تعلم الإيمان قبل القرآن
إن الإيمان هو مصنع الرجال أصحاب التضحيات والأخلاق الفاضلة حيث أن وجوده في ضمير الإنسان يولّد رقابة وبذلاً لا ينقطعان.
ولذلك ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك، حتى قال قائلهم: (تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن).
فلما تعلموا الإيمان تعلموا القرآن وأدوا حقه أحسن أداء.(66/1)
الإيمان أولاً لو كانوا يعلمون
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، أنهم قالوا: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، وإنه يأتي أقوامٌ يتعلمون القرآن، ثم يتعلمون الإيمان) هذا فرق جوهري بين جيل الصحابة وبين كثير من الأجيال التي جاءت من بعدهم، تعلموا الإيمان فلما جاء القرآن يأمر وينهى، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء لا مجال للعقل فيها، قالوا: سمعنا وأطعنا؛ لما كان عندهم من الإيمان السابق للكتاب.
قالوا: (إنه يأتي أقوامٌ يتعلمون القرآن، ثم يتعلمون الإيمان)، كأمثال كثير من الأجيال التي جاءت بعد ذلك، يتعلم القرآن لكنه ما تعلم الإيمان قبل القرآن، فتعرض عليه قضايا في القرآن فلا يسلم بها؛ لأنه لم يتعلم الإيمان أولاً، فصار المسلمون يكذبون بآيات قرآنية، وبعض المسلمين يكذب بأحاديث للرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن الفروق بيننا وبين الجيل الأول أنهم قاتلوا على آيات الكتاب، أما نحن فورثنا الكتاب، وهناك فرقٌ واضح بين الذي يقاتل على آيات الكتاب، وبين الذي ورث الكتاب، كما قال تبارك وتعالى وهو يذكر صنيع اليهود، وأنهم حرّفوا وبدلوا، فقال عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169]، فهم ورثوا الكتاب، فهناك فرق بين الذي قاتل كالصحابة، وبين الذي ورثه.(66/2)
الإيمان يصنع الرجال(66/3)
الإيمان والتجارة الرابحة
ومثال ثالث على الإيمان وأثره في الاستقامة على شرع الله وإيثار الآخرة على الدنيا: أبو الدحداح رضي الله عنه له قصة رويت بأكثر من لفظ، وسأذكر لفظاً هو صحيحاً: روى البزار وغيره: (أن أبا الدحداح رضي الله عنه كان عند النبي عليه الصلاة والسلام يوماً، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فقال أبو الدحداح: يا رسول الله! الله يريد منا القرض؟ قال: نعم، قال: عندي حائط في المدينة -وكان في هذا الحائط ستمائة نخلة، ونعلم أن البضاعة الرائجة في زمانهم كانت هي التمر- مالي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ قال: لك الجنة، قال: فإني أشهدك أنني أقرضت حائطي هذا ربي، وخرج من المجلس وذهب إلى البستان، وكان في داخل البستان زوجته وأولاده، فوقف على الباب، وقال: يا أم الدحداح، اخرجي بأولادك فإني أقرضت حائطي هذا ربي، فقالت المرأة: ربح البيع يا أبا الدحداح).
انظر إلى استعلاء المرأة بالإيمان، ما قالت له مثلاً: أنت ضيَّعتنا، لو كنت تبرعت بثلاثمائة نخلة فقط، وأبقيت لنا ثلاثمائة ما أبقيت لأولادك؟ وما إلى ذلك.
لماذا؟ لأنها استعلت بإيمانها، وأبو الدحداح لم يدخل البستان؛ لأنه لم يعد يملكه لأنه أقرضه لله تبارك وتعالى، لذلك وقف على باب البستان، وقال: (اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي)، وقد صح عن أبي طلحة الأنصاري نحو هذا، وأنه لما نزل قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] قال: يا رسول الله، عندي بستان كذا وكذا، فهو في سبيل الله، فقال: قسمه ما بين أقربائك وذوي رحمك، فنزلت الآية.
بخلاف اليهود حيث قالوا عندما نزلت الآية: افتقر رب محمد، إنه يطلب القرض، أما الصحابة فقد استجابوا لذلك وقدموا لأنفسهم، فالقرآن كما ذكر الله تعالى يكون هدى وشفاء لأقوام، ويكون عمى على آخرين.
وهذا كله كان فرعاً عن محبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، حيث كانوا يفدونه بالآباء والأمهات والأنفس.
كما صح في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: أنت الآن أحب إليَّ من نفسي، قال: الآن يا عمر)، فانظر لماذا استثنى عمر رضي الله عنه نفسه أولاً؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر النفس في الحديث، وإلا فهل تتصور إذا كان الحديث هكذا (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين).
أكان ممكناً أن يقول عمر: أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي؟ هذا غير ممكن، فلذلك لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فأنت الآن أحب إلي من نفسي).
وهذا يعني أن هذا الحب كان جاهزاً في نفس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فلذلك الصحابة عندما كانوا يسمعون النصوص كانوا يلتزمون بها، بخلاف كثير من الأجيال المتأخرة قد يسمع النص ويخالفه، فإذا قلت لأحد مثلاً: اتق الله، يقول: اللهم اجعلني من المتقين، وهو واقع في المخالفة، فهو ما يخشى من ذلك، مع أنه يقول: اللهم اجعلني من المتقين.
أما الصحابة فلم يكونوا كذلك.
ففي الحقيقة نحن نحتاج لأن نعيد النظر في محبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام، هل نحن نحبه حقاً أم لا؟ ولينظر كل إنسان، فكل امرئ حجيج نفسه، وسيقف بين يدي ربه غداً وحيداً فريداً، فينظر كم من المخالفات التي في بيته؟ فهو رب البيت، ولا سلطان لأحد عليه، كم من المخالفات في بيته وهو مقصر في رفعها، وفي القيام بأمر الله تبارك وتعالى في أهله وفي أولاده؟ ينظر الإنسان في نفسه: هل يحب النبي عليه الصلاة والسلام ذاك الحب الذي يجب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين)، و (حتى أكون أحب إليك من نفسك)؟ يقول تقي الدين السبكي في رسالة له لطيفة اسمها: بيان قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي -الإمام المطلبي: هو الإمام الشافعي رحمه الله- يقول وقد سُئل: إذا ورد حديث وفتوى عالم، والحديث يضاد فتوى المذهب، وورد حديث نصّه يخالف فتوى المذهب، فبأي الفتويين نأخذ؟ قال: خذوا بالحديث، وليفرض أحدكم نفسه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره بهذا الأمر أكان يسعه أن يتخلف؟ لا يسعه أن يتخلف، حينئذٍ نسأل: فما هو الفرق بين أمر النبي عليه الصلاة والسلام المباشر، وبين أن يصلك أمره، وقد اتفق العلماء على أن رد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد مماته إلى سنته، فلا فرق بين أن يقول لك النبي عليه الصلاة والسلام أمراً مباشراً، وبين أن يصلك أمره بعد ذلك على لسان ثقة ممن يؤتمن في نقله.
يجب علينا يا إخواننا أن ننظر في أنفسنا، وفي من نعول، ونتقي الله تبارك وتعالى فيهم، فإن الرجل لو تيسر حسابه يوم القيامة، يمكن أن يوقفه أهله على شفير النار لو هو قصر، ولم يقم بأمر الله تبارك وتعالى، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، إذاً: الحمل عليك ثقيل، ليس هيناً، فليس أنت فقط، بل أولادك مسئول عنهم، وكذلك امرأتك، وكذلك من يكون لك عليهم الولاية الواجبة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم حبه تبارك وتعالى، وحب من يحبه، وحب كل أمر يقربنا إلى حبه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(66/4)
مثال الإيمان والتضحية
أضرب لذلك مثلاً: قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، ففي الصحيح في قصة إسلامه وقبل أن يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ودخلت المسجد الحرام، فتضعفت رجلاً منهم) أي: نظر إلى رجل نحيف، وكانت قريش آنذاك تؤذي أي شخص يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الإيذاء، سواء كان على دينه، أو ينوي الدخول فيه، فهو نظر إلى شخص نحيف ضعيف -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً- فقال له: (أين ذلك الذي يقولون: إنه صابئ)، فصاح ذلك الضعيف بين الناس، قائلاً: عليكم بهذا فإنه صابئ، قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم، فما زالوا يضربونني حتى كأني نُصُبٌ أحمر، من كثرة الدماء التي سالت عليه، فاحتبس ثلاثة أيام في زمزم حتى وفق للقاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخذه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأسلم.
ورغم هذا الضرب الشديد الذي لقيه أبو ذر من هؤلاء المشركين، إلا أنه لما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثك بالحق لألقين بها بين أكتافهم) وذهب إلى المسجد الحرام مرة أخرى، وقال على الملأ: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: (فمازالوا يضربونني حتى كأني نصبٌ أحمر، فما خلصني منهم إلا العباس، قال: ويلكم! ألا تعلمون أنه من غفار، وأن تجارتكم تمر بها)، فتركوه لهذا، فانظر هل مثل أبي ذر الذي جهر بهذه الكلمة -وهو يعلم مسبقاً العناء والبلاء الذي سيقع عليه- يمكن أن يحرف في آيات الكتاب، أو يمكن أن يهون عليه أن يرى رجلاً يحرف في آيات الكتاب، ثم يسكت عنه؟ الجواب لا، هؤلاء قاتلوا على هذا الكتاب، لذلك فما كانوا ليتنازلوا عنه أو يرضوا بتحريفه، وعندما تنظر إلى الأجيال التي جاءت بعد ذلك، وإلى المارقين الذين تناولوا القرآن الكريم بالتحريف، كأمثال محيي الدين بن عربي فإن له تحريفات -بدعوى تفسير القرآن- يشيب لها الولدان.
فمثلاً قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] المعقول من أي إنسان عربي يسمع هذا الكلام، يعرف أن معنى هذه الآية: من الذي يمكن أن يشفع عند الله إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، أما ابن عربي فقال: هو الفهم السطحي والتوقف على ظاهر النص، لكن لابد أن تغوص في المعنى!!.
ثم يقول: الآية معناها: من ذلَّ ذي يَشْفَ عِ، فعجن الكلام وأتى بكلام جديد، (من ذلَّ): من الذل، (ذي) اسم إشارة بمعنى النفس، أي: من ذل نفسه وهضم الكبرياء والأنفة والشموخ، (يشف) أي: يشفى من الأمراض والكبر والبطر وهذه الأشياء، (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام.
فهل في الآية ما يشير من قريب أو بعيد إلى مثل هذا.
كان أبو بكر رضي الله عنه مرة يخطب في أصحابه، فقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]، فقال: الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم سكت، ثم قال: إن هذا لهو التكلف يا أبا بكر، فهل مثل أبي بكر لم يكن يعرف معنى كلمة أَب في اللغة، والقرآن نزل بلغتهم، وليس فيه حرف واحد إلا وهم يعرفون معناه، ثم هم يعرفون معنى كلمة الأب الذي هو العشب؟! لكن كأن مقصود أبي بكر رضي الله عنه حقيقة الأب وما وراء معنى اللفظ، فيقول: إن هذا لهو التكلف؛ لأننا ما أُمرنا بذلك، والقرآن ما أنزل كتاب علوم أو جغرافيا، إنما أنزل كتاب هداية، فالذي ينظر في القرآن على أنه كتاب علوم أو جغرافيا، لا يصل إلى حقيقة الهداية التي نالها الصحابة من هذا الكتاب العظيم.(66/5)
الإيمان بالغيب دون شك أو زيغ
مثال آخر لإيمان الصحابة بكتاب الله دون نقاش: ما روى الإمام الدارمي في سننه من أنه كان هناك رجل عراقي اسمه صبيغ -وبلاد العراق بلاد فتن وضلالات- كان يسأل المسلمين عن معنى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1]، والمعروف أن المقصود بها الريح، لكن صبيغاً أراد أبعد من ذلك، فلما علم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بذلك -وكان هو قائد الجيش آنذاك- كتب لـ عمر بن الخطاب يقول: معنا رجل يسأل المسلمين عن معنى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1] ففهم عمر مقصده، فقال: أحضره إلي، فجاءوا به إليه، فقال له عمر بن الخطاب: تسأل عن محدثة، وجعل يضربه على ظهره حتى أدماه، فتركه حتى برئ، ثم دعا به فضربه حتى أدماه، وتركه حتى برئ، ثم دعا به، فلما هم أن يضربه قال له: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأرسله، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: لا أحد يكلم صبيغاً أبداً، فكان صبيغ العراقي يمشي ولا يجد أحداً يكلمه؛ فشق ذلك عليه، فشكى إلى أبي موسى الأشعري، فكتب إلى عمر: إن الرجل حسنت توبته وأفاق، وذهب الداء الذي كان به، فأذن عمر بن الخطاب في أن المسلمين يكلمونه ويجالسونه.
انظر! لو أن أحداً مثل ابن عربي هذا موجود في زمن عمر، وقال مقولته تلك في آية الكرسي؛ لضرب عنقه.
هان عليه القرآن؛ لأنه ورثه.
مثل ذلك مثل من عانى من الفقر، ثم مكنه الله من جمع الملايين، فتجده لا ينفق ديناراً إلا في مصرفه المناسب، حتى قد يصل به الأمر إلى البخل، أما من ورث المبالغ الطائلة بدون جهد أو تعب، تجده يصرف المال يمنة ويسرة دون حساب أو عقاب.
فلذلك تجد من يقول بتفسير الإشارة، ويحرف القرآن الكريم.
وقد فسر ابن عربي أيضاً قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7] بقوله: هذه الآية إنما نزلت في أهل الورع!! -وماذا نعمل بقوله: (الذين كفروا)؟ - قال: أي: الذين كفروا إيمانهم، أي: غطوه؛ لأن أصل الكفر هو التغطية، وسمي الزارع كافراً كما في قول الله تبارك وتعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20]؛ لأنهم يوارون البذر في باطن الأرض، وسمي الليل كافراً لأنه يغطي النهار، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان، فيأتي هو ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] أي: غطوا إيمانهم خشية أن يحبط بالرياء والسمعة، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، أي: لا يصدقون بتكذيب الناس ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) فلا يدخلها غيره، ((وَعَلَى سَمْعِهِمْ)) فلا يسمعون إلا منه، ((وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)) فلا يرون غيره انظر إلى التحريف.
هان عليه القرآن الكريم حتى حرفه بدعوى التفسير.
وصدق من قال: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فمجرد المقارنة بين السيف والعصا تعتبر امتهان لمكان السيف.
فجيل الصحابة لا يقارن بمن بعده.
فهم جيل فريد قاتل وجاهد في سبيل نشر هذا الدين، وخضعوا كل الخضوع لكتاب الله، وطبقوه حق التطبيق.(66/6)
حسن الوفاء وقبح الغدر
الوفاء بالعهد من مكارم الأخلاق التي حثنا عليها ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام.
والناظر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام يجد أن الوفاء بالعهد من شيمهم ومزاياهم، ولذلك خضع الناس لهم واتبعوا دعوتهم، فقد كانوا أسوة حسنة لمن هو دونهم في مكارم الأخلاق، والله سبحانه وتعالى توعد أهل الغدر بالعقاب، ولكنه سبحانه وتعالى خص منهم ثلاثة أصناف لعظم جنايتهم، وذكر أنه خصمهم، ومن كان الله خصمه فقد خصم.(67/1)
الوفاء بالوعد خلق الأنبياء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:26 - 28].
روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (جاءني رجل يهودي فسألني: أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ فقلت له: لا -أي: لا أجيبك- حتى آتي حبر العرب - ابن عباس رضي الله عنه- قال: فجئت ابن عباس فسألته عن أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: أفضلهما وأطيبهما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل) (رسول الله) أي: موسى عليه السلام، أو هو اسم علم لكل الرسل، أي: أن أي رسول لله تبارك وتعالى إذا قال فعل، وهذا لأنه في محل الأسوة والقدوة، وقبيح جداً أن يكون الرأس كذاباً، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لأنه يقول ويفعل، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة:4]؛ ولذلك فإن القلوب والأفئدة تهوي إلى كلام الله ورسوله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته العامرة بالوفاء والأمانة ضرب المثل الأعلى للناس.
ولذلك نقول للذين يسنون القوانين: اطمئنوا ليس لقوانينكم قداسة في النفوس؛ لأننا نعلم أنكم أول من يخالفها، وهذا داء قديم لا حديث.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، وواحدة في سارة).
وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل بلداً فيها جبار، وكان هذا الجبار له عيون يرسلها في أنحاء البلد، إذا وجدوا امرأة جميلة يأتون بها إليه، وكان هذا الجبار الذي وضع القانون يستثني الأخوات، فيأخذ امرأة الرجل وأمه، وخالته وعمته، لكنه لا يأخذ أخته، وكان إبراهيم عليه السلام على علم بهذا القانون، فقال إبراهيم عليه السلام لـ سارة: إذا جاءك هذا الجبار فقولي: أنت أختي في الإسلام، فوالله ما أعلم أحداً على الإسلام غيري وغيرك.
وكانت سارة جميلة جداً، فلما رآها هذا الجاسوس ذهب إلى الملك، وقال له: إن امرأة بأرضك لا تصلح أن تكون إلا لك، فجيء بها، وبالرغم أنها قالت: إنها أخت إبراهيم، إلا أنه خالف مذهبه وأراد أن يقربها، فدعت عليه فشل، كما في الحديث المعروف.
فهؤلاء يصنعون القوانين ثم يخالفونها لأهوائهم، لذلك لا تجد قانوناً محترماً إذا سنه البشر؛ لأنهم يسنون القانون لعلة ثم يلغونه لعلة أيضاً، وما العلة إلا الهوى؛ لكن رسول الله إذا قال فعل؛ لذلك تمت الأسوة بهم، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] (وفى) من الوفاء، وهو أنه كمل العبادة لله.
لما ألقي في النار جاءه جبريل عليه السلام، وما أدراك ما جبريل؟!! خلق عظيم، له ستمائة جناح، قلب قرى قوم لوط بريشة من جناحه! قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل على رقرقٍ -أي: على كرسي- يملأ ما بين السماء والأرض).
عندما أتى جبريل إلى إبراهيم عليه السلام قال له: (هل لك إليَّ حاجة؟ قال: أما إليك فلا) لأنه عبد يفتقر إلى شيء معين وهو رب العالمين، فإذا كان رب العالمين يمكنك أن تصل إليه بلا حاجز، فلماذا تتخذ حاجزاً وتطيل المسافة على نفسك؟! قال: (أما إليك فلا) وهو في النار، وقد كاد له العالمون جميعاً، لكنه وفى العبودية حقها، ولم يلجأ إلا إلى رب العالمين تبارك وتعالى وهنا محل الوفاء.
فقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] أي: أنكحك إحدى ابنتي على أن تخدمني ثماني سنين {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} [القصص:27] إن أكملتها عشراً {فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] فهو تطوع {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] لن أجبرك على أن تخدم العشرة {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] أي: إذا عاشرتني، وعلمت كريم أخلاقي ستتم العشرة {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] هذا هو عقل الوفاء {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] إن أخذت بالحد الأدنى الذي شرطته عليَّ وقضيت إلى سبيلي {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28]، أي: لا تشق عليَّ بأن تلزمني بالخدمة {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28].(67/2)
شرح الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم)
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم -وعند ابن حبان وابن خزيمة: ومن كنت خصمه خصمته-: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) مع أن الله عز وجل خصم للظالمين جميعاً إلا أنه نبه على هؤلاء الثلاثة.(67/3)
معنى قوله: ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه -أي: العمل المطلوب- ولم يعطه أجره) يأتي به لقضاء عمل معين على أجرة معلومة، وما أكثر الذين يرتكبون هذا، كأن يذهب الشخص بعقد عمل إلى أي بلد من البلدان وبأجرة معلومة فعندما يصل يقول له صاحب العمل: أعطيك تسعمائة ريال فقط، فيجد هذا الرجل نفسه مضطراً إلى أن يعمل بهذا المبلغ؛ لأنه اقترض ثمن التذكرة وثمن عقد العمل -الفيزة- ولا يستطيع أن يرجع، فالله خصم لهذا الرجل.(67/4)
معنى قوله: من أعطي بي ثم غدر
قوله: (من أعطي بي ثم غدر) كأن تقول لرجل: أعطني هذه الأمانة، والله على ما أقول وكيل، أو الله شهيد على ما نقول، أو أعطني هذه بالله، فيغتر الرجل بكلامك ويعطيك، يظنك معظماً لله عز وجل، فإذا أكل الآكل هذه العطية فإن الله عز وجل خصمه، ومن كان الله عز وجل خصماً له فقد خصمه -أي: غلبه- قال تعالى: {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] فإذا دخلت في حمى الملك لا يستطيع أحد أن يصل إليك، وإذا أرادك هو فلا يحميك أحد منه قط، وهذا هو معنى: {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] عز جاره، فلا يغلب ولا يؤذى من كان الله عز وجل جاراً له.
فقوله: (من أعطي بي ثم غدر) لأنه لم يقدر الله حق قدره، إذ لو علم قدر ربه لخاف، ولعظم أن يحنث في اسمه، أما الذي يوفي فإن الله عز وجل يسخر له من أسباب الكون ما لا يخطر لأحدٍ على بال، هذا هو جزاء الوفاء.
من وفى لله وفى الله له، وبقدر ما تبذل لربك يبذل الله عز وجل لك من أسباب الفوز، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل استلف من رجل ألف دينار، فقال صاحب المال للذي يريد أن يقترض منه: ائتني بوزير -وفي رواية: بكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً.
قال: ائتني بشهيد.
قال: كفى بالله شهيداً.
قال: صدقت، وأعطاه الألف دينار -بلا مستند- فأخذ الرجل المال وانطلق به يتاجر في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركباً يؤدي الدين في الموعد المعلوم، فلم يجد مركباً وهدأ البحر -توقفت حركة الملاحة- والرجل الآخر على الشاطئ الآخر ينتظر مركباً ليأتي صاحبه -وعند ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة -: أن الرجل صاحب المال جعل يسأل عن صاحبه الذي اقترض منه المال، فقالوا له: إنه في مكان كذا وكذا.
قال: رب! إني أعطيت المال بك فاخلف عليَّ.
-كأنه ظن أن الرجل غدر به وأكل المال؛ لأنه موجود، سأل عنه فقيل: في المكان الفلاني طيب لماذا لم يأت؟ - قال: رب إني أعطيت بك فاخلف عليَّ.
والرجل ينتظر مركباً ولا يجد، فلما يئس نظر إلى السماء، وقال: رب! أنت وكيلي -يعني: ماذا أفعل وقد أخذت المال بك؟ وماذا يقول الرجل عني؟ يظن أني غدرت، حنثت، كذبت، جعلتك جنة حتى أخذت المال بك.
هناك بعض الناس -والعياذ بالله- الله تبارك وتعالى عندهم رخيص، فتجده يحلق بأغلظ الأيمان لدرهم واحد وهو كاذب، يحلف بالأيمان الغلاظ التي تدخل أمة كاملة في جهنم، اليمين الغموس هو أحد الكبائر والموبقات الذي يجعل الديار بلاقع، الرجل يبذل يميناً يقتطع بها حق امرئ مسلم، فما أهون الله عند هؤلاء! الرجل حزين واقع في كرب حائر تأكله الهواجس، فلما قال: رب! أنت وكيلي، أخذت المال بك، فأوصل هذا المال إلى صاحبه، ونقر الخشبة ووضع الكيس فيها مع رسالة من صاحبه، وقذف بها في البحر فابتلعها الموج، وكان الرجل على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس أن يأتي صاحبه وجد خشبة تروح وتجيء أمامه -ومعنى حركة الملاحة متوقفة، أي: أن البحر هائج وهناك رياح عاصفة وأمطار غزيرة وبرد- فقال: آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها، فأخذها، فلما ذهب إلى الدار ألقاها إلى امرأته، وقال: أوقدي بها، فكسرت المرأة الخشبة فنزل منها الكيس، فقرأ الرسالة في الكيس وعد المال، وكان الرجل الآخر ينتظر مركباً حتى وجد أول مركب، فركب وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه؛ فقال: هذا أول مركب.
قال: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: أقول لك هذا أول مركب.
قال: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك).
وفي صحيح ابن حبان: قال أبو هريرة: (فلقد رأيتنا يكثر لغطنا ومراؤنا عند النبي عليه الصلاة والسلام أيهما آمن من صاحبه -من أشد إيماناً من الآخر- الذي أعطى المال بالله بلا مستند، أم الذي رمى بالمال في البحر وهو لا يضمن أن يصل هذا المال إلى صاحبه).
فإذا جعلت الله وكيلك كان أفضل منك، وكان أرعى للأمانة منك، كما يقول بعض العلماء: إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب كان لك من الحظ أفضل منه، فقيل له: لم؟ قال: لأنك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثل ذلك، ودعاء الملك أثقل من دعاء العبد بنفسه، ملك، مسخر، مطيع، لا يعصي ربه أبداً، فإذا قلت: اللهم اغفر لأخي، وارزقه، وارحمه؛ قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثله.
فدعاء الملك لك أثقل من دعائك لأخيك.(67/5)
معنى قوله: ورجل باع حراً فأكل ثمنه
فهؤلاء الثلاثة الذين يخصمهم رب العالمين أولهم: (من أعطي بي فغدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه) كأن يكون عنده عبد فيعتقه، ويقول له: أنت حر لوجه الله، ويكتم نبأ العتق، ثم يقع في ضائقة فيأخذ هذا العبد ويبيعه في الأسواق على أنه عبد، مع أن الله عز وجل أنجاه من ربقة العبودية بالحرية، فهذا الرجل خصمه رب العالمين.
وإن أكبر مشكلة ومصيبة يتعرض لها المرء في حياته أن يكون عبداً مسترقاً، لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى لو أراد أن يتزوج لا يستطيع إلا إذا أذن له سيده، حتى وإن بلغت به العزوبية غاية المشقة فلا يجرؤ ولا يستطيع الزواج.
قال صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد تزوج بغير أذن مواليه فهو عاهر) أي: فاجر.
يحتاج أن يتزوج، ولكن سيده تعنت، قال له: لا زواج؛ فلا يستطيع الزواج.
وكذا إذا شق عليه سيده بالخدمة فلا يستطيع أن يفر بجلده أبداً، ولابد أن يضل مكانه؛ لأن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق من سيده لا تقبل له صلاة ولا زكاة ولا صيام حتى يرجع).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤدي ولد حق والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه) هذه هي التي يستطيع الولد أن يقول لأبيه: أنا معك رأس برأس إنما غير ذلك، فلا يستطيع أن يؤدي حق والده أبداً.
فهذا الرجل عندما يعطي هذا المملوك حريته، ويكتمها ويبيعه بعد أن صار حراً يكون الله خصيمه يوم القيامة.
فهذا الرجل الذي باع الحر وأكل ثمنه الله عز وجل خصمه.(67/6)
من هديه صلى الله عليه وسلم في الوفاء وترك الغدر
الوفاء من شيمة الأنبياء، كما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس، في الحديث الطويل لما حدثت مناظرة بين هرقل وأبي سفيان في أمر النبي عليه الصلاة والسلام، (فقال هرقل لـ أبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال له: لا.
قال: فهل يغدر؟ قال له: لا.
قال: فبم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة).
سبحان الله! أفمثل هذا يقاتل، إنهم -أي: العرب- فعلوا مثل ما قال قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56] لماذا؟ ما ذنبهم؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] (فقال لـ أبي سفيان: ما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله -ولما جاء على الغدر- قال: وكذلك الأنبياء والرسل لا يغدرون).
وفي كتاب الشهادات طرف من هذا الحديث عند البخاري أيضاً: قال هرقل لما قال له أبو سفيان: (إنه يأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي) أي: أنه لا يفعل مثل هذا إلا نبي.(67/7)
قصة المغيرة بن شعبة والنفر الذين قتلهم وسلب أموالهم
جاء في الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية، قال في هذا الحديث: (وجاء عروة بن مسعود الثقفي فأتى المغيرة بن شعبة -وفي رواية: أنه تلثم-) وضع لثاماً على وجهه لما وجد أن عمه قادم -وهو عروة - وجاء بالسيف يظن أن عروة يريد شيئاً أو يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء بالسيف، ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عروة يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، فيمد يده فيمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام فيضربه المغيرة بظهر السيف، فينظر عروة فلا يعرفه -أي: لا يستطيع أن يميزه لأنه ملثم- ثم يعود عروة فيمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام فيضربه المغيرة، حتى إذا تكرر ذلك أكثر من مرة قال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: (من هذا الذي أزعجني وضرب يدي؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا ابن أخيك، هذا المغيرة بن شعبة، فقال عروة للمغيرة: أي: غدر! -أي: يا أيها الغادر- لا زلت تسعى في غدرتك، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس).
وكان من خبر المغيرة -وهذا هو الشاهد- أنه صحب ثلاثة عشر نفراً من قريش قبل أن يسلم، فشربوا الخمر جميعاً، فقام عليهم المغيرة فقتلهم وسلب أموالهم، وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقص عليه ذلك.
فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) ورد المال عليه ولم يأخذه، حتى يترفع عن الدنايا، وأنت تعلم أن الأنبياء أكمل الناس مروءة، فلا يفعلون شيئاً يشينهم عند العوام حتى لو كان مباحاً.
موسى عليه السلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عرايا، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يغتسل في مكان بعيد، فقالوا: ما الذي يجعله أن يغتسل بعيداً عنا.
إنه آدر) آدر: يعني: لديه عيب في الخصية؛ ولذلك هو لا يريد أن ينكشف أمامنا، فكونهم يغتسلون عرايا ولا ينكر عليهم موسى عليه السلام دل على أن هذا كان مباحاً عندهم، ولكنه ليس من المكارم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حييٌ ستير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)، ولما قال له بعض الصحابة: (إنني أكون وحدي فأكشف عن فخذي، قال: إن الله أحق أن تستحيي منه) فهذا وإن كان مباحاً لكنه ليس من مكارم الأخلاق، لذلك عافه موسى عليه السلام ولم يفعله، وكان يغتسل وحده بعيداً حتى اتهموه بهذه الفرية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضع موسى عليه السلام ثوبه يوماً على حجر ونزل يغتسل كالعادة، فأخذ الحجر ثوبه وفر، فلما رأى موسى عليه السلام أن الحجر أخذ ملابسه، انطلق يجري خلف الحجر وهو ينادي عليه يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر -أي: هات ثوبي أيها الحجر- فمر موسى عارياً يجري خلف الحجر، فمر على بني إسرائيل وهم يغتسلون عرايا فرأوه، فقالوا: ما بالرجل من بأس -أي: هذا الذي رميناه به ليس فيه-) وقد ذكر الله ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(67/8)
قصة حذيفة بن اليمان وأبيه مع كفار مكة
لقد ضرب نبينا صلى الله عليه وسلم المثل الأروع في الوفاء وترك الغدر، حتى مع أعدائه، ولذلك احترموه؛ وكانوا يهابونه ويوقرونه، وكثير من الذين دخلوا الإسلام كان بسبب ما رأوا من شمائله، وقبل أن يعرفوا شيئاً من أحكام الإسلام، وكذلك الرأس، فكثير من الناس لا يفرق بين الدعوة والداعية، فإذا رأوا داعية كذاباً ممارياً ممارئاً مماطلاً ظنوا أن الدعوة كذلك؛ لأنهم لا يفرقون، وإذا رأوه وفياً كريماً سخياً اعتقدوا صحة هذه الدعوة.
وأناس كثيرون دخلوا الدعوة لما نظروا إلى شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (خرجت أنا وأبي فلقينا كفار قريش، قالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة.
فقالوا: لا.
إنكم تريدون محمداً.
قلنا: لا نريد إلا المدينة.
قال: فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له ذلك، فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).
وهؤلاء أعداء لكنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يضع أمر الله تبارك وتعالى، فيقول: هؤلاء أعداء، قال: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) لذلك قال حذيفة: (فشهدنا بدراً ولم نقاتل) كانوا حاضرين في القتال، وهذا من تعظيم الوفاء بالعهد.(67/9)
من هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس واللطف بهم
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فترك الغدر فضيلة، وأفضل منه الوفاء بالعهد؛ لأن الوفاء بالعهد فيه ترك الغدر أيضاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدر، ويأمر أصحابه أن يتركوا الغدر كما في حديث بريدة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً -يعني في غزة من الغزوات- يوصيه في خاصة نفسه بتقوى الله، ويقول: اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تقتلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) كان كلما أمر أميراً يوصيه بترك الغدر؛ لأن ترك الغدر يخضع له القلب، وأنت رجل رأس في محل الأسوة، فقبيح جداً بالرأس أن يكون غداراً كذاباً.
وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه اشترى بعيراً من أعرابي بأوسق من تمر الذخيرة -أي: عجوة- وقال: يا أيها الأعرابي! إني مشترٍ منك هذا الجمل، ثم دخل البيت يبحث عن تمر فلم يجد، فخرج الأعرابي، وقال: يا أعرابي! إنني ظننت أن في البيت تمراً من تمر الذخيرة لكني لم أجد، فقال الأعرابي: وا غدراه! - (وا غدراه)! يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر- فزجره الصحابة: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليغدر -الرجل أيضاً لا زال يتكلم: وا غدراه! - والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إني ظننت أن عندي تمراً -يعني: إنما قال ذلك ظناً منه- قالت عائشة: فلما وجد -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- الأعرابي لا يفقه ما يقول أرسل إلى خويلة بنت حكيم بن أمية إذا كان عندها تمر من تمر الذخيرة، فوجد عندها تمراً فأعطى الرجل، وأخذ منه البعير، فقال الأعرابي: جزاك الله خيراً، لقد وفي).
وفي هذا درس لكل رأس، وعلى وجه الخصوص الذين يوقعون في الأرض عن الله ورسوله: العلماء والدعاة هم أحوج الناس إلى هذه الوصية، تقول عائشة: (فلما رأى أن الرجل لا يفقه ما يقول سأل خويلة بنت حكيم) لابد من رحمة الناس، رجل لا يفقه لا تقل له: اضرب رأسك في الحائط، أنت حر، افعل ما بدا لك لا تقل هذا الكلام؛ لأن هذا يعود على دعوتك، فنحن نفتدي الدعوة بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا وأعراضنا، فالنبي عليه الصلاة والسلام رحم هذا الرجل؛ ووفى له؛ حتى لا يضل يقول: وا غدراه! وكل مجلس يقول: غدر بي.
إذاً لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أراد أن يرحم الرجل من نفسه؛ لأنه لا يفقه.
والنبي عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عن الغدر، وهذه كانت سيرته، بل كان سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام، فورث منه ذلك أصحابه، فلله در أبي بكر صديق الأمة كما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر قال: (لما جاء أبا بكر مال من العلاء بن الحضرمي قال: من كان له دين على النبي صلى الله عليه وسلم فليأتني) نتمنى أن تكون علاقة المسلمين ببعضهم بعضاً، كعلاقة النبي بـ أبي بكر وعلاقة أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم (من كان له دين على النبي صلى الله عليه وسلم فليأتني، ومن كان له وعد - مجرد وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ديناً- فليأتني.
قال جابر: فقلت له: إنه وعدني وحثا ثلاث حثيات في يدي.
فلم يسأله أبو بكر بينة -لأنه لو سأله بينة في هذا الموقف الراقي العالي لعكر الموضوع- فأعطاه أبو بكر خمسمائة وخمسمائة وخمسمائة).
لا ترم الناس بقلة الوفاء أيها الرامي، فلربما كنت تتقلب في ثياب الغدر، ولربما كنت أغدر الناس: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] والأيام دول.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) الذي يقول: كل الناس غدارين، كل الناس كفار، كل الناس فسقة هو أفسق الناس، وهو أضل الناس؛ لأنه لا يعلم أقدار الخلق، من الذي جعله حاكماً بهذا في الشمول والعموم على خلق الله؟!! أتخذ عند الله عهداً، أم أطلعه الله على الغيب؟!! هذا نوع من الافتراء وعدم معرفة قدر النفس، لهذا عوقب بأنه أهلك الناس: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم).
وقد ثبت في الصحيحين (أن موسى عليه السلام وقف في بني إسرائيل مذكراً فوعظ موعظة ذرفت منها العيون، ورقت لها القلوب، فلما قضى موعظته انطلق فانطلق خلفه رجل، فقال: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال له: لا) مع أنه أحال الحكم إلى موسى، يقول له: هل تعلم أنت في حدود علمك أن هناك من هو أعلم منك؟ قال: لا.
ولو سئل المرء عن معرفته فقال: لا.
فقد وقف عند ما علم، وقد أفلح من وقف عند ما علم، لكنها من نبي الله كبيرة؛ إذ أنه موصول بالسماء، ولا يتكلم إلا بأمر ربه، فعاتبه الله عز وجل لأنه لم يرد العلم إليه؛ فقال: (بلى.
إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال: أي رب! كيف لي به؟) ثم قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا قصة موسى والخضر.
فالرجل الذي يقول: هلك الناس، أو فسق الناس، أو كفر الناس، أو الناس كلهم مبتدعة، فقد جاء حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم).
الوفاء بعقد النكاح من شيم النبلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في آخر وصاياه: (استوصوا بالنساء خيراً -وفي اللفظ الآخر: اتقوا الله في النساء- فإنكم أخذتموهن بكلمة الله).
انظر إلى موسى عليه السلام: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] رجل يعرض ابنته، وبعض ضعاف العقول والقلوب يتصور أن الرجل لو عرض ابنته أنه يرميها، أو أن البنت رخيصة، فلذلك نقول لهذا العارض: انتقي من تعرض عليه، إن اللئام في الدنيا كثير، فأول ما يعرض ابنته يتصور هذا الزوج أن الوالد رماها، أو لعله يعيره بهذا العرض مع أنه لا يعير به، لكن صالح مدين انتقى واختار رجل يفر من فرعون، وعليه علامات الصلاح والتقوى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
إذاً: أنت عندما تذهب لتخطب امرأة من أبيها إنما أخذتها بكلمة الله، أي: أن الرجل عندما يخطب البنت ويقول له: يا عم، وأنا تحت أمرك! ولما يتزوجها لا يقول هذا لماذا؟ هل أنت عندما أخذت المرأة من أبيها كان من ضمن ما ظهر منك أنك تسب وتجزع أو أنك تعاشرها بالمعروف؟! هذا لون من ألوان الغدر والخيانة.
ولون من ألوان الغدر أيضاً: أن يأمل فيك الناس فلا يرونك حيث أملوا فيك، كأن يتمنى مثلاً والد العروس يتمنى أن هذا الولد يكون مثل ابنه مثلاً، فإذا بزوج البنت يخذله، وكلما وقع الرجل في ورطة لا يجد زوج البنت بجانبه، مع أنه لما تقدم للبنت أظهر أنه صاحب مروءة، هذا لون من ألوان الغدر، ينبغي على الإنسان العاقل اللبيب أن يترفع عنه.
وقد كان من السلف إذا أمل الناس فيه أملاً فلم يجدوه عندهم يبكون، كـ سفيان بن عيينة رحمه الله: جاءه سائل يسأل فلم يجد عنده، فلما انطلق السائل بكى سفيان، فقيل له: ما يبكيك وأنت ما قصرت؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل فلا يجد أمله! يرى أن هذه مصيبة.
هنا درس في الوفاء لنتعلمه من بيت إبراهيم عليه السلام: إبراهيم عليه السلام مدحه الله تعالى في آيات كثيرة، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] كل هذه أوصاف إبراهيم عليه السلام، ولا أعلم أن الله تبارك وتعالى جعل الأسوة مفعولة إلا فيه وفي نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لشمول فعله، أي: إبراهيم عليه السلام نحن نعلم شيئاً عن أسرته وحياته، ونبينا عليه الصلاة والسلام نعلم كل شيء عنه، فلا تتم الأسوة إلا إذا كانت جوانب حياة المتأسى به مضيئة، بحيث يتأسى به الناس على اختلاف مشاربهم، فلا يتأسى به في العقيدة مثلاً أو في الجهاد أو في الصبر فقط؛ بل في شتى مجالات الحياة.
ونحن لا نعلم هذا إلا لنبينا عليه الصلاة والسلام، ففي أي جانب من جوانب الحياة، مثلاً في المزاح: فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا سنناً، بل قد علمنا كيف نقضي حاجتنا.(67/10)
من هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الأكل، قال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك).
أنت تمد يدك أمام صاحبك وتأكل أكله أو تأكل من أمامه، فهذا من قلة المروءة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن القران في التمر، أي: أن تأخذ تمرتين بتمرتين.
وفي ذات مرة قال سليمان بن عبد الملك لبوابه: التمس لي أحداً يتغدى معي ونتفكه معه قليلاً.
والأعراب رغم أنهم جفاة إلا أن لهم لفتات جميلة، فيمكن أن ينادمك بأبيات من الشعر، وبحكايات وغيرها.
فجاء بأعرابي ووضعوا خروفاً محشواً بالفستق واللوز، فوضعه أمام الأعرابي وجعل يأكل، وكانت هناك شعرة على الخروف، فأخذها الأعرابي، فقال له سليمان: استل الشعرة من اللقمة، فوضع الأعرابي اللقمة على المائدة، وقال له: إنك لتراقبني مراقبة من يرى الشعر -أي: أن تركيزك علي لدرجة أنك ترى الشعرة! وهو لم يكن يقصد أن يراقبه أبداً، ولكن غرضه أن يزيل الشعرة من الطعام- فقال الأعرابي: والله لا آكلتك بعد اليوم أبداً، فقام وذهب.
فهذه مسألة تتعلق بالمروءات، والنبي عليه الصلاة والسلام لما علمنا آداب المزاح، وآداب الأكل والشرب وغيرها من الآداب لماذا؟ حتى تتم مروءة الرجل، ويكون شديد الاحتشام.(67/11)
من هديه صلى الله عليه وسلم في المزاح
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح، ولا يقول إلا حقاً، وهذا هو الفرق بينه وبين سائر الناس، إذاً: سن لنا هدياً حتى في المزاح صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم عليه السلام سيد الحنفاء، قال صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله) فسبحان الله! كذبة في الله، فما بالك بصدقه؟!! والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمزح، ولا يقول إلا حقاً، فقد قال مرة لرجل: (إنا حاملوك على ولد ناقة، فقال: يا رسول الله! وما أفعل بولد ناقة -كيف أركب عليه-؟ فقال له: وهل تلد الإبل إلا النوق) وهذا الكلام صحيح، الجمل عمره مائة سنة، هو في الأصل ابن ناقة.
إذاً: يمزح ولا يقول إلا حقاً.
وما يروون عنه صلى الله عليه وسلم أنه لقي امرأة، فقال لها: (الحقي بزوجك فإن في عينيه بياضاً) -البياض في العين يعني العمى، قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] (ابيضت) أي: صارت كلها بيضاء، وأنت تعلم أن الحدقة التي يرى الإنسان بها تجدها ملونة وليست بيضاء، فأول ما تبيضّ فهذا دليل العمى.
فقال لها: (الحقي بزوجك فإن في عينيه بياضاً فحزنت لذلك فلما جاءت زوجها قال لها: مالك؟ فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إني ألفيته يرى -ليس أعمى وما به شيء- قال: أوليس في عينيه بياض؟) نعم! في عينيه بياض، والمرأة فهمت أنه عمي، وهو صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
وقال لامرأة عجوز: (لا تدخل الجنة عجوز؟ فجعلت المرأة تبكي، فقال: إن الله تبارك وتعالى خلقهم يوم عُرباً أتراباً) وأهل الجنة أبناء ثلاثين سنة -كما ورد في الحديث- لا يهرمون ولا يشيخون.
فهذا مزاح النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مثلاً -الذي هو آخر ضرب من مشكاة النبوة- كان يقول لجارة له: (خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام؛ فكانت تبكي، فقال لها: خالق الكرام واللئام واحد) فهي ظنت أن خالق اللئام خلقها إذاً: هي لئيمة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا ذلك؛ رعاية لمقصد شرعي، وهو عدم الوقوع في الكذب، ورعاية لمقصد آخر، وهو: استتمام المروءة؛ لأن المرء الذي يكذب، ويتحرى الكذب، ويضحك الناس بالكذب؛ ساقط المروءة لا حشمة له، والذين يقولون: ساعة لربك وساعة لقلبك لا حشمة لهم، وكذلك كل الممثلين والذين يضحكون الناس بالحركات الساقطة لا حشمة لهم أيضاً.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من أكثر من ذكر شيء عرف به) فنبينا عليه الصلاة والسلام محل الأسوة، فكل جانب من جوانب حياته مكشوف لنا.
والحمد لله رب العالمين.(67/12)
حق الزوج
للزوج على الزوجة حقوق مختلفة ينبغي للزوجة القيام بها، فلا يجوز لها أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه، ولا تُدْخل أحداً بيته إلا بإذنه، كما يجب عليها أن تهيئ له البيت ليكون سكناً له، يأوي إليه بعد يوم حافل بالأعمال والسعي في فجاج الأرض طلباً للرزق، كما أن على الزوج إعانة زوجته في أعمال المنزل، وخير أسوة لنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها.(68/1)
اختلاف العلماء في حكم خدمة المرأة لزوجها
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سألته بعض النساء عن الجهاد وفضله، وأن الرجال يحوزون الأجر العظيم بذلك، فما للنساء في هذا الباب؟ فقال: (خدمتكن لأزواجكن تعدل ذلك) أي: تعدل الجهاد في سبيل الله، وهذا الباب فيه أحاديث مجتمعة يمكن أن يؤخذ منها حكم شرعي، وهذه الأحاديث تشير إلى حقيقة واضحة جلية، وهي: وجوب خدمة المرأة لزوجها.
والمطالع لبعض الكتب الفقهية يرى بعض الآراء التي تقول: إن خدمة المرأة لزوجها ليست بواجبة، والوجوب الشرعي هو ما يلزم المكلف أن يفعله وإلا وقع في الإثم.
وقال علماء الأصول في تعريف الواجب الشرعي: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
ولأن الألفاظ عندنا لها دلالات فيجب أن نبين معنى اللفظ، عندما نقول: (وجوب خدمة المرأة لزوجها) أي: أن المرأة إن لم تخدم زوجها فهي آثمة، مستحقة للعقاب، فهذا البحث يختلف فيه بعض العلماء، فمنهم من يقول: إن الخدمة واجبة، ومنهم من يقول: إن الخدمة مستحبة فقط، بمعنى: أن المرأة إن خدمت زوجها فبها ونعمت، وإن لم تفعل فلا إثم عليها هذا هو رد القائلين باستحباب الخدمة فقط، مع أن القول بوجوب الخدمة هو الراجح، بل هو الصواب؛ لأن الله تبارك وتعالى قد قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] لهن وعليهن، فما لهن عند الرجال؟ أن يعاشروهن بالمعروف، وكما في الحديث: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت).
كما أن الإنفاق عليها وعلى أولادها واجب وحتم لازم على الرجل، بحيث أنه يأثم إذا لم ينفق على امرأته؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وهذا يدلك على عظم الإثم.(68/2)
حق الرجل على المرأة
إذا كان للمرأة على الرجل مثل هذه الحقوق، فما هو الحق المقابل للرجل على المرأة؟(68/3)
عدم خروج الزوجة من البيت إلا بإذن زوجها
من حق الرجل على المرأة: ألا تخرج من بيته بغير إذنه، سواء كانت في بيته بعد العقد عليها أو كانت في بيت أبيها قبل البناء بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه) وهذا واضح أن المقصود به بعد أن يبني الرجل بها.
ولكن هناك حديث مطلق يمنع خروج المرأة من البيت بغير إذن الزوج، فسواء كانت المرأة في بيت أبيها أو كانت في بيت زوجها، طالما أنها زوجة لأحد الرجال، سواء بنى بها أو لم يبن، فلا يجوز لها أن تخرج من البيت إلا بإذنه.
وهذا أدب عالٍ؛ لأن المرأة أسيرة عند الرجل، كما ورد في الحديث الصحيح: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم) والعاني هو: الأسير، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: لا شك أن النكاح ضرب من الرق.
والدليل على ذلك: أن المرأة لا تستطيع أن تتزوج وهي متزوجة؛ لأنها مسترقة، ولا تستطيع أن تطلق نفسها وهي تحت الرجل، فهذا يدل على أنها أسيرة، فهذه المرأة المأسورة لا يحل لها أن تخرج من الأسر إلا بإذن زوجها.
ليس معنى هذا أنه امتهان للنساء أنهن عبيد، لكن معنى الرق: أي أنها ليست ملك نفسها، أي: لا تستطيع أن تتصرف في نفسها، لا بد أن ترجع إلى المالك، والزوج هو المالك.(68/4)
ألا تدخل الزوجة في بيت زوجها من يكره
لا يجوز للمرأة أن تأذن للدخول في بيته إلا بإذنه، فلا يجوز لها أن تدخل أباها أو أمها أو أخاها بيته إن كان يأبى ذلك إلا بإذنه، ولا تثخن بصدره، أي: لا تأتي من الأفعال ما يثخن صدره ويؤلم قلبه.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت يزيد، فقال لها: (أي هذه! أذات بعل أنت -أي: ذات زوج-؟ قالت: نعم.
قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في خدمته- قال لها: فانظري أين أنت منه، فإنه جنتك أو نارك) هل هناك امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسمع مثل هذه الأحاديث ثم تعق زوجها؟ (انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك أو نارك) أي: إن أطعته دخلت الجنة، ولكن بفعل الطاعات الأخرى؛ لأن بعض النساء يتصورن أنهن إن أطعن أزواجهن وتركن كل شيء دون ذلك أنهن في الجنة وهذا محال! كل هذا بشرط أن تؤدي الواجبات المفروضة عليها كمسلمة، ثم تطيع زوجها، أما أن تظن أن طاعة الزوج ممكن أن تنجيها إن تركت الصلاة أو صوم رمضان أو نحو ذلك هيهات! (إنما هو جنتك أو نارك) فدل على أن طاعة الزوج من أسباب دخول المرأة الجنة.
وفي الحديث الصحيح: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة الثمانية شئت) فهذا الحديث يدل على أن طاعة الزوج من الأشياء التي إذا فعلته المرأة دخلت الجنة.
جاء في سنن الترمذي وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا لعنتها الحور العين؛ تقول لها: قاتلك الله لا تؤذيه، إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا).
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الجملة الأخيرة (يوشك أن يفارقك إلينا) أن الرجل إذا أحب زوجته في الدنيا وجمع الإيمان بينهما كانت زوجته في الآخرة، وأنه إن كرهها في الدنيا وملها أبدله الله تعالى من الحور العين.(68/5)
ألا تخرج الزوجة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه
لا يجوز للمرأة أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، كما لا يجوز لها أن تتصدق إلا بإذنه، ولا تعطي أهلها شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، وفي سنن أبي داود والترمذي وحسنه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع: (لا تخرج امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه.
قالوا: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا) ومعنى الحديث: أنه إن لم يجز للمرأة أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه فكيف تخرج الطعام الذي هو أفضل أموالنا؟! لا يجوز لها.
لكن إذا نظر المرء إلى بعض الأحاديث الأخر رأى قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً-: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها بغير إذنه فله مثل أجرها) فهذا بظاهره يؤذن أن تنفق المرأة من بيت زوجها بغير إذنه.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها بغير أمره كان لها نصف الأجر) فهذا يدل على أنها ليست آثمة، بدليل أن لها نصف أجر زوجها الذي اكتسب.
وهذه الأحاديث لا يضاد بعضها بعضاً؛ لأن الأمر في الحديث الأول إنما يفرض على العرف، بمعنى أن يأذن الرجل إذناً دائماً للمرأة أن تنفق، أو أن تعلم المرأة من حال زوجها أنه إذا علم بإنفاقها للصدقات لم يتضايق ولم يمنعها -من خلال قرائن الأحوال- فإذا علمت المرأة ذلك من أمر زوجها، وأنه إن علم بتصدقها من البيت لم يغضب؛ جاز لها أن تنفق ولها نصف الأجر.
أما إن كانت تعلم أن الرجل لا يأذن ويتضايق، فلا يجوز لها أن تتصدق، قال الإمام البغوي: أجمع العلماء على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، فإن فعلت فهي مأجورة غير مأزورة، وهذا الإجماع إنما خرج من معاني بعض الأحاديث الصحيحة كحديث أبي أمامة الباهلي.
إذاً: لا تضارب بين الأحاديث، لكن ينبغي أن نعلم شيئاً، وهو: أن المرأة إن كان لها مال خاص؛ كأن يكون مهرها، لأن بعض النساء يأخذن المهر كله، فهذا المهر حقها، فلها مطلق الحرية أن تتصرف فيه بغير إذن زوجها.
وهناك صورة أخرى ذكرها العلماء، قالوا: إن أعطاها الرجل مالاً خاصاً بها فلا ترجع إلى زوجها في الإذن، فلو كان يعطيها مصروفاً شخصياً فلها أن تتصرف به بحد معرفتها؛ لأنه صار ملكاً لها، لكن ينبغي للنساء أن يستأذن -ولا أقصد بـ (ينبغي) أنه واجب شرعاً- أزواجهن حفاظاً على قلوبهن من التغير، فهذا من حق الرجل على المرأة: أن تصون ماله، لا تبعثره ولا تنثره، إنما القيد في مثل هذه المعاملات بالمعروف.
كما جاءت هند بنت عتبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليَّ جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: لا تأخذ بقصد تبديد مال الزوج؛ فإن هذا حرام ولا يجوز.(68/6)
القيام بخدمة الزوج
قال هؤلاء: الاستمتاع؛ لأن العقد إنما نص فيه على الاستمتاع وليس على الاستخدام.
فيقال: إن المرأة أيضاً تستمتع بالرجل، فهذا حق مشترك، كلاهما يستمتع بصاحبه، فما هي التبعة على المرأة مقابل هذه الخدمات الهائلة بالنسبة للرجل؟ هل الرجل يعجن ويخبز ويغسل الملابس وينظف البيت؟ فما عمل المرأة إذاً؟! وأين قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]؟ ما الذي عليهن إذاً؟ إذا كان الرجل يفعل كل ذلك، ويضرب في الأرض حتى يكسب قوته وقوت أولاده من عشرات الأفواه والأيدي كل يوم، ثم يأتي في خاتمة اليوم أو خاتمة الأسبوع أو الشهر فيعطيها ما تريد كيف يقال: إن المرأة ليس عليها أن تخدم الرجل؟! بل وصل الشطط ببعض هؤلاء العلماء إلى أن قال: يلزم الرجل إن كانت زوجته تدخن أن يأتي لها بالسجائر! ويزعم أن هذا معروف، كيف والتدخين حرام؟ يعني كيف لو أرادت المرأة -مثلاً- أن تخرج متبرجة أو تشرب خمراً، يكون عقوقاً من الرجل أن يمنعها من ذلك؟! هذا شطط.
والذين يقولون باستحباب الخدمة فقط، لا أتصور أحداً منهم لو جاء بأضياف إلى البيت فقال لامرأته: أعدي طعاماً.
فقالت له: إن الخدمة مستحبة، أي: لا جناح علي ولا إثم إن لم أخدمك أنت وأضيافك، التمس من يفعل لك ذلك.
لا أتصور أن يقف الرجل عند القول باستحباب الخدمة، بل لعله يطلقها.
المعروف في العقود غير الموقوف عليها أن العرف هو الذي يتحكم فيها، فإن كان على الرجل حق فعلى المرأة حق أيضاً، وإلا لم يكن هذا من العشرة بالمعروف.
قالوا أيضاً: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً، وهذا من أعجب ما يكون، هل خدمة فاطمة كانت إحساناً؟ في الحديث الذي رواه الشيخان: أن فاطمة رضي الله عنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب خادماً، وقد جاءه رقيق.
وفي بعض الروايات: أن علياً لما رآها تخدم وقد تورمت يداها من الخدمة قال لها: قد جاء أباك رقيق، فاستخدميه -استخدمي أحد هؤلاء الرقيق- فذهبت إلى البيت فلم تجده، فتركت الخبر عند عائشة رضي الله عنها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقصت عليه عائشة مطلب فاطمة رضي الله عنها ذهب إلى البيت، فوجدهما قد أخذا فراشهما، قال: مكانكما، فصعد على الفراش، قالت فاطمة: حتى وجدت برد قدميه عند صدري.
فقال لها: (أفلا أدلك على خير لكما من خادم؟ -وفي بعض الروايات-: قال لهما: أفلا أدلكما على خير من خادم؟ تسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، وتكبراه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم) سئل علي: أما تركت هذا؟ قال: قط.
قيل: ولا ليلة صفين -المعركة المشهورة- قال: ولا ليلة صفين).
لو كانت خدمة المرأة مستحبة فقط لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: إن الخدمة ليست بواجبة عليها، أما وقد قال ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحداً؛ فدل ذلك على أن الخدمة واجبة على المرأة، وهو قول ابن حبيب، وقول أبي ثور، وهو وجه في مذهب الحنابلة.
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن أسماء رضي الله عنها، قالت: (كنت أقوم على خدمة الزبير فكنت أحتز لفرسه، وأعلفه، وأسوسه، وأقوم عليه) ومعلوم أن هذا كله كان يقوم على عين النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يرى ذلك.
وفي صحيح البخاري أن أسماء رضي الله عنها كانت تقول: (وكنت لا أحسن أخبز، وكن لي جارات صدق من الأنصار كن يخبزن لي) فخدمة المرأة لزوجها كانت مشتهرة، ولا شك أن بعض النساء كن يكرهن ذلك على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يؤثر قط أنه قال لرجل من الرجال: إن خدمة المرأة مستحبة فقط، ويلزمك أن تأتي للمرأة بخادم؛ فدل ذلك على أن خدمة المرأة لزوجها واجبة.
ومسألة أن العقد إنما هو للاستمتاع فقط مسألة في غاية التهافت؛ لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة دلت على أن خدمة المرأة لزوجها واجبة، لكن الخدمة إنما تكون بالمعروف، لا تكلفها فوق طاقتها، فإنه ليس على المرأة حتم لازم أن تخدم أم الرجل، أو تخدم أباه، هذا ليس حتم لازم على المرأة، ولكن تندب إليه، فلا تكلفها غصباً بالأعمال الجسيمة؛ لأن كل شيء مقيد بالمعروف، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وليست كخدمة الحضرية، كل فعل إنما يكون بالمعروف.
ثم لا تنس أن الخدمة وإن كانت على المرأة واجبة إلا أنه يستحب للرجل أن يشارك أهل بيته في بعض العمل، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون في خدمة أهله) وفي الشمائل للترمذي: (يفلي ثوبه، ويقوم على إصلاح نعله، فإذا أذن للصلاة خرج إلى الصلاة) هذا هو مقتضى المعروف: أن تشارك زوجك في بعض العمل لاسيما إن وجدتها أثقلت بكاهل الولد أو أثقل كاهلها بالعمل.(68/7)
التشديد على الأمر بطاعة الزوج
هناك حقوق أخرى للرجل على امرأته لعظم حقه عليها، فحق الرجل أعظم وآكد، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وقد ظن بعض الناس أن السجود ليس هو المشهور المعروف أن تسجد على الأرض، وإنما السجود أن تحني ظهرها.
شبيه بتحية الأعاجم وهذا خطأ، وإخراج للفظ عن مدلوله بغير دليل.
يقول علماء البيان: إن الألفاظ قوالب المعاني، فمثلاً: إذا سمعت كلمة (يد) فإن المعنى المتبادر إلى ذهنك أنها اليد التي تتكون من خمسة أصابع، هل يخطر على بالك إذا سمعت كلمة (اليد) أنها بمعنى النعمة؟ لأن المعنى الذي وضع هذا اللفظ له يقتضي هذا المعنى المتبادر إلى أذهان الجميع.
كقوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] الذين لجئوا للتأويل قالوا: إن (اليد) هنا بمعنى النعمة، وهذا إخراج للفظ عن الغالب المعروف، ولكن لا نشبه ربنا بخلقه، تعالى الله عن ذلك، كل شيء يخطر ببالك فالله خلاف ذلك، له يد تبارك وتعالى كما أثبت لنفسه، لكن ليست كيد المخلوقين، لا نستطيع أن نتصورها.
إنما إن قلت: إن فلاناً له عليّ يداً، فالمقصود باليد هنا النعمة، والجملة تؤدي إلى هذا المعنى، وهذا ما يسميه العلماء بالقرينة الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي المجرد، كقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (بينما رجل في الطريق يزور أخاً له، إذ بعث الله له ملكاً في صورة رجل، قال له الملك: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إلى قرية كذا أزور أخاً لي.
قال له: هل ترى أن له عليك يداً؟ -أي: نعمة، فأنت تزوره بمقتضى هذا الجميل؟ - قال: لا، غير أني أزوره في الله تبارك وتعالى، قال: فإني رسول رسول الله إليك، يخبرك أنه يحبك كما أحببته فيه).
فاللفظ: (هل ترى له عليك يداً؟) لا يقال: (عليه يد) هي اليد الحقيقية؛ لأن الجملة لا تعين على ذلك، فإذا ورد لفظ السجود في الحديث لا يتبادر منه إلا السجود المعروف (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
مما يدل على أن المقصود بالسجود هو السجود على الأرض: ما ورد في سياق هذا الحديث وغيره (أن معاذاً رضي الله عنه لما كان بالشام رأى النصارى يسجدون لأساقفتهم، فأول ما رجع ورأى النبي عليه الصلاة والسلام خر على الأرض ساجداً، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله! رأيتهم يسجدون لأساقفتهم فأنت أحق أن أسجد لك، فقال: إن السجود لا يكون إلا لله) فالسياق واضح جداً، وهو أن السجود كان على الأرض.
ومن هذا الحديث استدل العلماء على العذر بالجهل؛ لأن الرجل إن سجد لصنم أو لبشر وهو يعلم أن السجود لا يكون إلا لله كفر.
وأخذ العلماء من هذا الحديث أن الرجل إن سجد وهو لا يدري أن مثل هذا السجود يكفر العبد بفعله؛ عذر بجهله، وإلا لو كان لا يعذر بجهله لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: قد كفرت بهذا الفعل، اذهب فاغتسل، وقل الشهادتين وادخل في الإسلام، أما أنه لم يقل له شيئاً من هذا، وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فدل على أن الجاهل إذا فعل فعلاً من أفعال الكفر لا يعلم به أنه يعذر.
فهذا يدل على أن السجود المقصود به: السجود الحقيقي المعروف، أفرأيت إلى هذا الحديث، يقول: (إن كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ثم تأتي امرأة تقصر في حق زوجها! لا ينبغي لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تفعل ذلك.(68/8)
التحذير من الوقوع في الخلافات العائلية
إن الحياة الدنيا قصيرة لا تتسع للنزاعات، لأنك إن اشتغلت بالنزاع مع غيرك أو مع زوجك ضاعت حياتك، وضاع الوقت الذي ابتلاك الله عز وجل فيه بالعمل، أن تلقى الله وقد خاصمت الكل، وملأت صدرك بالحقد؛ لأجل مسائل توافه ليس لها ثمرة.
هذه الدنيا قصيرة جداً، كما ورد في بعض الأحاديث -ولكنها غير صحيحة، لكن ورد هذا على بعض ألسنة السلف-: أن الدنيا خطوة رجل مؤمن فيروى في بعض الأحاديث أو بعض الإسرائيليات أن نوحاً عليه السلام -وهو أطول الأنبياء عمراً- سئل عن الدنيا؟ فقال: باب دخلت منه وباب خرجت منه، ولا يحس المرء بهذه الحقيقة المرة إلا وهو يعايش ملائكة الله تبارك تعالى وهي تنزع الروح، الذين عاشوا ستين أو سبعين سنة سلهم: هل الدنيا قصيرة أم لا؟ تجدها قصيرة، فهي لا تستحق النزاعات.
لقد وصف الله عز وجل الزواج أنه سكن، بل وصف الرجل مع المرأة في عشرتهما بأبلغ من ذلك: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] فانظر إلى قوة هذا التعبير كلاهما لبس الآخر ملابسة! لم الخصومة والنزاع؟ وتتصور المرأة أن الرجل متسلط عليها؟ هب ذلك، إن الظلم لا يدفع بظلم مثله، والمثل الجائر الفاسد الذي يجري على ألسنة الناس (الكبر على أهل الكبر صدقة) متى كان الكبر صدقة؟ متى كانت المعاصي تدخل في جملة الصدقات التي يتقرب إلى الله بها؟ لا يجوز أن يُدفع الباطل بباطل، إنما يدفع بحق أو يصبر، لا تقل: كما ظلمني أظلمه إذا ظلمك أحد فادفع ظلمه بحق أو اصبر عليه، لكن الله تبارك وتعالى الذي حرم الظلم على هذا الإنسان حرمه عليك أيضاً، فالمرأة لا تتصور أن الزوج خصم لها، فتصبر عليه، فإن صبرها عليه لها به أجر.
