعباد في أمس الحاجة إلى قطرة ماء: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130].
{فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] لولا إذ رأوا بأسنا استكانوا ورجعوا وأخبتوا واعترفوا بذنبهم! فإن الله عز وجل يحب العبد المعترف بذنبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: يا رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي.
ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي.
ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي فليفعل عبدي ما شاء).
فليفعل ما شاء ليس معناها: أن يرتكب المعاصي كما يشاء، لكن معناها: إذا عصيت الله فمتى رجعت تلقاك، لكن بشرط أن تلقاه لا تشرك به شيئاً، هذا هو الشرط الوحيد.
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).
لذلك أخطر سيئة هي الشرك، فهي سيئة تأكل كل الحسنات، ولا تبقي منها حسنة، رغم أن الله عز وجل قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] لكن هناك سيئة واحدة لا تبقي حسنة وهي الشرك، الذي لا يقبل الله عز وجل من صاحبه صرفاً ولا عدلاً.
فيرسل الماء الذي به قوام حياة كل حي على وجه الأرض، ومع ذلك لا ينسبون هذا الخير إليه: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:50 - 52]، جاهدهم به: أي بالقرآن.(136/4)
المنهج القرآني لإقامة الحجة على الكافرين
القرآن فيه مناظرات مع أهل الشرك والكفر، والقرآن فيه الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله عز وجل، القرآن يعلمك كيف تقيم الحجة على المعاند، فقال الله عز وجل: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].
(لا تطع الكافرين) فهي لفتة عظيمة أن الكافرين لا يتركون لك القرآن، والمنافقين أيضاً لا يتركون لك القرآن، بل يثيرون على آياته الشبهات، واستخدمت كلمة "الجهاد" هنا من الجهد، وتعني: جهاد الدعوة.
لماذا صار جهاداً وجهداً؟ لأن هناك كفرة ومنافقين لا يتركون لك أدلة القرآن، يثيرون عليها الشبهات، فأنت مطالب أن تتحرك في أكثر من محور، تذود عن القرآن شبه الكافرين والمنافقين، والمحور الآخر: تقدم هدايات القرآن لمن يريد من المؤمنين؛ فأنت تعمل مرتين.
المشركون حاجوا المسلمين فلم يستطع المسلمون أن يردوا عليهم حتى أنزل الله عز وجل الرد، قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3]، كل هذا حرام.
المنخنقة: التي تموت خنقاً.
والموقوذة: التي تضرب بآلة حادة على رأسها.
والمتردية: التي تسقط من قمة جبل أو من مكان عالٍ.
والنطيحة: التي نطحتها أختها فماتت.
حسناً ما هو الحلال بالنسبة لنا؟ الحلال: أن نذبح، فقال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! فهم يقولون للمسلمين: ماذبحتموه أنتم فقتلتموه تجعلونه حلالاً وتأكلونه، أما التي ماتت -وهي التي قتلها الله فإنكم تحرمونها ولا تأكلونها؟! فإن المتردية والنطيحة والموقوذة كل ذلك الله عز وجل هو الذي قتله؟! فعجز المسلمون عن الرد، فأنزل الله عز وجل الرد على هؤلاء المشركين: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] هذه شبهة شيطانية يثيرها بين الحين والحين واحد من الكفرة أو المنافقين.(136/5)
إقامة الحجة على من يحرف القرآن من أصحاب التفسير الإشاري
بعض الناس يحرف آيات القرآن الكريم بدعوى التفسير، وكل هذا يحتاج إلى جهد الدعاة؛ ليدفعوا عن القرآن، وبعد أن يدفعوا عن القرآن عليهم أن يعلموا المؤمنين؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَجَاهِدْهُمْ} [الفرقان:52] جهاد قتال، تعمل على محورين.
واحد من الذين يقولون: هناك تفسير إشاري للقرآن الكريم.
التفسير الإشاري هو تفسير ليس على ظاهر الكلام، وهم يسمونه (روح النص) فيفسر أحدهم آيات القرآن الكريم تفسيراً لا علاقة له بالكلام: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أي واحد يسمع الآية هذه وهذه أعظم آيات القرآن آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ما معنى الآية هذه؟ أي: من الذي يشفع عند الله إلا بعد إذن الله له بالشفاعة؟!
و
الجواب
لا أحد: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:87] أبداً، إذا أذن الله له شفع، هذا معنى الآية.
يأتي هذا الرجل ويفسرها كالآتي: يقول: (من ذل ذي يشفَ عِ) كلام جديد! (من ذل) من الذل، و (ذي) اسم إشارة إلى النفس، ذي وهذا وهذه وهذي أسماء إشارة، فـ (ذي) اختصار اسم الإشارة هذي، وحذف الهاء، فكلمة (ذي) إشارة إلى النفس.
يعني: (من ذل نفسه يشف) من الشفاء.
(عِ): فعل أمر من وعى، أي: احفظ هذا الكلام، وهذا المعنى.
أي كلمة في الآية تدل عليه؟! أين لفظة (الذل) في الآية؟! لقد أدخل بعض الكلام على بعضه وعجنه، وخرج بعبارة جديدة! فهذا أشر من اليهود الذين كانوا يحرفون المعاني، أما هذا فيحرف لفظ القرآن ويسمي هذا التحريف تفسيراً.
فعلى المجاهد الداعية إلى الله عز وجل أن يرد على هؤلاء، وهم بالألوف المؤلفة! ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ فلا جرم أن الله عز وجل ذكر الجهاد بالدعوة في القرآن: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52] ولا يستميلوا قلبك، ولا يخطفوا قلبك بالشبه {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].(136/6)
تفسير قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ)
ثم قال الله عز وجل بعد تعداد هذه النعم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55] يعبدون ما لا ينفعهم: كلام سائب، رجل يعبد ما لا ينفعه! مجنون طبعاً، لكن رجل يعبد ما لا يضره، ومن الذي يرجو الضرر؟ يعبدون ما لا ينفعهم مجانين، (يعبدون ما لا يضرهم) من الذي يرجو من يضره؟! فما معنى (ولا يضرهم)؟ إن كل إنسان فيه داعية الألوهية، كل واحد فينا على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كل واحد عنده هذا الاستعداد، واعتبر بحال فرعون (قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر).
لعل كثيراً منكم سمعوا خطاب ذلك المتكلم في ذلك الزمان لما قال: أنا لن أرحم، لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعباد! كيف ساغ له؟ وهو كان يعترف في أحاديثه المكتوبة والمسموعة أنه كان يشتغل في مطلع حياته حمالاً في المحطات، يرفع الشوال على ظهره، كيف آل به نهاية الأمر أن يقول: لا يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعباد؟! والذي لا يبدل القول لديه هو الله عز وجل، العليم بما تئول إليه عواقب الأمور، لكن أمثالنا يغير ويبدل لجهله بالعواقب.
عمل خطة معينة اكتشف أن هذه الخطة ضعيفة، لماذا؟ لأن لها سلبيات فيما بعد، فغير، لكن الله عز وجل العليم، الذي لا تخفى عليه خافية لا يغير، إذا قال قولاً ثبته ولا يغيره؛ لأن علمه بلا حدود.
فكيف ساغ لهذا الرجل أن يقول ذلك وهو الذي قال: أنا كنت أشتغل حمالاً؟! اعتبر بهذا في العصر الحديث، وكل رجل منا عنده داعية الألوهية، فلابد لهذا الإنسان من رجل يوقف طغيانه، ويوقف زحفه، ويضره بأن يمرضه، يظل رهين الفراش، لأنه لو ترك حياً طليقاً لكفر.
إذاً إلحاق الضرر به نعمة، هو ضرر من وجه نظره، لكن إذا نظرت إلى عواقب الأمور ومآلها فهي النعمة بذاتها.
فأنا أحتاج إلى من ينفعني ويلحق بي الضرر لنفعي أيضاً، ولأن هناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هناك أناس لا يرجعون إلى الله إلا بعد أن تقرعهم المصائب، الجماد أفضل منهم، قال الله عز وجل للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فلماذا لا يعود هؤلاء إلى الله إلا كرهاً؟ لماذا لا يعودون طوعاً؟ والله عز وجل حقيق بأن يعبد، جدير بألا يعبد غيره تبارك وتعالى.
ولذلك عاب الله عليهم أنهم يعبدون مالا ينفعهم، ومالا يوقف طغيانهم لنفعهم أيضاً.
ثم قال أيضاً: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] إذا رأى عدواً لله انضم إليه على الله، يظاهر كل عدو لله على الله وعلى أولياء الله عز وجل: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] أعاذنا الله وإياكم من الكفران به.(136/7)
تفسير قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] هذه الآية فيها لطائف لو قلت: (وتوكل على الحي وسبح بحمده) لا يتم المعنى الجميل إلا إذا ذكرت (الذي لا يموت)، مع أن الذي لا يموت هو الحي، الحي الذي لا يموت.
فلماذا أكدت الحياة بنفي الضد؟ أكدت الحياة بنفي الضد لأكثر من معنى: المعنى الأول: تأكيد المثبت وهو الحياة؛ حتى لا يظن أحد أن حياته يلحقها نقص فهي حياة تامة، الحي الذي لا يموت جاء تأكيد المثبت بنفي الضد، كما لو قلت: (رأيت بعيني) مع أن الرؤية لا تكون إلا بالعين، وتقول: سمعت بأذني.
والسمع والسماع لا يكون إلا بالأذن، وكما قال الله عز وجل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] مع أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] كل هذا جاء تأكيداً.
لو أن رجلاً سخياً كريماً -وليكن هذا الرجل أباك- كلما اشتهيت شيئاً أعطاك وأمدك، لا يخطر ببالك شيء مهما كان ثمنه غالياً إلا أعطاك وزيادة، فإن أعظم مصيبة تصيبك أليست هي موت هذا الرجل؟! لأنه إذا مات هذا الرجل فستحتاج، لن تجد أحداً في كرمه، لن تجد أحداً يسد فاقتك ولا فقرك؛ فموت هذا الرجل هي أعظم كارثة تصيب هذا الإنسان، فجاء قول الله عز وجل (الذي لا يموت) لطمأنة قلبك، اطمئن، فإن الذي توكلت عليه لا يموت، بل سيرثك.
فممن تخاف؟! ولماذا تخاف من المستقبل؟! الجماعة الذين عندهم رعب دائم من المستقبل والغيب والمجهول، لماذا تخافون؟! {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] إن الله هو الحي الذي لا يموت، فلماذا تخاف؟! ولماذا يضطرب قلبك؟! ولذلك جاء هذا مصدراً بقوله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ} [الفرقان:58].
أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، التوكل يذكر في كل منحى من مناحي الحياة، لكن أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، وأكثر ما يشغل العباد الرزق، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:73] يعيب الله عليهم ذلك.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، خماصاً: جائعة، ليس في حوصلتها حبة واحدة، هذا الطائر لا يدري من أين يلتقط الحب، لكنه يمر ويرى الحبة من فوق وينزل، ولذلك قال الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [النمل:25]، الخبء: هذا الذي يعاينه الهدهد مخبوء في الأرض، يخرج الخبء، فهذا الطائر يغدو في الصباح لا له دكان، ولا له حرفة ولا وظيفة، فيرزقه الله عز وجل.
(بطاناً) أي: ملأى بالطعام.
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير).
وفي مسألة الرزق لأنها أكثر شيء يشغل العباد، قال الله عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] يعني: ليس في الأرض.
فلماذا ذكر أن الرزق في السماء؟ حتى لا تخشى من طغيان طاغية، إذ لو كان في الأرض لانتهبه منك، فقال لك: رزقك ورزقه في السماء، ليس هو في متناول يد واحد منكم {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ثم أقسم الله عز وجل بذاته العلية: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] جاءت المسألة في معرض التوكل، وحقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، وهذه مسألة مهمة ضل فيها جِبلٌّ كثير.(136/8)
التوكل والأخذ بالأسباب
حقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، أي: أنه ليس معنى التوكل التواكل، وترك السبب لا، الرسول عليه الصلاة والسلام لما خرج من مكة إلى المدينة ماذا فعل؟ ألم يختبئ في الغار؟! لماذا اختبأ؟ كان يمكن أن يمشي، ويقول: أنا متوكل على الله، ولن يروني، ولن يستطيعوا إيصال الضر إلي، كان هذا ممكناً، ولكن لماذا اختبأ في الغار؟ هل هذا ينافي التوكل؟ لا ينافي التوكل، ولا ينافي اعتماد القلب على الله، انظر إلى اعتماد قلبه على الله وهو في الغار، حين قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو أن أحداً نظر تحت قدمه لرآنا -هنا ظهر التوكل- قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
هذا هو التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله، لكن لا يمنع من أخذ السبب.
كما أنك تأكل لدفع الجوع، وهذا كله من الأسباب التي قدرها الله عز وجل، وأكلك لحفظ حياتك لا ينافي التوكل على الله عز وجل، بل العباد يعدون تارك الأسباب بدعوى التوكل مجنوناً.
فلو قال رجل: أنا لن أتزوج، ولو أراد الله عز وجل أن يرزقني بالولد لرزقني بالولد، يقول الناس: مجنون! إذ كيف يرزق الولد بغير زوجة؟! لو قال: أنا لا آكل، ولو شاء الله لحفظ حياتي ولم يمتني بدون أكل؛ لعد العباد ذلك نقصاً.
ولو جلس رجل في بيته وانتظر أن ينزل الرزق من السماء؛ لقال الناس: مجنون.
إذاً التوكل ليس معناه نفض اليد من الأسباب، إنما معناه: اعتماد القلب على الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] لتمام حياته وقيوميته.
ثم ختم الآية ختاماً في غاية العجب والروعة! {وَكَفَى بِهِ} [الفرقان:58] تأملوا في عجز الآية، إنها آية! {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] لماذا ذكر الذنب؟ هذا الآية تكررت مثيلاتها مرة واحدة في القرآن، في سورة الإسراء: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:17]، فلماذا ذكر الذنب؟ ذُكر الذنب -والله أعلم- لسببين: السبب الأول: لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب، يفعل أحدهم الذنب في الخفاء، فإذا كان يجتهد في إخفاء الذنب ويعلمه الله عز وجل؛ فهذا يدل على تمام حياته وقيوميته على عباده، تأكيد للحياة، أثر من آثار حياته تبارك وتعالى وأنه لا يموت {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الرعد:33]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] تذكر القيومية مع الحياة، إذاً لما قام على كل نفس بما كسبت ذكر الذنب؛ لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب بخلاف الطاعة، فإن العبد يظهرها أمام الناس، ويتبجح بها.
المعنى الثاني: (كفى به) كلمة (كفى) أول ما تسمعها تتذكر معنى الكثرة والإحاطة: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31] {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الإسراء:96] فيها معنى الإحاطة والكثرة.
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] فالآية لها تعلق بالرزق، فالله يرزقك وقد ضمن للعباد أن لا يجيعهم.
فما هي النتيجة؟ {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] يدل على أن ذنوب العباد فاقت كل تصور مع إنعامه وتفضله، وأنه رغم ذنوبهم يقول: إلي! إلي! تعالوا! رغم ذنوبهم لا يتبرأ منهم، وهو أرحم بهم من الأم بولدها: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] مع كثرة ذنوبهم يقول لهم: توكلوا علي؛ لأنهم لا يجدون له عدلاً ولا نظيراً.(136/9)
وقفات مهمة في أسماء الله وصفاته
قال الله عز وجل: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58 - 59] أي: لا تسل جاهلاً عن الله، إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به.
وهذه الوقفة التي أردت أن أقفها في هذا الدرس، نحن فيما بيننا لا نذهب إلى طبيب جاهل ولا إلى عامل جاهل، وكلنا يبحث عن أمهر الأطباء وأمهر العمال، يقال: هذا خبير، هذا خبير بالمرض الفلاني، أو هذا خبير بالآلة الفلانية.
ويعد العباد أن من الخسارة أن يذهب إلى رجل جاهل، فكيف جئت على أتم المطالب وأهمها -وهي معرفة الله- ولم تسأل أعلم الناس بالله؟! {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] وانظر لفظة (الرحمن) ما أجملها في هذا الموضع! انظر سياق الآيات: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:58 - 59] هي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استواءً حقيقياً بغير تشبيه ولا تمثيل كما يليق بجلاله تبارك وتعالى، واستواؤه على العرش مدح له عز وجل، ربنا سبحانه وتعالى لما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] مدح نفسه بهذا الاستواء.
والعرش في السماء وليس في الأرض، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وذكر الجنة- قال: (سقفها عرش الرحمن) سقف الجنة عرش الرحمن، إذاً الرحمن تبارك وتعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] ليحببك فيه.
لماذا أنت تسأل خبيراً بالله؟ حتى يحببك في الله عز وجل!(136/10)
الرفق منهج رباني
إن الله عز وجل يتحبب إلينا بآلائه ونعمه، يعدد نعمه لنحبه؛ ولنشعر بالتقصير في حقه.
افترض -ولله المثل الأعلى- أن عندك رجل ساكن في شقة مكونة من ثلاث غرف، وعندك ولد في الثانوية العامة أو ولد في امتحان شهادة، وأنت أفرغت له غرفة لوحده، وأنتم كلكم تكدستم في غرفتين، وأعلنت حالة الطوارئ، ممنوع الهمس! الولد يذاكر! ممنوع الصياح! الولد يذاكر! جعلت له ثلاجة لكي يأكل ويشرب المرطبات، وجعلت له مدفأة لكيلا يشعر بالبرد، هيأت له سريراً لوحده، كل هذا وأنت تقول له: يا بني! ذاكر وأنا أصرف عليك.
لكن الولد في نهاية السنة رسب، فماذا ستقول له؟ ستقول له: ألم أجعل لك غرفة لوحدك وتكدسنا في غرفتين؟! ألم أجعل لك ثلاجة؟! ألم أعطك الذي نفسك فيه: تأكل وتشرب؟! ولطالما ضربت إخوتك ورميتهم في الشارع؛ لكيلا يزعجوك؛ حتى تنام جيداً أليس هذا ما ستقوله؟! لماذا؟! لأن ذكر النعم في موضع التقصير أشد من ضرب السيف، لكن لمن هذا؟ للذي عنده دم، للذي عنده إحساس، يفضل أن يضرب بالسيف ولا يلام هذا اللوم ولا هذا التقريع.
فربنا سبحانه وتعالى يخاطب قلب الإنسان: عملت لك وعملت لك وعملت لك وعملت لك وعملت كذا وكذا وكذا ورزقتك وخلقتك ونجيتك ورفعت عنك الأمراض ودعوتني واستجبت لك لكن ما هي النتيجة؟! ولذلك تعداد النعم طريقة قرآنية فريدة تمس القلب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) وهذه طريقة لو تدبرتها في التعامل مع العباد تجد أنها أنجع وأقوى من أي وسيلة أخرى.
مثلاً اليهود أكثر منا بالحيلة واللين بمائة مرة من الذي كانوا يصفونه بالشدة؟ فاليهودي الذي اسمه شامير كانت طريقته قائمة على الشدة: سنبني مستوطنات، والذي لا يعجبه سأطلع قلبه فكان يستنفر الناس، وظهر أطفال الحجارة وانتفاضة الحجارة، وذلك كرد فعل طبيعي للعنف.
فقال اليهود لبعضهم: هؤلاء المسلمون نفسهم طويل، وهم الذين يعرفون مصطلح الجهاد والفداء.
وهؤلاء اليهود جبناء، لم يأخذوا قوتهم إلا من ضعفنا، هم ليس لديهم قوة، ربنا هو الذي قال هذا، فهو ليس حكمنا، إنما هو حكم اللطيف الخبير، العالم بالسرائر، قال الله عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
وفي نفس الوقت اليهودي يحب الحياة، يتمنى أن يعيش ولو ذليلاً مهاناً ولا يموت؛ قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] (حياة) هكذا من غير ألف ولام، من غير ألف ولام لماذا؟ نكرة من أجل أن يدل تنكيرها على الرداءة، أي حياة، أهم شيء أن يعيش! وصاحب الفداء والجهاد الموت محبب إليه، والمسلمون فقط دون غيرهم هم أصحاب الجهاد والفداء، وأصحاب النفس الطويل، لو تحداك بدينه لا يغلب؛ ولذلك كان رجوع الأمة لدينها أمر في غاية الأهمية، لا تهزم إذا رجعت إلى دينها، لماذا؟ لأن عندهم فداء، وعندهم نفس، وعندهم تضحية.
مثال: العرب المشركون في الجاهلية كان الواحد منهم يقول: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب.
واحد يستنجد بك وأنت لا تعرفه، ويمكن أن يطعنك بخنجر أو يرميك برصاصة وأنت تعرف هذا جيداً، ومع ذلك إذا استنجد بك تجد روح الفداء عندك وتنزل: (إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب).
فالفداء والتضحية هذه لا تجدها إلا عند المسلمين فقط.
فقال اليهود: نحن سنظل نناوئهم، والصحوة الإسلامية مدها يعلو، والأطفال هؤلاء لن يستمروا بالضرب بالحجارة، رغم أنني رأيت منظراً لا أنساه أبداً: جنود من اليهود أمسكوا طفلاً وكسروا له عظم يديه الاثنين لكيلا ينتفع بيديه بعد ذلك، وكل من أمسكوه كسروا له عظم يديه وتركوه لكن هؤلاء المجاهدين استمروا يضربون بالحجارة سنوات طويلة! فقال اليهود: لا بد أن نغير الخطة، ما هي الخطة البديلة؟ لا نعمل مثل النجار الغشيم، يأتي على حائط صلب مثل هذا ومعه مسمار، ويضرب ضربة واحدة فإذا بالمسمار مكسور نصفين، أو رجع إلى عينه.
أنت عندما ترى حائطاً صلباً مثل هذا، وتريد أن تدق فيه مسماراً، تظل تدق وتدق برفق! فلو ضربته بالعنف لا يمشي معك، تأتيه بالرفق يمشي معك.
فقال اليهود: ولماذا نظل نحاربهم؟ نحن سنقول لهم: نحن أحبة، ونحن إخوان إلخ، وهيا بنا إذاً نتبادل الزراعة والصناعة والثقافة، ونحن مع ذلك نتلف لهم عقائدهم، ونؤكلهم أناناس وهو محقون بالهرمونات؛ فيحصل لهم فشل كبدي! وفشل كلوي! وسرطانات إلخ، وبهذا نكون انتهينا منهم، ونحن هكذا نظل أحبة ولا توجد مشاكل!(136/11)
الرفق في التعامل مع الخصوم
طريقة الرفق هذه طريقة خطيرة جداً، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى شرعها لنا في مجال الدعوة مع الخصوم، قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] انظر إلى هذا الكلام! {الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] يعني: بعد ما كان عدواً أصبح يحبك جداً، كل هذا بسبب ماذا؟ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
انظر إلى الحكمة لم يذكر فيها حسناً، والموعظة ذكر أنها حسنة، والجدال ذكر أنه أحسن؛ فهي ثلاث درجات وراء بعض: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] ربنا سبحانه وتعالى خاطب قريشاً ثلاث عشرة سنة بالقرآن المكي، وكله تذكير بالنعم.
فأحب من تدعوه وأشعره بالحب أولاً وحنن قلبه، وبعد ما تبذل جهدك في الترغيب، وتحنن قلبه، وتأتي له بكل وسيلة ولم يأت، فعندها ما بقي إلا الترهيب.
ولا تبتدئ بالترهيب، فإن الله ما ابتدأ به، إنما بدأ بالترغيب، ودائماً يقدم رحمته تبارك وتعالى على غضبه {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
وفي الحديث الصحيح: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده: إن رحمتي تغلب غضبي).
وقال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] فكل خير، وكل عدل نحن نبتدئ به.(136/12)
التعرف على صفات الله بالنظر والتفكر
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] فإذا أردت أن تصل إلى الله عز وجل سل أخبر الناس بالله.
وأخبر الناس بالله هم الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
نفي الصفات أكبر جريمة يرتكبها إنسان في حق نفسه لماذا؟ لأنها تضيع عليه باب زيادة الإيمان، ومحبة الرحمن تبارك وتعالى، ولذلك تجد معظم آيات القرآن تنتهي بصفة من صفات الله أو صفتين: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47] {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] دائماً تجد أغلب نهايات الآيات- صفات لله تبارك وتعالى، فأنت حين تتأمل هذه الصفات مع سياق الآيات تقوي بذلك إيمانك مباشرة.
ولهذا الذي يدلك على الله لابد أن يكون أخبر الناس بالله، والذي لا معرفة عنده بالله يضلك؛ لأنه لا يعلم وأنت حين تتأمل صفة من صفات الله عز وجل، ولتكن صفة الرحمن التي نحن نقرؤها في كل صلاة: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1 - 3]، تتأمل صفة (الرحمن) هذه وترى أثرها في الكون؛ فإن إيمانك يزداد.
إيمانك يزداد إذا ربطت الأسماء الحسنى بالكون، فاربطها بمظاهر الكون يزدد إيمانك كلما نظرت أمامك أو خلفك لماذا؟ لأن كل شيء في الكون مربوط بصفة من صفات الله عز وجل.
مثلاً: المطر حين ينزل من السماء، الرسول عليه الصلاة والسلام -كما قالت عائشة -: (كان إذا رأى الغمام في السماء كرب له، وتغير وجهه، ولا يستقر على حال ويظل يدخل ويخرج، فتقول: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيث استبشروا، وأراك إذا رأيته كربت له -مع أنه إذا كان هناك مطر كان هناك خير، فلماذا أنت خائف كلما ترى هذا الخير- قال: يا عائشة! وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، إن قوماً قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:25] فقال الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:24 - 25] وما يؤمنني).
فما كان يستريح إلا إذا أمطرت ماءً.
يظل قلقاً؛ لأن هناك جماعة، ربنا سبحانه وتعالى قص علينا قصتهم في سورة الأحقاف، رأوا غماماً فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:25]، هذا سحاب وسينزل المطر، فكان هذا فيه الحجارة، والرجم والخسف.
فيظل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلقاً حتى ينزل المطر، ولذلك كلمة (مطر) في القرآن لا تستخدم إلا في التدمير، إنما الذي يستخدم في الرحمة (الغيث)، أي كلمة (مطر) تجدها في القرآن فهي تدل على العذاب: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الأعراف:84] {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، فإذا وجدت كلمة (المطر) فهناك حتماً خسف وتدمير وعذاب.
بخلاف لفظة الغيث؛ لأن (الغيث) فيه معنى الغياث والغوث والنجدة: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] فكلمة (غيث) فيها غياث وفيها نجدة.
فحين تنظر إلى كلمة الرحمن وأثرها في الكون، وتربط كلمة الرحمن بمظاهر أنت رأيتها في حياتك ستنفعك لو وقعت في طامة أو في مصيبة.
قص عليَّ أحدهم قصة فقال: إن حماه وهو يسكن في القاهرة كان قادماً من محافظة الإسكندرية، لكنه وهو في الطريق -وهو عند كفر الدوار- زجاج السيارة سرطن، فجأة لم ير ما أمامه، فحاول عمل أي شيء، لكنه صدم طالبات مدارس، ومات رجل سنه فوق الستين، وأصيبت بنتان أو ثلاث في هذه الحادثة.
مباشرة أخذوه إلى القسم، وعملوا له محضراً وبعد ذلك اتصل بزوج ابنته -الذي يحكي لي هذه القصة- وذهب لكي يأتي به.
هو كان مستعجلاً آتياً من محافظة الإسكندرية وذاهباً إلى القاهرة؛ لأن لديه ميعاداً مهماً جداً في الصباح الباكر.
لكنه -طبعاً- لم يقدَّر له أن يذهب القاهرة، وزوج ابنته أتى به في بلده، وقعدوا، وفي صباح اليوم التالي ذهبوا إلى القاهرة، ودخلوا غرفة النوم ورأوا شيئاً عجيباً: العمارة التي يسكن فيها سقفها مكون من طبقتين، مفرغ من الداخل، وجدوا أن الطبقة السفلى التي لغرفة النوم كلها واقعة على السرير.
دعنا نفرض أن هذا الرجل لم يحصل له هذا الذي حصل، وواصل طريقه، وذهب ونام على السرير لوحده؛ ونزل عليه هذا السقف! لطف الله به أو لا؟! لطف به، لكن لا يلزم أنه كل مرة يريك شيئاً لكي تعرف أنه لطف بك بل لا بد أن يظل ظنك بالله ملازماً لك أبداً.
إذا وقعت ورطة فقل: الحمد لله، كان سيحصل لي أعظم منها.
وأنت إذا تذكرت هذه الحكاية وقد وقعت في بلاء فقل: رحمته كما شملت فلاناً فإنها تشملني، وحين تربط ما تراه في الكون بصفة من صفات الله عز وجل، وكلما وقعت في بلاء تستصحب صفة الرحمة، وتتذكر الحادث وتعرف أن ربنا لطف بك، حينئذٍ تزداد لله حباً.
شخص يقص عليَّ قصة يقول: كانوا يوزعون بطانيات في أيام الشتاء البارد، والساعة الثانية عشرة ليلاً، والسماء كأفواه القرب، مطر ورعد وبرق وريح، بعد ما ذهب ببطانية لامرأة مسكينة، رجع البيت فسمع غطيط نائم على الرصيف -واحد بيشخر على الرصيف- فاستلفت نظره أن واحداً ينام بهذا العمق في هذا الجو، فتتبع مصدر الصوت وإذا به يجد رجلاً متسولاً، وقد تدثر بملاءة مقطعة.
ملاءة مقطعة، وهو ملتحف بها ويشخر! وشخيره يعني أنه مستغرق في النوم، ولن تسمع غطيطاًَ إلا لواحد مستريح، فإن النوم مع الأرق والقلق لا يأتي الغطيط معه، إنما الغطيط يأتي لإنسان نائم مستريح.
وهناك شخص -مثلاً- له بيت يذهب إليه ويقول لهم قبل أن يصل: شغلوا الدفاية حتى أصل، وخذوا البطانية الأسباني والإيطالي وضعوها على بعضها، وأول ما يصل إلى البيت، يدخل فيها مباشرةً ويظل يرتعش خمس دقائق إلى ست إلى سبع حتى يدفئه الغطاء.
هل أنتم تعتقدون أن الغطاء هو الذي يسخن من تلقاء نفسه؟ لا، الإنسان الذي هو يدفئه، الغطاء من أين يأتي بالحرارة.
جسمك أنت هو الذي يشع حرارة فأنت الذي تدفئ الغطاء.
وما هي مهمة الغطاء؟ أنه يحجز عليك الحرارة حتى لا تتسرب، فتشعر أنت بحرارة جسمك أنت هذه مهمة الغطاء، فتظل إذاً ترتعش لمدة عشر دقائق حتى تدفئ نفسك بنفسك.
وهذا الرجل مغطى بملاءة مقطعة، وعلى الرصيف، وفي هذا الجو؛ ونائم! إذاً: هو سبحانه وتعالى رحمن أو لا.
إن رحمته وسعت عباده حتى الفقير المعوز؛ لأنه عبده وهو خلقه، فلا يعذبه، يرحمه.
فحين تذكر الرحمن، وتستحضر هذه الصفة معك، ويعرض لك بلاء في الدنيا تتذكر وتقول: مثلما أنجاه ورفع عنه ينجيني، فأنا عبده، فيحملك على اللجوء إليه والتعلق به ومحبته.
نوظف هذا الكون كله لزيادة الإيمان بالله عز وجل.
مثلاً: تأمل في الأرض والنبات.
ونحن أيضاً نهدي هذا الكلام للنساء، اللاتي لم ينعم ربنا سبحانه وتعالى عليهن بنعمة الولد.
امرأة عقيم، تتمنى أن ترزق بولد، أو رجل يتمنى أن يرزق بولد ونفسه ربنا يرزقه بولد.
انظر قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] تأمل هذه الصورة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]! (خاشعة) أي: ذليلة، أرض جرداء، كذلك المرأة إذا لم تكن حاملاً أو يكن عندها قابلية للحمل تعتبر مثل الأرض البور، تلاقيها هكذا مكتئبة! وحزينة! ولا أمل لها في الدنيا؛ لأن الخشوع أحد علامات الذل، الخشوع أحد علامات الذل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] * {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] الخشوع علامة ذل.
فأرض لم ينزل عليها الماء فهي بور، والناس يزهدون فيها، فيبقى فيها ذل وخشوع وإخبات: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} [فصلت:39] فالمرأة حين لا يكون لديها ولد، وحاولت مرة واثنتين وثلاثاً وأربعاً، وجاء الحمل، انظر إليها؟! تجدها اهتزت وربت، وتورد خداها، وشعرت أنها أهل للحياة، مثل الأرض بالضبط، والمرأة مثل الأرض تماماً.
وفي كتب الأدب يذكرون قصة المرأة التي كانت تنجب البنات والرجل يريد ولداً، فتزوج امرأة أخرى، وفي باله أن يرزق منها الولد، وهذا خطأ، فإن ماء الرجل يخلق الله عز وجل منه الذكر والأنثى، المرأة ليس لها دخل في المسألة.
فهذه المرأة التي لم تنجب إلا البنات، ثم ذهب الرجل يتزوج عليها لكي ينجب الولد -أبو السباع يرثه ويخلد ذكره في الأرض- فالمرأة الأولى ترى زوجها وهو يدخل دوماً للمرأة الثانية، فجعلت تدهده بنتها وهي تقول: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا غضبان أن لا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا انظر إلى المرأة الذكية عرفت هذه القضية من زمان! {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيي الْمَوْتَى} [فصلت:39].
انظر إلى الإلزام القرآني! انظر المغزى! أصلاً هناك بعض الناس حين تدخل له مباشرةً ويفهمها يدافع عن رأيه ويعاند أول ما يفهمها يضيع عليك الذي أنت تريده، فلا بد أن تترفق به.
بعد ما ذكر الشيء المُشاهد الذي يراه الناس قال: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْييِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] قضية مرتبطة ببعض.(136/13)
من تطبيقات المنهج الدعوي (قصة واقعية)
ذات مرة ذهبنا إلى أحدهم لنأخذ منه أموال الزكاة ونوزعها على الفقراء، وقلنا له: يا عم متى نأتي لك؟ قال: يوم (1) في الشهر، فاستمر معنا شهراً واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة؛ لأنه رجل غني وكان يدفع أيضاً مبلغاً لا بأس به.
المهم بعد سبعة أو ثمانية شهور بدأ كأنه يمل، من ماذا؟ من النقد الذي يخرجه، فكلما أذهب ويراني أحس أنه متضجر قليلاً، أقول: ربما كان غاضباً من أمر ما زبون أتعبه أو أي شيء.
المهم أحسست أنه متضجر، كلما يراني يعرف أنني قادم لآخذ مالاً، وأنا ما أضع المال في جيبي.
نحن نريحه ونظل نطوف على الفقراء في عز الليل لكيلا يراك الناس، ونسهر ونذهب نؤدي عنك، وأنت جالس في أتم راحة ونحن نتعب بغير جزاء ولا شكور، ولا تعطينا أجرنا حتى في المسألة، ولا حتى (والعاملين عليها).
فأحسست أنه متبرم.
وبعد ذلك في الشهر الحادي عشر أو الثاني عشر -قال لي: آسف جداً جداً، المبلغ لا يكفي، هل يمكن أن تمر عليَّ بعد أسبوع؟! طالما ابتدأنا بهذه المسألة قلنا: نقطع منه الرجاء.
ولكن قلت: أنا في نفسي حاجة تؤلمني، لا بد أن أعملها قبل أن أمشي، فأتيت في الشهر الذي بعده، وأول ما دخلت قلت له: أنا لم آت أريد مالاً، أنا أتيت لكي أشغل المال عندك.
فطفق يقول: أبداً والله، أبداً، هذه خطوة عزيزة كريمة، العصير يا ولد! جلست وقلت له: أنت تشغل الألف بكم؟ قل لي: بخمسة عشر جنيهاً في الشهر لصاحب المال، وخمسة عشر لي، يعني الربح يطلع ثلاثين.
قلت له: حسناً أنا لو أعطيتك أموال يتامى، وأنت تعرف حال اليتامى هل يمكن تشغل لهم الألف بخمسين؟ قال: بخمسين كيف؟! هذا مستحيل.
قلت له: أنا كنت أطمع أن تقول لي: مائة! قال: كيف يا عم الشيخ، أنا لو أتاجر في المخدرات لن أكسبها.
قلت له: حسناً لو كان هناك واحد يعطيك الألف بمائة؟ قال: يدي على كتفك! قلت له: حسناً لو الألف بسبعمائة؟!! قال لي: يا عم الشيخ لا تتمسخر علينا! قلت له: لا والله لا أتمسخر عليك، عندي واحد يشغل الألف بسبعمائة.
فقال لي: قل لي: من؟! قلت له: الله، يعطي الألف بسبعمائة.
لم يكن الرجل يتوقع ذلك أبداً، فانكسف جداً، وبقي كله أحمر.
قلت له: يا أخي الكريم! وابتدأت أكلمه بالذي في نفسي قلت له: الشهر الفلاني كشرت في وجهي وكلحت، وأنا رجل لا أستفيد من ورائك شيئاً، ولا أضع (مليماً) في جيبي، فلماذا تفعل ذلك وهذا حق الله في المال؟! الله عز وجل لا يريد منك شيئاً، ربنا حين يرضى على أحد يعطيه من غير حساب، هذه الأرقام عندنا نحن، لكن ربنا سبحانه وتعالى حين يعطي يقول: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212].
صاحب هذه الخزائن كلها لا ينفع معه رقم أبداً، الرقم يصبح عيباً، الرقم مهما زاد يبقى عيباً، في الدنيا يقول لك: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] وفي الآخرة يقول لك: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54] لا ينتهي.
فهناك بعض الناس -وأنت ماض إلى الله عز وجل تدعو الناس- يحتاج أن تلف عليه، تلزمه بالقضية إلزاماً بدون ما تحسسه أنك ستصل لهذه النتيجة، حتى لا يفسد عليك دليلك، وهذا نوع من الجهاد.(136/14)
من فضائل أم سليم
هذه أم سليم رضي الله عنها علمتنا هذا الأصل في الحديث المشهور كان لها ولد مريض، ثم ذهب أبو طلحة للتجارة، فمات الولد فقالت أم سليم: (لا أحد يخبره حتى أكون أنا أول من يخبره).
لم تمزق ثوبها! ولا خمشت وجهها! ولا ناحت على ابنها! والبيت طبيعي جداً، دخل أبو طلحة البيت وجد كل مظاهر الحياة السعيدة! أول ما دخل -وكان معه جماعة من الضيوف- سأل عن الولد: ما أخبار الولد؟ قالت له: استراح ما عاد يشتكي.
طبعاً الولد مات وهي صادقة، قالت: ما عاد يشتكي.
قال لها: الحمد لله، جهزي لنا العشاء، أكلوا وشربوا والضيوف خرجوا، وهي امرأة ذكية، تنظفت وتعطرت، فدخل الغرفة معها، فكان منه ما يكون بين الرجل وأهله، وبعد ذلك جلست تتحدث معه، قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أن رجلاً أخذ عارية من جاره -استلف منه معونة، استلف منه فأساً، استلف منه سيارة، استلف منه أي شيء- وبعد ذلك قال له الرجل صاحب العارية: هات حقي، أكان له أن يمنعها إياه؟! هل يمكن أن يقول له: لن أعطيها لك؟ قال لها: لا! قالت له: فاحتسب ولدك.