أين نحن من مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الترمذي وغيره-: (رحم الله عبداً استيقظ من الليل، فأيقظ امرأته -أي: لتصلي معه- فإن أبت نضح الماء على وجهها، ورحم الله امرأة استيقظت من الليل فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت الماء على وجهه فأيقضته).
صورة مختلفة تماماً للبيت المؤمن الصالح، ولكن ينبغي الالتزام أو فهم معنى النضح، النضح ماء خفيف جداً، يكون باليد أو بالفم، فلا تأت بوعاء ماء وترشه! لا، ماء خفيف جداً.
ثم يجب على الرجل أو المرأة أن يترفق كلاهما بالآخر في هذا الباب، هب أن الرجل متعب أو المرأة متعبة كأن تكون طيلة اليوم في عمل البيت، ليس واجباً أن توقظها، إنما هذا ندب تندب إلى هذا الفعل إن علمت راحة المرأة.
عرضت علي حالة في غاية العجب: رجل تزوج امرأة، وأرادا أن يطبقا هذا الحديث، ولكن المرأة تستيقظ في الفجر والرجل لا يستيقظ؛ من شدة تعبه وعمله في اليوم، وكان يعمل عملاً شاقاً، ويأتي في الليل متأخراً، فكانت توقظه فيأبى، فأغلظت المرأة عليه في الإيقاظ، وقالت: كيف تصلي الفجر متأخراً؟ طلقني.
ولم يكن مضى على زواجهم أكثر من ثلاثة أسابيع، قال لها: اذهبي فأنت طالق.
ثم جاءت المرأة تستفتي في هذا الأمر، فقالت: هل يجوز أن أقول هذا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام عرضت عليه قصة كما في سنن أبي داود أن امرأة صفوان بن المعطل السلمي شكت زوجها للنبي عليه الصلاة والسلام وهو جالس، فقالت: يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس.
فقال صفوان: يا رسول الله! لا تعجل علي.
فأما قولها: (يضربني إذا صليت) فإنها تصلي بسورتين -أي: بعد الفاتحة- وقد نهيتها عن ذلك، وأمرتها أن تصلي بسورة واحدة، فقال لها: أطيعي زوجك -لأن الصلاة تنعقد بالفاتحة فقط بدون قراءة سورة، فكيف إذا كانت المرأة تؤمر بسورة واحدة، وهذا مستحب، وطاعة الزوج فرض-.
وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فإني رجل شاب، وهي تستأنس الصوم، ولا تستأذنني، فكنت آتيها فأفسد عليها صومها.
فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) وهذا في غير رمضان.
أما قولها: (لا أصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس) فإنا آل بيت عرف عنا ذلك، فواضح من سياق الحديث أن هذه جبلة، فإنه إذا نام ينام نوماً عميقاً لا يستيقظ، ولا يملك أن يستيقظ وإن أيقظه أحد، والشريعة سمحة- فقال عليه الصلاة والسلام: إذا استيقظت فصلِ؛ لأنه جاء في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) فكيف تقول له: طلقني؟ لا يجوز للمرأة أن تفعل ذلك.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا(68/9)
دراسة جدوى حياة مسلم
إن الإنسان الكيس والتاجر الحصيف إذا أراد أن يدخل في مشروع من المشاريع فإنه يقارن بين ما سينفقه في هذا المشروع وما سيعود عليه من مكاسب منه، ولا يقبل بالمكسب القليل فضلاً عن الخسارة.
والإنسان المسلم في هذه الحياة إنما مثله كمثل التاجر، فينبغي عليه أن يكون تاجراً حاذقاً؛ فلا يقبل بأقل من ربح حياته الأخروية التي لا انقطاع لمداها ولا إحاطة بمنتهاها، ولا يحتاج منه لأجل ذلك إلا العمل لها في حياته الدنيا ذات السنين المحدودة، والأنفاس المعدودة.(69/1)
قياس الأعمار بالأعمال
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار.
قال الله عز وجل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:21 - 24].
فما هي هذه الحياة التي ندم الكافر على تضييعها حين وقف على شفير النار، ورآها يحطم بعضها بعضاً؟ هذه الحياة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، و (الحيوان): مصدر حياة، أي: هي الحياة الحقيقية، وهي الحياة الدائمة التي لا تنقطع.
هذه الحياة هي التي ندم الكافر على تضييعها، ولا يحسب من عمر المرء حقاً إلا ما كان ذاكراً فيه لله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة يضيعها ابن آدم لا يذكر الله عز وجل فيها إلا ندم عليها يوم القيامة).
فإذا كانت الحياة الحقيقية هي طاعة الله عز وجل، فتعالوا لنتأمل في دراسة جدوى حياة إنسان يعيش ستين سنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يتجاوز ذلك) فنسبة الوفيات الكبرى من أعمار هذه الأمة تكون ما بين الستين إلى السبعين عاماً، وقليل هو الذي يصل إلى الثمانين، وأقل من ذلك من يصل إلى المائة، وأقل القليل من يتجاوز المائة.(69/2)
حين تكون تجارتك مع الله
دراسة جدوى حياة الإنسان إذا أراد أي تاجر أن يفتتح محلاً تجارياً، فقبل أن يقدم على هذه الخطوة فإنه يصنع ما يسمى بدراسة الجدوى، فينظر إلى المكان، وينظر إلى القوى الشرائية في هذا المكان أهي عالية أم لا، ثم ينظر إلى حاجة المشتري حتى يعين نوعية البضاعة التي يبيعها، فإذا هو لم يحسب هذه الحسابات كلها كان تاجراً خاسراً.
فدراسة الجدوى شيء أصيل عند بني آدم لمحبتهم للبيع والشراء، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] اشترى: أي أن القضية عبارة عن صفقة وعقد بيع، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175]، وقال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] (يشرون) أي: يبيعون.
فهذه المعاني أوصلها الله عز وجل لنا في صورة عقد بيع وشراء؛ لأن العباد بطبيعتهم جبلوا على حب البيع والشراء، فتعالوا لنغرس أعظم رأس مال للإنسان، وهو حياته وأوقاته، لنرى هل يخرج من هذا السوق مغبوناً أم خاسراً، فالذي ضيع وفرط في حياته الماضية ينبغي عليه أن يفيق؛ فإن العمر يمر.
أنت الآن اقتربت من الموت خطوة عن الأمس، وبالأمس كنت أبعد عن الموت يوماً، وأنت الآن أيضاً أبعد عن الموت منك في غدٍ -إذا حفظ الله حياتك إلى غد- وهكذا.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم يقربنا من القبر حياة الإنسان ستون سنة: أولاً: هو ينام عشرين سنة، لأن ثماني ساعات في اليوم في ستين سنة محصلتها عشرون سنة، فهو بهذا لا يحاسب على عشرين سنة من حياته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، منها: النائم حتى يستيقظ)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون).
ثم هو لا يؤاخذ حتى يصل إلى سن البلوغ، وسن البلوغ ينحصر بين عشر سنين وخمس عشرة سنة، فبإضافة خمس عشرة سنة مع عشرين سنة يكون مجموعها خمساً وثلاثين سنة، وهو لا يؤاخذ من يوم أن يولد حتى يبلغ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة، منها: عن الغلام حتى يحتلم).
كم بقي من الستين عاماً؟ خمسة وعشرون سنة، وقد يطول نومك فتزيد سنوات النوم، وقد تمرض وتلزم الفراش عشر سنوات أو خمس سنوات أو سنة أو شهرين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل، لكننا إذا افترضنا أن المرء كان صحيح البنية، لم تعترضه الآفات فالعمر الحقيقي الذي يؤاخذ به أمام الله خمسة وعشرون عاماً فقط، وهذه هل تستحق أن يضيع المرء من أجلها حياته الأبدية؟! أين القصور من عهد عاد؟!(69/3)
كم من حسرات في بطون المقابر
من المعروف أن القبر هو أول منازل الآخرة، وهذه الخمسة وعشرون سنة! تعد (تأهيلة) فبعض الناس يقضي خمسة وعشرين عاماً في السجن على ظهر الحياة، ثم يخرج ليستأنف حياته من جديد.
أين الذين ماتوا من عهد عاد؟ عشرات القرون ومئات القرون مرت على أناس يعذبون، وهم في أول منازل الآخرة، وتلك الأعوام لا تقاس بخمسة وعشرين عاماً فقط من الحياة على الأرض؟! فما أشد غربة المفقود إذا لم يكن له زاد يتزود به.
وآية ذلك تصور أنك في غرفة بمفردك ولا أقول: تحاسب أو تعذب أو تؤاخذ، فلا أحد يطرق عليك الباب، ولا أحد يتصل بك، ولا أحد يكلمك، وظللت على هذا مائة عام، أضف إلى ذلك أن الإنسان جبل على حب الخلطة، فإذا لم يكن له أنيس من نفسه وصبّر نفسه ووطّنها على ذلك فإنه يصاب بالملل والضجر، وإنما سمي الإنسان إنساناً لأنه يأنس، وتأمل قول الله عز وجل: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] إذا انقطع عنك حبل أهلك، وحبل ولدك؛ شعرت بحجم الغربة، فهذا الميت يا له من غريب! كم من حسرات في بطون المقابر!! لو أذن لكل ميت أن يتكلم لقال: أهلكتني (سوف) و (السين) سأتوب سوف أتوب سأتصدق سوف أتصدق، سأصلي سوف أصلي وهكذا.
مات كثير من الناس ولم يحققوا أمنياتهم، فمات وفي نفسه غصة، لكنه بكى سنين عدداً يؤاخذ على خمسة وعشرين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا ما يستقبلنا إذا مات الإنسان.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليسمع وقع نعالهم إذا انصرفوا عنه) وتأمل! رجل صار فريداً يسمع وقع نعال ذويه وهم يغادرونه ويتركونه، ويسأل السؤال المعتاد الذي أعلمنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أسئلة هي محصلة خمسة وعشرين سنة: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ لقد ظل حياته كلها لا يفكر في الإجابة عن هذه الأسئلة، والعجيب أنه في ساحة العرض، وإذا بعث العباد جميعاً، وخافوا جميعاً، يقول بعضهم لبعض: ألا منقذ ينقذنا مما نحن فيه؟ فقال بعضهم لبعضٍ: هلم إلى الأنبياء سبحان الله! ألم تر إلى هذا اللؤم؟ تذهب للنبي الآن تريد شفاعته، وقد ظللت طيلة حياتك لا تعرج على سنته، وتكتب ضد الذين يلتزمون بسنته، وتحيك المؤامرات ضد هؤلاء الذين يقتدون بسنته! تريد شفاعته الآن؟! هذه هي طبيعة اللئيم.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] أيها المرتشي الذي ارتشيت: لماذا قبلت الرشوة؟ يقول: أطعم أولادي؟ لماذا تاجرت بالمحرمات؟ يقول: لأولادي.
فلماذا تضحي بولدك الآن؟ أنت لا تعرضه لشيء يسير، أنت تعرضه لنار جهنم، التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (يؤتى بأنعم أهل الأرض -الذي ما ذاق بؤساً قط، ولا مرضاً قط، وكان سيداً مطاعاً، تعقد عليه الخناصر، يؤتى بهذا الرجل- فيغمس في النار غمسةً واحدة فقط ثم يخرج، فيقال له: هل مر بك نعيم قط -أرأيت في حياتك كلها يوم راحة-؟ يقول: لا، وعزتك ما مر بي نعيم قط) فكيف إذا كان من الكافرين؟! وهذه ما هي إلا غمسةٌ واحدة فقط، فما بالك الآن أيها المجرم تعرض ولدك لدخول النار، {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11]، قال: رب! إذا لم يكف ولدي {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] خذوا امرأتي وخذوا أخي، وإذا لم يكف ولدي ولا امرأتي ولا أخي {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13] خذوا الأسرة بكاملها، وإذا لم تكف الأسرة بكاملها، {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المعارج:14] اطرحهم جميعاً في جهنم، المهم أن أنجو أنا.
فانظر إلى الأنانية! هل الأنانية لم تكن موجودةً عنده؟ بلى كانت موجودةً في الدنيا لكن لم يظهر مقتضاها، بدليل أن هذا الإنسان لو وقف رجلٌ أمامه لداسه، وكل إنسان عنده نموذج من الغبن وقلة الوفاء، لكن لم يظهر مقتضى لهذا المجرم حتى يضحي هذه التضحية، لكن لها ثمرة في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول عن هذا اليوم العظيم {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:103 - 104].(69/4)
كيف تعد للسؤال جواباً؟
إن حياتك الحقيقية إنما هي في طاعتك لله عز وجل، كل دقيقة تمضي بغير ذكر فإنها خسارةٌ على العبد، ألزم نفسك في هذه اللحظات بما يقربك إلى الله عز وجل، من ذكرٍ أو تأملٍ، أو أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكر، أو سدّ حاجة إنسان، أو تعليم جاهل، لا تضيع لحظاتك؛ فإن اللحظات هي العمر، وقد علمنا أن خمسة وعشرين عاماً فقط يسأل العبد فيها: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ بعض الناس يتصور أنه يستطيع أن يقولها، لأنها كلمة مذللة وسهلة، ولكن هذه الكلمة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، هذه التربة شربت من دماء الأبرار بسبب هذه الكلمة، الذين ماتوا وضحوا وجاهدوا وتعرضوا للرهق بسبب هذه الكلمة، فهي ثقيلةٌ جداً، ولو كانت خفيفة ما أعرض عنها أكثر العباد؛ لأن لها تبعات، إنها تجعل المرء غريباً في أهله، تفقده الأنيس وهو حي في أهله، ولذلك سماها الله عز وجل أمانة، وهذا يعني أن الذي لم يأت بها خائن لميثاق العبودية الذي أخذه الله عز وجل على العبد يوم خلقه، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] فقال لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، فإنما أخذ الله شهادة المرء على نفسه حتى لا تكون له حجة، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149].
ولذلك سيأتي المجرم الأحمق يوم القيامة، الذي أغلق على نفسه الباب وهو يفعل المعصية، وظن أن الله لا يعلم كثيراً مما يفعل، فجاء يوم القيامة وقد ظن أنه بعدما استتر أن لا حجة عليه، فلما وقف أمام الله عز وجل ليحاسبه قال العبد الأحمق مبادراً ربه: رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى.
قال: فإني لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي.
لأنه لما فعل المعصية كان وحده، وهو يظن أن الله عز وجل لا يستطيع أن يقيم عليه الحجة، لذلك بادر الله بهذا القول.
فقال الله عز وجل: لك ذلك، وختم على فمه، فنطقت يده، ونطقت رجلاه، ونطق فخذه بما كان يعمل، فقال: تباً لكُن، فعنكن كنت أجادل وأدافع {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
فكلمة التوحيد بتكاليفها أمانة، فلم تفرط وأنت على ربك قادم؟؟ الله عز وجل هو الملجأ لعباده، فلا يكون الفرار منه إلا إليه.
إنك إذا خفت ظالماً فررت إلى من يمنعك منه، لكن الله عز وجل لا يُفرُ منه إلا إليه، فهو الذي قد أحاط بك، وأحكم قبضته عليك، وأنت تعلم أنك إليه راجع، فلماذا التمادي في العصيان وأنت ترجع إلى ربٍ غفورٍ ودود؟! وتأمل -أيها المسلم- هذا الحديث الرائع الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، لتعلم قدر رحمة ربك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (آخر رجلٍ يخرج من النار ويدخل الجنة رجلٌ يمشي مرة، ويحبو مرة -أي: ينكفئ على وجهه مرة- وتلفحه النار مرة، فهو ينادي ربه عز وجل ويستغيث به، قائلاً: رب قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فأخرجني منها.
فيقول الله عز وجل له: لئن أخرجتك من النار تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها، فيخرجه من النار، فما إن خرج حتى التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة) الحديث.
أنت في اليوم الشديد الحر تأوي إلى الظل، وتشعر بقيمة هذا الظل في الحر، فما بالك بمجرم خارج من النار أعاذنا الله وإياكم منها، فإن أعظم يوم حر على وجه الأرض قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه (هو نفس من جهنم) لأن جهنم اشتكت إلى ربها، قالت: رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، مثل القدر الذي يغلي، فأنت تجعل فيه ثقباً حتى لا ينفجر القدر من البخار، فالنار يأكل بعضها بعضاً، فاشتكت إلى الله، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، قال عليه الصلاة والسلام: (فنفس الصيف هو أشد ما تجدونه من الحر، ونفس الشتاء هو أشد ما تجدونه من البرد) فالرجل خرج من النار ووجد شجرة، فلما رآها ما أطاق ولا تحمل، فنسي العهد الذي أعطاه ربه منذُ قليل، (وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها، وأشرب من مائها.
فقال الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه.
فيقول له: لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة)، فيشعر بالبرد، ويشرب من الماء البارد الذي حرم أهل النار منه؛ لأن الماء الساخن لا يروي، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل حبك أحب إلي من الماء البارد) ولا يطلب أن يكون حب الله أحب إليه من شيء إلا لأنه أعظم شيء، الماء الساخن لا يروي أبداً، فكيف إذا كان ماءً مغلياً؟ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، فكان هذا الرجل محروماً من نعمة الماء البارد، فأول ما رأى؛ عين ماءٍ تجري، ورأى ظلاً وارفاً لم يحتمل، ونقض العهد والميثاق، فأدناه الله من الشجرة (فاستظل بظلها وشرب من مائها، ولكن سرعان ما رفع إليه شجرة هي أعظم من الأولى، فنسي الرجل -أيضاً- العهد والميثاق، وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها.
فقال الله عز وجل له: ما أغدرك يا بن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيئاً بعد ذلك، وربه يعذره)، وتأمل هذه الكلمة! بعد كل نقض يقول: (وربه يعذره!) كذلك لو نقض العبد العهد والميثاق في الدنيا ومضى في غيه وضلاله سنين عدداً، واعتذر إلى الله عز وجل ورجع لعذره الله؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، لذلك أرسل الرسل حتى يعذر الناس.
فقال: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال الله عز وجل له: عبدي! لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ يقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة، ثم يفتح له باب إلى الجنة، وإذا المؤمنون يتضاحكون ويسامر بعضهم بعضاً، والرجل وحيد، فيريد أن يدخل الجنة، لكنه تذكر أنه نقض العهد مرتين فسكت، لكن غلبه ما يجد ولم يتحمل، فنقض العهد، وقال: (رب! أدخلني الجنة، فإنه لا يضرك.
فقال الله عز وجل: ادخل الجنة، ولك مثل الدنيا).
فالرجل أول ما سمع كلمة (مثل الدنيا) لم يصدق، فكأنه يقول بلسان الحال: وأنا ظللت طيلة حياتي أكافح لتوفير راتب هزيل آكل به أنا وعيالي، ومضيت من الدنيا ولم أتمتع بأسهل متعها!! لم يصدق الرجل، كيف امتدت عينه إلى نعمٍ أنعم الله بها على أناس، لعل الله عز وجل نهاه {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131] وسماها زهرة؛ لأن عمر الزهور قليل، لا روح للزهور، لو تركتها ساعتين لذبلت، {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] فكيف أمَّل؟ وكم أرسل قلبه إلى نعم، ومضى من الدنيا ولم يتمتع بأكثرها! وإذا به الآن يسمع أن له مثل الدنيا!! لذلك لم يصدق، فلما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ضحك، فقال لأصحابه: (ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك من ضحك رب العزة، لما قال له الرجل: أتستهزئُ بي وأنت رب العالمين؟! -أي: أنت تعدني بكل هذا وأنت لا تعطيه، فإذا وعد الرجل أخاه ولم يعطه كأنما استهزأ به، يقول: أتستهزئُ بي وأنت ربُ العالمين؟ - فيضحك الله عز وجل من قول العبدِ (أتستهزئُ بي؟!) فيقول له: أما إني لا أستهزئُ بك، ولكني على ما أشاء قادر، ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها) إذا كان (مثل الدنيا) فقط كاد أن يطير رأسك من عدم التصديق، فأنا أتحفك بعشرة أمثالها، فلو جاز أن نقول: إن في الجنة فقيراً لكان أفقر رجل في الجنة له مثل الدنيا عشرة أمثالها.
فأنت أيها الإنسان تعيش خمساً وعشرين سنة، ولن تكون أغنى الناس، ولن تكون أقوى الناس، ولن تكون أترف الناس، ولو سلمنا أنك ملك الناس في الدنيا، وأغنى وأترف الناس، فما هي إلا خمسة وعشرون سنة فقط، ولذلك قال الله عز وجل لأمثال هؤلاء: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8] (قليلاً)؛ لأنه عندما يعيش لا يحاسب عن ستين سنة، إنما يحاسب عن خمس وعشرين سنة فقط {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذنا وإياكم منها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(69/5)
ثبات العبد عند السؤال في القبر على قدر تمسكه بالحق في الدنيا
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أول عقبة كئود تعترض الرجل بعد موته وبعد دفنه هو السؤال، إذا أحب الله عز وجل عبداً ألهمه الإجابة: - من ربك؟ - ربي الله.
- ما دينك؟ - ديني الإسلام.
- ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ - هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بعض الناس قد يجيبُ صواباً ولكنه لا يعتقده، يعني تأتي معه المسألة هكذا، أحياناً يأتي للمرء سؤال فيجيب إجابةً سديدةً بغير أن يعرف أن هذه هي الإجابة السديدة، فالناس مؤمنٌ كامل الإيمان هذا يجيب، وكافرٌ لا يجيب، وبين بين، والإشكال في هذا الصنف الأخير، إذا سئل هذه الأسئلة الثلاثة وأجاب إجابةً صحيحة فهل تظنون أنه سلم له؟ ليت الأمر كان كذلك، لكن الأمر ليس كذلك، إن الملكان يشككانه في الجواب، وينتهرانه أشد الانتهار، وقد ورد في بعض الأحاديث: (أن ملكي الموت أصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف) وهذا عبد ضعيف أمام هذه القوة الهائلة، فينتهرانه ويصرخان فيه، ويعيدان الأسئلة مرةً أخرى، فاليقين الذي لم يتحقق بـ (لا إله إلا الله) في الدنيا لن يكون موجوداً في تلك اللحظة، فيقول العبد في نفسه: إذا كانت الإجابة صحيحة لم ينتهرني الملكان؟! أكيد أنني أجبت خطأً، فيبدل الجواب وهذه هي الفتنة العظيمة التي بكى الصحابة لها، حتى إن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما روت هذا الحديث قالت: فلم أسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نحيب الصحابة، لما قال لهم: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) لم تستطع أسماء أن تسمع بقية الكلام قالت: فقلت لرجلٍ بجانبي: ماذا قال؟ فقال: إنه يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) أتعرف فتنة الدجال؟ إنها باختصار كما قال عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بين آدم إلى قيام الساعة لا توجد فتنة كفتنة الدجال).
رجل معه جنةٌ ونار، فجنته نارٌ، وناره جنة، يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتتبعه كيعاسيب النحل، ويأتي على الرجل فيقطعه إرباً إرباً، ثم يقول له: قم؛ فيتهلل ضاحكاً! أضف إلى ذلك أنه كلما اقتربنا من الساعة كلما غابت علوم النبوة، يظهر الجهل ويقل العلم، فتصور أناساً جهلة وأتتهم هذه الفتنة! أنا أعرف أناساً افتتنوا برجلٍ كان يستعين بالجن، فظنوا أن هذا الرجل على كل شيءٍ قدير، وسلموا له كل شيء، وهذا مذكور، وما جند له الجن إلا بعدما فتن وخرج من دينه، فتصور ظهور الدجال ومعه كل هذه الإمكانات، ثم لا يكون عند الناس من العلم والإيمان ما يعصمهم من هذه الفتنة، فيتبعه أكثر الناس ويظنونه إلهاً، لما يملك من هذه السنن الخارقة، فما يتعرض العبد له في قبره كمثل فتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال، فالصحابة خافوا على أنفسهم حين سمعوا هذا الوصف لفتنة القبر، فحينئذٍ أنزل الله عز وجل قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] (في الآخرة): أي في القبر، إذا انتهره الملكان وشددا عليه لا يغير جوابه، بل يعيد الجواب السديد مرةً أخرى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] عنها، لا يقولونها أبداً؛ لأنهم لم يعملوا بمقتضاها في الدنيا {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ثم يخرج العبد في قبره يوم العرض وقد غضب الله عز وجل غضباً شديداً حتى خاف الأنبياء على أنفسهم، ورفضوا الشفاعة لأقوامهم، كل نبي يسأل الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي، إن الله غضب اليوم غضباً ما غضبه قط، ولا يغضب بعده مثله قط، فجاءه كل إنسانٍ بعذره ووزره جاءه الذين قال بعضهم: أنا ربكم الأعلى كفرعون، وكل نفسٍ فيها داعية الربوبية، لو أمكن للإنسان أن يقول: أنا ربكم الأعلى؛ لقالها، لكن فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر، لو أمكن الإنسان أن يستعلي لاستعلى، لا يحجبه إلا الإيمان، وإلا فكل نفس فيها داعية الألوهية وداعية الربوبية كفرعون تماماً، فجاءه كل هؤلاء بعدما صبر الله عز وجل عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله) لو أن بعضنا تعرض لسماع جزءٍ يسيرٍ مما يسمعه الله القادر لما تحمل.
إنهم ليدعون أن له ولداً، وأنه لا يحيي الموتى، وأنه لا يرزقهم ويعافيهم، فالله عز وجل يكون غاضباً في ذلك اليوم حتى يقنط الرسل ويخافون من مواجهته، ولا يصبر على ذلك إلا من مكنه الله عز وجل وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، ويقف العبد خمسين ألف سنة على قدمه، ينظر إلى العباد يساق ببعضهم إلى النار ويساق ببعضهم إلى الجنة، والهمُّ يقتله: ترى من أي طريق يساق؟ فهو ينتظر دوره على مدى خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك يسحب إلى الجحيم.
كل هذا مقابل خمسة وعشرين سنة فقط يعيشها الإنسان في الدنيا؟! أهذه هي دراسة الجدوى أيها التجار؟! إن التاجر لو دخل السوق فخسر درهماً واحداً لكان عليه حزيناً! أهذه هي دراسة الجدوى؟! أهوال قادمة بخمسة وعشرين عاماً فقط يعيشها المرء، تمر كأنها أضغاث أحلام، فقد آن لنا أن نرجع إلى الله عز وجل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]؟! نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يتوب علينا وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(69/6)
صدق محبة الرسول
أسباب انهيار الكيان الإسلامي كثيرة، وأهمها سببان: فالسبب الأول: هو عدم صدق محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب كثير من المسلمين.
والسبب الثاني: هو أننا ورثنا الكتاب ولم نقاتل عليه ونتعب لأجله.
والمراد من إيراد هذين السببين يتضح بالنظر في أخبار الصحابة وصدقهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عن كتاب الله.(70/1)
انهيار الكيان الإسلامي
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
فإن دخول الذي يمكر في كيان الأمة المسلمة يجب أن يلقى منها تشخيصاً دقيقاً وأميناً، والذي يخفف من المصائب التي تنزل على العالم الإسلامي لا يكون أميناً ولا صادقاً عندما يبين أن الأمة كلها بخير، وفي اعتقادي أن الأسباب التي أدت إلى الانهيار في بعض جوانب الكيان الإسلامي هي كثيرة، لكنني أتناول شيئين هما لب هذه الأسباب كلها: السبب الأول: عدم صدق المحبة عند جماهير المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن تبجح بها كثيرون؛ فإن أكثر أهل الأرض أدعياء، وهذا هو الذي يُفرِق بين جماهير المسلمين في القرون المتأخرة، وبين جماهيرهم في القرون الفاضلة الأولى.
السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب، ولا شك أن الذي يرث الشيء لا يكون حريصاً عليه كالذي قاتل دونه، كما قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] وليته إذ أخذ عرض هذا الأدنى أحس بأنه مجرم، لكن يقول: سيغفر لنا، فيفعل هذا الفعل الجسيم، ويقول: سيغفر لنا، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] مثل هؤلاء لا يرجعون؛ لأن مثل هذا يعتقد أنه يحسن، فإن أردت أن ترجعه فأنت سترجعه عن الإحسان في نظره فيستحيل أن يرجع، لذلك كان هذا النمط من الأخسرين، أي: لا خسران بعد هذا الخسران المبين.(70/2)
دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم
السبب الأول: هو عدم صدق المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب الأمثلة كافٍ لتوضيح المراد، إننا إذا تجاوزنا هذه السنين الطويلة، وذهبنا إلى خير القرون، وهو القرن الأول وجدنا أن الذي جعل هؤلاء الصحابة يستميتون في الذود عن حياض هذا الدين، هو هذه المحبة الصادقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت في قلوبهم.(70/3)
حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم
لما روى الحسن البصري حديث حنين الجذع، لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع النخلة، فلما قالوا له: نصنع لك منبراً، قال: إن شئتم، فخطب على المنبر، قال جابر: (فسمعنا حنيناً للجذع كحنين الصبي).
فقال الحسن: (يا معشر المسلمين! أيكون الجذع أشد حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم؟) خشبة تكون أكثر حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم، وذاك الذي أراد أن يرسل إلى من يحب شيئاً، فلم يجد، فبكى وأنشد قائلاً: أرسلت دمعي للحبيب هديةً ونصيب قلبي من هواه ضلوعه قال اجتهد فيما يلوح بقتلنا قلت ابتهج جهد المقل دموعه ما أستطيع أكثر من هذا.(70/4)
سب النبي أو الرب أو الدين كفر
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم المحبة الصادقة يفتقدها المسلمون اليوم، لقد ذكر العلماء أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ردةً لا حداً؛ لأن تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك أفتى من أفتى من العلماء بأن الذي يسب دين الله كافر مرتد، مهما قال: أنا لا أقصد، أنا أهزل أنا غضبان، فلا يتصور أن محباً لدينه يسب ربه إذا غضب، فهذا غير معقول.
وقد حكم الله تبارك وتعالى بالكفر على أمثال هؤلاء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فالمسألة هذه لا تحتاج إلى علم وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب موالاته واتباعه لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الرب تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك حكموا أن الذي يسبه كافرٌ مرتد، إذ لا خير فيه.
هذا هو الداء العضال الأول الذي تسبب في هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن، بعدهم وصدهم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم بضروب من التأويل البغيض الواهي، ما تقول له قولاً إلا وقال لك: يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويضيع دلالة الحديث باحتمالاته، وقد يكون المعنى واضحاً غاية الوضوح، وهذه شقاشق تلقفها من لا يحسن عن هؤلاء العلماء، فأخذوا أسباب الضياع، فتركوا الاتباع فضلاً عن هذه المحبة العظيمة التي يجب أن تكون في صدر كل مسلم للنبي عليه الصلاة والسلام.(70/5)
تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية
في صحيح البخاري ومسلم من حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي ذهب لقريشٍ، وقال لهم: (هل تخونوني؟ قالوا: لا.
قال: أنتم مني بمنزلة الوالد، وأنا منكم بمنزلة الولد، دعوني آتيه صلى الله عليه وسلم، فقد عرض عليكم خطة رشد)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما تجيء لي قريش بخطة رشدٍ إلا قبلتها) فيقول عروة: دعوني آتيه فأسمع منه، فجاء عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الصحابة حوله، فقال: (يا محمد! لئن ظهرت على قومك -أي: انتصرت عليهم- فهل سمعت بأحدٍ اجتاح قومه قبلك؟) يعرض عليه الأمرين: حال انتصاره، وحال هزيمته، فيقول له: فرضنا أنه قام بينك وبين قريش حرب، وظهرت عليهم، وانتصرت، هل سمعت بأحد اجتاح قومه قبلك؟ (وإن كانت الأخرى -إن كان لابد من نشوب قتال- فلا أرى حولك إلا أوباشاً خليق أن يفروا ويدعوك -أي: إذا قامت الحرب- فسمع صوتاً من الخلف يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص بظر اللات، فالتفت إلى هذا القائل، وقال: من هذا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ابن أبي قحافة أبو بكر، فالتفت إليه عروة وقال له -وتمعنوا لهذه الكلمة-: لولا أن لك عليَّ يداً في الجاهلية لأجبتك).
الجاهليون يحفظون اليد، وكان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك بلحيته، وكانت هذه عادة عند العرب أن الرجل إذا حدَّث جليسه يكثر من أن يمسك بلحيته، وهذه وإن كانت عند العرب عادة لكنها تضاد التوقير، فكان يقف شابٌ بسيفه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما مد عروة يده ضربه ذلك الشاب بذباب السيف، ويقول: (نحِ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلا يلبث عروة أن تغلبه العادة فيمس يد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا الواقف يعاجله بضربةٍ على يده، حتى قال له: (لئن مددت يدك لأقطعنها).
وما عرفه لأنه يلبس اللثام، وكان هو المغيرة بن شعبة، وعروة بن مسعود عم المغيرة، ولمّا علم المغيرة أن عمه قادم ذهب فتلثم ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أكثر من الضرب على يد عروة بن مسعود -وعروة يرى رجلاً ملثماً لا يعرف من هو- قال: (تنح عني، ما أظنك إلا رجل سوء -لكثرة ما يضرب يده بذباب السيف- من هذا الذي آذاني؟) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ({هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة)، فالتفت إليه عروة، وقال له: (أي غُدر! ما زلت أسعى في غدرتك، وهل قد غسلت سوأتك إلا بالأمس؟).
وكان المغيرة صاحب اثنا عشر رجلاً في الجاهلية، فلما شربوا الخمر قتلهم وأخذ أموالهم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقدم له المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) حتى لو كان من كافر، وأبى أن يأخذ المال، فلما وصل إلى القبائل أن المغيرة قتل رجالها كادت أن تقوم حربٌ بين القبائل، فقام عروة بن مسعود عم المغيرة وقال: أنا أدفع دية هؤلاء، فكفت الحرب، فيقول: (أي غدر! ما زلت أسعى في غدرتك -أي: أنا حتى الآن أدفع دية الذين قتلتهم وأخذت أموالهم- وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس -أي: عندما أسلمت-).
فانظر حب المغيرة، يضرب عمه؛ لأنه يمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام وهي عادة، لكنها تضاد التوقير.
وأخذ عروة يراقب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فوالله ما كان يتوضأ بماءٍ فيسقط على الأرض إلا يتقاتلون على ماء الوضوء، وما رأيت أحداً منهم يحد النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر امتثلوا أمره، وما يبصق بصاقاً فيقع في يد أحدهم إلا دلك به جلده، وما استطاع من بدنه) رأى هذه الصورة وكان قد حكم عليهم أنهم أوباش لا يستطيعون أن يثبتوا في الذود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأى بأم عينيه، وظل يراقب وذهب إلى قريش، فقال لهم: (والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، ووالله ما رأيت أصحاب ملكٍ يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمدٍ محمداً، والله ما بصق بصاقاً فوقع في يد أحدهم إلا دلك به وجهه وجلده، وما توضأ بوضوءٍ إلا اقتتلوا عليه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر يمتثلون أمره، وما أرى لكم قبلاً بهم).
صورة عظيمة جداً لهؤلاء الصحابة دعاهم لها حب هذا النبي الكريم.
المسئول عن هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن بكل صدق هو أن هذه المحبة غائبة مهما زعم الزاعمون أنهم يحبونه.
لقد رأينا في سير المحبين عجباً! رأينا الرجل إذا أحب امرأةً تفانى في حبها، ولعلكم تذكرون قول القائل مجنون ليلى الذي أطلقوا عليه هذا اللقب، يقول: أمر على الديار ديار ليلى أُقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا(70/6)
موقف جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق
في صحيح البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (كنا نحفر الخندق فوقفت أمامنا صخرةٌ عظيمة، ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقاً -أي: لم يأكلوا شيئاً، وكانوا يستعينون بربط الحجر على البطن لتقليل حدة الجوع- قال: فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! صخرةٌ عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام معي وأرى الجوع في وجهه، فأومأ بالمعول، وقال: باسم الله، وضربها ضربةً فكانت كثيباً أهيم -أي: صارت رملاً- قال: فاستأذنته أن أذهب إلى البيت، فذهب إلى امرأته، فقال لها: ماذا عندك من الطعام، فلقد رأيت شيئاً لا صبر لي عليه؛ رأيت الجوع بوجه النبي صلى الله عليه وسلم) أرجو أن تتذكر أن جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقاً، إذاً: هو جائعٌ أيضاً، لكن حبه للنبي عليه الصلاة والسلام جعله يقدم حاجة النبي عليه الصلاة والسلام على حاجته.
قال: (لقد رأيت شيئاً ما لي به صبر؛ رأيت الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا عندكِ من الطعام؟ قالت: ما عندي شيء، عندي عناق -جدي صغير-، وعندي صاعٌ من شعير، قال: فأخذ العناق فذبحه، وقال: اعجني هذا الصاع، قالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، لكن ائتِ به وبنفر من أصحابه، فذهب جابر ونادى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: كذا وكذا، عندنا عناق وصاع فقط من شعير، فإن شئت أن تأتي، ويأتي بعض أصحابك، قال جابر: وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في أهل الخندق، يا أهل الخندق! هلموا قد صنع لكم جابر طعاماً، قال جابر: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، ماذا أقول؟ فلما رجع إلى البيت ورأت امرأته هذا المنظر، قالت له: بك وبك، قال لها: قد قلت الذي أمرتني به، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صاح في أهل الخندق، قالت له: وهل أعلمته بما عندنا من الطعام؟ قال: نعم، قالت: فلا عليك، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ جابر -من فقهه-: فلا تضع اللحم على النار، ولا تدع امرأتك تخلط العجين حتى أجيء، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أين برمتكم؟ -فيها اللحم- فجيء بها، فبصق فيها وبارك، ثم قال: أين عجينكم؟ فجيء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا وتركوا وكانوا ألف رجل، وبقيت فضلة أهدينا منها لجيراننا، ووالله لقد انصرفوا والبرمة كما هي، والعجين كما هو).
فانظر إلى جابر وإلى شفقته، يرى النبي صلى الله عليه وسلم جائعاً فيحز في نفسه، فهل تتصورون أنه إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخالف؟ أبداً.
لقد رأينا عند علماء الأصول أن الفعل المجرد لا يقتضي الوجوب، بخلاف القول المجرد؛ فإن الأقوال المجردة تقتضي الوجوب، ما لم يكن هناك صارف، بخلاف الأفعال، فلا تقتضي الوجوب إلا بدليل خارجي.
ومع ذلك رأينا الصحابة يتقَّفون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تفيد الوجوب بمجردها فضلاً عن الأقوال، وهذا من شدة الحب، فهذا هو الاتباع الحقيقي، والاتباع فرع عن هذه المحبة، إذا أحببت النبي عليه الصلاة والسلام بصدق وبكل قلبك يستحيل أن تدع اختياره لاختيارك أنت.(70/7)
إجلال عمرو بن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله، قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فحول وجهه إلى الجدار وجعل يبكي طويلاً، فجعل ابنه يقول: يا أبتِ، ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكذا وكذا؟ يهدئ من روعه وبكائه، قال: فالتفت إلينا وقال: إن أفضل ما نعد لهذا اليوم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لقد رأيتني على أطباق ثلاث -أي: على ثلاث مراحل من حياتي- لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مني، ولا أحب إليّ من أن أكون استمكنت منه فقتلته، وإذا مت وأنا على هذه الحال لكنت من أهل النار، فلما أسلمتُ جئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط يده، قال: فقبضت يدي، فقال لي: مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو، أو ما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، قال عمرو: فما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله ما كنت أستطيع أن أُحِد النظر إليه إجلالاً له، ولئن سألتموني أن أصفه لكم لما استطعت؛ لأنني ما كنت أطيق أن أُحِد النظر إليه تعظيماً له، فإن مت على هذه الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم حدثت أمور وولينا أشياء يغفر الله لنا) فساق وصيته عند الموت.
فتنظر إليه وهو يقول: (ما كنت أستطيع أن أحد النظر إليه إجلالاً له) من هيبته، ومن تعظيم عمرو بن العاص له صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان يستطيع أن يملأ عينيه منه، فهل يتصور من مثل هذا إذا سمع قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم أو رآه يفعل فعلاً أن يخالفه؟ أبداً.(70/8)
موقف ابن عمر من ابنه حين اعترض على السنة
ابن عمر رضي الله عنهما وأين في الناس ابن عمر؟ لما حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما في صحيح مسلم، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا استأذنت امرأة أحدكم أن تذهب إلى المسجد فلا يمنعها)، فقال أحد أبنائه: (لنمنعهن، يتخذنه زغلاً) والزغل هو: المكان المرتفع من الدار، يريد أن يقول: لنمنعهن؛ لأن المرأة إذا أرادت أن تقضي حاجتها احتجت بأنها تريد الذهاب إلى المسجد، فاستعظم ابن عمر أن يعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام ولو بتأويل، فرماه بحصيات وطرده في آخر الليل، ولم يدخل عليه حتى مات؛ لأنه فقط عارض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن يعارض كلامه بمثل هذه المعارضة.
هذه هي البركة التي رفعت هؤلاء الناس ومن ذكرت من قبل.(70/9)
ضياع محبة النبي صلى الله عليه وسلم على المستوى الإعلامي
إن النكوص عن المحبة في صدور كثير من المسلمين هو المسئول عن هذا الضياع الذي يعانيه المسلمون الآن، منذ عدة أشهر قرأت في صحيفة الأخبار عموداً في غاية العجب، وهو أن بعض الناس ألف كتاباً أسماه: (فنانات تائبات)، وسرد قصص بعض الفنانات اللواتي اعتزلن الفن ولماذا اعتزلن؟ وأراد أن ينشر إعلاناً لهذا الكتاب في التلفاز وفي بعض الصحف الرسمية، فأبوا عليه إلا أن يغير العنوان؛ لأن معنى هذا العنوان أن الفنانات الموجودات عاصيات، وهذا جرحٌ لشعورهن، فقالوا: إذا أردت أن يُنشر الكتاب غيِّر العنوان، بينما نشر أحد الرسامين المتهتكين الذين أهلكهم الله عز وجل صوراً -وأنا أقولها بمرارة كبيرة- لديك وتسع دجاجات، أظنكم فهمتم من المقصود، أغبى الناس الذي ليس له إدراك يعلم من المقصود بالصورة، فكيف إذا كان التعليق أسفل الصورة، (محمد جمعة وزوجاته التسع) كيف مرر رئيس التحرير هذه الصورة الجارحة لمشاعر ملايين المسلمين، وهنا رفضوا نشر الكتاب الذي يجرح مشاعر من لا قيمة لهن، ملئت البلاد بالفساد العريض، فعبارة (محمد جمعة وزوجاته التسع) هذه عبارة لا تحتاج إلى تأويل، ولا إلى دلالة مفهوم؛ لأنها واضحة، فكيف مرت عليهم؟ وفي عنوان الكتاب تعدوا دلالة المنطوق إلى دلالة المفهوم وأن قوله: (فنانات تائبات) معناه: أن اللاتي لا زلن في الفن عاصيات، كيف فهموا هذا؟ ولم يسمحوا أن يمرروه، وهناك عشرات الرسوم التي تطعن في دين الإسلام، ففي مجلة صلاح الدين رسام يرسم ناراً وكتب فوقها: (جهنم الحمراء) ورسم جماعة من الناس في الزاوية يصرخون ويرفعون أيديهم، وفي الزاوية الأخرى شخص عنده مروحة ويبتسم ابتسامة لذيذة تنم عن سعادة ورضا -هذا في جهنم الحمراء! - وكتب تحتها (مرسي)، أليس هذا طعنٌ في الله تبارك وتعالى؟! إذا أراد الله أن يرحم أحداً لا يُسأل عما يفعل، لكن أن يضعهم في النار ويضع المروحة!! هل هذا الكلام معقول، معقول أن تمرر هذه الرسوم التي تجرح ملايين المسلمين ولا تنم عن أية صلة بهذا الدين.
إن الله تبارك وتعالى يعاقب الأمة كلها إذا لم تضرب على أيدي سفهائها، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] على أحد معاني الآية: لا تصيبن الذين ظلموا فقط، إنما تصيب أيضاً الذين سكتوا على الذين ظلموا ولم يأخذوا على أيديهم.
فأين محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المستوى الإعلامي، وأين توجد؟(70/10)
قصة أبي أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم
عندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً؛ فإنه نزل في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وهذه القصة في صحيح مسلم، وكان لدار أبي أيوب طابقان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي أيوب بعدما عرض عليه أن يسكن في أعلى البيت: (يا أبا أيوب السُفل أرفق بنا يغشاني أصحابي)، السُفل: أي المكان الأسفل أرفق بنا، بحيث أن أي رجل يريد النبي عليه الصلاة والسلام لا يدخل على بيت أبي أيوب، ثم يصعد إلى فوق.
قال أبو أيوب: (وكنا نرسل إليه الطعام، فعندما نأكل نسأل من أين أكل؟ فنتحرى موضع أصابعه فنأكل منه، وكذلك إذا شرب نتحرى موضع الشرب فنشرب منه، قال: فأرسلتُ له يوماً طعاماً فيه غفنٌ أو ثوم فرده ولم تظهر يده فيه، قال: ففزعت، ونزلت، فقلت: يا رسول الله، أحرام هو؟ -يعني: البصل والثوم؛ لأنه لم يأكل منه- قال: لا لكني أنُاجى والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، قال أبو أيوب: لا جرم أن أكره الذي تكره).
مع أن البصل والثوم حلال، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه.
قال أبو أيوب: (وانتبهت ليلةً، فقلت: أأنا أمشي على سقيفتي وتحتها رسول الله!) يعني: يمشي أبو أيوب هو فوق الخشب ورسول الله تحتها، وفي بعض الروايات كما في الصحيح قال: (وانكسر لنا إناء، قال: فجففت الماء بلحافي ولحاف امرأتي، وما لنا غيره خشية أن تنزل نطفة من الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لامرأته: انزوي) وانزووا جميعاً في ركن البيت حتى لا يمشيان على سقيفة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح الصباح نشده أن يصعد، وقال: (لا أعلو سقيفةً أنت تحتها) فهل يتصور في مثل أبي أيوب الأنصاري، إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي عليه الصلاة والسلام أن يخالفه؟ قال الإمام تقي الدين السبكي في رسالته: (بيان قول الإمام المطلبي -وهو الإمام الشافعي رحمه الله-: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: (وليتخيل أحدكم نفسه إذا سمع الحديث أنه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره أو ينهاه هل يكون بوسعه أن يخالف؟) إذا قلت لك الآن حديثاً تخيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يقول لك هذا الكلام، أيكون بوسعك أن تتخلف؟ لا يكون بوسعك بطبيعة الحال، لكن بُعد المسافة عن مصدر الضوء سبيلٌ إلى الإيغال في الظلام، كلما اقتربت من مصدر الضوء كلما أصبت شيئاً من ضوئه، وكلما ابتعدت عن هذا المصدر كلما أوغلت في الظلام، وهذا المصطلح هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(70/11)
لهفة المرأة الصحابية على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد
في غزوة أحد لما حدثت المقتلة للمسلمين، وهم قافلون إلى المدينة، قيل لامرأة كانت تنتظر: (مات زوجك، مات أبوكِ، مات ولدك، مات أخوكِ، ماذا بقي لها؟ فقالت لهم: وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قالت: أريد أن أراه).
لا تريد خبراً عن زوجها ولا أبيها ولا أخيها ولا عن أي شيء، بل سألت عن المحبوب الأعظم عليه الصلاة والسلام (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قالت: أروني إياه، فلما رأته قالت له: كل مصاب بعدك جلل) أي: صغير لا قيمة له، هذه المحبة هي الوقود الحقيقي الذي يدفع المسلم.(70/12)
وراثة الكتاب وعدم العمل به
السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب بخلاف الأوائل الذين قاتلوا على هذا القرآن وأهريقت دماؤهم بسبب تبليغ آيات الكتاب الحكيم، فالذي يضحي برقبته في سبيل الآية، لا يستوي مع الذي ورث قرآناً كاملاً لا يحسن أن يقرأه أحياناً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] لذلك تهون عليهم آيات الكتاب فيتأولونها بتأويلٍ باطل.(70/13)
الجمع بين الأحاديث المتعارضة عمل الجهابذة
لا بأس إن كان هناك حديثان ظاهرهما التعارض أن نوفق بين الحديثين بنوعٍ من أنواع التأويل المقبول، فمثلاً: حديث أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) قالت: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، غفر الله لـ أبي عبد الرحمن، إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية ماتت فقال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) بيني وبينكم كتاب الله، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فهذا الحديث كأنه يعارض الآية، وقد ذكر علماء الأصول أنه يستحيل أن يكون هناك تعارض بين آيةٍ من كتاب الله تبارك وتعالى، وبين حديثٍ صحيح للنبي عليه الصلاة والسلام، إنما يكون التعارض في ذهن المجتهد، وليس في حقيقة اللفظ، فنحن إذا نظرنا رأينا أنه لا تعارض، وأن عمر وابنه لم يخطئا في الرواية، فقد روى هذا الحديث ستة أو سبعة من الصحابة، وإن جاز أن يهم ابن عمر فلا يمكن أن يهم هؤلاء الذين رووا هذا الحديث، إنما عائشة رضي الله عنها التجأت إلى ظاهر الآية، وإلى هذه الرواية التي روتها: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) أي: أن المسألة منفصلة، هم يبكون وهي تعذب، ليس بسبب البكاء، وبكاؤهم لا يخفف عنها، أو وهم لا يشعرون بها أو نحو ذلك.
جمع العلماء بين الآية وبين الحديث، كالإمام البخاري مثلاً في الصحيح قال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان ذلك من سنته).
أي: أنه إذا أوصى أن ابكوا عليَّ، وانصبوا الأعلام وشقوا الجيوب وادعوا بدعوى الجاهلية، إن أوصى بهذا يُعذب، فحمل الحديث على إذا كان ذلك من سنته، أي: من سنة الذي مات، أنه أوصى بذلك، ولا شك أنه لا يجوز لأحدٍ أن يوصي بما لا يرضى الله تبارك وتعالى عنه.
ومثل هذا باب واسع جداً عند أهل العلم، صنفوا فيه كتباً، ولا يستطيع أن يخوض فيه إلا الجهبذ الذي قلمت أظفاره بالعلم، فالرجل الذي لم يقرأ في الأصول قراءةً جيدة لا يستطيع أن يخوض في باب التعارض والترجيح؛ لأنه باب تزل فيه أقدام الفحول، وعندما ترى العلماء المتقدمين الذين ينظرون في الأحاديث وفي تأويلها تستشعر أن هؤلاء على علم، بخلاف كثير من المتأخرين، الذين وإن درسوا الأصول لكن عندهم شقاشق وكلامٌ كثير يحتاج إلى نظر، حتى أن بعضهم حرر بعض الأصول تحريراً فيه نظر، لا يعرف إلا عن بعض المتأخرين ولم تكن أحد من المتقدمين يقوله، فالحاصل أن التأويل كما يقول بعض العلماء عدو الأديان، وما زل من زل إلا بسبب التأويل والتوسع في التأويل، وبدعوى أن هذا تأويل حرفوا كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم القدوم عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.(70/14)
إهدار العمل بالأحاديث بالتأويل الفاسد
أسباب الانهيار والسوس الذي ينخر في كيان الأمة الإسلامية الآن كثيرةٌ جداً ومتنوعة، وقفت على اثنين منها، ومن أهمها: عدم صدق المحبة الحقيقية، فترى الرجل يقترف الكذب بحجة أنه مكروه فقط، وما الذي يجبرك أن تفعل المكروه؟ وهناك أناس ينامون على بطونهم، ويقول: أنا لم أطمئن إلا إذا نمت على بطني، فإذا قلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نام على بطنه، فقال: (هذه ضجعةٌ يكرهها الله)، قال: هذا مكروه ويكاد الرجل أن ينتهي، لكن في البداية يريد أن يستريح وينام؛ لأنه متعب، وحتى يمتثل يعمل المخالفة هذه مرات عديدة، حتى يستريح، بينما كان الصحابة يمتثلون مباشرة، ولا يتوانون، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم: (لا يصلين أحدكم في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) فأفتى العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، أن كشف العاتق أو أغلبه يبطل الصلاة، يعني: لو صلى وعليه فانيلة لها محمل، فالصلاة باطلة؛ لأن للصلاة عورة تختلف عن العورة خارج الصلاة، وهذا العاتق من عورة الصلاة، واحتجوا بهذا الحديث: (لا يصلين أحدكم في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء)، وهذا شيء، ويدخل في مثل هذه التأويلات، ويصد عن الحديث فيضيع الحكم، وكل هذا باسم القواعد الأصولية، ونحن عهدنا من العلماء المثقفين الذين أحكموا علوم الآلات أنهم لا يتكلمون بمثل هذا، والحكم واضح.(70/15)
عدم انتفاع المتأخرين بالكتب المطبوعة
العز بن عبد السلام لم يكن يمتلك المحلى لـ ابن حزم، ولا كان عنده المغني لـ ابن قدامة، إنما كان يرسل لـ محيي الدين بن عربي الرجل الصوفي يستعير منه المحلى والمغني إذا أراد أن يفتي، وكان يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي المغني والمحلى، أما الآن فتجد المغني والمحلى شيئاً طبيعياً جداً من كتب الفقه العامة عند كثيرٍ من المسلمين.
الشيخ: أحمد شاكر رحمه الله كتب تعليقاً على المحلى عندما رأى أثراً عن عبد الرزاق في المصنف كان الشيخ أحمد شاكر يتكلم على مصنف عبد الرزاق كما لو كان الغول أو العنقاء، يعني: كأنه غير موجود على الإطلاق، ويقول: إن هذه الكتب كانت موجودة عند هؤلاء العلماء كالمصحف في أيدي الصبيان في الكتاتيب، والآن لا نعلم أنه يحفظها عالم، قال: الآن مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف سعيد بن منصور، وهذه الكتب التي تعنى بالآثار، هي الآن موجودة مطبوعة عند كثير من طلاب العلم، لكن هل استفاد المسلم من هذه الكتب ومن هذا الفقه الموجود في الكتب؟ قد يموت وهناك بعض الكتب التي كان ينام فيحلم بها، واقتناها، يموت ولا يمس منها ورقة، إرث عظيم جداً، تصوروا جميع الكتب الإسلامية الآن التي هي عن السلف القدامى، أي دولة قد تئن من ثمن هذه الكتب، يعني: لو أن هناك دولة أرادت أن تشتري الكتب القديمة لوجدت أن المخطوطات التي لم تطبع تساوي أكثر من نصف الذي طبع، وحتى الآن مئات الألوف من المخطوطات لم تر النور.
كل هذا لتفسير الكتاب الكريم وتفسير الحديث النبوي، تستطيع أن تستفيد الكثير منها، المطبوع منها أو المخطوط، لكن لا تستطيع أن تنتفع بها مثل ما كان الأوائل.(70/16)
موقف عمر ممن يسأل عن المتشابه
نحن لا ننسى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد صبيغ بسبب أنه سأل سؤالاً في أجناد المسلمين، كان أبو موسى الأشعري قائد المسلمين، فإذا برجل اسمه صبيغ العراقي يسأل المسلمين عن الآيات المتشابهات، فوصل ذلك إلى أبي موسى الأشعري، فأرسل إلى عمر، فقال عمر: أرسله إليَّ، فلما جاء به الرسول ودخل على عمر، قال: جئت بـ صبيغ، فدخل عليه صبيغ، فقال له: أنت الذي تسأل في أجناد المسلمين عن محدثة؟ ودعا بجريد رطب، والجريد الرطب أشد في الإيلام من الجريد اليابس، فما زال يضربه حتى انبجس منه الدم، فتركه عمر حتى برأ، فجاء به، فما يزال يضربه حتى انبجس منه الدم، وتركه حتى برأ، وجاء به في المرة الثالثة، وهمّ أن يضربه، فقال صبيغ: (يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت -تبت- فأرجعه عمر إلى أبي موسى الأشعري، وقال: هذا لا يحدثه أحد)، وامتثل المجتمع كله؛ لأن هؤلاء رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، لا يستعظمون عين الخلق، ويستحقرون عين الله تبارك وتعالى.
ففي قصة كعب بن مالك في غزوة تبوك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين ألا يكلموه واشتدت عليه الوحدة، ذهب إلى أبي قتادة الأنصاري قال كعب بن مالك: (وهو ابن عم لي وأحب الناس إليَّ)، ولكن جفوة المسلمين وعدم تكليمهم إياه جعلته يكاد يبكي، كما قال الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] فتسلق الجدار وأبو قتادة وحده ولا أحد معه، قال له: (السلام عليك يا أبا قتادة، قال كعب بن مالك: فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ لأنه مأمور ألا يسلم، وهناك أناس يقولون: لا، المقصود الكلام العادي، ورد السلام واجب وليس من الكلام العادي فيصدر حكماً، بل هو مأمور بعدم السلام، وعدم السلام يدخل فيه كل كلام، قال: (فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم) وهذا ليس تكليماً من أبي قتادة لـ كعب بن مالك، بل يمكن أن يكلم نفسه، لكن ليس هناك كفاح ولا مواجهة.
فنفذ أمر عمر بن الخطاب هذا المجتمع الذي هو كما قال رجل لـ علي بن أبي طالب: (يا أمير المؤمنين! لماذا انشقوا عليك ولم ينشقوا على عمر؟ فأجابه إجابة مفحمة، قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا والٍ على مثلك)، هناك فرق، يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يكلمه أحد، فلا يكلمه أحد، حتى شق جداً عليه، فذهب يشتكي إلى أبي موسى، فأرسل أبو موسى لـ عمر أن حسنت توبته، فأمر المسلمين بتكليمه.
وبمثل هذا صان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى عن دخول الأقوال الباطلة باسم التفسير، حيث كان الرجل يخشى أن يفسر تفسيراً مستقيماً فيجلد عليه، فكيف لو أنه قال تفسيراً باطلاً.
فصان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى؛ لأنهم قاتلوا عليه، فأحد أسباب الوهن الأخرى أننا ورثنا كتباً كثيرة جداً، لكن لم ننتفع بها، فتدخل على الرجل منا فتجد عنده مكتبةً لم تكن عند مشايخ الإسلام.(70/17)
قصة إسلام أبي ذر وصبره على الأذى
انظر مثلاً في قصة إسلام أبي ذر وهي في الصحيح، لما أرسل أخاه إلى مكة يتلمس الأخبار عن هذا الذي يزعم أنه نبي، ويأتي بمقاله، فذهب أخوه ثم رجع إليه يقول: (يدعو إلى مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، فقال: لم تكفني)، فجهز زاداً وانطلق إلى المسجد الحرام، وظل ثلاثة أيام؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: دلوني على الذي يزعم أنه نبي، وإلا فتكوا به، فظل ثلاثة أيام يمر عليه علي بن أبي طالب ينظر إليه، وينظر إليه أبو ذر، فيقول: أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله، فقال أبو ذر: (فاستضعفت رجلاً منهم -نظر في الكفرة، فرأى رجلاً نحيلاً ضعيفاً هزيلاً- فقلت: أسألك -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً أو دائماً، فقال له: أين هذا الذي يزعمون أنه صابئ؟ فأشار هذا الضعيف إلى الجلوس، وقال لهم: الصابئ الصابئ)، وهذه كالشفرة معناها: اقبضوا عليه؛ لأنه يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال أبو ذر: (فاستداروا عليّ بكل مدرة وعظم حتى كأنني نصب أحمر) من كثرة الدماء التي سالت عليه، فهرب منهم، وما أنقذه إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: (ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم يمر على غفار؟ فتركوه، خوفاً من غفار أن تنتقم وتأخذ التجارة منهم، وهربوا، فلقيه علي بن أبي طالب قال: (أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله؟ قال: إن كتمتني قلت لك، قال: وما ذاك؟ قال: أين هذا الذي يذكرون أنه صابئ، قال: اتبعني، فإذا خفت عليك -لأن هناك جماعة يرقبونه- سأعمل كأني أريق الماء -أي: يتبول- وما زال وراءه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما أن رأيته حتى علمت أن هذا ليس بوجه كذاب، فسمع منه وآمن، فقال له: (لا تجهر بها حتى نظهر) -أ: ي حتى نهاجر إلى المدينة- فقال له: والذي بعثك بالحق لأقذفن بها بين أظهرهم، وذهب إلى المسجد وصاح بالشهادة، قال: فانهالوا عليه بكل مدرةٍ وعظم، فما أنقذه إلا العباس، ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم يمر على غفار، فهرب منهم ثلاثين يوماً، ما له طعامٌ ولا شرابٌ إلا ماء زمزم، قال: حتى تكسرت عُكن بطني ولم أشعر في كبدي بجوع)، تكسرت عكن بطني، يعني: حتى أصبح لحم بطنه طبقات، لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم).
تصور رجلٌ مثل أبي ذر يعلم العواقب الوخيمة التي ستنهال عليه من جراء الصدع بالشهادة، فمبجرد أن سأل: أين الصابئ؟ حولوه كتلة دم، فكيف لو ذهب وجهر بالدعوة ماذا سيفعلون به؟ ومع ذلك استعذب أن يصدع بها وهو يعلم العواقب، فهل رجلٌ مثل أبي ذر إذا تلا آيةً من كتاب الله أو سمع حديثاً من النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن يخالفه؟(70/18)
تنصيص عمر على آية الرجم
هذا هو الفرق بين الذين ورثوا الكتاب وبين الذين قاتلوا على الكتاب، لذلك كان الكتاب عزيزاً عليهم، وكانوا ينفون عنه أي تأويلٍ فضلاً عن تحريف، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صيانته للقرآن الكريم قال: (سيأتي أقوامٌ يكذبون بالرجم، ولقد كان فيمن نقرأ من قبل في كتاب الله تبارك وتعالى: (إذا زنى الشيخ والشيخة، فارجموهما ألبتة، بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم).
ثم إن الله رفع هذه الآية -وهو المعروف عند العلماء بنسخ النص مع بقاء الحكم- ولقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر ورجمت، ولولا أن يقول أناسٌ: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف) الذي هو الرجم.(70/19)
حرص عمر على عدم خلط القرآن بالحديث
روى الدارمي في سننه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بعث جمعاً من الصحابة يعلمون الناس الإسلام قال لهم وقد خرج في بعض الطريق يمشي معهم، قال: (أتدرون لماذا مشيت معكم؟ قالوا: نحن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولنا عليك حق، قال: لا لهذا خرجت، إنكم تأتون أقواماً لهم دوي للقرآن، فإذا رأوكم قالوا: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تصدوا الناس عن القرآن بالحديث، أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا حليفكم) حفاظاً على المرء، حتى لا يكثر التأويل الذي يحير القارئ، بينما الآن افتح بعض التفاسير المطولة، تجد أقوالاً تشرق وأخرى تغرب، والواحد تائه بين هذه الأقوال، لا يستطيع أن يرجح ما هو المقصود، حتى إن بعض الناس فسروا آيات القرآن الكريم على العلم الحديث، فيستدل على أن الأرض كروية، وغيره يقول: الأرض بيضاوية، ويستدل بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، أي: جعلها مدحية بيضوية، والله أعلم إذا قالوا: إنها مربعة مستطيلة، يمكن أن يقول لك: القرآن يقول ذلك، وليس القرآن كتاباً جغرافياً أو كتاب تاريخ، إنما القرآن كتاب هدى، ينزل على القلب، يسمعه القارئ فيعرف مراد الله تبارك وتعالى، لذلك هذه الاستنباطات التي تزيد على مجرد اللفظ، وإن كانت تفيد الباحث والعالم، لكنها تصد العوام كثيراً.(70/20)
التأويل والتحريف لنصوص الكتاب والسنة
لقد دخلت مرةً مسجداً، وفيه بعض أولئك الذين يفسرون القرآن الكريم تفسيراً يعود على النص بالإغفال، لا أسميه تأويلاً بالباطل، لكنهم يحرفون الكتاب، فيفسرون قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهي آية واضحة جداً عند أي رجل يفقه شيئاً من لسان العرب، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي: من الذي يشفع عند الله إلا بإذن الله، هذا معنى الآية، فيقول: لا.
هذا المعنى الظاهر، لكن هناك معنى أعمق، وهو (من ذل ذي (يشف) عِ) أي من (ذل) من الذل، (ذي) اسم إشارة؛ إشارة إلى النفس أي: من ذل نفسه (يشف) من الشفاء، (عِ) فعل أمرٍ من (وعى) أي: عِ هذه الحقيقة، فأدى تأويله هذا إلى إيجاد كلماتٍ مختلفة عن كتاب الله، فنفى معنى الآيات، وأتى بمعنى جديد، وهناك فرقٌ بين الذين يؤولون تأويلاً باطلاً، وبين الذين يحرفون النص، قد يقول قائل: وما الفرق؟ إذا كان التأويل باطلاً، قد أبطل النص أيضاً، وهو باطل في ظاهره، فيقال: لا؟ لأن التحريف الباطل لا يوجد من يرده، بخلاف ما إذا ظل النص سليماً كما هو فيأتي الراشدون من العلماء يبينون حقيقته، أما إذا حُرف النص فماذا يبقى بيد العلماء؟ وهذا اللون من التحريف لا يستطيع أحدٌ أن يثبته في المصحف، لكنه يمكن في غير كتاب الله تبارك وتعالى، فيكون إيجاد كلماتٍ جديدة في كتابٍ خارج عن المصحف؛ وقد وجدنا أن هناك أناساً يستحلون مثل هذه الأشياء، وقد يطول على الناس زمان، يثبتون مثل هذا في المصحف، فقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الأصنام ستعبد في جزيرة العرب.
ولكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها خلق فالجرأة على تفسير القرآن الكريم على غير ما كان السلف الصالح يفسرونه به، هذا من أسبابه أن هؤلاء ورثوا الكتاب، كما لو ورثت مالاً عن والدك، قد تنفق هذا المال كله في لحظةٍ من اللحظات، ولا تذرف عليه دمعة إذا ضاع كله، بخلاف الذي جمع المال بنفسه، لذلك كان التعبير القرآني دقيقاً جداً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169]؛ لأن الذي ورث ليس كالذي قاتل على آيات الكتاب.(70/21)
قصة البقرة
سورة البقرة سورة ذات شأن، وهي أطول سور القرآن ومن أكثرها أحكاماً، وفي تسميتها بهذا الاسم إشارةً إلى ضرورة النظر في القصة الواردة فيها، ومن خلال هذه القصة يتبين لنا استهزاء يهود بني إسرائيل بنبيهم، وإساءة أدبهم مع الله سبحانه وتعالى، وتعنتهم وتكلفهم في الأوامر التي أمروا بها، وهذه القصة من جملة القصص التي قصها الله تعالى للعظة والاعتبار(71/1)
أهمية سورة البقرة وسبب تسميتها بذلك
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقصة البقرة قصة ذات شأن، وسورة البقرة هي أطول سور القرآن وأكثرها أحكاماً، ومع ذلك جعل عنوانها البقرة، إشارة إلى القصة المذكورة فيها، والعناوين أنساب المضامين، كما أن العناوين أنساب الكتب، وكما أن النسب معتبر عند بني آدم، فكذلك العنوان معتبر في المضمون، أن عنونة هذه السورة الطويلة بالبقرة إشارة إلى ضرورة النظر في القصة، وهي كما ذكرت قصة ذات شأن وكلنا يعلمها، لكن أريد أن نقف على بعض جوانبها، لنفهم حقيقة الصراع الدائر بين المسلمين والكافرين.(71/2)
قصة بني إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها
قصة البقرة هي قصة تتعلق ببني إسرائيل -باليهود على وجه الخصوص- قتل قتيل منهم فاحتاروا من الذي قتله فذهبوا إلى نبي الله موسى عليه السلام ليسألوه عن قاتل هذا القتيل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، وواضح أنه لا علاقة بين السؤال والجواب في الظاهر، فاعترض بنو إسرائيل لهذا الجهل، وهذا الفارق بين السؤال والجواب، وكان المفترض وهم يخاطبون نبياً ينقل عن الله صراحة لا ينقل عن رأيه أن يسلموا حتى وإن لم يعلموا الحكمة من الخطاب، فإذا صح نسبة خطاب إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد قط أن يعترض على كلام ينسب إلى الله ورسوله، بدعوى الجهل به، وأنه لا علاقة بين السؤال والجواب، هذا غلو وتنطع يعاقب الله عز وجل عليه، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) أي لما سألوه (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) تواضع فنسب الأمر إلى الله، ما قال: أنا آمركم أن تذبحوا بقرة، وحتى لو قال هذه العبارة لوجب أن يمتثلوا طالما أنه نبي مرسل من عند الله، كما أن في نسبة الكلام والأمر إلى الله قداسة.
فـ كعب بن مالك لما تخلف في غزوة تبوك، وتاب الله عليه وأنزل توبته، جاء كعب بن مالك فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك، قال: يا رسول الله! أهذا من الله أم منك؟ فقال: من الله، فقال كعب بن مالك: إذاً لا معقب لحكمه)، بمعنى أنه أكثر تثبيتاً للفؤاد وليس تشتيتاً، وليس هناك فرق بين ما يأتي من عند الله وما يأتي من عند النبي عليه الصلاة والسلام، إنما إذا جاء من عند الله مباشرة يسكن القلب مباشرة.
وكذلك عائشة رضي الله عنها، لما ابتليت في حديث الإفك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشري يا عائشة! قالت أم رومان: قومي إليه فاحمديه، قالت: والله! لا أحمده ولا أحمد إلا الله، وفي بعض طرق الحديث أنها قالت: أمنك أم من الله؟) فإذا قال موسى عليه السلام: إن الله يأمركم وجب عليهم التنفيذ، ومن المعلوم أن الأمر المجرد من الله عز وجل يفيد الوجوب، والوجوب هو طلب الفعل من المكلف على سبيل الإلزام ليس له فيه اختيار، فإذا قيل: افعل يجب أن يفعل، ليس هناك حل آخر، وهذا معنى الأمر، إذا جاء الفعل بصيغة الأمر أفاد الوجوب ابتداءً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، إذاً واضح أنه مبلغ عن الله، وواضح أنه جاء بأمر ليس لهم فيه اختيار: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67] مع أن الكلام واضح أن الأمر من عند الله، قالوا: أتهزأ بنا وتسخر منا، وهذا سوء أدب؛ أن يعلم أن الأمر من الله ثم يرد هذا الأمر، ومعلوم أن الذي يستهزئ بالله عز وجل كافر.
نقل إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن من سب الله كفر، ومن سب دينه كفر، ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر كفراً مجرداً عن الإيمان، لا يوجد كفر دون كفر في هذه المسائل الثلاثة، يكفر بمجرد ما يسب يخرج من الملة فوراً وتترتب عليه كل أحكام المرتد، فيفرق بينه وبين امرأته، ولا يدفع عنه الحكم أن يقول: أنا كنت غضبان، ولا مغلوباً على عقلي، لأنه المعروف أن السب يعني تنقيص، ولا يسب ربه رجل فيه خير، وتوقير الله عز وجل لا يحتاج إلى علم، حتى يقال: أنا كنت جاهل، جاهل بقدر ربك، هذا كفر مجرد.
فكأنهم ينسبون موسى إلى الكفر، وينسبونه إلى الاستهزاء بالله عز وجل، وهو يصرح ويقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)، فيقولون: أتتخذنا هزواً، كأنما قالوا: أنت تهزأ بنا، ونقلك عن الله غير صحيح، هذا معنى أتتخذنا هزواً، فرد عليهم رداً رفيقاً، رغم بشاعة ما قالوا في حقه من نسبته إلى الاستهزاء بأحكام الله، قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] رد رفيق ورقيق، وهكذا ينبغي عليك إذا رأيت جاهلاً أن لا تساويه في جهله فتكون جاهلاً مثله، رجل يسب لا تقل له اتق الله، لأنك إذا ذكرته بالله في غمرة الغضب سب الله، إنما سكنه ولا تقل له اتق الله، فإذا كان هائجاً والرجل يسب ويُرَجِّع في الكلام، ما هو المانع في غمرة الغضب أن يفعل ذلك، لا تعرض ربك للسب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن من يلعن والديه، قالوا: يا رسول الله! أو يلعن أحدنا والديه؟ قال: نعم.
يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه) رجل يسب رجلاً فالرجل يسب أباه وأمه كأنما هو الذي سبه لأنه هو الذي جره إلى ذلك، وقد قال الله عز وجل لنا مؤدباً وناهياً {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، وأنت عندما تسب حجراً أو شجراً أو خشباً، ما هو قيمة الخشب؟ سيرد عليك عابد الحجر بسب ربك، فلا تسب الأصنام، لماذا؟ لأنهم عندما يسبون رب العالمين يرتكبون جرماً عظيماً، بخلاف ما إذا أنت سببت حجراً أو شجراً أو مدراً أو أي معبود من دون الله عز وجل.
بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، فقد عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجلد رجلاً قال والله ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية جلده حد القاذف، وقال: نفيك عنهم الزنا وكونك تقول ذلك فيه إشعار إلى أنه زانٍ أو ممكن أن يزني، فوصل الأمر بصيانة الأعراض والتحذير من تهمة الزنا إلى هذا الحد، أن يجلد من ينفي الزنا عن والديه لأن فيه إشعاراً بأن هذا وقع منهما.
فموسى عليه السلام يرد على هؤلاء الجهلة الذين ينسبونه إلى الاستهزاء بأحكام الله عز وجل رداً رفيقاً، والرد الرفيق أبلغ، وهو يوصل الكلام إلى القلب، قد يكابر الرجل عندما يسمع الحجة، وهو بداخله مقتنع، لكن حمله الكبر على عدم الاعتراف، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:14] أي بلسانهم {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] يعني هو في دخيلة نفسه يعلم الصدق، فأنت اجعل لقلبه طريقاً.
فإن الله تبارك وتعالى قال لموسى لما أرسله هو وأخاه هارون إلى فرعون {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فرد موسى عليه السلام على بني إسرائيل: أعوذ بالله: أي ألجأ إليه وأحتمي به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أعوذ بك منك) لأنه لا يحميك منه إلا هو، أعوذ برضاك من سخطك، هو هذا معنى أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة:68] وهذا فيه جفاء أنهم لا ينسبون أنفسهم إلى الله، (اَدْعُ لَنَا رَبَّكَ) وهذا مثل قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] وأيضاً: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة:112] كأنه رب موسى عليه السلام وحده، والأخيار ينسبون أنفسهم إلى الله لأن هذا شرف كما قال يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50].
وهكذا (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) إذاً هم يسألون عن ماهية الشيء، ماهية الشيء حقيقته وأصله.
(اذبحوا بقرة) هذه لا تحتاج إلى وصف ماهية، لذا لو قال رجل لآخر: اشتر لي حماراً، فاشترى حماراً لأجزأه ذلك.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] ثم جدد ذكر الأمر مرة أخرى، افتتح الكلام إن الله يأمركم، وبعد ذلك ختم فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68]، تجديد الأمر ولفظ الأمر.
لا فارض: أي ليست مسنة كبيرة، كما قال الشاعر: يا رب ذي ظغن علي فارض له قرء كقرء الحائض يقول: إن هناك رجلاً كرهه لي فارض كبير، له قروء: يعني له حالات تهيج فيها عداوته علي كما تهيج الحائض في أوقات حيضها، فرب ذي ظغن علي فارض أي: كبير.
ففارض لا هي كبيرة جداً ولا هي بكر لم تحمل.
(عوان بين ذلك): متوسطة شابة، وهذا كلام واضح جداً.
(فافعلوا ما تؤمرون) لأنه يعلم أنهم لا يمتثلون لما يؤمرون به فأكد عليهم لذلك.
أنا والله -يا إخواننا- أقلب كفي عجباً بعد هذا الكلام المبين، نحن نثق بوعود هؤلاء اليهود وهم كاذبون -ولعن الله السياسة التي لا دين لها- رب العالمين يقول هؤلاء لا وعود لهم ولا عهد لهم ولا ذمة لهم، ومع ذلك نقول: لهم ذمة ولهم عهد، وهذه مخالفة صريحة للقرآن، نصف القرآن فيه ذم بني إسرائيل، وبيان لغدرهم وقتلهم للأنبياء وخلفهم للوعود.
ها هي الدولة الفلسطينية قالوا لهم: (18%)، بعد ذلك قالوا: (18%) كثير، إذاً (3%) محمية طبيعية، (10%) يأخذوها، ثم اعترضوا على (10%)، وبقي (7%)، وهكذا يتدرجون لصالحهم لأنهم لا مبادئ لهم ولا عهد ولا ذمة، ومطلوب الآن إخراج كل الآيات القرآنية التي تذم بني إسرائيل من مناهج التربية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص ممنوع تدريس سورة البقرة، لأنها فيها عداء للسلام، وفيها تهييج للعداوات، وقد استجابت مدارسنا لذلك، تطبيعاً لسياسة السلام، فحذفت الآيات المتعلقة ببني إسرائيل من كتب الدين، وقد رأيت هذا بنفسي وقارنت بين المناهج السنة الماضية والسنة هذه وجدت أنه حُذف كلام رب العالمين آيات، وهذا مطبق الآن، وطالما المسألة خرج منها الدين والتقوى فسينتصر من هو أقوى عدة.
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول للجيش إذا أرسله يغزو: (اتقوا الله واجتنبوا معاصيه؛ فإنكم إذا عصيتم ربكم استويتم مع عدوكم في المعصية؛ ففا(71/3)
الغلو في الدين وأنواعه
هذا التعنت وهذا الجحود وهذا الغلو في رد أمر الله تبارك وتعالى امتحنت به هذه الأمة، امتحنت بالغلو العقدي، وامتحنت بالغلو الجزئي في العمل، مع الفرق بين النوع الأول والثاني، الغلو الاعتقادي أشر؛ لأن صاحب البدعة لا يدع بدعته على الإطلاق مهما عُير، ثم هو يظن أن بدعته دين، فهو يريد أن يمضيه على الناس، كالخوارج مثلاً.
النبي عليه الصلاة والسلام وصف الخوارج بأنهم أعبد الناس، وأكثر الناس صلاة وصياماً، وأقرأ الناس للقرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، هؤلاء الناس ماذا يفعلون؟ قال عليه الصلاة والسلام: (يقتلون أهل الإسلام ويذرون أهل الأوثان)، يقتلون أهل الإسلام، فجماعة الهجرة والتكفير تعتقد أن دمي ودمك حلال، بينما النصارى واليهود أمنوا على دمائهم من هؤلاء.
ففي مرة من المرات أحد المبتدعة مر على فرقة من فرق الخوارج، ومن المعلوم أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين، فأول ما عرف أنه وقع -ومن معه- في قبضة الخوارج، قال: أنا سأحتال لكم حيلة، حتى ننجو بجلودنا، فقال لأصحابه: أنا سأتكلم عنكم وأنتم لا تتكلموا، فلما دخلوا على هؤلاء الخوارج، سألوهم من أنتم؟ قال: نحن قوم مشركون، جئنا نسمع كلام الله، فنجا ومن معه من الهلاك المحقق؛ لأنه قال: أنا مشرك، لو قال لهم: أنا مسلم لقتلوه.
وذلك من فهمهم لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فأخذوهم وأسمعوهم كلام الله، وأمّنوهم فقالوا: اتركونا نفكر في كلام الله الذي سمعناه، ونجوا بذلك، فالخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
رجل اغتاب أحد المسلمين عند الحسن البصري فقال له الحسن: سلم منك اليهود والنصارى والمجوس ولم يسلم منك أخوك المسلم، يعني أنه يغتاب أخاه في هذه المدة، وقد سلم من لسانه اليهودي والنصراني والمجوسي؛ فهؤلاء يتحركون بهذه العقيدة؛ لأن هذا الانحراف والغلو العقدي أخطر بكثير من الغلو العملي الذي غاية ما فيه أنه يتعلق بالشخص ذاته.
كما في حديث أنس في الصحيحين أن رهطاً جاءوا أبيات النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عمله، فلما سمعوا أنه يتزوج النساء، وأنه يقوم وينام ويصوم ويفطر، قال بعضهم لبعض.
هذا رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي: هذا رسول الله عمل أو لم يعمل فهو مغفور له، أما نحن فلابد أن نجدّ ونجتهد، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، والثاني قال: أقوم ولا أنام، والثالث قال: أنا لا أتزوج النساء، فقصت عائشة رضي الله عنها هذا الكلام على النبي عليه الصلاة والسلام، فأزعجه الأمر، ونادى في الناس، فاجتمعوا فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، ألا إني أتقاكم لله وأشدكم لله خشية)؛ وذلك لأنهم تقالُّوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام فهؤلاء في نهاية الأمر وقعوا في الغلو الجزئي العملي الذي يعود على الشخص نفسه، بخلاف الغلو الاعتقادي، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، إذ أن أصحاب الثنتين والسبعين فرقة غلوا في الاعتقاد وخرجوا عن الحنيفية السمحة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (كلها في النار) بسبب انحرافهم عن الجادة: (إلا واحدة).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(71/4)
الغلو في الطاعات ممنوع
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]، الطغيان: هو الغلو، وترك الاستقامة، ولذلك الغلو يحتاج إلى توبة حتى وإن كان في الشيء، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لـ ابن عباس في الحج: (التقط لي مثل حصى الخذف وإياكم والغلو، فإنه أهلك من كان قبلكم) حصى الخذف الحصيات التي ترجم بها الجمرات في منى وتجمع من مزدلفة ينبغي أن تكون صغيرة مثل حبة الفول، هذا معنى مثل حصى الخذف، مثل الحجر الذي يوضع في المقلاع، فإذا أراد شخص أن يرمي بالمقلاع فإنه لا يأتي بحجر كبير إنما يأتي بحجر صغير، أي بمثل الحجر الذي تخذف به إذا رميت بالمقلاع.
و (إياكم والغلو): أي إياك والغلو في اختيار حجم الحجر، فالشخص إذا زاد عن مثل حبة الفول في اختيار الحجر فقد غلا، حتى في هذه الجزئية البسيطة، (إياكم والغلو)، إن رمي الجمرات مسألة رمزية، أنت عندما ترمي الجمرات هذه مسألة رمزية، حتى يذكرك بالعداوة التي بينك وبين الشيطان، والتي نسيتها من جملة ما نسيت العداوات في الدين، من منا يكره اليهودي كرماً دائماً، أو النصراني كره دائم، ألم يبق في قلوبنا غيرة وحمية لرب العالمين؟! ألم يُشتم ربك؟! ألم يُسب ربك؟! قال الله تبارك وتعالى: (شتمني ابن آدم، وما كان له أن يشتمني، وكذبني ابن آدم، وما كان له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً، وأنا الله الأحد، الفرد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد) هذه جريمة؛ لأن نسبة الولد إلى الله تنقيص له تبارك وتعالى، فاليهود والنصارى يشتمون رب العالمين بذلك، من يكرههم في داخله أول ما يراهم ويحمل الغل عليهم، هل هذا موجود؟ لا.
ما هو السبب؟ ضياع عقيدة الولاء والبراء، لو أن رجلاً سب أباك لربما دخلت معه في معركة وضحيت بحياتك؛ لأنه سب أباك، وهذا يسب رب العالمين، فأين ولاؤك له.
جيء برجل نصراني مرة إلى شريك بن عبد الله النخعي -أحد قضاة المسلمين- وكان هذا الرجل وثيق الصلة بامرأة أمير المؤمنين، يخدمها، وكان يظن أن صلته بزوجة أمير المؤمنين قد ترعب القاضي، لكن القضاة في ذلك الزمن كانوا متدثرين بالدين، وعزهم كان بعز هذا الإسلام، وكان الخلفاء يوقرونهم فقضى عليه شريك بالجلد، فجلد الرجل وبعد ذلك ركب بغلته مذلولاً ومتضايقاً يضرب البغلة، فقال له شريك: ويحك لا تضربها فإن البغلة التي تركبها هذه أعبد لله منك.
(وكذبني ابن آدم، وما كان له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقوله أنني لا أحيي الموتى، وليس آخر الخلق بأشق علي من أولهم) إنشاء الإنسان من عدم يختلف عن إنشائه بعدما كان له أصل، الأول أقوى، فهؤلاء كذبوا الله وشتموه.
ظهر في هذه الأزمنة مصطلح الأخوة الإنسانية والوحدة الوطنية، وهذا ليس تحريضاً مني على النصارى ولا على اليهود، لكن هذه مسألة عقيدة، نحن لا نظلم أحداً، ولا نجور على أحد، ولا نستحل مال أحد، ولا نستحل دم أحد، إلا بشرع الله.
لا تقولوا أنني أتعنت في ذلك، نحن لا نستحل مال ولا دم أحد ونعاشر بالمعروف ولا نظلم، لكن يبقى لي عقيدتي التي لا أفرط فيها، لا أظلمه لكن أكرهه، ولا أحبه ولا أواليه ولا أقول يوماً ما: إنه أخي أبداً ولا تخرج من فمي ولا تجري على لساني؛ لأن هذا حرام، هذه كبيرة من الكبائر، لا يحل للمسلم أن يقول: إخواننا اليهود أو النصارى، ولا أتولاهم ولا أحبهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع من أحب).
الغلو في الدين حتى في مقدار الحجر الذي ترمى به الجمرات ممنوع، الغلو في الدين حتى في الطاعات ممنوع، في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين، قال: لمن هذا؟ قالوا: لـ زينب إذا تعبت من كثرة القيام لله، طرحت جسدها على هذا الحبل لتريح رجليها، فقال عليه الصلاة والسلام: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد، إن الله لا يمل حتى تملوا).
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلعله يسب نفسه وهو لا يدري).
حتى في هذه الطاعات الغلو ممنوع؛ لأن القلب له إقبال وإدبار: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، فالغلو حتى في العبادة ممقوت، ونهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا دعوة إلى الكسل والنوم والخلود للراحة، بدعوى عدم الغلو، لا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ليصل أحدكم نشاطه) آخر طاقتك افعلها، فإذا أحسست بالفتور اجلس حتى لا تكره العبادة، وحتى تكون مقبلاً على ربك تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(71/5)
مؤامرة تحرير المرأة
إن الحديث عن واقع الأسرة المسلمة مؤلم جداً، فدعاة تحرير المرأة من دينها يحيكون المؤامرة تلو المؤامرة منذ عشرات السنين من أجل زعزعة البنية الاجتماعية للأسرة المسلمة، بدءاً من دعوة الطهطاوي وقاسم أمين وهدى شعراوي، وسعد زغلول وانتهاءً بالقرارات الوزارية التي تهدف إلى إفسادها وإخراجها من بيتها، فيجب علينا جيل الصحوة أن نهتم بالمرأة؛ لأنها الأساس في صلاح المجتمع.(72/1)
قصة موسى مع ابنتي صاحب مدين وغيرته عليهما
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد كان من خبر موسى عليه السلام أنه لما انكشف أمره، أنه هو الذي قتل القبطي، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] * {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، الفاء في قوله تعالى: (فَخَرَجَ) فيها دلالة على المبادرة بالخروج.
بمعنى أنه خرج بلا زاد، بلا أهبة استعداد، خرج بلا دليل يدله، وما بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، خرج على الفور، خرج جائعاً، طريداً، خائفاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، هو عار من قوى الأرض كلها، {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]؛ لم تكن له عدة على الإطلاق، إنما خرج فاراً ناجياً بنفسه، وفي قوله تعالى: (تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) فيه دلالة على أنه لم يكن يعرف أين يتوجه؟! إنما خرج هارباً، ما قصد بلداً بعينه، وهذا واضح من كلمة تلقاء.
تلقاء: أي في تلقائية، ليس هناك ترتيب، إنما خرج هارباً، وهذا أدعى للحيرة، وهو المناسب للخروج بلا عدة ولا ترتيب.
فتصور رجلاً خرج بلا أي زاد، ولا يدري إلى أين يذهب، يحمله ليل ويحطه نهار، مثل هذا الذي صنعه الله عز وجل على عينه لا يكون معتمداً بقلبه إلا على الله، إنني أقول ذلك لتعيش هذا الدور، ولتعلم أن الذي يتوجه إلى الله عز وجل بقلبه فإنه لا يخيبه، إنك لو قصدت رجلاً شريفاً نبيلاً، وقلت له: احمني فإنه لا يسلمك إلى عدوك؛ لأن هذا هو المناسب لكرمه وحلمه ونبله وشرفه.
لما خرج سفيان الثوري رحمه الله هارباً من الخليفة، لقيه أحد عمال الخليفة، وكان رجلاً جواداً كريماً اسمه معن بن زائدة، فلما لقيه معنٌ وكان لا يعرفه، قال له: من أنت، قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: نشدتك الله لما انتسبت إلي؛ لأنه بإمكان أي واحد في الدنيا أن يقول: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فناشده الله أن ينسب نفسه، فقال: أنا سفيان، ومعلوم أن سفيان الثوري آنذاك كل الناس تبحث عنه، قال: أنا سفيان، قال: سفيان بن سعيد، قال: نعم.
وكان من المفروض أن يقبض عليه، ومعن بن زائدة أحد عمال الخليفة، يعني بمثابة المحافظ الآن.
فقال له: خذ أي طريق شئت، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها يعني: أنا لا أسلمك.
وهكذا جرت سنة الرجال النبلاء، فكيف برب العالمين!! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، حسن الظن بالله عز وجل يقوي القلب على العمل.
لأنك تعلم أنه يقوي ضعفك وأنه محيط بعبيده، وأنه ذو القوة المتين.
فالذي خرج بتلقائية بلا إعداد ولا ترتيب: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، دخل مدين بعد ثمانية أيام، لم يكن له طعام في هذا السفر الطويل إلا ورق الشجر، قلنا: خرج بلا زاد، إذاً: دخل مدين وهو مكدود، متعب، مجهود، يتمنى الراحة، خرج خائفاً يطلب الأمن وهو لا يدري ما تخبئ له المقادير، خرج هذا الإنسان فاراً من الخوف فوقع في خطب أعظم مما فر منه؛ لأنه لا يدري ما يخبئ له القدر.
فلما دخل مدين وجد أمة من الناس، أي: خلق كثيرون: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]، تذود: أي: تكف الغنم عن البئر.
هذا يوم الورد، أي ورد الماشية على السقيا، وكل رجل من هؤلاء الرجال معه غنم ومعه بهائم، والكل حريص على أن يسقي ويرجع، والكل يتزاحم، لكنه وجد امرأتين تذودان الأغنام حتى لا تختلط بأغنام القوم: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23]، لاحظ كلامه: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].
وهنا تظهر العضلات!! والشجاعة ما خطبكما؟ والمرأة الحرة لا تخالط الرجال.
المرأة الحرة درة مكنونة وجوهرة مصونة، إنما يخالط الرجال الإماء اللواتي يُشترين من الأسواق، وإنما الحرة مخبأة، لا يراها أحد؛ لأنها حرة، والقائم عليها حر، فهو يستنكر أن تخرج امرأته ليراها الخلق، ولذلك قال موسى -حين رأى امرأتين حرتين تختلطان بالرجال- قال: ما خطبكما؟ الخطب الذي هو المصيبة، يعني: أيُّ مصيبة أوقعتكما حتى اختلطتما بالرجال، المرأتان كانتا مرهفتا الحس لما سمعتا: ما خطبكما؟ قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].(72/2)
التحرز من مواطن الريب
(وأبونا شيخ كبير) أي: لا تسيء الظن بنا، فنحن ما خرجنا لنختلط بالرجال، وإنما الذي أخرجنا أن أبانا شيخ كبير، فدعتنا الضرورة للخروج، هذا الذي جعلنا نخرج، وهكذا الحر، إذا شعر أنه وقع فيما يسيء إليه وإلى مروءته ونبله، سارع وأعطى الدليل أنه ليس كذلك.
أخي الكريم! لست ملكاً كريماً ولست نبياً مرسلاً، ولم ينزل وحي بتأييدك، فلن تنجو من سوء الظن بك مهما كان قدرك، فلا تتلبس بالشبهات، ولا تستعلي وتقول: لا، أنا فلان الفلاني، أنا الذي يعرف الناس نبلي وقدري وديني وتقواي، لا.
فرب العالمين سبحانه لم يؤمن به إلا القليل من عباده والأغلب كفروا به سبحانه وتعالى ويسبونه ليل نهار، قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، ويشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذبيه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، أوليس إعادة الخلق بأهون علي من ابتدائه وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الله الأحد الصمد، لم أَلد ولم أُولد، ولم يكن لي كفواً أحد) {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] يسبونه ليل نهار، ويشتمونه، حتى بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام عندما تقع لأحدهم مصيبة، يقول: لماذا يا رب؟! أنا ماذا فعلت؟! لماذا اخترتني من دون الناس؟ تراه يعترض على أقدار الله وحكمته، يقول الباري عز وجل كما في الحديث القدسي: (خيري إلى العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد).
ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الخلق، وهو ربهم، ولا قوام لهم إلا برعايته إياهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كفر به أكثر أهل الأرض، فلا تقل: أنا رجل محترم، أو أنا رجل لي مكانة، فتتلبس بالشبهات، وتظن أن الناس تحميك أو تدافع عنك، لا.
فقد جاء في الحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً فجاءته صفية، فتحدثت معه فلما أرادت أن ترجع خرج معها ليقلبها -أي: ليوصلها إلى البيت- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أسرعا الخطا، فناداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! -يعني: أونظن فيك الشر أو السوء؟ أو أن تكون قد وقفت مع امرأة لا تحل لك؟ هذا في الظاهر- قال: إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً فتهلكا) أي: لو أنهما أساءا الظن بالنبي صلى الله عليه وسلم هلكا، فإن من أساء الظن بنبيه كفر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نادى وقال: (على رسلكما إنها صفية).
فالمرأتان حرتان، ومن بيت كريم.
ليستا ابنتي النبي شعيب كما ذهب إليه أكثر المفسرين.
ليس هذا الرجل هو شعيباً النبي.
لا.
إنما هو رجل صالح، والدليل على ذلك أن شعيباً عليه السلام قال لقومه وهو يعظهم {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، وجاءت قصة شعيب بعد قصة لوط، ولما يقول لهم: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، أي: أن هلاك قوم لوط كان قريب العهد بهم.
حتى يتسنى لهم النظر والاعتبار، ولوط عليه السلام كان في زمان إبراهيم عليه السلام، قال تعالى بعدما ذكر قصة إبراهيم في سورة العنكبوت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، ولما جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام وتوجهوا إلى القرية المؤتفكة ليقلبوها على من فيها، قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت:32]، وما بين إبراهيم عليه السلام وصاحب مدين أكثر من أربعمائة عام، فالصواب أنه عبد صالح وليس شعيباً النبي، ويدل على ذلك أيضاً أنه لو كانت المرأتان ابنتي شعيب النبي لعرف أهل مدين قدرهما، وما تركوهما، إنما كانوا أعانوهما على السقيا؛ لأنهما ابنتا النبي الكريم، نبي مدين.
إنما هو رجل صالح ممن آمن بشعيب عليه السلام وحمل رسالته.
إذاً: المرأتان من بيت كريم سواءٌ كانتا ابنتي النبي شعيب، أو كانتا ابنتي رجل صالح، فهما من بيت كريم، بيت ملتزم، بيت يحمل لواء الدين في قرية أغلبها كفرة، فالمناسب أن لا تخرج هاتان المرأتان الحرتان إلا لضرورة.
انظروا إلى واقعنا الآن، فإنه يبعث على البكاء.(72/3)
قاسم أمين ودوره الخبيث في قضية تحرير المرأة
إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين.
قضية لها شأن، وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت.
لما قرأت مذكرات قاسم أمين، ومذكرات سعد زغلول؛ لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين، وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه، ذهب إلى فرنسا، وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج، يعني: مثلاً: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول، جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها، لماذا؟ قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق، فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد الوزن وبذلك يزداد ويرتفع، وهذا كلام ساذج.
لا، هم يريدون أن يطعمونا الميتة التي حرمها الله، والمسألة ليست مسألة مال كما تظن أنت، وإنما لتأكل ما حرم الله عليك: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، هذا هو الواقع، ومن عرف عدوه، يجب عليه أن يحذره، لكن نحن ابتلينا بقوم غافلين، تجد الواحد يقول لك: يا أخي! أنت لماذا تسيء الظن بهم؟ وما أدراك؟ نعم.
أنا أدري لأن الله عز وجل هو الذي وصف لنا هؤلاء.
وأعداؤنا لا يتصرفون هكذا بعشوائية تلقائية.
فحرب الخليج -مثلاً- هم يخططون لها من عشرين سنة، وهذا الكلام لا أخرجه من كيسي، إنما هذا في مذكرات القادة العسكريين، والساسة الغربيين، إنهم يخططون لحرب الخليج من عشرين سنة، فلو أن رجلاً قال: يا جماعة! إنهم يخططون لحربكم من مدة، لضحكوا عليه وقالوا: أنت رجل سيء الظن.
مع أن كتاب: بروتوكولات حكماء صهيون، كل كلمة فيه نُفِّذت.
وهذا الكتاب ترجم إلى العربية، وكأن العرب قوم لا يقرءون، وإذا قرءوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون.
والصهاينة هؤلاء، قالوا: سنفعل بالمسلمين كذا وكذا وكذا.
وكل كلمة سطروها في هذا الكتاب فعلوها، فهم قوم لا يلعبون.(72/4)
دعوة قاسم أمين إلى السفور في كتابه: المرأة الجديدة
لـ قاسم أمين كتاب آخر كتبه وأسفر فيه عن وجهه، كتاب اسمه: المرأة الجديدة، كتبه بعد كتاب: تحرير المرأة فثار الناس عليه فانكمش وانزوى ولزم بيته، لكنها لم تكن بالحدة التي كانت على رفاعة الطهطاوي؛ رفاعة الطهطاوي الذي مجده دعاة تحرير المرأة، وكل شخص يمجده هؤلاء ففتش في سيرته تجد أن له سوءات، لا يمجدون رجلاً عفيفاً أبداً أبداً، فكل شخص يمجدونه ويرفعونه تعرف أنه خائن لهذه الأمة، رفاعة الطهطاوي هذا أتى قبل قاسم أمين وبدأ يدعو إلى تحرير المرأة، لكن العلماء والناس وقفوا له بالمرصاد فلم ينجح وماتت دعوة رفاعة الطهطاوي في مكانها، أما قاسم أمين فقد كان البناء الاجتماعي بدأ يتغير، وبدأ التفسخ والانحلال ينتشر، فلما وجد قاسم أمين ذلك أراد أن يبث سمومه، ولكنهم ثاروا عليه فانكمش وانزوى ولزم بيته، فذهب سعد زغلول إليه في بيته وقال له: قل ما تريد، واكتب ما تشاء وأنا أحميك، فلما قال له ذلك كتب كتاباً تحت عنوان: المرأة الجديدة الذي يدعو فيه إلى سفور المرأة وإلى نزع الحجاب، ويقول: نريد امرأة جديدة في هذه الأمة، كالمرأة التي في باريس، والمرأة التي في انجلترا، وبدأ بالدعوة إلى تحرير المرأة.
ونقل معارك الغرب إلى الشرق.
ما هي قضية المرأة في الغرب؟ إنها مسألة: المساواة في الأجور، المرأة في الغرب تعمل كالرجل جنباً إلى جنب، وتنتج نفس الإنتاج، وتشتغل نفس عدد الساعات؛ فلماذا يكون أجرها أقل من أجر كالرجل؟ هذه هي القضية التي كانت في الغرب، لكن ما هي القضية التي أثارها قاسم أمين في بلاد المسلمين بالنسبة للمرأة؟ ما هي القضية التي أراد أن ينقلها من هناك إلى بلادنا؟ هل تعرف ماذا كانت القضية؟ إنها قضية نزع الحجاب.
وما علاقة الحجاب بمسألة المساواة في الأجور؟ لقد كانت الدعوى كلها قائمة على السفور، ونزع الحجاب من المرأة المسلمة، وما قرار وزير التعليم من سنتين منكم ببعيد، لما أصدر قراراً بمنع ارتداء الحجاب في المدارس، وقامت الدنيا ولم تقعد، وتراجع الوزير عن قراره، لكنه قال هذا الكلام قبل دخول المدارس بشهرين!! ماذا يعني هذا؟ يعني: لا تظن أن القرار خرج هكذا!! لا.
فقبل دخول المدارس بشهرين، وفي الوقت الذي يفصل فيه أولياء الأمور الزي المدرسي للبنات، نزلت قرارات بلبس الزي، لكن الآباء فقراء، وليسوا على استعداد أن يفصلوا لبناتهم الزي المطلوب، ثم بعد ذلك يفصل لها الحجاب، وكان قد حصل الامتناع في بداية الأمر، لكن ما الذي حصل؟ حصل أنه لا بد أن يلبس البنات الزي المطلوب، ويمنعن البنات من أن يلبسن إلا خماراً واحداً، كان قبل ذلك لها أن تلبس خماراً واثنين، وكان النقاب زيادة على ذلك، فلما أصر الوزير على قراره لبسن البنات كلهن النقاب، ولبسن القميص على حسب التعليمات.
وبعد ذلك يقوم الوزير ويصدر القرار بأنه ممنوع على البنت في الابتدائي أن تضع خماراً على شعرها، لماذا تمنعونها؟ قال: لأن الخمار يؤثر على عقلها: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، استخفاف بالعقول كأننا لا نفهم!! امرأة تضع الحجاب على شعرها يؤثر على عقلها!! انظروا، كل شيء خالٍ من المنطق، وخالٍ من التفكير السديد.(72/5)
فتاة فرنسية تلعب بقاسم أمين
ولما ذهب قاسم أمين إلى فرنسا وصل غريباً، وقابلته فتاة لعبت بعقله وقلبه.
تخيل أن رجلاً غريباً في بلدة بعيدة ووجد من يؤنس وحدته، ومن يكرمه، ومن يدعوه على الغداء والإفطار والعشاء والمبيت، ويقول له: أنا ند لك.
هكذا قابلته هذه المرأة، ولم يكن تعرفها على قاسم أمين هكذا، وإنما وضعت عمداً في طريقه، لقد لعبت به هذه المرأة، وهو يقول: إن علاقتي بهذه المرأة علاقة بريئة، صداقة بريئة.
والبراءة التي يقصدها أنه لم تقع بينهم فاحشة الزنا؛ لأنه لو وقع بينهما فاحشة لسقطت المرأة في حسه وقلبه.
هذه المرأة أخذته إلى النوادي والمنتديات وانبهر لما رآه، خرج من بلد فيه (حريم)، كان يطلق على النساء (الحريم)، وكان اسماً جميلاً، الحريم من الحرمة، ولأن النساء كان يحرم عليهن أن يراهن الرجال والعكس، وقديماً كانوا يسمون الطبيب (حكيماً)، وهذا أفضل ألف مرة شرعاً وعرفاً من وصف الطبيب؛ لأن الحكيم: هو الذي يضع الدواء في موضعه، هذا هو معنى الحكمة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمى الرجل طبيباً، كما في الحديث الصحيح: (أنه جاءه رجل ليطبّه فقال له: إني طبيب، قال: لا.
أنت حكيم والله الطبيب)؛ لأن حقيقة الطبيب هو الذي يرفع العلة، ولا يرفعها إلا الله.
ولهذا لما قيل لـ أبي بكر في مرض موته: أنأتيك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني.
أي الذي يرفع العلة تبارك وتعالى هو الذي قدر عليه الداء فخرج قاسم أمين من بلد الحريم، حيث لا يرى النساء، ولا يختلط بالنساء إلى بلد يعج بالسفور، وأول مرة يجد نساء سافرات لطيفات، خفيفات، ظريفات، يتكلمن معه، فهاب في أول الأمر، لماذا؟ لأنه ما اعتاد على ذلك، لكن سرعان ما وجد الجرأة والراحة النفسية، وأقبل على النساء بدون خوف.(72/6)
رجوع قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاب تحرير المرأة
لما رجع قاسم أمين إلى بلده، رجع بوجه آخر غير الوجه الذي سافر به، وكتب كتاب: تحرير المرأة.
تحرير المرأة لـ قاسم أمين لم يصرح فيه بما يريد؛ لأنه خائف من التقاليد، ولأنه لو قال للرجال: أخرجوا نساءكم، واسمحوا لهن بالكلام مع الرجال لما سمحوا له بذلك، لماذا؟! لأن التقاليد كانت أقوى، ولما سكت عليه رجال الإسلام، قام وذكر في كتابه: تحرير المرأة.
فقال مثلاً: لقد أهملنا المرأة فأهملنا تعليمها وتثقيفها، فأخرجت لنا أجيالاً ممسوخة، وقد كان على حق في هذا.
فالأمة قررت فعلاً حرمان المرأة من التعليم والتثقيف، حتى كان قائلهم يقول في ذلك الزمان: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات، المرة الأولى: من رحم أمها إلى الدنيا، والمرة الثانية: من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والمرة الثالثة: من بيت زوجها إلى القبر.
أي شرع يقول هذا الكلام، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن معه في السفر، وكن نساء المسلمين يخرجن أيضاً للغزوات يسقين المسلمين، ويضمِّدن الجرحى، ويشاركن بالغزوات؟ من الذي قال: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات؟ كانت المرأة قديماً تخرج لحاجتها؛ لأن العرب لم تكن تتخذ الكنف في البيوت، وذلك: (لما خرجت سودة رضي الله عنها -زوج النبي عليه الصلاة والسلام- وكانت امرأة بدينة، فخرجت بعدما ضُرب الحجاب، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: انظري يا سودة كيف تخرجين! فوالله ما زلت معروفة، فغضبت سودة، ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في بيت عائشة يأكل، فدخلت عليه فشكت له عمر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ولم تخرج من عنده حتى أوحي إليه، فقال لها: إنه قد أُذِن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
فالمرأة ليست كما قال هذا القائل، والحق أن الأمة فرطت في تربية النساء فعلاً، فـ قاسم أمين استغل هذا التقريط وقال: إن النساء يتكلمن في كل مكان، ولهن حق التعليم، وأنا لا أريد أن تخرج المرأة عن دينها، كما في كتابه: تحرير المرأة.(72/7)
مسرحية نزع النساء المصريات للحجاب أمام الإنجليز
عندما خرجت النساء إلى ميدان الإسماعيلية، الميدان الذي يسمونه الآن ميدان التحرير -أي: الدعوة إلى تحرير المرأة!! - وخرجت امرأة سعد زغلول مع النساء، فسئل إلى أين يذهبن؟ قال: ذهبن ليحاربن الإنجليز! بماذا يحاربن؟ قال لك يرمين الإنجليز بالورد!! أهذا هو مشروع النساء؟!! ومن كثرة الغيظ على الإنجليز خلعت امرأة سعد زغلول نقابها -هذه مسرحية- وتمضي المسرحية، وحرق الحجاب ضاع في زحمة الأحداث؛ لأن الذين كتبوا في الصحافة آنذاك لم يتعرضوا لحرق الحجاب، إنما تعرضوا لضرب الإنجليز للنساء، وبطولة النساء، وأن النساء المصريات شجاعات، وأنهن وقفن للإنجليز، وضاع الحجاب في الزحمة، هكذا أرادوا! لو أنهم وقفوا عند مسألة حرق الحجاب، وناقشوها بعقل، وقالوا لأنفسهم: ما علاقة الإنجليز بالحجاب؟ هل الإنجليز هم الذين فرضوا الحجاب على المرأة، ولأجل ذلك نكاية بالإنجليز تقوم النساء فتحرق الحجاب؟ ومضت المسألة، دون وقفة وكان مراداً، مضت المسرحية وخفت صوت أهل العلم أمام الطوفان الجديد.(72/8)
مطالبة البنت بحق التعليم أول خطوة اتخذها الأعداء
بدأت البنت تطالب بحق التعليم؛ والبنت لها الحق في التعليم، هناك مدارس للبنات، ليس فيها إلا امرأة ما عدا رجلين، المدرس الأول مدرس اللغة العربية؛ لأنهم لم يجدوا نساءً أَكْفاء يدرسن اللغة العربية، فيأتون برجل في سن ستين سنة، فيكون بمنزلة الوالد للبنات، ويكون عادة رجلاً وقوراً وعفيفاً حتى لا ينفسخ الأمر، والرجل المسئول الذي هو الأخصائي الاجتماعي، دوره وعمله في المدرسة ليقابل أولياء الأمور؛ لأنه لا يوجد في الفصل إلا نساء، وترى البنت تخرج وهي لابسة القبعة وقد دلَّت ضفيرتين على ظهرها، يقول: لا مانع يا أخي! إنها بنت صغيرة لم تبلغ الحلُم، لما تُخرج الضفيرة لا إشكال وليس هناك مانع من ذلك.
وتكون الناظرة للمدرسة امرأة إنجليزية، كانت متشددة إلى أقصى درجات التشدد، بحيث لو خرجت البنت لمدة خمس دقائق تقوم بتحويلها للتحقيق، وتأتي بولي الأمر، وتقول له: البنت تلعب، البنت هذه أين كانت في الخمس دقائق؟ ما بعده التزام؟! فلماذا الرجل لا يسمح لابنته أن تذهب للمدرسة وهي تذهب في عربة إلى أن تصل، وتدخل المدرسة، وتقابلها ناظرة إنجليزية حازمة في التربية!! وبعد الانتهاء من الدرس تعود في عربة إلى البيت، إذاً: البنت لا تغيب عنهم طرفة عين، وفي نفس الوقت تتحصل على الآداب والعلوم، وتقرأ وتكتب وتستفيد، فما هو المانع.
هكذا بدأ الأمر واستمر ثم خفت قليلاً قليلاً، وتصبح بعد ذلك الناظرة على المدرسة امرأة مصرية، وكان الآباء من كثرة اطمئنانهم على بناتهم لا يذهبون معهن إلى المدرسة، فصرنا نرى البنات زرافات ووحداناً يمشين وحدهن في الشوارع، واستمر الأمر هكذا حتى صار عرفاً عاماً، وإن الرجل الذي لم يدخل ابنته المدرسة كان ذلك عارٌ عليه، ولكن بعد أن تقضي البنت كل هذه السنوات من سن ست سنين إلى سن اثنين وعشرين سنة، وهي تدرس، وجئت بعد ذلك وقلت لها: اجلسي في البيت، تقول لك: إذاً: لماذا كنت أتعلم؟ إذا كان العلم إلا لمجرد أن أقرأ وأكتب فلا، تعلمت لأجل أن أعمل.
يقولون: يجب أن تعلم المرأة حتى يكون معها سلاح.
فيا ترى هل ستدخل في حرب؟! فصارت المسألة طبيعية تتعلم لتعمل، وهكذا أريد بأمتنا، حتى صار النساء إماءً في زي الحرائر، فأين نساءنا من هاتين البنتين كما في قوله تعالى: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23].
فلا تسئ الظن بنا وتقول: لماذا خرجتن من بيوتكن؟ إن الذي أخرجنا هو الضرورة القصوى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] فأين الضرورة في خروج المرأة في عصرنا هذا؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(72/9)
وجوب إعادة النظر فيما يتعلق بالمرأة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام! إن صلاح البنيان الاجتماعي لا يكون إلا بإعادة النظر في أمر المرأة، ولابد لكل دعوة إصلاحية من شهداء، أفلا تكون شهيداً، أفلا تكون طليعة من طلائع الفتح، إننا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا فيما يتعلق بالنساء، إعادة النساء إلى البيوت مرة أخرى، نعلمهن كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بهما، فالبنت لا تحتاج أن تتعلم الإنجليزي ولا الفرنسي، ولا جغرافيا، ولا تاريخ، ولا تربية قومية، ولا حساب مثلثات، ولا كيمياء، البنت لا تحتاج إلى هذا كله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، نحن نحتاج إلى زوجات صالحات، الأمهات يعلِّمن البنات كل شيء؛ لأنهن سيكن زوجات بعد ذلك، كثير من البنات يتعثرن في بداية حياتهن الزوجية، لماذا؟ لأن الأم لم تعلمها كيف تطبخ، ولا كيف ترعى الزوج، لم تعلمها الكياسة، ولا الفطنة، ولا الذكاء، تدخل على زوجها ومعها سلاح، ولو أن المرأة معها شهادة عليا (ماجستير) أو (ليسانس)، وتقدم رجل معه دبلوم، وهو رجل صالح، ورجل فاضل، يقولون: لا.
لماذا؟ لأن هناك تفاوت في الكفاءة، أي كفاءة هذه؟ لكن انظر إلى المرأة العاقلة التي تربت في البيت الملتزم فعلاً ماذا قالت؟! {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
هذه هي مواصفات الزوج الصالح، إذا ظفرت برجل قوي أمين فعلى بركة الله زوجه ولا تتوقف، أما قولهم: إنما هي داخلة ومعها سلاح ماضٍ، وهو سلاحه أقل منها، هل هم داخلون في معركة، هذا التغير الدماغي كان سببه النساء.
فلا بد حينئذ من نساءٍ يعملن لله، يقلن: نحن سنرجع الأمر إلى قوامه فعلاً كما كان، فلا يسمحن لبناتهن ولا يسمحن لنسائهن، ولا لأخواتهن أن يختلطن بالرجال، فلا بد من طائفة نسائية تقوم بهذا وتفعله هذه المرأة عن رضا، وأنها نذرت نفسها لله عز وجل، وسيؤتي هذا الغرس ثماره ولو بعد حين.(72/10)
استمرار دعاة الانحلال في دعوتهم إلى آخر لحظة وعجزنا نحن
فهذا قاسم أمين وقد وقف خطيباً في طائفة من نساء رومانيا في اليوم الذي مات في ليلته، وهن فتيات جئن من رومانيا إلى مصر، في رحلة سياحية ترفيهية، فوقف فيهن خطيباً وقال: إنني أتمنى أن أرى بنات مصر يختلطن بالشبيبة، ولا يكون بينهما أي تحرج كما أرى هؤلاء الفتيات العذارى اللاتي خرجن من بلدهن لطلب المعرفة والاستزادة من العلوم.
الدعوى الخاصة به بدأت برحلته إلى فرنسا، ثم رجع، ودعا إلى تحرير المرأة، وإلى تعليمها، لكن العلماء هجموا عليه، فانزوى في بيته، ثم عاد إلى دعوته، أخذه السلطان، ثم خلصه سعد زغلول من يده، وقال له: أنا سأحميك، فانطلق من يومها داعياً إلى السفور والتبرج والاختلاط إلى آخر يوم من حياته كما مر معنا.(72/11)
هدى شعراوي ودعوتها إلى السفور
وهذه هدى شعراوي خرجت إلى باريس محجبة، وكان أبوها رجلاً أفندياً؛ وهدى هانم شعراوي هي ابنة هذا الأفندي، هذا لقب كانت النساء من البيوت الشريفة تتلقب به، مثل أفندي وباشا، هي خرجت محجبة، ولما رجعت من باريس خرج أبوها مع طائفة من الناس الكبار ليستقبلوها عندما تنزل من المركب؛ نزلت من المركب وقد نثرت شعرها على ظهرها، فاستحيا أبوها عندما رأى منظرها، فلما رجعت قامت وفتحت صالوناً واجتمع الرجال عندها، وجاء الصحفيون، فأول ما تدخل عليهم كانت تعطي للصحفي قرشين ليكتب مقالة في الصحيفة عن رقة (الهانم)، وعن عذوبة ابتسامتها، وبدأت القصة هكذا، قصة لها جذور عميقة، ألا ينبغي أن تمر هذه القضية بدون تأمل؟! إنها تحتاج إلى تأمل ووقفات، كما قلت: كل دعوة إصلاحية لا بد لها من شهداء، أفلا تتشرف وتكون شهيداً، قد يرمونك بالجمود والتخلف والتطرف، وأنك ضيعت بناتك، لكنك تدري ما تريد، تعرف قصدك وغايتك.
فنحن نستفيد من موقف هاتين المرأتين حيث قلن: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]: أنه لا ينبغي لأحد أن يلقي نفسه في مواطن التهم، ويعتمد على سيرته، وعلى مكانته بين الناس، فلستَ مرضياً عند كل الطوائف، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وقال قبلها: (اتقوا الشبهات) لماذا؟ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، مهما كان قوياً ومهما كان أصيلاً ونبيلاً كاد أن يقع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه.(72/12)
دور سعد زغلول في الدعوة إلى السفور والانحلال
أيها الإخوة الكرام: ينبغي على الذين يتصدون للإصلاح، أصحاب الدعوات الإصلاحية، أن لا يغفلوا قراءة، مذكرات الساسة، ومذكرات من كان لهم حق إصدار القرار والتشريع، ليعلم أين الداء فيضع الدواء في موضعه.
لما قرأت مذكرات سعد زغلول، وسعد زغلول تعرفون أنه زعيم وطني حسب زعمهم، وقاموا بتلميعه، وأنه قائد ثورة تسعة عشر، أراد هذا الرجل أن يخرج لنا ديناً ممسوخاً، إنه لا يعرف شيئاً عن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أيام البطولات، عندما تقرأ في الكتب المدرسية تجد أنهم يعرضون تاريخنا بصورة مختصرة شوهاء، ليس فيها تمجيد، إنما فيها حكايات تلقى.
مثلاً: كتب التاريخ عندما يتكلمون عن الجاهلية والإسلامُ، العبارة هذه حفظناها في الكتب، يقول لك: جاء الإسلامُ والجاهليةُ تَعُمُّ جزيرة العرب، فقد كانوا يشربون الخمر ويئدون البنات، ويلعبون بالميسر، هذا فقط!! يعني: الإسلام لما جاء كانت هذه هي أخلاق الجاهلية.
فالجماهير عندما لا تجد وأد البنات، ولا تجد أن هناك أصناماً منصوبة تعبد.
ولا تجد شرب خمر علني ولا ميسر علني، يتصورون أن الإسلام متربع في طول البلاد وعرضها، ولا يدرون أبداً أن الإسلام جاء ليحكم، فهذا غير معروف لديهم، حتى صارت مواصفات الجاهلية عند الجماهير هي: وأد البنات، وشرب الخمر، وعبادة الأصنام.
وطالما أن الأصنام غير منصوبة ولا موجودة لنعبدها، فنحن على الإسلام، وتغافلوا عن إنما مسألة توحيد الألوهية، وأن الإسلام جاء ليهيمن، ويكون الحكم لله وحده، فالمسألة هذه لا يناقشونها، وحين يعرضون القضية يعرضونها بطريقة شوهاء مختصرة، ليس فيها تمجيد وليس فيها بطولات تسترعي الانتباه، فهذا العرض الذي هو لتاريخنا عندما يعرضه جاهل، ويأتي الزعماء الجدد، ويلمعون من كان خائناً لدينه وأمته، وكيف أن سعد زغلول لما نفاه الإنجليز صبر على النفي وعاد بطلاً، فحين نتتبع هذا الإنسان ونرى صفاته نرى أنه - سعد زغلول - يشرب الخمر، وكل الذين أرّخوا له اتفقوا على هذه الحقيقة.
لكن اعتذر له عباس محمود العقاد وذلك بأنه كان عنده ألم في المعدة، وأن الأطباء نصحوه بشرب الخمر، هذا أحسن اعتذار عنده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم جاءه رجل يسأله أن يتداوى بالخمر قال: (إنها داء وليست بدواء)، و: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم).
وهناك أدلة كثيرة تدل على حرمة التداوي بالخمر، فإذا حرم الله عز وجل شيئاً على الناس، فإنه لا يجعل فيه دواءً وذلك سداً للذريعة؛ لأنه قد يأتي شخص يريد أن يشرب الخمر ويقول: أنا مريض وقد نصحني الأطباء بشرب الخمرة، وإغلاقاً لباب الذريعة والتحايل لم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها.
فلما نقرأ سيرة هؤلاء، نعلم أنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوة، فأبناء أجيالنا متأثرون الشائعات الكاذبة والتضخيم والتلميع الذي يحصل لهذه الشخصيات، فإذا ذكر أمامك أحد هؤلاء في محل القدوة فلا تسكت ووضح للناس زيفه ومكره.
فلا بد أن نقرأ مذكرات الساسة الغربيين الذين يلعبون بنا لعب الكرة، والكلام هذا إنما يهتم به القائمون على الدعوات الإصلاحية، لا يعني ذلك أن كل الناس يذهبون ويشترون المذكرات، ويظلون يقرءون، لا.
الأصل أننا نتفقه في ديننا، هذا هو الأصل، لكن الذين يدعون إلى الإصلاح لا بد أن يكونوا عالمين بأعدائهم، وبطرقهم التي يحاولون إفساد جيل المسلمين بها.(72/13)
حقيقة زاوج المسيار والمفاسد المترتبة عليه
إن قضية تحرير المرأة تحتاج إلى إعادة نظر، فالمرأة ما حُرِّرت إلا من دينها فقط، هذا المختصر المفيد لقضية تحرير المرأة، وكل يوم يعملون عملية إحلال وإبدال في التشريع والدستور، فهم يريدون أن يعطوها حرية أكثر، يريدون أن ينزعوا سلطان الرجل عليها، وآخر هذه الدعوات وإن كان ظاهرها مشروعاً، لكنها ستؤثر حتماً في البنية الاجتماعية تأثيراً خطيراً بالغ الخطورة ومن يعش سيرى: (فستذكرون ما أقول لكم) زواج المسيار الذي بدأ ينتشر في القاهرة والإسكندرية والدقهلية، وبدأ ينتشر في الجامعات على وجه الخصوص، وكذلك الزواج العرفي في الجامعات كثير جداً، تأتي البنت وتقول للشاب: أنا وهبت لك نفسي، وتذهب كل يوم إلى المحاضرات مع هذا العشيق العشنّق! وحبوب منع الحمل كافية والحقنة التي يأخذونها كافية، وتركيب الواقي البلاستيكي كافٍ، ولا يدري الوالد أن البنت متزوجة، وتذهب إلى بيت العشيق، ولا تذهب إلى الجامعة، وهذا الكلام ما عرفناه إلا من الصحافة، وقد تكلم أناس كثيرون عن هذه الظاهرة الغريبة، التي هي ظاهرة الزواج العرفي في الجامعات.
وزواج المسيار، هو أن يحضر الولي وشاهدان، وفيه إسقاط المرأة لمهرها ونفقتها، والرجل هذا ليس عليه أي مسئولية نهائياً، فالمرأة تقول: أنا أريد رجلاً فقط، أي: لا تريد أن تأكل ولا أن تشرب، تريد رجلاً يحميها، رجلاً يكون بجانبها، وعادة ما يكون هذا الرجل متزوجاً لكي لا تعلم المرأة الأولى بزواجه، وهذا الذي يحصل في الخليج والبلاد المجاورة.
وهذا هو خلاصة زواج المسيار، فليس على الرجل أي مسئولية، فالمرأة تُسقط النفقة والمهر، وإذا أعطاها بعض المصروف فخير وبركة، وإن كان ليس معه مال فتقول له: أنا سأصرف على نفسي، بل هناك بعض النساء تنفق على الرجل.
والرجل يقول: أنا لا أريد أولاداً منك، فتوافق على ذلك ولو أن هذه المرأة أنجبت من جراء هذا الزواج الشرعي، الذي فيه ولي وشهود، فالمرأة ستضحي؛ لأن الرجل أخلى مسئوليته ابتداءً من الأولاد، وبالتالي لا يهتم بهم، وهذا سيؤثر تأثيراً بالغ الخطورة في المجتمع فيما بعد، سيأتي أولاد ليس لهم أب يربيهم.
إذاً: زواج المسيار قائم على المتعة فقط، فإذا كان هناك زواج شرعي بولي وشهود، فسيكون مقابله مائة زواج غير شرعي، وذلك بحضور شاهدين اثنين، يقول لك: هذا على مذهب أبي حنيفة، كما هو الحاصل الآن! إذاً: زواج المسيار حضور البنت مع الوالد مع الشهود، ويذهب الجميع إلى المحامي ويعملون عقداً، وكثير من الناس يتزوجون بهذه الطريقة، فكيف إذا كانت المرأة هي التي تعرض نفسها وتسقط حقها، فهذا مهانة كبيرة للمرأة حقيقة، فلو كانت هذه المرأة زوجة رابعة لكان أشرف لها؛ لأنها زوجة، والرجل متكفل بنفقتها وأولادها، ويقسم لها مع سائر زوجاته، ويقوم برعاية أولادها ورعايتها.
لكن هؤلاء المنحرفون كل يوم يستحدثون للنساء أشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل ذلك، بقصد تقويض بنيات هذه الأمة.
الذي يميز هذه الأمة المسلمة أن النساء حتى الآن عندهن حياء.
وتأمل موقف المرأة مع موسى عليه السلام، فهي لم تضحك ولم تمزح معه، لكنها جاءت على استحياء: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، إن أبي يدعوك، المرأة لم تقل: تعال لكي نجزيك، وأنت رجل أمين، وجزيت خيراً، ووجهك عليه نور، ولم تقل له: أخبرني ما حكايتك؟ لا.
إنها بنت متربية ملتزمة.
من بيت ملتزم والالتزام ليس في اللحية، ولا في لبس الثوب القصير، وليس معنى ذلك أن لا تعفي لحيتك، وأن تلبس الثوب المسبل، لا.
الالتزام أن لا تتهجم على حكم الله، هذا هو لب الالتزام.
إذا قيل لك: افعل كذا، فافعل ما أمرت به، هذا هو حق العبودية، هذا حق الله على العبيد.
قال في الحديث: (أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: حقه أن يعبدوه لا يشركوا به)، لا في العبادة، ولا في القرارات، ولا في الأحكام، لا يشركوا به شيئاً، لا يتلقى الأوامر إلا من الله، فيُعرف قدر الإنسان وقدر التزامه بوقوفه عند الأوامر والنواهي.
فالذي يميزنا نحن الأمة المسلمة هو حياء نسائنا.
وبعض الصحفيات الأمريكان اللاتي جئن إلى مصر وعشن فيها طويلة كتبن يقلن: إنهن يتمنين أن يرين في أمريكا ما رأينه في مصر، من احتجاب النساء، وعدم مخالطة النساء للرجال، وقالت إحداهن: إني رأيت في المرأة أموراً عجيبة هناك، بينما هي في الغرب مجرد سلعة، إن عملت أكلت، وإن لم تعمل لا تأكل، فيه تعمل أي عمل حتى البغي.(72/14)
لا سلطان للأب على ابنته في الغرب
المرأة التي سافرت إلى أمريكا مع أبيها وهو رجل من الصعيد صار له خمسة وثلاثون سنة في أمريكا، دخلت عليه بنته ومعها ولدها من الزنا، فقابلها على الباب وقال لها: لا.
خذيه واذهبي به في أي مكان آخر، يعني: هو يعرف أن هناك زناً وقع من البنت، لكنه منعها من أن تدخل بولدها إلى بيته، فتأخذه وتذهب به إلى مكان آخر، لو كان هذا الصعيدي هنا ما كان ليسمح لنفسه بعشر معشار الكلام الذي يقوله الآن.
لكن هؤلاء الأولاد من حيث البنية الاجتماعية متحللون بسبب التربية المنحرفة، وهؤلاء الآباء لا يربون أولادهم إلا على الحرية المطلقة، وعلى استتمام الشهوات مائة بالمائة، هناك في أمريكا ممنوع على الأب ضرب ولده؛ إذا ضرب ولده فإنهم يضعونه في السجن.
هؤلاء الأولاد كلهم يحفظون هذا النظام، فلذلك تجدهم يفعلون ما يشاءون دون أي خوف، ولو أن الأب ضرب ابنه أو ابنته، واشتكى هذا الابن أو البنت إلى الشرطة، فإنهم يأتون ويقبضون على هذا الأب ويضعونه في السجن، ولا يخرجونه إلا بعد أن يأخذوا عليه تعهداً بأن لا يضرب ولده أو ابنته، فكيف يكون هذا الولد مستقبلاً؟! وهذا الرئيس الأمريكي والفضيحة الكبيرة، لو عنده أدنى ذرة من الدم لقتل نفسه، والشعب الأمريكي كله يعتقد بأنه هو ولد زنا، والفضيحة التي عملها هي أمر عادي عندهم، وإنما أخذوا عليه كذبه عليهم فقط، ومع هذا فقد زادت شعبيته.
وهؤلاء عالم لهم مقاييس عجيبة.