فهي لفت عليه وألزمته، جعلته يجيب على نفسه بلسانه، ولذلك أول ما قالت له: احتسب ولدك، لم يتكلم لماذا؟ لأنها ألجمته، انظر كيف لفت عليه لماذا؟ لأنها لو دخلت وقالت له: الولد مات.
لقال لها: ماذا يا امرأة؟! وربما يبكي ولو كان البكاء يرجع عزيزاً ما كان أحد أوقف البكاء! لكن نفذ قضاء الله، وقضاء الله لا يقابل إلا بالتسليم والرضا.
فهي امرأة ذكية، ألزمته الجواب وجعلته هو الذي يجاوب بلسانه، ولذلك لما رأى الحجة ركبته، ولم يعرف يتكلم، غضب منها، وقال لها ماذا؟ قال: تركتني حتى تلطخت بك ثم نعيت لي ولدي؟! لماذا لم تقولي لي لكي تأباه نفسي؟! وذهب يشكوها للرسول عليه الصلاة والسلام، وقال له: عملتْ في وصنعتْ يشكو هذه السيدة الكاملة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (هل كان منك ما يكون من الرجل إلى أهله؟ قال: نعم.
فقال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما)، قال الراوي: فلقد رأيت عشرة من أولاد أبي طلحة كلهم يقرأ القرآن.
ربنا أخلف عليه أو لا؟ لقد أخلف عليه.
فهناك بعض الناس ينبغي ألا تدخل عليه مباشرة، تقعد تلف عليه؛ خصوصاً ذاك الذي يغتر بذكائه، فلا تحرق دليلك معي، أول ما تأتي إليه يقول لك: أنا أعرف أنك ستقول لي كذا.
إذاً المفروض أن تلف على هذا النوع.
القرآن كان يلزم المشركين هذا الإلزام، مثل هذه الآية التي نحن فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39].
ما رأيك في المنظر هذا؟! أنا أراه أمامي: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْييِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] تنكره لماذا إذاً البعث؟ {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] إذاً ألزمهم بما يرونه، وذلك بأن لف في إقامة البرهان.
ولهذا ربنا سبحانه وتعالى حين يقول: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] أي: لا يدل على الرحمن عز وجل، ويحبب الله إلى الناس إلا خبير بالله عز وجل.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من العالمين به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(136/15)
الإخلاص [1]
لقد نسب ربنا عز وجل الصيام إلى نفسه؛ لأن الصيام عبادة خالصة لله تبتعد عنها شبهة الرياء، لذلك لم يعين على الصيام أجراً محدداً، بل جعل الجزاء موكلاً إليه، وفي هذا دلالة على مقام الإخلاص وعظيم منزلته، فإنه في العبادات شرط تحبط بدونه، وهو أمر يعرفه المرء من نفسه، ويمكن تحقيقه خلافاً لما زعمه الصوفية الذين جعلوا مناله عسيراً، وتوهموا الرغبة في الثواب والخوف من العقاب من عقبات وموانع تحقق الإخلاص.(137/1)
الإخلاص والصوم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) ولقد علمنا علماً أكيداً أن الصوم أيضاً لابن آدم، كالصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال البر، كلها لابن آدم، كما أن الصلاة أعظم من الصيام، ومع ذلك استثنى الله عز وجل هذه الشعيرة، فقال: (الصوم لي وأنا أجزي به).
فلماذا خص الصوم دون سائر أعمال البر؟ إن الصيام تحقيق لمقام الإحسان، وهو أيضاً تحقيق لمقام الإخلاص، فإن المرء قد يرائي في كل أعمال البر، لكن لا يستطيع المراءاة في الصوم أبداً.
ألم تر إلى نفسك وأنت وحدك في بيتك، لا أحد معك، وقد أغلقت عليك باب الغرفة، وفي الغرفة ماء بارد، ويكاد يقتلك العطش، ومع ذلك لا تستطيع أن تفطر أبداً؟ هذا هو تحقيق لمقام الإحسان! إن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فأجابه صلى الله عليه وسلم وقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا هو تحقيق مقام الإحسان، فإن الصائم لا يستطيع أن يرائي أبداً بصيامه، بل يستطيع أن ينال مراده وهو وحده، بخلاف بقية أعمال البر.
إن طائفة من الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (ولا يشهدون الفجر والعشاء) وقال: (أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء) مع أن للفجر والعشاء شأناً عظيماً! قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل) وكان عبد الله بن عمر إذا فاتته صلاة العشاء جماعة قام الليل كله؛ ليعوض الأجر الذي فاته بشهود الجماعة وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح في جماعة فكأنه قام نصف الليل)، وفي رواية أخرى: (فكأنما قام الليل كله) وفي صلاة الصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل والنهار).
ومع هذا الأجر الجزيل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء، ولو أن أحدهم يعلم أنه يأخذ مرماتين حسنتين لأتاهما حبواً).
لو تم إلحاق جمعية لتوزيع السكر والأرز وما شابه ذلك بالمسجد، فإن هذا المنافق يحبو على بطنه حتى لا تفوته هذه العطية المجانية، ويضيع ما هو أعظم، فهو بهذا قد راءى في أعظم الأركان العملية وهي الصلاة.
وكذلك يمكن للمرء أن يرائي في الزكاة أو في الحج، بل إن بعض من يذهب إلى الحج إذا رجع منه ولم تناده بلقب: (يا حاج) يغضب.
وهكذا تكون المراءاة في سائر أعمال البر إلا في الصيام، لذلك قال الله عز وجل: (هو لي، وأنا أجزي به) ولم يعين على الصيام أجراً؛ لأنه إذا وقع الجزاء على كريم فلا تسأل عن العد، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] ولم يعين له أجراً؛ لأن هذا الوعد بهذه الكيفية أعظم أثراً من تعيين الأجر.
ولما أراد إخوة يوسف عليه السلام أن يتخلصوا من الورطة التي وقعوا فيها، وقد اتهموا بسرقة صواع الملك، {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ *
الجواب
=6001670> قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:74 - 75] فأبهموا الجزاء، كأنهم قالوا: كل ما يخطر ببالكم من الجزاء هو حقيق به، فكان إبهام الجزاء أعظم في تقدير الجزاء من تعيينه.
ولأن هذه الشعيرة فيها تحقيق مقام الإخلاص، قال الله: (هي لي) فلا يستطيع أن يجزي على الإخلاص إلا الله، والإخلاص في العبادات شرط وفرض تحبط العبادات بدونه.(137/2)
إخلاص المشركين في دعائهم عند الشدائد
إن الإخلاص لا يستغني عنه كافر ولا مؤمن.
لا يستغني الكافر عن الإخلاص، قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:22 - 23].
قوله: (مخلصين له الدين): أي: أنهم لا يكذبون في إخلاصهم إذا وقعوا في ورطة.
وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32].
هذا حال المشركين، لا يخلصون إلا إذا وقعوا في ورطة.
وفي سنن الترمذي -وقواه بعض أهل العلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حصين -والد عمران -: (كم تعبد إلهاً؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبك ورهبك؟ قال: الذي في السماء).
ويوضح ذلك أيضاً ما رواه الإمام النسائي وأبو داود وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أمن الناس جميعاً غير أربعة رجال وامرأتين، فقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: عبد الله بن خطل، ومقيت بن فضالة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن أبي سرح) أما مقيت بن فضالة فأدركوه في السوق فقتلوه، وأما عبد الله بن خطل فذهب وتعلق بأستار الكعبة فأنزلوه وقتلوه، وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر وركب البحر، وأما عبد الله بن أبي سرح فاختبأ عند أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان.
ولما هرب عكرمة ركب إلى البحر، فبينما السفينة في لجة البحر إذ جاءتها ريح عاصف، وصارت السفينة كالريشة في مهب الريح -وجل الذين يركبون السفينة كانوا كفرة- فلما أزفت السفينة على الغرق قال لهم ربان السفينة: أيها الناس! أخلصوا في الدعاء، واعلموا أن آلهتكم لن تنفعكم هنا، فلما سمع عكرمة ذلك قال: (والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله عليَّ إن أنجاني لآتين محمداً، فلأجدنه عفواً كريماً) ونجا الرجل، ووفى، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط يده بالإسلام فقبل منه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، فجاء كل الناس مسلماً، فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بأخيه من الرضاعة، وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فجاء خلفه يمشي والنبي لا يراه، حتى إذا وقف عثمان أمام النبي عليه الصلاة والسلام وخلفه عبد الله بن أبي سرح، قال عثمان: يا رسول الله! بايع عبد الله، فلما رآه سكت، ما بايعه، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله.
فأبى وسكت، قال: بايع عبد الله، فبايعه بعد ثلاث مرات، ثم التفت إلى أصحابه يقول: (أليس منكم رجل رشيد إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟! فقالوا: يا رسول الله! وما أعلمنا ما في نفسك؟ (أي: وما يدرينا ما في نفسك؟) هلا أومأت بعينيك! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
الشاهد في الحديث هو قول عكرمة: (لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره).(137/3)
الإخلاص يعظم العمل
الإخلاص هو سر وضعه الله عز وجل في القلب، لا يعلمه إلا الله، فهو الذي يجزي به دون غيره، فلذا كان الإخلاص بهذه المنزلة العالية.
ثم هو يختصر لنا العبادات، فقد جاء عن بعض سلفنا -وينسب هذا القول إلى بلال بن رباح رضي الله عنه- قال: (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل) إذاً: الإخلاص مختصر طريق الجنة، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] توضع النعم في كفة والأعمال في كفة.
وقد علمنا علماً أكيداً أيضاً أن أعبد رجل على وجه الأرض وهو الرسول عليه الصلاة والسلام -قال لنا: (إنه لن يدخل أحدكم منكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فايئس، من هذا الباب، مهما فعلت، فلا تظن في يوم من الأيام أنك توفي نعم الله عليك، فهذا أعبد رجل، ما رأت البشرية ماشياً على الأرض بقدميه أعبد منه صلى الله عليه وسلم يقول هذه المقالة.
بل أخبرك ما هو مثل ذلك أو أعلى من ذلك: ثبت بأسانيد صحيحة أن الملائكة يوم ينفخ في الصور، تقول: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، والملك إنما خلق ليعبد، لا يلهو ولا يلعب، خلق ليعبد، البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه إلى يوم القيامة، سبعون ألف ملك كل يوم! الذي يدخل مرة لا يدخل إلى يوم القيامة من كثرة الملائكة، كلهم يعبدون الله، لا يعرفون الأهواء ولا الشهوات، فإذا قامت فإنهم يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام:91] فمتى توفي؟! إلهامك الشكر على النعم نعمة تحتاج إلى شكر، فشكرك يحتاج إلى شكر، فمتى تؤدي الشكر؟! هدايتك نعمة من أجل النعم تستحق الشكر، فمتى تشكر على الشكر؟ ايئس من هذا الباب.
فإن أهمك أن تنجو غداً فعليك بالإخلاص: (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل).
وهناك حديث رواه الحاكم في المستدرك لا أورده محتجاً به لضعفه؛ إنما أورده لتوضيح المقام فقط، فقد ذكر أن رجلاً كان يعبد الله في جزيرة، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان من الصخر، وأخرج له مثل الإصبع ماءً عذباً، فكان يأكل من الرمان، ويشرب من الماء العذب ويصلي، ليس له إلا ذلك، فسأل الله تعالى أن يقبض روحه وهو ساجد، فلبى له رغبته، وقُبض وهو ساجد، وكان عمر هذا الرجل في العبادة ستمائة عام، فلما قبض قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي.
فقال الله له: اعلم أيها العبد أنه لا يظلم عندي اليوم أحد، انصبوا له الميزان، فنصبوا الميزان، ووضعوا نعمة البصر في كفة، وضعوا عبادة ستمائة سنة في كفة فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر.
أين بقية النعم؟! ما جاء دورها! عبادة ستمائة عام ما وفت بنعمة البصر! قال: خذوه إلى النار، فلما جروه إلى النار جعل يصرخ ويقول: يا رب! بل برحمتك، أدخل الجنة برحمتك! قال: أرجِعُوه، فلما أرجَعُوه، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك قحط رمان من الصخر؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: فادخل الجنة برحمتي يا عبدي، كنت نعم العبد! من ذا الذي يوفي؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
وإنما بدأ بنعمة البصر لأنها من أجل النعم على العبد؛ قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، لم أجد له جزاءً إلا الجنة) إنما سماها حبيبة؛ لأنه لا يحب الدنيا إلا بها، وعند الأعمى يستوي الثوب الغالي مع الأسمال البالية ويستوي الدر الثمين مع الخرز المهين؛ فالدنيا إنما تحب بالبصر، لذلك قال: (حبيبتيه) وفي اللفظ الآخر فقال الله تبارك وتعالى في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بكريمتيه) سماها كريمة؛ لأن العبد الذي يحتاج إلى الناس ذليل، ولا يستطيع أن يعبر الشارع إلا إذا نادى، فهي تكرمه، ولا تحوجه إلى أحد، فلعظم البلاء بها قال له ذلك.
إذاً: الذي ينجينا من هذا المأزق: الإخلاص (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل).(137/4)
تحقيق الإخلاص بين يسر الدين وتنطع الصوفية
إن تحقيق الإخلاص سهل، لكن علماء السلوك من الصوفية صعبوه، حتى أن من يقرأ كلامهم عن الإخلاص ييئس أن يكون مخلصاً يوماً من الأيام! وديننا هو دين الحنيفية السمحة، فكيف يعجز المرء عن تحقيق الشرط الذي لا يقبل العمل إلا به؟! لقد عسر علماء الصوفية الإخلاص.
نقل السهروردي في عوارف المعارف عن بعض رءوسهم أنه قال: إذا شهدت في إخلاصك الإخلاص فإن إخلاصك يحتاج إلى إخلاص! يعني: إذا عملت لله عز وجل، وكنت بقلبك تشعر أن هذا العمل لله حبط الإخلاص، فإخلاصك هذا إذن يحتاج إلى إخلاص.
مع أن الإخلاص شيء يشعر به المرء من نفسه، فهو يعلم متى يكون مقبلاً على الله ليس لأحد في عمله شيء، لكن هذا الصوفي يشكك حتى في البدهيات! ونقلوا عن رويم بن أحمد -وهو أحد رءوسهم كما في تاريخ بغداد للخطيب - قال: (إخلاص المريدين رياء الموحدين) يريد أن يقول: إن أجل عبادة المريدين لعب عيال عند المقربين! والدين أيسر بكثير من ذلك، وإن أدنى رجل في الأرض لو أخلص قبل منه ذلك، وأعلى رجل في الأرض لو أشرك رد عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين (أي: له أسمال بالية، إذا رأيته سقط من عينيك وازدريته) مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) سبحان من لا يعرف أقدار خلقه إلا هو! تزدريه عينك، ويسقط من نظرك، ولو أقسم على الله عز وجل أن يقلب بلداً قلبها، لكرامته عليه.
أدنى رجل لو أخلص لله قبل الله منه، وأعظم رجل لو أشرك رد عليه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
وذكر الله عز وجل في سورة الأنعام ثمانية عشر نبياً وزكاهم وأثنى عليهم، ثم ذيل هذه التزكية بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] لا محاباة، الرجل الكبير إذا أشرك بالله عز وجل أو لم يخلص رد عليه، فكيف يقول: (إخلاص المريدين رياء الموحدين)؟! مهما كان قصده بالعبارة، أو كما يقول الآخر: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) متى تنوب السيئة عن الحسنة؟ وهكذا عسر أولئك الصوفية سبيل الإخلاص: (إذا شهدت في إخلاصك الإخلاص فإن إخلاصك يحتاج إلى إخلاص).
تعرفون بم نرد هذه الدعوى؟ نردها بحديث رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا باب الغار نزلت صخرة من الجبل فسدت عليهم الباب، فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ونزل الحجر، ولا حيلة لكم إلا بالله -وأنا أسرد القصة أذكر زيادات أخرى قد رويت خارج الصحيحين- ولا ينجيكم إلا صالح أعمالكم، فادعوا الله بها.
فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أُرح عليهما، فلما رجعت وجدتهما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما، فوقفت بجانبهما والإناء على يدي، وأنا واقف والصبية يتضاغون تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب قبلهما أحد، حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة -أي: مجاعة وحاجة- فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً فراودتها عن نفسها فرضيت، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز، فأبى واحد منهم أن يأخذ أجره وتركه، فثمرته له -يعني: نماه له- فجاءني يطلب أجره، فقلت له: كل الذي ترى هو لك.
فقال: يا عبد الله! أعطني حقي ولا تستهزئ بي.
فقلت له: لا أستهزئ بك.
فساق النعم كلها أمامه ولم يترك منها شيئاً، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).
قد علم هؤلاء صالح أعمالهم، فإنهم لن يكذبوا على الله وهم مضطرون، بل لو كانوا كفرة لأخلصوا، والظاهر أنهم كانوا من المؤمنين؛ لذلك ساق النبي صلى الله عليه وسلم لنا خبرهم مساق المدح لفعلهم، فالمؤمن يعرف من نفسه إذا كان قد أخلص أم لا، وقد قال بعض السلف: إني فعلت ذنباً منذ أربعين سنة أنتظر عقوبته.
كيف لا يعرف المرء صالح عمله من فاسده إلا إذا كان مجنوناً لا يعقل، فتحقيق الإخلاص سهل، والله عز وجل لا يصعب عليك ما جعله شرطاً في قبول العمل، لو كان الإخلاص صعباً كما يقول الصوفية لما استطاع أحد أن يخلص.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يخلص نياتنا، وأن يتقبل منا سائر أعمالنا أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(137/5)
عقبات في طريق الإخلاص
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إذا كان الإخلاص بهذه المثابة، فإن في طريق الإخلاص عقبات، ولا تستطيع أن تصل إلى أمر إلا بشيئين: بالقوة الدافعة وبضعف المانع، فإذا ازدادت القوة وضعف المانع وصلت، أما إذا زاد المانع وضعفت المنة، فعندها لا يكاد المرء يصل.
في طريق الإخلاص عقبات: عقبات حقيقية، وعقبات موهومة يظنها الناس من العقبات، لكن ليست كذلك، وأخطر النوعين: العقبات الموهومة، أما العقبات الحقيقية فكل الناس يعرفها، لكن لا يعرف كيف يتخلص منها، لذلك سنركز على العقبات الموهومة، التي تنزل منزلة الشبه.(137/6)
عقبة الشبهات
إن جميع الأشياء لا تخلو من أحد ثلاثة أحكام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) فالأمر لا يخرج عن أن يكون حلالاً محضاً، أو حراماً محضاً، أو مشتبهاً: أما الحلال البين المحض فكل الناس يعرفه.
وأما الحرام المحض فكل الناس يعرفه، وإن تذرع أحدهم أنه لا يعرفه، قال الله عز وجل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، يقول: أنا ما كنت أعرف أنه حرام، لكنه في قرارة نفسه يعرف أنه حرام، فهو يدعي كذباً أنه لا يعرف، فلو لقي الله عز وجل لفضحه، لأنه يعلم.
إذا كان الحرام لا يلتبس على الحيوانات فهل يلتبس على الذي نزل الله عز وجل عليه الكتاب ليعمل به؟! فإن القط لو خطف قطعة اللحم من أمامك لا يمكن أن يأكلها بجانبك، بل يخطفها ويهرب، لكن لو أعطيته أنت القطعة أكلها بجانبك، فهو يعرف الحلال من الحرام.
إذاً: الإنسان الذي ركب الله عز وجل فيه آلة العقل، وجعلها مناط التكليف لا يمكن أن يكون جاهلاً بالحرام المحض (100%).