والشعب الأمريكي لم يؤاخذوا رئيسهم على جريمة الزنا، وإنما لماذا يكذب عليهم؟ فيأتي شخص ويكتب مقالة يمجد فيها الأمريكان، يقول لك: انظر إلى الأمريكان.
الكذب عندهم جريمة نكراء، نقول: والكذب الذي يفعلونه في العالم كله، إنهم يكذبون على الحكومات وعلى الشعوب ويأكلونهم، أليس هذا كذب؟! أكل هذا صدق عندهم؟! قوم يا أخي! بلا تقاليد ولا أخلاق، حضارتهم قائمة على التهويش والبهائمية، ليس عندهم بنيان اجتماعي متماسك أبداً، هم مهتمون بسمعتهم المادية فقط، مثل الشخص الفتوة قديماً، الذي يعيش بسمعته.
عندما يذهب الرجل المسلم إلى أمريكا ليطلب الدنيا، يا لخسة ما طلب، ذهب الرجل الصعيدي إلى أمريكا يعيش هناك، فالبنت عندما جاءت بولد من الزنا، وقال لها: اخرجي من البيت ماذا صنعتِ؟ لقد قامت البنت ودفعت أباها للداخل وأرادت أن تدخل، فكل الذي فعله الرجل صاحب النخوة الصعيدي أنه دفعها إلى الخارج، قامت البنت واتصلت بالشرطة، جاءت الشرطة في لمح البصر، أخذوه، وقاموا بتعذيبه لمدة واحد وعشرين يوماً.
فلما خرج الرجل طاف على كل صديقات ابنته من أجل أن يتوسطن له عند ابنته بأن تسمح له في المبيت في البيت، وتفعل الذي تريده.
قاعدة البنيان للأسر كلها قائمة على النساء، والنساء يقمن بأعظم دور، إذ الرجل لا يصلح إلا بامرأة على مذهبه، فدور النساء دور عظيم.(72/15)
كثرة القرارات الخاصة بالنساء والغاية منها
كل يوم تجد أعداء الله يقومون بتعديل في البنية الاجتماعية، وذلك بإصدار القرارات الخاصة بالنساء، -مثلاً- من عشر سنين، كم هي القرارات التي صدرت وهي خاصة بالنساء؟! كثيرة جداً، بدءاً من قانون الأسرة الخاص بالأحوال الشخصية، في أن المرأة لها الشقة إذا طلقها زوجها، إذاً: الرجل من أين يأتي بشقة إن هو طلق؟ فالنتيجة لابد أن يصبر الرجل على المُر.
بدأت النساء يتفَرْعَنّ، تشتم الرجل وتهينه، وتقول له: إذا كنت راجلاً طلقني، وهو لا يستطيع، وهي تقولها وهي واثقة مائة بالمائة أنه لا يستطيع، فتخيل عندما يصير الرجل هكذا، والمسائل تنقلب، وتنتكس هذا الانتكاس، كيف يكون الجيل الذي يخرج؟ عندما يرى الولد أمه ويسمعها تقول لأبيه: إذا كنت رجلاً طلّقني.
كيف يكون تصور الولد تجاه أبيه؟ الذي هو القدوة، الذي ينظر ويعتقد أن أباه في القمة؛ لأن أباه قدوة، ويفترض أن يكون سيداً للمرأة ولابنها، وهذا معنى كلمة البعل: أي الرجل المالك، السيد المالك.
انظروا إلى مدى التغيير الخطير في البنية الاجتماعية، حسن! أليس لدينا خط دفاع مثل كريات الدم البيضاء، فكريات الدم البيضاء حين تجد الميكروبات تقوم بمقاومتها، فكريات الدم البيضاء استشهدت في المعركة ضد الجراثيم الغازية، كريات الدم البيضاء التي هي الجهاز المناعي، الجهاز المناعي لمواجهة الجراثيم والميكروبات.
فهي تقتل نفسها حماية لهذا البدن.
فمن الذي يتطوع، ويكون في خط الدفاع الأول؟ إنه أنت واحذر أن تستقل جهدك، وتقول: ماذا سأعمل مع كل هذه المخالفات.(72/16)
دعوة إلى مواجهة دعاة التحرير وعدم استعجال الثمار
قاسم أمين صاحب الدعوة الباطلة المنحرفة لما جاء بدعوى تحرير المرأة أخذ يدعو إلى باطله السنوات الطوال حتى حصل على مراده في تغيير البنية الاجتماعية بعد سنة ثمانية وعشرين وإلى الآن ما زلنا نتجرع غصص هذا التحرر، وهذا الكتاب والتوصيات فهذا صاحب دعوة باطلة فكيف بدعوة الحق، فكن طويل النفس، ولا تكن مستعجلاً.
تنظر تحت قدمك، سيأتيك الفرج لو صدقت النية، والدليل على ذلك قصة المرأتين وحكاية موسى عليه السلام: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، انتبه للحالة هذه، صار له ثمانية أيام يمشي، ليل نهار، يأكل ورق الشجر، ثم أنه خائف، لو رأى شخصاً يحد النظر فيه لقال: هذا من حاشية فرعون، شخص خائف يتصور أن الشارع كله جواسيس، لو أن شخصاً قال له: من أين أنت؟ لقال: هذا يعرفني، عندما وصل موسى عليه السلام إلى مدين ورأى المرأتين، سألهن ما خطبكما؟ فأهل مدْيَن كلهم يتزاحمون على بئر، وكل واحد عنده عدد من الغنم، ويريدون أن يسقوا حتى يعودوا، ماذا تفعل امرأة أو امرأتان في وسط هؤلاء الرجال؟ {تَذُودَانِ} [القصص:23]، لا يردن للغنم أن يختلطن مع الأخرى؛ لأنه لو اختلطت أغنامهما فقد تضيع الغنم: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، وما أخرجنا إلا أن أبانا شيخٌ كبير، وهذا أيضاً من الأمارات أنه لم يكن شعيباً، لو كان شعيباً؛ لكان له مكانة عندهم، فعلى الأقل كان سيجد من الطائفة المؤمنة من يفعل ذلك فموسى لم يحتمل هذا المنظر؛ لأنه أبيّ النفس قام {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24]، مكدود متعب جائع، ومع ذلك لما رأى المنظر هذا لم يتحمل، وهكذا أصحاب النفوس الأبية الكريمة، لا تبيت على الضيم طرفة عين، وتأباه فطرة وطبعاً، {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24]، سقى لهما في وسط المجموعة هؤلاء، فما الذي فعله؟ قام موسى وأحضر البهائم وسقاهن، وهذا كان بقوة موسى عليه السلام، وكان أيضاً بالوقار والمهابة التي كانت عليه وفي نفس الوقت كان قوياً.
يذكرون في الإسرائيليات: أن الجماعة بعدما سقوا أغنامهم قاموا كلهم ووضعوا صخرة عظيمة على فم البئر لكي لا يستطيع أن ينزعها، لكنه قام لوحده فنزع تلك الصخرة العظيمة، وسقى غنم المرأتين، فلذلك المرأة عرفت أنه قوي.
فلما سقى لهما، مشى ولم يلتفت إليهما، ولم يقل: أي خدمات، أنا موجود إذا أردتموني، سلموا لي على الوالد!! لا.
لذلك عرفت المرأة أنه أمين.
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص:24]، هذا في حر شديد، وقت قيلولة، {فَقَالَ رَبِّ} [القصص:24]، لاحظ لمن توجه؟ لم يطلب أجرة، ولا قال: أعطني خروفاً مقابل ما سقيت لكما، لا.
جرّد القصد لله، لذلك ماذا قالت الآية بعد ذلك: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، مباشرةً جاء الفرج، ليس بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة، لا.
عندما يكون الرجل خائفاً؛ فإن الله عز وجل يؤمنه -كما تدين تدان- {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} [القصص:25]، الجزاء من جنس العمل.
فاحذر أن تستعجل! احذر أن تستعجل وتقول: هذا المجتمع كله مخالفات، وأنا لو التزمت وأجلست بناتي أو أجلست امرأتي في البيت وغير ذلك، فما الذي سأفعله أنا في هذا المجتمع كله؟! نقول: لا.
لا تحتقر نفسك ولا تحتقر جهدك؛ لأن الذي يبارك في الجهد القليل هو الله، وربنا سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
اعلم أن كل هذا الذي يفعلونه سيكون كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، كل الذي يفعلونه، ها هو النقاب مثلاً الحرب ضده قائمة على قدم وساق، ما من صباح ينشق فجره إلا وترى النساء قد التزمن بالنقاب، هناك نساء تركن العمل حرصاً على النقاب، ولو قلنا لهن: اجلسن قبل أن يعتقدن ضرورة الالتزام بالحجاب لما جلسن، إن الله عز وجل هو الذي يبارك في هذه الصحوة، فأنت لا تحقر نفسك، واجعل لك دوراً؛ حتى تذهب إلى الله عز وجل وأنت مرفوع الرأس.
وهذا أحد الصحابة لما دخل على القتال قال: اللهم لقني عدواً شديداً حرده، -يعني: شديد الغيظ عليَّ- شديداً بأسه -شديد القوة عليَّ- فيقتلني ثم يبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني فيم يا عبد الله؟ فأقول فيك يا رب، هذا هو الجهاد، أنا لا أريده أن يقتلني فقط، أريده أن يمثل بجثتي.
يفتح بطني، ويقطع منخري، ويقطع أُذُني، وتسألني لماذا يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب.
وفي الحديث الصحيح لما تجلى الله عز وجل على الشهداء قال لهم: (تمنوا -ما الذي تتمنوا؟ - يقولون: يا رب نرجع فنقاتل فنقتل فيك).
ربك عزيز جداً، عزيز لو فعلت ما فعلت، ما أعطيته حقه ولا عُشر حقه، لماذا أنت واقف هكذا؟ يقول لك: ارجع ولا تريد أن ترجع!! لماذا هكذا؟ لا يكن الجماد خيراً منك!! إن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] ائتيا هكذا أو هكذا، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، لماذا لا تعود وحدك، وترجع إلى ربك مختاراً، بدلاً من أن ترجع مكرهاً ولا جميل لك؟.
فتكون راجعاً مكرهاً، فارجع مختاراً.
إذاً: الصحوة هذه لابد أن يكون لها قدوات، تقتدي الجماهير بها، وإذا كان أصحاب الالتزام لا يقومون بواجبهم حق القيام، فمن يقوم به؟ فهل يقوم به أهل الدنيا الذين لم يحققوا الالتزام حتى الآن؟ لكن اصبر على الحق المر ولو كنت وحدك، فإن الصبر من اسمه مُر.
نحن نحتاج يا إخواننا! أن ننقل هذا إلى بيوتنا، ونعمل لله تبارك وتعالى، وربنا سبحانه وتعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى} [الأحزاب:34] أين؟.
في المدرسة؟ في الجامعة؟.
{فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34].
فالمرأة إنما تتعلم في بيتها، هذا هو الأصل.
إذا كانت هناك مدارس خاصة للبنات، ولا يوجد فيها رجال، فأدخِل البنت فيها ولا بأس، تتعلم العلوم الشرعية تتعلم أحكام الله عز وجل، ما الذي يمنع منها الله عز وجل؟ وما الذي لا يحل لها فعله؟، فالبيت هو الأساس.
إذاً: تتعلم القرآن، وتتعلم السنة، وتتعلم حق الزوج، أول ما تتزوج يرى زوجها المرأة التي إن أقسم عليها أبرته، وإن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها حفظته في عرضها، وفي نفسها، وفي ماله.
إذاً المرأة هذه ستربي لنا شباباً صالحاً، ونرى أن البنية الاجتماعية ستتغير، لماذا؟ لوجود أم صالحة وأب صالح.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا عباداً له، هذا ما نرجوه من الله، أن نكون عباداً لله، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا يا رب العالمين!(72/17)
التوكل
من القصص التي تؤخذ منها العبر والعظات قصة الرجل الذي اقترض ألف دينار، وكيف أنه جعل الله كفيلاً وشهيداً عليه عندما طلب منه صاحب المال أن يأتيه بكفيل وشهيد، وكيف أنه استشعر حقيقة التوكل على الله حين لم يستطع أن يرد الدين في الموعد المحدد، حيث قام بإرسال المال في قطعة من الخشب ورمى بها في البحر، وسأل الله أن يوصلها لصاحب الدين، فاستجاب الله له لعلمه بصدقه وصدق توكله عليه سبحانه وتعالى.(73/1)
شرح حديث الرجل الذي اقترض ألف درهم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الشيخان - البخاري ومسلم - في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل: ذهب إلى رجل، وقال له: أقرضني ألف دينار أتَّجر بها.
قال له الرجل: ائتني بكفيل.
قال له: كفى بالله كفيلاً.
قال: صدقت، ائتني بشهيد.
قال: كفى بالله شهيداً.
قال: صدقت، خذ الألف دينار.
فأخذ الرجل الألف دينار وانطلق يتَّجر بها في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجلُ المدين مركباً، وكان بين الدائن والمدين بحراً فلم يجد؛ إذ كانت الأمواج والرياح شديدة، فوقفت حركة الملاحة، والرجل صاحب الدين على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس المدين أخذ خشبةً ونَقَرها ووضع فيها الألف دينار مع كتابٍ إلى صاحبه: من فلان ابن فلان ثم أحكم إغلاقها ووضعها في البحر، وقال: اللهم إنك تعلم أنني تسلفتُ من فلان ألف دينار، وأنه قد حال بيني وبينه الموج، وقد جعلتُك كفيلاً ووكيلاً، فأوصل هذا الدَّين إلى صاحبه، وقذف بالخشبة في البحر، وهو في كل ذلك جاهداً يلتمس مركباً حتى يذهب إلى صاحبه.
وبينما كان الرجل -صاحب الدين- واقفاً على الشاطئ ينتظر أيَّ مركب، فلم يجد؛ لكنه وجد أمامه خشبةً تطفو فوق الماء، فقال: آخذها أستدفئ بها أنا وأولادي، فلما أخذها وذهب إلى بيته نقرها بقدوم فسقطت منها الصرة، ففتحَها فإذا بالألف دينار والرسالة: من فلان إلى فلان، إنه قد حال بيني وبينك الموج، وقد جعلت الله وكيلاً وكفيلاً، وهذا دينك.
وكان الرجل المدين يلتمس في كل ذلك مركباً حتى وجد مركباً فركبه وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحب الدَّين، وقال: والله لقد جهدتُ أن أجد مركباً قبل هذا فما استطعتُ، خذ الألف دينار، فقال الرجل الآخر: هل أرسلتَ إلي شيئاً؟ فقال له: سبحان الله! أقول لك: هذا أول مركب وتقول لي: هل أرسلت شيئاً؟! فقال له صاحب الدَّين: قد أدى الله عنك، فخذ مالك وارجع راشداً.
هذا الحديث من أجل الأحاديث في باب الورع والتوكل على الله عز وجل، قال أبو هريرة راوي الحديث: (فكنا نختلف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما آمَن -أي: أيهما أشد إيماناً من صاحبه- الذي رمى بالخشبة في البحر وهو موقن أن الله لن يضيعه، أم الذي أخذ المال وكان أميناً؟ لأنه كان يستطيع أن يجحد ويقول: ما وصلني شيء.(73/2)
كمال التوكل على الله عز وجل
الرجل عندما أخذ الألف دينار كان عازماً على قضاء هذا الدين في موعده، وقف الرجل برغم أنه يرى الرياح القوية والموج ولا يرى أي مركبٍ؛ لكنه أخذ بالأسباب، فقال: ربِّ قد جعلتك كفيلاً وشهيداً.
فلم يجد هذا الرجل المؤمن إلا أن يضع المال في خشبة ويقذف بها في البحر.
لو فعل هذا الفعل رجل منا الآن لاتهمه الناس بالجنون وبتضييع المال؛ لكن رؤية المؤمن تختلف عن غيره.
إذا أردت أن تعيش عزيزاً كريماً توجه إلى السماء، واركن إلى رب العرش والسماء، فإنك إن ركنت إلى غيره أخطأك التوفيق.
فتَعَلَّقْ بالله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] انظر إلى هذه الصفة بعد ذكر صفة الرزق: (ذو القوة المتين) بعد ذكر صفة (الرزاق).
لماذا؟ حتى لا تظن أن هذا الرزاق يمكن أن يفتقر، أو أن طلبك أعظم مما في خزائنه، هو رزاق لكن قد يقدر على ذلك أن خزائنه تنفد وأن ما عنده يزول، فقال لك: لا؛ لأنه ذو القوة المتين {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].
فهذا الرجل أخذ خشبة ونقرها ووضع فيها كيساً وكتاباً منه إلى صاحبه: أنه قد حال بيني وبينك الموج، ثم أحكم إغلاقها وقال: (اللهم أنت تعلم أنني تسلفت من فلان ألف دينار، وأنه قد حال بيني وبينه الموج، وقد جعلتك كفيلاً وشهيداً فأوصل هذا الدين إلى صاحبه).
رب شخص يقول: لِمَ يقول هذا؟ ألم يعلم اللهُ أنه تسلف ألف دينار؟ ألم يعلم اللهُ تبارك وتعالى أن الموج عاتٍ، وأن الرياح سريعة، وأن حركة الملاحة واقفة؟ لماذا يقول هذا؟ هذا موضع نظر وتأمل دقيق: (اللهم أنت تعلم أنني فعلت) إقرار بحاله، كما لو ذهبت إلى شخص وهو يعلم أنك صادق فتقول له: أنت تعلم أنني صادق، على سبيل تأكيد حالك، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22 - 23] مع أننا نعلم أنه حق؛ لكن يقسم على مقتضاه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة).
ونحن لا نحتاج إلى قسمه صلى الله عليه وسلم لعلمنا التام بصدقه.
فهذا تقرير بحاله فقط ليس إعلاماً لله عز وجل، فإن الله يعلم السر وأخفى.
ثم قذف بالخشبة في البحر، والعجيب في الأمر أن هذه الخشبة مسخرة؛ لأن هذا الرجل أخلص دينه وقلبه لربه، ومعاذ الله أن يضيعه ربه، فشقت الخشبة طريقَها في الموج، وذهبت إلى الرجل فوقفت أمامه برغم حركة الموج السريعة العالية، فأخذها الرجل، وقال: (آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها أنا وأولادي، فأخذها وذهب إلى أهله، فنقرها فوقعت منها الصرة ووجد فيها الألف دينار وكتاباً من صاحبه).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(73/3)
وفاء المدين وصدق الدائن
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أخذ الرجل الخشبة وصاحبه الآخر يلتمس مركباً، لأنه لم يعتمد على الخشبة أن تصل؛ لأن قضاء الديون لا يجوز أن يعتمد المرء فيه على هذه الخوارق، فلا يجوز أن تذهب بدَينك فترميه على الطريق وتقول: إن شاء الله يصل، فإذا جاء صاحبه وقال: أين دَيني؟ فتقول: أنا وضعته لك في مكان كذا وكذا، ألم يصلك؟ لا يجوز أن يُعْتَمد على هذا في قضاء الدين، فإن الأصل في أموال الناس العصمة؛ لكن هذا الرجل لأنه يعتمد بقلبه اعتماداً كلياً على ربه فعل الذي فعل، ولما علم أن هذا ليس هو سبيل قضاء الدين الشرعي أخذ ألف دينار أخرى وذهب إليه، وهذا دليل على أن الرجل ربح وكسب، وإلا فهو اقترض ألف دينار ورمى بها في البحر ولكنه أخذ ألفاً أخرى.
وعندما ذهب إلى صاحبه قال: (أنت تعلم أنه قد حال بيني وبينك الموج، خذ الألف دينار، جزاك الله خيراً، فقال الرجل: ألم ترسل إليَّ شيئاً؟ -فتجاهل الرجل تماماً أنه أرسل شيئاً في البحر- قال: سبحان الله! أقول لك هذا أول مركب أجده، وتقول لي: هل أرسلتَ شيئاً؟ لم يقل له: لم أرسل؛ لأن هذا من الكذب، إنما أجاب إجابة يُفهم منها أنه لم يرسل؛ لكن ليس فيها كذب، قال: (سبحان الله! أقول لك: هذا أول مركب أجده وتقول لي: ألم ترسل شيئاً؟ قال له الرجل: ارجع بمالك راشداً، قد أدى الله عنك).
قال: أبو هريرة: (فكنا نتجادل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما آمن -أشد إيماناً من صاحبه- الذي قذف الخشبة في البحر، أم هذا الذي أبرز الأمانة؟) فلم يجحدها، ولم يأكل مال أخيه؛ لكن يظهر لي أن الذي رمى بالخشبة في البحر أشد الرجلين إيماناً.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم تقبل صيامنا وصلاتنا، وزكاتنا، وركوعنا وسجودنا.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هَزْلَنا وجِدَّنا، وخَطَأَنا وعَمْدَنا، وكلُّ ذلك عندنا.(73/4)
ظهور الكذب والخداع في مسلمي هذا العصر
هذا الرجل لما قال له: (كفى بالله شهيداً، كفى بالله وكيلاً، قال: صدقت، وقال له في الثانية: سبحان الله! نعم.
-أي: كفى بالله شهيداً- خذ الألف دينار).
التزامك بآداب دينك يريحك ويريح الطرف الآخر.
أخذ الرجل الألف دينار وانطلق يعمل بها في البحر، وربح فيها، وجاء موعد قضاء الدين، فأخذ الألف دينار وانتظر على الشاطئ لعله أن يجد مركباً فلم يجد، لقوة الرياح وعلو الموج، وتوقُّف حركة الملاحة، فماذا يفعل؟ وهو يتحرق شوقاً أن يرد هذا المال في موعده؟ بقدر ما يكون لك من الإخلاص يكون الله معك.
يؤسفني أن أقول: إن كثيراً من المسلمين ضربوا المثل الأسوأ في المعاملات بكل أسف في التلاعب والضحك، ولا أدري على مَن يضحكون، ومَن يخدعون، ذهب أحدهم إلى رجل فأخبره أنه مقبل على عمل شركة تجارية، وأن أرباحها كبيرة، وأن السوق فارغ ويحتاج إلى هذه البضاعة، فإذا كان معك مال فهات المال نتاجر وأوهم المسكين، فذهب الآخر وباع ذهب المرأة واقترض، لأن هذا لم يكن عنده مال؛ لكن اقترض من آخرين أموالاً وذهب ووضع المال كله في يد هذا الرجل، فأخذ ذلك المال وأنفقه، وهو يعلم أن أخاه اقترض جزءاً كبيراً من هذا المال، والعجيب أن نفسه طابت بذلك! وأنه لم يشعر بإثم ولا وزر، ولم يشعر بوخز في ضميره وهو يأخذ هذا المال! ومضت أيام وشهور وسنون.
فقال له: أين التجارة؟ فقال: غداً! غداً! وحدثت مشكلة كبيرة مع أهل المرأة، وقالوا لها: أين ذهبك؟ لماذا أعطيتيه الزوج؟ نحن كنا أحق بهذا المال، ألم نطلب منك الذهب يوم كذا وكذا فأبيتي؟ وصارت قطيعة بين المرأة وبين أهلها.
فلما علم الرجل أنه لا تجارة.
قال لصاحبه: أعطني المال.
فقال له: لا أملك شيئاً.
فقال له: ما هو الحل؟ قال: أقسط لك المبلغ.
وهكذا ضاع المبلغ؛ لأنك عندما تأخذ عشرين جنيهاً، ثم ثلاثين، ثم خمسين، فإن المبلغ سيضيع، لكن إذا أخذته جملة واحدة فإنك ستقضي دينك، وتعيد الذهب لزوجتك.
يكاد المرء يعتصر من الحزن وهو يرى هذه المعاملات الهشة الكاذبة الخادعة! وبعد ذلك يسألون: لِمَ يتخلف نصر الله؟ لماذا نحن نعيش على هامش الحياة، لا قيمة للمسلمين؟ ولماذا أرخص دم في العالم دمهم؟ يتساءلون كل هذه الأسئلة.
فأقول: منكم أنتم جاء الخلل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فالله ليس بظلام للعبيد، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا لا تقل: إن الماء مر، لأن فمك هو المر.
بقدر ما يكون لك من الإخلاص والثبات، والوفاء بالوعد، والحفاظ على أموال الناس ومشاعرهم بقدر ما يعينك الله على ذلك، وبقدر ما يحتوي قلبك من الغل والغش والخداع بقدر ما يبتعد عنك تأييد الله ونصره.(73/5)
التوكل على الله تعالى ووجوب تعظيمه
فائدة القصة: أنك تجد فيها العبرة، والناس مطبوعون على محبة القصص، ولذلك قصَّ الله تبارك وتعالى قصص الأنبياء على المبتلين، وقصص السالفين عليهم.
أراد أن يعلمهم كيف يتوكل المرء على الله، وأن الله لا يضيعه، برغم الظنون التي يظنها بعض بني آدم بربهم تبارك وتعالى، وهي ظنون كاذبة خاطئة.
فلا تظنن بربك ظن سَوءٍ فإن الله أولى بالجميل فهذا رجل يريد أن يقترض ألف دينار يتَّجر بها، فذهب إلى رجل موسر يقرض الناس: فقال: أقرضني ألف دينار إلى أجل.
فقال له الرجل: ائتني بكفيل ائتني بشهيد.
وهذا حقه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] هذا حقٌّ وحفظٌ لأموال الناس.
فطَلَبُه الكفيلَ والشهيدَ مشروعٌ لاشيء فيه.
فقال له: كفى بالله كفيلاً كفى بالله شهيداً.
لم يقل له الرجل الآخر: أنا أعلم أن الله كفيلٌ وشهيدٌ؛ لكن أريد أن أرسِّخ دَيني، لا.
إن العلاقة بين المرء وأخيه لا سيما إذا بلغ كلٌّ منهما إلى درجة عالية من هذا الاعتقاد يُجِلُّون الله تبارك وتعالى أن يوضع اسمُه: كفى بالله كفيلاً.
ولا يمنع هذا أن توثِّق دينَك وأنت تعتقد أن الله كفيل؛ لكن انظر إلى قوة هذا الإيمان.
هناك من الناس من لا يُجِلُّون الله تبارك وتعالى، ويرضَون أن يُهانَ هذا الاسم العظيم الذي قامت به السماوات والأرض، فتُقْسِمُ له بالله أنك صادقٌ فلا يُصَدِّق، تُقْسِم بالأيمان المغلظة أنك ستعيدها، ومع ذلك يقول: لا.
هناك رجل تاجر وله بنت وحيدة، وهو يجلها غاية الإجلال، وكان يكذب في تجارته: فقال له رجل: احلِفْ بالله أن البضاعة بكذا.
فقال: والله إنها بكذا.
فقال له الرجل: احلف بحياة ابنتك.
فبَكى ورَقَّ حالُه، وأبى أن يقسم بحياة ابنته؛ لكن أن يقسمَ بالله تبارك وتعالى كذباً وزوراً فإن هذا لا يضره ولا يهتز.
أليس الله تبارك وتعالى أولى بالجلالة وأحق؟! انظر إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلاً يسرق -تأمل في هذا الحديث: رأى، وهذا نبي من أولي العزم، لا يُلَبَّس عليه في الرؤيا ولا يهم فضلاً عن أن يكذب- فقال له: أتسرق؟ قال: والله ما سرقت، -لم يقل له عيسى: أنت كاذب، لأني رأيتك تسرق، بل عَظَّم الاسم العظيم- قال: آمنتُ بالله وكذَّبتُ بصري).
وهناك واقعةٌ أخرى حَدَثت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر رحمه الله: رويناها بأسانيد صحيحة؛ أن عبد الله بن رواحة شاعرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحب الأبيات العذبة المشهورة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلينا فأنزلَنْ سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقَينا إن الأُلَى قد بغَوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبَينا - هذا الشعر كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز به ويقوله، وكان شاعراً مُجِيداً عذْب النظم رضي الله عنه، وكانت له جارية فوطئها، فرأته امرأته، فجاءت وقالت: أوطئت الجارية؟ فقال لها: لا، قالت، إني رأيتك، فقال: لا، فقالت له: إن كنت صادقاً فاقرأ شيئاً من القرآن.
لأنه جنب، والجنب لا يقرأ القرآن.
فأنشد لها أبياتاً من الشعر.
والمرأة لا تحفظ شيئاً من الكتاب؛ لكن الأبيات تلخيص لبعض الآيات في القرآن الكريم، لذلك انطلى الأمر على المرأة وصدقت، قال: شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌّ وأن النارَ مثوى الكافرينا وأن العرشَ فوقَ الماء طافٍِ وفوقَ العرش ربُّ العالَمينا وتحمله ملائكةٌ غلاظٌ ملائكةُ الإله مسوِّمينا وكان بيدها سكين، فرمت به، وقالت: آمنتُ بالله وكذَّبتُ بصري.
وهي امرأة لا تحفظ القرآن الكريم حتى انطلى عليها الأمر، وظنت أن هذا الشعر قرآن.
وقد شهدتُ رجلاً اتُّهم في سرقة، فجعلوا يقولون له: احلف أنك ما سرقت.
فحلف، وآخر يقول: احلف بالثلاثة.
فحلف، فانبرى رجلٌ وقال: قل: والمسيح الحي.
فأبى الرجل أن يقسم.
لماذا أبى أن يقسم بالمسيح الحي؟! ما معنى هذه الكلمة؟! وما معنى أن يأبى أن يقسم برغم أن هذا القسم شرك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قالها واضحة: (مَن حلف بغير الله فقد أشرك)، وفي الرواية الأخرى: (من حلف بغير الله فقد كفر).
والذين يقولون: وحياة أبي، والنبي، وحياة العمدة، وحياة الشيخ، كل هذا شرك واضح وصريح،: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت)، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب يحلف بأبيه، فقال له: (يا ابن الخطاب! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) الحلف معناه: إجلال المحلوف به وتعظيمه، أليس ربك أولى بهذا التعظيم؟! لا تقسم إلا بالله، فإن القسم بغيره كفرٌ أو شرك؛ ولكنه كفرٌ دون كفر، لا يقال: إن الذي يحلف بغير الله لا سيما إن كان يجهل ذلك أنه كافر خارج من الملة، لا؛ لأنه لو كان كافراً خارجاً من الملة لقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر لما أقسم بأبيه: إنك كفرت، فاغتسل، وانطق بالشهادتين، وادخل الإسلام من جديد.
فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أن الذي يقسم بغير الله وهو يجهل أن هذا القسم شركٌ أو كفرٌ، أو نسي وأقسم بغير الله أنه لا يخرج من الملة وإن كان قَصَدَ شيئاً من أفعال الكفر.(73/6)
حكم لقطة البحر
يؤخذ من هذا الحديث ما بوب به الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه على هذا الحديث في موضع من المواضع؛ لأن الإمام البخاري روى هذا الحديث في أكثر من موضع من الصحيح، فرواه في كتاب (الكفالة)، وهل يجوز أن يكفل فلان فلاناً؟ وهو المعروف بالكفيل.
الجواب
واضح طبعاً من سياق الحديث أنه يجوز.
ووضعه في كتاب (اللقطة) في صحيحه، وهذه هي الفائدة التي نذكرها الآن.
كتاب (اللقطة): أي ما يلتقط من على الأرض، ما تجده على الأرض، سواء وجدت مالاً، أو وجدت غنمةً، أو وجدت أي شيء، فهل يجوز لك أن تأخذ هذا الشيء، فإن فعلت فما حكمه؟ وهل يجوز لك أن تتصرف فيه، أم لا بد أن تعرفه؟ وأحكام كثيرة في اللقطة ليست من موضوعنا هذا، ولكن نأخذ ما يتعلق بالحديث الآن.
هذا الحديث في كتاب (اللقطة) بوب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب لقطة البحر).
أين موضع الشاهد؟ أن الرجل مد يده وأخذ الخشبة، أي: وجدها في البحر، فلو وجدت أنت لقطة في البحر هل يجوز أن تأخذها؟ هذا هو الشاهد.
الجواب: نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق هذه الحكاية مساق المدح، وهو صحيح أنه حصل في شرع مَن قبلنا في بني إسرائيل؛ لكن أي حكاية وأي خبر عن بني إسرائيل يسوقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح أو القصة بغير أن يعقب يكون شرعاً لنا، فما الدليل على أنه شرع لنا؟ الدليل: هذا الحديث؛ لأن القاعدة عند علماء أصول الفقه تقول: (شرع مَن قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يعارضه).
فمثلاً: بناء المساجد على القبور كان في شرع من قبلنا؛ لأنه واضح من سورة الكهف في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] فلا يقولن قائل: إن الله تبارك وتعالى ساق قول هؤلاء ولم يعقب عليه تعقيباً يدل على منع بناء المساجد على القبور، فيقال: إن الله تبارك وتعالى ساق بعض أقوال الكافرين ولم يعقب عليها، لماذا؟ لأن بطلانها ظاهر جداً، صحيحٌ أنه يرد كثيراً لكن لا يرد أحياناً، ولو سلمنا جدلاً أن الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعد مقالات الكفار والملحدين رُدَّ عليها، فإننا نلتمس الرد إما من الكتاب أو السنة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة وهي كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الذين يتخذون المساجد على القبور)، وكان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك! ألا إني أنهاكم عن ذلك! ألا إني أنهاكم عن ذلك).
فماذا فعلت الأمة؟ فعلت ما نهيت عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يؤكد الشيء يكرره ثلاث مرات، وكان إذا أراد أن يُفْهِمَه كرره ثلاث مرات، ومع ذلك تجد ألوف الجنيهات تُنفق على تشييد المقابر.
في كفر الشيخ مسجد يزعمون أن فيه رجلاً صالحاً، ثم قاموا بعد فترة يبحثون عن هذا الرجل الصالح، فلم يجدوا له عظْماً ولا جمجمة ولا أي شيء، فما زالوا يحفرون طمعاً أن يجدوا شيئاً، ولكنهم لم يجدوا شيئاً، ومع ذلك تجدهم يشيدون الضريح! وألوف على مآذن لا تُستخدم الآن، وفي السُّنَّة أن يصعد المؤذن على المئذنة، وهذا شيء أردت أن أنبه عليه في هذا المسجد: السنة أن لا يؤذَّن بين يدي الإمام، السنة أن يؤذن على سطح المسجد، فرُب قائل يقول: وما الحكمة طالما أنه يوجد مكبرات صوت؟ فيقال: كثير من الأحكام الشرعية غير معللة، بمعنى أنك قد لا تستطيع أن تعرف الحكمة منها، وإنما تنفذها كما جاءت في السنة؛ كتقبيل الحجر الأسود مثلاً، فلماذا نقبل الحجر الأسود؟ لا توجد علة، ولا نعرف حتى الآن لماذا نقبِّل الحجر الأسود، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساءل هذا السؤال وأجاب، فقال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) إذاً: لماذا تقبِّله يا عمر؟ - لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك.
إذاً: هي مسألة اتباع محض، حتى وإن لم تفهم شيئاً من الحكمة، هذا هو الشيء الأول.
أما الشيء الثاني: ربما كان هناك رجلٌ أصيب بصمم لا يسمع، فيرى المؤذن وهو يلتفت يمنةً ويسرةً، فيعلم أن الأذان قد حان.
ولو فتشنا لوجدنا دلائل أخرى.
فالسنة أن لا يؤذَّن بين يدي الإمام، إلا أن يؤذن على باب المسجد على صخرة تكون هناك، وإما أن يصعد فوق المسجد يؤذن، وإذا كان من الصعب الوصول إلى أعلى المسجد، وكان هناك صخرة أو شيء عالٍ أمام المسجد فإنه يؤذَّن عليه.
المهم: ما لا يوجد في الكتاب يُلتمس في السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن البناية التي توضع على القبور، والمدهش أنك ترى أعظم المساجد بناءً وزخرفةً هي التي فيها قبور، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلا يقال: يستشهد بآية الكهف على جواز بناء المساجد على القبور؛ لأن شرع من قبلنا شرعٌ لنا بشرط أن لا يوجد في شرعنا ما يخالفه، فإن وُجِد في شرعنا ما يخالفه فالعبرة بشرعنا لا بشرع غيرنا.
كذلك أجمع العلماء جميعاً أن التماثيل حرام، مثل تمثال رمسيس، ومنقرع، وخوفو، والسنة أن تنسف وأن تزال، وأن كل المتاحف الموجودة وثنية، لا يجوز لمسلم أن يذهب إلى متحف من المتاحف لكي يتفرج على الأحجار التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكسرها، كما في صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لـ أبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مُشْرِفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته).
لكن في سورة سبأ أخبر الله تبارك وتعالى عن سليمان عليه السلام مع الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13]، فهناك من يقول: هذا سليمان وهو نبي، ومع ذلك كان يصنع التماثيل، فنحن أولى أن نصنع التماثيل.
لا يُحتج بفعل سليمان عليه السلام؛ لأنه ورد في شرعنا ما يردُّه، والعبرة بشرعنا لا بشرع مَن قبلَنا.
كذلك لو أن سفينةً تمخُر عُباب البحر، وكان يركبها مائة رجل، وكادت السفينة أن تغرق، فقالوا: يا جماعة! إنكم لن تَنْجُوا إلا إذا رمينا -مثلاً- عشرة في البحر، حتى نخفف حمل السفينة، ولا شك أننا لو رمينا عشرة سنحفظ أرواح تسعين؛ لأن هذا أولى؛ لأن الشريعة جاءت بدفع أكبر الضررين، أعني أن الشريعة تقول: إذا كان هناك أمران وكلاهما ضار، ولا بد لك أن تأخذ أحدهما اختر أخفهما ضرراً؛ لأن الشريعة جاءت بدفع المضرة عن المسلم.
فلا شك أننا عندما نرمي عشرة في البحر لنحافظ على حياة تسعين أن هذا من ضمن بحث الشريعة.
ويحتجون بقصة يونس عليه السلام ذي النون عندما ركب السفينة، وحصل أن ربان السفينة قال: إن فيكم عبداً عاصياً فليخرج، فما خرج أحد، فعملوا قرعةً: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] (ساهم) أي: اقترع، ومنه ما تعلمون من الخطأ الشائع حيث يقال: فلان ساهم في بناء المسجد، وهذا خطأ، والصواب أن تقول: فلان أسهم، أي: شارك؛ {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: كلما اقترعوا وقعت عليه القرعة، فقالوا: نرمي نبياً في الماء؟! فأعادوا القرعة مرة أخرى، فتأتي عليه القرعة، فقذفوا به في الماء.
فقالوا: هذا نبي وقذفوا به في الماء، فهذا حجتنا، وشرعُ مَن قبلَنا.
فيقال: لا.
لأن شريعتنا أتت بقول القائل: إن دم المسلم الأصل فيه العصمة؛ لأن دم الذي ستحفظه ليس أولى من دم الذي ستلقيه في الماء، لماذا ألقيت هذا لتحفظ دم ذاك، أدَمُ هذا أغلى من دَمِ ذاك؟ لا.
كل الدماء معصومة، إما أن يغرقوا جميعاً وإما أن ينجوا جميعاً، لا تفاضل في الدماء، لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم، فليس هناك فرق بين أمير ولا مأمور، ولا غني ولا فقير، ولا أي شيء من هذا، دمك مثل دمه تماماً، معصوم بالنص، لا يهدر لمجرد ترجيح من عندك، فهل أنت مستيقن (100 %) أنك لو رميت العشرة ستنجو السفينة؟ إذاً: هذا ظن، ودم المسلم معصوم بيقين، فلا يُهْدَر هذا اليقين لأجل ظن رَجَح عندك، فلا يُعمل بشرع مَن قبلَنا هنا.
لماذا؟ لأن شرعنا ورد فيه ما يرده، إنما يُعمل بشرع ما قبلنا إذا كان شرعُنا يؤيده، كمثل القصة التي سقناها الآن، وكمثل القرعة التي دل عليها حديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه)، يعمل قرعة، فمن خرج سهمها خرجت معه.
وكذلك كما قال أبو عبيد رحمه الله -أحد أئمة الحديث واللغة- يقول: اقترع ثلاثة من الأنبياء: اقترع زكريا عليه السلام لما اختلف في كفالة مريم مع بني إسرائيل: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]، قال علماء التفسير: كانوا يأتون بالأقلام التي يكتبون بها التوراة، وجاءوا في ماء جارٍ وقالوا: نلقي أقلامنا، فمن وقف قلمه فهو الذي يكفل مريم -وهذا شبيه بالقرعة-: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران:44] أي: في الماء، {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44] أي: أيُّهم الذي يكفل مريم، فوقف قلم زكريا عليه السلام.
ويونس في قصة السفينة، ونبينا صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك وغيره.
إذاً: شرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا، بشرط أن لا يَرِد في شرعنا ما يردُّه.
فلم ينكر أن الرجل أخذ الخشبة من البحر، لذلك يجوز لك أن تأخذ لقطة البحر؛ لكن هناك سؤال آخر دقيق وهو: أن الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث: (باب لقطة البحر)، فلو وجدت خشبةً بها ألف دينار، هل تأخذ الألف دينار؟ الجواب: لا بد أن تعرِّف ذلك؛ وإذا كان مبلغاً بسيطاً أو شيئاً يتسارع إليه الفساد، لا جناح عليك إن لم تعرِّفه، يعني مثلاً: إذا وجدتَ برتقالة وأنت تمشي، فأنت إذا أردت أن تعرِّف البرتقالة فإنها ستفسر فيجوز لك(73/7)
حقيقة التوكل على الله عز وجل
التوكل على الله عز وجل ليس معناه خلع الأسباب، وفي صحيح ابن حبان من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أترك ناقتي وأتوكل، فقال له: اعقلها وتوكل) أي: أترك ناقتي تسيح في الأرض ويكون هذا من التوكل؟ قال: لا.
اربطها بحبل وتوكل.
فهذا يدل على أن التوكل ليس معناه خلع الأسباب.
والتوكل الحقيقي: هو اعتماد القلب كليةً على الله عز وجل مع البراءة من الاعتقاد بالسبب.
إياك أن تتصور أن الحبل هو الذي يحفظ الناقة؛ لأن كثيراً من الناس ربطوا جِمالهم فضاعت! لكن لا بد مع أخذك بالسبب أن تعتقد أن الله تبارك وتعالى هو الحفيظ.
هذا هو معنى التوكل، لا أن تخلع الأسباب، أو يُظن أن الأخذ بالسبب ضد التوكل، لا.
لا بد وأنت تعمل الشيء أن تعلم أن الله تبارك وتعالى هو المتصرف في هذا الكون.
هذا معنى التوكل، وهذه حقيقة قلبية.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يعيننا على الأخذ بالأسباب والتوكل عليه سبحانه حقيقة التوكل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(73/8)
معيشة أصحاب النبي
لقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حياة التقشف والزهد، وصبروا على ضيق ذات اليد وشظف العيش في سبيل الله عز وجل، فجعلهم الله خير أمة، واصطفاهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانوا نعم أصحاب وخير أتباع.
فعلينا أن نقتدي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزهد وحسن الخلق، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعته، لنفلح كما أفلحوا دنيا وأخرى.(74/1)
شرح حديث (شرب أهل الصفة من قدح لبن)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الإمام البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله غيره، لقد رأيتُني أعتمد على كبدي من الجوع، ولقد وقفتُ في طريقهم يوماً فمر بي أبو بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني، -وفي رواية قال: إلا رجاء أن يشبعني- فأجابني وانصرف، فمر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني -وفي رواية: يشبعني- قال: فمر ولم يفعل، قال: حتى جاء أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم فنظر في وجهي فعرف ما بي، فتبسم وقال: أبا هر! الحق بنا، قال: فانطلقت معه حتى دخل الدار مع بعض أصحابه فوجد قدحاً فيه لبن، فقال: من أين هذا؟ فقالوا: أهداه لك فلان الأنصاري، فقال: يا أبا هر! الحق بأهل الصفة فادعهم يشركوننا في هذا اللبن، قال: فأحزنني ذلك؛ لأنني رجوت أن أشرب شربة أقيم بها صلبي، وما يفعل هذا اللبن في أهل الصفة، وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد، فانطلق أبو هريرة رضي الله عنه ودعا أهل الصفة، قال: وقد أحزنني أيضاً أنني دعوتهم فسأكون آخرهم شرباً، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد، فانطلق فدعاهم فجاءوا فجلسوا، فوضع يده على الإناء وسمى الله تبارك وتعالى، ثم قال: أبا هر! اسقهم، قال: فأعطيت الأول فشرب حتى رده، فأخذته فأعطيته الثاني، فشرب ورده، فأخذته فأعطيته الثالث وهكذا، حتى شربوا جميعاً واللبن كما هو، قال: فلما وصلت إليه صلى الله عليه وسلم نظر إلي وتبسم، وقال: أبا هر! لم يبق إلا أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: أبا هر! اقعد قال: فقعدت، قال: اشرب، فشربت، ثم قال: اشرب، فشربت، ثم قال: اشرب اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، فقال: أرني فسمى الله تبارك وتعالى، وشرب الفضلة).
لقد بوب الإمام البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: (باب معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).(74/2)
قوة الإيمان خير من قوة الأبدان
في الحقيقة أن هذا الجيل فريد، ولا أظن أن يتكرر هذا الجيل أبداً إلا أن يشاء الله رب العالمين.
وهذه عاقبة الإخلاص، أي رجل يخلص لدعوته يرضى بالمر في سبيلها، الصحابة رضوان الله عليهم كانت السمة العامة لعيشهم هو الشظف، ومع ذلك بارك الله تبارك وتعالى لهم في أبدانهم وقوتهم.
ربما أننا نأكل في المرة الواحدة من ألوان الطعام ما لم يأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره، ولا أقول: ربما، بل أقول: نحن نأكل طعاماً ما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، قالت عائشة رضي الله عنها: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير)، أما خبز البر الذي هو القمح الذي نأكله الآن فما رآه بعينيه، ولا أكله قط، ولا رأى منخلاً قط بعينيه، إنما كانوا يأتون بالشعير فيذرونه في الهواء، وما بقي كانوا يعجنونه على حاله ويأكلونه.
هذا هو أكل النبي عليه الصلاة والسلام، وأكل أصحابه رضوان الله عليهم.(74/3)
طعام الصحابة في بدر وطعام الكفار
في معركة بدر خرج أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يريدون عير قريش، فجمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، كانوا يقتسمون التمرات، لأنهم ما خرجوا لقتال حتى يتأهبوا ويأخذوا معهم الزاد، إنما هي حفنة تمر، وانطلقوا لكي أن يقطعوا على قريش الطريق ويغنموا العير ويرجعوا، ظنوها ساعةً من نهار، وعلى الجانب الآخر خرجت قريش تريد القتال، حتى لما أرسل أبو سفيان إلى مكة بعدما نجا قال لهم: ارجعوا فقد نجت العير ولا حاجة للخروج، لكن تعس قوم رأسهم أبو جهل، قال: لا والله لا بد أن نسير، حتى نرد بدراً فنشرب الخمر وتغنينا النساء، فيسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً.
وانطلقوا إلى بدر، وكانوا يأكلون في اليوم الواحد عشرة من الجمال، في الوقت الذي كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقتسمون التمرة، ويعتقبون البعير، كل واحد يركب مرحلة، لأنهم لا يوجد عندهم ظهر، كل شخص يركب مثلاً نصف كيلو وينزل، وأخوه الثاني يركب نصف كيلو وهكذا، وغلب الذين كانوا يقسمون التمرات على الذين كانوا يأكلون عشرة من الجمال.
يخطئ من يظن أن جودة الطعام هي السبب الرئيس في صحة البدن.
لا.
وإلا لمات الفقير.
بل أنا أقول انظر إلى عامل البنيان الذي يصعد بالخرسانة المسلحة على كتفه، وانظر إلى ساكن القصر الذي قبل أن يأكل لا بد أن يأخذ الحبوب، ويأخذ الدواء، وهذا الرجل فقير، يأكل خبزاً ويأكل جبناً، وبعد أن يأكل يبدأ يمارس العمل الشاق طيلة النهار، الطعام الجيد الفاخر ليس هو السبب الوحيد أبداً في حياة البدن، وإلا لما مرض غني ولما عاش فقير.
فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، كانت هذه هي السمة العامة لهم، هل كانوا فقراء؟ لم يكونوا جميعاً كذلك، بل كان فيهم أغنياء، وكانت حياتهم أيضاً هي حياة الزهد.
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح كان صائماً، فقُرِّب إليه طعام، قال (مات مصعب بن عمير وهو أفضل مني، فلم نجد له بردة نكفنه بها، ومات حمزة وهو أفضل مني، ومات فلان وهو أفضل مني، فلا زال يبكي حتى ترك الطعام)، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه غناه مشهور، حتى أنهم ذكروا أن الذهب الذي كان يملكه كان يقطع بالفئوس من غناه، وكان إذا قبض قبضة من التراب وتاجر فيها ربح؛ لكن الزهد كان سمة هؤلاء.
والفرق بين هذا الجيل الفريد وبين كثير من الأجيال التي جاءت من بعده، أن الدنيا كانت في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، لذلك كان الواحد منهم مستعداً أن يضحي بالدنيا كلها في ساعة فداءٍ لله تبارك وتعالى، ولا يندم عليها، لذلك ما هزموا أبداً، وظلوا سادة حتى ماتوا.
خلودُنا إلى الأرض، هو الذي صنع فينا هذا الذل، وجعلنا في هذا الموقع الذي لا ينبغي لأمة الإسلام أن تكون فيه.(74/4)
الفرق بين أصحاب يوشع بن نون وأعدائهم الجبارين
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام، وكان خرج ليقاتل الجبارين، وقد قرأتُ في بعض الروايات الإسرائيلية أن هؤلاء الجبابرة كان طول أحدهم أكثر من ستين ذراعاً، وهذه الرواية فيها نكارة، لأن آدم عليه السلام أول مخلوق كان طوله ستين ذراعاً، قال عليه الصلاة والسلام: (فلا زال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة).
فنتصور أنه لا يوجد إنسان في الأرض أطول من آدم عليه السلام؛ لكن الرواية هكذا قالت أن طولهم كان طولاً شديداً، وقوم يوشع كان طولهم معتدلاً، لدرجة أن أحد قوم يوشع عليه السلام دخل بستاناً يتجسس على هؤلاء الجبارين، فأحد من هؤلاء الجبارين، يبدو أنه كان يجمع برتقالاً أو عنباً أو شيئاً من هذا، وجد هذا مختبئاً فوضعه في كمه ومضى به، فخُذ من هذه الرواية الفرق بين قوم يوشع وبين الجبارين، وحتى اسمهم (الجبابرة) يظهر منه مدى ضخامة أجسامهم وقوتهم.
(فقال يوشع بن نون عليه السلام: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا رجل رفع بيوتاً ولم يرم سُقُفها، ولا رجل له خلفات ينتظر نتاجها) لأن هؤلاء يُهْزَم المرء بهم، الرجل الذي عقد على المرأة ولما يدخل بها يتمنى أن يرجع حتى يبني بها، فلذلك إذا رأى بارقة السيوف هرب، لا ينتصر إلا الذي ودَّع الدنيا عندما يخرج، وأيقن أنه لن يعود، هذا هو الذي ينتصر، أما الذي يؤمل أن يعود فإنه كلما رأى بارقة السيوف هرب بجلده، لأنه يريد أن يعود حتى يتمم مراده الذي تركه.
(ورجلٌ رفع بيوتاً)، أي: رفع الجدر ولا يزال السقف غير مكتمل فهو يتمنى أن يرجع ويكمل البيت لكي يسكن فيه، (ورجل له خلفات): التي هي الضأن أو المعز، (ينتظر نتاجها)، أي: عنده مثلاً مائة رأس ومنتظر أنها ستلد أيضاً مائة رأس، ويحلم أنه يكبر هذه التجارة.
قال: لا يتبعني أحد من هؤلاء؛ لأن الذي يتمنى أن يعود أو يضع في حسبانه أن يعود لا ينتصر، وهنا كلمة نسبت مرة إلى أبي بكر الصديق ومرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يحصل نوع من المكاتبات بينه وبين عدوه كان يقول لهم: لقد جئتك برجال يحرصون على الموت حرصكم على الحياة، أنت ماذا تفعل به إذا أراد الموت، إن انتصر وغلبك كان سيداً في الأرض، وإن قتلته فاز بمراده، فما تفعل برجل ينتظر إحدى الحسنيين؛ لذلك كانوا يرهبونهم وهم في مكانهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، أي: يكون بيني وبين عدوي مسيرة شهر على الأقدام وهو مرعوب مني، وأنا لم أتحرك من مكاني.
فالإخلاد إلى الدنيا هو سبب هذا الوهن الذي دب إلينا.
فيوشع بن نون عليه السلام انطلق بالجيش ووصل القرية -كما في رواية الحاكم - يوم الجمعة، وبدأ القتال عصر يوم الجمعة، وأولئك جبارون، وهؤلاء بالنسبة للجبارين أقزام، لكن القوة هي قوة القلب، ليست قوة البدن، لو تجمع قلبك قوي ساعدك، ولو تفكك قلبك ذهبت قوتك، ولذلك أنت تجد إنساناً أول ما يخاف تنفلت أعصابه وتنهار قواه، طالما قلبه تفتت انتهت قوته، إنما الإنسان إذا تجمع قلبه قوي ساعده، والمؤمن قلبه بيد الله عز وجل، فلا يخاف الموت؛ لأنه يتمناه، لذلك ما كانوا يضعفون أبداً.
هؤلاء -الذين يعتبرون أقزاماًَ بالنسبة للجبابرة- ظلوا يقاتلونهم قتالاً شديداً حتى غربت الشمس، وكادوا أن يدخلوا البلد، أي: أنهم هزموا الجبارين، ولكن ما زالوا يقاتلون فلول الجبارين الأخيرة، فلو أن الشمس غربت يكون قد ذهب جهادهم كله، ومن الممكن أن يبدءوا الجهاد من اليوم التالي، ومن الممكن ألا يضمنوا النتائج، (فالتفت يوشع عليه السلام إلى الشمس وقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم ردها علينا، فرجعت الشمس كما كانت، فلا زال يقاتل حتى فتح له).
فنحن نفهم من هذا أن الدنيا إذا كانت في القلب فهو الخور، والضعف الحقيقي، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما كانوا كذلك، كانت الدنيا في أيديهم، وكانوا سادة الأرض، ما كان هناك في الدنيا أمة أعز من هذه الأمة؛ لكن لم تكن الدنيا في قلوبهم، كثير من الأجيال التي أتت بعد ذلك الدنيا ليست في أيديهم فقط، بل في قلوبهم، وهذه من المصائب، ليتها إذ حلت في قلوبهم كانت في أيديهم، لكن حلت في قلوبهم وليس في أيديهم منها شيء.(74/5)
زهد الصحابة في الدنيا وحسن أخلاقهم
كان زهد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا، أما القلب فهو خالٍِ تماماً منها، إلا ما شاء الله تبارك وتعالى من ما لا يكاد ينجو منه بشر.
حقيقة الزهد أن يزهد المرء بعد الوجدان، كما قال القائل: ليس الزاهد هو الذي لا يجد شيئاً، إنما الزاهد من وجد فزهد؛ لأن الذي لا يجد شيئاً فهو زاهد رغماً عنه؛ لأنه لا يوجد في يده شيء حتى يزهد فيه، إنما الزهد الذي يجد ثم يترك.
فصحابة النبي عليه الصلاة والسلام لم يكونوا جميعاً فقراء، إنما كانوا من الزاهدين العابدين.
أبو هريرة رضي الله عنه يحكي موقفاً، وأبو هريرة له مواقف كثيرة، وكل صحابي له مواقف كثيرة، لكن هذا موقف وقع لـ أبي هريرة رضي الله عنه، فيصدِّره بالقسم لأن الصورة التي يحكيها صورة عجيبة يقول: (والله الذي لا إله غيره، لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، حتى كنت أُصْرَع بين المنبر والحجرة، فيجيء الجائي فيظن أن بي جنوناً وما بي جنون، ما بي إلا الجوع)، رجل جائع إلى درجة أنه يُصرع ويعتمد على الأرض بكبده، أي: لا يستطيع أن يمشي على قدميه، إنما يزحف زحفاً، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يربط الأحجار على بطنه ويشده بالحبل، لأن هذا يخفف ألم الجوع.(74/6)
موقف أبي هريرة مع قدح اللبن وأهل الصفة
فـ أبو هريرة رضي الله عنه أول ما دخل وجد كوب اللبن فاستبشر، قال: إذاً: سنشرب؛ لكن تبددت فرحته عندما قال له: (أبا هر! الحق بأهل الصفة يشركوننا في هذا اللبن) هو كوب! وأهل الصفة كانوا أربعمائة رجل تقريباً، يعني: لو أن كلَّ واحدٍ شَمَّهُ شَمَّةً لانتهى، وأبو هريرة جائع ويريد أن يشرب- قال: فأحزنني ذلك؛ لأنني كنت أريد أن أشرب شربةً أتقوى بها، وما يفعل هذا اللبن في أهل الصفة ثم شيء آخر أحزنه، وهو أنه طالما أنه دعاهم فهو الذي سيسقيهم، و (ساقي القوم آخرهم شرباً)، إذاً: لن يجد لبناً، لكنه قال: (ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد) أي: فلو مات من الجوع لا بد أن يسمع ويطيع، فذهب فدعاهم، فأقبلوا وجلسوا جميعاً، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أبا هر! اسقهم) وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وضع يده عليه وسمى الله تبارك وتعالى، وأعطاه لـ أبي هريرة، وأبو هريرة أمسك الكوب ليعطيه لواحد يشرب حتى يروي ظمأه، واللبنُ كما هو لم ينقص، فيأخذه أبو هريرة ويعطيه للآخر فيشرب، فيأخذه منه ويعطيه للثالث وفي هذا دليل على أنه ليس من المروءة استخدام الضيف، فـ أبو هريرة لم يترك كلَّ أحد يناول أخاه، بل كان يأخذ ويعطي بنفسه، فليس من المروءة إذا جاءك ضيف أن تقول: يَدُك يا شيخ، خذ معي هذا الكرسي، وضعه هنا، أو تنتظر حتى يأتيك أضياف لتغير وضع البيت، فتنقل الدولاب هنا، والسرير هنا، وتستغل الأضياف، فهذا ليس من المروءة بل الضيف ضيف، يأتي عزيزاً ويأتي مكرماً، ويجلس ولا يفعل شيئاً.
قال أبو هريرة: (فشربوا جميعاً حتى وَصَلْتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فنظر إلي وتبسم) الرسول عليه الصلاة والسلام كان عارفاً أن أبا هريرة حزين، وكان يعلم أنه يهجس في نفس أبي هريرة أنه لن يجد لبناً، لذلك بعدما انتهى أبو هريرة من إعطاء اللبن لأهل الصفة، نظر إليه وتبسم.
(وقال: أبا هر! لم يبقَ إلا أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: أبا هر! اقعد)، وفي هذا دليل على مشروعية الشرب قاعداً، والخلاف بين العلماء في المسألة معروف، والجماهير على جواز الشرب قائماً، لكنهم يفضلون القعود.
وهنا لطيفة أذكرها: كان الإمام الكسائي إمام اللغة المشهور وأحد القراء السبعة من أصحاب القراءات المتواترة، واسمه: علي بن أحمد - مرة داخلاً على هارون الرشيد، وكان هارون متكئاً، فدخل عليه الكسائي فقال له هارون: اجلس، فقال له: بل (اقعد) يا أمير المؤمنين! يعني الصواب أن تقول: اقعد، لا أن تقول: اجلس، فقال له: وما الفرق بينهما؟ قال: الجلوس يكون من اتكاء، والقعود يكون من قيام.
وهذا أغلب استخدامات العرب، ولا مانع أن يوضع هذا مكان ذاك؛ ومن الممكن أن يوضع الجلوس مكان القعود؛ لكن أغلب استخدامات العرب إذا كان الشخص واقفاً أن يقولوا له: اقعد، وإذا كان الرجل متكئاً يقولون له: اجلس.
وحديث أبي بكرة لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام متكئاً فجلس قال: (ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور)، كان متكئاً فجلس.
وحديث ابن عباس في الصحيحين لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، فدخل عمر بن الخطاب، فقال: (لم أرَ في البيت شيئاً يردُّ البصر، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسَّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، قال: وكان متكئاً فجلس).
فـ أبو هريرة واقف، قال: (أبا هر! اقعد.
قال: فقعدت، قال: اشرب، فشربت.
اشرب، اشرب، اشرب، ظل يقول له: اشرب حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً) وفي هذا دليل على جواز أن يأكل المرء حتى يشبع؛ لكن القدر المستحب أن يقسم معدته ثلاثة أثلاث، لا أن يملأ الثلاثة أثلاث أكلاً.
بل يترك لنَفَسِه الثلث، وثلثاً لشرابه.
فهنا حين يقول: (والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً) يدل على أنه ملأ بطنه إلى الأخير، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر عليه، وهذا هو الدليل؛ وهو إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرني، قال: فأعطيته الإناء، فسمى الله وشرب الفضلة).
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
والحمد لله رب العالمين.(74/7)
كرم الصحابة وسخاء نفوسهم
كان النبي عليه الصلاة والسلام من عادته أول ما يدخل البيت أن يتفقد بيته ويتفقد مواضع الخير في بيته، كما أمر عائشة رضي الله عنها أن توزع الأضحية.
فـ عائشة رضي الله عنها من الخير الذي عندها وهي توزع نسيت أن تبقي لنفسها شيئاً من الأضحية، لتأكله مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذكَّرَتها الجارية، فبقي من الضأن أو الماعز الرجلان الأماميتان -اليدان- فقط، فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل البيت قال: (ما فعلت في الأضحية؟) يسأل ويتفقد مواضع الخير في بيته، ولذلك أول ما يدخل الإنسان لا يسأل امرأته: أجهزتِ الغداء؟ بل يسأل: أصليتِ الظهر؟ أصيلتِ العصر؟ والأولاد: أصلوا؟ فأول ما دخل عليه الصلاة والسلام قال: (ما فعلت -أي: في الأضحية-، فقالت: يا رسول الله! ذهبت كلُّها إلا ذراعُها، فقال عليه الصلاة والسلام -قول الرجل الذي ينظر إلى الآخرة-: بل بقيت كلُّها إلا ذراعُها) أي: بقيت عند الله تبارك وتعالى؛ لأنها خرجت صدقة، فلما دخل عليه الصلاة والسلام وجد الإناء، فقال: (من أين؟ قالت: أهداه لك فلان الأنصاري).
وكان عليه الصلاة والسلام من عادته أنه إذا جاءته صدقة أرسلها كلها إلى أهل الصفة ولم يرْزَأهم شيئاً، فإذا جاءته هدية أرسل إليهم يشركهم فيها، وكان هذا من رأفته عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فأهل الصفة تركوا ديارهم واغتربوا في سبيل الله، فكان يأكل معهم، إذا جاءت هدية أشركهم فيها، وإذا جاءت صدقة ذهب بها إليهم كلها، وما يرْزَأهم شيئاً؛ لأن الصدقة محرمة عليه -عليه الصلاة والسلام-.
وأيضاً من الأمثلة على لطفه عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يحب أن يُشْرِك الأمة معه في ذلك، ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق، قال جابر رضي الله عنه: (مرت بنا ثلاثة أيام ونحن نحفر الخندق، ما ذقنا فيها ذواقاً، قال: فاعترضتنا كُدْية عظيمة لا تعمل فيها المعاول) أي: صخرة ضخمة، يكسرون فيها، ولم تنكسر، قال: (فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوجدته قد ربط الحجر على بطنه من الجوع) كان النبي قدوة، أنا عندما أرى الرسول عليه الصلاة والسلام أو أرى قائدي يربط الحجر على بطنه من الجوع فأنى أنسى الجوع؛ لكن إذا كنت أراه يأكل ويتغدى ويرمي اللحم خارجاً، وأنا رجل أعاني شظف العيش، وبعد ذلك يقوم خطيباً ويقول لي: التقشف وشد الحزام، هذا الرجل كاذب، قد أكون جباناً لا أستطيع أن أقول له: أنت كاذب؛ لكن أنا في قرارة قلبي أعلم أنه كاذب، فتقل القدوة به، ومهما يأمر ويتكلم فأنا لن أسمع، لأنه كاذب يعيش في نعيم وأنا أعاني الضنك؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أول جائع فيهم.
فوجده جابر رابطاً على بطنه الحجر من الجوع، فقال: (يا رسول الله! كُدْية عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام وأعرفُ الجوع في وجهه، فأمسك المعول، وقال: باسم الله، وضربها، فصارت كثيباً أهيل -صارت رملاً- فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب البيت، فأذن له، فذهب إلى امرأته، وقال لها: لقد رأيتُ شيئاً آنفاً ما لي عليه صبر، رأيت الجوع بوجه النبي صلى الله عليه وسلم، فما عندك من الطعام؟) أرجو أن تستحضر أن جابراً أيضاً جائع، ظل ثلاثة أيام ما عنده طعام، فكان من المتصور أن ينسى جوع غيره لجوع نفسه، لكن المحب ينسى جوع نفسه لجوع من يحب، لذلك قال: رأيت شيئاً ما لي عليه صبر، ماذا عندك؟ (قالت: عناق -شاة أو ماعز صغيرة- وصاع من شعير، فقال: اذبحي العناق واعجني، فقالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) تعني: لا تذهب وتحضرهم كلهم؛ لأنه ليس ثَمَّ طعام عندي.
فأخذ جابر الوصية وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهمس في أذنه: عندنا عناق، وصاع من شعير، أي: تعال وبعض أصحابك، قال جابر: فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا أهل الخندق! قد صنع لكم جابر طعاماً، قال جابر: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله؛ رجل دعا أناساًَ إلى الطعام وليس عندهم طعام، فلما رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: اذهب فقل لهم: أن يضعوا اللحم على النار، ولا يخبزوا حتى أجيء، وجاء بأهل الخندق جميعاً وانطلق إلى البيت، فأول ما سمعت امرأة جابر وقع الأقدام ورأت هذا العدد الكبير، قالت له: بِكَ وبِكَ! تلومه وتعنفه، ماذا يأكلون؟! أنا قلت لك، ونبهت عليك، قال: قد قلتُ الذي قلتِ لي، قالت: أوَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتُه لك؟ قال: نعم، قالت: فرسول الله أعلم، قال: فَسَرَّتْ عني، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال: أين البُرْمة -التي فيها اللحم-؟ فجِيْء بها، فبصق فيها وبارك.
أين العجين؟ فِجيْء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه، وكانوا ألف رجل، وإن البرمة لتغط باللحم كما هو، وإن العجين ليُخْبَز كما هو.
فانظر من رأفته عليه الصلاة والسلام ما استطاع أن يستأثر بالأكل وهو عارف أن الذين يحفرون الخندق جوعى، حتى صاح فيهم: (لقد صنع لكم جابر طعاماً) مهما كان الشيء قليلاً، لكن المواساة به جيدة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الصدقة جهد المقل)، إذا كنت محتاجاً لهذا الدينار الذي تتصدق به، فهذا أفضل الصدقة، لأنك وقيت شح نفسك، رأيت غيرك أولى منك، فهذا أفضل الصدقة، جهد المقل.(74/8)
ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
(قال: حتى مر أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فلما رآني عرف ما بي فتبسم)، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، الإنسان المدهوش يستحب لك أن تلاطفه وتبش في وجهه، إذا رأيت إنساناً مكروباً فاضحك في وجهه حتى يزول ما عنده من الوحشة، وبعد ذلك سله، فمثلاً: إنسان جاء فابدأ ضيفه ولاطفه، ثم قل له: خيراً! ماذا تريد؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما رآه عرفه، والإنسان الجائع يظهر عليه أثر الجوع مباشرة، فرجل يعتمد على كبده من الجوع ويزحف على الأرض، فهذا واضح أنه هزيل لا يستطيع أن يقوم.
وقد كان أبو هريرة ليس له صنعة، كان يقول: كنت أمشي مع النبي عليه الصلاة والسلام على ملء بطني، لأنه فقير، وكان من أهل الصفة، فأول ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تبسم، قال: (فتبسم وعرف ما بي، فقال: أبا هر! الحق بنا)، ومن حسن خلقه عليه الصلاة والسلام أيضاً أن يرخم اسم أبي هريرة، وذلك أن الترخيم يكون فيه نوع من الملاطفة، فعندما ترخم اسم شخص، مثلاً شخص اسمه محمد فتقول له: (يا أبو حِمِيد) أو أشياء من هذا القبيل فهذه ملاطفة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يرخم بعض الأسماء، وهذا الترخيم يدل على الملاطفة، أي: أن بينه وبينه وُدّاً لدرجة أنه يرخم اسمه، ولا يوجد بينهما احتشام ولا حاجز ولا شيء من هذا، ووجدنا النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يرخم في باب اللطف، والترخيم هو حذف جزء من الاسم.
ومثله حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم قالت: (كنت نائمة، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ففتح الباب رويداً رويداًَ -أي: بهدوء شديد-، ومشى على أطراف أصابعه رويداً رويداً، وحمل نعله في يده، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً) هي كانت تنظر هذا من تحت اللحاف، وهو يظنها نائمة، (فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام فأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق، قالت: فقمت فتقنعت إزاري وانطلقت وراءه) وذلك لتنظر أين يذهب، فهي امرأة عندها غيرة شديدة، فظنت أنه ذاهب إلى أم سلمة أو أم حبيبة، فانطلقت وراءه، فاستمرت تمشي وراءه حتى ذهب إلى البقيع، فرفع يديه ثلاثاً يرفعها ويخفضها، ثم انحرف راجعاً إلى البيت قالت: فانحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أي مشي بطيئاً- فأحضرت وسبقته، أول ما وصلت الحجرة دخلت تحت اللحاف، فهذه امرأة تجري، فكان من تتابع النَّفَس وتلاحقه أن بطنها يرتفع وينخفض، فأول ما دخل وجد اللحاف يرتفع وينخفض، فقال: ما لك يا عائش هذا هو الترخيم، فحذف بعض الاسم: (ما لك يا عائش حشيا رابية) أي: هل عندك مرض صدري، لأنه تركها مستريحة، وهذا ليس منظر امرأة نائمة، قالت: (لا شيء، قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ -وذكرت له ما حدث- قالت: فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني، وقال: أظننتِ أن يحيف عليك الله ورسوله -أي: بأن تكون الليلة لك وأذهب لغيرك- إن جبريل أتاني فناداني، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك، فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، وكرهت أن أوقظك فتستوحشي، فقال: إن ربكَ يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) إلى آخر الحديث.
فانظر اللطف، لما رأى بطنها يرتفع وينخفض قال: (مالك يا عائش!)، الترخيم يدل على اللطف، كذلك كان يقول لـ أسامة بن زيد: (يا أسيد) ترخيم، وأسامة بن زيد هو الحب ابن الحب، وكان محبوباً عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فالترخيم يعرف إذا كان للطف أو للتقريع من سياق الكلام، كما يقول العلماء: إن السياق من المقيِّدات.
فمثلاً في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، قال: (يُجاء برجل فيقول الله تبارك وتعالى له: أيْ فُل!) (فُلْ) ترخيم: (يا فلان)، فهذا ترخيم، لكن هذا الترخيم استهزاء واحتقار، ونحن عرفنا أنه ترخيم استهزاء واحتقار، لأن دلالة الكلام تدل عليه قال: (أي فُلْ! ألم أذَرْك ترأس وتربع)، (تربع) كان أهل الجاهلية إذا أغاروا على قوم أخذوا ربع ما غنموا وأعطوه لكبير الحي يضيف به الضيفان، ويقوم به على النائبات، فالمعنى: كنت تأخذ المرباع وأنت جالس في بيتك، (ألم أذَرْك ترأس)، -أي: تكون رأساً قال: (وأزوجك من النساء، وأركبك من الخيل والإبل، فأين شكرك؟! قال: رب نسيت، قال: فاليوم أنساك).
فواضح من السياق أن قوله: (أيْ فُلْ) ترخيم إهانة وتقريع، كما قال تبارك وتعالى لأحد الكافرين: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، ومعروف أن عبارة (العزيز الكريم) لا تكون عادةً بهذا اللفظ إلا للإكرام والعزة، فهذا السياق دل على أن عبارة (العزيز الكريم) ليس المقصود بها الإكرام، بل المقصود بها الإهانة، وهكذا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد ما عند أبي هريرة من الجوع والشحوب على وجهه، أولاً: تبسم حتى يزيل ما عنده من الكآبة، ثم رخم اسمه لمزيد من اللطف، قال: (أبا هر! الحق بنا) فـ أبو هريرة بالنسبة له هذه هي الغنيمة الباردة، هذا الذي كان يريد، فانطلق خلف النبي عليه الصلاة والسلام، فلما دخل وجد إناءَ لبن، قال: (من أين هذا؟)، وفي هذا دليل على استحباب أن يتفقد الرجل بيته، فلا يدخل فيلقى جهازاً كبيراً يخرق العين، ثم يمر عليه كأن أحداً لم يأت بجهاز، فمن الممكن أن يكون ولده سرق، فلا بد أول ما يدخل أن يتفقد كل شيء في بيته، أي شيء هو لم يستجلبه يقول: من أين هذا؟ ويتفقد، فلعل ولده سرقه أو نحو ذلك.(74/9)
عزة النفس عند الصحابة
فـ أبو هريرة لم يستطيع أن يمشي على قدميه، بل كان يمشي زحفاً من الجوع، فلأنه كريم وعزيز النفس، كأنه استحيا أن يقول لواحد من الصحابة: خذني أتغدى معك، فاحتال حيلة، والكريم يفضل أن يموت ولا يريق ماء وجهه، كما قال الشافعي رحمه الله وهو يصور الإنسان الكريم قال: لَقَلْعُ ضرسِ وضَربُ حبسِ ونزعُ نفسِ وردُّ أمسِ ... وقَرُّ بردِ وقودُ فردِ ودبغُ جلدِ بغير شمسِ ... ونفخُ نارِ وحملُ عارِ وبيعُ دارِ بربع فلسِ ... كل هذا أهون من وقفة حرٍّ يرجو نوالاً بباب نحسِ الأشياء التي ذكرها الشافعي منها مستحيل، كرد أمس، وهو أن يُرجع يوم أمس مرة أخرى، ومنها أن يدبغ الجلد بغير شمس، وهذا لا يكون أبداً، ومنها أن يبيع داره بربع فلس، فهو يقول: إن الإنسان لو ارتكب كل هذه الأشياء، فإنه أهون من أن يقف على باب لئيم يطلب عطاءً؛ لأن عنده من حرارة النفس والعزة ما يمنعه أن يقف على باب لئيم.
فـ أبو هريرة رضي الله عنه احتال حيلة يحصل بها مقصوده ويحفظ بها ماء وجهه، فصلى الصحابة الفرض، فخرج قبلهم جميعاً وسبقهم ووقف على الطريق، فمر أبو بكر الصديق قال: (فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي) يعني: أنا لا أجهلها، بل أحفظها وأعلم تأويلها؛ لكن سأله لعله يقول له: تعال معي نتغدى، والذي جعل أبا هريرة يفعل هذا أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن أبو هريرة يسأله قط، إلا يقول له: لا أجيبك حتى نتغدى، فقال: إذاً نسلك هذا السبيل، وأبو بكر الصديق خير الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمَّل فيه أنه لو سأله السؤال سيقول له: تعال نتمشى، فإذا وصل معه إلى باب البيت فغير ممكن أن يقول له: مع السلامة، سيقول له: تفضل! فمجرد أن يقول: تفضل يكون الرجل داخلاً بكرامته، فقال: (فأجابني وانصرف).
قال: (فجاء عمر، فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعِي، رجاء أن يستتبعني -وفي الرواية الأخرى:- رجاء أن يشبعني، قال: فأجابني وانصرف).(74/10)
الالتفات إلى الأسباب
جعل الله لكل شيء سبباً، وهذا من سننه الكونية، والأسباب لا تؤثر بنفسها، بدليل أن السبب قد يوجد ولا يوجد أثره وثمرته؛ وعليه فالاعتماد الكلي على السبب، والالتفات إليه شرك بالله تعالى في ربوبيته، وبالمقابل فإن إهمال الأسباب وتركها قدح في الشرع ومحال عقلاً والحق أن يعتمد العبد ويتوكل على ربه تعالى ويأخذ بالسبب طاعة لله تعالى وتأسياً بأنبيائه عليهم الصلاة والسلام لتتحق له بذلك مصالح الدنيا والآخرة.(75/1)
اتخاذ الأسباب لا ينافي صدق العبودية لله
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، هذه الكلمات الثلاث اشتملت على الدين كله، الالتفات -أي التفات القلب إلى الأسباب- قدح في التوحيد؛ لذلك فإن الله تبارك وتعالى ألغى السبب فيما يتعلق بدعائه والإخلاص له.
نحن كما قال ابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وأبو ذر في جماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: كنا ضلالاً لا نعرف شيئاً حتى جاءنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو الواسطة بيننا وبين الله في العلم به، وبأحكامه، وبما يحب ويكره، نحن لا نعرف لنا سبباً إلى السماء غير الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لذلك كان هو الواسطة الطبيعية، كما يتضح ذلك جلياً في كثير من الآيات، ومنها: قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة:189] وقوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ} [البقرة:219] وقوله جل ثناؤه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ} [البقرة:217] وقوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ} [البقرة:215] وقوله عز وجل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] وقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127] وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176].
(قل) هذه التي هي دلالة على الواسطة، إثبات وجود الرسول عليه الصلاة والسلام في تبليغ الأحكام الشرعية، إلا في الدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، لم يقل: فقل: إني قريب؛ وذلك حتى يلغي الواسطة؛ لأنه من الممكن أن تفرغ ما عندك من العبودية عند الواسطة، ولله المثل الأعلى.
ولك أن تتصور أن يوجد أمير عادل حكيم لا يرد مظلمة إنسان، ولكن له نائب لئيم، كلما رفعت شكوى حجبها ذلك النائب ولم يرفعها للأمير، فحتى تصل شكايتك للأمير، ماذا تفعل؟ لابد أن تتزلف إلى هذا النائب اللئيم حتى يسمح بمرور شكايتك إلى الأمير، وكلما كان هذا الرجل أشد لؤماً كنت أنت أشد ذلاً، وهكذا استفرغت ما يجب أن يكون لله تبارك وتعالى -من العبادة والذل والخضوع- عند أقدام الواسطة، ولهذا ألغى الواسطة؛ حتى تكون عبوديتك كاملة لله تبارك وتعالى، إذا سألت مباشرة ليس هناك واسطة.
لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجماعة الذين يصرخون في دعائهم، قال: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً).(75/2)
نفي الأسباب محال عقلا
التفات هذا القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب نقص في العقل، فلو أن رجلاً قال: أريد ولداً بغير نكاح، فكل العباد يقولون عنه: مجنون، أو قال: أريد أن أشبع بغير أكل، لقالوا: مجنون، ولو قال آخر: أريد أن أذهب إلى أول الشارع بغير سعي مني ولا مشي، يقولون: أنى لك ذلك؟! فمعنى أن يلغي العبد السبب أن يقول: لا قيمة له أبداً في الفعل، هذا القول نقص في العقل.
ولعله يأتي من يقول: إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن أن ينفي أن يكون السبب مؤثراً، نقول: بلى! يوجد أناس يقال لهم: الفرماوية يرون أن الأخذ بالأسباب كفر، ويرون أن من مرض فذهب إلى الطبيب فهو كافر، ومن أراد الولد فنكح فهو كافر، مع أنهم ينكحون ويذهبون إلى الأطباء، لأنه يستحيل أن ينفي السبب بالكلية وإلا مات، ولقد رأينا بعضهم وقد انقسموا فريقين: جماعة يلبسون قمصاً بيضاء، وجماعة يلبسون قمصاً خضراء، فالذي يلبس قميصاً أبيض لا يأخذ بالأسباب لأنه وصل إلى درجة اليقين.
كما أنه قيل لـ ابن الجوزي يوماً: إن فلاناً ترك الصلاة والزكاة وترك العبادة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وقال: إنه قد أتاني اليقين وأنا وصلت درجة رفع التكليف، فقال ابن الجوزي: نعم، وصل، ولكن إلى سقر.
فالذي وصل إلى هذه الدرجة من الفرماوية يلبس القميص الأبيض، أما الذي يلبس القميص الأخضر فهذا دءوب العمل لخدمة الصنف الأول دائماً، وهو الذي يأخذ بالأسباب، ومن عجيب أمرهم أنهم يعتقدون أن الذي يلبس الأخضر كافر كفراً مؤقتاً، حتى تدب الولاية -ولاية الشيطان- في قلبه فيلبس قميصاً أبيض.
وهذا الكلام لو عرضوه على أجهل خلق الله تبارك وتعالى ما قبله، لأنه يصادم صريح العقل، فإنكار أن تكون الأسباب أسباباً من حيث هي أسباب نقص في العقل بلا شك، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه لا يوجد من هذه الطائفة أحد الآن، لقد كانوا يحرقون صحيح البخاري فلما سئلوا:، لماذا؟ قالوا: أصل البخاري شيوعي، أليس من الاتحاد السوفييتي؟! هذا لما كانت بخارى ضمن الاتحاد السوفييتي، أما الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أين سينسبوا البخاري؟ وكانوا يقولون: كل أحاديث عائشة باطلة فلما قيل لهم لماذا؟ قالوا: صوت المرأة عورة، كل حديث عن أي امرأة غير صحيح، لأن صوت المرأة عورة.
وهكذا من يرد الأحاديث قائلاً: هذا مضاد لصريح العقل، وإذا وجدت حديثاً يضاد صريح العقل فاعلم أنه مكذوب!! وأنا أقول: صريح العقل ليس عقلك وحدك، إنما صريح عقل المسلمين، لأنه من الممكن أن يصادم عقلك أنت فقط، لكن لا يصادم عقل غيرك، هذا هو معنى القيد الذي وضعه علماء المسلمين عندما قالوا: إذا وجدت الحديث يخالف صريح المعقول فاعلم أنه مكذوب.
وهم يقصدون بصريح المعقول أي صريح معقول عقول المسلمين، ليس عقل واحد، ولا عقل اثنين، إنما عقول المسلمين.
ففعل الفرماوية هؤلاء وتأويلهم يضاد صريح عقول المسلمين، لذلك نجزم أنه من الباطل المحض الذي لا يتردد فيه إنسان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم(75/3)
الحرص على التوحيد وحماية جنابه
إن التفات القلب إلى السبب قدح في التوحيد، ومعنى ذلك أنه إذا علمت -أو ظننت- أن السبب هو المؤثر كان ذلك قدحاً في التوحيد، ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من قال: لولا الكلب لسرق اللص الدار؛ فقد أشرك)، لكن يجب أن يقول: لولا أن الله سخر الكلب، فلا يجعل الكلب هو الذي أنقذ الدار من السرقة.
وتأمل جيداً قول إبراهيم الخليل عليه السلام لما عرّف إلهه الذي يعبده إلى قومه، فقد كان في غاية الدقة، وكان الرائد في هذا المضمار، ولذا فكلامه موزون، وكذلك الداعيه إلى الله عز وجل يجب أن يكون كلامه موزوناً، أليس الكفر بكلمة، والإيمان بكلمة، واستحلال أعراض الناس بكلمة؟! كل شيء في الدنيا أليس يتم بكلمة؟! لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً).
والرجل ما أتم كلمة أشرك بها، إنما أشرك بحرف، قال: ما شاء الله وشئت، فعطف بحرف الواو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً).
ونحن نعلم أن الرجل لم يقصد أن يجعل لله نداً في حقيقة أمره وقرارة قلبه وإلا فهو كافر، إنما قال كلمة درجت على لسانه، كما يقول العوام اليوم: توكلت على الله وعليك، فالقائل: لا يقصد أن يجعل هذا الرجل كالله تبارك وتعالى.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بقوله: (أجعلتني لله نداً) بل علمه، فقال: (قل ما شاء الله ثم شئت)، فإذا كان العبد يمكن أن يشرك بحرف، ألا يمكن أن يشرك بكلمة؟! أو بجملة، فطالما أن كل شيء مبني على الكلمة، يجب الحرص على أن تكون الكلمة في موضعها.
ولذلك فإن الغلام الذي حكى النبي عليه الصلاة والسلام قصته مع الراهب والساحر، لما جاءه جليس الملك وكان قد عمي، قال: رد علي بصري! اشفني! فكان الغلام يتكلم بتؤدة وكلام يعلم عاقبته وخطره، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك، فخلع نفسه، قال: أنا ليس لي إلا أن أدعو فقط، وأنت ليس عليك إلا أن تؤمن، إنما الشفاء منه تبارك وتعالى.(75/4)
التأكيد على أن الأسباب لا تؤثر إلا بمشيئة الله
إبراهيم الخليل عليه السلام، أول ما بدأ يدعو قومه دعاهم بكلام في غاية الدقة، وقد حكى القرآن الكريم أنه قال عليه السلام عن الأصنام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77]، كأنهم سألوه وما رب العالمين؟ قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
تلاحظ في الآيات الثلاث الأول ضمير الرفع المنفصل (هو)، ويقول النحاة: إن هذا الضمير يأتي لتأكيد الكلام، بدليل أنك لو حذفته لا يؤثر في السياق، إنما يأتي لتأكيد الكلام، الذي خلقني فيهديني كلام مستقيم، إنما جاء (هو) لتأكيد هذا المعنى.
والهداية لفظة مشتركة، فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً، وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى، قال {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فأثبتها له، وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، إذاً: الهداية الأولى هي هداية الدلالة والبيان، والهداية التي نفاها الله عنه توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً.
فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده، فأكدها بهذا الضمير: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79].
من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يقول: إن الأكل والشرب وإن كانا سبباً في دفع الجوع والظمأ؛ لكن ليسا دافعين حقيقيين للجوع والظمأ ألم تجرب -ولو مرة- أنك أكلت بنهم شديد أضعاف ما يكفيك، وتحس أنك في حاجة إلى طعام، أما مر عليك يوم شربت فيه ماءً حتى كادت بطنك أن تنفجر من الماء، ومع ذلك تحس أنك لا زلت في حاجة إلى مزيد من الماء، فالماء يدفع الظمأ، لكن ليس دائماً، كذلك إذا مرضت ألست تأخذ الدواء مرة فتبرأ بإذن الله، وتأخذه أخرى فلا تبرأ، والعلة هي العلة، والدواء هو الدواء، وإن كان سبباً في دفع المرض، لكن ليس دائماً.
فكأن إبراهيم عليه السلام قال: والذي إذا أطعمني أوجد فيَّ الري والشبع وهي الفائدة المقصودة من ذلك السبب، وقد ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كافراً، فقال: اسقني يا محمد! فسقاه لبن شاة، ثم قال: اسقني فسقاه لبن شاة أخرى اسقني حتى حلب له سبع شياه، فأسلم الرجل -لعله لما وجد من حسن الخلق- فجاء في اليوم التالي، وقال: اسقني يا رسول الله! فحلب له لبن شاة واحدة، فشرب وأفضل شيئاً، وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) كما قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً: (كلوا والبركة من الله).
إذاً: إيجاد الري وإيجاد الشبع من الله تبارك وتعالى، وإن كان الأكل سبباً في دفع ذلك، لكن ليس بالضرورة أن يدفع، فأراد إبراهيم الخليل أن يؤكد أنه: ليس بمجرد أن يأكل يشبع، إنما الذي يطعمه ويسقيه ويوجد فيه الرِّيَّ، ويوجد فيه الشبع -وهما المقصودان من الأكل- هو الله تبارك وتعالى لا غيره.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، من الجائز أن يقول العبد: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني أنقذني، أنت ترى ضعفاء الإيمان إذا كان أحدهم مريضاً بمرض خطير، وأُدخِل غرفة العمليات، يقف مرافقوه عند باب الغرفة ينتظرون الطبيب، فإذا ما خرج الطبيب، نظروا إلى شفتيه قالوا جميعاً: خير يا دكتور! -وكأنه هو الذي سيقول الكلمة الأخيرة- لو قال: أبشروا فإنهم يكادون يموتون من الفرح، ولو قال: ليس هناك أمل، يرتمي بعضهم على الأرض من وقع كلامه الباعث على اليأس، كأن الطبيب يملك من الأمر شيئاً، هؤلاء يعاملون الطبيب كما لو كان له الكلمة الأخيرة، وليس لأحد كلمة أخيرة، إنما الكلمة الفاصلة لله تبارك وتعالى، والعباد في قرارة أنفسهم يتصرفون خلال ذلك.
كما أنه من الممكن أن يكون لعبد ما ولد، وقال له جميع الأطباء: وفر فلوسك، لا أمل، فهو ميت لا محالة، ومع ذلك يخرج الرجل بابنه من عند هذا الطبيب ليذهب إلى طبيب آخر، لماذا مع أنهم قالوا له: لا أمل؟ هو يقول في قرارة نفسه: من الجائز أن الله تبارك وتعالى يجعل شفاءه عند رجل آخر، وإذا لم يكن عنده فلس واحد فإنه يستدين، وهو موقن أنه ميت، وهو يعلم أنه لا أمل في شفاء ابنه، لكن لماذا يقترض؟! لماذا يثقل كاهله بالديون؟! لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه ليس لعبد كلمة أخيرة، فإن الله تبارك وتعالى يصرف المقادير حيث شاء.
وعلى سبيل المثال -كي نعلم أن الأمر كله لله- امرأة مغربية، مرضت بالسرطان ذهب بها أولادها إلى كل أطباء العالم، وكلهم يقول: بقي من عمرها شهر أو أقل، فقالوا لها: أَلا تعتمرين!! فذهبت المرأة تعتمر، ثم طاب لها المقام في الحرم، فكان ليس لها طعام ولا شراب إلا ماء زمزم، فمضى شهر وشهران وثلاثة أشهر وأربعة وستة وعشرة، والمرأة بصحة جيدة، ثم ذهبت إلى إحدى مدن المملكة، وعمدت إلى أشهر أطباء المملكة وكلهم يقول لها: ليس عندك شيء، قالت: هؤلاء لا يفهمون، حتى أولادها قالوا: الطب عند العرب متأخر، سنذهب إلى البلاد التي وصلت إلى القمة، عندما ذهبوا إلى الأطباء في تلك البلاد إذا بهم يشدهون، أين ذهب المرض؟! عند من تعالجت؟! قالوا: أبداً، الوضع كذا وكذا وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال في ماء زمزم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم)، فهذا فضل الله، ولو أن الأولاد تركوها لحكموا عليها بالإعدام.
إذن الإنسان يتحرك من داخله بعقيدة أنه ليس لأحد شيء، وإن كانت تصرفاته -أحياناً- غير ذلك، لكنه مجبول ثابت في فطرته أن الكلمة الأخيرة الفاصلة لله تبارك وتعالى في كل شيء، فمن الجائز أن يقول العبد: فلان الطبيب شفاني، فأكد إبراهيم عليه السلام إن الذي يشفي ويرفع المرض هو الله تبارك وتعالى لا غيره.
هذه القضايا الثلاث التي ذكرها إبراهيم مشتركة بين العبد وبين ربه، العبد له جزء من المعنى والله تبارك وتعالى له جزء ٌ آخر، أما القضية الأخيرة فلا خلاف بين جميع العباد عليها فلم يؤكدها، وهي: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) لم يقل: فهو يحيين لماذا؟ لأنه لا خلاف بين العباد كلهم أن الذي يحيي ويميت هو الله تبارك وتعالى، وهذا نفي من إبراهيم عليه السلام للسبب، وللواسطة.
لذلك كان التفات القلب إلى هذه الأسباب قدحاً في توحيد العبد، ويجب أن لا يلتفت القلب إلى السبب، وليكن يقيننا أن الذي يجعل التأثير في الأشياء هو الله تبارك وتعالى وحده، كما قال عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، رمى: الأولى بمعنى أصاب، ورمى الثانية بمعنى سدد الرمية، ورمى الثالثة بمعنى أصاب، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، ليس لأنك سددت الرمية، بدليل أن العبد قد يصاب برصاصة في عنقه فيموت، ورجل آخر يضرب برصاصة في نفس الموضع فلا يموت، فإن كان لابد أن يموت إذا جاءت الرصاصة في هذا الموضع لمات كل من أصيب بها، لكن إنما يصيب الله تبارك وتعالى، ليس لأنك أحدثت الأثر، لا.
إنما الله تبارك وتعالى هو الذي أحدث الأثر.
ومن العجائب، هذا القلب الذي يُعد ملك البدن، إذا اجتمع القلب وجدت في أعضائك قوة، وإذا تفرق همك وجدت في أعضائك الخور كله، لذلك همة العبد إنما تكون باجتماع قلبه، فإذا اجتمع قلبك اجتمعت جوارحك تبعاً للقلب، أليس هو ملك البدن، هذا القلب الذي قوام حياتك به، لو توقف لمت، فتصور أن قلبك الذي تتحرك به أنت لا تملكه، أليس هذا من أعظم دلائل العجز؟ ومما يدل على أن العبد لا يملك قلبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء) وكان أكثر دعائه يقول: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان قسمه الذي يكثر أن يقسم به يقول: (لا.
ومقلب القلوب).
ومثالاً على ذلك -من الواقع-: ألم تحب إنساناً يوماً ما حتى غُلبت على حبه، وكدت تهلك في حبه، فقيل لك: انْسَ، قلت: لا أستطيع، تمضي في أقصى مكان في الأرض، والذكرى لا تفارق قلبك، لو كان قلب العبد بيده، لما كفر طرفة عين، لكن ليس قلبه بيده، وهذا من أعظم دلائل عجزه وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى، أليس هو صندوق الإخلاص في البدن، ومحل السر فيه، وفيه ما لا يمكن للإنسان معرفته حتى مع تطور علم التشريح، على سبيل المثال العلقة التي استخرجها الملك من قلب النبي عليه الصلاة والسلام علقة محسوسة ترى وتمس باليد، هل يستطيع إنسان على وجه الأرض إذا شَرَّحَ القلب أن يحدد موضعها، سر عظيم من أسرار الله تبارك وتعالى في بدن العبد.
فإذا التفت هذا الملك -ملك البدن- إلى الأسباب هلك العبد، إذاً هو إنما بقلبه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ألا وهي القلب).(75/5)
وجوب الأخذ بالأسباب وعاقبة إهمالها
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع؛ لأن كل شيء في الكون لا يتم إلا بسبب من العبد، ولا يوجد شيء في الكون إلا له سبب.
ومن ألطف ما يذكر في ذلك قوله تبارك وتعالى لـ مريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، تصوروا نخلة مثمرة وجاء أربعون رجلاً من أشداء الرجال فهزوا النخلة هل تنزل تمرة؟ تهتز النخلة ولا تسقط شيئاً، فكيف بامرأة نفساء، والمرأة إذا وضعت تكون أضعف ما يكون، إذ تكون قد فقدت كل قواها، لذلك عظم حقها على أبنائها كما في الأدب المفرد بسند قوي أن رجلاً حمل أمه وطاف بها حول البيت وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لن أذعر يقول: أنا بعير لها أحملها وأطوف بها، ولا أذعر كما تذعر البعران، ثم ذهب إلى ابن عمر، قال: يـ ابن عمر! أتراني وفيتها؟! قال له: لا.
ولا بزفرة والزفرة التي هي الآه التي تطلقها المرأة أثناء الولادة، أو الصراخ الذي تصرخه حال الولادة، أي: مهما فعلت لها لن توفيها حقها ولا بزفرة من زفراتها.
فما بالكم بامرأة نفساء تهز النخلة، هل يمكن مع ضعفها أن تهتز النخلة؟ لا يمكن ذلك، وإنما كان هذا الأمر إشارة لطيفة إلى ضرورة الأخذ بالسبب، وقد أحسن الشاعر جد الإحسان لما نظم هذا المعنى، فقال: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن كل رزق له سبب فهذه امرأة نفساء وهي أعذر ما تكون إذا تركت الأخذ بالأسباب، وذلك من أعظم الدلالة على أنه لابد أن يأخذ العبد بالسبب.
وإن العبد إذا قصر في الأخذ بالسبب عوقب بحرمان الثمرة، مثلاً: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فالسبب الذي إذا أراد المسلمون أن تأتلف قلوبهم يجب أن يأخذوا به هو أن يسووا صفوفهم، فإذا لم يسووا الصفوف نفرت القلوب، فتسوية الصف سبب من أسباب اجتماع القلوب، فلما قصر المسلمون في ذلك، نفرت قلوبهم، يصادف أن يصلي رجل بجوار رجل آخر بينهما شحناء، تصور أنهما يخرجان من الصلاة أشد كدراً من دخولها، يقول لك: أنا أول ما رأيته قلبي انقبض، ما نفعتك صلاتك إذاً، وقفت في الصلاة وقلبك في الشارع، هل صفّت الصلاة الشحناء التي في قلبك؟ وآخر صلى وهو هادئ الأعصاب، وخرج منها يتضور، أي صلاة هذه؟ أي صلاة هذه؟! ذهب رجل إلى أحد المفتين وقال له: أرأيت إن صليت إلى جانب رجل عن يساري وأنا أبغضه، تُرى ماذا أفعل؟ قال: يكفيك تسليمة واحدة، حتى لا ينظر إلى هذا الذي يبغضه عن يساره.
لم يأخذ العباد السبب فمنعوا الثمرة.
إن هذه الصلاة شرعت خمس مرات في اليوم حتى لا يصاب أحد بضغناء ولا شحناء على أحد، تُرى هل ينعقد قلبك على كره إنسان إذا كنت في كل يوم خمس مرات تلتصق قدمك بقدمه وكتفك بكتفه، لكن نحن عجزنا عن استثمار هذه الصلوات، فلما قصرنا في الأخذ بالسبب منعنا الثمرة التي من أجلها شرعت صلاة الجماعة، وهو أن يجتمع المسلمون على قلب رجل واحد.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا(75/6)
وجوب تسوية الصفوف ومخالفة كثير من المسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من الأشياء التي ينبه عليها بمناسبة الكلام على السبب وأنه يجب على كل إنسان أن يفعل ما أُمر به: أولاً: هذا الخط الموجود على الأرض في المساجد لتسوية الصف -زعموا.
-.
هذا أولاً هو بدعة ثانياً: لماذا وضع هذا الخط على الأرض؟ وضع بعدما قصر الإمام في أداء مهمته، فتراه يقول للناس: استووا وظهره باتجاههم، أو يقول: استووا، قبل أن يقوم الناس إلى الصفوف، ولا يقفون في الصف إلا وقد بدأ يقرأ في الفاتحة، وهذا لا ينبغي، إنما المفروض أن يفعل الإمام ما هو مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويته للصفوف وحث الناس على ذلك، وهذه هي مهمة الإمام، وللأسف تجد عند كثير من المسلمين أن الإمام لا يطبق سنة تسويته للصفوف، وإذا لم يكن حاضراً يتدافع الناس كل يدفع غيره للإمامة، ويمتنع عن التقدم ولو كان عنده علم، وقد يتقدم جويهل لا يعرف السنة.
وبالمقابل أناس يحرصون على الإمامة على جهل بالسنة، وهذا شيء عظيم خطير؛ لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الاندفاع إلى الإمامة، بسبب خطرها وجسامة منصبها، وإننا قصرنا جداً في فهم ما يناط بنا، لدرجة أنك لو دخلت مسجداً من مساجد المسلمين، وصادف أن الإمام غائب أو أن المسجد ليس له إمام راتب، تنظر العجب، كل واحد يعزم على الثاني يقول له: تفضل، والآخر يقول: لا -والله- أنت تفضل، وقد يتقدم من ليس له علاقة أبداً بالإمامة، وقد يكون أول مرة يصلي بالناس، مع أن المفروض في الإمام أن يكون فقيهاً، يعرف أحكام الصلاة، ويعرف ما ينبغي في الصلاة، لكن هذا يدخل وليس عنده فكرة عن الصلاة.
وفي ذات مرة تعازموا أيضاً على نفس المنوال، وكان هناك واحد رآهم يتدافعون فحسم الموقف ودخل هو، وبعد وذلك التفت إليهم وجعل يفرك في يديه، ما هو الذي يقوله الأئمة قبل الصلاة؟!! يسأل نفسه.
وهي يقصد قولهم: استووا واستقيموا، لكنه لا يعلم ذلك لأنه لا يحضر الجماعة وإنما دائماً غائب، فقعد يفرك يده ويفكر في نفسه: ماذا يقول الأئمة قبل الصلاة؟ فقال لهم أخيراً: (جاهزين يا رجالة؟ نعم يا معلم!) تصور عندما يكون هذا هو الإمام، مع أن الإمامة شأنها عظيم كما ورد في سنن الدارقطني، قال: (تخيروا أئمتكم فإنهم وفدكم إلى ربكم).
أي: أن الإمام كأنه هو رئيس الوفد معك إلى الله، فلابد أن يكون قدوة في فقهه وعلمه وأخلاقه، كما أننا لو عيَّنّا شخصاً أنوك (أحمق) نجعله لنا رأساً، ماذا يقول الناس عنا؟ وكذلك أي دولة عندما تختار سفيراً، فإنها تختاره حسب أعلى المستويات لأن هذا السفير لو كان سيئاً في تصرفه سيؤدي بسمعة الدولة في الحضيض، فلازم أن يكون السفير ذا ذوق، متكلم، مجامل إلخ هذه الصفات التي يتطلبها عمله.
وعليه فوفدنا إلى الله في الصلاة إذا كان رأسه لا يدري شيئاً، فهذا إزراء بكل المصلين؛ لأن الرأس إذا لم يكن مستقيماً أزرى بكل مرءوسيه.
ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة، جاءت بعض القبائل تهنيه، فقبيلة من القبائل أرسلت وفداً يرأسه شاب، فدخل الشاب يهنئ عمر بن عبد العزيز بالخلافة، فكأنه استصغره، ووجد أنه ليس أسن القوم، قال: يا بني! أما وجدوا من هو أكبر منك؟!! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كانت المسألة بالسن لكان هناك من هو أولى منك بالخلافة، قال له: أفلحت.
فالرأس مهم، إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام شدد ولفت النظر إلى الصف الأول وأكد على فضله وأهميته فقال: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى)، فما بالك بالإمام، يجب أن يكون أولى بهذه الصفات السامية من الصف الأول؛ لأنه (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن استووا فأعلمهم بالسنة، فإن استووا فأقدمهم هجرة، فإن استووا فأكبرهم سناً) يعني: إذاً المفترض أنه لا يوجد في الصف الأول أحد يساوي الإمام، طالما والمسألة مفاضلة، وبعد ذلك يليه في الفضل الصف الأول، وهذا هو المفروض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، فإذا كان إمامهم يقول لهم: (جاهزين يا رجالة!) تصور للصف الأول كلهم (معلمين) إذاً، يعني: ليس فيهم أهل أن يقف في الصف الأول فضلاً عن أن يكون إماماً، الصف الأول يجب أن يكون فيه أولوا الأحلام والنهى لماذا؟ لأنهم أدرى الناس بما يلابس الإمام في الصلاة حتى لا يختل نظام الصلاة، ولك أن تتصور -مثلاً- أن الإمام وهو في الركعة الأولى اكتشف أنه ليس متوضئاً، ماذا يفعل؟ المفترض أنه ينسل ليستخلف ممن وراءه ويذهب يتوضأ ويرجع ويصلي مأموماً مع الإمام الجديد.
والإمام الجديد الذي استخلفه يبني على ما مضى من الصلاة يبني على ما مضى في الركعات وليس في القراءة، أي ليس بالضرورة إذا كان الإمام يقرأ في سورة معينة أن الإمام المستخلف يأتي فيواصل القراءة من نفس السورة، إنما يبني على ما مضى أي في عدد الركعات، فإذا كان الصف الأول ليس فيه من هو أهل للإمامة، فتصور كيف يكون نظام الصلاة.
ذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين في فصل الحمقى والمغفلين من الأئمة، أن شخصاً اكتشف في الركعة الثانية أو الثالثة أنه ليس متوضئاً فشد شخصاً ممن وراءه وذهب ليتوضأ، ثم إن هذا الإمام المستخلف، وقف لا ينطق لا يتكلم لا يتحرك، فلما يئسوا منه شدوه وقدموا رجلاً آخر، فأتم الصلاة، وبعد الصلاة سئل الثاني: لماذا لم تفعل شيئاً؟ كيف وقفت ساكتاً؟ قال ظننت أن الإمام يقول: احفظ مكاني حتى أجيء.
فالمفروض أن يحرص على الصف الأول أفضل الموجودين، ثم إن التخلف عن الصف الأول ليس من الورع، فقد يقول لك قائل: صليت في الصف الأول كأني أزكي نفسي، هذا ورع كاذب، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يتأخر عن الصف الأول، فقال كما في الصحيح: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله).
لا يوجد ورع في هذه المسألة، الصف الأول لا يوجد فيه شيء اسمه ورع، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو علم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) لو دخل رجلان فوجدا فرجة في الصف الأول حضهما على أن يستهما عليه -أي: يعملان قرعة- من الذي يصلي في الفرجة التي بقيت في الصف الأول؟ إذاً: كيف يتخلف الإنسان عن الصف الأول؟! فالواجب أن يكون أفضل من في المسجد هم الذين يحرصون على الصف الأول.
فلما كان أئمتنا هكذا، لا يعلمون شيئاً عن واجباتهم في الصلاة، فهذا هو الذي جعل الناس يضطرون إلى الخط الذي يوجد على الأرض والسبب هو أن الإمام غائب عن مهمته.
والمفروض على الإمام أنه لا يقيم الصلاة حتى يطمئن إلى تسوية الصف، ونحن حاولنا أن نفعل هذا فضج المصلون، لنا شهران أو ثلاثة ننبه حول هذا الموضوع، ولا توجد أية فائدة لم يستطيعوا أن يستسيغوا الموضوع، وغاية ما يريد أحدهم أن يصلي ويخرج مسرعاً كأنه مسجون.
في صلاة الجمعة المفروض على الإمام ألا يصلي حتى يذهب إلى آخر صف ويجدهم استووا تماماً، أو يرسل شخصاً يسوي الصفوف، ثم تبدأ الصلاة، حاولنا عبثاً مع جماهير المصلين، وكل مرة ننبه، ونقول: نحن وإن تأخرنا خمس دقائق لكي نسوي الصفوف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال كذا وكذا، ومن أثر تسوية الصفوف أن تلتئم القلوب، وتحاول اقناعهم، (وأول ما تخلص الصلاة يقوم فلان من الناس ويصيح قائلاً: حبستمونا ممن أعمالنا.
فمتى تلتئم القلوب، وهو مع ذلك يقف على باب الجامع ربع ساعة ونصف ساعة يتكلم فيما لا يفيد، أما بين يدي الله، فهو عجل، يتعجل الفراق، أنى يفتح لمثل هذا؟ ونكرر أن هذا الخط الذي على الأرض هذا، إنما كان بسبب عدم أخذ الإمام بما يجب عليه، التفات القلوب بعضها عن بعض إنما كان بسبب أننا لم نأخذ بما وجب علينا من السبب، لذلك منعنا الأثر، نحن نقول للمسلمين: الأخذ بالسبب ضروري، لكن يجب أن نعلم أن السبب ليس مؤثراً دائماً وإنما بمشيئة الله كما ذكرنا ذلك، بل أنت قد تفعل كل ما في وسعك ولا تصيب الثمرة، لماذا؟ لعدم إخلاص القلب، فلو علم الله تبارك وتعالى منا أننا صرنا عبيداً له أعطانا الثمرة، ولو بأقل مجهود، ليس دائماً، لابد أن تحسن عملك مثلاً 100% لتصيب الثمرة 100%، لا.
فيمكن أن تكون ضعيفاً، وجهدك لا يصل إلا إلى 20% فقط، ويتمم لك الله الثمرة 100% لماذا؟ لما علم من حسن توجهك، ولا يلومك على العجز، لأنه فوق طاقتك وإمكانك.
إنما أنبه على ذلك حتى لا يلتبس المعنى إذا قرأ واحد منا حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على رجل، فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا علي الرجل، فردوه، قال: ماذا قلت؟ قال: قلت حسبي الله ونعم الوكيل، قال له: إن الله يلوم على العجز، ولكن إذا غلبك شيء فقل حسبي الله ونعم الوكيل).
إن الله يلوم على العجز، العجز هنا هو الحمق وسوء التصرف، فإذا أساء العبد التصرف بحمقه، فلا يلومن إلا نفسه، إنما إذا سلك الأسباب كما أمر فغلب على ذلك فليقل حسبي الله ونعم الوكيل.
(إن الله يلوم على العجز) العجز هنا هو الحمق وسوء التصرف، بخلاف الكلام الذي أنا أذكره، الذي قلت: إن الله تبارك وتعالى إذا عجز العبد لا يلومه، أي: إذا عجز العجز الذي هو ضد الإمكان؛ لأنه إذا لم يستطع أن يفعل فإن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها.(75/7)
العبودية لله تعالى سبب للتمكين
كثر كلام المتكلمين في أسباب ضعفنا، وأننا لم نأخذ بالقوة المادية المجردة عن القيم والمبادئ، أصخوا أسماعنا بأن الغرب سبقونا بأقمار التجسس وسبقونا بحرب النجوم وسبقونا بهذه الأشياء، ونحن لابد أن نكون على منوالهم، وصاروا يدندنون على ذلك ونسوا أهم خطوة في الموضوع.
منذ عدة أشهر علا موج المحيط، ودخل هذا الموج العاتي على ولاية فلوريدا الأمريكية، فكانت الخسائر المبدئية ثلاثين مليار دولار، بعدها بأسبوع، علا موج المحيط، فدخل على مدينة هاواي الأمريكية، مدينة الدعارة، فكانت الخسائر المبدئية خمسة مليارات دولار، فكان المجموع خمسة وثلاثين ألف مليون دولار، في كم؟! في نصف ساعة! عدوك إذا أراد الله أن يهلكه كم من الوقت يأخذ؟! لكن بعد أن تكون عبداً لله، كلٌّ منا يسأل نفسه: هل أنا عبد لله فعلاً؟ هل استطعت أن أعبّد نفسي وأهلي لله فعلاً؟ أيها الصارخ! حنانيك، يا أيها الذي تريد أن تحكم العالم غداً! رويدك إن شيطاناً بداخلك، إنك عاجز أن تأمر امرأتك بالحجاب، إنك عاجز أن تأمر بناتك بالحجاب، أنت عاجز أن تأمر ولدك أن يصلي، تريد أن تحكم العالم غداً، وأنت عاجز أن تحكم أسرة، لا تستطيع أن تقيمها، وتريد أن تحكم العالم، إذا صرنا عبيداً لله، حكمنا العالم.
المسلمون في مكة، ماذا قال الله لهم؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] بالله عليكم أنحن أقمنا الصلاة؟ خمس دقائق نقولها للمسلمين صبروا أنفسكم حتى نسوي الصف، يزمجر كثير منهم، أهذه هي إقامة الصلاة، لابد أن نكون عبيداً لله أولاً، فإذا ما صرنا عبيداً لله، مكّن لنا، كيف يُمكَّن لنا في الأرض ونحن لم نطبق الشرط المطلوب منا للتمكين، وهو: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، تصور لو مكن لبعض المسلمين الآن، أو بعض الدول الإسلامية، أو التي تزعم أنها إسلامية، أيكون حالهم أحسن من حال الكفرة الممكنين حالياً في الأرض؟!
الجواب
لا.
إن الله تبارك وتعالى لا يحابي أحداً من عباده، أبداً، ولو حابى أحداً لحابى أنبياءه في ذويهم، كما قال تعالى لنوح في ابنه {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه، مع أنه خرج دامع العينين لما نهي أن يستغفر لأمه، كيف لا؟! والله تبارك وتعالى كان يقول له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أسفاً هنا مؤخرة في السياق: أي لعلك قاتل نفسك أسفاً على آثارهم لأنهم لا يؤمنون بهذا الحديث، من شدة شفقته صلى الله عليه وسلم على الناس يكاد يموت من الحزن عليهم لأنهم لا يؤمنون، فكيف بأمه التي ولدته، لو أن الله يحابي أحداً لحابى أنبياءه في ذويهم، لكنه لا يحابي أحداً، ألم يقل تبارك وتعالى: (إني حرمت الظلم على نفسي)، ولو ظلم -وحاشاه- لما سأله أحد، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، فنحن ما قمنا بما يجب علينا من الأخذ بالسبب في العبودية، فلم يقم لنا القلب، لذلك صرنا أذلة في كل مكان.
كثير من الذين يحاضرون، يتكلمون عن أسباب ضعف المسلمين، والتنبيه عليه واجب، لكن ألفت النظر إلى شيءٍ خطير يقعون فيه غالباً، وهو أنهم يأخذون جل المحاضرة في عرض السيئات، وفي عرض أسباب الخلل، ثم يذكر العلاج في خمس دقائق، فينصرف الجماهير، وعندهم أسى وشعور قاتل بالهزيمة، لا يوجد لديهم العلاج، لأن المحاضر تكلم ساعات في أسباب ضعفنا، وبعد ذلك رأى أنه بقي من الوقت خمس دقائق، وبدأ يذكر العلاج بإيجاز: تقوى الله وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله حسناً: الجماهير ليس عندهم تصور لتقوى الله، وإنما الذي لديهم فقط تصور لأسباب الخلل، تماماً مثل المسلسلات العربية، تتكون من أربعة عشر حلقة ونصف يعرض فيها كيف أن اللص يكسر الأقفال ويسرق البنوك، وبعد ذلك قبل ما الخمسة عشر حلقة تنتهي بربع ساعة ينتهي المسلسل بأن اللص قبض عليه، وبعد ذلك يقول لك حقاً: إن الباطل زاهق وبعد ذلك ينتهي المسلسل.
فالنتيجة أن كل الجماهير التي تفرجت عرفت بعد هذا المسلسل كيف تفك الأقفال، لكن مسألة أنها تتوب وتعرف أن الحق غلاب وتتشبع بالرادع عن الجريمة، ما صار عندها أي تصور لذلك لأنه طرح في خمس دقائق فقط.
تصور مثلاً جيلاً مهزوماً كجيلنا الآن وجيل آبائنا الذي تجرع جميع الهزائم، فعندما يقال: لدى أعدائنا ألفي إذاعة وأربعمائة مجلة وخمسمائة جريدة، وأربعين قمراً صناعياً تُصوِّر حتى (الفانلة) التي أرتديها.
أنا رجل ليس عندي شيء إطلاقاً، فما المتوقع مني بعدما أسمع هذا؟ المتوقع مني هو أن أصاب باليأس، إذ أن هناك أربعين قمراً صناعياً فوق منطقة الشرق الأوسط يراقبون حتى ما ألبسه فماذا أفعل؟ أبدل أن أعمل سقف البيت بسمك عشرة سنتمترات أعمل سقف البيت بسمك متر؟ لأنني وأنا أمشي أحس أنني مكشوف، لو خطر ببالي يوماً ما أن أنتفض وأثأر لكرامتي سأعلم أنني مكشوف، فأقول في نفسي، وماذا أفعل وأنا مكشوف، فأستسلم للأمر الواقع، وأصاب بالإحباط.
نحن نقول للذين يلقون محاضرات في مساوئ المسلمين الآن وأسباب الخلل: (إذا عرضت أسباب الخلل جملة وفصلت العلاج أصبت) فعندما تُعلم الناس كيف يكونون عبيداً لله هنا نقول: أصبت، لأنك عند أن تعرض أسباب الخلل وليس في يديك العلاج لا يكون لذلك العرض قيمة، لأن غاية قولك تعريف المستمع أنه ضعيف وإقناعه بذلك، وأنت تنازع أنك ضعيف، أنا وأنت نعرف أننا ضعفاء، لكن يا أخي! كيف سبيل العلاج، لا أريد أن أسمع أسباب الخلل، نحن نعرفها، أعظم أسباب الخلل أننا لسنا عبيداً لله.(75/8)
خطوة في طريق التمكين
من أعظم أسباب النصر: أن نرجع عبيداً لله تبارك وتعالى، فلما تركنا هذا السبب، حرمنا ثمرة التمكين، مثالاً على ذلك بعض الجماعات في أنحاء العالم مر عليها خمسون سنة، وأخرى ستون سنة وأخرى مائة سنة تسعى حثيثاً أن تقيم دولة في أي مكان في الأرض، أو أن يكون لها كيان في أي مكان في الأرض، ومع ذلك عجزوا جميعاً.
النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه صنعوا دولة بإذن الله في عشر سنوات، هي مدة مكث النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، لماذا استطاعوا فعل ذلك بهذه السرعة؟ لأنهم فعلوا ما يجب عليهم من تعبيد أنفسهم لله تبارك وتعالى، فلما نظر الله تبارك وتعالى إليهم ووجدهم أهلاً لذلك مكن لهم.
فنحن إذا أردنا التمكين فلا نهتم بشيء إلا أن نكون عبيداً لله، افعل ما يمكنك فعله، أنت بإمكانك أن تعبِّد امرأتك تعبِّد أولادك تعبِّد نفسك لله، هذا بإمكانك، لكن ليس بإمكانك أن تخضعني لأنني قد أغلبك، لأنني صعب المرام، لكن امرأتك لك عليها ولاية أولادك لك عليهم ولاية، كيف تركتهم هملاً، ثم تريد أن تقيم الدين علي أنا، لو أن كل إنسان انشغل بتعبيد أولاده وأهله لله تعالى؛ ففي بضع سنوات يمكِّن الله تبارك وتعالى للمسلمين، مثلما مكن لأسلافهم.
نسأل الله تبارك أن يعبدنا وأولادنا وذوينا له، تبارك وتعالى إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(75/9)
تمكين الله للصحابة لتحقيقهم العبودية لله تعالى
الصحابة الأوائل يجسدون الصورة الحقيقية للإسلام قلباً وقالباً، هذا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر إلى قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين فاختار أصحابه له) فهؤلاء الأصحاب كانوا من اختيار الله له صلوات ربي وسلامه عليه، فأصلحهم الله تبارك وتعالى لصدق عزمهم ومسابقتهم إلى فعل الخيرات.
ولو أننا فعلنا ما أمرنا به، لصدقت فينا بشارة ربنا وكنا لها أهلاً، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] لا شك أنه بيننا من يلبس خاتم الذهب أو دبلة الذهب، فإذا قلت لهذا اللابس: أيها الأخ المسلم! إذا سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك: هذا حرام عليك أن تلبسه، ماذا أنت صانع الآن، هل تمد يدك فتنزعه -في خفة- وتضعه في جيبك، وتقسم أنك لا تلبسه بعد ذلك، كم من المسلمين الآن يمد يده ينزعه، بينما ترى بعض المسلمين لا يفعل، فإذا سئل: لماذا؟ يقول: زوجتي تغضب!! مهلاً أيهما أشد وقعاً في قلبك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام أم غضب الزوجة، ماذا تفعل؟ أنا لا أتصور إلا أن يجيب بـ () لكن، وبعد لكن يهدم ما قاله قبل ذلك.
وتصور لو أن النبي عليه الصلاة والسلام موجود الآن، ورآك أيها المسلم تلبس الذهب، فقال: اخلع عنك هذا، ماذا تفعل، أنا أعلم أنك ستبادر -أيها المسلم- وتقول: أخلعه فوراً، فأقول: ما الفرق بين وجوده عليه الصلاة والسلام أمامك يأمرك وبين أن يصلك كلامه؟! ما هو الفرق؟! لا فرق.
وهذه صورة مماثلة وأسوة مشرقة ساطعة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وعليه حلة حمراء، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أعرض بوجهه عنه -الصحابة طبعاً يعلمون جيداً- إن الإعراض بالوجه لم يكن من خصاله عليه الصلاة والسلام، كان إذا رأى العبد هش وبش، حتى قال القائل: (من خالطه أحبه، ومن لم يخالطه هابه)، كنت إذا سلمت عليه تحس أنك صديقه الوحيد، تحس بألفة وتحس أنه احتواك قلبه لأنه يقبل عليك بتمام وجهه عليه الصلاة والسلام.
فالصحابة لم يتعودوا أنه يعرض عن أحد منهم، فلم يسأله لماذا أعرضت عني؟ إنما نظر إلى نفسه وأدرك أن عيني النبي عليه الصلاة والسلام ثبتت قليلاً على قميصه الأحمر، فرجع إلى البيت، فوجد أهله يسجرون التنور-الفرن- وعلى الفور خلع قميصه الأحمر ورماها في الفرن، ثم لبس حلة أخرى ورجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأقبل عليه بوجهه وقال له: ماذا فعلت؟ -أي بثوبك- قال: سجرته التنور، قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل له: كيف تلبس الأحمر؟ لا.
مجرد ما يحس الصحابي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب هذا، كان على الفور ينفيه، ولذلك سادوا.
صورة أخرى: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة عليه -لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل على أبي أيوب - كان الرسول عليه الصلاة والسلام نزل في دار أبي أيوب في الدور الأرضي وأبو أيوب جهد أن يقول له: اطلع يعني اصعد في الأعلى، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي) لكن أبا أيوب الأنصاري بينما هو يمشي بالليل إذ فزع، وقال لنفسه: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله)، ورأى أن هذا من سوء الأدب أنه يمشي على سقف الرسول تحته عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح أقسم عليه أن يصعد، وقال: (والله لا أعلو سقيفة أنت تحتها).
وكان أبو أيوب الأنصاري، يرسل إليه الطعام، ولا يأكل هو وامرأته إلا بعدما ينزل الطعام، فيتحرون مواضع أصابعه وفمه فيأكلون منها، فأرسلوا إليه ذات يوم طعاماً به ثوم، فلم يأكل منه ورجع الطعام كما هو، قال أبو أيوب: (ففزعت وصعدت إليه، وقلت: يا رسول الله! لِمَ لم تأكل؟! أحرام هو؟ قال له: لا.
ولكني أناجي من لا تناجي -أي جبريل عليه السلام- وإن الملائكة لتتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فقال أبو أيوب: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) أي: كيف أحب شيئاً أنت تكرهه برغم أن البصل حلال، وهكذا الصحابة كانوا على هذا المنوال.
وهذا سعد بن معاذ (لما استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه في شأن غزوة فقام المهاجرون فتكلموا وأحسنوا، والرسول ساكت عليه الصلاة والسلام، ففطن إليها سعد بن معاذ -ذاك السيد الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات- فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا، وكان صلوات ربي وسلامه عليه يريد أن يعرف رأي الأنصار أصحاب الدار والإيمان، قال: يا رسول الله! صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت ودع ما شئت، ووالله! ما أخذت أحب إلينا مما تركت).
أرأيتم الرجال؟ فقوم بهذه الصورة كيف يهزمون؟! كيف يتخلف عنهم نصر الله وهم هكذا؟!! في غزوة بدر التي خرج المسلمون إليها ضعافاً على غير أهبة قتال، قال الله تبارك وتعالى لهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، والملائكة -فقط- لو دخلت في حرب لدعم جيش ما فهو منتصر يقيناً، لا شك في ذلك ولا ريب، لاسيما إذا كان فيهم جبريل عليه السلام، الذي ورد في بعض الآثار أنه قلب قرى قوم لوط بطرف جناحه، ولما دعا النبي ربه تبارك وتعالى في بدر كان يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إنه إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ما إن دعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى علت ثغره ابتسامة -وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، كما يقول كعب بن مالك - وقال: يا أبا بكر! أبشر هذا جبريل نزل معتجراً بعمامته راكباً فرسه، وأول ما رأى جبريل على ثناياه النقع -أي: الغبار- قال له: أبشر) يعني أبشر بالنصر، فالملائكة إذا تحيزت إلى جيش انتصر، والسبب أنه يوجد مقتضى نزول النصر وهو ما تقدم من تحقيق العبودية قدر الإمكان.
إذا صرنا مثل الصحابة نلنا ما نال الصحابة من النصر ومن العون.
إن الغربة علينا في هذه الأيام أشد من غربة الصحابة الأوائل في مكة، إي والله أتدرون لماذا؟ لأن الصحابة يوم كان يقسوا عليهم كفار قريش، كانوا يعتصمون بإيمانهم، كانوا إذا آذوهم اعتصموا بالإيمان بالله فخف عليهم البلاء، أما نحن الآن ينزل علينا البلاء وليس عندنا من الإيمان ما نلجأ إليه عند نزول البلاء، فلذا غربتنا مضاعفة.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ هذا من أجود ما قال المتنبي، ذكر بعض العلماء القدامى بسنده أنه قال: قلت للمتنبي: هل ادعيت النبوة؟ قال: ذاك شيءٌ كان في الحداثة، قال له: وما آية نبوتك؟ أي: هل معك آية تبين أنك نبي؟ فقال: نعم ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ فكأن المتنبي يقول هذا أجود ما قلته، لدرجة أنه يعرضه كما لو كان وحياً.
وفي الواقع يضطر الإنسان في زمان الغربة مع عدم وجود الإيمان الذي يعتصم به أن يداهن الذي يكره، يداهن عدوه، لأنه ليس عنده من القوة ما يستطيع أن يكون له الغلبة.(75/10)
صفات أهل الجنة وأهل النار
إن الله سبحانه وتعالى ابتلى المؤمنين بمجاهدة الكافرين، وبين لهم أن الحرب سجال، ولكنه عز وجل وعد عباده أن الغلبة والنصرة لهم في الدنيا والآخرة.
وقد بين الله عز وجل الصفات التي يتصف بها العباد ليكونوا من أصحاب الجنة، التي يتصف بها من يئول مصيره إلى النار.(76/1)
شرح حديث (خلقت عبادي حنفاء)
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الإمام مسلم والنسائي وأحمد من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فكان مما قال في خطبته: ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، قلت: رب! إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة.
قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال.
قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، والذي لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب والفحاش والشنظير الفحاش).
قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).
إذاً: المسألة سجال، يبتلي به ويبتليه، ولكن الله عز وجل وعدنا؛ فقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] أي: في الدنيا والآخرة، فلابد أن يظهر هذا الحق مهما طال الزمان، فما هو السلاح الماضي الذي ميز الله عز وجل به نبيه وطائفته بحيث يغلبوا في النهاية في هذه الحرب.(76/2)
وجوب مجاهدة الكفار والمشركين
في هذا الحديث يقول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً.
قلت: رب! إذاً: يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزة) أي: يفتحون دماغي، كما يفتح الرجل رغيف الخبز إذا أراد أن يأكل، أي: لا طاقة لي بهم، والعدة والعتاد الذي معي لا يقاوم قريشاً بجبروتها وإمكانياتها.
حينئذ قال له: (استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغْزك -أي: نعينك على غزوهم- وأنفق فسننفق عليك) المسألة ليست مسألة خزائن ولا مال، فالذي ينفق عليه هو الملك سبحانه الذي له ميراث السموات والأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى سحاء ينفق كيف يشاء، انظر إليه كم أنفق منذ خلق السموات والأرض على عباده)، فإذا كان هذا الغني الذي لا منتهى لغناه، هو الذي يمده، إذاً: سيفلس عدوه وهو يقاتل؛ ولذلك قال: (وأنفق فسننفق عليك)، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، حسناً يا رب! هم الذين يعمرون الأسواق، وهم الذين يحضرون البضاعة، ونحن بالتالي نشتغل ونكسب، معنى (المشرك لا يقرب المسجد الحرام) فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28] فهذا وعد من الله.
ثم قال: (وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله)، أي: من الملائكة، وكما ورد في الأخبار أن الله عز وجل لما أمر جبريل عليه السلام أن يقلب قرى قوم لوط: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]، المؤتفكة: هي المنقلبة، قالوا: إنه قلبها بريشة من جناحه، فكيف إذا دخل جبريل المعركة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، أي: الملائكة ورب الملائكة، قال: (وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك).(76/3)
أصناف أهل الجنة
وقوله:: (وأهل الجنة ثلاثة)، هنا لا بد من وقفة أصولية مهمة، ونحن في أمس الحاجة لفهمها؛ لأن الجهلة الذين يعتدون على السنة يتكئون عليها، وما من مبطل يحتج بدليل صحيح إلا وكان في الدليل إهدار لاستدلاله لو كان يدري.
قال: (ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)، فهل هؤلاء هم الذين يدخلون الجنة فقط أو سيدخلها الألوف والملايين بألوف وملايين الأعمال؟ فما معنى حصر الكلام على هؤلاء؟ نقول: هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وعدهم، فهل هؤلاء هم الذين ينعمون بالظل فقط؟ لا.
فقد ثبت في أحاديث أخرى أن آخرين ينعمون بظل الله تبارك وتعالى.
فما معنى قوله: (سبعة) وعدهم، والأرقام قطعية الدلالة لا تحتمل تأويلاً، ولا يختلف العاد منها.
والعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن منجماً، ولو شاء الله لأنزل القرآن جملة واحدة، وإنما أنزل الله تبارك وتعالى الآيات مفرقة على رسوله صلى الله عليه وسلم رعاية للحوادث؛ ويكون للكلام مقتضى، فمثلاً ينزل قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فيسمع الآية أبو الدحداح رضي الله عنه، فيقول: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض، فيقول: نعم) ولأنه رضي الله عنه معظم لربه عرف معنى القرض بمعناه الصحيح، وليس أن ربنا فقير ويريد أن يقرضه أي أحد مثلما قالت اليهود عندما سمعوا هذه الآية، قالوا: إن رب محمدٍ افتقر.
وما ذاك إلا لأنهم كفار بالله لا يعظمونه، ومن يعبد العجل من دون الله خليق به أن ينسب كل نقيصة إلى ربه، لكن أبا الدحداح مسلم ومعظم لله، ففهمه على معناه الصحيح.
(قال: الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم.
قال: يا رسول الله! إن لي حائطاً فيه ستمائة نخلة، فما لي عند ربي إن أقرضته حائطي.
قال: لك الجنة.
قال: أشهدك أني أقرضته حائطي) فهذه آية نزلت بمفردها، وربما لو نزلت مع جملة السورة ما انتبه لها أبو الدحداح.
وكذلك ما حصل عند موت النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما شرع يلوح بسيفه ويقول: (من قال: إن رسول الله مات لأعلونه بسيفي هذا.
حتى جاء أبو بكر، فقال: على رسلك أيها الحارس، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، فسقط السيف من يده، وقال: والله لكأني ما سمعتها إلا الآن).
فهذه آية كان يقرؤها عمر لكنه لم يكن لها مقتضى عنده، لذلك مر عليها ولم يستطع أن يستحضرها لهول المصاب وجسامة الخطب، ذهبت عن باله.
وفائدة نزول القرآن منجماً: أنه يكون له مقتضى، وينفعل المسلمون له كما انفعل أبو الدحداح حين خرج وترك المجلس وذهب إلى امرأته، ووقف على باب البستان ولم يدخل، ونادى امرأته، وقال: يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي.
فقالت المرأة: ربحت البيح يا أبا الدحداح.
فخرجت المرأة بعيالها، ولم تراجعه ولم تقل له: يا رجل! لو كنت تركت نصف المال وأقرضت ربنا نصفه، كما يفعل كثير من الناس، إذا طولب أن يبذل شيئاً نظر إلى رأس ماله، ثم يقول: أعطيه الربع، أعطيه الثلث.
إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بلالاً يقول كلمة فأعجبته ورددها خلف بلال، سمع بلالاً يقول: (أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) فأعجبته الكلمة! والقرآن نزل منجماً؛ حتى يكون له مقتضى، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يستوفي كلامه كله على المسألة الواحدة في المجلس الواحد، وإنما كان يتكلم على مقتضى المجلس، فليس من شرط المتكلم إذا أراد أن يتكلم في مسألة أن يذكر كل ما يتعلق بالمسألة؛ فإن هذا أمر يطول، والإنسان ليس عنده من الوقت ما يكفيه لذلك، لكن حسبه أن ينبه على ما يقتضيه المقام.
أي: كلمة مجملة، وهذه الكلمة قد فصلها في مجلس آخر، فليس بالضرورة كلما قال كلاماً مجملاً أن يفصل فيه مرة أخرى، ولكن على المستدل إذا أراد أن يجمع المتفرق من الكلام حتى يستقيم له المعنى.
إذاً: مهمة الجمع -الأقوال كلها- إنما تكون على عاتق من يريد الاستدلال، وليست على عاتق المتكلم، إذ يصعب عادةً أن يتكلم المرء على المسألة في كل مرة بكل الكلام الذي يحيط بها.
فهكذا كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينزل الكلام على المقتضى، وإلا لو أخذنا كل حديث لوحده سنضيع الدين، واسمع هذه الجملة من الأحاديث، وخذ كل حديث وحده.
قال صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله قدميه على النار)، خذ هذا الحديث لمفرده، وخذ مثالاً: رجل لا يصلي، ولا يزكي، ولا يصوم، ولا يعمل شيئاً، ولما جاء الغزو ذهب وعفر رجليه، هذا الرجل هل سيحرم الله قدميه على النار وهو لا يصلي ولا يزكي ولا يعمل شيئاً، لكن حقق الذي ورد في الحديث.
قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فُواق ناقة وجبت له الجنة) (فواق ناقة): أي: بمقدار حلب الناقة، يعني: قاتل في سبيل الله ربع ساعة تقريباً فوجبت له الجنة.
حسناً هناك آخر قاتل في غزوة كاملة، وقتل ثمانية؛ ودخل النار، كما في الحديث الصحيح: (أن رجلاً رأوه في القتلى في آخر رمق، وكانوا قد تركوه كافراً، فلما رأوه بين القتلى، قالوا: يا فلان! مالك؟ ما الذي جاء بك؟ أأسلمت؟ فقال: لا.
إنما جئت حدباً على قومي).
عصبية، أتى ليحارب مع أولاد عمه، وهناك مثل جاهلي (أنا وابن عمي على الغريب) أي: عصبية.
وقد يقول قائل: هذا كافر والجنة محرمة على الكفار، فنقول: وهذا آخر مسلم، وكان شجاعاً وقاتل وقتل، فذكروه عند النبي صلى الله عليه وسلم: أنه شجاع، وأنه قاتل قتال الأبطال، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو في النار.
فقالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بعباءة غلها)، انظر الخذلان! عباءة سرقها من المغانم قبل أن توزع فدخل النار بها.
نعوذ بالله من الخذلان.
وقد يقول قائل: إذاً: أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تناقض بعضها بعضاً؟ فمن قاتل فواق ناقة وجبت له الجنة، وهذا رجل قاتل عشر ساعات تقريباً ودخل النار لأجل عباءة غلها.
فكان لابد من الجمع بين الأحاديث، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمين صبراً، أدخله الله النار وحرم عليه الجنة قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن قضيباً من أراك) أي: سواك.
وما قيمة السواك؟! ولو أن شخصاً أخذه من شخص آخر، وقال: هذا السواك لي، كان جزاء الرجل ما ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (أدخله الله النار وحرم عليه الجنة).
والخوارج يستدلون بهذا الحديث وما شابهه على تكفير المسلمين بالكبائر؛ لأنهم أخذوا هذا الحديث وحده.
والمتأمل في الحديث يجد أن هذا ذنب، وهو كبيرة من الكبائر، وقد وعد الله عز وجل عباده؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وكل وعيد في القرآن لا يتحقق إلا إذا أصر عليه صاحبه، ولم يتب منه، لأن التوبة تسقط الوعيد.
فإذاً: لا بد من جمع الأحاديث ومن ثم نحكم على المعنى كله، لا أن نأخذ حديثاً واحداً ونحكم به، فهذا عمل منكر عند جمهور العلماء، ويئول بصاحبه إلى الكفر، لأنه سيتهم رب العالمين بالتناقض والظلم تعالى الله عن ذلك.
وكذلك القرآن فيه آيات ظاهرها التعارض، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، يعني: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، هذا معنى الآية: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فليس عليك شيء من وزر أبويك، ولا من وزر أحد، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] يعني: أثقالاً أخرى.
أي: أنه سيحمل ما ارتكبه هو وما ارتكبه غيره فكيف نوفق بين الآيتين؟ نقول: كلام أهل العلم في هذا أوضح من أن يخفى على الجهلة، وهو أن المعني بهؤلاء الذين يحملون أثقالهم وأثقال غيرهم الذين أضلوا الناس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(76/4)
حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه من التحريف والتبديل
قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً).
ومن المعلوم أن النجاسات إنما تزال بالماء خصوصاً المائعات، شرعاً وطبعاً، فإذا أصاب ثوب أحدنا نجاسة، وأراد أن يطهر النجاسة بالزيت أو بالسمن مثلاً، وهما من جملة المائعات، فإن النجاسة لا ترتفع عن هذا الثوب شرعاً وطبعاً، ولو أراد أن يغسله باللبن لم ترتفع النجاسة شرعاً وطبعاً، وإنما يرفع النجاسة الماء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح يقول: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وكلها ترجع إلى الماء، فلما كان أعظم نجاسة يبتلى بها الإنسان، ويتلطخ بها الروح هي الذنوب، سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يغسل الذنب بالماء، مع أن الذنب عادةً لا يزال بالماء، وإنما ضرب لنا المثل تشبيهاً لتقريب الفكرة.
والنجاسات المحسوسة تزول بالماء، وأعظم النجاسات الذنب، فلما كان مستقراً في أذهاننا أن الماء هو الذي يزيل النجاسة سأل الله تبارك وتعالى أن يزيل الذنب بالماء، فلما قال له تبارك وتعالى في هذا الحديث: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء) أي: لا يُمحى أبداً، ولا يستطيع أحدٌ أن يزيله ولا يزيل تأثيره.
إن أعداءنا في محافلهم العامة، وفي مناقشاتهم الخاصة يجمعون أن زوال القرآن من أعظم أسباب انتصارهم وتمزيق هذه الأمة.
ونحن نقول لهم: إن الله عز وجل وعدنا في القرآن وكما في السنة أنه سبحانه الحافظ لكتابه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، استحفظ الله اليهود التوراة فخانوا وبدلوا، واستحفظ النصارى الإنجيل فخانوا وبدلوا، فلم يستحفظ المسلمين القرآن؟ لأنه كتاب مهيمن وخاتم وفرقان، والكل يرجع إليه، فلا بد أن يكون محفوظاً لا يتطرق إليه شك، وهذا وعد الله.
ولو أن رجلاً زاد في القرآن كلمة أو حرفاً لرد عليه آلاف من المسلمين في الأرض، ولا نعلم كلاماً قط في الأرض يحفظ كله ولا يغادر منه حرف إلا القرآن، وترى الطفل الصغير الذي لا يحسن المعاني، ولا يعرف حقيقة الكلام يحفظ كلام الله ولا ينساه.
وكثير من الناس الذين حفظوا (المعوذتين) في مطلع صباهم لا يعلمون تفسير كثير من ألفاظها، فلو قلت لأحدهم ما معنى: الفلق في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]؟ ربما تندهش لأن هناك رجالاً وصلوا إلى درجة الدكتوراه، وأناساً يدرسون، وأناساً لهم مناصب قيادية، ويحفظون السورة منذ ابتداء الكلام، ولا يعرفون معنى: الفلق!! فضلاً عن أن يعرف معنى (الغاسق إذا وقب) ونحن نعرف بداهة أن الكلام الذي لا ينطوي على معنى يزول، ولا يحفظه الذهن، فكيف حفظ الطفل هذا الكلام وهو لا يعرف له معنى؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] يحفظه الكبير والصغير، فهذا وعد من الله أن القرآن محفوظ.
وقوله في الحديث: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، إنما مثل القرآن بالماء لجملة المؤآمرات التي تحاك بهذا الكتاب لتمحوه كما يمحو الماء النجاسة، وشبكة الإنترنت كل يوم يظهر عليها قرآن مفترى، وقديماً افترى مسيلمة الكذاب قرآناً، وضحك العقلاء منه؛ لوشاشته وسماجته؛ ولأنه ليس له من المعنى والجلالة ما لكتاب الله عز وجل.
فيؤلف الحاقدون كل يوم قرآناً جديداً، فسورة (الكافرون) سيضعون بدلها سورة (المسلمون)، ويطعنون على المسلمين وعلى دين المسلمين، ويأتي أطفالنا الذين لا يميزون بين الشمال واليمين ويقولون: هذا كذب، فكتاب الله (لا يغسله الماء) ولا يستطيع أحدٌ قط أن يبدل فيه شيئاً، ولو حرفاً واحداً، وهذا هو أقوى عدة المقاتل: القرآن، لأن فيه الوعد الحق أن الله ناصره.(76/5)
فضل العلم وشرفه [1]
إن العلم هو أساس كل شيء، ولذلك فضل الله العلم وأهله، وامتن به على أنبيائه، ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يزداد من شيء إلا من العلم، ولشرفه فإنه القاضي على كل شيء في الدنيا، وهو سلطان القلوب، ولذلك لم يدخل أهل النار النار إلا بسبب الجهل، إذاً فالعلم هو الذي يحملك على خشية الله، ومن زاد علمه زادت خشيته لله، ومن خشي الله لم يعصه.(77/1)
فوائد قصص القرآن الكريم
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن أفضل سورةٍ في قصص القرآن هي سورة يوسف عليه السلام، فقد افتتح الله عز وجل هذه السورة بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، واختتمها بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].
ولما قص الله عز وجل علينا قصة أصحاب الكهف قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] ولما قص علينا قصة موسى وفرعون قال: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} [القصص:3]، وهذا معنى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111]؛ لأنه حق.
ويستدل بهذه الآية على تحريم التمثيليات، وإن كانت تهدف إلى الخير؛ لأنها كذب، وقد قال الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] لماذا كان أحسن القصص؟ لأنه حق: ((مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى))، يؤلفه المؤلف، ((وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: من القرآن، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [يوسف:111] إذاً: لا يقصص القصص لإملاء الفراغ ولا لتسلية الناس، ولكن القصص فيها ثلاث فوائد: أنها عبرة، وأنها هدى، وأنها رحمة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}، ثم قال: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} [يوسف:111] فهذه فوائد القصص.
وهذا هو الدرس الأول من قصة سليمان عليه السلام، كما قصها الله تبارك وتعالى علينا في سورة النمل، وقد انفردت بتفصيل قصة سليمان عليه السلام أكثر من أي سورة في القرآن.
وقد ورد في سورة (ص) بعض قصة سليمان عليه السلام، وفي سورة الأنبياء إشارةٌ أيضاً إلى قضاء قضاه سليمان عليه السلام في قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].(77/2)
فضل العلم وأهله
افتتح الله عز وجل قصة داود وسليمان في سورة النمل بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:15 - 17]، فذكر الله عز وجل في افتتاح القصة أنه فضل سليمان عليه وسلم بشيئين: الشيء الأول: العلم.
الشيء الثاني: الملك.
لكنه قدم العلم على الملك؛ لأن العلم هو رأس كل خير، فلا بد أن ينضاف إلى الملك العلم، وإلا صار شهوةً وأداةً للظالمين والظلم والطغيان، فافتتح الله عز وجل منته على داود وسليمان بالعلم.
فيكفي بشرف العلم: أن الله عز وجل أباح لك أن تأكل صيد الكلب المعلم، ونهاك أن تأكل صيد الكلب الجاهل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة:4]، فأنت لو كنت صياداً تصطاد الطيور، ومعك كلبٌ معلم، علمته أن يعرف الطير الذي اصطدته أنت بعلامة الرصاصة التي تكون في الصيد، فيذهب الكلب فيأتيك بهذا الصيد.
ففي حديث عدي بن حاتم في الصحيحين قال: (يا رسول الله! لو أني أرسلت كلبي المعلم -أي: الذي علمته أنا- فأتى بالصيد آكل؟ قال: كل.
قال: وإن قتلها؟ قال: وإن قتلها) أي: إن نزل الصيد وفيه رمق، ولم يمت من الرصاص، فأمسكه الكلب وقتله، فالذي قتلها إذاً هو الكلب وليست الرصاصة، فهو يسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن قتلها؟ -في حالة أن كلب الصيد قتلها- آكلها؟ قال: وإن قتلها).
ولكنه عليه الصلاة والسلام اشترط شرطاً: وهو ألا يكون معه كلب غير معلم، فأباح لك أن تأكل ما أمسك عليك الكلب المعلم، ونهاك أن تأكل ما أمسك عليك غيره، فصار الكلب المعلم مفضلاً بالعلم.(77/3)
أصل العلم خشية الله
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن من أفضل ما يميز به أهل العلم قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وهذه الآية من أفضل الآيات في تزكية أهل العلم، كفى بالاغترار بمعصية الله جهداً، وكفى بالوقوف عند حدوده علماً، إنما العلم الخشية، وليس العلم بكثرة المسائل، كما يقول مالك: أن يكون عندك العلم الكثير حتى تفتي وتتكلم في كل مسألة لا، ليس هذا هو العلم (إنما العلم الخشية).
فإذا ورثك العلم الخشية فاعلم أن علمك ينفعك، وإلا فلا تزداد به إلا سفالاً؛ لأن الله يقيم الحجة به عليك: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكلما خشيت ربك كان أفضل لك، فإن الخوف من الله ممدوح، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ما هو مقام الله؟ كقول الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33].
إذاً: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن:46] أي: ولمن خاف قيام الله عليه، ونظره إليه، ومراقبته له.
فمقام الله: قيامه على العبد، وأن العبد لا يغيب عنه طرفة عين، فيا له من عبد! كيف هان نظر الله عليه، وتوارى عن عباد الله وهو يفعل المعصية، وهم لا يملكون له موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا يملكون له نفعاً ولا ضراً؟! كيف هان عليه نظر الله؟! إذاً: من أجل ما يورثه العلم لصاحبه: أنه يخشى الله، فإذا خشيه تمت له السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.(77/4)
أمر الله لنبيه بالازدياد من العلم
من فضائل العلم: أن الله عز وجل أمر نبيه بالازدياد منه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وما نعلم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يزداد من شيء إلا من العلم، فدل على أنه أفضل شيءٍ؛ لأن الله عز وجل لا يختار لنبيه إلا الأكمل والأفضل؛ بينما المال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً) والنبي عليه الصلاة والسلام لا يدعو لنفسه إلا بالأكمل والأفضل، (قوتاً) أي: إذا وجد العشاء ربما لا يجد الإفطار، وإذا وجد الإفطار ربما لا يجد الغداء، فكأنه قال: اللهم اعطني غدائي فقط، فإذا جاء وقت العشاء دعوتك، أو إذا جاء وقت الإفطار دعوتك، يفعل هذا ليتعلق قلبه بالله، فأكثر الأغنياء غافلون عن ذكر الله؛ لأن لديهم رصيداً في البنك، ولديهم تجارة، فهم لا يخشون الفقر على الإطلاق، بل كلما أرادوا شهوةً فهم يعلمون أن عندهم ما يقضيها من المال، لذلك قل أن يسأل ربه؛ لأنه غير مفتقر، ولا محتاج.
أليس من العقوق أن تجلس على مائدة فيها كل ألوان الطعام والشراب، ولا تذكر اسم الذي أنعم عليك كل هذه النعم؟ أليس هذا عقوقاً أنك لا تهتف باسمه، وتقول حتى: باسم الله الذي رزقني هذا، وما حرمني؟! أقل درجات الوفاء: أن تذكر اسم الذي أنعم عليك، لكنه لا يذكره، ولا يسمي؛ لأنه ركن إلى ما عنده من المال، بخلاف الفقير، الذي يهتف باسم ربه بكرةً وعشياً، فهو محتاج: يا رب! اغنني، يا رب! سد جوعتي، يا رب! ارفع عني، فهو دائم الحاجة إلى الله؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا فقال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) حتى لا يتعلق قلبه إلا به، فهو الذي يقضي الحوائج للناس، أما إذا قام مقامه شخص آخر، فلربما تعلق القلب به، وهذا بداية الشرك: أن يتعلق القلب بغير الله عز وجل.
فلم يستكثر من الدنيا، بل لما مات صلى الله عليه وسلم لم يكن في بيته غير سبعة دنانير فقط، ولما أفاق من كرب الموت قال لـ عائشة: (أخرجي الدنانير، ثم أغشي عليه، فلما أفاق سأل عائشة: أأخرجت الدنانير؟ قالت: شغلني مرضك، فقال: ما ظن محمدٍ بربه إذا لقي الله وعنده هذه) كأنما أراد أن يطهر بيته من دنس الدنيا قبل أن يلقاه، ولو كانت الدنيا خيراً لحازها ولحرص عليها؛ لكنه كان يقول لنا: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء).
ويرحم الله عز وجل الحسن لما قال: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه).
وأي معصية أعظم من أن يتعلق قلب المرء بالدنيا، أمر الله عز وجل نبيه أن يدعوه: بأن يزداد من العلم وزوى الدنيا عنه؛ لخساستها، ولو رضيها لأوليائه ما مكن الكافرين منها، وعنده مقاليد كل شيء، أفيعطي المال لـ قارون ويحجبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله ما أعطاه لـ قارون إلا لهوان قارون عليه، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، فأثبت الجهل لهم: (لا يعلمون) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
رجل عقيم يتمنى الولد، بذل كل ماله في طلب الولد، وأخيراً جاءه الولد، لكنه أذله الولد إلى الأبد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} فلم لا تسلم لربك وترضى بقضائه عليك؟ فإذا حرمك الولد، فقل: إنه يرعى مصلحتي؛ لأنه لو رزقني الولد ربما أتعبني، فحسن ظني بربي يقتضي أنه رءوف بي لم لا تقل هذا؟ لم لا تقل كما قال أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83]، لم يقل: فاشفني، احتمال أن الرجل المريض إذا صح عصى الله بصحته، فيكون مرضه خيراً من صحته، وما يدريك؟ وإنما قال: ((وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))، فحسن الظن بك يا رب يقتضي أنك جعلت لي الأمثل والأفضل والأصلح.
فلماذا لا تعامل ربك هذه المعاملة؛ يشملك حسن الظن به: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، لكن هذه الآية: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] أي: من حيث يجهلون أن هذا يضرهم ولا ينفعهم {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم اغفر ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا(77/5)
العلم هو العاصم من الأهواء
الهوى له مركبان: من ركب واحداً منهما هوى: الجهل والمال، فأي أحد يركب مركب من هذين ولا يستضيء بنور العلم هوى، فتخيل الرجل الجاهل الذي لا يعرف الله ومعه مال كثير فما الذي تتصوره أن يفعل هذا الرجل بالمال؟ سيركب كل شهوةٍ يشتهيها.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (فسلطه على هلكته في الحق) كلمة (الحق) لا يعطيها له إلا العلم، أي: في حق المال، ما هو حق المال؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو كبشة الأنماري عند الترمذي وأحمد وابن ماجة: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فأي شخص في هذه الدنيا فهو من هؤلاء الأربعة، فأنت نفسك بأمانة: أي واحد من هؤلاء الأربعة أنت؟ ولا تخدع نفسك: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتق الله فيه، يصل به رحمهُ، ويضع لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل.
ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله.
فهو ونيته؛ فهما في الأجر سواء.
ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمهُ؛ فهذا بأخبث المنازل.
ورجلٌ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله.
فهو ونيته؛ فهما في الوزر سواء) عالم غني، عالم فقير، غني جاهل، فقير جاهل، ومرد الثاني والرابع للأول والثالث.
إذاً: الناس قسمان على الحقيقة: تابعٌ، ومتبوع، مجتهدٌ ومقلد.
التابع: العالم الغني، والغني الجاهل.
والمتبوع: العالم الفقير، والفقير الجاهل.
فوظيفة المال يصل به رحمه، ويضع لله فيه حقه.
وأيضاً من حق المال ووظيفته: قوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا -هذه وظيفة المال- ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت).
هذه وظيفة المال: إما أنك تأكل، وإما أنك تلبس، أو أنك تتصدق، فإذا أكلت فإلى المجاري، وإذا لبست فإلى البلى، وإذا تصدقت بقيت لك، وهل يستطيع الرجل أن يتصدق إلا إذا كان عالماً موقناً بفضل الصدقة، وإلا فإن الإنسان أصله شحيح، فلو تصدق لتصدق على خلاف هواه، ولا يستطيع رجل أن يخالف الهوى إلا بعلم، فرجعت الفضيلة إلى العلم، وأنه لا يستطيع أن يغلب شيطانه، وهو يقول له: تنفق المال وتذر ورثتك فقراء؟! فيحمله ذلك على الشح، كما ورد في بعض الأحاديث الذي يقويها بعض أهل العلم: (الولد مبخلةٌ مجبنة) أي: ولدك يحملك على البخل، تتمنى أن تتصدق، تتمنى -مثلاً- أن تنفق على الناس؛ فيحملك ولدك على البخل، تقول: بدل ما أنفق على الناس ولدي أولى؛ فلا تتصدق لأجل الولد.
فإذا دعيت إلى قتال فيهرب المرء لماذا؟ لأنه سيقتل وييتم أولاده، فيحمله ذلك على الجبن.
إذاً: رجعت الفضيلة في الأخير إلى العلم، وأن العلم هو العاصم من الهوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(77/6)
العلم ينجيك من النار
وحسبك أيضاً شرفاً للعلم: أن الذين دخلوا النار دخلوها بسبب الجهل، قال تعالى على لسان هؤلاء: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11].
وأصل العلم: السمع والعقل، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
إذاً: أصل العلم: السمع، والعقل، والفهم.
والسمع في القرآن يطلب على ثلاثة معانٍ: 1 - سمع إدراك.
2 - وسمع فهم.
3 - وسمع استجابة.
فسمع الإدراك: كقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]، قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح: (سبحان من وسع سمعه الأصوات).
وسمع الفهم: كقول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] وإلا فإن المشركين يسمعون الصوت ولكن لا يفقهون {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، فاستوى الكافر مع سائر الأنعام في الدنيا؛ فإن الراعي إذا نادى الغنم سمعته، وإذا نادى البهيمة سمعته؛ ولكنها لا تعقل ما يقول الراعي.
فالله عز وجل يحكي حال الذين كفروا في حال استماعهم للقرآن، وعدم فهمهم لحجج الله عز وجل، كمثل راعي غنم ينادي على الغنم، فالغنم تسمع الصوت ولا تفهم ما يقول الراعي، وهؤلاء الكفار يسمعون الصوت ولا يفهمون حجج القرآن؛ فهم كالأنعام.
فالله عز وجل يقول: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] مع أن حجة الله قامت على المشركين بسماع القرآن.
إذاً: سمعوا سماع الآلة -أي: سماع الأذن- ولكنهم لم يفهموا فهم القلب، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] أي: لأفهمهم، وفهموا عن الله عز وجل ما أراده منهم.
أما سمع الاستجابة، فمثل قول الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: مستجيبون، وقال الله حاكياً عن اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41]، أي: يستمعون الكذب فيستجيبون له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) لأنه ليس كل ما سمع يكون كله صدقاً، بل يكون كذب، فإذا نقل كل ما سمع تعرض لنقل الكذب، وإن لم يكن معتقداً له، لكنه ترك بنقل الكذب، بل إن العبد إذا كان جاهلاً فكثير من الحيوانات أفضل منه؛ فإن في الحيوانات من هو أكثر أكلاً منه، وأشد بطشاً، وأسرع عدواً، وأكثر جِماعاً وأولاداً، إنما فُضّل الإنسان على الحيوان بالعلم، فإذا فقد العلم فاقته كثير من الحيوانات واستوى مع الحيوانات في مثل هذه الصفات البهيمية، وليس هذا كلامي، وإنما هو كلام الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:22 - 23] أي: لأفهمهم.(77/7)
العلم قاضٍ على كل شيء
ومن شرف العلم: أن العلم قاضٍ على كل شيء في الدنيا: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس:68]، وكل سلطان ورد في القرآن إنما هو سلطان الحجة: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس:68] هل عندكم حجة بهذا؛ بأن لله ولد؟ والحجة هي: حجة العلم.
وقال تعالى في مجادلة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] أي: ليس عندكم حجة تستطيعون أن تقيموا بها قولكم أن مع الله آلهة أخرى؛ فالسلطان في القرآن هو الحجة، إلا في قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] فلأهل العلم فيها قولان: القول الأول: الناس والحكم والجاه.
القول الثاني: العلم.
فقوله: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] أي: انقطعت حجتي أمام الله، أو زال مالي وجاهي.
فالعلم قاضٍ على كل شيء، وقد تنازع العلماء أيهما أفضل: مداد العلماء، أم دم الشهداء؟ وفي هذه المفاضلة دلالة على تفضيل العلم أيضاً؛ فإن قلت: من أي وجه؟ نقول: لأنه سيقضي على أحد الخصمين العلم: فإذا قلت: دم الشهداء؛ فلا بد أن يكون عندك علم.
وإذا قلت: مداد العلماء؛ فلا بد أن يكون عندك علم، فالعلم هو القاضي والخصم.
فإن قلت: فكيف يكون العلم خصماً، والأصل أن الخصم لا يكون حكماً؟ فنقول: هذا شرف أيضاً لمرتبة العلم؛ لأنه لماذا لم يُجعل الخصم حكماً؟ لأنه سيميل إلى انتصار نفسه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان)، لماذا؟ لأنه إذا قضى وهو غضبان قلت مواهبه، وسيميل مع حض نفسه أو مع هواه، ولكن إذا أمن القاضي على نفسه أنه لن يحيف أو يجور وهو غضبان حل له أن يقضي وهو غضبان، وليس هذا إلا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يكتب ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فأمسك عبد الله عن الكتابة فقال له: (لم لا تكتب؟ قال: يا رسول الله! أنت غضبان.
قال: اكتب، فوالذي بعثني بالحق -أو والذي نفسي بيده- ما أقول إلا حقاً) فاستوى غضبه ورضاه في الحكم؛ لأنه لا يحيف إذا غضب، إنما يحيف أمثالنا.
لذلك يُنهى جميع الناس بدءاً من أبي بكر الصديق إلى أقل الناس أن يقضي بين اثنين وهو غضبان، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن غضبه يستوي مع رضاه؛ لأن مظنة الحيف في الحكم منتفية عنه، فإذا كان العلم هو الخصم والقاضي كان ذلك أرفع لرتبة العلم؛ فالعلم قاضٍ على الممالك، وقاضٍ على الناس جميعاً، والناس مقبورون تحت سلطان العلم أكثر من سلطان الأمراء، فإن العلم ينقاد له القلب، أما سلطان اليد فينقاد له البدن.
فهل كل قرارٍ أصدره أمير أو حاكم رضيت عنه الرعية؟ كثير من الناس ينفذون الأوامر وهم كارهون، ويدعون على الذي سن هذا القانون، ويلعنونه في الصلوات وفي الجهر والسر، فهم ينقادون له عنوة، بخلاف العالم؛ فإنه إذا بسط حجته انقاد القلب له، والقلب ملك البدن، فإذا انقاد القلب انقادت الجوارح تبعاً لانقياد القلب، مع الفرق الهائل بين هذا الانقياد والانقياد لسلطان الأمير.(77/8)
فضل العلم على المال
العلم ممدوح بكل لسان، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله القرآن -وفي رواية: العلم، وفي رواية: الحكمة، وهذه الروايات كلها يفسر بعضها بعضاً- فهو يعلمه للناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)، فقدم العلم على المال، كما قدم الله العلم على الملك، لما ذكر ما وهبه لسليمان عليه السلام، إذ لا يتم الملك إلا بعلم.
وقوله: (لا حسد) أي: لو جاز لأحدٍ أن يحسد أحداً لكان ينبغي له أن يحسد أحد رجلين: إما رجلٌ آتاه الله العلم، ويرحم الله الإمام أحمد حين كان يقول وهو يشير إلى تفضيل العلماء: (بيننا وبينكم شهود الجنائز).
انظروا إلى جنازة أكبر عالم، وإلى جنازة أكبر غني؛ فسترون الفرق هائلاً! فكل الناس يقولون عن الغني: ماذا عمل؟ مسكين! انظروا إلى الفلل التي تركها، والأموال، والضياع هل أخذ معه شيئاً؟ لا يدوم إلا الله، ويتكلمون على الزهد في الدنيا، وأن الرجل مضى ولم يأخذ شيئاً، لكن هل قال واحدٌ منهم: يرحمه الله، أو رضي الله عنه؟ لا، لماذا؟ لأنه كان يحرم الناس من رفده، وعطائه، جمع ماله للورثة.
لكن انظر إلى الناس في جنازة العالم! يبكون عليه ويحزنون، وليس بينه وبينهم أي نسب ولا أعمال، وما كان بينهم إلا ما تعدى العالم إليه وهو العلم، وإذا ذكروه ترضوا عنه وعن والديه.
فإن جاز لك أن تغبط رجلاً فلا تكن سافل الهمة، فتقول: ليت أن معي كفلان محلات وو لا، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، فقد صيرك المال خادماً، وصيرك العلم سيداً.
العلم يحرسك من الشبهات التي يلقيها أعداء الله، ومن الكفر الذي يزينه أعداء الله، فكلما وردت عليك شبهة كفر، أو شبهة وسواس صد العلم عنك وعن قلبك، لكن المال أنت تحرسه، لا تنام عينك خشية اللصوص، ولأنك تريد الازدياد منه، كل لحظة يقوم من الليل يعد الفلوس ويرتبها ويفعل ذلك مرات، إذاً: هناك متعة عنده في مسألة عد الفلوس.
وهكذا يضيع عمره في مثل هذا؛ فصار خادماً، والمال عبد جيد لكنه سيد رديء: (عبد جيد) كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) أنت السيد، ومعك المال، تنفق المال يمنةً ويسره، إذاً: أنت السيد وهو العبد لأنك عندما تنفقه لا يعترض عليك، ولا يقول لك: لم وضعتني في هذا الموضع؟ إذاً: إذا صار المال عبداً صار عبداً جيداً؛ لأنك ستصل به الرحم، وتفرج به الكروب، وتبني به المدارس والمستشفيات، وترصف الطرق إلى آخره من أعمال البر والخير المباحة.
لكنه إذا استحوذ على صاحبه كان سيداً سيئاً رديئاً.
فأولى الناس بالغبطة بالحسد هذان: (رجلٌ آتاه الله العلم، فهو يقضي به، أو يعلمه آناء الليل وأطراف النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (في الحق) قيد ضروري لا يأتي إلا بالعلم، فالله سبحانه وتعالى لما قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] سماه أحسن القصص؛ لأنه وصفه بالحق: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]، فهذا القيد ضروري في إنفاق المال.
هذا القيد: (ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته) ولم يقل: (في الحق).(77/9)
فضل العلم وشرفه [2]
العلم من أجل نعم الله على الإنسان، فهو قوام حياته، إذ يحتاج إليه في كل مناحي حياته، وفي كل شأن سواء كان صغيراً أم كبيراً، والعلم شرف لحامله، فكلما ازداد الإنسان منه ازداد رفعة، فما علينا إلا أن نجد سعينا في طلب العلم، ونشكر الله على ما من به علينا فله الفضل أولاً وآخراً.(78/1)
مكانة العلماء والأمراء
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وبعد: أيها الأحبة: إن الملك لا يستقيم إلا بالعلم، فيعرف فضل الحاكم إذا قرب أهل العلم، إذا قضى عن وفق كلامهم وفتواهم ومشورتهم.
وتعرف خبثه وبعده عن الحق والعدل والخير؛ إذا أبعد أهل العلم عن مجلسه، لذلك كان جماعة الملوك قديماً كبني أمية وبني العباس كانوا يهذبون أولادهم عند العلماء تمهيداً لإقامة سياسة الملك، فكان أكبر العلماء هم الذين يؤدبون أولاد الخلفاء، حتى إذا تولى استقام له الأدب واستقامت له الحكمة؛ لذلك كانوا إذا وعظ الواحد منهم، وذكر بالله يذكر، فـ هارون الرشيد مثلاً لما طلب الإمام مالكاً ليقرأ عليه الموطأ، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تكن أول من أذل العلم فيذهب الله ملكك، العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه.
فلا تكن أول من أهان العلماء، فحملهم على أن يحملوا علمهم ويذهبوا إلى بيوت الخلفاء؛ فيذهب الله ملكك! فلم يتكبر هارون الرشيد لأنه كان من خيار الخلفاء ومن أفاضلهم، وكان رجلاً عابداً، وكان محترماً للعلماء، وكان مجاهداً، ولكن نصارى الروم وأشباه الرجال عندنا ممن تأدبوا بأدب الغرب هم الذين شوهوا سيرة هؤلاء الخلفاء.
فلم يتكبر هارون الرشيد، ولم تأخذه العزة بالإثم، ولم يعاقب الإمام مالكاً، وإنما جاء إلى مالك فركن ظهره إلى الحائط، فلما ركن ظهره إلى الحائط أشار إليه مالك أن هذا ليس من أدب طالب العلم؛ فأنت الآن لست خليفة، أنت طالب علم، فإذا جئت مجلس العلم وقد استحضرت غناك أو جاهك؛ فلن تفلح أبداً، فإذا كنت ابن العمدة، أو ابن رئيس الديوان -أو أي شخص- ودخلت وأنت تعتقد أن كل الناس ينظرون إليك؛ فهذا من اغترار النفس ولن ينفعك العلم.
إن العلم لا ينال إلا ببذل النفس وبذل ماء الوجه، فإذا جاء إلى مجلس العلم وفي نفسه كل معاني الملك فلن يفلح أبداً.
فبمجرد أن يركن ظهره ينبهه الإمام مالك أن هذا ليس من أدب الطلب؛ فيعتدل مباشرة، ويطلب العلم ويشكر مالكاً؛ لذلك استقامت لهم الدنيا سنين عدداً.
فيعرف فضل الحاكم إذا قرب منه أهل العلم، وكان أول رجل ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل فمن أين يأتيه العدل إذا كان جاهلاً؟ فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي على ما كان فيه من طغيان -قلامة ظفره أفضل بكثير ممن جاء بعده- فقد كان أحياناً يخضع للحق، فإذا ذكّره إنسان بالله يذكر.
فذات مرة طلب أن يُقبض على رجل، فلم يجدوا الرجل فقبضوا على أخيه، فقال المقبوض عليه: أنا مظلوم.
فقالوا: والله بحثنا عن أخيك فلم نجده، فأخذناك.
قال: حسناً دعوني أكلم الخليفة.
فقال: أصلح الله الخليفة، إن هؤلاء أرادوا أخي فلم يجدوه فأخذوني، وقبضوا على ابني، وهدموا داري، ومنعوا عطائي.
فقال له الحجاج: هيهات! ألم تسمع قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب الأول هو الجمل السليم عندما يقعد في مبرك أجرب فيأخذ الجرب معه، فأيضاً أنت من أجل أنه أخوك ذق، واليوم كثير من الناس يعادون الملتزمين لماذا؟ يقول له: أنت بسببك كنت سأتوظف ومنعوني، قالوا: أليس من أقاربك فلان؟ نعم، قريب فلان؛ إذاً: ليس لك عندنا وظيفة، ولا كيل لكم عندي ولا تقربون، وستظل مشرداً في الأرض، من أجل أنك قريب فلان.
حسناً لماذا تعاقبونني بفلان؟ فهذا يقول له: ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب فقال الرجل -وكان ذكياً-: أصلح الله الخليفة، فإني سمعت الله يقول غير ذلك.
قال: وماذا يقول الله عز وجل؟ قال: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:78 - 79].
فحينئذٍ أطرق الحجاج ساعة، وقال: علي بفلان -صاحب الشرطة- فقال له: فك لهذا ابنه، وابنِ له داره، ومر له بعطاء، ومر منادياً ينادي: أن صدق الله وكذب الشاعر.
فهذا عنده شيء من الدين، وإن كان ظالماً وسفاكاً للدماء، ولكنه كان إذا ذكر بالله ذكر، ولا يستقيم الملك إلا لعالم أو لرجلٍ قرب أهل العلم.(78/2)
منزلة الإمام العادل
الإمام العادل أول من يستظل بهذا الظل في يوم الحرور، وهذا ليس كما في الشهر الثامن الناس نائمون على الأسطح، ولا تستطيع أن تنام من الحر، وهذا ليس أشد الحر، بل إذا أردت أن ترى الحر الشديد فاذهب إلى الكويت، أو الإمارات، أو السعودية، درجة الحرارة (65م)، يغلي منها الدماغ، وهذا في الظل، وهناك أحر من هذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (استأذنت جنهم ربها عز وجل في نفسين) تتنفس مرتين لماذا؟ لأنها مؤصدة، إذا جعلت نفسك على النار ولا يوجد أي نفس فيها، ربما تنفجر من البخار، وأنت تعلم عندما يكون هناك غرفة وأنت مقفل شبابيكها في الحر الشديد كيف يكون الحر! فجهنم مؤصدة -أي: مقفلة- فلا أبواب ولا شبابيك ولا يوجد بها شيء يمكن أن يسرب الحرارة نسأل الله العافية منها! فاستأذنت ربها نفسين: (نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فنفس الصيف هو أشد ما تجدون من الحر، وفي الشتاء هو أشد ما تجدون من الزمهرير).
فلا نقول: إن الحر شديد لا، بل إن الشمس تنزل إلى السماء الدنيا، وهي الآن في السماء الرابعة، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومع ذلك أنت لا تطيقها الآن، فتعرف معنى الظل في يوم القيامة عندما تستحضر هذا، وليس ظل شجرة ولا ظل حائط ولا شيء من هذا، هذا ظل الله! فهذا يبين لك عظمة هذا الظل.
فأول شخص يستمتع بهذا الظل هو الإمام العادل، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي كان آخر كلمة قالها قبل أن يموت، وقبل أن يكبر للصلاة -كما في صحيح البخاري- وكان واقفاً بين عمرو بن ميمون وابن عباس، ويتكلم معهما، ثم سوى الصف ودخل في الصلاة، وطعنه المجوسي، قال: (لئن عشت إلى قابل -إلى السنة القادمة- لا أدعن أرملةً في العراق تحتاج إلى أحدٍ بعدي).
فانظر إلى نبل عمر! فآخر شيء كان يشغله الرعية، كيف يمهد للرعية ويريح هؤلاء الناس، فلا يكون المرء عادلاً إلا إذا كان عالماً، فرجع الأمر إلى العلم، فكل شيءٍ لا يستقيم لك إلا بالعلم، حتى في الدنيا لا يستقيم لك إلا بالعلم.(78/3)
حال الأمراء إذا تركوا العلماء
من علامات الشؤم: أن يُعظم أهل الدنيا ولا يلتفت إلى أهل الآخرة، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وهناك كتاب اسمه بروتوكولات حكماء صهيون، وهذا الكتاب فيه ذكر ما يحدث في بلاد المسلمين؛ ومن العجيب أن أعداءنا كتبوا خططهم، وأظهروها للناس.
حسناً! لماذا لا تخبئوها؟ قالوا: أصلاً هم أغبياء.
ماذا يعني عندما تكتب خطتك أمام شخص غبي؟ كأنك لم تكشفها.
هذا يذكرني بالعتابي، كان في بادية الشام يقص على الناس الحكايات، هل سمعتم بالموالد التي يقعدون فيها يخترعون الحكايات، مثل: ميمونة والجمل وغيرها، فالعتابي كان أحد هؤلاء.
المهم أن العتابي كان قاعداً على الطريق يأكل، فقال له أحد الأشخاص: يا أخي! الأكل عورة.
مع أنه ليس بعورة أبداً، لأن هذا ليس له أصل في السنة.
فقال له: يا أخي! الناس يمشون وينظرون إليك وأنت تأكل! قال: أرأيت إن كان في بيتك بقر، وكنت تأكل أمامها أكنت تستحي أن تأكل أمامها؟ قال له: لا.
قال: فاصبر حتى أريك أنهم بقر.
يقول له: الناس الذين تراهم الآن حولي أعطني مهلة واحلم عليّ لكي أثبت لك أنهم بهائم.
وبعد أن انتهى من الأكل قام في الجامع يقص حكايات بين قيس وليلى إلخ، والناس مندهشون، وبعد ذلك قام يرمي رميته في نص الكلام والمستمعون مشدوهون، قال: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مس لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة!! فما بقي منهم رجل إلا أخرج لسانه يريد أن يمس أرنبة أنفه.
فأحدهم قال له: من أين أتيت بهذا الحديث؟ هل كان لسانه مثبت من الأمام أم مثبت من الخلف؟ فقال: أو لم أعلمك أنهم بقر! فالعلم -وهو القاضي على كل هذه المهالك- به تنال الرفعة، وكل شيء مرده إليه فالعلم هو الحكم، ومن شرفه أن يكون الخصم هو الحكم، هذه أول مرة نرى الخصم حكماً؛ لأن كل شيء في الدنيا فيه نزاع لا بد أن يقضي فيه العلم، فرجع إلى العلم في النهاية؛ فهو أشرف خصم وأشرف حكم.
إذاً: بدءاً من الإمامة الكبرى، التي فيها صلاح الناس، والعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالإمام العادل؛ لأن خيره متعدٍ وشره متعدٍ، فلو كان ظالماً فسيتضرر بظلمه الملايين، ولو كان عادلاً سيستفيد بعدله الملايين، ولا غرو أن قال الإمام أحمد: (لو كانت لي دعوةٌ مستجابة لادخرتها للحاكم؛ لأن به صلاح الدنيا).
فبدءاً من الخلافة الكبرى العظيمة التي هي أعلى شيء في الدنيا وهي الإمامة، إلى أدنى شيء في الدنيا يحتاج إلى العلم، وجماعة بروتوكولات حكماء صهيون قالوا: نحن الذين سنختار القادة، ونحن الذين سنختار أصحاب المواقع الحساسة.
فكيف سيختارونه؟ يأتون بواحد من بلاد المسلمين ليدرس عندهم، وينظرون في مواهبه هل هو: إنسان عميل، دنيء الهمة، يمكن أن يتجسس على قومه ويبيع البلاد كلها في مقابل حفنة دراهم.
ولا مانع من أن يعطوه الدكتوراه الفخرية، وهبة النيل، وهبة الكونجرس، وهبة كل شيء، ويحتفل به في المجتمع الأمريكي على أساس أنه نجم المجتمع، ويقابله الرئيس الأمريكي، ورئيس الكونجرس، ورئيس الوزراء، ويعملون له مأدبة احتفال في أستراليا، ولندن، وباريس.
فأنت تقول: هذا ابن بلدي ويعملون له كل هذا! تعال! نحن محتاجون إليك.
وبالتالي يقولون له: هذا الرجل ينفع أن يكون في المكان الفلاني، هذا ينفع -مثلاً- أن يكون وزير التربية والتعليم، نحن لا نعلم كيف يكون هذا الرجل العبقري لديكم وأنتم لا تعيروه أي اهتمام! ولو كان عندنا لجعلناه وزيراً للتربية والتعليم فيستدرجونه كما استدرجوا صدام حسين في حرب الخليج، قبل أن يدخل الكويت، قالت له أمريكا: نحن ليس لدينا أية خطة دفاع مشتركة مع الكويت ما معنى هذا الكلام؟ ولماذا قالت له هذا الكلام؟ يعني: ادخل الكويت ونحن لن نكون ضدك؛ لأنه ليس بيننا وبينهم خطة دفاع مشترك.
فدخل الكويت، وظهر الرئيس الأمريكي بوش وقال: أنا أناشد الرئيس العراقي ألا يفضحنا؛ لأنه يعلم أن جيشه خطير! فله ثماني سنوات وهو يحارب إيران، وهو جيش عملي، والجنود لا يزال عظمهم ناشف، فليس من الضروري أن نبيد الكرة الأرضية، لأن جيشه عتيق وعريق وإلخ، وأنا بصراحة لن أقول لكم ولا أخفيكم: أنا جعلت ثمانية عشر ألف كفن مبدئي، والحانوتي سيأتي بالباقي من أجل الذين سيموتون من الأمريكان وقوات التحالف في حرب الخليج، فأنا أقول للرئيس العراقي: اعمل معروفاً، ولا تحارب؛ لأننا لسنا نداً لك.
فكبرت في دماغه، وقال: إذا كانت أمريكا تقول لي: اعمل معروفاً، فما الذي يجعلني أعمل معروفاً إذاً؟ فلماذا لا أستغل ضعفهم وأقوم وأدخل فجأة -مثلما دخل إيران- وهي مجرد طلقة هنا وطلقة هناك إلخ.
فهم يحاولون أن يهدئوه فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً، فدخل إلى أم الهزائم، وأخذ (علقة ساخنة -مثلما يقولون- حمار في مطلع).
فهؤلاء يريدون أن يعينوا أي شخص عميل في بلاد المسلمين بأن يأخذوه ويلمعوه ويكبروه، ويعلموا فيه تقارير، وبصراحة نحن لنا الفخر أن الرجل هذا جاء إلينا، وهكذا! فتكبر في دماغنا ونقول: هذا الرجل هو الذي ينفع، وهو الذي سيصلح المسألة ويعدل الميل، تعال إذاً اجلس وإذا به يزيل الآيات من القرآن التي تسب اليهود، ويزيل الآيات التي تكفر النصارى؛ ويقول: إن هذا ضد الوحدة الوطنية، وعيب عليك أن تقرأ: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، بل اجعلها في قلبك، لأن هذا لا ينفع إلخ.
ويبدأ القرآن يتقلص، وبعد هذا نبدأ نقول: الحجاب إرهاب! واللحية إرهاب إلخ! وأن الدين سماحة ويسر وأخلاق، وبعد ذلك نقول: إن منع الاختلاط عبارة عن إرهاب وكبت، وإلا فالمفروض أن يبقى الرجال مع النساء، ويأتي لك بكتب الدين: (علي عيان، قام إبراهيم وأخذ أباه وأمه وراحوا يزورون علي، فقام أبو إبراهيم يقابل أم علي على الباب إلخ).
الله وهل هذا كتاب الدين؟! فكيف بكتاب الفنون؟ وكتاب التربية الموسيقية والرسم؟ فإذا كان في كتاب الدين (أبو إبراهيم يقابل أم علي! ويجلسون كلهم على طاولة واحدة: وألف سلامٍ على إبراهيم، وإلخ).
دع كتاب الدين هذا والكلام الذي فيه، فهذا يجعل الأجيال تُمسخ، وينتج لنا جيلاً ممسوخاً ليس له هوية، مثل الجيل الذي نعاني منه الآن، جيل ليس له أي مواهب، وهذا الكلام في الجملة، وإلا هناك مواهب، لكنها ليست كثيرة.
فهذا من علامة عدم التوجيه: وأهل الآخرة يظل أكثرهم لا يرفع لهم رأساً، مع أن صلاح الدنيا بصلاح ورفعة العلماء الربانيين، وصلاح الدنيا لا يكون إلا بالدين، أن تكون على وفاق ما يريد الله عز وجل، فالعلم تحتاجه في أعلى شيء وفي أدنى شيء، فلا تستغني عنه على الإطلاق، وتفتقر إليه في كل خطوة تخطوها في حياتك، هذا هو العلم الذي بدأ الله عز وجل بذكره في قصة داود وسليمان، وفضائل العلم أكثر من أن يحصرها مجلساً أو اثنان أو ثلاثة، إنما السعيد من انتفع بالقليل، والمكابر لا ينتفع لا بقليل ولا بكثير.
نحن نرجو أن يكون فيما ذكرته دافعاً ورفعاً للهمم، لترجع وتطلب العلم مرة أخرى، فمهما ازددت منه فإنه لن يضرك، وكل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده إلا العلم، فكلما ازددت منه زادك رفعةً.(78/4)
فضل العلم وعواقب الجهل
انظر إلى علمائنا كـ ابن جرير الطبري (دخل عليه أحد أصحابه وهو يجود بنفسه -أي: يحتضر- فسأله - ابن جرير عن مسألة في المواريث- فقال: أفي هذا الحال -يعني: وأنت تحتضر- قال: أخرج من الدنيا وأنا عالم بها خيرٌ لي من أفارقها وأنا جاهلٌ بها).
فإنك لأن تلقى الله عز وجل بمعرفة هذا خيرٌ لك من أن تلقاه جاهلاً بها.
فربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، العلماء يقولون: النكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وفي سياق النفي تفيد العموم.
قوله: (ولقد): تحقيق، واللام للتأكيد، و (قد) دخلت على الفعل الماضي، {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، فيها أي أداة نفي؟ هذه الجملة مثبتة، والنكرة في الآية؟ (علماً) الاسم عموماً، الاسم الخالي من الألف واللام.
إذا دخلت الألف واللام على الاسم يبقى معرفة، تقول مثلاً: (علم) نكرة، (العلم): صار معرفة، أي: معرفاً بالألف واللام.
فهذه النكرة -التي هي (علماً) - جاءت في سياق الإثبات فأفادت الإطلاق، أي: علم يشمل جزئيات كثيرة؛ لأن الرجل ملك الجن والإنس والطير، {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:16] إذاً: (كل شيء) لا بد أن يكون عالماً بكل ما أوتي، فهذا يكون معنى كلمة (علم)، هذه النكرة التي جاءت في سياق الإثبات: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} [النمل:15]، وهذا يدل على أن هذا من فضل الله، هو الذي آتى داود وسليمان: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:15]، فدوام النعمة إنما يكون بدوام الشكر عليها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
وانظر إلى الأعرابي الجاهل: ذات مرة لدغته حية -والإنسان لابد أن يحمد ربه على كل شيء، حتى على المكروه، فإذا لدغته حية عليه أن يقول: الحمد لله- فقال: الحمد لله.
فقام أحدهم وقال له: ((لئن شكرتم لأزيدنكم)) قال: لا شكراً، لا شكراً.
فهو إذا شكر ستلدغه مرة أخرى، فهو فهم معنى: (لأزيدنكم) أي: من لدغ الحيات، وقال: لا أريد أكثر من هذا فهذا جاهل، والذي قرأ له الآية جاهل كذلك، وأنت تعلم أن الكلام الحق إذا وضع في غير موضعه صار قبيحاً، فما بالك في القبح إذا كان في موضعه.
كإنسان -مثلاً- كان مقرئاً للقرآن، وكان يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع أربعمائة جنيه -وهذا الكلام كان في سنة ستة وسبعين تقريباً- فكانت الأربعمائة جنيه تساوي مثلاً الآن أربعة آلاف، وإذا قلت: أربعة آلاف فليست مبالغةً، لأن السعر كل يوم يتغير، وليس كل شهر أو كل سنة.
فكان يأخذ أربعمائة جنيه في المرة الواحدة، فأحدهم اعترض على ذلك فقال له: الله يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41]، أي: خذ ما تقدر من فلوس؛ لأنك كلما أخذت كثيراً فأنت توقر كلام الله.
فهو عندما يضع الآية في مثل هذا الموضع تنظر إلى قبح هذا الاستدلال، وهو لو بذل الدنيا كلها لشطر آية لكان قد اشترى بكلام الله ثمناً قليلاً فما هي الدنيا أمام كلمة من كلام الله؟ تساوي ماذا؟! كذلك لو قال لك شخص: أنت ذاهب إلى أين؟ تقول: أنا ذاهب للجامع.
يقول: قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، المعنى هكذا.
مع أنه كلام الله.
أو {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] مثلما قال أبو نواس: ما قال ربك ويل للأولى سكروا وإنما قال ويل للمصلينا وهو فعلاً قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] لكنه نزع الكلام من السياق وحرفة.
فالقصد: أن الكلام قد يكون في نفسه جميلاً، لكنه إذا وضع في موضعه، فمن تمام حق الله عليك أن تذكره في النعم، وهذا ما فعله داود وسليمان: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} [النمل:15].(78/5)
شكر الله على نعمة العلم ورد الفضل إليه
هل ذكر ربنا سبحانه شيئاً غير العلم؟ ذكر العلم، فلما قالا: (الحمد لله الذي فضلنا) دل على تفضيلهم بالعلم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:15] انظر إلى حكمة التواضع وهضم حق النفس! ولا تظن مهما أوتيت من العلم والفضل أنك وحيد عصرك وفريد دهرك، أو أنك إنسان عقمت أرحام النساء أن تلد مثلك لا.
كم في الزوايا خبايا وكم في الناس بقايا والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رب أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب، ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره)، فسبحان من يعلم أقدار خلقه إلا هو! رجلٌ يمشي على الأرض بقدميه مثلنا، يوم يموت يهتز له عرش الرحمن! ما هي قيمة هذا الرجل وما قدره لكي يهتز له عرش الرحمن؟! فلا تحتقر أحداً، ولا تظن أنك أفضل الناس، بل كلما هضمت حظ نفسك ارتقيت، فإن من خالف الهوى حصل له ضد الهوي، كما يقول العلماء، أنت تعلم أن (هوى): أي: نزل، فإذا خالفت الهوى ارتفعت، فالإنسان إذا خالف هواه ارتفع، وربنا تبارك وتعالى قد عاتب نبياً من أولي العزم أن صدر على لسانه كلمة مثل هذه.
ففي الصحيحين من حديث أبي بن كعب: (أن موسى عليه السلام وعظ بني إسرائيل وذكرهم حتى رقت القلوب وذرفت العيون، فانطلق فتبعه رجلٌ، فقال: يا كليم الله! تعلم أحداً في الأرض هو أعلم منك؟ قال له: لا -فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، لماذا تقول: أنا لا أعلم أحداً أعلم مني؟ قل: الله أعلم.
فعاتبه الله أنه لم يرد العلم إليه- قال الله له: إن لي عبداً في مجمع البحرين هو أعلم منك).
موسى عليه السلام الذي يريد أن يتعلم، والله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وكل ما نبل قدر الإنسان جمع أنفس الأشياء، وهو العلم، فموسى عليه السلام عندما سمع هذا الكلام، (قال: رب! كيف لي به؟) أنا أريد أن أطلب العلم على يديه، مع أنه كليم الله، وأحد أولي العزم، واتفق العلماء أن موسى أفضل من الخضر وأعلم، ولكن موسى عليه السلام لما عاتبه ربه حين لم يُرجع العلم إليه، قال: كيف لي به؟ (قال: خذ معك مكتل وحوت) الحوت: سمكة كبيرة تشويها وتتغدى بها أنت وغلامك، يوشع بن نون، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، وهنا لفتة لطيفة فيها فضل العلم! ولم يكن يوشع عبداً لموسى، إنما قيل له: فتى؛ لأنه كان متعلماً وتلميذاً، فأخذ من هذا بعض العلماء حين قالوا: من علمني حرفاً صرت له عبداً، كما أن يوشع صار فتى لموسى، مع أنه لم يكن خادماً له ولا مملوكاً، وإنما لما تبعه على شرف العلم صار فتىً له، أي: صار بمنزلة العبد إذا أمره ائتمر.
والمكتل: -مثل الإناء-، ثم انطلق والسمكة المشوية حين ترجع لها الحياة ستقفز إلى الماء فعندها يعرف أنه في هذا المكان.
فالسمكة المشوية في مكان معين في مجمع البحرين قفزت من المكتل ونزلت البحر، وكان موسى عليه السلام نائماً، فقام فتاه يوقظه، وبعد أن استيقظ من النوم واصلا الرحلة، وفي أثناء الطريق قال له: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62] فقال له: أنا نسيت أن أقول لك: إن في المكان الفلاني خرج الحوت من المكتل ونزل الماء، قال: هو هناك إذاً {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، فرجعوا يقطعون الطريق مرة أخرى، لأنهم قد مروا وتركوا مجمع البحرين، وأمسك الله الحوت عن الجريان في الماء -جعله ساكناً في الماء- حتى إذا رجع موسى يراه، فبينما هو ينظر في الماء رأى الحوت محبوساً في وسط دائرة معينة، فقال: إذاً هو هنا، فلقي رجلاً متدثراً بعباءة خضراء -ملاءة خضراء- قال له: السلام عليكم.
قال: وهل بأرضي سلام؟ قال: من أنت؟ قال: أنا موسى.
قال: موسى بني إسرائيل؟ قال له: بلى.
قال: يا موسى! اعلم ورأى عصفوراً مر من فوق الماء وأخذ قطرة ماء صغيرة، فقال له: هل ترى هذا العصفور؟ قال: نعم.
قال: علمي وعلمك إلى علم الله كهذه القطرة التي أخذها العصفور بالنسبة للبحر!!.
هل تعلم ماذا تعني هذه الكلمة؟ كأنه يقول له: ليس معنى أن ربنا سبحانه وتعالى أرسلك ليعلمك أن عندي شيئاً، فهو يعلمه التواضع الذي عاتب الله موسى عليه.
فأول درس أخذه موسى عليه السلام قبل أن يركبا في السفينة هو التواضع: علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله -وهذا مجرد تمثيل، وإلا فالمسألة أقل من هذا بكثير، كهذه القطرة التي أخذها العصفور من هذا البحر العظيم.
فانظر إلى موسى عليه السلام كيف عاتبه الله مع رفعة مكانته، وأنت تعرف أن الإنسان كلما عظمت مكانته كلما تظهر عيوبه.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، قال لهن: (لستن كأحد من النساء) أي: لستن مثل النساء.
حسناً ما الذي يترتب على هذا إذا صرن نساء فاضلات؟ قال: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، لماذا؟ لأنها ليست مثل النساء، وفي نفس الوقت قال لهن: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31] لأنهن أيضاً لسن كالنساء، إذاً: يضاعف لهن العقوبة ويضاعف لهن الثواب.
فداود وسليمان عليهما السلام احترزا وقالا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:15]، إذاً: هناك أفضل منهما لكننا أفضل من كثير من الناس، فدل هذا على أنهما يعترفا أن من خلق الله عز وجل من هو أفضل منهما، وهذا يزيد المرء رفعة: (من تواضع لله رفعه)، (ولا يزال المتكبر في سفال حتى يخرج من غروره).
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] هذا القيد مهم؛ لأنك عندما تقول: أنا أفضل من نتنياهو؛ إذاً: أنت بهذا شتمت نفسك، فلا يصح أن تقول: أنا أفضل من الكافر؛ لأن الكافر ليس له فضل أصلاً، إنما إذا أردت أن يظهر فضلك فقارن نفسك بأهل الفضل.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ عندما تأتي وتقول لي: هذا السيف أحسن من العصا، فأنت بهذا انتقصت السيف.
إذاً: قول سليمان وداود عليهما السلام فيه دلالة على أن المرء لا يحرز النبل والفضل إلا إذا قورن بأهل الفضل، ليس مثل أي أحد في الدنيا لا، {فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]، وهذا يدلك أيضاً على تفاضل أهل الإيمان، وهذا ثابت في ديننا في القرآن والسنة، أن أهل الإيمان يتفاضلون بالإيمان عند الله تبارك وتعالى يوم موتهم، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل، أي: أنك عندما تعترف بفضل أخيك المؤمن عليك إياك أن تتصور أنك أنت تحط من نفسك لا، بل كلما اعترفت بفضل الناس زاد فضلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما دعا رجل لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله له به ملكاً يقول له: ولك مثله) أيهما أفضل؟ الذي يدعو له الملك يدعو له، أي: إذا أنا دعوت لأبي فقلت: اللهم ارحمه.
دعائي قد لا يستجاب، فيقول الملك: ولك بمثل، فدعاء الملك مستجاب، إذاً: الداعي هو الأفضل؛ لأن الملك هو الذي يدعو له، لكن أنت تدعو لصاحبك، فانظر أنت بهذا صرت أفضل، فأنت عندما تأتي تقول: فلان أعلم مني وأفضل مني إياك أن تتخيل أنك تحط من درجتك لا.
جلس سفيان بن عيينة رحمه الله في مجلس يخطب الناس، فسأل: هل هناك أحد من أهل الكوفة؟ قال فلان: أنا.
قال: ما فعل - الوليد بن مسلم مثلاً أو أي عالم من العلماء؟ قال له: مات.
قال: فهل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قالوا: نعم.
قال: ما فعل فلان؟ قالوا: مات.
قال: هل فيكم أحد من بلاد ما وراء النهر؟ قالوا: نعم.
قال: ما فعل فلان؟ قالوا: مات.
قال: هل فيكم أحد من مصر؟ قالوا: نعم.
قال: ما فعل فلان؟ قال: مات.
فحينئذٍ بكى سفيان وأنشد قائلاً: خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّؤدَدِ أي: أنا ما وصلت إلى هذا السؤدد إلا أن الديار خلت ولم يبق إلا مثلي.
وكذلك أبو سفيان رضي الله عنه: ما ترأس المشركين في أحد إلا بعد ذهاب أكابرهم.
فـ سفيان بن عيينة كأنه يقول: إني سدت الديار لما خلت من هؤلاء الأكابر، مع أني لا أستحق هذه السيادة هل وضع هذا من قدر سفيان؟ خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ -أي: وأنا لا أستحق التسويد- ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّؤدَدِ يشعر لهذا كل إنسان جرد القصد لله -عز وجل- من أهل العلم، يحس بالمحنة عندما يكون وحده في الساحة، إياك أن تتخيل أن العالم الذي قصد الله عز وجل أن يكون منبسطاً أن كل الخلق حوله لا، إنما يشعر بالمحنة أنه وحده؛ لأن القصد مصلحة الناس، مهما كان العالم جليلاً لا يستطيع الناس جميعاً أن يجتمعوا في مكان واحدٍ فيسمعوا كلام الله ورسوله.
ولكن تخيل أن البلاد هذه فيها -مثلاً- ألف عالم، إذاً: نحن ضمنا أن الحق والهدى سيصل إلى أغلب الناس أم لا؟ وليس أن الواحد لوحده مشهور ومحبوب، وكل الناس حوله، فيصير هذا يدعوه إلى الفرح لا بل هذه محنة، مثل كلام سفيان: أن الإنسان إذا كان فريداً لا يجري معه أحداً من أهل الفضل في مضماره أن هذه محنة، وليست منحة ولا شيئاً.