لكن المشكلة في الشبهات؛ فهن (لا يعلمهن كثير من الناس) إذاً: لا يعلم حقيقة الشبهة إلا أقل الناس.
الشُبهة أو الشَبهة هي شيء يتجاذبه طرفان: من وجه تجدها حلالاً، ومن وجه آخر تجدها حراماً، فتسأل نفسك: هل تلتحق بالحلال أم بالحرام؟ رجل يقول: أنا أضع أموالي في حساب جار في البنك، الحساب الجاري ليس عليه فائدة، إذاًَ: أنا بهذا نجوت من الربا؛ لكنه وضع أمواله في بنك، وهذا هو الذي عكر عليه الموضوع، وجعله يسأل أي مفتٍ يلقاه، ولو كان يعتقد أنه حلال (100%) ما سأل أحداً، ما سأل إلا لأنه خائف، وعنده شك، ولو أنه أخذ المال وأعطاه لأحد التجار، ليضارب به فلن يذهب إلى مفت ليسأله: قل لي إذا أنا شغلت مالي عند أحد فهل هذا حلال أو حرام؟ ولا أحد يسأل هذا السؤال.
إنما حين وضع المال في البنك، والعلماء تكلموا عن الربا في البنوك، وبعد أن وضع المال، قال لك: لا آخذ رباً، لكن بقيت مسألة البنك، فيأتي العالم، هل علي جناح؟ نقول: نعم؛ لأن أدنى ما في هذه قول الله عز وجل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] أنت تعطي البنك سيولة يصرف نفسه.
أرأيت إلى رجل مرابٍ في بلد، ورجل عنده مال، فيذهب للمرابي يقول له: خذ عندك المائة ألف هذه إلى أن أرجع.
فهل سيترك هذا المرابي المائة ألف أو يستغلها؟ ويقرض الناس منها بالربا؟ فهذا تعاون على الإثم والعدوان، وإن لم تأخذ من هذا المال فائدة.
فهذا السائل يسأل عن هذا الأمر؛ لأن لهذا الأمر وجهين: وجه حلال ووجه حرام.
فلذلك مفتي الشبهات: هو الورع؛ وهو مفتي من لا مفتي له، فإذا عرض لك عارض في عمل ما، ولم تجد مفتياً، فإن الحل هو في قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) فالورع هو المفتي الجاهز الذي هو ملازم لك، لا يفارقك سفراً ولا حضراً، فإن لم تجد مفتياً، وأنت تريد تسأل عن أمر: أحلال هو أم حرام؟ فإن الورع يفتيك بترك هذا الأمر الذي اشتبه عليك (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى كاد أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى).
أي دولة في الدنيا لها حدود آمنة، لو حاول أي شخص أن يعتدي عليها يبذل أهل الدولة النفس والمال في سبيل الدفاع، ورئيس البلد يقول: هذه سيادة بلد، فكيف تخترقون الحدود؟ وتبقى مشكلة: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فإذا دخل رجل على محارم الله، فكيف لا ينتقم وهو ملك الملوك؟! كيف لا ينتقم من الذي دخل الحمى؟! كيف تؤمن نفسك؟ هذا الحلال البين: منطقة، والشبهة، وبعدها الحرام، إذا بقيت في الحلال طول عمرك كيف تصل إلى الحرام، وبينك وبينه منطقة الشبهة، إذاً: بينك وبين الحرام منطقة آمنة هي منطقة الشبهة، لكن لو قفزت من المنطقة الحلال ونزلت في الشبهة اقتربت من الحرام، الذي سوغ لك أن تنتقل من الحلال إلى الشبهة سيجرك إلى الحرام، وطالما دخلت هذه الأرض المحايدة المنزوعة السلاح، فإنك لا تأمن أن تتقدم خطوة كل يوم حتى تصل إلى الجدار الفاصل ما بين الشبهة والحرام، ومن ثم تقع في الحرام.
فإذا أردت أن تبقى دائماً بعيداً عن الحرام فلا تغادر منطقة الحلال أبداً، لا تنزل في منطقة الشبهة، وتورع عن كل شبهة (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(137/7)
الإخلاص [2]
الإسلام دين السماحة واليسر، يتعامل مع الإنسان كما هو، غير متجاهل لفطرته ولا متنكر لغرائزه، لذلك لم يضع للإخلاص في العبادة شروطاً خارجة عن نطاق قدرته، بل إنه جعل الاستجابة لنداء هذه الفطرة وفق المنهج المرضي من عند الله شرطاً للاستقامة واتباع السنة، ووسم المتنطعين بتحريم ما أحل الله من الطيبات بميسم الخروج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع ما بينهم وبينه من الإيمان بدينه واتباع شرعته.(138/1)
طلب الجنة والخوف من النار لا ينافي ابتغاء وجه الله
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
العقبات الموهومة التي يظنها بعض الناس عائقة لهم عن بلوغ منزلة الإخلاص هي أعظم بكثير -لمحل الاشتباه- من العقبات الحقيقية، وأقول: هي أعظم بكثير لمحل الاشتباه، فمن العقبات الموهومة: النعيم الأخروي والجزاء.
يظن بعض الناس أن من عمل ليدخل الجنة، فإنه لم يخلص في عمله، وهذا متواتر معروف عند علماء السلوك من الصوفية، أنك إذا قصدت بعملك أن تدخل الجنة، فإن هذا قادح عندهم في الإخلاص، حتى ينسب إلى رابعة العدوية المقالة الشهيرة، قالت: (مثل العابد للجنة أو النار كمثل أجير السوء).
أي: لا يعمل لله، إنما يعمل للجنة أو يعمل للنار، وينسب إليها أنها كانت تقول: (إن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فاحرقني بنارك، وإن كنت عبدتك طمعاً في وجهك؛ فلا تحرمني من وجهك) وأنشدت شعراً تذكر فيه هذا المعنى: كلهم يعبدون من خوف نار ويظنون النجاة حظاً جزيلا أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلا ويلتبس هذا المعنى على بعض طلاب الإخلاص.
كيف يكون طلب الجنة والاستعاذة من النار من عبادة أجراء السوء، وها هم الأنبياء يدعون ربهم تبارك وتعالى أن يدخلهم في جنته، وسيدهم صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس طلباً للجنة واستعاذة من النار؟! في سنن أبي داود أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما إني في صلاتي أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ) تتكلمون كلاماً كثيراً، وتسألون الله أشياء كثيرة، وأنا لا أحسن هذه الدندنة، أنا لا أقول غير شيء واحد: اللهم ارزقني الجنة وأعوذ بك من النار، أما دندنتك: الكلام الكثير الذي تقوله أنت ومعاذ فأنا لا أحسنه، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال عليه والصلاة والسلام: (حولها ندندن) لا نسأل الله إلا الجنة، ولا نعوذ به إلا من النار، مهما تنوعت العبارات وطالت وقصرت، لكن حول هذا المعنى ندندن.
أما الصوفية فإنهم يظنون أن هذا قادح في الإخلاص! وقد فهموا الجنة فهماً خاطئاً، إنهم يظنون الجنة رماناً وفاكهة ومتعة، ونسوا أعظم ما فيها، وهو رؤية الله تبارك وتعالى.
رابعة تقول: (أنا لا أبتغي بحبي بديلاً)، وهي لن ترى الله عز وجل إلا إذا دخلت الجنة، وأعلى ما في نعيم الجنة أن يُرى الله تبارك وتعالى؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى منادٍ: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ قالوا: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد جنبتنا السعير، وثقلت موازيننا؟! قال: فيكشف لهم الحجاب، فيرون الله عز وجل، فما أعطوا شيئاً خيراً لهم من رؤية الله تبارك وتعالى).
ولما تلا الإمام الشافعي رحمه الله قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال: (لو لم يكن من عقوبة إلا الحجاب لكان كافياً، فلما حجب أقواماً بالمعصية عرفنا أن أقواماً يرونه بالطاعة) فاستدل بالآية على رؤية الله تبارك وتعالى؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافاً للجهمية والمعتزلة الذين ينكرون هذه النعمة العظيمة.
فطلب هذا النعيم الأخروي يظنه الصوفية معارضاً للإخلاص، وغفلوا وهم علماء السلوك عن طبيعة الإنسان.
إن الإنسان لا يعمل إلا إذا أجر، لو نصبت له أجراً عمل، لو قلت له: اعمل ولا أجر لك؛ فترت همته؛ لذلك نصب الله الجنة والنار في باب الترغيب والترهيب، وأنتم ترون أن الدول التي تتعامل بالقطاع العام فاشلة؟ لأن الموظف يأخذ راتبه عمل أو لم يعمل، إنما القطاع الخاص قطاع ناجح؛ لأنه ربط الإنتاج بالأجر، يقول لك مثلاً: قطعة بدرهم، إذاً: أنت عملت قطعة في خمس دقائق، ستقول لنفسك: لم أقعدُ فارغاً، لم لا أعمل؟ وكل قطعة بدرهم؟! أما إذا قيل لك: سواء عملت قطعة واحدة أو عملت ألف قطعة، فليس لك إلا عشرة دراهم في الشهر، فإن المنة تضعف، وهذا شيء لا يمتري عليه اثنان.
فكيف يزيل هؤلاء الصوفية مسائل الترغيب ومسائل الترهيب وبعد ذلك يقولون: اطلب وجه الله؟! إن الله عز وجل خلق الإنسان يرغب ويرهب بفطرته وهم يضادون فطرة الله وخلقه، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل في غزوة أحد -وكان يأكل التمرات- فقال: (يا رسول الله! ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة) فالرجل يأكل التمرات ثم تذكر الجنة ونعيم الجنة، وهذا الكدر والنكد الذي يعيش فيه الإنسان مهما كان ملكاً مطاعاً متوجاً، فالدنيا كلها نكد، إنما الجنة دار النقاء الخالص، فسقفها عرش الرحمن، وحصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك، وما من شجرة إلا ساقها من ذهب، وكذلك النساء، والرسول عليه والصلاة والسلام يقول: (لو خرج ظفر امرأة من الحور العين للدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب! وإن الرجل ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة)، تلبس سبعين حلة، لكن ساقها مثل الزجاجة، فلذلك يرى مخ ساقها من وراء تلك الحلل، من الحسن والجمال، وقد ذكر الله عز وجل لنساء أهل الجنة صفتين، قال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] (مقصورة)، والمرأة المنتقبة في زماننا متشبهة بنساء أهل الجنة لماذا؟ لأنها لما غطت نفسها قصرت حسنها على زوجها، فلا يراها إلا زوجها، حور مقصورات في الخيام، لا يخرجن من الخيام، ولو أنهن خرجن فإنهن كما وصفهن ربهن: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، تقصر طرفها على زوجها، لا تمد عينيها إلا إلى زوجها فقط.
إذاً: المرأة المتعففة تتشبه بنساء أهل الجنة.
وأنتم تعلمون أن التشبه بالمغضوب عليهم ممنوع، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أهل النار لم أُرهما قط نساء كاسيات عاريات -لابسة ملابس شفافة، فهي كاسية لكنها عارية في الحقيقة- رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) فحين تصفف شعرها تصففه فوق رأسها وتميله إلى ناحية اليمين أو الشمال، فالعلماء قالوا: إن تصفيف الشعر بهذه الصورة وإن لم يكن ممنوعاً لذاته، لكن لأن فيه تشبهاً بالمغضوبات عليهن، فإن المرأة المسلمة لا تفعله، فالتشبه بالمغضوب عليهم أو بالكافرين ممنوع على أي وجه، والتشبه بأهل الصلاح مطلوب فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح فانظر نساء أهل الجنة متعة، كلها الجنة متعة.
وروى الإمام البزار رحمه الله حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً) هذا الحديث تكلم فيه بعض العلماء، لكن أنا خطر لي عليه قصة لطيفة جداً، رواها أبو علي الأبار في معجم أصحاب الصفدي، يقول: بينما نحن نسمع هذا الحديث من شيخ من الشيوخ، ورجل كان أتى بابنه كان سنه حوالي أربع سنوات أو خمس، قال: ما أشك أنه دون السادسة، فهو قاعد مع والده في الجلسة، والشيخ ظل يقول: حدثني فلان عن فلان عن فلان ووصل بالتالي للبزار، وذكر سند البزار وللحديث، ثم ذكر متن الحديث: (إن من أهل الجنة من يشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً) فالولد الصغير قال: على قرصه، قال: فضحكنا جميعاً، وتعجبنا من فطنة الولد؛ إذ أنه علم مع صغر سنه أن الإدام يحتاج إلى خبز.
وفي الجنة لا يحوجك ربك إلى
السؤال
أنا أريد أن آكل رماناً، أريد أن آكل تفاحاً بل بمجرد ما تشتهي شيئاً تراه أمامك، فالسؤال علامة الذل، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إليه بعض الصحابة قالوا: أوصنا، قال: (لا تسألوا الناس شيئاً)، فكان سوط أحدهم يقع منه -يسقط من يده- وهو راكب فرسه، فلا يقول: يا فلان ناولني، بل ينزل هو بنفسه ويأخذه، لأن السؤال ذل، يدل على حاجة، فلا أحد يسأل إلا وهو محتاج؛ شخص تاه عن العنوان يسأل عن العنوان شخص يريد شيئاً يحتاجه يسأل عنه.
فحتى لا يحوجك في دار الخلود والنعيم المقيم، وحتى يزول عنك الذل الذي كان في الدنيا وانتهت الحاجة إلى الخلق، كان من تمام المتعة أنك ما اشتهيت شيئاً إلا وجدته أمامك، فهل يوجد عاقل يضحي بالجنة لشهوة ساعة؟!! إنه لمغبون من ترك الجنة وما فيها لشهوة ساعة! في الدنيا: رغيف الخبز حتى تأكله لا بد أن يمر بمراحل عدة: تحرث الأرض، تحط البذر، تروي، تنزع كل الأعشاب الضارة بالزرع، تظل تتعاهده، يكبر، تحصده، تجمعه وتحمله للأجران، تدرسه، تفصل التبن عن الحب، ومن ثم تأخذه بعد هذا فتطحنه لتجعله دقيقاً، ثم تعجنه، ثم تخبزه، ثم تأكله هذا رغيف خبز، ولكنه مر بكل هذه المراحل! مصداقاً لقول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فكيف تقبل فيها الحرام وهي ساعة؟! {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
فالرسول عليه الصلاة والسلام حين سأله هذا الصحابي: (ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة.
فرمى تمرات كن معه ثم قال: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات)، هل سأنتظر في الدنيا دقيقتين، أو خمس دقائق لأ(138/2)
التنعم بالمباحات لا ينافي الإخلاص
من العقبات الموهومة ما يظنه بعض طلاب الإخلاص من أن التنعم بالمباحات عقبة في طريق الإخلاص، فالرسول عليه الصلاة والسلام بين لنا أن طلب المباحات المشروعة لا يعرقل العبد، بالعكس، لو نظر العبد إلى ما أباحه الله له وجد أن هذا يسهل عليه طريق الوصول؛ فكل شيء حرمه الله عز وجل جعل في مقابله عوضاً حلالاً، حتى لا يقع العبد في الحرام، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة.
قالوا: يا رسول الله! أيأتي الرجل منا شهوته وله صدقة؟ -هذا شيء أستمتع به، إذاً تكفيه المتعة، لكن فلماذا يأخذ أجراً فوق المتعة؟! - قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قولوا: نعم.
فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) فهو لما حرم عليه الزنا أباح له الزواج وملك اليمين والتسري، هذا كله عوض مباح، فهذا المباح الأصل فيه أنه أبيح لك لتصل إلى الله بسرعة وبأمان بلا مشاق ولا متاعب.
وقد روى مسلم في صحيحه أن حنظلة لقي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الطريق فقال له: نافق حنظلة! ما الأخبار؟ ما الحكاية؟ قال له: (نكون عند النبي صلى الله عليه سلم فيذكرنا الجنة والنار حتى كأنا رأي عين -يتكلم عن الجنة حتى كأنك تراها، والنار حتى كأنك تراها- فإذا تركناه ورجعنا إلى ديارنا وعافسنا النساء والضيعات، نسينا كثيراً مما يقول) يتهم نفسه بالنفاق يقول: أنا للتو قبل خمس دقائق كنت أبكي، وقلبي منفطر، وبعدها آتي آخذ الولد وأضمه إلى صدري، وألعب معه وأرقصه، ومن ثم أدخل على المرأة أمزح معها ماذا يعني هذا؟! ما هذا النفاق؟! المفترض ما دمت حزيناً أن أظل حزيناً هكذا دائماً، لكي أدوم على الإخلاص، لكني أحزن وبعد خمس دقائق أضحك! فظن أن هذا من النفاق، فقال: نافق حنظلة! فقال له أبو بكر الصديق: ما الحكاية؟ وبعد أن أخبره حنظلة بهذا الكلام قال له أبو بكر: والله وإني لأجد ذلك.
يعني أنا أيضاً أعاني من نفس الموضوع، أيضاً أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النار ويتفطر قلبي، وأسمع عن الجنة يشتاق قلبي، وبعد ذلك بمجرد خمس دقائق أجلس فيها مع النساء أنسى الموضوع كله.
فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أول ما حنظلة وصل قال: نافق حنظلة رفع الراية: نافق حنظلة، أول ما وصل رفع الراية: نافق حنظلة! ما الحكاية؟ قال له: يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا الجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا تركناك رجعنا إلى النساء والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً مما تقول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تكونون -أو: لو تدومون- كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرق، ولكن يا حنظلة: ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة).
الناس فهموا (ساعة وساعة) الساعة والساعة فهماً خاطئاً، فاحتجوا على باطلهم قائلين: ساعة لقلبك وساعة لربك! حسناً! أين ساعة قلبك؟ - أربع وعشرون ساعة! - وأين ساعة ربك؟! إن الله غفور رحيم! أهذا كلام يعقل؟! يظل أحدهم يضحك أربعاً وعشرين ساعة! ولكي يسلوا الناس عملوا برامج الخواجة ديجي وأبو لمعة، وهو شخص حياته كلها قائمة على الفشر.
تصور حياته كلها قائمة على الفشر! والناس يضحكون! طول النهار يضحكون، فأين ساعة الله؟! إنها غير موجودة! فالنبي عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لـ حنظلة: إنك لا تستطيع أن تصل إلى الله إلا إذا أخذت المباح، هذا هو معنى قوله: (ساعة وساعة) يعني: ساعة لنفسك تتمتع فيها بالمباحات التي أباحها الله لك، وساعة للصلاة والذكر.
وهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل لهو باطل إلا ملاعبة الرجل لامرأته وفرسه وولده).
والآن تسمع من يقول لك: ما رأيك في لعبة الأتاري والألعاب التي على الكمبيوتر؟! رصاصة وبرتقالة وعلى الذي يلعب أن يصطاد البرتقالة بالرصاصة، ومن ثم يظل يلف ساعة لكي يصطاد البرتقال كله! هل ستعلم ولدك هذا الكلام؟! تضيع عمره؟! وبعد هذا يا ويله إذا فات الوقت المحدد وبقي هناك برتقالة لم تنزل؛ يرجع له البرتقال مرة أخرى؛ لكي يظل يضرب طول النهار، إذا طاف ثلاث دورات أو أربع، وما استطاع أن يصطاد البرتقال كله يبكي على نفسه.
يقال له: يا أحول، صار أحول، أحول ما يعرف يصيب الهدف.
ويشغلون الأولاد بهذه المسائل ويضيعون أعمار الأولاد بهذه الأشياء.
أصلاً: كل لهو باطل إلا هذه الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الرجل يلاعب امرأته لماذا؟ لأن المرأة شريكة الرجل، فلا يكن معها جاداً دائماً ولن يستطيع ذلك.
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه -الذي هو أبو الجد كله- يقول: (ينبغي للرجل أن يكون كالطفل في أهله، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلاً) لا يظل طفلاً دائماً.
(ينبغي على الرجل أن يكون كالطفل في أهله) أي: يضحك ويلعب.
عرضت علي مشكلة في الشهر الماضي: شخص في نزاع مع امرأته، وهو للتو ملتزم جديد، والملتزم الجديد عنده شوق لكل شيء، نفسه يعمل كل حاجة، أول ما يقرأ حديثاً يريد أن ينفذ هذا الحديث، لديه حرارة! لكن هذه الحرارة هذه تضيع عليه الحكمة في التعامل مع الخلق ومع النصوص؛ من شدة الحماس المهم: وقع سوء تفاهم بينه وبين امرأته فقالت المرأة بعد ساعة من المشكلة: سأذهب أصالحه.
فذهبت وأخذت تطبطب عليه.
قال لها: عندك دليل؟! دليل ماذا؟! قال: عندك دليل على هذه الطبطبة؟! وهل هذه تحتاج إلى دليل يا بني؟!! أنت ماذا تريد؟! أحل لكم الطبطاب، أو الطبطبة أو)! فهو حين يقول لها: "عندك دليل؟ " يسد نفسها ويكسر خاطرها، كانت ناوية هي تعمل المسلسل! لكنه بهذه العملية أقفل عليها الباب، يعني كانت ناوية بعد الطبطبة تقول له الكلام الذي يقال في مثل هذا الباب، لكنه أقفل عليها وضيع عليها بقية الموضوع.
أنت رجل تتعب من أجل أهلك، فأحي إحسانك لأهلك بالمعروف، بالكلمة الطيبة الجميلة، بالكلمة الحسنة.
أنت الآن تصرف عليها وتنفق عليها، وتكسوها وتكسو أولادها، كثير من الناس يضيع هذا المعروف كله بالكلمة السيئة، دائماً مكشر، لا يكاد يرضى.
مثلاً: في شهر رمضان -والناس توسع على نفسها في شهر رمضان- يصعد أحدهم السلم ومعه عشرة أكياس أو خمسة عشرة كيساً: برتقال وفاكهة وأكل وكسوة، لكنه بمجرد أن يصل إلى الباب يدق بخشونة: افتحوا الباب -يغضب طبعاً- وحين يحط الأكياس: على الله يثمر فيكم! كلوا.
"على الله يثمر فيكم! " أنت قد صرفت ألف درهم مثلا، لكنك بهذه الكلمة ضيعت الألف درهم تماماً، أو حين تقول لهم: اطفحوا! راح الألف درهم.
لكن أنا لا أريدك أن تدخل بأي فاكهة ولا بأي كسوة، ادخل بلا شيء (لورا ويد لقدام)، وأول ما تدخل قل: السلام عليكم، أنا والله مقصر في حقكم، ونفسي أعمل لكم، وآتي لكم بلبن العصفور وتكلم هذا الكلام: الله يتولى جزاءكم، أنا لا أستطيع أن أجزيكم، أسأل الله أن يغفر لكم، أسأل الله أن يحسن خاتمتكم! أول ما يقول الرجل ذلك تقول له: تكفينا دخلتك علينا، أنت بالدنيا، سلامتك عندنا بالدنيا! فلوس؟! ما هذا الذي تقوله؟! وبذلك يحيي الرجل المعروف، ومن ثم يدفئ البيت بالكلام الجميل الطيب، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264].
فأن تقعد وتتكلم وتتسامر وتسامر مع امرأتك هو هذا من اللهو المباح: (اللهو كله باطل إلا ملاعبة الرجل لامرأته) فهذا من اللهو المباح، إذاً أنت تلهو وفي نفس الوقت مباح لك ذلك لماذا؟ لكي تستمر عجلة الحياة.
كذلك ملاعبة الولد، وملاعبة الفرس، الذي أنت تجاهد به في سبيل الله عز وجل.
فهكذا كل لهو باطل إلا هذه الأنواع الثلاثة لماذا؟ لأنها تعينك على الجد والسير إلى الله عز وجل، فالحياة التي لا تكون هكذا جافة.
وفي الصحيحين من حديث أنس أنه جاء ثلاثة إلى أبيات النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن العبادة، فلما وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب النساء، ويضحك مع النساء، وكان له مع زوجاته مواقف جميلة، بالذات مع عائشة رضي الله عنها، كان له مواقف كثيرة جداً مع عائشة، وكان يتلطف معها.
الحقيقة هم راحوا لـ عائشة، وعائشة هي التي بلغت النبي صلى الله عليه وسلم قول هؤلاء الثلاثة، دخلوا: ما هي الأخبار؟ كيف النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل؟ قالت: (يكون كأحدكم في مهنة أهله، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، فإذا أقيمت الصلاة قام للصلاة) مثلكم تماماً، ومن ثم تذكر أيضاً شيئاً من اللهو، وأن النبي صلى الله عليه سلم كان يلهو معها، وكان يباسطها، ويقول: (والله إني لأعرف غضبك من رضاك! قالت: كيف يا رسول الله؟ قال: إذا كنت علي غضبي تقولين: لا ورب إبراهيم! وإذا كنت عني راضية تقولين: لا ورب محمد! قالت: والله -يا رسول الله- ما أهجر إلا اسمك).
وهناك شيء آخر أيضاً! أنا أكاد أقطع أن هذا الشيء الذي سأذكره لا يفعله منا أحد.
في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما نحن في غزوة إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجال: تقدموا -يريد أن يمشي مع عائشة لوحده- فقال لها: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، قالت: فتركني- مرت مدة: شهر أو شهران سنة أو سنتان- حتى إذا حملت اللحم (تعني أنها أصبحت بدينة) قال لي: تعالي أسابقك، قالت: فسابقني فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك) واحدة بواحدة (هذه بتلك).
لكن: من الذي يعمل هذا؟! يقول لك أحدهم: أتركها تركب وتدلي رجليها؟! وأنا أجري معها، لو فعلت ذلك فلن أستطيع أن أكلمها بعد ذلك، وأنا سيد البيت، فلماذا(138/3)
الطريق من هنا [1، 2]
بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم شرائع هذا الدين ومعالمه بكل وضوح وجلاء، وأخبر أن الأمة ستفترق من بعده صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا الفرقة التي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعلم يقيناً لكل طالب للحق والنجاة أن اتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بصحابته الكرام واجب، وأنه الطريق المستقيم، والغاية المنشودة.(139/1)
الاقتداء بالسلف الصالح والسير على طريقهم سبيل النجاة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
درسنا هذا بعنوان: (الطريق من هنا).
إن الهدى هو خير ما يحتاجه الرجال، وشر بضاعة المرء الضلال، فالعبد المفلح الذي وقع ميثاق العبودية في عالم الأرواح ينبغي عليه أن يراجع نفسه: هل هو سائرٌ إلى الله عز وجل بسلام أم أضلته شياطين الإنس والجن؟ ميثاق العبودية الذي وقعه كل واحد منا في عالم الأرواح مذكورٌ في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فقال الله عز وجل {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] ومع أن هذا الميثاق لا يذكره أحد منا فكان من رحمة الله عز وجل: أن أرسل الرسل ليذكروا العباد بهذا الميثاق.
فهناك عقدٌ وقعته أنت وهو عقد العبودية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
إذاً: يا طالب النجاة! عليك بمذهب القرن الأول، فنجاتك أن تتمذهب بمذهب القرن الأول: (كلها في النار إلا واحدة، من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي)، لأبين لك عظم المحنة التي تعيشها، وربما لا يشعر كثير منا بحجم المحنة.
أصور لك هذه الفرق بأبواب: أمامك ثلاثة وسبعون باباً كلها مفتحة، وبابٌ واحد فقط هو باب السلامة، وبقية الأبواب إلى النار، وليس ذلك فحسب بل على كل باب من يدعو إليه، وعلى بعض الأبواب من يأخذ لبك ويسرق قلبك بحكم بيانه وعرضه وسمته! فإذا لم تكن متحققاً بمذهب القرن الأول ربما انطلى عليك عرض أحد هؤلاء الدعاة، وهذا الباب أول خطوة تخطوها فيه تقودك إلى النار، فهي محنة من أعظم المحن، وإذا زل المرء في الخطوة الأولى كان لها ما بعدها.(139/2)
أساليب أهل الضلال في الدعوة إلى ضلالهم
إن أهل البدع والضلال يخطفون القلوب، ولهم في ذلك وسائل هي كالشباك ينصبونها للناس، نذكر بعض هذه الأساليب تحذيراً منهم:(139/3)
من أساليب أهل الضلال: الغلو في العبادة
ومن الشباك التي ينصبها أهل البدع للناس: الغلو في العبادة، فعندما تأتي رجلاً عابداً زاهداً ضارعاً ثم يقول لك شيئاً يقع في روعك -وأنت خال من دعوة الحق- أن هذا الرجل محق.
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين فجاء رجل وقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل!!) أو قال في اللفظ الآخر: (هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا هو الضبط الأشهر، فالفتح للمخاطب: (لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، والضبط الثاني: (لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل)، فعلى الضبط الثاني المعنى واضح، أي: أنا إن لم أعدل خسرت، بسبب عدم العدل، لكن على الضبط الأول يكون المعنى: لقد خبت أنت أيها القائل وخسرت، فما ذنب القائل؟ إذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل فما هي جناية الرجل الذي لم يكن له في الأمر شيء؟ قال العلماء: المعنى: لقد خبتَ وخسرتَ بسوء ظنك في نبيك؛ أي: متى ظننت أن نبيك لا يعدل وهو مرسلٌ من قبل الله عز وجل فهذا الظن هو الذي أرداك.
فأراد خالد أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).
فهذا الكلام موجه لـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، والعبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، فهو موجه إلى هؤلاء الفطاحل، فمثلاً: خذ واحداً منهم وليكن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو أحد العبَّاد وليس أفضلهم، فهو ليس أفضل من أبي بكر ولا عمر بن الخطاب ولا أفضل من بقية الأربعة ولا بقية العشرة، بل العشرة أفضل، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان عابداً إلى درجة أنه جاء في مسند الإمام أحمد من حديث مجاهد عنه في قصته الطويلة وهي أن أباه زوجه امرأة ذات حسبٍ من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رجلاً يقوم الليل، ويقرأ القرآن كله كل ليلة، كما في صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو قال: (جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة).
ولما دخل بها أحب عمرو بن العاص أن يطمئن على العروسين، فهو يقول في مسند أحمد: (زوجني أبي امرأة ذات حسب من قريش فلما أدخلوها عليّ -وانظر إلى التعبير!! فالعادة أن يقول الرجل: فلما دخلت بها، فكلمة (أدخلوها علي) توحي لك بأنهم أدخلوها غصباً- قمت أصلي) فظلَّ يصلي طوال الليل، وعمرو بن العاص يعرف أن ابنه من الممكن أن يعمل هذا، ففي الصباح ذهب إلى زوجة ابنه يسأل عن الأخبار؟ فالمرأة مؤدبة بالطبع وصاحبة دين وخلق فقالت كلاماً جميلاً: (عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، قال: فأقبل علي أبي فشتمني وعضني بلسانه، وقال لي: أنكحتك امرأة ذات حسبٍ من قريش فأعضلتها، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستجوبه، وقال يا عبد الله: هل تقرأ القرآن كل ليلة؟ هل تصوم كل يوم؟ وبدأ يخفف عنه: اقرأ القرآن في أربعين، اقرأ القرآن في شهر حتى وصل إلى ثلاث، وقال: (لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه)، وكذلك الصيام حتى وصل إلى صيام داود، فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
فـ عبد الله بن عمرو أحد العباد لكنه ليس أشهر عباد الصحابة، فهناك من هو أفضل منه.
والحجاج بن يوسف الثقفي لما وقعت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير كان الحجاج يخطب على المنبر ويقول: عبد الله يعني ابن الزبير شر أمة محمد! فماذا كان يعمل عبد الله بن الزبير الذي كان يقول عنه الحجاج إنه شر هذه الأمة؟ كان صواماً قواماً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما ظفر به الحجاج قتله وصلبه، وكان لا يستطيع أي مار أن يقف ثانية أمام الجسد المصلوب إلا عبد الله بن عمر بن الخطاب وقال: السلام عليك يا أبا بكر أشهد أنك كنت صواماً قواماً، والله لأمة أنت شرها خير أمة، وهذا رد على الحجاج، فإذا كان شرها صواماً قواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر فكيف بأفاضلها؟ لما كانت الحرب سجالاً بين علماء الرأي في العراق وعلماء الحديث في المدينة أيام أبي حنيفة ومالك كان أحد قضاة الرأي يتكلم على المحدثين ويقول: مساكين أهل الحديث لا يعرفون شيئاً في الفقه! فقال أحد المحدثين: وكانت بي علة فحبوت إليه وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيءٍ قال علي؟ وأي شيء قال ابن مسعود؟ وأي شيءٍ قال زيد بن ثابت؟ فسكت ولم يعرف شيئاً، ثم قال له: أنا أخف أصحاب الحديث سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ فلا تقف أمام فحولهم.
فانظر كيف كانت عبادة عبد الله بن عمرو بن العاص، فعندما يرى عبد الله بن عمرو بن العاص واحداً من أتباع ذي الخويصرة التميمي يقول في نفسه: وهل أنا أصلي؟!! هل أنا أصوم؟!! أي صلاة وصيام هذا؟! إذاً إلى أين سيصل؟ فعندما يحتقر عبد الله بن عمرو صلاته إلى صلاة هذا الخارجي، فماذا يفعل هذا الخارجي؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام لعباد الصحابة: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم) فتخيل أنت عبادة هؤلاء الخوارج! هذا معناه أن عبادتهم فوق الوصف.
إذاً: ليس من صفات أهل البدع أن يكون فاسقاً منحلاً، فهؤلاء عباد من الطراز الأول.
سيقول شخص: أنت هكذا أشكلت علينا بهذا جداً، لأني أرى من أهل السنة من هم عباد فأخشى أن يكون هذا مثلهم، فتكون مشكلة.
إذاً: ما هو الفارق بين أهل البدعة وأهل السنة، وهم يشتركون في العبادة والجد فيها، وفي قراءة القرآن وفي طلب العلم حتى القعر؟ فنقول: إن الفرق هو سلامة المنهج والوقوف على السنة.
قيل للشافعي رحمه الله: (إن الليث بن سعد يقول: لو رأيت الرجل يمشي على الماء وهو يخالف السنة فاعلم أنه ضال.
قال الشافعي: قصّر الليث رحمه الله، بل لو رأيتهم يطيرون في الهواء وهم مخالفون للسنة فاعلم أنهم ضلاَّل)، وهل هناك رجلٌ يعظم السنة ولا يعظم حملتها؟! لا بد أن يعظم الذي نقل إليه الدليل إذ لو زاد الطعن في الصحابة لزاد الطعن في المنقول إلينا من خلالهم.(139/4)
من أساليب أهل الضلال: التنقص من الصحابة والتقليل من شأنهم
إن أول ما يضربه أهل البدع في جسد الأمة المسلمة هم الصحابة، فيحقّرونهم، ويقلّلون من شأنهم.
فمثلاً: عمرو بن عبيد قال له رجل: ما تقول في حديث التحفتين في الصلاة، قال: عمن؟ قال له: عن جابر بن سمرة، قال: ما تفعل بـ جابر بن سمرة؟! قبّح الله جابر بن سمرة!! نقول: بل قبح الله عمرو ورضي عن جابر بن سمرة.
فأهل البدع يحقرون الصحابة ولا يعتبرونهم مثالاً، وإنما يقولون: هم رجال ونحن رجال، ولذلك كان أول شيء وقعت فيه جماعة التكفير هو قولهم في الصحابة: هم رجالٌ ونحن رجال.
ذات مرة في سنة (81) في سجن (أبي زعبل) كان قادة السجن يضعون أصحاب كل مذهب أو معتقد في زنزانة، مثلاً: السلفيون مع بعض في مكان واحد، والتبليغ كذلك، والتكفير كذلك، فجاءت أوامر بتصوير كل المساجين من الأمام والخلف والجنب فصدر من الفرماوي -وهو رئيس فرقة الفرماوية وكان سِنُّه تقريباً يوم رأيته يدل على أنه قد تجاوز التسعين- قوله: التصوير حرام.
وكان يوجد في زنزانته قرابة أربعة وعشرين من أتباعه، فتجمعوا جميعاً في زنزانة واحدة وأصروا على عدم التصوير، فضربوهم بالقنابل المسيلة للدموع فأبوا، وعجز الحراس عن فتح الزنزانة، وعندما ضربوهم بالغاز المسيل للدموع سدوا الباب بالبطانيات، وكان الفرماوي رجلاً كبيراً مصاب بضعف في الجهاز التنفسي، فرفعوه إلى نافذة الزنزانة حتى يشم الهواء.
ومن أجل أن يجبروهم على تسليم أنفسهم وتصويرهم منعوا عنهم الطعام، وكان الفرماوية في الدور الثاني، وتوجد زنزانة فوقهم في الدور الثالث، فاجتمع من فيها فقالوا: لا يمكن أن نتركهم هكذا بلا طعام، وأتوا بفكرة أن يدخلوا لهم الطعام من النافذة الخارجية للزنزانة، فأتوا بخبز وحلاوة وربطوها في بطانية وأنزلوها من الخارج، فبينما كان الرجل - الفرماوي - يشم الهواء وجد الخبز والحلاوة نازلاً من السماء، وبما أن جماعته لا يعرفون من أين الخبز والحلاوة قالوا مباشرة: هذه كرامة، وليس بعدها كرامة، وازدادت قناعة الناس بالرجل وآمنوا به أكثر، وأصروا على عدم التصوير، وقضوا على ذلك ثلاثة أو أربعة أيام يأكلون ويشربون ولا توجد مشاكل.
فلما نقلوا هذه الجماعة من سجن (أبي زعبل) قال حراس السجن: ما دام أن كل جماعة ستتكاتف مع بعضها فلا بد أن نمزقهم ونفرقهم، فوضعوا في كل زنزانة اثنين من جماعة التكفير مع اثنين من السرق، مع اثنين من السلفيين، وأربعة من الإخوان وهكذا، فلا يمكن أن يتحدوا وكان هذا هو التقسيم الجديد الذي قسم به السجن فيما بعد.
فكنا نقوم بالرياضة في الصبح.
جماعة الفرماوية من مذهبهم أن الأخذ بالأسباب كفر، فلو مرض شخص فذهب إلى الطبيب فهو كافر -هذا هو مذهبهم- فكان واحد من الاثنين من جماعة الفرماوية اسمه: حمزة، فقلت له: يا حمزة ماذا تعمل؟ فقال لي: أعمل خياطاً، فقلت له: (بلدي أو إفرنجي؟) وكنت أستدرجه لأقول له إن هذا أخذ بالأسباب وإلا فلماذا تعمل، فقال: أنا خياط (بلدي)، وهذا الثوب الذي ألبسه أنا الذي فصلته، فقلت له: يا حمزة! ألا ترى أن هذا من الأخذ بالأسباب؟! فقال لي: ألا ترى ما ألبس؟ أنا ألبس ثوباً أخضر، قلت: وما معنى هذا؟ فقال: نحن على ثوبين، الذي يلبس الثوب الأبيض هو الواصل ولا يعمل أبداً، والذي يلبس الثوب الأخضر هو (المرمطون) الذي يصرف على صاحب الثوب الأبيض!! وقال أحد جماعة التكفير: نحن نرى أننا على الحق، وقد أمرنا الله عز وجل أن نبلغ عباده دين الله، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فسبحان الله شيء عجيب حقاً! فمنطلقهم أنهم مكلفون بدعوة الناس إلى دين الله عز وجل، ونحن في نظرهم كفار، وسيبدءون بدعوتنا.
وكانت تحصل بيننا مناقشات كثيرة، حتى وصلنا إلى الصحابة، وما هو قدر الصحابة عندهم؟ وهل عمل الصحابي أو قوله حجة أم لا؟ ومتى يصير حجة ومتى لا يصير؟ وقول الصحابي في القرآن من باب المرفوع أم من باب الرأي؟ وبدأنا نتطرق إلى هذه المواضيع، فكان جوابهم: إن الصحابة مطالبون بالقرآن والسنة مثلنا فلا ميزة لهم علينا في ذلك، فهم مطالبون ونحن مطالبون، وليس فضلاً لهم أنهم سبقونا، كما أن الرجل الكبير لا يسبق الرجل الصغير، فكونك قبلي هذا ليس فضلاً لك، فهم وجدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن لو كنا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكنا مثلهم سواء بسواء، إذاًَ فما الذي فضلهم؟! فهم رجال ونحن رجال، وهذه المناقشة الحارة كانت على إثر تحقيق قول ابن عباس: (كفر دون كفر)، فقالوا: لا نسلم.
فقلت له: ابن عباس توفر له فيها ما لم يتوفر لك، فقال: وما هو؟ فقلت: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فدعك من قضية: (هم رجال ونحن رجال) فهذا رجل معه دعوة، وأنت رجل معك دعوى، فقال: وما أدراك أن الله استجاب دعاء نبيه؟! فأنكرنا عليه ذلك حتى أن أصحابه من أهل التكفير أنكروا عليه أيضاً، وهذا المجادل هو الآن من الداعين إلى مذهب السلف، بعد أن خرج من التكفير بحادثة مؤلمة، فهناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فحينما نقلوهم إلى سجن (القناطر) وناقشوهم في كراسة شكري والتي تعتبر القرآن الثاني لجماعة التكفير، فقال الذي يناقشهم: كان المفروض على شكري أن يكتب هذه العبارة بالطريقة الفلانية لأنهم ينتقدونها علينا، فهذه العبارة أرى أنها تعدل لمصلحة الدعوة، فانبرى أحدهم وقال: أتعدل على شكري؟ فقال له: شكري ليس بمعصوم، فقال له: ليس بمعصوم ولكنك لا تعدل عليه، فحصلت مشادة وأمسك به أربعة عشر شخصاً وقتلوه ضرباً!! وقبل ذلك بزمن خرج شخص وفضح دعاة التكفير وقال: إنهم يخطفون البنات! وذكر كيف يتزوجون! ونذر وانتدب نفسه لفضح هذه الجماعة بعدما يخرج من السجن، فوفى بنذره وانتقل إلى رحمة الله عز وجل، والمقصود أنه انتقل إلى رحمة الله بتعديل منهجه.
إن أول درجة في سلم الفوضى التي يعيش فيها أهل البدع والضلال هي احتقار الصحابة، ويقنعون الجماهير بأن الصحابة مجرد رجال، يقولون لك: هم رجال ونحن رجال، ويستخدمون المقولة -التي قالها بعض أهل الحق- في الباطل، ووضعوها في غير موضعها فكانت قبيحة، وهذه هي طبيعة الكلام الحق لو وضعته في غير موضعه لصار قبيحاً، فمثلاً قولهم: (لا أحد معصوم إلا الرسل)، هذه مقولة صحيحة، فلو أن رجلاً سرق وجاء أمام القاضي، فقال له القاضي: أسرقت؟ فقال له: يا سيادة القاضي وهل هناك أحدٌ معصوم؟!! إنه لص، أي: هذه غلطة ومن الذي لا يغلط؟! وانظر إلى العبارة، فنحن قلنا الآن إنها عبارة جميلة ومتفق عليها لكن لما وضعت في غير موضعها صارت اتهاماً له، فنقول له: أسرقت؟ فيقول: وهل هناك أحد معصوم؟! وهذا معناه أنه سرق، فكذلك كل كلامٍ حسنٍ يوضع في غير موضعه يكون قبيحاً، كما قال المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى يعني: من رميته بوردة لا ترمه بالسيف، الكلام اللين في موضعه جميل، والكلام الغليظ في موضعه جميل، والكلام اللين في موضعه حكمة، والكلام الغليظ في موضعه حكمة، فهم أتوا على الكلمة التي تقول: (إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق)، وهذا كلامٌ جميل، ولكن (الرجال هم وثائق الحق)، فلو جاز أن تطعن على الواسطة جاز لك أن تطعن على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فهم الأدلاء على الحق، فلا بد من الاعتدال في فهم هذه الكلمة، فليس معنى أن الحق لا يعرف بالرجال أن ترمي الرجال.
فمن الذي يبلغ الحق؟! فلو جاز لك أن تطعن عليهم لكان ذلك طعناً على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فالرجال هم وسائط الحق، والطعن عليهم يستلزم الطعن في الحق نفسه.
كما ظهرت الدعوى القبيحة التي تقدح في أبي هريرة والتي يتكلمون فيها على الصحابة الأكابر، يقولون: إن أبا هريرة إذا أعطيته (سنتدوتش) يعطيك حديثاً مكذوباً على النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أحمد منصور هذا الرجل الساقط الذي يتكلم على أبي هريرة كما لو كان لصاً أو قاطع طريق، وهذا الكلام منشور على صفحات المجلات أمثال مجلة (روزاليوسف).
وقد كتب هذا الساقط مقالة عن أبي هريرة وعن الصحابة، وأن الصحابة كانوا رمماً!! إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة، ويقول عن أبي هريرة أنه اعترف بلسانه وقال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني) وقال: هو الذي يعترف، كان يمشي وكل همه أن يأكل، مع أن هذه الكلمة جاءت في حديث طويل وكان أبو هريرة يدافع عن نفسه، فـ عائشة رضي الله عنها اعترضت عليه في حديث نقله فنسي كلمةً أو دخل في نصف الكلام، وأن للكلام تتمة، فهو يدافع عن الحديث الذي سمعه، فقال: (يا أم! إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشط والمرآة، أما أنا فكنت رجلاً ملصقاً أمشي معه على ملء بطني).
أي: لا أتركه أبداً.
فأي طعن على أبي هريرة بهذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يفتح لكم فيقال: (أفيكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أفيكم من رأى من رأى رسول الله؟ أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله؟ فيفتح لهم) ونظر النبي صلى الله عليه وسلم نظرة في النجوم، فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، إذاً: الصحابة بوابة الأمان لهذه الأمة، وهؤلاء المبتدعة أتوا على هذا الباب وأرادوا كسره، فاتخذوا لذلك عدداً من الأساليب سواءً كانت صريحة أو غير صريحة، فالمسلسلات التي تتحدث عن الصحابة من هذا القبيل، وقد كان هناك مسلسل اسمه (على هامش السير) ويأتي لك ببداية ظهور الإسلام ويصور لك الصحابة، ويأتي لك بفتوى أنه لا يجوز إظهار العشرة المبشرين بالجنة ولكن يجوز أن يصور ما دون ذلك، وأين الدليل على(139/5)
من أساليب أهل الضلال: التجافي عن الدنيا والزهد فيها
فتجدهم أئمة زهاداً، والكثير من الناس يحب هذا الصنف ويعجب به، ومن أكثر ما يشوه صورة الداعية إلى الحق أن يكون رجلاً مادياً؛ ولذلك جاءت الرسل لتقول لأقوامهم: (ما نسألكم عليه أجراً)، حتى لا يظن ظان أن هؤلاء منتفعون، فقالوا: نحن نبذل الهدى مجاناً فخذوه بغير نوال، وكثير من الناس يستدلون على صدق الدجالين والسحرة بأنهم لا يأخذون مالاً ويعالجون الناس بلا مقابل.
إذاً: أخذ نوالٍ على الحق من أعظم المضرات؛ لذلك ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتعففوا عما في أيدي الناس ويرفضوها رفضاً قاطعاً، وهناك من الناس من يعطي باسم الهدية، ويعطي الداعية لينظر أيأخذ هذه الهدية أم لا، ويقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذا بابٌ شائع ربما يلتبس على بعض الناس، أن يقبل الهدية ويكون هذا شركاً ومصيدة أراد بعض الناس امتحانه بها.
ومما يروى في زهد أهل البدع أن رأساً من رءوس الضلال اسمه: عمرو بن عبيد -كان رأساً في التجهم والاعتزال- كان زاهداً جداً، حتى إن الخليفة المنصور كان إذا رآه يقول: كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد سلب لب الخليفة بتركه للدنيا وزهده فيها، (كلكم طالب صيد) أي رجل يدخل على الخليفة فهو يريد المال.
فـ أبو دلامة الشاعر مثلاً كان يلازم الخليفة بصفةٍ دائمة، لأنه رجلٌ نفعي يريد المال.
فخرج مرة هو والخليفة المهدي ورئيس الوزراء علي بن سليمان للصيد كما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب: تاريخ بغداد، فاصطاد المهدي ضبياً، وضرب علي بن سليمان بالسهم فاصطاد كلباً، فقال له الخليفة: قل لنا في هذا المعنى شيئاً، فأنشد على البديهة يقول: قد رمى المهدي ضبياً شق بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيئاً لهما كل امرئٍ يأكل زاده فأعطاه الخليفة ثلاثين ألف درهماً، كل بيت بعشرة آلاف درهم، فلما رجعوا من الرحلة قال له: يا أبا دلامة! قال: لبيك! قال: اهج أحدنا -وكانوا ثلاثة، الأمير ورئيس الوزراء وأبو دلامة نفسه- فوجد أن أخف الأضرار كلها أن يكون هو المهجو، فهو لا يستطيع أن يهجو الخلفية المهدي، ولا رئيس الوزراء؛ فأنشد على البديهة يقول: ألا أبلغ لديك أبا دلامة فلست من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة صار قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة فأعطاه عشرين ألف درهماً، فخرج أبو دلامة من هذه الرحلة بخمسين ألف درهم.
لقد كان أصحاب الأمراء يرجون النوال؛ ولذلك شدد سفيان الثوري وقال: إذا رأيت العالم يذهب إلى الأمير فاعلم أنه لص.
وقال: إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلا تذهب.
وكان يقول: إنك لن تأخذ من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينك ما هو أفضل، فيريد أن يعطيك مالاً ثم يرتكب مخالفة وأنت في مجلسه فتستحيي أن تقول له: هذا لا يجوز؟!! ولذلك كان ابن أبي ذئب أقوم بالحق من مالك في حضرة السلطان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل، فهذه شهادة أحمد لما سئل عن مالك وابن أبي ذئب، قال: ابن أبي ذئب قوامٌ بالحق قوال، دخل على أبي جعفر المنصور وقال له: إن الظلم فاش ببابك وأبو جعفر رجل ظالم، لا أحد يستطيع أن يراجعه، لكن ابن أبي ذئب كان قوالاً بالحق في حضرة السلطان، وهذه المسألة مختلف فيها بين علماء السلف، وضابط المسألة: مراعاة المصلحة، فمن علماء السلف من قال: لو كان لي دعوةٌ صالحة لادخرتها للسلطان؛ لأن صلاح الناس بصلاحه، ومنهم من كان يقول: لا تذهب إليه؛ حتى لا يفتن في دينه ويداهنه في أمور لا تجوز حياءً منه، وهذا هو مذهب زهاد أهل السنة، لكن أهل البدع يظهرون الزهد ليتمكنوا من قلوب الناس، كما كان حال عمرو بن عبيد فقد كان المنصور يقول: (كلكم طالب صيد) يعني: كل واحد يقترب مني يريد شيئاً، (كلكم يمشي رويد): ورويد معناها: يمشي على مهل، مثل الصياد، فأي إنسان يصطاد لا تجده يمشي بسرعة وإنما يتلفت وينظر، يبحث عن فريسة.
(غير عمرو بن عبيد) فهذا الرجل سلب لب المنصور بتجافيه عن دار الغرور.(139/6)
من أساليب أهل الضلال: التخشع عند سماع المواعظ
إن لأهل البدع شباكاً ينصبونها لجذب الناس إليهم، مثل: البكاء عند سماع القرآن، أو عند سماع الموعظة، فنجد الواحد منهم يبكي ويرتجف، ومثل: طلب العلم والتبحر فيه، وليس عن أذهانكم ببعيد أن أول حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه هو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإيمان والإحسان والإسلام، وفي مطلع الحديث يقول: عن يحيى بن يعمر، قال: انطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -أو معتمرين- فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره عما أحدثه معبد الجهني في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً فاكتنفناه، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -وفي رواية أخرى- لأنني كنت أبسط منه لساناً، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم -أي: جعل يعدد من صفاتهم: قوامون صوامون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- غير أنهم يقولون -بعد كل هذا المدح والثناء- لا قدر وأن الأمر أنف.
أي: أن الله عز وجل لا يعلم بالفعل إلا إذا وقع، فنفوا علم الله المتقدم على أفعال العباد.
وفي كتاب الصلاة لـ محمد بن نصر المروزي من طريق آخر، قال: فقابلت عبد الله بن عمر وكان إذا لقيني سلمت عليه صافحني وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس وذكر نحو الكلام الذي في الرواية الأولى، قال: فلما سمع ابن عمر ذلك؛ أرخى يده من يدي، ثم قال لي: (إذا لقيت أولئك فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم برآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً -وفي رواية- مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).
فليتعلم الذين يسعون إلى التقارب مع الشيعة من عبد الله بن عمر، وليعلموا أن خلاف الأصول لا يندمل أبداً ولا يحتمل، فقد أخالفك في مسألة فرعية، لكن إن خالفتك في مسألة أصلية فمن المستحيل أن نلتقي، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالقائلون من الشيعة الإثني عشرية: أن القرآن الموجود هو ثلث القرآن والثلثان مع محمد بن الحسن العسكري في السرداب، والذين يصرحون أن الصحابة ماتوا جميعاً على النفاق ما عدا سبعة، والذين يلعنون أبا بكر، وعمر، وعائشة، وحفصة في صلاتهم، ثم يأتي رجل ويقول: نريد أن نتقارب مع الشيعة! فعلى الرجل أن يتعلم من فعل عبد الله بن عمر وقوله، فهؤلاء يقرءون القرآن ويتقفرون -وفي رواية: يتقعرون-.
وتقعر في العلم.
أي: وصل إلى قعر العلم، وهم يقومون الليل ويصلون ويفعلون ويفعلون فلم يغتر بهذا عبد الله بن عمر بل تبرأ منهم، والبراءة من المسلم لا تجوز، فلا يحل لك أن تتبرأ من مسلم، ولكنه تبرأ منهم، فكأنما حكم عليهم بالخروج من الملة، وإن لم يحكم عليهم بالخروج من الملة فقد ارتكبوا شيئاً عظيماً جسيماً، والزجر بالهجر مشروع كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فلم يغتر عبد الله بن عمر بالسمت ولم يقل: هؤلاء فيهم خير ونترفق بهم وغير ذلك من هذا الكلام، وإنما قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً أو مثل أحد ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر) وفي هذا الكلام دلالة على أنه يذهب إلى كفرهم، وقد اتفق العلماء جميعاً على تكفير من يقول بهذا، والحمد لله فقد انقرض القائلون بأن علم الله لم يتقدم أفعال المكلفين.
فاعلم أن على كل باب من الثلاثة والسبعين باباً رجل عنده حسن عرض ينادي عليك، تعال فاسمع مني!! فإذا لم تتبع مذهب القرن الأول فلا آمن عليك أن تلج باباً من هذه الأبواب، على حد قول القائل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فرجل خالٍ من مذهب القرن الأول لا يُؤمَن عليه إذا سمع شبهة وعُرضت عليه بشكل جميلٍ أن يعتقد أن هذا هو الحق؛ لذلك كانت دراسة مذهب القرن الأول من آكد الضرورات التي ينبغي على كل مسلمٍ يبحث عن النجاة أن يتحقق بها.
ونمثل لمذهب القرن الأول مع القرون التي جاءت بعد ذلك بمثلث ثم ضع نقطة في أعلى المثلث، واسحب ضلعاً إلى أسفله ثم اسحب الضلع الآخر، فالنقطة في أعلى المثلث هي القرن الأول، وليس في النقطة أبعاد، ولا يختلف منطلق هذه النقطة عن غيرها، وليس هناك طول وعرض، ولو سلمنا بوجود الطول والعرض فلا يكاد يذكر، فالضلع الأول هو الإسلام، والضلع الثاني: هم المسلمون، وكلما نزلت وبعدت عن النقطة الأم التي هي رأس المثلث كلما زادت المسافة بين الضلعين؛ فكل قرن يمر تجد الخلاف فيه أعظم من القرن الذي سبقه، وإذا نزلت بصفة مستمرة فلا يزال البعد يزيد ما بين المثال الذي هو الإسلام -قرآناً وسنة- وما بين المسلمين.
فإذا أردت أن تقلل المسافة بين المثال وبين الواقع فاصعد إلى الأعلى، فنزولك إذاً إلى تحت مشكلة من أعظم المشاكل، وصعودك إلى الأعلى هو الأمان، ولله در علماء الحديث الذين يقولون: (النزول شؤم)، فعليك بمذهب القرن الأول وهم الصحابة.(139/7)
نماذج من سير الصحابة والتابعين
وإليك سرد لبعض مواقف وأخلاق السلف ومتابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي أخوتهم، وعزمهم، وجميع شئون حياتهم.(139/8)
التأسي والتسلي
ما هي المتعة؟ المتعة سلطان أو مال، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207] هذه علاقات الأقران في ذلك الزمان الغابر، فعندما تقرأ سير هؤلاء ترتقي بمستواك، فلو كان بينك وبين أخيك خصومة فبادر بحلها، لأن رائدك وأسوتك ميمون بن مهران مثلاً أو الحسن البصري، والله عز وجل جعل التأسي والتسلي خلقاً في بني آدم، وهذا هو الذي يسهّل عليك طلب الأسوة، وهذا ظاهر من قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وأيضاً هو ظاهرٌ في قول الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ونحن في أمثالنا نقول: (من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته).
وقد ترجمت الخنساء هذا في قولها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فلو كان في كل بيت حزن وعويل فإنك لا تحزن كثيراً على ميتك! بخلاف ما لو كنت أنت الوحيد المصاب، فعندما ترى المصيبة عند الكل تخف عليك المصيبة، هذا هو معنى: (خلق التسلي والتأسي).
فربنا تبارك وتعالى في هذه الآية يخبرنا أن الأمر في الآخرة بخلاف الدنيا، ولكن إياك أن تقول: إذا دخلت النار فسنكون كلنا مع بعض وسوف نتحدث ونخوض في الكلام، لا: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، يعني: اشتراككم في العذاب لا ينفعكم، ولا يخفف عليكم المصيبة، فكل واحد سيُحاسب بمفرده، وكل إنسان يشعر بعذابه وحده.
فخلق التسلي والتأسي موجود في الدنيا، والإنسان مستعد فطرياً وخلقةً له، وهذا أيضاً ظاهر في قول عائشة في حديث الإفك لمَّا قالت بعدما بلغها الكلام: (فظللت ثلاثة أيام بلياليهن أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فدخلت تبكي معي) فعندما تبكي معها يخف عليها الأمر، فالمريض يعذب عندما يمرض ولا يعوده أحد، لكن لو كان هناك مريض مصاب بأشد الأمراض وكان هناك من يدخل ويخرج عليه باستمرار فيمر عليه اليوم بسرعة ولا يشعر بالألم.
ولذلك الليل أكثر ألماً من النهار بالنسبة للمريض، بالرغم من أن الألم واحد، لكنه في النهار مشغول، ويجد من يدخل ويتحدث معه.
عندما تقرأ في سير الماضين والعلماء تهذب خلقك، فمثلاً: ما المانع من فضح نفسك على الملأ، ولا يعني هذا أن تذكر ذنوبك وتجاهر بها، لكن اذكر أنك رجل خطاء، كما كان يقول محمد بن واسع رحمه الله وهو أحد رياحين التابعين، وأحد الرواة عن أنس، كان يقول: (لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني) كان من العباد.
وكذلك الأعمش عندما روى حديث ابن مسعود: (أن رجلاً بات فلم يصلِّ حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وبعد أن روى الأعمش الحديث قال: (أتعرفون لماذا عمشت؟ من كثرة بول الشيطان عليَّ) وعيسى بن يونس راوي الحديث عن الأعمش يعلق على كلام الأعمش فيقول: (وكان الأعمش صاحب ليل وتهجد).
وهذا نوع من كسر حظ النفس، أن يغمط الإنسان حظ نفسه إجمالاً.
عبد الله بن وهب الإمام المصري العلم الكبير كان يقول كما ذكر الذهبي في ترجمته في السير: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فأجهدني الصوم، فنذرت أني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، فلا ضير أن يعترف على نفسه هذا الاعتراف، وهذا نوع من تهذيب النفس وغمطها، ولا تزال تنبل إذا تأسيت بهؤلاء، وفعل التابعين ليس بحجة، وإنما ذلك في قول أو فعل الصحابي، ومع ذلك المسألة أبعد من هذا التقعيد الأصولي: حجة أو ليس بحجة، فنحن في باب الأدب نختلف عنه في باب العلم.
والإمام أحمد رحمه الله أصابته علة، فدخل أحد أصحابه عليه فوجده يئن ويقول: آه آه! فقال صاحبه: حدثني فلان عن فلان أن مجاهداً كان يكره الأنين، فكف الإمام عن الأنين، هذا هو باب الأدب، فلا يأتي شخص أقول له: لا تئن، فيقول: وما الدليل؟ فأقول له: ما روي عن مجاهد فيقول: ليس هذا بحجة!! فباب الأدب مختلف عن التقعيد العلمي، فـ مجاهد حجة عند الإمام أحمد في الأدب، بل هو شيخه، لأنك كلما علوت زاد النُبل والفضل، فكان شيوخه حجة عنده في الأدب، فقد يخالفه في الفتوى ولكن لا يخالفه في الأدب، بل ظل الإمام أحمد يدعو للشافعي أربعين سنة في صلاته، فسمع ابنه عبد الله أباه يدعو للشافعي ويذكره كثيراً، فقال: يا أبت! سمعتك تدعو كثيراً للشافعي، فمن هو الشافعي؟ رغم أنه يعرف الشافعي، ولكنه يسأل عن الخفي في سيرة هذا الرجل التي جعلت الإمام أحمد يُكبِره كل هذا الإكبار، فقال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للناس، فهل بعدهما للناس من عِوض؟!) هذه هي نظرته لشيخه.
فباب الأدب مختلف عن باب العلم، فقد أخالف شيخي في العلم، كأن يقع في وهم وأسدده، لكن في الأدب هو شيخي وأنا تحته، من الممكن في العلم أن أكون فوقه، لكن في الأدب لا، فهو شيخك وتعلمت الفضائل منه، فعليك أن تحفظ هذا الجميل ما حييت، هذا هو النبل، فالتلاميذ النجباء رزق، وإذا أحب الله شيخاً سخر له تلاميذ نجباء، وإلا هل مالك أفضل من الليث بن سعد في الفقه؟ وأنا لا أقول شهادة من عندي لأن المسألة أخطر من أن يدخل الإنسان بين هذين الكبشين النطاحين الكبيرين، وإنما أقول شهادة الإمام الشافعي، قال: (الليث أفقه من مالك) لكن أصحابه لم يقوموا بمذهبه.
إذاً: رزق الله مالكاً بأصحاب ولم يرزق الليث، فالذين نشروا اسم مالك في الآفاق وصيروه في مشارق الأرض ومغاربها هم أصحابه، كذلك أصحاب أحمد والشافعي وأبو حنيفة.
فالمسألة ليست مسألة علم فقط، وإلا فعندنا من الأئمة من كان لهم مذاهب فقهية وكانوا يجرون في مضمار هؤلاء الأربعة المشاهير، كان بعضهم أجل من بعض الأئمة الأربعة، مثل سفيان الثوري، كان إماماً جليلاً ضخماً، وإسحاق بن راهويه وهو من أقران أحمد، والأوزاعي وهو من أقران مالك، وكان يقول مالك: (ما زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي)، ولما قابل سفيان الثوري الأوزاعي في السوق أخذ سفيان الثوري بلجام بغلة الأوزاعي وهو يفل الأوزاعي من الزحام ويقول: أوسعوا لبغلة الشيخ، فهل يفعل ذلك أحد من الأقران؟ وكان سفيان الثوري أكبر سناً من الأوزاعي.
فعندما تقرأ سير هؤلاء وتعيش معهم فتجدهم على منوال القرن الأول، ورجال القرن الأول هم الأساس، ثم في كل قرن تنتقي منه من كان على نفس نهج القرن الأول، وما بدأ المسلمون يتفرقون إلا بعد ظهور البدع في أواخر عهد الصحابة، مثل بدعة القدر، أو قبل ذلك بدعة الخوارج، وكبدعة الشيعة، فكلما ظهرت البدع كلما أخذت تفرق جمع المسلمين، ويصبح العدد الذي كان تبعاً لمنهج واحد تبعاً لعدة مناهج.(139/9)
صدق الصحابة في النصح للمسلمين
ورد في معجم الطبراني أن جرير بن عبد الله البجلي أرسل غلامه ليشتري فرساً، والتجارة شطارة -كما يقال- فكلما ساومت صاحب البضاعة ورخّصت السعر كنت (شاطراً)، فغلام جرير كان هكذا، ذهب إلى السوق فوجد فرساً أعجبه، فأخذ يساوم صاحبه حتى وصل إلى ثلاثمائة درهم، وكان الفرس يستحق أكثر من ذلك، لكن الغلام (فطن)، فاتفقوا على السعر وذهب الرجل والغلام بالفرس إلى جرير، فقال له جرير: بكم اشتريت الفرس؟ قال: بثلاثمائة درهم، فقال جرير لصاحب الفرس: يا صاحب الفرس! فرسك يساوي خمسمائة، فاستاء الغلام جداً من هذه الكلمة، فقال الرجل: رضيت!، قال: يساوي ثمانمائة درهم، فقال له: رضيت!، وأعطاه الثمانمائة درهم وأخذ الفرس، فقال الغلام: ما هذا؟ فقال جرير: (يا بني! إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم!).
فهل هذا المثل موجود في غير الصحابة -إلا من رحم الله وقليل ما هم-؟ لا يمكن له أن يفض البيعة بخمسمائة درهم! فأي وقت هذا، هناك رجل يفض عقده مع الله وهو عقد العبودية مثل منعم كارلس كان مسلماً فكفر لكي يصبح رئيس جمهورية، لأن من شروط رئيس الجمهورية أن يكون نصرانياً، فكفر ونقض العقد والبيعة؛ حتى يصبح رئيساً.
كان الصحابة رجالاً، ولو كان الأمر بيدي لقطعتُ لسان من يقول: الصحابة رجال ونحن رجال، وهو يعني: التسوية، ولا تساوي، فهذا جيل لن يتكرر أبداً، قال له: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)، فمن الغبن أن أفض هذه البيعة بخمسمائة درهم، فحين تنظر إلى هذه النماذج ترى نماذج عالية يتأسى بها فعلاً، فالجيل الأول كله مكاسب، وإذا اخترت في الأجيال التي تأتي بعد ذلك اختر من كان على منهج هؤلاء، فيلزمك حينئذٍ أن تبحث عن العلماء الربانيين في القرون التي جاءت بعد عصر الصحابة، وستجد عدداً وفيراً.(139/10)
شكر النعمة والإحسان إلى الجار
أنتم تعرفون كثيراً من المشاهير لكنني أنبه على بعض الأئمة الكبار الجبال الذين لا تعرفهم العامة، ولعل أكثر المسلمين لا يعرفون رجلاً اسمه: محمد بن ميمون: ويكنى بـ أبي حمزة السكري، وهو أحد الرواة عن الأعمش، وإنما قيل له: السكري لحلاوة كلامه، كان يقول: ما مرض جارٌ لي إلا قوّمت نفقته في مرضه وتصدقت بها؛ لأن الله عافاني مما ابتلاه به.
والتداوي جائز وليس بواجب، فلو مرض رجلٌ وترك التداوي جاز له ذلك، ولا يجب إلا إذا أضيف ما يرجح الوجوب، فقد ترك أبو بكر رضي الله عنه التداوي، فلو فرضنا أن العلة أصابت محمد بن ميمون وأنفق ثلاثة أو أربعة أو عشرة آلاف جنيه وعاد صحيحاً، فهو يقول: هب أني مكان الذي اعتل فسأنفق مثل هذا القدر من المال ولكن أتصدق به شكراً لله لأنه عافاني مما ابتلاه به.
وبلغ محمد بن ميمون أن جاراً له أراد بيع داره، وكان الرجل سيبيع الدار بأربعة آلاف درهم، وقيمة الدار ألفا درهم فقط، فقال له: ألفان ثمن الدار، وألفان جوار أبي حمزة، فبلغ ذلك أبا حمزة، فأرسل إليه أربعة آلاف وقال: لا تبع الدار وابق في دارك!، هذه هي مكارم الأخلاق، عندما تنظر إلى هذه النماذج المشرقة فسوف ترتفع عن سير هؤلاء الذين تعاشرهم من أهل هذا الزمان، فهؤلاء نعمة وشرف، فكيف لو عكفت على مطالعة سير هؤلاء، ولا ترى الدنيا إلا من خلالهم؟ فهناك من هو أجل بألف درجة من أمثال هؤلاء، فقد كان السلف رءوساً في العلم والعمل.(139/11)
طلب النصيحة من أهل العلم
روى أبو علي القشيري في تاريخ الرقة في ترجمة ميمون بن مهران، وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز، قال ميمون بن مهران لابنه عمرو: انطلق بنا إلى دار الحسن البصري، قال ابنه -راوي القصة-: فانطلقت بالشيخ -يعني أباه- أقوده إلى الحسن، قال: وبينما نحن ذاهبون إلى دار الحسن اعترضنا جدول ماء -يعني قناة- ولم يستطع الشيخ أن يعبرها، فجعل الولد نفسه قنطرة فعبر والده على ظهره إلى الجانب الآخر، ثم قام وأخذ والده وانطلق حتى أتى بيت الحسن، وطرقوا الباب فخرجت الجارية وقالت: من؟ قال: ميمون بن مهران، فقالت له الجارية: يا شقي! ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى ميمون وعلا بكاؤه، فلما سمع الحسن بكاءه خرج إليه، فسلم عليه واعتنقه، فقال ميمون: يا أبا سعيد! شعرت أن في قلبي غلظة فاستلن لي، فقل لي شيئاً يرققه، خرج ميمون من بيته لأنه يشعر أن في قلبه غلظة، فمن منّا يتحرك لهذا المنطلق؟! لو أتاك طبيب وقال لك: عندك تصلب في الشرايين ولا بد أن تأتيني كل شهر، وتسافر إلى (لندن، وباريس، وفيننا) لسافرت!! من أجل أن تعيش بعض السنين، وكم أكلت الأرض من عافية الناس؟ ومع ذلك تجد بعض الناس يعمل لنفسه استشارياً لأمراض القلب وضغط الدم، وإذا حصل له أي تغير أو ألم بسيط سارع في الاتصال بمستشاره لإخباره بما حصل، ويقول: حصل لي كذا وكذا فكل رجل فينا يحتاج إلى استشاري أمراض القلب وضغط الهم! وليس ضغط الدم!! وعندما تشعر بقسوة تذهب إلى هذا الاستشاري كما ذهب ميمون إلى الحسن رحمة الله عليهم.
ثم قال ميمون: يا أبا سعيد! أصوم له -أي لهذه القسوة في القلب-؟ فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، فأغشي على ميمون، أي: أغمي عليه، وجعل الحسن البصري يتفقد رِجله كما تتفقد رِجل الشاة المذبوحة يظن أنه قد مات، ثم تركه ودخل الدار، فأفاق ميمون، فقالت لهم الجارية: اخرجوا فقد أزعجتم الشيخ!! ويفهم من ذلك أن الآية زلزلت الحسن أيضاً فدخل يبكي هو الآخر؛ لأن الآية أثرت فيه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].
فخرج ميمون وابنه عمرو، وفي عودتهم قال عمرو لأبيه: يا أبت! هذا الحسن؟! قال: نعم.
قال: ظننته أكبر من ذلك! يعني: ما الذي قاله؟ قرأ آيتين أو ثلاثاً من سورة الشعراء، أنا أحفظها، فضرب صدر ولده وقال: يا بني! لقد قرأ آية لو تدبرتها بقلبك لتصدع قلبك، ولكنه لؤم فيه، وهذه الآية لا تغادر سمعك إلا وتجرح قلبك.(139/12)
أدب الخلاف عند السلف
لقد كان الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون، لكن القرن الأول الخلاف فيهم قليل، وأدب الخلاف فيهم رفيع، بخلاف القرون التي جاءت بعد ذلك، فالخلاف فيها شديد والأدب فيها يقل، فإذا نظرت إلى الصحابة وهم يختلفون مع بعضهم، كخلاف أبي هريرة مع ابن عباس في الوضوء مما مسه النار، كما في سنن الترمذي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (توضئوا مما مست النار)، -وكان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ فكان الرجل إذا أكل طعاماً مطهياً يلزمه أن يتوضأ، فكان من مبطلات الوضوء أكل أي شيء مسته النار سواء أكان شراباً ساخناً أو أكلاً- فـ أبو هريرة رضي الله عنه لما قال هذا الحديث اعترض عليه ابن عباس، وقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعامٍ أجده في كتاب الله حلالاً؟ يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: هل يلزمني إذا توضأت بماء ساخن أن أتوضأ بماء بارد مرة أخرى؟ فـ ابن عباس ليس معه حديث، وإنما هو جدل عقلي -اجتهاد- أبو هريرة معه حديث يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فلم يأت ابن عباس بحديث فيه نسخ الوضوء مما مست النار، لكنه جادل أبا هريرة حسب اجتهاده، فقبض أبو هريرة رضي الله عنه على حصا ثم قال لـ ابن عباس: (أشهد عدد هذا الحصا أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال).
فما علمنا في خبر من الأخبار أن أبا هريرة اجتنب أو هجر ابن عباس أو أن ابن عباس اجتنب أبا هريرة؛ بل كانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً)، وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، يختلفون مع بعضهم، لكنهم كانوا يعلمون الخلاف السائغ المقبول من الخلاف المردود غير المعتبر.
فعندما ترى إلى هذه الصور المشرقة في حياة الصحابة، وتقلد هؤلاء الأكابر الفضلاء، يزول كثير من العنف والجفاء الذي نراه في علاقات الناس مع بعضهم البعض.(139/13)
الاقتداء بالسلف الصالح في تمام المتابعة
إن الحل في هذه المحنة الكبيرة والداهية الدهياء هي البحث عن الباب الوحيد الذي من خلاله تنجو وهو مذهب القرن الأول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا الجيل الفريد نشر بكل أمانة كل شيء رآه بعينه أو سمعه بأذنه، فإذا قرأت عن الأنبياء من أولي العزم مثل موسى عليه السلام، هل عرفت اسم امرأته؟ وهل عرفت كيف كانت تصلي؟ هل عرفت ماذا كانت تعمل في البيت؟ وكيف كانت تربي الأولاد؟ وعندما تغضب أو ترضى، ماذا تفعل؟ لا نعرف هذه التفاصيل إطلاقاً عن أي نبي من الأنبياء، وإنما نعرف اسمه ودعوته، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الوحيد الذي نقل عنه كل شيء، وهذا ببركة أصحابه، وكما قلنا إن التلاميذ رزق للشيوخ، فكذلك الصحابة رزق للنبي، كما قال ابن مسعود: (نظر الله عز وجل في قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ونظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحابه له).
فهؤلاء كانوا مثل: (الكاميرات المسجلة) فيخرج من بيته مثلاً وهو يقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، وهو يصلي معه كل يوم، لكن في هذه المرة خرج ليعرف كيف يصلي! فينظر إلى رجله، وينظر كيف يشير مثلاً أو يحرك إصبعه، وكيف يرفع يديه في تكبيرة الإحرام؛ فينظر إلى الإصبع هل هو بمقابل الأذن وينقل نقلاً دقيقاً، ثم إذا جاء مقتضى لهذا الكلام يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما رأى.
يقول أحد الصحابة وهو جابر بن سمرة: خرجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة، وكان البدر مكتملاً، فوالله إن وجه النبي صلى الله عليه وسلم كان في عيني أجمل من البدر.
وقال: في عيني، وهذه طبيعة المحب، يرى من يحب في غاية البهاء والجمال، حتى وإن كان في عين الآخرين ليس كذلك، لكنه هنا ينقل إليك هذا الشعور.
ثم يأتي أناس من جماعة التكفير ويقولون لك: لو كنا في تلك الأيام لكنا مكانهم، فهذه الدعوى رد عليها حذيفة، ورد عليها المقداد بن الأسود، فقد جاء في الأدب المفرد للإمام البخاري في مطلع الكتاب في باب: الولد قرة العين.
أن رجلاً جاء إلى المقداد بن الأسود وقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب المقداد غضباً شديداً، قال: فتعجبت -لم يقل الرجل شيئاً يغضب عليه المقداد، لم يقل سوى: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فقلت للمقداد: ما قال الرجل شيئاً يغضبك! فقال: (وما يدريه أنه لو كان لكان كأقوام أدركوه فأكبهم الله على وجوههم في النار)، فهل أنت ضامن إن كنت موجوداً أن تكون أبا لهب أو غيره، فقد رآه رجال بأعينهم وكفروا به، فالذي يقول: لو كنا موجودين لكنا أمثال هؤلاء، هذا بطر وقلة علم وأدب، وهذا هو الذي يفتات على الله عز وجل.
فما أدراك؟ فربما كان هذا المتكلم من أكفر الكافرين؟ فما أدراه أنه لو كان موجوداً لكان من أولياء الله؟!! وحصل هذا مع حذيفة بن اليمان حيث كان جالساً مع بعض التابعين فقال له رجل: والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحملناه على الرءوس ما تركناه يمشي على الأرض.
فما معنى هذا الكلام؟ يعني: كأن الصحابة فرَّطوا وتركوه يمشي على الأرض، هذا هو مفهوم كلام الرجل، فـ حذيفة رد عليه، لأن هذا غمط للصحابة، فقال له: يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟ ثم حكى له حكاية واحدة فقط، قال: لو رأيتنا في يوم الأحزاب وكل رجل منا حفر لنفسه حفرة في الأرض -من البرد- فالصحابة كان عندهم جَلَد.
بينما ذات مرة أحدهم حج يوم حادثة النفق وتلك الزحمة التي حصلت هناك وقتل فيها أناس كثيرون، وكان يومها الحر شديد، فهذا أول ما لقيني قال لي: هل الحج مرة واحدة أم أكثر؟ وكان يكلمني بحماس، فقلت له: مرة واحدة، فقال: أشهدك أن هذه المرة هي الأولى والأخيرة!! فقلت له: لماذا تقطع على نفسك؟ قال: إن دماغي كاد يغلي من الحر! فما رأيك في الصحابة الذين كانوا يعيشون في هذا الجو، وكان عندهم جلد، فلو أرسلت لعنانك التفكير وتخيلت أي ظروف تخطر على بالك، فالصحابة كانوا يعيشون في هذه الظروف أو أشد، ونصروا الله ورسوله في هذه الظروف، فلو حصلت غزوة تبوك فلا أدري ماذا كان سيفعل هذا الرجل؟! سيرجع على عقبه أم لا؛ لأنها كانت في حر شديد وفي مشقة طويلة.
فالصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم جلد، فمن شدة البرد وقلة الغطاء يريد الواحد منهم أن يدفئ نفسه فيحفر حفرة ويدفن نفسه بداخلها، ويظهر منه نصفه الذي فوق، وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث عيناً على قريش، فقال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون معي في الجنة) فهذا حافز يجعل الصحابة يقفزون من الحفر، لأنه يقول: (معي في الجنة)، ولكن لم يقم أحد!! وقد قالها ثلاثاً، وكان حذيفة قد أحس فدخل في الحفرة قليلاً خوفاً من أن يقع عليه الأمر لصعوبته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (قم يا حذيفة! قال حذيفة: ولم يكن من طاعة الله ورسوله بد) -وهذه القصة موجودة في صحيح مسلم لكن هذه الرواية عند الطبراني وغيره- قال: (فقال يا حذيفة! ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علينا)، يعني: لا تحدث أي بلبلة فيهجمون علينا، قال: ثم دعا لي فمشيت كأنني في حمّام، أي: زال عنه ما كان يجد من البرد، فذهب إليهم ورأى ناراً عظيمة، ورأى رجلاً جالساً، فعلم أنه أبو سفيان وكانت تلك أول مرة يرى فيها أبا سفيان، قال حذيفة: فهممت أن أخرج سهماً وأضعه في القوس وأضربه، ولكني تذكرت وصية النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تذعرهم علينا).
فدخل حذيفة خيمة أبي سفيان وأراد أبو سفيان أن يؤمن نفسه، فقال: أخشى أن يكون بينكم من غيركم فليعرف كل منكم صاحبه، فقال حذيفة للذي بجانبه: من أنت؟ وانظر هنا إلى الذكاء، فلم ينتظر حتى يقول له الذي بجانبه: من أنت؟ ولكن حذيفة بادره ب
السؤال
من أنت؟ فأخبره باسمه والآخر، وتخلص من هذا الموقف، وسجل لنا شيئاً عجيباً جداً، فالله عز وجل أرسل على الأحزاب في هذه الغزوة ريحاً شديدة، قال: فكانت حجارة الجبل يضرب بعضها بعضاً من الريح، قال: والله ما تجاوز الريح معسكرهم، أي: حين خرج من المعسكر كانت الأمور هادئة جداً، والريح داخل المعسكر فقط، فكان حذيفة بن اليمان يحكي هذا الموقف للذي يقول: (لو كنا موجودين لما تركناه يمشي على الأرض)، فهل تستطيع أن تقوم بموقف مثل هذا؟ وهذا موقف من مئات المواقف التي مررنا بها، فأعطاه مثلاً على أنه لا يستطيع.
وكان ابن عمر يقول وثبت هذا عن حذيفة أيضاً: (لمقام أحدهم في الصف أفضل من عمل أحدكم ستين سنة)، فلا بد من تعظيم الصحابة بالنظر في أخلاقهم وسيرهم، وفي العمل الذي نقلوه إلينا، لنصل إلى الباب الوحيد في وسط ثلاث وسبعين باباً، إذ لو زلت قدم أحدنا في غير هذا الباب الوحيد لشقي.
أليس جديراً بنا أن نعطي هذا الباب عناية أكثر، وأن نعطيه أولوية عن رجاله ومذهبه، لأن حياتك في الدار الآخرة كلها موقوفة على أول خطوة تخطوها، فهذه خطوة لها ما بعدها، وكما يقال: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، لكن تصحيح الخطوة الأولى أهم من كل الخطوات الأخرى، لأنها تبع لهذه الخطوة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، وأن يجعل ما سمعناه وقلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(139/14)
لا حسد إلا في اثنتين
من علامات محبة الله لعبده أن يرزقه مالاً وعلماً، فإنه بالعلم يستطيع أن يوجه هذا المال في وجوهه ويصرفه في مصارفه، فالمال بيد الجاهل نقمة ووبال، وهو بيد العالم نعمة ورحمة للعباد.
كما أن من منافع العلم أن الله عز وجل يعطي الأجر لحامله عند انعقاد نيته على عمل معين، ولو لم يتمكن من إتيانه، فنعم المال الصالح بيد الرجل الصالح.(140/1)
الحسد المحمود والحسد المذموم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس).
فهذا الحديث يرشدنا إلى فضل العلم وفضل المال، وهو نص باهر في التدليل على فضل العلم؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين) فإما أن يحمل الحسد هنا على الحسد الحقيقي فيقال: إن كان يجوز الحسد فإنما يجوز في حالتين، وهذا أحد المعاني.
والمعنى الثاني والذي عليه أكثر العلماء: أن الحسد هنا بمعنى الغبطة، ومن هؤلاء العلماء الإمام البخاري رحمه الله، حيث بوب على هذا الحديث في صحيحة في كتاب العلم فقال: (باب الاغتباط في العلم والحكمة).
والفرق بين الغبطة وبين الحسد: أن الغبطة: أن تتمنى مثل ما لغيرك من الخير، من غير أن يزول هذا الخير عن غيرك.
بخلاف الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن الغير.
فإذا كان الحسد بمعنى الغبطة فيشير إليه قوله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، هذا هو التنافس المحمود الذي هو بمعنى الغبطة.
فإن كان في المعاصي أو كان بالمعنى الذي لا يجوز فهو يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنافسوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، فهنا لا تنافسوا، أي: في الحسد المذموم، وهو أن تتمنى أن يزيل الله النعمة عن أخيك وأن يؤتيكها، بخلاف الغبطة والتي هي أن تتمنى مثل ما لغيرك من الخير.(140/2)
إنفاق المال في وجوه الخير لا يتأتى إلا بالعلم
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين) فهذا يفيد أنه لا يحسد المرء إلا على حالتين فقط: (رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية- آتاه الله القرآن -وفي رواية- آتاه الله العلم -وكلها بمعنى واحد- فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) (سلطه) أي: سلطه الله على إهلاك المال، انظر التفاني في بذل المال يصل إلى حد أن صاحب المال يسلط على هذا المال فيهلكه.
ثم ذكر قيداً آخر مهماً: (في الحق)، حتى يخرج عن حيز المبذرين؛ لأن إهلاك المال أو إتلافه وإنفاقه بشراهة في غير الحق مذمة، ولذلك كان هذا القيد مهماً، وكل القيود التي تدخل على هذه الإطلاقات يجب اعتبارها؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فسلطه على هلكته في الحق) فتخلص هذا الرجل من شح نفسه، فلم ينفق ماله ديناراً ديناراً إنما تسلط عليه، فتستشعر من لفظة (سلط) هذه التي وردت في الحديث أن الرجل عنده نهمٌ شديدٌ في الإنفاق، واستخدم أيضاً الإهلاك بديلاً عن الإنفاق ليدلك على مدى الشراهة في إنفاق المال.
ولكن القاعدة التي يرتكز عليها من أراد أن يفلح في إنفاقه للمال لابد أن يكون عنده علم، وهذا واضح جداً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عند الترمذي وابن ماجة وأحمد قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه ويعلم أن لله فيه حقاً، فهذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاًً، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط به لا يرعى لله فيه حقاً ولا يؤدي ما عليه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يتمنى أن يكون مثله، فهما في الوزر سواء).
ما الذي فرَّق بين المنزلتين؟ العلم، فالرجل الأول: آتاه الله مالاً وعلماً فهذا بأعلى المنازل.
والرجل الثاني: آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا في ثاني المنازل.
أما الثالث: فرجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط.
والذي دونه يتمنى أن يكون كالثالث فهما في الوزر سواء، فالذي فرق بين هؤلاء الرجال هو العلم وليس المال.
لأن الرجل العالم إذا رزقه الله تعالى المال علم أين يضع هذا المال، بخلاف الجاهل إذا آتاه الله المال يخبط ليس عنده نور، ما فلا يضعه فيما يريده الله، فلو فرضنا أنه صرفه في شيء مباح فقد يكون هناك مصرف أولى من هذا المصرف الذي وضع فيه المال.
فمثلاً: عرض عليه رجل يحتاج إلى أكل وإلا مات، ومسجد يحتاج فرشاً، فتراه لجهله يتبرع أو يخرج المال للمسجد ويترك أخاه يموت من الجوع، فأنا أضرب الآن المثل بطاعتين يتقرب إلى الله عز وجل بهما: تنظيف المساجد، وإطعام الطعام، أيهما أعظم عند الله؟ بطبيعة الحال فإن الحفاظ على حياة المسلم أولى وأحب إلى الله، لكنه لأنه جاهل ظن أنه لو وضع ماله في أي مكان استوى كل ذلك، فالعلم هو الذي يميز في هذه المسائل، إنك لا تستطيع أن تبذل مالك لجميع الناس فتوخى به أهل الحق، ومصادر الحق.
فالذي آتاه الله تبارك وتعالى المال بجانب العلم كركيزة رئيسية هذا هو السعيد، وهذا هو الذي تَبوَّأ أعلى المنازل، والرجل الثاني الذي آتاه الله تبارك وتعالى العلم دون المال، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل فهما في الأجر سواء.
ففائدة العلم هنا أنه صحح له النية، وتعلم من هذا العلم كيف يعقد النية؛ لذلك أصاب الأجر بغير أن يكون عنده مال، إنما الآخر جاهل؛ لأن الركيزة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها غير موجودة وهي العلم، فلا يستطيع أن يعقد النية، بخلاف العالم فيعقد النية فيأخذ الأجر، حتى بغير أن يتمكن من الإنفاق الذي غبط صاحبه لأجله.(140/3)
حصول الأجر بانعقاد النية ولو لم يصاحبها عمل
ويرد هنا سؤال وهو: كيف نوفق بين هذا الحديث، وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي الذي رواه البخاري من حديث ابن عباس: (إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها عشراً، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها سيئة واحدة)، فالرجل الرابع لم يؤته الله عز وجل مالاً ولا علماً، لكنه تمنى أن يكون بمنزلة الثالث فهما في الوزر سواء برغم أنه لم يعمل شيئاً، مجرد لكنه هَمَّ ولم يفعل، وتمنى أن يكون له مثل مال هذا الرجل فهما في الوزر سواء، إذاً كيف يستقيم هذا مع قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة له) كيف هذا؟ هنا مسألة مهمة جداً وهي التي تخرجنا من هذا الإشكال وهي: أن عقد القلب عمل، فالبعض يتصور أن الفعل لا يكون إلا بالجوارح كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به).
فدل على أن العمل يكون باللسان أو بالجوارح، ولذلك يغفر الله تبارك وتعالى للعبد الهواجس التي تدور في صدره، كما في صحيح البخاري ومسلم أو في صحيح مسلم (أنهم قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يدور في صدره الكلمة لئن يخر من السماء أحب إليه من أن يتلفظ بها) أي: أشياء تتعلق بذات الله تبارك وتعالى، وفي الصحيحين: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق! فمن خلق الله؟!) أي: خلق الله كذا كذا وخلق السماوات وخلق الأرض وخلق الإنسان فيلقي الشيطان اللعين في نفوسهم -بعد هذا- فمن خلق الله؟! فبعض الناس قد يتردد في صدره أشياء لو تلفظ بها لأن يخر من السماء على أم رأسه أهون عليه من أن يتكلم بها، فقالوا هذا للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أوقد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان) أي أن هذا يدل على الإيمان؛ لأن الذي حجزك أن تتلفظ بهذا اللفظ إنما هو الإيمان، وفي بعض طرق هذا الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) فأنت لم تتكلم به إنما رد كيده إلى الوسوسة.
فمثل هذه الهواجس التي قد تتوارد في صدر العبد بقتل إنسان أو بفعل فاحشة أو نحو ذلك -مجرد أنها تدور فقط في الصدر- من رحمة الله تبارك وتعالى أنه تجاوز لهذه الأمة عنها، فلا يؤاخذ العبد بها إلا إذا تكلم بها أو فعل إما بلسان أو بجارحة.
فبعض الناس يتصور أن العمل لا يكون إلا باللسان أو بالجوارح، ونسي أن عقد القلب عمل، بمعنى أنه إذا انعقد القلب على شيء صار كالعمل.
فأنتم ترون الكفر محله القلب، هل العبد لا يؤاخذ على الكفر؟ إنه لم يتكلم به ولم يفعل شيئاً بمقتضى هذا الكفر لكن انعقد قلبه عليه، فهل يقال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به، المقصود بالعمل يعني عمل الجوارح؟ لا.
فليس هذا هو المقصود.
وفي هذا الحديث قوله: (ما لم تعمل به) دخل فيه عقد القلب؛ لأن الرياء والسمعة والعجب وهذه الصفات محلها القلب وقد لا يظهر مقتضاها على الجوارح أو اللسان.
لذلك لا نرى تعارضاً لهذا التفسير ما بين قوله: (فهما في الوزر سواء) في هذا الحديث ولا بين: (وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة) لأن هذا الحديث (ومن هم بسيئة فلم يعملها) دل على أنه يستطيع أن يعملها، والعبد قد يترك السيئة إما لخشية الله تبارك وتعالى، وقد ورد هذا صريحاً في بعض طرق الحديث عند أحمد قال: (وإذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإنه تركها من أجلي) فدل على أنه تمكن من فعل السيئة ولكن تذكر الله تبارك وتعالى فخشيه ونزع عنها.
كقصة أصحاب الغار والرجل الذي قعد من المرأة مقعد الرجل من زوجته، وهمَّ بها، لكنها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وهو قادر على أن يفعل ذلك، فهذا تكتب له حسنة كاملة.
فأنت تلاحظ هنا: (إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة) رأيت المقارنة بين الفعلين: هذا همَّ بسيئة وذاك همَّ بحسنة، فهذا أخذ حسنة كاملة، وذاك أخذ حسنة كاملة، لأن الأول: الدافع له حسن، هم بحسنة، فالدافع الذي دفعه محمود فيجازى بجنس المحمود وإن لم يفعله، والثاني: الدافع الذي دفعه وهو دافع السيئة دافع شيطاني، لكن المانع الذي منعه مانع محمود متعلق بالخشية؛ لذلك قال الله عز وجل: (فاكتبوها له حسنة كاملة)، هذا الوجه الأول في ترك السيئة.
الوجه الثاني: لو أنه ترك السيئة؛ لأنه لم يقدر عليها، فهذا لا يكتب له شيء، ولا يكتب عليه شيء.
وبذلك نقول: الذي يدع السيئة لله تبارك وتعالى هذا يأخذ حسنة كاملة، كالذي يهم بالحسنة ولا يفعلها، فإن لم يفعلها لأنه لم يمكن من فعلها؛ فلا يكتب له شيء ولا يكتب عليه شيء؛ لأن الله تباك وتعالى لا يجازي العبد إلا بعد اقترافه السيئة.
وانظر إلى البديع في قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى:40] جزاء سيئة سيئة، مع أنه قد يتبادر إلى الذهن أن جزاء السيئة عقوبة، لكن الجزاء يكون من جنس العمل، جزاء سيئة سيئة، أي: إذا وقعت منه السيئة فجزاؤه سيئة السيئة التي اقترفها.
أما الذي تمنى في حديث أبي كبشة الأنماري: (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله لا يتقي الله تبارك وتعالى فيه، ولا يؤدي الحق الذي عليه) ورجلٌ رابع لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فتمنى أن يكون له مثل هذا الذي يخبط فهما في الوزر سواء؛ لأن قلبه انعقد، والإرادة الجازمة إذا صادفت انعقاد القلب صارت كالعمل الفعلي، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هما في الوزر سواء) كما قال في سابقيه: (فهما في الأجر سواء)، وهذا من سماحة الشريعة.
ففي أحاديث كثيرة يحصل العبد بنيته مثل ما يحصله صاحب العلم أو صاحب المال، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له من العمل ما كان يعمله مقيماً صحيحاً) وهذا من أجمل الأحاديث ومن أكثرها بشرى.
فلو كنت مثلاً: تقوم الليل أو تصوم التطوع فمرضت ولم تستطع أن تفعل هذه الطاعات أو تصل رحمك أو تمشي في فعل الخيرات كل طاعة كنت تفعلها وأنت صحيح وأنت في الحضر فعرض لك عارض إما مرض أو سفر يعطيك الله تبارك وتعالى من الأجر كما لو كنت تفعله.
إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، وهذا من تمام رحمة الله تبارك وتعالى لهذه الأمة ومضاعفة الثواب لها، برغم أنها لم تعمل، لكن هذا الحديث منوط بالذي يعمل، فلو أن رجلاً لم يكن من دأبه الحرص على هذه الطاعات ومرض، لا يكتب له أجر الذي كان يقوم ويصوم ثم يمرض؛ لأن الأول متكاسل فلا يؤجر في حال العجز عن كسله في حال القدرة، بخلاف الذي منعه مرض، وكان في حال القدرة يفعل، ففي حال العجز الله تبارك وتعالى أكرم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن) قالها لما أراد المشركون أن يقطعوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري الذي قتلوه في وقعة القراء المشهورة.
فـ عاصم لما قالوا له: انزل على العهد والميثاق؛ قال: إنه لا ذمة لكافر، وأبى أن يسلم لهم، وأبى أن يضع يده في يد مشرك فقتلوه، فلما أرادوا أن يقطعوا رأسه ويأخذوه كبرهان أنهم ثأروا؛ لأن هذه الواقعة كانت بعد موقعة بدر، وقد قتل صناديد المشركين ورءوسهم، فأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري برهاناً على الثأر والانتقام، فلما أبى أن يضع يده في أيديهم وقتلوه أرادوا أن يفصلوا رأسه عن بدنه، فأرسل الله عز وجل عليه الدبر -الذي هو النحل- فقالوا: نأتي بالليل؛ لأنه بالليل ينصرف النحل إلى بيوته، فقال بعض الذين رأوا عاصم بن ثابت: فلقد رأيت جثته ترتفع بين السماء والأرض، فعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا فقال: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن)؛ لأن عاصم بن ثابت الأنصاري أبى أن يضع يده في يد مشرك، وهو حي.
فالله تبارك وتعالى لم يمكن المشركين أن يفعلوا به وهو ميت ما أبى أن يفعلوه معه وهو حي إكراماً له.
فالله تبارك وتعالى إكراماً منه ولطفاً يعطي العبد وهو مريض أو مسافر ما كان يداوم عليه وهو صحيح في الحضر.
وهناك عشرات الأحاديث التي تدل على أن المرء بالنية يستطيع أن يحصِّل الأجر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا) برغم أن الغازي المجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى الذي يرى بارقة السيوف على رأسه لا يستوي مع القاعد، لكن القاعد حصَّل نفس الأجر، لماذا؟ لأن هذا الذي تخلف عن الغزو يقيناً له عذر، لعله من أولي الضرر مثلاً، فالذي حبسه هو العذر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً -قال هذا لأصحابه وهم يغزون في سبيل الله- إلا كان أقوام في المدينة يأخذون مثل أجوركم، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم، وهم بالمدينة، حبسهم العذر).
فهذا بنيته وبتطلعه إلى فعل هذا الخير يأخذ مثل أجر من فعله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أبي كبشة الأنماري عن هؤلاء الأربعة على الاثنين الأولين: (فهما في الأجر سواء) وعلى الاثنين الآخرين: (فهما في الوزر سواء) كلمه سواء: هذه تدل على المساواة، والفارق بين هذين الاثنين وبين الآخرين هو العلم.(140/4)