إذاً: فضلك يظهر بمقارنتك بأهل الفضل وليس بكل الناس؛ ولذلك خصص داود وسليمان عليهما السلام المؤمنين، إذ لا يظهر لهم فضل إلا في وسط أهل النبل -أهل الإيمان: {(78/6)
احذروا خطوات الشيطان [1]
لابد للمسلم من تحقيق معنى الشهادتين، وذلك بالعلم والعمل، ولا يتم ذلك إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه، فيجب علينا ترسم خطاه صلى الله عليه وسلم، وتربية أبنائنا على حبه، وتقديم أوامره على غيره، ونسلك في ذلك الوسائل المختلفة.(79/1)
تحقيق الشهادتين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر، ح.
وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وخبيب بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلاً المسجد؛ فاستلمته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام).
قوله: (يا محمد) ناداه باسمه حتى يظن الصحابة أنه من جفاة الأعراب، وهم يمتازون بالغلظة والشدة قال الله عن بعضهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور:63] لا تقولوا: يا محمد، حتى الكنية نفسها -وكنيته عليه الصلاة والسلام أبو القاسم- ثبت عنه من طرق كالجبل الأشم أنه قال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لكن أهل العلم على خلاف في هذه المسألة، فمنهم من رأى تحريم التكني بكنيته، ومنهم من رأى جواز ذلك، وإنما اختلفوا في العلة: فمن نصب علة فقال -كما ورد في الحديث- إن سبب قول هذا الحديث أن رجلاً نادى آخر، فقال: يا أبا القاسم! ينادي صاحبه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك! فقال: لم أعنك، أي: أنا أقصد رجلاً آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لأن نداءه هو السبب وقد زال السبب بموته صلى الله عليه وسلم.
فحينئذ الحكم يدور مع العلة وجودا ًوعدماً، فحيث وجدت العلة وجد الحكم، وحيث انتفت العلة انتفى الحكم، وقد انتفت العلة، هذا كلامهم، لذلك قالوا: لا نرى بأساً أن يدعى الرجل بأبي القاسم، وعليه فقد تكنى بها جماعة من العلماء والمحدثين من أشهرهم أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وابن عساكر صاحب التاريخ الكبير الذي هو تاريخ دمشق طبع منه خمس وستين مجلداً حتى الآن.
من كرامة الرجل أن تناديه بكنيته، أو تناديه بلقبه، لا تناديه بالاسم، فالأعراب كانوا ينادون: يا محمد! فقال الله عز وجل لهم: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] يعني: إذا أردت أن تنادي فلا تقل: يا محمد! بل يجب أن تعظمه، فإما أن تناديه بكنيته فتقول: يا أبا القاسم، أو تناديه بلقبه فتقول: يا رسول الله! فقال: (يا محمد!) زيادة في تعمية أمره، وكأنه أعرابي من الجهال، قال: (أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا).
وسنقف مع كل ركن من هذه الأركان، أولاً: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ما معنى أن تشهد؟ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة:6]، إذاً: الغيب ضد الشهادة، فالغيب هو ما غاب عنك، والشهادة ما ترى بعينك، فالشهادة هنا: هي الرؤيا، أو كأنها الرؤيا، وهذا يرسلنا مباشرةً إلى آخر الحديث عندما قال له أخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه).
ولما جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصني يا رسول الله! قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك)، فهل يستطيع رجلٌ منا أن يقوم قلبه على مشهدٍ من مشاهد العصيان ويراه أحد؟ لا يستطيع ولا يقوى قلب إنسان أن يقوم بالمعصية وأحد يراه، ولذلك يحرز نفسه إذا أراد أن يعصي، فتراه يغلق الباب والنافذة ويأمن نفسه، ويتعرف على مواعيد خروج ودخول الآخرين، ثم يقوم بعمل هذه المعصية.
(أن تعبد الله كأنك تراه): يعني: إذا اعتقدت أن الله يراك، وقام قلبك لهذا المشهد، فلا يمكن أن يقوى قلبك على العصيان ألبتة، فليس معنى أن تشهد أن لا إله إلا الله أن الأمر انتهى، ليس هذا معنى الشهادة، فالكلمة أنت قلتها، ولكن الشهادة يشترط فيها العلم والصدق، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، إذاً: لابد أن تشهد بحقٍ وبعلم.
إذاً: تحقيق معنى الشهادة: أن تعتقد أن الله تبارك وتعالى يراك.
يعني مثلاً: هناك بعض الإخوة يمكن أن يصلي الفجر وأخذ شكل الالتزام الظاهر، لكن عنده بلايا قديمة لم يستطع أن يتخلص منها حتى الآن، فهو قد قلل من الذنب، كان يفعله جهاراً فأصبح يفعله سراً، والتدخين مثلاً، بعض الناس مبتلون بالتدخين، فتنظر إليه تجده متسنناً، وتراه لا يترك صلاة في المسجد، وتراه رجلاً منافحاً عن السنة، ونحن لا نقول: إنه بهذه المعصية لا يحب الله ورسوله؛ فإن محبة الله ورسوله قد تجتمع مع العصيان، فقد جاء في البخاري وغيره: (أن رجلاً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر، فقال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالعصا، فقال له رجلٌ: لعنك الله! فقال: لا تعن الشيطان على أخيك).
وفي رواية خارج الصحيحين قال: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)، وحديث آخر في الصحيح أيضاً: أنه لما لمزه شخص وقال إنه من المنافقين قال: (إنه يحب الله ورسوله)، فالإنسان قد يحب الله ورسوله وتجتمع فيه شعبة من شعب المعاصي، أي: أنه يفعل معصية وهو يحب الله ورسوله، لكنه حبٌ غير تام، إذ لو أحب الله عز وجل لاستحيا أن يبارز الله بالعصيان، ثم قارف العصيان من خلف الجدار حياء من الناس.
فكلمة (أشهد أن لا إله إلا الله) ينبغي أن يقوم قلبك بمعنى الشهادة فيها، كأن الله يراك، فإذا وصلت إلى هذا المعنى فقد حققت معنى (أشهد أن لا إله إلا الله).
(وأشهد أن محمداً رسول الله) يعني أن تشهد أيضاً أن محمداً رسول الله، ونفس المعنى أن تشهد كل حديث يأتيك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتعتبر أنه هو الذي يأمرك وأنت واقف أمامه تشهده وتنظر إليه.
مثلاً أنا رجل ثقة ولم تجربوا علي كذباً، وقلت لكم -وأنا أعلم الصحيح من الضعيف- صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت حديثاً لم أصححه أنا فحسب، وإنما أجمعت الأمة على صحته، فما أنا إلا مبلغ، فقلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، لماذا لا تبادر إلى فعله؟ نحن لن نحقق معنى الشهادة إلا بالاتباع.
ما هو الفرق بين أن يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: افعل! وبين أن يقول لك أحد أصحابه أو أتباعه: افعل؟! وهل تواجده عليه الصلاة والسلام شرطٌ في البلاغ، فلقد كان يرسل أصحابه إلى الآفاق بدعوة الإسلام، وكان يقاتل الذين لا يستجيبون لدعوة الإسلام على لسان فردٍ من أصحابه، وكان يصدق صاحبه فيما قال، فإذا قال: إن هؤلاء ردوا الإسلام، أرسل لهم بدفع الجزية، فإذا رجع صاحبه وقال: أبوا أن يدفعوا الجزية جهز الجيش وذهب ليغزوهم بخبر واحد، ولا نعلم أن واحداً من الذين أرسل إليهم في الآفاق قال لأحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: يشترط أن يأتينا بنفسه، ما قال أحد هذا الكلام، إنما تقوم الحجة بالمبلغ، وقد نقل ابن القيم رحمه الله: إجماع الأمة على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه وبعد مماته إلى سنته، ولا يعلم سنته إلا العلماء، فإذا قال العالم: افعل كذا، فما الذي يصدك عن الاتباع؟(79/2)
أثر المحبة في الاتباع
فالذي لم يحقق معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله) لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قضية الدبلة مثلاً يأتي لك شخص فيقول: أنا سأعمل مشكلة، وأنا إنما ألبسها لأنهم يعاكسونني وكذا ولو علموا أن ألبس دبلة فضة سيقولون: كذا وكذا، وهناك بعض الناس يقول مثل هذا الكلام المتهافت، يريد أن يقول: أنا مضطر.
فنقول له: لا تلبس الدبلة الفضة أيضاً؛ لأن المشكلة ليست هي أن تلبس فضة أو ذهباً، ولكن المشكلة أن الدبلة نفسها ليست من شرعنا، فهي اصطلاح نصراني محض، وهكذا اصطلحوا عليه، إذا وضعها في اليمين فهو خاطب، وبعدما يتزوج ينقلها إلى الشمال، فهذا تقليد نصراني ليس من ديننا، فنحن منهيون عن لبس الدبلة أصلاً، رجالاً ونساءً، لا فضة ولا غير فضة.
لكن البس خاتماً، والخاتم زينة الإصبع، فالخاتم نوع من التزيين للإصبع، وسواء لبست فضة أو ألمازاً أو أي معدن من المعادن النفيسة، لكن الذهب لا، والذهب بكل درجاته وكل ألوانه لا، ذهب أبيض أو أصفر، وكل مسمّى الذهب الحقيقي، لأن بعض الناس قد يسمي الشيء بغير اسمه، مثل ما يأتي لك بقماش في السوق ويقول لك: حرير، وهو ليس بحرير، أو ليس بالحرير المنهي عنه، ولكن نحن سميناه زوراً حريراً، ولو أتى بعض الناس فقال: هل ألبس المازاً، وهو أغلى من الذهب؟ نقول له: ليس هناك مانع؛ لأن لديك الصوف وهو أغلى من الحرير، ورغم ذلك تلبس الصوف الغالي وتترك الحرير وإن كان أقل سعراً.
إذاً: الاتباع باعثه الحب، فإذا قلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تعظم، فإذا فاتك هذا التعظيم ولم يعلمك إياه أبوك، فعلمه ولدك، فتكون قد قمت بجزء مما عليك، فالولد امتداد لك، وكلما كان الولد صالحاً طال عمرك، لأن الولد الصالح يقال له: الله يرحمك ويرحم والديك! والولد الملعون يلعنونه ويلعنون أباه، فيموت الأب والولد يستجلب اللعنات له، بينما الولد الصالح يستجلب لك الرحمات، فالولد الصالح هو الامتداد لك، بينما الولد الفاسد قُطع أثرك به يوم أن مت وكأنك لم تخلف أصلاً: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] يعني: ليس بابنك، وإنما ابنك هو امتداد لك، فالولد الصالح فقط هو ابنك.(79/3)
تربية الأولاد على الاتباع
عليك أن تبدأ بتدريب ولدك على تحقيق معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنت بذلك تعظم ربك سبحانه وتعالى، فإذا ذكر الله رفعت صوتك في السماء بذلك؛ لأن الولد مثل المسجلة، فإذا ذكرت الله في البيت وسمعك ابنك ولم يتكلم قلت له: لم أنت ساكت هكذا؟ لماذا لم تكبر وتعظم الله؟ وقل هذا الكلام بحماس، فأول ما يسمع الولد لفظ الجلالة يكون متعوداً على التعظيم، فالذكر بالصوت العالي يكون فيه حفاوة، يعني مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
يعني أن صاحب أبيك الذي كان دائماً يأتيه، من أبر البر أن تذهب إليه بعد أن يموت أبوك، وتأخذ معك هدايا وما شابه.
فإذا كنت في حياة أبيك تعرف رجلاً معيناً أو اثنين أو ثلاثة، إذا وصلوا البيت أن أباك يقوم بالترحاب ويقابلهم بالعناق وما شابه، ويقول الكلمة المعتادة: نحن زارنا النبي! وزارنا النبي المقصود بها أنه ليس هناك أغلى منه، يريد أن يقول: ليس هناك أغلى منك، وطبعاً هناك تحفظ على هذا التعبير، لأن هناك أناساً قد تدخلنا في المتنبئين الكذبة، ولا يجوز قول هذا الكلام، وهو من المستبشع في اللفظ ولا يحل ذكره.
فإذا رأيت أباك يعظم أحد أصحابه، يظل تعظيم هذا الصاحب عندك طوال عمرك، وهذا الصاحب يأخذ قدره بقدر ما كان يأخذه في حياة أبيك، وكذلك عليك تعظيم ربك عز وجل وإذا ذكر فحذار من أن تخنس أو تثني عليه بصوت منخفص، ولكن ارفع صوتك، وهلل وكبر، وأمر أولادك أن يرفعوا أصواتهم ويهللوا ويكبروا، وإن كان صغيراً سمع كلامك فيتأثر به.
وإذا ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام فقل: أشهد أن محمداً رسول الله، عليه الصلاة والسلام، صلى الله عليه وسلم وأحياناً يا أخي قد تدركك العبرة، فأحياناً إن كنت صادقاً تدركك العبرة، فيراك ابنك ويرمق هذه الدمعة منك، فيربط بين الدمعة وبين ذكرك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بين ذكرك لربك وبين هذه الدمعة؛ فتؤثر فيه.
قال الإمام مالك رحمه الله: كنا نأتي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فإذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه، وهكذا المحب، كلما ذكرته بحبيبه بكي، وهو دائم البكاء؛ في اللقاء يخشى الفراق، وفي الفراق للاشتياق، فطالما حبيبه بعيد يبكي يريد أن يقابله، فإذا قابله بكي، فهو دائم البكاء جيئة وذهاباً.
فهؤلاء الجماعة كانوا معظمين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحققين معنى كلمة (أشهد)، يعني عندما يسمع الكلام يتخيل النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً أمامه وهو كأنه أحد الصحابة ويتلقى الأمر، ويريد أن يشرف نفسه، هل سينفذ الأمر مباشرة أم سيتوانى ويكسل؟ فلو كان الإنسان مستحضراً أن الرسول عليه الصلاة والسلام موجود أمامه، فمن الممكن أن يبكي إذا مس الحديث أوتار قلبه.
إذاً: ممكن أن يربط ابنك بين الدمعة والشهادة فتعظم المسألة عنده، وبعض الناس أراد أن يعلم ابنه حب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بني! من أغلى الناس؟ فقال له: أنت يا أبي! فقال له: لا.
أغلى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمر أمراً ينبغي أن يطاع، وأي أحد في الدنيا يخالفه ويقول شيء غير الذي قاله من ستسمع فيهم؟ فقال له: أسمع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وظل يكرر عليه الكلام.
وابنك -كما قلنا قبل ذلك- لا يستوعب معنى اللفظ كاملاً، لا تظن أنك عندما تقول له هذا الكلام أنه اهتضم مائة بالمائة، وأن الرسول بالفعل أصبح أغلى شخص عنده، وأن كلامه لا يجب أن يخالف، لا.
بل هوأخذ منك كلامك على قدر فهمه هو، فإذا خالفك بعد ثانية واحدة فلا تقل له: لم تعاندني؟ هو لم يقصد أن يعاندك ولكن لم يفهم، فلعل عقله لم يستوعب من الكلمة إلا عشرها أو أقل من عشرها، فأنت محتاج إلى أن تكرر الكلمة الواحدة مرة ومرتين وعشر مرات إلى مائة، فكل يوم تقول له: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى واحد هل تخالفه؟ فيقول: لا، ولو خالفه شخص من ستطيع؟ فيقول: الرسول.
وكل يوم على هذا المنوال.
وظل الرجل مدة طويلة وهو يقول له هذا الكلام كل يوم حتى حفظها الولد، فأراد أن يختبر الولد يوماً، وهذا بعدما علمه أن الكذب حرام وأن الذي يكذب يغضب منه الرسول فجاء شخص ودق الباب فقال له: قل له لست هنا! فالولد مباشرة خرج وقال له: أبي ليس هنا!! لماذا؟ لأن أباه حاضر أمامه، وهذا هو معنى الشهادة.
فالولد يخشى أن يوقع أبوه العقوبة به، فلما أمن الولد جانب العقوبة قال مباشرة: أبي ليس هنا، فمباشرة خرج الرجل ونادى صاحبه وأفهمه الموقف، وبأن هذا الولد أنا أقوم بتدريبه على كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، ثم جئت أختبره.
ثم جاء الولد، فقال له: لماذا قلت للرجل أني لست هنا؟ فقال الولد: أنت قلت لي هكذا، فقال له: ألم أقل لك قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب الكذب؟! وأن الرسول عندما يقول لا تكذب، وأنا أكذب، فعليك أن تسمع كلام الرسول!! فلم يضربه، لأنه لو ضربه لكره التعليم، فلا تعاقب ولدك بالصراعات في مقتبل العمر.
ذات مرة أراد أحد المدرسين أن يكون ابنه الأول على المدرسة؛ لأنه مدرس ويحب الطالب المتفوق في الصف، وكل مدرس عنده هذه القضية مستقرة في نفسه، ومهما كلمته عن ملكات الأطفال، وأن مستوى الذكاء متفاوت، يقل لك: لا، لازم يطلع الأول، وتأتي لآخر يريد أن يلبس ابنته الحجاب والبنت لا تريد أن تلبس الحجاب أبداً، فيقول لها: أقسم بعزة الله إن لم تكوني الأولى على المدرسة لألبسنك الحجاب!! أي نكد هذا، يعني لو لم تكن الأولى على المدرسة سنعاقبها ونلبسها الحجاب؟!! أي تربية هذه، فيحصل انطباع عند البنت بأن الحجاب هذا عقوبة، فتكرهه من قلبها، فلا تجعل العقوبة هي الطاعات وأنت تعلّم الولد، إنما عندما يصير للولد أهلية للثواب والعقاب عاقبه إذا أخطأ، لماذا؟ لأن المعاني ستكون مستقرة عنده، فتقول له: لا تعمل هذه، وهو كبير عمره خمس عشرة أو عشرين سنة، فيفهم الموقف، لكن إذا كان الولد صغيراً وقلت له: لا تعمل هذه، هو فهم منها عشرة بالمائة، والتسعين بالمائة في اللعب الذي هو يريد أن يلعبه، فعندما يكون له أهلية عاقبه على قدر استعيابه، لكن طالما كان صغيراً لا تعاقبه، أقلل من العقوبة طالما كان الولد صغيراً، وحفزه دائماً.
وأنا أعرف مسجداً افتتح بحارتنا سنوا فيه سنة كبيرة جداً، وهي أنهم وضعوا كيساً من الشوكولاته والحلوى فأمس فقط وجدت أولاد أناس من جيراني لا يدخلون المسجد، ودخلوا المسجد مرة فأخذوا حلوى، وإذا بهم كل يوم في المسجد، فأخذت أتكلم مع الإمام بعد أن خرج الناس وما زال الأطفال جالسين، فاستغربت ماذا يريد هؤلاء الأطفال؟ وأنا لا أعرف السبب، فذكر لي أنهم كل يوم يأتون ليأخذوا حلوى، ألا تنزل هؤلاء الأولاد منزلة المؤلفة قلوبهم، تألف قلوبهم، فربنا عز وجل فرض سهماً في الزكاة للمؤلفة قلوبهم.
يعني لو أنّ لديك رجلاً غير ملتزم وتريد منه أن يلتزم لا تكلمه، إنما استخدم رجلاً آخر كسفير بينك وبينه يعطيه هدية منك، وتستطيع بذلك أن تكسر الحاجز النفسي الذي بينك وبينه عن طريق الهدية، والهدية عطية.
والصحابة الذين كانوا يأخذون سهم المؤلفة قلوبهم لم يأخذوها بعد ذلك، فقال قائلهم: والله لا آخذ على الإسلام أجراً، لأنه أسلم في البداية من أجل أن يأخذ مالاً، لكن بعد ذلك ما رضي أن يأخذ أجراً، وحسن إسلامه.
فكيس الحلوى الذي بثلاث جنيهات تجعل الأولاد الطامحين كلهم يصلون، فالولد الصغير تنطبع عنده كل هذه الأشياء، وأنت من تعظيمك لله ورسوله ولهجك بالثناء عليهما، هذا كله يلاحظه الولد فيرثه، فإذا عظم يبدأ بتدوير معنى آخر بداخله لا تعلم أنت ما هو.
هذا ما عجزت أنت عن تحقيقة إذ فرط أبوك في تربيتك، فلا تفرط أنت مع أولادك، أقم الصلاة وآت الزكاة وصم رمضان وحج البيت، كل هذا مبني على معنى (أشهد).
هناك جماعة يذهبون للحج؛ لكن لم يحققوا معنى كلمة (أشهد)، وقد رأيت أناساً بعيني على جبل الرحمة في يوم عرفات يدخنون السجائر، وأناساً في الخيمة يشربون المعسل، وانظر إلى شخص جالس في يوم عرفة -الذي يباهي فيه الله عز وجل بالجمع: (أتوني شعثاً غبراً ضاحين) - يشرب السجائر، وآخر يشرب المعسل في الخيمة.
هؤلاء لم يحققوا معنى كلمة (أشهد).
لما حجيت أول مرة مع الشيخ الألباني رحمه الله، ونحن خارجون من باب الفندق لقينا رجل مصري وهو يشرب بالشمال، فقال له الشيخ: يا فلان أو يا شيخ -ولا أذكر لفظ الشيخ بالضبط- لا تشرب بالشمال! فرد عليه قائلاً: هذا دواء!! وهل الدواء يشرب بالشمال؟! وأنا توقعت الإجابة، فعندما يقول له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يشربن أحدكم بشماله، ولا يأكلن بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) فيأتي يقول هو: هذا دواء، ليس بأكل ولا بشرب، وهكذا يكون خرج من الحديث فينظره السقيم.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [النساء:10]، فيقول لك: أنا لا آكله -ظاهرية جامدة على اللفظ- لو أحرقته لا أقع تحت الآية، لكن لو أكله يقع تحتها، وما الفرق بين الإحراق والأكل وكله إتلاف، والقصد أنك لا تتلف مال اليتيم، وليس معنى هذا أن تحرقه ولا تأكله فيكون عليك حراماً.
فلما قال له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا وكذا قال له: هذا دواء، ولا يوجد أحد من الصحابة إطلاقاً خالف في هذه المسألة، فكل مخالفة في الفعل يأتي بها المكلف سببها أنه لم يحقق معنى كلمة (أشهد) التي تفيد الشهادة والحضور والنظر، سواء كان في شطر الشهادة الأول: أشهد أن لا إله إلا الله، أو في الشطر الثاني: أشهد أن محمداً رسول الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(79/4)
الأسئلة
نجيب عن بعض الأسئلة(79/5)
موقف الشيخ ابن باز من حكم الألباني على الأحاديث
السؤال
سمعنا من بعض طلبة العلم يقولون على لسان الشيخ عبد العزيز بن باز: إن الشيخ الألباني يقول: نتساهل مع بعض الرواة وكذلك التحسين والتصحيح والتضعيف في تحسين الحديث الضعيف، ويقولون: الشيخ ابن باز له تعقب على تحسينات الشيخ الألباني للحديث، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
فنقول: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ونقول أيضاً: من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط وأقول ثالثا: إن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، من أشد الناس تعظيماً وتوقيراً للشيخ الألباني، وحدثني بعض أكابر أصحاب الشيخ ابن باز أنه كان في مكة في مجلس يضم الشيخ ابن باز والشيخ الألباني، فأبى الشيخ عبد العزيز بن باز أن يدخل قبل دخول الشيخ الألباني وقدّمه، وقال إنما ينبغي أن يقدم أهل الفضل.
ودخل الشيخ ابن باز مرة في بيت بعض الشاميين الذين لا يحبونه وينتقصونه في دروسه العلمية، فالشيخ ابن باز رحمه الله دخل على هذا الرجل، وأنا أعرفه، فالشيخ ابن باز كان يعلم أن صاحب هذا الدار يتكلم على الشيخ الألباني، فدارت مناقشات علمية في بعض الأحاديث، فالشيخ ابن باز قال: هل عندك كتاب إرواء الغليل، وهو كتاب للشيخ الألباني رحمه الله يقع في ثمانية مجلدات، خرج فيه أحاديث منار السبيل، وهو كتاب من مجلدين فقط في الفقه الحنبلي، فالشيخ الألباني خرج أحاديث وآثار هذا الكتاب وحكم عليها بالصحة والضعف أو ما يناسبها في ثمانية مجلدات، فالشيخ ابن باز قال لصاحب الدار: هل عندك إرواء الغليل؟ قال: نعم، قال: ائت به، ماذا قال الشيخ الألباني في هذا الحديث؟ والحديث كان صححه الألباني.
فالشيخ ابن باز حفظه الله فقيه، ومن أعف الناس لساناً، وأنا لا أعلم أحداً من العلماء الكبار في السعودية يعظم الألباني كتعظيم الشيخ ابن باز.
وأنا قدمت هذه المقدمة حتى أرد على من يقول: الشيخ ابن باز رد على الشيخ الألباني، ويبين أنهم يتناحرون فيما بينهم، والشيخ الألباني ليس معصوماً، وسئل الشيخ ابن باز -ولم أسمع هذا منه مباشرة إنما حدثت عنه- عن الشيخ الألباني فقال: لا أعلم أحداً تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الألباني، وهذه شهادة حق، فأعلم الناس بالحديث في هذا الزمن هو الشيخ الألباني، على رغم أنف الحسود.
وليس معنى أنه أعلم الناس ألا يكون له زلة، أو لا يطالب بحكم من الأحكام، بل الشيخ الألباني لما طبعت كتبه الجديدة مثل السلسلة الصحيحة مثلاً رجع عن بعض أحكامه التي حققها منذ ثلاثين عاماً، مثل حديث صحيح رأى أنه ضعيف، وضعيف رأى أنه حسن، وضعيف رأى أنه موضوع إلى آخره، فتغيرت المراتب، وهو نفسه يقول: وحتى لا يظن أحد أن هذا خطأ مطبعي إذا وجدت شيئاً تغير حكمه، فلي أستاذ في السلف من العلماء الذين كانت تتغير أحكامهم، لا سيما الإمام أحمد بن حنبل، والشافعي له مذهبان: مذهب قديم ومذهب جديد، يُقال: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد، وأحمد رحمه الله له أقوال في المسألة قد تصل إلى خمسة، ولم يقل واحد من المنتسبين لـ أحمد ولا غير المنتسبين: إن هذا تناقض من أحمد، بل يحملون قول أحمد على دلالة وقوله الآخر على دلالة أخرى، ويقولون: ربما هذا المتقدم وهذا المتأخر، ويلتمسون الأعذار للعلماء، فلم لا يلتمسون الأعذار لعلماء الحديث، والقول واحد والصورة واحدة.
والشيخ الألباني رحمه الله ليس معصوماً، نعم.
غلط في الأحاديث وكان الحق مع مخالفيه، فبعض الناس خالفوه في أحاديث حسنها وكانت ضعيفة وكان الحق مع مخالفيه، وكذلك صحح أحاديث والحق مع مخالفيه في أنها مثلاً حسنة أو ضعيفة، ولكن حسنات الشيخ أكبر بكثير من سيئاته.
فانتقاد الشيخ ابن باز رحمه الله لبعض ما يكون من الشيخ الألباني ليس هجوماً من الشيخ ابن باز على الألباني، وثانياً النظراء يختلفون.
وفي سير أعلام النبلاء قال يونس بن عبد الأعلى رحمه الله وهو واحد من أصحاب الشافعي، قال: اختلفت مع الشافعي في مسألة فجاءني وطرق بابي، ثم أخذ بيدي وقال لي: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة، قال الذهبي رحمه الله معلقاً على قول الشافعي: ما أثمن عقل هذا الإمام! فما زال النظراء يختلفون.
والشافعي رحمه الله تكلم على مالك، فلما جاء من العراق إلى مصر ومصر كانت مالكية، فبدأ الشافعي يتكلم وينتقد مالكاً في بعض ما ذهب إليه من أحكام، فهاج عليه المالكية، ومنهم محمد بن عبد الله بن الحسن، وكان قرين الشافعي في الأخذ، وعظم على الشافعي أن يخالف مالكاً، فلزم الشافعي بيته ولم يخرج، لأنهم عظموا عليه أن يخالف مالكاً، فذكر أبياتاً بين فيها أن ما عليه من جناح إن خالف مالكاً، لأن هذا لا يضر، وكذلك خالف الشافعي محمد بن الحسن الشيباني وقد تتلمذ له، ولا زال النظراء يختلفون، ولا زال التلاميذ يخالفون شيوخهم، فما بالك بأعلم رجلين في هذا العصر إذا خالف أحدهما الآخر في مسألة أو في تصحيح حديث، فالمسألة محتملة، لا سيما إذا دخلت في باب الاجتهاد، قد يكون الحكم على حديث داخلاً في باب الاجتهاد، فكلما رسخ السبب والمنطق العلمي كلما أصاب الرمية بتحقيق.
نسأل الله عز وجل ألا يجعل في قلوبنا غلاً لعلمائنا ولا للذين آمنوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(79/6)
تعليق الإيمان بمشيئة الله
السؤال
ما حكم أن يقول الرجل: أنا مؤمنٌ إن شاء الله؟
الجواب
يجوز على أرجح أقوال العلماء أن يقول الرجل: أنا مؤمنٌ إن شاء الله، وليس الاستثناء شكاً في الإيمان، خلافاً للمرجئة، وقد قال الله عز وجل عن الأمر المحقق: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، ولم يكن الاستثناء هنا شكاً في دخول المسجد الحرام، بل كان أمراً متحققاً، والله أعلم.(79/7)
عدة الرجل
السؤال
يقول السائل: هل الرجل له عدة مثل المرأة؟
الجواب
نعم، الرجل له عدة؛ لكن عدة اعتبارية، ليس للرجل عدة كعدة المرأة، ولكن له عدةٌ اعتبارية، بمعنى أنه يمنع من زواج بعض النساء إلى أن ينتهي الأجل، كأن يكون مثلاً متزوجاً بأربع نساء، وطلق امرأةً في هذا اليوم، فإنه لا يحل أن يتزوج امرأةً غيرها حتى تنقضي عدة المرأة الرابعة؛ لأن المرأة التي طلقت لا زالت على عصمته، فالرجل هنا يمنع من الزواج، فلو قلنا إنها عدة فإنها تكون عدة اعتبارية، وكذلك إذا تزوج الرجل بامرأة واحدة وطلقها، فلا يجوز له أن يتزوج أخت امرأته ولا خالتها ولا عمتها في العدة، إذاً: من قال في كتب بعض أهل العلم: إن الرجل له عدة: فهي عدة اعتبارية، بمعنى: أنه يمنع من أن يتزوج صنفاً من النساء لوجود علة، فإذا زالت هذه العلة فله أن يتزوج.(79/8)
حكم الدروس الخصوصية
السؤال
سائل يقول: ما حكم الشرع في الدروس الخصوصية؟
الجواب
الدروس الخصوصية كثر عنها القيل والقال، والذي وضع القوانين ليس الفقهاء، والقانونيون هم الذين أفتوا بحرمة الدروس الخصوصية، إنما الحكم الشرعي أن الدروس الخصوصية جائزة ومالها حلال، ولا عصيان فيها، بشرط أن المدرس يتقي الله عز وجل، ويقوم بشرح الدرس في حصته كما ينبغي له أن يشرح، وإذا طلب منه التلميذ معلومة فلا يدخرها عنه، ولا يحتكرها، ولا يحجبها، وإذا طلب منه التلميذ أنه يعيد الدرس ثانية أو معلومة ثانية، فإذا وافق ذلك وقتاً في الحصة فينبغي عليه أن يفعل، فإذا فعل المدرس ذلك وجاءه الطالب بعد ذلك يقول: أريد أن تعطيني درساً، فالمسألة تدخل في باب التجارة.
فلو أتاني شخص ليستأجر وقتي الذي صار ملكي، أستريح فيه، وأعطيه لأولادي، وانتهى وقت العمل الرسمي، فجاء رجل يستأجر وقتي وجهدي مع أولادي؛ كيف لا أؤجره؟ فإن أنا أجرته وأخذت في مقابله مالاً جاز بالاتفاق، ولم تكن إجارة مكروهة، فضلاً عن أن تكون محرمة، بل هي إجارة صحيحة لا إشكال فيها ولكن بالضابط الذي قلناه، والله أعلم.(79/9)
حديث: (الوعاء يستخدم) موضوع
السؤال
يسأل سائل عن صحة حديث: (الوعاء يستخدم) الحديث
الجواب
روى هذا الحديث ابن مجدوح لا رضي الله عنه، وهذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.(79/10)
نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم
السؤال
يقول السائل: أشيع أن كتاب الروح مدسوس على شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا، لكن بعض العلماء المتأخرين قالوا: إن ابن القيم صنف هذا الكتاب قبل أن يلقى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فبعدما لقي شيخ الإسلام ابن تيمية تنقحت كثير من أفكاره وآرائه، وعليك دائماً بالمتأخر من كتب العلماء، حيث تعمل بمذهبه الأخير، والله أعلم.(79/11)
عليكم هديا قاصدا
الإسلام دين يسر لا دين عسر، فهو سهل في تشريعاته وأحكامه قال تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) كما أن الله عز وجل قد رفع عنا الحرج في الدين فقال: ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)).
وقد جاء في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تدعو إلى التبشير والتيسير، وتنهي عن التشديد والتنفير، ولكن الناس هم الذين يشددون على أنفسهم ظناً منهم أنهم بذلك إنما ينالون مزيداً من الأجر والثواب.(80/1)
بيان أن الإسلام دين يسر
إن الحمد لله نحمده تعالى، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه والسياق للمسند من حديث حصين بن عبد الرحمن ومغيرة بن مقسم الضبي عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: زوجني أبي امرأة من قريش ذات حسب، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها مما أجد بي من القوة في العبادة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته فسألها، كيف حال عبد الله معك؟ فقالت: عبد الله نعم العبد لربه من رجل لم يفتش لنا كنفاً ولم يعرف لنا فراشا، قال: فأقبل علي أبي فعزمني وعضني بلسانه، وقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، ثم شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (أتصوم النهار؟ قلت: نعم.
قال: أتقوم الليل؟ قلت: نعم.
قال: ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
قال حصين في حديثه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
ثم قال له: (كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأه كل يوم، قال: فاقرأ القرآن في شهر، قال: إني أجد بي من القوة أكثر من ذلك، قال: فاقرأ القرآن في عشرة أيام، قال: إني أجد بي قوة، قال: فاقرأ القرآن في ثلاث، ثم قال له: كيف تصوم، قال: أصوم كل يوم، قال: فصم ثلاثة أيام في الشهر، قال: إني أقدر، قال فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً، هذا خير الصيام صيام أخي داود).
قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو لما كبر يصوم الأيام متتالية، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، وكان يقرأ القرآن لا يوفي -يعني في اليوم الواحد- لكنه كان يقرأ ويدع غير أنه كان يوفي في كل سبعة أيام، كان يقرأ القرآن مرة، ويقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كره أن يدع شيئاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفعله.
وجاء في صحيح البخاري قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (لعله أن تطول بك حياة) فندم عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شدد على نفسه في أيام إقباله على العبادة.
أيها الإخوة الكرام! إن أفضل ما يميز ديننا أنه دين سهل يسير، وقد نفى الله عز وجل الحرج في الدين، فقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
يقول علماء الأصول: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهكذا في هذه الآية، فلفظة (حرج) نكرة، وجاءت في سياق منفي: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فمعنى هذا أنه لا يوجد أدنى حرج يذكر في دين الله تبارك وتعالى، قوله (من) هي التبعيضية، كما لو قلت: أكلت من الرغيف، يعني: أكلت بعض الرغيف، أو شربت من الماء، يعني: شربت بعض الماء، فـ (من) هنا تبعيضية، فهذا الحرج المنفي نفياً كاملاً، مبعّض أيضاً، وهذا كله يؤكد أنه لا حرج ألبتة في دين الله تبارك وتعالى.
ومما يبين أن ديننا يسر: أن الله عز وجل شرع الرخص، والرخصة لا تكون إلا لمزيد من التيسير، والرخصة معناها إسقاط جزء من العزيمة، وهذا كله يبين أن دين الله تبارك وتعالى يسر لكن الرخص لا تناط إلا بالطاعات، يعني لا يجوز أن يستمتع عاص بالرخصة، فإن الرخصة لا يستمتع بها إلا طائع، وإلا فالأصل أن الرجل المنحرف يشدد عليه، لا يرخص له، فلو افترضنا جدلاً أن رجلاً سافر سفر معصية، فلا يحل لهذا الرجل في سفر المعصية أن يقصر الصلاة، ولا يحل له أن يفطر في رمضان.
وبهذا الأصل احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الذاهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد شد الرحل إليه، لا يجوز له أن يقصر الصلاة، قال: لأن شد الرحل إلى القبر معصية، إنما المسنون هو أن يشد الرحل إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
كذلك المرأة التي تحمل من سفاح، لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنها عاصية، والعاصي لا يستمتع بالرخصة.
لكن إذا حملت المرأة من زوجها، وقيل: إن صحتها لا تتحمل، وأن هناك خطورة حقيقية على حياة المرأة، فيكتب الطبيب هذا التقرير ولا يفتي، لأنه لا يجوز للطبيب أن يفتي المرأة بالإجهاض، فالمفتي بناءً على ما يقرأ يقول: نعم، يحل شرعاً للمرأة أن تجهض، فالمرأة التي تحمل من زوجها وعرض لها مثل هذا العارض يجوز لها أن تجهض الحمل، هذه رخصة لها.
فإذا أضفت إلى ذلك أن فضيحة المرأة إذا حملت من سفاح أمر أراده الله ورسوله، تأكد أنه لا يجوز لها أن تجهض الحمل، نحن نعلم أن الأصل الستر على المسلم العاصي، فإذا زنى رجل بامرأة وكانا غير محصنين، فحكمهما كما يقول تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، فهذا ضد الستر، لماذا؟ حتى تتم العظة وتتم العبرة، فإذا رأى الرجل فضيحة نظيره الذي ارتكس في هذه الفاحشة، وأن الناس يشهدون عذابه، فإنه يحذر أن يقع في مثل هذه المعصية.
أما إذا كان الزاني محصناً فالحد الذي أجمع أهل العلم عليه: الرجم، وقد كان الرجم ثابتاً في كتاب الله عز وجل، ثم نسخت الآية ورفع لفظها، وهذا اللفظ رواه الحاكم في مستدركه، وكان لفظ الآية: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ثم رفع لفظ هذه الآية وثبت الحكم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل إذا زنى وهو محصن -يعني: متزوج- أو المرأة إذا زنت وهي محصنة -أي: متزوجة- فالحكم هو الرجم، فيحفر لكل واحد حفرة في الأرض ويدفن نصفه الأسفل، ثم يرجم بالحجارة في رأسه إلى أن يموت، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
فهذه الفضيحة جزء أرادها الله عز وجل، وليس فيها ستر على الإطلاق إذا تحقق أمر الزنا، ويتحقق إما بالاعتراف، وإما بظهور الحمل، وإما بأربعة شهداء، فهذه المرأة لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنه لو جاز لها أن تجهضه فإنها ستمارس الفاحشة أكثر من مرة، لكن إذا علمت أنه لا سبيل إلى الإجهاض على الإطلاق، وأن المسألة فيها فضيحة وفيها قتل إلى آخره، فإنها ستمتنع من مقارفة هذا الجرم، فالرخص في دين الله تبارك وتعالى إنما شرعت للطائع ولم تشرع للعاصي، فوجود الرخص في ديننا أمر يدل على التيسير.(80/2)
النهي عن وتكلف المشقة في دين الله تبارك وتعالى
نفى الله تبارك وتعالى الغلو والمشقة في دينه تبارك وتعالى، وهذا كله يدل على الرخصة.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس وهو بجمع مزدلفة، قال: (القط لي مثل حصى الخذف وإياكم والغلو) حصى الخذف يعني حصيات صغيرة.
قال: (إياكم والغلو) يعني: لا تكبر حجم الحصاة مرة رأيت رجلاً جاء مندفعاً كالسهم يحمل حجراً كبيرة، ويقول: يا ابن كذا، وشتم شتمتين يؤاخذ عليها الشرع، فرجم بالحجر فوقعت في العمود فإذا بالحجر ترجع له ثانياً، فهذا الرجم غير محسوب له، طالما أنه ضرب الحجر في العمود ورجعت ثانياً، فعليه أن يعيد الرجم مرة أخرى، لأنه لابد أن تقع الحصى في الحوض.
وترى هناك أناساً يضربون العمود بالنعل، فيظن أنه بذلك يضرب الشيطان، فسبحان الله! هذا الرجل الذي عنده غل على هذا الشيطان، نقول له: إن بداخلك شيطاناً يحتاج إلى الرجم كل يوم، الشيطان القابع داخلك والذي يدعوك للفواحش ويجعلك تؤخر الصلاة ولا تقوم بما يجب عليك من دين الله، هو هذا الشيطان الذي يستحق أن يرجم كل يوم.
المشقة غير مقصودة على الإطلاق في دين الله عز وجل، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، فليس معنى هذا الحديث أنه كلما قصدت المشقة أجرت، لا.
فمثلاً: أردت أن تحج وعندك إمكانية مادية أن تركب الطائرة، فقلت: سأركب سيارة قديمة كي تتعبني، ولكي أكون متعباً طوال الطريق، فيظل يسافر يومين أو ثلاثة أيام، وهو إنما فعل ذلك لظنه أن الأجر على قدر المشقة، فنقول له: لا.
الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر على الذين يشقون على أنفسهم تقرباً إلى الله عز وجل.
أبو إسرائيل لما نذر أن يقف في الشمس وهو صائم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليقف في الظل).
ونذرت امرأة أن تحج ماشية، مع أن بإمكانها أن تركب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله غني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب).
إذاً: كون الشخص يقصد المشقة ليؤجر، فهذا ضيق عقل وقلة فهم، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك) فمعناه: أن المشقة إذا كانت ملازمة للعمل لا تنفك عنه ولا حيلة لك فيه، فهذه هي المشقة التي تؤجر عليها، فإذا لم تكن لك القدرة على السفر للحج فوق الطائرة، وإنما أقصى قدرتك أن تركب بعيراً، فركبت البعير لمدة شهر أو عشرين يوماً، فذهبت إلى هناك وجسمك في غاية التعب، فهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك) لأن المشقة لا تنفك عن العمل، ولا حيلة لك في دفع هذه المشقة، أما أن يقصد شخص المشقة قصداً فهذا ليس من دين الله تبارك وتعالى، وقد ضمن الله عز وجل لنا أن هذا الدين ليس فيه أدنى حرج قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].(80/3)
الأمر بالشيء نهي عن ضده
يقول الأصوليون: (الأمر بالشيء نهي عن ضده)، فإذا قلت لك مثلاً: أكرم ضيفك، فأنا نهيتك عن ضده، يعني: لا تهن ضيفك، فالأمر بالشيء نهي -لازم- عن ضده لأن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام اسمه: المنطوق، وباطن الكلام اسمه: المفهوم.
ونحن نقصد مفهوم المخالفة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فإن منطوق الكلام -أي: المعنى الذي من أجله وضع الكلام- إذا جاءك الفاسق بنبأ فلا تصدقه حتى تتأكد منه، وباطن الكلام: إذا جاءك العدل الصادق بنبأ فلا تتبين هذا المنطوق والمفهوم من الآية.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، فغير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الحكم إنما علق بالقيد الظاهر وهو الإحرام.
فهذا ما يطلق عليه العلماء: مفهوم المخالفة، الذي هو معنى الكلام لا في محل النطق.
لكن العمل بمفهوم المخالفة يشترط له: أن لا يكون الكلام خرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب كان المفهوم ملغى، وبسبب الغفلة عن هذا المعنى، ألف أحدهم كتاباً سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب.
فلما رد عليه الناس وسفهوه وقالوا: إنه جاهل، وعندما نشر الكتاب مرة أخرى توجع وقال: إنهم ما قرءوا الكتاب، ولو قرءوه لوجدوا أنني على حق.
فهذا عجيب! لأن العنوان يدل على الحكم، فلو كان العنوان موهماً أو غير واضح، فله أن ينكر على الذين أنكروا عليه لكن الكتاب الذي ألفه لا يحتاج إلى قراءة؛ لأنه وضع الحكم في العنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، فلو ألف أحد كتاباً -مثلاً- وسماه: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، فهل نحتاج إلى قراءة الكتاب حتى نحكم على مؤلفه.
وتوجد عناوين موهمة قد تعطيك عكس ما في الكتاب، وبعض الناس يعتبر هذا فناً، لكن هذا خطأ، فمثلاً: الشيخ أبو بكر الجزائري له كتاب اسمه: إلى التصوف يا عباد الله، فأي أحد يقرأ العنوان يقول: هذا يدعو إلى التصوف، لكن الكتاب هجوم على التصوف، فلماذا وضع هذا العنوان؟ قال: لأنني أريد أن يقرأ الكتاب المتصوفة أنفسهم، فالمتصوف عندما يرى عنوان الكتاب: (إلى التصوف يا عباد الله) يقول: هو هذا الذي أريده، فيأخذ الكتاب ويقرأه، فإذا به يفاجأ أن الكتاب يرد عليهم، فلربما تعجبه كلمة أو كلمتان فيرجع عن مذهبه المنحرف، فالكلام هذا فيه نظر؛ لأن العناوين أنساب الكتب، ولابد أن يكون العنوان مطابقاً لما في الكتاب.
والسيوطي له رسالة اسمها: إسبال الكساء على النساء، فعند قراءتك لعنوان الكتاب تظن أنه يتكلم عن الحجاب واللباس والنقاب، مع أنه يتكلم عن المرأة هل ترى ربها في الآخرة أم لا؟ فما علاقة إسبال الكساء على النساء؟ قال: لأن الذين يقولون إن المرأة لا ترى الله عز وجل يكون عليها إسبال فلا ترى الله.
تشتري الكتاب على أساس أنه كتاب في اللباس والزينة، وإذا بك تفاجأ أن الموضوع مختلف تماماً.
قال صاحب كتاب: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، بعد أن انتقده الناس على هذا العنوان قال: إن مفهوم المخالفة لا يعمل به؛ لأننا لو عملنا بمفهوم المخالفة فسنقع في عدد كثير من الإشكالات.
قال: الإشكال الأول: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فلو أخذنا بمفهوم المخالفة، فإنه يجوز أن نأكل ضعفاً واحداً.
الإشكال الثاني وهو: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فمفهوم المخالفة: أنه يجوز الرفث والجدال والفسوق في غير الحج وبدأ يأخذ آيات وأحاديث على مثل هذه الوثيقة، كل هذا لأجل أن يرد على العلماء الذين احتجوا على النقاب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس قفازين) إذاً: ما هو الرد؟ نقول: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فالعرب عندما كانوا يضعفون الربا نزل الكلام تنبيهاً على غالب ما يفعلون، وإلا فربنا سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، (ما) من صيغ العموم تفيد القليل والكثير، لكن نزل هذا الكلام تنبيهاً على ما كان العرب يفعلونه.
فمثلاً: الربيبة هل يجوز للرجل إذا دخل بأمها أن يتزوجها؟ مثلاً: امرأة زوجها مات وعندها بنت صغيرة، فأنت تقدمت وتزوجت هذه المرأة، فابنتها تكون ربيبة بالنسبة لك، يقول سبحانه وتعالى في آية المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فإذا خطبت الأم ولم تدخل بها فإنه يجوز لك أن تطلقها وتتزوج ابنتها، لكن لو عقدت على البنت تحرم عليك الأم إلى يوم القيامة، والبنت لا تحرم عليك إلا إذا دخلت بالأم.
قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]، في حجوركم: الحجر يعني أنت الذي تربيها، فأنت عندما تزوجت الأم أتت بابنتها معها، فصارت البنت في حجرك.
فإذا افترضنا أن هذه المرأة التي لها بنت قرر زوجها الأول أن يأخذ البنت ويربيها فإنها بهذا لن تكون في حجرك فالسؤال هو: هل يجوز أن تتزوجها؟ لأن الآية تقول: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، فمفهومه هدر.
قولنا: (خرج مخرج الغالب) فإنه لما كانت العادة أن الأم تكون حاضنة لمثل هذه البنت، فتأخذها إلى بيت زوجها الجديد، بخلاف العكس، فكان هذا هو غالب فعل الناس، فنزل هذا القيد على الغالب من فعلهم، فهذا لا مفهوم له، لأن الكلام خرج مخرج الغالب.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، لا يأتي أحد ويقول: افرض أنهن لم يردن تحصناً فهل يجوز أن نكرههن على البغاء؟ نقول: لا؛ لأنه كان من غالب أمرهم أنهم كانوا يكرهون الفتيات على البغاء، فنزل الكلام منزل الغالب.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) غير رمضان، قوله: (وزوجها شاهد) فلو سافر زوجها وقال لها: لا يحل لك أن تصومي أي صيام تطوع وأنا غائب، فهل تطيعه أم لا؟ نعم، تطيعه، لكن مفهوم المخالفة أنه يجوز لها أن تصوم وهو غائب؛ لأن كلمة (شاهد) خرجت مخرج الغالب؛ لأن الرجل إنما يحتاج إلى امرأته وهو شاهد، فلعل المرأة تستأنف الصوم -صيام التطوع- وهو يريدها فتكدر عليه، فالرسول عليه الصلاة والسلام راعى المسألة هذه، لأن شهود الرجل فيه حاجة له، لكن غيابه ما فيه أية حاجة له من أمرأته، فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، وإلا فلو نهاها وهو غائب لا يحل لها أن تصوم.
والعلماء لا يختلفون أن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم؛ لأن المنطوق هو الذي وضع لأجله الكلام ابتداءً، فلو تعارض منطوق ومفهوم، فإنه يقدم المنطوق؛ لأنه أقوى في الدلالة، فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] هذا منطوق فلو أنه لم يكمل الآية فإننا سنفهم أنه لا يريد بنا العسر بدلالة المفهوم، لكنه أتى بنفي العسر أيضاً بدلالة المنطوق، ليكون أقوى، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] تأكيد، فهذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى لما شرع لنا هذا الدين أراد بنا اليسر.(80/4)
الكلام على مسألة الأخذ بالأحوط
هناك مسألة خطيرة، وهي مسألة: الأحوط الأحوط هذا يلتحق باليسر أو بالعسر؟ يلتحق بالعسر مثلاً: أتاك رجل وقال لك: أنا كهربائي وقد طلب مني صاحب مقهى أن أصلح له الكهرباء، وهذا المقهى تشرب فيه الشيشة ويلعبون فيه طاولة وكلها معاصٍ في معاصٍ؛ فهل يجوز لي أن أصلح لهم الكهرباء أم لا؟ هو لماذا سأل؛ لأن عمل الكهرباء حلال، واللعب هذا حرام، فحصل له شبهة، فجاء يسأل، فتقول له: الأحوط أنك لا تصلح لهم الكهرباء.
فتكون بهذا قد ضيعت عليه صفقة عمل بسبب الأحوط.
فالأحوط معناه: الأشد فالأشد.
مثال آخر: ما يحكون عن أبي حنيفة رحمه الله أنه جاء إليه رجل فأخبره أن شاه سرقت منه فذهب أبو حنيفة لرجل قصاب أو إلى -راعي غنم- يعرف أسنان الماشية فسأله: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: أقصى مدة عشر سنين، فحرم أكل لحوم الشياة على نفسه عشر سنين، لماذا؟ قال: لأن السارق قد يكون باعها لجزار فلعلي أشتري من ذلك الجزار فأكون قد أكلت حراماً، لكن الأحوط لي أن أمتنع عن أكل لحم الشاة عشر سنين فلا شك أنه أخذ بالأحوط، فالأحوط هنا معناه الأشد المفتي عندما يستخدم كلمة الأحوط فإنه يضيق على الناس، ويضيع اليسر في دين الله، الذي تكفل الله لنا أن يكون يسيراً، فإذا كان المفتي ممن يأخذون بالأحوط، فإنما هو من الجهلة أصحاب البضاعة القليلة.
يقول سفيان الثوري رحمه لله: إنما الدين الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.
يعني مثلاً: إنسان ليس عنده علم ولا ترجيح، فعندما تسأله يقول لك: يا أخي! الأحوط أنك تترك وتستريح؛ لأنه عاجز عن تحقيق المناط.
في قرن من القرون كانت الحرب على أشدها بين الشافعية والحنفية، فقد كانا أكثر المذاهب تناحراً؛ لأن أكثر سواد المسلمين إما أحناف وإما شافعية، والأحناف أكثر؛ لأن أكثر بلاد العجم أحناف، ثم الشافعية، ثم المالكية، ثم الحنابلة، فكانت الحنفية والشافعية في شجار دائم، فيحكى أن رجلاً شافعياً تصدر للإفتاء -وأنتم تعلمون أن المذهب الشافعي فيه مذهب قديم ومذهب جديد- فكان عندما يسأله أحد يقول: للشافعي فيه قولان -الذي يحكي هذه الحكاية شخص حنفي، وأنا لا أستبعد أن تكون مكذوبة أو موضوعة- فقال أحد الأذكياء له -وهذا الذكي لابد أن يكون حنفياً- فقال له: أفي الله شك؟ فقال ذلك الرجل: للشافعي فيه قولان المفتي عليه أن يفتي بالراجح، وله أن يتورع في نفسه إلى أقصى حد، فإذا أراد أن يمتنع عن أكل اللحم فهو حر في نفسه، لكن لا يجوز له أن يحرم على غيره لاحتمال أن يكون اللحم مسروقاً ويبتدئ ينظر له هذا التنظير، وعليه فورع المتقين لا يثبت حكماً.
يبقى الأصل بالنسبة للإفتاء: أن يتحقق الرجل من الدليل، فإذا لم يستطع أن يرجح فعندنا الأدلة القاضية باليسر ورفع الحرج وهي أدلة محكمة غير منسوخة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، هذا أصل عندنا، فإذا لم تستطع تحقيق المناط وعرض عليك أمران، وليس فيهما إثم -هذا شرط- ليس فيهما إثم فعليك بالأيسر، لأن هذا هو المناسب للأدلة العامة بنفي الحرج عن دين الله تبارك وتعالى.(80/5)
نفي الحرج عن دين الله عز وجل
حرّج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه على نفسه كثيراً، والرسول عليه الصلاة والسلام من دينه ومن سنته أنه كان ييسر دائماً، كان عبد الله بن عمرو بن العاص من العباد، ففي صحيح ابن حبان يقول: جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة، هذا شيء عجيب مدهش، قال أحدهم: كان القرآن ما زال ينزل، قلت له: فليكن الذي نزل عشرون جزءاً، يعني أنه كان يقرأ كل ليلة عشرين جزءاً في قيام الليل.
فهذه المعاهدة للنفس من ثمرتها: الأنس بالفعل، كما قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة، واستمتعت به عشرين سنة، أول سنة هي سنة التعب والمجاهدة، فيظل في صراع دائم مع الشيطان إلى أن يتعود وتصير له ملكة، فيبدأ يشعر بلذة القيام، ويشعر بالراحة والرضا والأنس، فهذا هو الذي حصل لـ عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد كان يشعر بالأنس والرضا والراحة عندما يصلي، فصار قيام الليل سجية بالنسبة له، لاسيما وقيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام مرة: (يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه) فذمه على ترك قيام الليل، والإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه باب: أن قيام الليل ينجي من النار، وروى تحته قصة لطيفة جداً أو حديثاً ظريفاً لـ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يقول عبد الله بن عمر: كنت شاباً عزباً أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يرون رؤى فيقصونها على النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت فيها بشارات، فقد جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: بينما أنا نائم رأيت حبلاً معلقاً في السماء وفي آخره حلقة، فأمسكت بتلك الحلقة ثم استيقظت من النوم وأنا ممسك بها، فقال: (عبد الله مستمسك بالعروة الوثقى) فجاءت البشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه مستمسك بالعروة الوثقى.
وجاء آخر فقال: رأيت في المنام أني في روضة خضراء وفيها خيمة، وأنا قاعد فيها، فقال له: (أنت تموت على الإسلام) فكان عبد الله بن عمر بن الخطاب يتمنى أن يرى رؤيا، وقد تحققت أمنيته ولكنها كانت رؤيا مفزعة قال: رأيت ملكين يجراني إلى النار، فقال: وأنا أقول: أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار، حتى أوقفوني على شفيرها، فإذا هي مطوية كالبئر -البئر يطلق على الحفرة المبني حولها، أما إذا لم يُبنَ حولها شيء فتسمى: قليباً- وإذا فيها أناس معلقون من أرجلهم عرفتهم -أو قال: عرفت بعضهم- قال: وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فأخذني منهم ملك، وقال لي: لم ترع، أي لا تخف فاستحيا أن يقص هذه الرؤيا على النبي عليه الصلاة والسلام فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت البشرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح) وفي اللفظ الآخر قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، قال راوي الحديث: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً.
وفي سنن النسائي حديث جميل يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليضحك إلى عبد كان يسير مع أصحابه في رفقة فعرسوا -ضربوا خيامهم واستعدوا للنوم- وكان النوم أحب شيءٍ إليهم، فناموا فقام هو فتوضأ يتملق ربه بركعتين) يضحك الله لهذا الرجل، لأنه آثر القيام لله عز وجل على النوم الذي هو أحب شيء فقام وتوضأ وصلى ركعتين، وصف قدميه بين يديه يتملق، أي: يتزلف ويتقرب من الله عز وجل.
فكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويقرأ ما جمعه من القرآن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فصار عنده ملكة.(80/6)
بيان تواضع النبي ووجوب الاقتداء به
وكان أبوه يريد أن يزوجه ولكن عبد الله لم تكن له رغبة في الزواج، ومع ذلك زوجه امرأة ذات حسب من قريش، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلما أدخلوها علي.
العادة أن الرجل هو الذي يدخل على المرأة لا العكس.
أنا اخترت رواية الإمام أحمد وإن كانت رواية البخاري قريبة منها، لأن رواية أحمد فيها فوائد.
يقول: فلما أدخلوها علي جعلت لا أنحاش لها -لا يريد أن يقترب منها ولا يراها- مما أجد بي من القوة في العبادة، لما أدخلوها عليه تركها وقام يصلي، فبدأ يصلي وترك زوجته دون أن يقربها أو يمسها.
علم عمرو بن العاص رضي الله عنه أن ابنه سيفعل هذا الشيء وأنه لن يلمسها، فذهب في الصباح الباكر وسأل كنته -الكنة: زوجة الابن- ما حال عبد الله معك؟ قالت: والله كخير الرجال، نعم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، انظر إلى المرأة وحيائها، فإنها لم تفضحه وإنما قالت: كخير البعولة؛ لأن العبد إذا كان مقبلاً على الله تبارك وتعالى وبمثل هذا الجد في العبادة فهو خير الناس، قالت: نعم العبد لربه، غيره أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فأقبل علي أبي فعزمني العزم -هو أشد اللوم- وعضني بلسانه، هل سمعت بلسان يعض؟ المقصود هنا هو: الشتم، وقال له: أنكحتك -يعني هو الذي زوجه غصباً عنه، لأنه ما كان يريد أن يتزوج- أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، أي: شققت عليها، ولم تقم بما يجب عليك نحو أهلك، فلما يئس منه قال: لا يوجد أحد سيحل لي المشكلة هذه غير الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وشكاه، قال: فذهب أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكاني، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القني به)، يعني: رتب لي معه موعداً، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الروايات الأخرى في الصحيح، قال: فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، وهذه الرواية أبلغ في إظهار الأدب، ورحمة الرسول عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فالإنسان لا ينبل إلا إذا فعل ذلك، واليوم عندما نقول لأحد الدعاة المتصدرين للدعوة في سبيل الله عز وجل: لا يضرك أن تذهب إلى الناس وتدعوهم، لا تنتظر حتى يأتيك الناس فإن الزمان تغير، فقال: أنا لا أذل العلم، ويقول: قال مالك: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه نعم يا أخي! هذا كان أيام مالك، لكن نحن في زمان ضاع فيه العلم، فالمفروض أننا لا ننقل الكلام في زمان مالك إلى زماننا إذا تغير المقتضى.
إن الذين تكلموا على أهل البدع، وقالوا: لا يجوز أن تتكلم مع مبتدع ولا أن تذهب وتتلطف معه، بل اضربه بنعلك، وابصق في وجهه، لماذا؟ قال: لأن الأئمة كانوا يقولون هذا، منهم: أحمد بن حنبل، وأيوب السختياني، وعمرو بن دينار، نعم يا أخي! عندما قال أحمد بن حنبل: إذا قابلت المبتدع فابصق عليه، لأنه كان هناك ألف رجل مثل أحمد بن حنبل، والسنة ظاهرة، والدين ظاهر، والمبتدع غريب، وكانوا يستعدون السلطان على المبتدع شعبة بن الحجاج رأى رجلاً يحدث بأحاديث كاذبة، قال: لو رجعت إلى التحديث بها لاستعديت عليك السلطان، فكان يذهب إلى السلطان ويقول له: هناك رجل يحدث أحاديث منكرة عن النبي عليه الصلاة والسلام فيأخذه السلطان ويسجنه مباشرة.
فهؤلاء كانوا الدولة وكانت لهم وكانوا متظاهرين وكثرة كاثرة.
هذه الأيام الدولة لأهل البدع في كثير من الأماكن، فلو أننا تركنا نصيحتهم وتركناهم وما دعوناهم، فمن الذي سيبلغ لهم الكلمة؟ فلا ننقل الكلام الذي قاله مالك في أيام العز وأيام الجاه وأيام القوة ونستخدمه في أيام الضعف والهوان، لا.
المقتضى تغير وكلام السلف على عيوننا ورءوسنا.
سأل أحدهم شيخ الإسلام ابن تيمية: هل آية السيف نسخت آية الدعوة واللطف؟ فقال: لا.
من كان ذا ضعف فليعمل بآية العفو، ومن كان ذا قوة فليعمل بآية السيف إنما الدعوة بالحسنى، فإذا كنت مستضعفاً وفي مكان ضعيف لا تستطيع أن تستخدم السيف استخدم {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]، وإذا كنت ذا قوة استخدم آية السيف، والخوارج آفتهم كما قال ابن عمر: أتوا بآيات أنزلها الله في الكافرين فجعلوها في المسلمين، وهذا حاصل في هذه الأيام مثلاً: رجل قرأ حديثاً في أحد الكتب فأعجبه فقرر أن ينسخ منه ألف نسخة ويعلقه في المساجد، والحديث ضعيف، وهو ليس له علم بذلك ولا يعلم شيئاً اسمه ضعيف أو موضوع، فعندما قرأ أحدهم هذا الحديث قال: من الذي علق الحديث هذا؟ قالوا: هذا شخص أعجبه هذا الحديث، فطبعه وعلقه في المساجد فقال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] فالرجل ليس عنده فكرة عن الموضوع أصلاً، فيقوم يأتي بهذه الآية التي نزلت في الكافرين، وإلا كان المفروض أن يذهب إلى هذا الرجل الذي علق الحديث وينصحه ويخبره أن الحديث موضوع ولا يجوز نشره بين المسلمين.
مسألة رعاية المقتضى مسألة مهمة في نقل الكلام.
سفيان الثوري الرجل العابد الزاهد الذي خشي في آخر حياته أن يختم له بالسوء، لما بكى وهو يحتضر سأله يحيى القطان: أتبكي خشية ذنوبك؟ فتناول قشة على الأرض، وقال: (والله لذنوبي أهون علي من هذه إنما أخشى سوء الخاتمة) فهؤلاء الأئمة الكبار العباد الزهاد، كانت لهم أقوال، فنحن إذا أردنا أن ننقل أقوالهم فيجب أن نراعي المقتضى الذي قيل فيه، فصاحبنا عندما يقول: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه فإنه بهذا سيضيع العلم؛ لأنه لن يأتيك أحد، فينبغي لك أن تذهب إلى هؤلاء وتعلمهم.
ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن عمرو وطرق عليه الباب، لكي ينظر في المسألة؛ لأنه وقع ظلم على امرأة مسلمة.
وفي كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله، في ترجمة الشافعي، قال يونس بن عبد الأعلى -تلميذ الإمام الشافعي -: تناظرت مع الشافعي في مسألة واختلفنا، قال: فجاءني الشافعي إلى بيتي فطرق بابي، وقال لي: (ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: ما دام أن الخلاف في المسائل الفرعية وليس في الأصول.
يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذا: ما أكمل عقل هذا الإمام رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك، فقد كانت له عادة جعلت كثيراً من الناس يتعلقون به، فقد كان يوم الخميس عنده يوم الفقراء، فكان يذهب إليهم ويجلس معهم في بيوتهم البسيطة، وكان لهذه الزيارات مفعول السحر، فقد كان يصلي وراءه أكثر من خمسين ألف مسلم، ومسجده الذي كان يصلي فيه كانت تغلق أبوابه يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً لا موضع لقدم، حتى أن أحدهم يقف على الباب يمنع أي داخل والمسجد كان حوالى خمسة أدوار، والشوارع على بعد اثنين من الكيلو مترات كانت مليئة، وكان يخطب بتسعة وخمسين مكبر صوت، فتعلق الناس به لأنه كان متواضعاً، فكان يذهب للفقراء كل يوم خميس، وكان يمر على الفقراء ويقعد مع كل واحد ربع ساعة، فهذا شرف كبير لهذا الفقير، فإنه يشعر بالعز عندما يدخل عليه أحد الواعظين المشاهير ويشعر بأن له قيمة.
كان الأعمش رحمه الله يقرب الفقراء من مجلسه، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت الأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع فقره وحاجته كان فقيراً ومحتاجاً، ومع ذلك كان الغني أذل في مجلسه، والفقير كان أقرب، يقوم الفقير وهو يشعر بالعز، ويشعر أن له قيمة في الدنيا فأنت عندما تذهب إلى الناس بنفسك فهذا خلق راقٍ جداً من أخلاق الدعاة إلى الله عز وجل، ونصر لدعوتك في نفس الوقت.(80/7)
إرشاد النبي لعبد الله بن عمرو
قال: فجاءني الرسول عليه الصلاة والسلام في منزلي وقال: (يا عبد الله! بلغني أنك تصوم النهار؟ قال: نعم، وتقوم الليل؟ قال: نعم) فإذا كان كذلك فمتى ينام، ومتى يذهب للعمل، ومتى يأكل؟ الله عز وجل هو الذي يزيل التعب عن البدن وليس كثرة النوم، فبعض الناس ينام الساعات الطويلة ثم يستيقظ من النوم وهو مرهق جداً، وقد كان بعض السلف يدعو فيقول: اللهم اكفنا من النوم باليسير.
وكان بعضهم ينام قليلاً لكنه يستيقظ وهو نشيط، فما هو الدواء الذي يجعلك إذا نمت أن تقوم نشيطاً؟ الدواء هذا رواه الشيخان وهو: أن فاطمة رضي الله عنها كانت تدق النوى حتى تورمت يداها فجاء أعبد من البحرين، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب، فقال لـ فاطمة: اذهبي إلى أبيك فاستخدميه، فجاءت إلى أبيها تطلب خادماً، والبنت الوحيدة تكون عزيزة كثيراً على الأب، وإذا كان هناك أب يحب ابنته أقصى الحب فإنه لن يبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة، ورضا فاطمة من رضا الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها)، ومعروف أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء لله عز وجل، وكان شديد الحب لها، فجاءته تستخدمه، وأرته يديها، فقال لها: (بنيتي! أفلا أدلك على خير من خادم؟) فما هو هذا الشيء الذي هو خير من خادم؟ قال: (إذا أويت إلى فراشك، فسبحي الله ثلاثاً وثلاثين، واحمديه ثلاثاً وثلاثين، وكبريه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من خادم).
كيف ذلك؟ لأنها عندما تقول هذه الأذكار فإن الله عز وجل يزيل عنها التعب، فتقوم نشيطة، فيكفيها هذا عن الخادم، قوله: (خير من خادم) قيل: لأن الحاجة إلى الناس ذل حتى ولو كان عبدك، كونك تقول له: اعمل كذا.
هذا ذل، فالعز في الاستغناء عن الناس.
عبد الله بن عمرو رجل ذاكر وهو في معية الله تبارك وتعالى، فإذا نام وأغفى فإنه كإغفاءة الطائر، فالله عز وجل يذهب التعب عن بدنه ويستأنف العمل.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أول ما رآه بهذا الجد، قال له عبارة مهددة، وهذا من الفقه الذي نتعلمه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو جاءك شخص وهو خائف من النار ومن عذاب الله فلا تقرأ عليه آيات النار بل آيات الترغيب، لكن إذا جاءك وهو مستهين وليس مهتماً فاتل عليه آيات النار.
مرة جاءني رجل كان في الأردن، غاب في الأردن عشر سنوات، فقال لي: أنا ما تركت ذنباً إلا ارتكبته واستكثرت، فقد شربت الخمر، وزنيت، وقتلت، وكذلك مارس هذه المعصية المرذولة بعد عودته لمدة سبع أو ثماني سنوات فقال لي: لي توبة؟ فسكت قليلاً، فأول ما سكت، قام فاقترب مني، وقال لي: ماذا يعني سكوتك؟ ليس لي توبة؟ فرأيت وجهه قد احمر وعيناه اغرورقتا بالدمع، فلو أني قرأت عليه آية من النار فإنه سيموت، فسكت ولم أتكلم، فرأيته قد توتر وبدأ جسمه يرتعد، لأنه ارتكب ذنوباً كثيرة وأراد أن يتوب، فرأيت علامات التوبة عليه، فعلمت أن هذا الرجل لو قرأت عليه آية من آيات النار سيموت، فقرأت الآية التي في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فبدأ الرجل يستريح شيئاً فشيئاً، وأنا أتكلم أريد كذلك أن أبين له خطورة الأمر الذي عمله لكي لا يستهين، فهذا الرجل لو قلت له: لا توبة لك، وتقول: لأنك سرقت وظلمت يا ظالم يا فاسق، فإنه ربما يموت فيها.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل، الذي ترك المرأة في ليلة الزفاف ما ينفع معه إلا التهديد، فقال له: (لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، كلام قوي جداً، فمراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو تدل على أنه لا يريد أن يسمع الكلام فقط، وإنما يريد أن يظل على هذا الجد، فقال له: (من رغب عن سنتي فليس مني) فهذا تهديد.
الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى امرأة عثمان بن مظعون عند عائشة، فرآها رثة الثياب ذابلة، فقال: (يا عائشة! ما أبذ هيئة خويلة؟) ما الذي جعل هيئتها بهذه الرثاثة؟ قالت: يا رسول الله! إنها عند رجل يصوم النهار ويقوم الليل، فأهملت نفسها وأضاعتها، فأرسل لـ عثمان بن مظعون، قال: (يا عثمان! أرغبة عن سنتي؟ قال: يا رسول الله! بل سنتك أطلب، قال: فأنا أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) يقول هذا الكلام القوي للصحابي لكي يوقفه؛ لأن عنده شغفاً وإقبالاً شديداً، فالذي عنده إقبال شديد لا يصده شيء هين، إنما يصده شيء قوي، (فمن رغب عن سنتي فليس مني) ثم قال له: (إن لكل عمل شرة وفترة).
الشرة: هي شدة الإقبال، والفترة: هي الشعور بالفتور، وفي الفترة قد يتحول الشخص عن طريق السنة إلى طريق البدعة، وفي الفترة يشعر المرء بالخمول والملل، ويريد أن يعتزل ويقفل الباب على نفسه، فلا يريد أن يكلم أحداً ولا أن ينظر إلى أحد.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
دخل الرسول عليه الصلاة والسلام على زينب فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقيل له: هذا حبل زينب، تقوم الليل إلى أن تعجز قدماها عن حملها فتمسك بالحبل وتقرأ وتواصل الصلاة، نحن نذكر هذه الأحاديث للنساء، لأن العبادة والجد قليل في النساء، قالوا: وذلك بسبب الأولاد والزوج والمطبخ، وهذا الكلام غير صحيح، فالمرأة لابد أن تعمل لربها وأن يعينها زوجها على ذلك، فلابد أن يكون لها فترة تخلو فيها بالله تبارك وتعالى، لكي تواصل الجد والعطاء، فـ زينب رضي الله عنها من كثرة التعب تمسك بالحبل لكي تستريح، فقال عليه الصلاة والسلام: (حلوه، عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) أي: إن الله لا يمل من إعطاء الثواب حتى نمل من العمل.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأ القرآن كل ليلة؛ فقال له: اقرأ القرآن في شهر؟ قال له: إني أجد بي قوة، فقال: اقرأه في عشرة أيام، قال له: إني أجد بي قوة، قال: اقرأه في ثلاثة أيام، وفي الرواية الأخرى قال له: (فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه).
ثم قال له: كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم.
فقال: صم ثلاثة أيام من الشهر، قال له: أقدر، فجعل يرقى به إلى أن قال له: (صم صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فذلك خير الصيام).
كان عبد الله بن عمرو شاباً في تلك الأيام، وكثرة العبادة والقوة فيها إنما تكون في الشباب، كانت حفصة بنت سيرين تقول: (يا معشر الشباب! اعبدوا الله في الشباب فإني رأيت العبادة في الشباب).
فالشاب يستطيع أن يتحمل الأشياء الشاقة، لكن من بلغ ثمانين سنة اشتكى من غير علة، فظهره يبدأ ينحني، ولا يستطيع أن يمشي إلا على عكاز، ويقعد على كرسي في صلاة الفرض.
بعض الشباب عندما تقول: اعبد الله يقول لك: إن شاء الله لما أتقاعد على المعاش سأعبد ربنا وسأتفرغ للعبادة، لأني لن أذهب إلى دوام ولا إلى شغل ولا غيره، فأول ما يتقاعد على المعاش يقعد على القهوة، فتقول له: أنت كنت تقول: سأقعد أعبد ربنا، فيقول لك: أنا أشعر بملل وزهق، لماذا؟ قال: أنا طول عمري شغال، ما تعودت أقعد القعدة هذه.
عبادة الله مع الوقت تصير عادة وملكة، فالذي تعود على الصلاة من صغره فإن الصلاة تكون عليه سهلة، أما لو كان مفرطاً في حدود الله عز وجل منذ صغره فإذا أراد أن يعبد الله وهو كبير فإنه لا يستطيع فالعبادة في الشباب.
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص لم يعلم أنه عندما يشيخ ويكبر يعجز عن هذا الجد، فكان لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ضعُف، فكيف كان يعمل؟ كان يفطر عشرة أيام من أجل أن يتقوى، وبعد ذلك يصوم عشرة أيام، لأنه لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وإذا كان مثلاً يقرأ القرآن في ثلاث، فإنه كان يقرأ في اليوم عشرة أجزاء مثلاً، ولكن بعد أن كبر لم يعد يستطيع أن يقرأ كما كان يقرأ في شبابه فكان يقرأ المصحف في سبعة أيام، وكان يقسمه بين هذه السبعة الأيام حتى يكمله.
وكان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لماذا لم يترك العمل ويستريح وعليكم هدياً قاصداً كره عبد الله بن عمرو بن العاص أن يقل عمله عما تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد ألا يقل عمله حتى لا يلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قل عما تركه عليه، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص ندم أنه لم يقبل الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(80/8)
الحيل
الحيل: جمع حيلة وهي القدرة على التصرف، وتنقسم إلى قسمين: حيل مذمومة وحيل محمودة؛ فالمذمومة هي التي يتوصل من خلالها إلى ما حرم الله بطريقة ماكرة، وأما المحمودة -وهي التي يسميها أهل العلم بالمعاريض- فضابطها أن يتحيل المرء بحيلة ليدفع عن نفسه ضرراً أو ليجلب بها نفعاً بغير أن يرتكب إثماً، فمن أحسن استخدام الألفاظ في المعاريض تجنب الحيلة المحرمة وبالتالي نجا من الكذب.(81/1)
الحيلة وأقسامها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:11 - 13].
لما وقع موسى عليه السلام في يد فرعون، وهو كما وصفه الله عز وجل: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39]، وطار لب أم موسى لما علمت بذلك، فأرسلت أخته لتتبع أثره، وهذا معنى قوله تعالى: ((قُصِّيهِ))، وأصل القصص هو تتبع الأحداث، قال تعالى في قصة موسى والخضر: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، أي: انثنيا راجعين على طريقهما الذي جاءا منه مرةً أخرى يقصان الخطا حتى يرجعا إلى الخضر؛ لأن ذلك بغيتهما.
((فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ)) أي: أبصرته من بعدٍ وهي تتابعه، وأهل فرعون لا يشعرون أنها أخته.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، (مراضع): جمع مرضع، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
((فَقَالَتْ)) أي: أخته التي تقص أخباره: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، احتج بهذه الآية بعض من رخص في الحيل؛ وذلك أن أخت موسى عليه السلام احتالت ولم تظهر شخصيتها في هذا الموقف، بل قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]؛ كأنها لا تعرفه، فرخصوا في الحيل، وذكروا في ذلك جملةً من الأدلة منها هذا الدليل.
فاعلم أيها المستغفر: أنه لا يخادع الله أحد إلا خدعه الله، كما قال عبد الله بن عمر: من يخدع الله يخدعه، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] على الحقيقة.
الحيل: جمع حيلة وهي القدرة على التصرف، والحيل تنقسم إلى قسمين: حيلة مذمومة، وحيلة محمودة.(81/2)
ضابط الحيلة المذمومة وأمثلتها
أما الحيلة المذمومة لأنها من جنس حيل اليهود، أن يحتال الشخص إلى ما يريد، إما بطريق مباحٍ إلى محرم، وإما بطريق محرم إلى محرم، فهذا كله حرام، وتشتد الحرمة إذا أخطأ الطريق إلى المراد، فكل من تحيل حيلةً ليحل ما حرم الله عز وجل فهو من أتباع اليهود في ذلك، وقد ذكر الله عز وجل ضرباً من حيل اليهود، فقال تبارك وتعالى في سورة الأعراف، وهو يقص علينا قصة بني إسرائيل مع الحيتان؛ وذلك أن الله عز وجل لما حرم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت -كما قال السدي وغيره- جاءوا إلى النهر العظيم وحفروا حفراً، وهذه الحفر فيها ماءٌ قليل بينها وبين النهر قناةٌ صغيرة، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة، حتى أنها كانت ترفع رءوسها من الماء، فإذا جاء يوم الأحد لزمت الحيتان قاع البحر، ولم يظهر حوتٌ واحد، فتحيلوا، فبدأ رجلٌ واحد منهم فحفر حفرة، وجعل بين الحفرة والنهر الكبير مسرباً، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان فدخلت الحفرة، فإذا أرادت أن ترجع إلى النهر مرةً أخرى عجزت لقلة الماء في الحفرة، فيأتي يوم الأحد ويأخذ الحيتان.
وفي روايةٍ أخرى: أن رجلاً من هؤلاء ذهب يوم السبت إلى حوت وختمه بخيط وربطه في وتد، فإذا جاء يوم الأحد لم يستطع هذا الحوت المختوم أن يفر، وأخذه ودخل بيته وشواه سراً، فظهرت رائحة الشواء، فشم الرائحة جاره فسأله ماذا فعلت؟ قال: فعلت كذا، فذهب فصنع مثل صنيعه، حتى فشت فيهم تلك الحيلة في صيد الحيتان.
فانتصب أهل العلم لهم، ونهوهم أشد النهي عن ذلك، فقالوا لهم: إننا اصطدنا السمك يوم الأحد، فقالوا لهم: لا، لقد صدتموه يوم حفرتم له الحفر، فلما قام أهل العلم بوعظهم، ولم يمتثل هؤلاء لهم، قالوا: لا نساكنكم في قريةٍ واحدة، فإنه إذا نزل أمر الله عز وجل أخذنا جميعاً، فبنوا جداراً في القرية بينهم، فصار المعتدون بالصيد المحرم في ناحية، وأهل الورع والمؤمنون في ناحيةٍ أخرى، وصار لكل ناحيةٍ باب، وفي يوم من الأيام فتح المؤمنون بابهم وخرجوا ولم يفتح الكافرون بابهم، وطالت المدة، فقال المؤمنون لبعضهم: إن لهذا شأناً فتسوروا الجدار، فإذا هم جميعاً قردة ينزو بعضهم على بعض، ففتحوا لهم الباب، فخروا في الأرض فلا يعرفون لهم سبيلا: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166].
لنتأمل أيها الإخوة الكرام حقيقة هذه الحيلة التي احتالوها: إن حفر الحفرة أمرٌ مباح، لكنهم توصلوا بهذا الأمر المباح إلى تحليل ما حرم الله، لذلك يقول علماؤنا: الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد مباحاً، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه مباحة أيضاً.
رجلٌ أراد الغنى وهذا أمر مباح، فقطع الطريق على الناس؛ فهذه الوسيلة لجمع المال محرمة، إن الغاية عندنا معاشر المسلمين لا تبرر الوسيلة، فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمعتدون بالصيد المحرم تحيلوا بشيءٍ مباحٍ لتحليل ما حرم الله عز وجل عليهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)، والنبي عليه الصلاة والسلام حرم ثمن الكلب، وحرم عسب الفحل، وحرم حلوان الكاهن، فلا يحل تعاطي هذه الأموال على الإطلاق؛ لكن اليهود لهم شأنٌ آخر، حرم الله عليهم الشحوم، فأذابوها، وجملوها، وباعوها واشتروا بأثمانها فاكهةً ولحماً حلالاً، وقالوا: إنا نأكل اللحم والفاكهة الحلال! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه).
ومن جنس المحرمات التي لا يحل للمسلم تعاطيها والمعاملة بها: عسب الفحل -وهذا الفعل مشهور في الأرياف- رجل عنده فحل ذكر، ورجل آخر عنده أنثى يريد أن ينكحها، فيذهب بها إليه فينزو الفحل عليها، فمن أخذ على ذلك أجراً فهو حرام، بهذا النص: (نهى عن عسب الفحل، وعن ثمن الكلب)، ولا يحل لمسلمٍ أن يبيع كلباً أو يشتري كلباً إلا ما رُخِصَ فيه من كلب الحراسة ومن كلب الصيد، ولو أن رجلاً تحيل وأخذ حلوان الكاهن مثلاً واشترى به طعاماً حلالاً فأهل العلم يحكمون بحرمة هذا الطعام.
وفي الصحيح: (أن غلاماً دعا أبا بكر رضي الله عنه إلى طعام، فلما أكل أبو بكر قال له الغلام: أو تدري من أين هذا المال؟ قال: لا.
قال: إني كنت تكهنت في الجاهلية لفلان فأعطاني هذا المال؛ فأدخل أبو بكر رضي الله عنه إصبعه فيه فمه وتقيأ ما أكل) من الحرام، فالله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.
كذلك من يسلك الطريق المباح من أجل ارتكاب المحرم؛ مثل السفر لقطع الطريق أو لشرب الخمر أو للزنا، فالسفر في ذاته حلال، لكن المقصد حرام فالسفر حرام؛ لأن هذا سيكون من جنس الحيل.
والإمام البخاري رحمه الله عقد كتاباً في صحيحه، أسماه (كتاب الحيل)، رد فيه على الذين أجازوا الحيل من الأحناف، ومعروف أن مذهب الأحناف هو أكثر المذاهب ترخصاً في الحيل، والعلماء الكبار عندهم لم يكونوا يرخصون في الحرام؛ لكن جاء من بعدهم من المتأخرين فتوسعوا غاية التوسع، فعقد الإمام البخاري هذا الكتاب، ورد به على بعض الأحناف ممن أجاز الحيلة في ذلك، فبدأ الكتاب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فبوب عليه فقال: (باب ترك الحيل).
مع أنه ليس في الحديث ترك، ولكن هذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله: الأعمال بالنيات، أي: لك ما نويت، وهذا هو جماع الكتاب كله، ولذلك بدأ به، ثم قال: (بابٌ في الصلاة) وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حدثاً حتى يتوضأ)، فإن الوضوء أمانة، والذي يقوم لرب العالمين في الصف ولم يتوضأ لا يعرف الناس أنه لم يتوضأ، فإن الوضوء شيء خفي لا يدرك، فالذي يقف بين يدي الله عز وجل وهو غير متوضئ بغير عذرٍ فقد أعظم في الخيانة.
لقد رأيت في بعض مذكرات السفراء والدبلوماسيين، قال: لما دخل الرئيس السابق الكنيسة، وأراد أن يصلي تأسياً بـ عمر، وكان معه الوزراء والدبلوماسيون والسفراء، فأمر بإقامة الصلاة، فقام هؤلاء الفاسدون الدبلوماسيون يصلون بغير وضوء، ويعتذرون بقولهم: فوجئنا بالموضوع، وكنا في مكان قريب من الرئيس، ولا يوجد وقت حتى نذهب ونتوضأ ثم نعود، واستحيينا فصلينا بغير وضوء.
هل اكتشف أحد أن هذا الواقف لم يتوضأ؟ لا.
فالخيانة تدخل هنا، لذلك بدأ البخاري رحمه الله بهذا الحديث أي: أن الحيلة في إسقاط الوضوء لا تنفع صاحبها.
وقال البخاري أيضاً: (باب في الزكاة)، وأورد فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أنس بن مالك وفي هذا الكتاب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع المتفرق وتفريق المجتمع خشية الصدقة) رجلٌ عنده رأس مال قد بلغ النصاب وزيادة، فأراد أن يفر من دفع الزكاة، فيقسم الأموال على أولاده، بحيث لا يصل نصيب كل ولد إلى النصاب، فهذا إنما فرق المال ليفر من الصدقة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاقب فاعل ذلك بأن أحل عقوبته وأخذ شطر ماله عزمةً من عزمات ربنا.
فلا يحل أن يتحيل المسلم لتفريق ماله حتى يفر من أداء الزكاة الواجبة عليه، كذلك الرجل الذي عنده أراضٍ، فقبل أن يحول الحول يعرض الأراضي للبيع، وقد انطوى في ضميره أن يفر من الصدقة، فهذا لا يبارك له أبداً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وقال البخاري: (باب في النكاح)، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار)، قيل لـ نافع راوي الحديث، (ما الشغار؟ قال: أن ينكح الرجل ابنته لرجلٍ وينكح هو ابنته بلا صداق بينهما)، فمثلاً: رجلٌ ورجل آخر، لكل منهما بنت أو أخت أو امرأة هو وليها، فقال كل منهما للآخر: زوجني ابنتك وأنا أزوجك ابنتي بلا صداق، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا النكاح، وسماه شغاراً، يقال: شغر الكلب إذا رفع ساقه ليبول، وإنما سماه شغاراً؛ لأن الرجل رفع الصداق عن المرأة وحرمها من الصداق، وهذا لا يحل، وإذا تم النكاح بهذه الصورة فالعلماء يقولون: يبطل النكاح، ويكون للمرأة مهر المثل.
إذاً: ما هي الحيلة في نكاح الشغار؟ الحيلة كالآتي: رجل موسر رغب أن يتزوج ابنة رجلٍ فقير، فرفض الفقير، فأغراه الغني وقال له: وأنا أنكحك ابنتي، فحينئذٍ سيوافق الفقير؛ لأنه سينكح ابنة هذا الغني، وبعد أن يتم العقد يقال للفقير: إن نكاح الشغار لا يحل، ويجب حينئذٍ صداق المثل، فهل الفقير يستطيع أن يدفع صداق المثل؟ -ومعنى صداق المثل: أن كل امرأة تقدر بقدرها، بنت الغني مهرها عالٍ، وبنت الفقير مهرها قليل، فلو أننا في وسط فقراء، وامرأة نُكحت نكاح شغار، فأردنا أن نمهرها بالمثل، فننظر إلى بنت عمها أو بنت خالها أو جارتها، أو ما هو مثيل بها من الطبقة ومن البيئة ومن الغنى والفقر- فعندما يعقد ويقال للفقير: إن هذا النكاح لا يحل، فيقول: ما الحل؟ فيقولون: أن تدفع مهر المثل، فيقول: لكن هذه بنت غني ومهرها كثير وأنا لا أستطيع أن أدفعه، أما الغني فيقول: أنا به زعيم؛ لأنها امرأة فقيرة وهو موسر، فيدفع مهر المثل ويأخذها بحيلة نكاح الشغار، وهذا لا يجوز، فكل حيلة تفضي إلى إسقاط ما أوجبه الله عز وجل أو إلى تحليل ما حرمه الله عز وجل؛ فإنها حيلة محرمة.(81/3)
ضابط المعاريض وأمثلتها
الضرب الثاني من الحيل والذي احتج به أهل الحيل على حيلهم: ما يسميه أهل العلم بالمعاريض، واحتجوا فيه بقصة إبراهيم عليه السلام لما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، واحتجوا أيضاً بقصة يوسف عليه السلام لما وضع صواع الملك في رحل أخيه، واحتجوا بقصة الملكين لما تسورا المحراب على داود وقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] ولم يكونا خصمين إنما تحيلا بذلك.
ف
الجواب
أننا لا ننكر مثل هذا النوع من المعاريض والحيل، وإنما ننكر النوع الأول، يقول أهل العلم: إذا تحيل بحيلةٍ ليدفع عن نفسه ضراً، أو ليجلب لها نفعاً بغير أن يرتكب إثماً فهذا جائز مشروع، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً.
فمن الواجب مثلاً: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته الطويلة لما تخلف عن غزوة تبوك، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها)، أي: إذا كان سيسلك هذا الطريق يقول: سأسلك طريقاً آخر، والحرب خدعة، فهذا واجب.
أما قصة إبراهيم عليه السلام لما: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89]، فإنه توصل بهذا إلى تفريقهم حتى ينفرد بآلهتهم، ولما قطع رءوس الأصنام، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63]، قال صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في الله)، فخرج من ذلك أن يكون من الكذب الذي حرمه الله عز وجل، وإنما سماه كذباً؛ لأن ظاهره يخالف باطنه ولم يأخذ حكم الكذب، وهذا الذي يسميه أهل العلم بالمعاريض.
كذلك في قصة يوسف عليه السلام، قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] أي أن الله عز وجل هو الذي أرشده إلى أن يفعل مثل ذلك، فهذه حيلة محمودة، ولو تأملت الألفاظ التي وردت في السورة لعلمت أنه بعيدٌ كل البعد عن الكذب، لما أمر يوسف عليه السلام أن يوضع صواع الملك في رحل أخيه، نادوا وهم منصرفون: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70]، هل حدد المسروق، هل قال: إنكم لسارقون؟ لما ذكر السرقة أطلق ولم ينسب، ولما ذكر الفقد نسبه، قالوا: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:71 - 72]، فعبروا بالفقدان، لكن لو قالوا: سرقوا صواع الملك لكان كذباً؛ لأنهم ما سرقوا، لذلك قالوا: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:72]، ولما ذكر السرقة، لم يقل: إنكم لسارقو صواع الملك.
وأصل مسألة المعاريض والحيل كلها مبنية على حسن استعمال الألفاظ، فمن أحسن استخدام اللفظ نجا من الحيلة المحرمة ومن الكذب، وفي بعض الأحاديث التي يحسنها بعض أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن لفي المعاريض مندوحة عن الكذب)، أي: من أحسن استخدام المعاريض لم يقع في الكذب.
وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم (لما خرج فاراً من المشركين من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه -وكان أبو بكر رجلاً نساباً تاجراً معروفاً- فكان أبو بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما قابلهما جماعةٌ من المشركين، يقولون: يا أبا بكر من هذا الذي معك؟ فيقول: هادٍ يهديني) فالنبي صلى الله عليه وسلم هادٍ يهديه إلى طريق الصلاح والاستقامة؛ ولكن ظن المشركون السائلون: أنه هادٍ يهديه في الصحراء، اصطحبه معه ليدله على طرق الصحراء.
ومثله ما ورد في بعض الأحاديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة بدر هو وأبو بكر، قابله جماعةٌ فقالوا: ممن أنتما؟ فقال: نحن من ماء -ويقصد: من ماء مهين- فقال بعضهم لبعض: أحياء اليمن كثيرة -ماء: اسم حي من أحياء اليمن - ونحن لا نعرف كل أحياء اليمن).
ولما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يمزح معه: إنا حاملوك على ولد ناقة -ولد الناقة صغير جداً- فقال الرجل: وما أفعل بولد ناقة؟ -يعني: أول ما يركبه سيبرك على الأرض- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق).
وكذلك لما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ: لا تدخل الجنة عجوز، فبكت المرأة وظنت أنها لا تدخل الجنة، فأعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من يدخل الجنة لا يهرم، ولا يدركه الكبر، إنما كما قال الله عز وجل: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37])، أي في سن واحدة، وقد ورد في بعض الأحاديث المتكلَّم فيها: (أن أسنان أهل الجنة تكون على ثلاث وثلاثين سنة) نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فالمعاريض مبنية على حسن اختيار اللفظ، واحتجوا أيضاً بقصة أيوب عليه السلام لما قال الله عز وجل له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، فقد ذكر العلماء أسباباً لحلف أيوب عليه السلام، فمن قائل: إن الشيطان تزيّ بزي طبيب، فقابلته امرأة أيوب عليه السلام وهي لا تدري أنه الشيطان، فدعته إلى علاجه، فقال: نعم أعالجه لكن يقول كلمةً واحدة، وهي: أنني شفيته، قالت: نعم، فلما جاء أيوب عليه السلام وعرفه أقسم أن يجلد امرأته مائة جلدة.
ومن قائلٍ: إن امرأته باعت ضفائرها لحاجتها إلى النفقة، وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يقوم أخذ بضفائرها ويستعين بها، فأقسم إن عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة.
ومن قائلٍ: إن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة صغيرة يعافيه الله، ففعلت فأقسم أن يضربها إلى آخر تلك الأقوال التي ذكرها أهل التفسير.
لكن على فرض ثبوت أي واحدٍ منها، فإن المرأة كانت محسنةً مجدةً في الإحسان، فإذا سلمنا للتفسير الأول: فالشيطان تزيَّ بزي طبيب، فهي لم تقصد إلا علاج زوجها، والتفسير الثاني: أن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة، فهي ما قصدت إلا علاج زوجها.
والتفسير الثالث: أنها باعت ضفائرها وهذا أبلغ في الإحسان، فهي ما قصدت إلا الإحسان على أي حال وهو الحصول على مال للنفقة، فكانت المرأة محسنة على أي حال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، لماذا تعاقب هذه المرأة الوفية التي ظلت مثابرةً مع زوجها بعد أن انفض عنه كل الناس غير رجلين كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره، كانا يترددان عليه، ومعلوم أن المرأة أكثر الناس تأذياً إذا كان زوجها مريضاَ؛ لأنها تحمله وتساعده وتعاونه، فهي تحمل معه المرض والمشقة، وقد لبث أيوب عليه السلام في مرضه ثمان عشرة سنة، وقد ورد في بعض القصص الإسرائيليات أن الدود كان يسري في بدنه، وهذه رواية إسرائيلية، فنحن لا نثبتها ولا نحتج بها؛ لكن مجموع القصص يدل على عظم البلاء الذي وقع فيه أيوب عليه السلام، فكذلك يقع البلاء عظيماً على المرافق الدائم له وهي زوجه، فإذا أخطأت في طلب وسيلة للعلاج أتضرب؟ لا.
لذلك أمره الله عز وجل، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44]، حزمة صغيرة من عيدان الحشائش عددها مائة، ويضربها بتلك الحزمة مرة واحدة.
وقد احتج الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أنه لو زنى رجل غير محصنٍ وهو لا يتحمل أن يجلد مائة جلدة فيجمع له مائة شمراخ ويضرب بها مرةً واحدة، واستدل بحديث رواه أبو داود في سننه بسند متكلم فيه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان هناك رجل مريض وكان جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية أحد الناس، فهشت إليه فوقع عليها، فدخل عليه أصحابه فأخبرهم، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقالوا: يا رسول الله، والله لو حملناه لتفتقت عظامه هو جلدٌ على عظم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عثكول أو شمراخ وأمر أن يضرب ضربةً واحدة).
فاحتج الشافعي رحمه الله بهذا الحديث وهذه الآية على ضرب الزاني غير المحصن، إذا كان لا يطيق الجلد، وأبى الإمام مالك ذلك، وقال: لا يكون الضرب إلا الضرب المؤلم، لاسيما إذا كان في الحدود؛ لأن الحدود جوابر، وزواجر أيضاً، ولهم في ذلك تفاصيل؛ لكن الله عز وجل هو الذي أفتى أيوب عليه السلام، فأين فعل أيوب عليه السلام من فعل الحيل المحرمة؟! ينبغي أن نفرق بين الحيل المحرمة، التي يتحيل بها الناس إلى إسقاط الواجبات أو إلى تحليل المحرمات وبين المعاريض التي أباحها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مبني على حسن استخدام الألفاظ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(81/4)
مشروعية الخداع في الحرب
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
رأس الموضوع بالنسبة للحيل المباحة، هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرب خدعة)، دفع المظلمة أو تحصيل الحق فيه نوع من الحرب؛ دليل أن فيه خصومات، كلٌ يدفع بعضه بعضاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (الحرب خدعة)، بكسر الخاء وفتحها -وخَدعة أفصح كما يقول العلماء- أن المرء سيحتال ويقول قولاً غير الذي يبطنه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين أذن لبعض أصحابه بذلك.(81/5)
قصة مقتل كعب بن الأشرف
ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله).
وضع الإمام البخاري هذا الحديث في (كتاب الجهاد)، وبوب عليه بقوله: (باب الكذب في الحرب)، ورواه بسياق أطول في (كتاب المغازي)، فقال عليه الصلاة والسلام: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله، فقال محمد بن مسلمة: أنا له.
وكذلك قال أبو نائلة).
فـ محمد بن مسلمة ابن أخت كعب، وورد في نفس الحديث في البخاري: أن كعب بن الأشرف قال: أهذا أخي أبو نائلة، وهو أخوه من الرضاعة.
إذاً: اللذان كذبا من أجل قتل كعب بن الأشرف، أقرب الناس إليه، ابن أخته وأخوه من الرضاعة، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن أن نقول له شيئاً، فكلمة (شيئاً) المقصود به الكذب، قال: نعم، قال: أتأذن أن نقول له: كذا وكذا ورد في بعض الطرق، أن نقدح في رأيك وفيما ذهبت إليه؟ قال: نعم.
فجاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة، فنادوا كعباً، فقالوا له: إن هذا الرجل قد أتعبنا، وإنه يطلب منا صدقة، فقال كعب: والله لتملنه -أي: إن هذا أول شيء يفعله وسيأخذ منكم زكاة كل مرة- وفي رواية خارج الصحيح فقال لهم: فما حملكم أن تتبعوه، فقالا له: حتى نعلم إلى ما يئول أمره، وقد جئناك نستلف وسقاً أو سقين من الشعير، فقال: ارهنوني نساءكم -انظر اللؤم يريد امرأة مقابل وسق! - كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! فاغتر الرجل وقال: ارهنوني أبناءكم، قالوا: نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق من شعير هذا عارٌ علينا، ولكن نرهنك اللأمة، وهي درع الحرب، وهذا هو الذكاء، فبادروه حتى لا يعرض عليهم عرض آخر، فيقول: ارهنوني آباءكم، وعرضوا عليه اللأمة حتى لا يساوره الشك فيقول: لماذا أحضروا معهم السلاح؟ فهم بهذا العرض يزيلون الشك الذي في نفسه وكأنهم يقولون: إنما أتينا بالسلاح لنرهنه- ثم ناداهُ أبو نائلة، وقال: يا كعب انزل وكان حديث عهد بعرس، فلما سمعت امرأة كعب صوت أبي نائلة قالت: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم، فقال كعب: إنه محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة وإن الكريم إذا دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ أجاب، فنزل والطيب ينفح منه، فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت مثل هذا الطيب، فقال: عندي أجمل العرب وأعطرها، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأذن له، فأمسك رأسه، ولما استمكن منه قال: دونكم عدو الله فاقتلوه، فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لهم، وهذا إنما أخذوه بالحيلة.(81/6)
قصة مقتل أبي رافع
روى البخاري أيضاً في كتاب المغازي، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أن أبا رافع كان يقع في النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب به، ويشبب بنساء المسلمين، ومعنى يشبب: أي يصف العورات ويتغزل فيهن، فانتدب له النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك مع نفرٍ من أصحابه.
وفي بعض طرق الحديث خارج البخاري قال: فشيعهم إلى بقيع الغرقد، وقال: اللهم انصرهم، وكان أبو رافع أكبر تاجر في الحجاز كلها، وكان عنده جماعة يسمرون معه، ففقدوا حماراً لهم، فقام العبيد يبحثون عن الحمار، قال: عبد الله بن عتيك: فتقنعتُ بردائي كأني أريق الماء، فرآه البواب، فقال: أيها الرجل إن كنت تريد أن تدخل فادخل الآن وإلا أغلقنا الباب -وكان يظن أنه من الحاشية الذين ذهبوا يبحثون عن الحمار- قال: فدخلت واختبأت، حتى إذا وضعوا المغاليق على وتد وانصرفوا أخذت المغاليق وصعدت، فإذا أبو رافع يسمر وعنده جماعة من التجار، حتى إذا خرجوا أغلقت عليه الباب -حتى إذا استغاث أبو رافع لا يغاث- قال: فدخلت فإذا البيت مُظلم، ولا أدري أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع! قال: من، فاتجهت إلى الصوت فعاجلته بضربة لكنها لم تقض عليه، ثم أظهرت كأنني أغيثه، فقلت: مالك يا أبا رافع؟ قال: ويلٌ لأمك، ضربني رجل بالسيف، فجعلت السيف في بطنه ولم أتركه حتى سمعت صوت عظم الظهر، قال: فعلمت أنني قتلته، قال: وجعلت أخرج حتى وصلت إلى درج فنزلت على ساقي فكسرت فعصبتها بعمامة، وقفزت من على السور، وقلت لأصحابي: النجاة النجاة، ثم قلت: والله لا أمضي حتى أسمع الناعي، فلما صاح الديك قام الناعي، وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، قال: فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ساقي فكأنني ما اشتكيتها قط.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أباح لهم أن يستخدموا الحيلة في القتال والحرب، والكذب في الحرب واجب، وهو نوع من الحيلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من الكذب لا نعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب).
فإن قال قائل: من أين لك أن الكذب في الحرب واجب ولفظ الحديث بمفرده لا يدل على الوجوب؟ مع إن غاية ما في الحديث أنه ليس بكذب فقط؟ فيقال: يستدل على الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، فلو أسر رجلٌ في بلاد الحرب وكان عنده معلومات لو علمها العدو من شأنه أن يجهد المسلمين ويهلكهم لحرم عليه ذلك، فإذا حرم عليه ذلك وجب عليه الكتمان، ويستدل على صيغة الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، إذا علمنا أن هذا حرام يكون عكسه واجب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(81/7)
حيلة ابن عيينة على الوالي
وهناك قصة فيها عبرة، استخدم الحيلة فيها الإمام العلم المفرد الكبير الذي لولاه ومالك -كما قال الشافعي - لضاع الحديث بالحجاز كلها، وهو الإمام الكبير أبو محمد سفيان بن عيينة رحمه الله، شيخ الشافعي وأحمد بن حنبل.
والذي حصل أن الإمام الكبير وكيع بن الجراح حدّث بحديث في مكة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي انشغل المسلمون عنه ثلاثة أيام حتى ربا بطنه وانثنى إصبعه، والثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت كأنه حي، لا يربو بطنه ولا يتأثر، ولذلك قال أبو بكر الصديق: (طبت حياً وميتاً)، وهذه من خصائص الأنبياء، أن الأرض لا تأكل أجسادهم ولا يتغيروا، فـ وكيع بن الجراح لما حدث بهذا الحديث قامت عليه القيامة، ووكيع كان كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها في سماء الحديث، فلم يكن نكرة، كان يقرأ القرآن كل يوم، حتى أن الذهبي رحمه الله لما ذكر ترجمة وكيع في كتابه النفيس (سير أعلام النبلاء) قال: هذه عبادةٌ يخضع لها؛ لكنها مفقودة من مثل هذا الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه).
أول ما حدّث وكيع بهذا الحديث هاج عليه العوام، لأنه تحدث عن المحبوب الشريف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووكيع لا يساوي شيئاً أمام رسول الله ونحن لا نحابي ولا نجامل.
نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواسيا أي: لو أنه هو أحب حبيب ووقف الحبيب في خندق عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عدو؛ لأننا لا نعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، هذه هي علامة الإيمان، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، ووكيع ليس مكياً بل هو عراقي -أي: أنه ضيف- وعادةً عندما يرحل العالم الكبير ليدرّس في بلد آخر يرحل إليه الكل؛ لأنه ليس لهم طاقة أن يذهبوا إلى بلده، وقد كانوا يسكتون إذا ارتكب الإمام أمراً مباحاً حتى لو ارتكب ما ارتكب، كـ الأعمش عندما كان يضرب تلاميذه ويخيفهم بالكلب لم يعترض أحد، وكانوا يصبرون عليه، ولم يزهد أحد في حديث الأعمش؛ لأن هذا محتمل، لكن إذا كانت المسألة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا، ووصل السخط على وكيع منهم أن رفعوا أمره إلى الوالي، فعندما علم الوالي بهذه المسألة جن جنونه، وأخذ وكيع وحبسه وحكم عليه بالإعدام، ولم ينظروا في حجة وكيع.
شيء ظاهره الإزراء بالنبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت أحد، انظر إلى هذا الموقف المشرق! وانظر إلى المواقف المخزية التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، يستهزئ أصحاب الصحف والمجلات والكاركاتير بالله ورسوله، ويقوم سلمان رشدي يشتم الرسول عليه الصلاة والسلام ويصف زوجته بالداعرة وحكامنا نيام، معهم فقط عيد العمال وعيد الشجرة وعيد الثورة وبقية الأعياد يتكلمون فيها عن الديمقراطية، أما عندما يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم وتتهم زوجته ينصتون ولا يتكلمون.
فعلم سفيان بن عيينة وهو في المدينة بأن وكيع سيقتل، فسافر من المدينة إلى مكة، ودخل على الوالي، وقال: الله، الله هذا فقيه أهل العراق كيف تقتلونه؟ قال: أولم تسمع ما قال؟ قال: قد روي هذا الحديث حسناً فمن الذي رواه لـ سفيان؟ الذي رواه لـ وكيع.
مفعول لما لم يسم فاعله وبعد ذلك خلصه من أيدي الحاكم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(81/8)
من للإسلام في زمن الغربة [1]
يتعرض الإسلام لحملات مسعورة بأقلام مرتدة تعمل لصالح أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، وكان المرتدون قديماً يتسترون ويراوغون، أما اليوم فقد استأسدوا وتنمروا حين هان المسلمون، فصاروا ينفثون سمومهم علناً، ويدافع عنهم أمثالهم، ويتكالبون على الإسلام ليطفئوا نوره ((وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))(82/1)
أعداء الرسالة من المرتدين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: حديثنا عن الاستضعاف سيطول؛ لأننا سنحاول وضع برنامج من الكتاب والسنة ومن خلال سورة القصص؛ للخروج من هذا الاستضعاف المهين، الذي ما شهد المسلمون قط في حياتهم، حتى مع مراحل الانحطاط الكبير ما شهدوا هذه المرحلة التي يمر بها المسلمون الآن.
من لدن أبي بكر رضي الله عنه هل مر المسلمون قط ولو ساعة من نهار بدون خلافة، حتى بدون ملكٍ عضوض يحكم فيه حاكمه بالكتاب والسنة؟ هل مر المسلمون بذلك قط؟ أبداً حتى مع مراحل الضعف المهين، والذي شهدها بعض المعمرين الآن في أواخر الدولة العثمانية، كان هناك سلطان للدين، ولم يتجرأ أحدٌ على الكتاب والسنة مثل ما تجرأ العلمانيون الآن.
(العلمانيون) لفظٌ مضلل لأصل الكلمة، كلمة (علماني) ترجمتها الحرفية: لا ديني، هذه الترجمة الحرفية للكلمة، لكن لأنه لفظٌ بشع، أن تقول: لا ديني، لأنها تساوي (ملحد) فجملوا اللفظ، وقالوا: (علماني) نسبةً إلى العلم! وكذبوا، هو (لا ديني) وفعلاً مذهبه يؤدي إلى الكفر في النهاية.(82/2)
الأمانة وتردي حال المسلمين اليوم
إن التعامل مع الكتاب والسنة رصيده أمانة في قلب الرجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو من أشراط الساعة، ولعل زمنه هذا الزمان! - روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: (حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من الكتاب، ثم علموا من السنة) (جذر قلوب الرجال)، الجذر: هو الأصل، أي: قبل أن يتعلموا القرآن والسنة رزقوا الأمانة التي بها لا يحرفون الكتاب ولا السنة؛ لأن تحريف الكتاب والسنة خيانة تدل على أن هذا الرجل لا رصيد للأمانة في قلبه؛ بدلالة هذا الحديث، ثم حدثنا: أن الأمانة ترفع من قلوب الرجال، فيظل أثرها مثل الوكت) (الوكت): هو السواد في لون الجلد، مثل أي جرحٍ في جلدك، بعد أن يبرأ الجرح ترى أثره مسود اللون في جلدك.
لما ارتفعت الأمانة من قلب هذا الصنف؛ تركت مكانها أثراً مثل الوكت (ثم ترفع الأمانة من قلوب الرجال فتترك أثراً مثل المجل - (والمَجْل) بفتح الميم وسكون الجيم- قال حذيفة -: هو كجمرٍ دحرجته على يديك فنفط فتراه منتبراً) لما تدحرج الجمر على هذا الجلد يحصل فقاقيع ماء تنبت عليه، هذا هو المجل (كجمرٍ دحرجته على يديك فنفط) (نفط): أي: انتفخ.
(فتراه منتبراً): أي عالياً منتفخاً؛ لأنه مملوء ماءً، بعدما يزول هذا الماء يترك هذا أثراً، هذا هو أثر المجل (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً ما أعقله! ما أجلده! ما أظرفه! وليس في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان).
ما معنى هذا التدرج في الوصف؟ مثل الوكت، ثم مثل المجل، المجل أوسع من الوكت، كأن الخرق اتسع على الراقع، (استسمنت ذا ورم)، أي: ظننته قوي العضلات، إذاً: المجل أعظم وأكثر اتساعاً من الوكت، ثم هو مع ذلك منتفخ، وهذا الانتفاخ ليس له أي رصيد من الإيمان، فكم من رجل يشار إليه بالبنان له منصب وجاه وليس في قلبه مثقال حبةٍ خردلٍ من إيمان، هذا معنى (منتبر).
(نفط فتراه منتبراً) له منظر ولا مخبر له.
إذاً: صيانة الكتاب والسنة، والوقوف عند حدود الله عز وجل أمانة، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] (الأمانة): كلمة التوحيد بتكاليفها، هذه هي الأمانة، هل لها عين تطرف والارتداد كل يوم، كل يوم نرى المرتدين يطفحون بالكيل على صفحات الجرائد، ونحن مستضعفون لا حيلة لنا، صوتنا لا يصل لكن هناك حلٌ قوي، هو الذي لاذ به المستضعفون في كل زمان من أتباع الرسل: أن تنادي ربك، وأنت تظهر الضعف بين يديه، وأن تقول: لا حول ولا وقوة إلا بالله، هذا كان شعار أتباع الرسل؛ لأن أتباع الرسل جميعاً كانوا ضعفاء، هذه صفة أساسية لازمة لأتباع الرسل: ضعفاء، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] ماذا قال شعيب؟ قال كلاماً مفهوماً، نفس التغابي الذي يعاملوننا به الآن فعله قومٌ شعيب معه، كما سنبسط ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(82/3)
ردة المدعو (نصر أبو زيد)
محكمة النقد الأسبوع الماضي أخرجت الحكم على نصر أبو زيد، وحصلت على حيثيات الحكم من محكمة النقد في أربعة وثلاثين صفاً، وأتيت بأربع صفحات لأقرأها عليكم بعد الخطبة، وهؤلاء ليسوا متطرفين ولا يمتون لنا بصلة، إنما قضاة يتعاملون مع نص أمامهم.
فهذا الذي ذكروه في هذه المذكرة من الكفر لو وزع على أمةٍ من المؤمنين لدخلوا النار جميعاً! ارتكبه رجلٌ واحد، ومع ذلك جرائد ومجلات تخرج وتدافع عن هذا الرجل.
مجلة أسبوعية: الصفحة الثالثة، تنعي الأمة المسلمة بهذا الحكم بالارتداد على هذا المرتد، صفحة كاملة، لو أراد أحدنا أن ينشر فيها إعلاناً مدفوع الأجر لدفع خمسين ألف جنيه، هذه الصفحة خرجت سوداء، وفي أسفل الصفحة: (البقية في حريتكم) على وزن (البقية في حياتك)! لماذا؟ قال لك: لأنه يحكم في مصر على الناس بالارتداد، هذه حرية؟! فصارت حرية الكفر مشروعة، أو هكذا يريدونها، مع أن هذا المرتد ظهر منه استهزاء بالقرآن، والقول بأنه نتاج العقل البشري -هذا كلامه- والكفر بآيات السحر والجن في القرآن، ولمز الرسول عليه الصلاة والسلام بأن المسلمين أعطوه قداسة حتى يكون مشرعاً إلى آخر هذه الموبقات.
هذه هي الجهة التي حكمت أين جهة التنفيذ؟ هل هناك جهةٌ تنفذ الحكم في المرتد حتى يرتدع هؤلاء؟ لو قال رجلٌ: أنا كفرت بالله.
فقال قائل: وأنا أقر مقالته أليس المقر حكمه حكم المبتدع؟ أليس يقتل بهذا الإقرار؟ وهذا الجيش من الصحفيين الذين دافعوا عن هذا المرتد، ألا يكون حكمهم هو حكم ذلك المرتد بدون أي قضية ترفع إلى القضاء؟ أليس هذا هو العدل: أن يقتل هؤلاء وأن يحكم عليهم جميعاً بأنهم مرتدون مثل المرتد الأول الذي يدافعون عنه؟! لكن هؤلاء في مأمن، السبب: أننا نحتاج في كل قضية أن نرفع دعوى.
لو كفر الرجل، وحكمت عليه المحكمة بالكفر، فجاء رجلٌ فقال: وأنا أقول بمثل مقالته.
لا يتعرضون له أبداً، لماذا؟ لأنه لابد من رفع قضية، وأن يجتمع القضاة مرةً أخرى، ويصدروا حكماً على هذا المعتد بالارتداد، وبعد ذلك يقتل إذا كان هناك جهة تنفيذية، أرأيتم مثل هذا العبث؟! لذلك كثر الذين يتهجمون على القرآن والسنة في أمتنا.
نحن أُتينا من بابٍ خطيرٍ جسيمٍ ظل المسلمون يحترمونه ويقدسونه على مدار الأعوام، وعلى مدار الأجيال، حتى في عصور الانحطاط.
ويرجون النصر على أعدائهم، والله الذي لا إله غيره لو أن شخصاً يعبد الحجر، ويعتقد أن الحجر يضر وينفع لانتصر على أمثال هؤلاء، وإن كانوا يقرءون القرآن!! يلعب بالقرآن بهذه الصورة، ويمتهن بهذه المهانة، وتصدر الجرائد كلها تدين القضاة أنهم وقفوا في خندق الإرهابيين، كلما نصروا قولاً يقوله الله ورسوله قالوا: إرهابيون، حتى لو كانوا ينصرونهم بالأمس.(82/4)
صمت المسلمين تجاه تيار الردة
هذه الحالة التي نعيش فيها الآن، حالة لم يمر المسلمون بها قط.
إيهٍ يا عمر: لو سمعت بعض هذا الذي نمر به إذاً لشاب شعرك! والدعاة إلى الله عز وجل يصرخون في الجماهير! اهتموا -يا أيها الناس- بإسلامكم، هو أولى من رغيف الخبز، لو رفعوا رغيف الخبز إلى جنية لثار الجماهير، ولأحرقت الأماكن العامة مثلما حصل سنة (1976م)، حين زاد سعر الخبز ثلاثة قروش فقط، كانت الخسائر المبدئية خمسة عشر مليون جنيه، خسائر من حريق قطارات وحريق مستشفيات إلخ، وحين زاد سعر الكيلو السكر من ستة عشر قرشاً إلى أربعين قرشاً، وأرادوا رفع قيمة الخبز من نصف قرش إلى قرش؛ ثار الجماهير، وهذا الإسلام يمتهن في كل يوم، والقرآن يعتدى عليه في كل يوم ولا صريخ له، كأن هذه الجماهير لا تدين بالقرآن، ولا تقدسه، وإلا أين جهادكم؟ وأين نصركم؟ وأين اعتراضكم؟ هذه محكمة النقد -التي هي آخر المطاف، لا محكمة بعدها- حكمت بارتداد الرجل، وأن يفرق بينه وبين امرأته هل من جهةٍ تنفيذية؟ الرجل هرب وسافر إلى هولندا؟ ألا تعاملونه معاملة السعد والريان، السعد هرب وذهب إلى باريس، فاحتالوا عليه وضحكوا عليه، وأتوا به ووضعوه في السجن، طيب أرونا حياض الدين، اذهبوا إلى هولندا واضحكوا عليه أيضاً، وقولوا له: تعال وسندافع عنك، واقتلوه هل يفعلون؟ لن يفعلوا أبداً أبداً.
(حرية الكفر) كما قلت لكم؟ أصول كلها دمرها، وأنا لا أدندن على هذا الرجل وحده؛ لأن خلفه أمة تتبعه في هذه الأصول، أعظم ما نعانيه: أننا لا نحس بجسامة المحنة التي نمر بها.
آهٍ! لو شعر المستضعف أنه مستضعف، وأمسك بالكتاب والسنة؛ إذاً لانتصر، لكن هذا الصراخ الذي نصرخ به في كل مكان ليستيقظ الجماهير؛ ليعلموا أنهم في محنةٍ عظيمة لم يمر المسلمون بها قبل ذلك.(82/5)
الفرق بين المرتدين في القديم والحديث
في كل عصر كان هناك من يعتدي على حياض القرآن، لكنه كان يستتر، وكان يستخدم عبارات موهمة؛ لأنه لو صرح لقتل.
هذا أبو العلاء المعري -الشاعر المعروف الذي كفره الفقهاء- اعترض على حكم القرآن ببيتين من الشعر، ونحن نعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار)، الدينار مائة درهم، إذاً: ربع دينار خمسة وعشرون درهماً، الدرهم تسعون فلساً تقريباً، يعني لو أن رجلاً سرق خمسة وعشرين جنيهاً تقطع يده.
ونعلم أيضاً أنه لو اعتدى رجلٌ فقطع إصبع شخص آخر فإن الدية التي شرعها النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الإصبع الواحد عشرة جمال، والجمل بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وإذا ضربتها في عشرة آلاف تصبح ثلاثين أو أربعين ألف جنيه، دية الإصبع، في حين أن هذه اليد التي تتألف من خمسة أصابع لو سرقت خمسة وعشرين جنيهاً تقطع كلها.
فهذا الرجل لم يعجبه الحكم، فقال: يدٌ بخمس مئين عسجدٍ وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار فنسب أحكام الله ورسوله إلى التناقض، وقال: إذا أردت ألا تدخل جهنم قل: أعوذ بالله من النار فقط.
ويدعي أن كلام ربنا متناقض! يقول: ولأنه إله لا تستطيع أن تراجعه فسلم حتى وإن كان فيها تناقض، وهذا الكلام كفر، فطلبه الفقهاء ليقتلوه فهرب، ورد عليه العلماء، ومن أبلغ المقالات التي ردت عليه قول القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: (لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت).
ويهرب الرجل؛ لأن هناك من يطلبه.
لو أن هؤلاء اللادينيين حقاً كانوا يعلمون أنه من اعتدى على حكم الكتاب والسنة قتل؛ ما وجد هذا الغثاء، ولا السيل الجارف من الإهانات للكتاب والسنة بدعوى الفكر، والحرية، هل هناك جهة تنفيذية تأتي بهذا المرتد لتجعله عبرة لمن يعتبر؟ لاسيما وقد أطبق علماء الأزهر جميعاً على ردة الرجل، مع حكم المحكمة على ردته أيبقى هذا الرجل له عينٌ تطرف ولو كان في آخر الأرض؟ وتشعر بحسرة عظيمة إذا علمت أن سلمان رشدي اعتدى على الرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الجناب العالي، واعتدى على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم واتهمهن بالدعارة والزنا! ومع ذلك لم توجد دولة إسلامية واحدة تسحب السفير من إنجلترا التي دافعت عن هذا المجرم.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن أعداءنا ما وصلوا إلى هذا طفرة، يفعل الفعل وينتظر ردة فعل، فإذا وجدوا رد الفعل قوياً تردد أن يفعل أخرى، لكن إذا وجد ردة الفعل ضعيفة جداً، لا يعدو أن يكون شجباً واستنكاراً فقط؛ أغراه ذلك بضربةٍ أقوى من الأولى.
ما وصل أعداؤنا إلى هذا طفرة، رحل الاستعمار من بلادنا، لكنه ترك تلامذته وأذنابه يعبثون، أليس تلامذته هم الذين كتبوا لنا التاريخ في المدارس الإعدادية والثانوية، وهم الذين كتبوا لنا التاريخ في الجامعات؟ تلامذة المبشرين الذين كتبوا (مآثر الحملة الفرنسية) و (أضرار الحركة الوهابية) ويقولون -بكل تبجح-: الحملة الفرنسية لها مآثر! كانت حملةً صليبيةً تبشيرية ويقولون: لها مآثر! والدعوة الوهابية في بلاد الحجاز التي كان الهدف منها إعادة الدين نقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقال: (أضرار الحركة الوهابية) وتخرج حملة عسكرية من مصر بقيادة إبراهيم باشا لضرب الحركة الوهابية هناك! هذا هو التاريخ الذي درسوه لنا؛ فنشأ هذا الجيل مبتوت الصلة بتاريخه؛ لذلك لا يحس بالضربات المتلاحقة على الكتاب والسنة.
إن الصحابة الكرام كان القرآن أعظم في قلوبهم من أن يتطرق إليه تأويلٌ مرجوح، لا أقول: باطل، بل أقول: مرجوح فقط، والتأويل المرجوح له وجه في القوة، لكنه أدنى من التأويل الآخر الراجح؛ لأنه كان أعظم.(82/6)
جحود المجرمين لواضح البراهين
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:84 - 86].
فهذا كلام واضح كالشمس، ركز فيه على كلمتين اثنتين: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، (أوفوا المكيال والميزان بالقسط) فعندما يأتي هؤلاء ويقولون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] مع هذا الوضوح، فهذا يدل على شيئين لا ثالث لهما: إما فاهم ويتغابى، وإما أصم لا يسمع، ولا أقصد بالصمم عطب هذه الحاسة، إن قوماً سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31] لأنه لو سمعوا سماع انتفاع ما قالوا هذا الكلام، اليهود الذين سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93] أهؤلاء سمعوا؟ إن السماع الممدوح في القرآن هو سماع الانتفاع؛ إنما مجرد سماع هذه الجارحة، أن يسمع الكلام بأذنه؛ ما قصد القرآن ذلك، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} [النور:51] حسناً: لو سمع وعصى، فهل هذا سمع؟ لا، هو عند الله كالأصم طالما أنه لم ينتفع بهذا السمع.
ولذلك (لما نزلت خواتيم البقرة -كما رواه الإمام مسلم في صحيحه - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]-ضاق الصحابة وقالوا: يا رسول الله! جاءت التي لا نستطيع (إن تبدوا أو تخفوا)! قد يمر بصدر الإنسان من الكفر ما الله به عليم، وقد يخطر بباله نوع من الشر ويتمنى أن يفعله، لكن لا يفعله، أفنحن مؤاخذون بذلك؟! - فجاء الصحابة وبركوا على الركب -والبروك إشارة إلى الذل- وقالوا: لا نستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا.
فذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله عز وجل آية الرخصة التي بعدها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]).
فالسماع المحمود هو سماع الانتفاع، وليس مجرد سماع الجارحة، ولذلك فإن الصمم الوارد في القرآن إنما ورد لأناسٍ آذانهم سليمة؛ لكنهم عموا عن الحق فلا يسمعونه.
فهذا البيان الواضح: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:85]، إما أنهم يتغابون في الخطاب، ويزعمون أنهم لا يفهمون؛ للتخلص من النص، وإما أنهم صم لا ينتفعون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91].
واحد يقول: (ما نفقه كثيراً) هذا يدل على أنهم فقهوا قليلاً.
نقول: إن هذه الآية تدل على أنهم ما فقهوا شيئاً؛ لأن علماء الأصول يقولون: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فقوله: (كثيراً) هذه النكرة منفية قبل ذلك بـ (ما النافية)، (ما نفقه كثيراً) إذاً هذا يدل على أنهم لم يفقهوا لا قليلاً ولا كثيراً مع هذا الوضوح.(82/7)
سعار الردة لدى بعض الكتّاب
هؤلاء يعاملوننا بتغابٍ، أحدهم نشر كتاباً، الجزء الأول منه سبعمائة صفحة، ويبشرنا بجزئين: الجزء الأول يقول: لا وجود لما يسمى بالسنة، وأتى بأحاديث في البخاري ومسلم ينتقدها، أتعرفون كيف ينتقد؟ جاء إلى حديث الإسراء والمعراج، وصف البراق، فقال: إنه دابة دون البغل وفوق الحمار، يقول: هذا الحديث مكذوب على رسول الله لا شك في ذلك.
حسناً: ما هو الدليل؟ يقول: لأن هذا من وحي الصحراء، الذي افترى هذا الحديث رجل بدوي فلاح، دائماً يركب البغال والحمير، فلما افترى هذا جعل البراق بغلاً.
أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تنتقد هكذا! لو ورد في القرآن وصف للبراق، أو ورد في أحاديث أخرى وصف للبراق مخالف لهذا الوصف لقنا: لا بأس، لو جاء في القرآن أن البراق صورته صورة إنسان وله ذيل -مثلاً- أو أي شيء، وجاء رجلٌ فقال: دون البغل وفوق الحمار لقلنا: لا بأس؛ لكن رجل لمجرد أنه لم يهضم أن يكون البراق بغلاً فيقول: إن هذا كذب! إذا كان النقد بهذه الصورة فإن كلام الله عز وجل سيتعرض للنقد.
وآخر عندما يقرأ قول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] فيقول: إذاً أين طولها؟ لما كان عرضها السماوات والأرض؟ كلام لا نتخيله!! إذاً كلام الله عز وجل غير صادق.
إذا تعاملنا مع نصوص الكتاب والسنة هكذا لم يبق في أيدينا حتى: قل هو الله أحد!! وينشر الرجل في منتهى الحرية وفي منتهى الأمان، آمن على نفسه أنه لن تطوله يدٌ أبداً.(82/8)
سبيل الخروج من مرحلة الاستضعاف
نحن نعاني من حالة عظيمة جسيمة، نحن ضعفاء لا قوة لنا إلا بالله، وأتباع الرسل دائماً ضعفاء، كما ورد في حديث ابن عباس في مطلع صحيح البخاري، لما حاور أبو سفيان هرقل عظيم الروم، قال هرقل لـ أبي سفيان -يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم-: كيف نسبه فيكم؟ فقال: هو فينا ذو نسب.
قال: هل كنتم تتهمونه قبل ذلك؟ قال: لا.
قال: هل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا.
قال: هل قال بقوله رجلٌ قبله؟ قال: لا.
قال: اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم.
قال: يقلون أم يزيدون؟ قال: بل يزيدون.
قال: هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا.
هكذا وصف المستضعفين، وأن عددهم كل يوم في زيادة، مثلما هو حادث الآن، الرسم البياني للراجعين إلى الله كل يوم يزيد، ولا يرتد أحدٌ منهم إلى الخلف أبداً، إذا باشر الإيمان شغاف قلبه لا يرتد أحدٌ منهم سخطةً لدينه، حتى أن المؤلفة قلوبهم لما كان الواحد منهم يحسن إسلامه كان يرفض (سهم المؤلفة قلوبهم) رجل تعطيه حتى لا يكفر، فبعد أن يحسن إسلام الرجل كان يستنكف أن يأخذ هذا المال لماذا؟ يقول: أنا الآن أسلمت وجهي لله عز وجل، وما بي من حاجة أن يقال: أخذ المال حتى لا يكفر، ويراه عاراً عليه أن يأخذه، برغم أنه محتاج إليه! فهؤلاء لا يرتدون أبداً لماذا؟ يعتزون بإيمانهم، أرأيت إلى بني هاشم لما حاصرتهم قريش في الشعب ثلاث سنين، الحرب الاقتصادية حرب يلجأ إليها أعداؤنا في حال استضعافنا، أجاعوا بني هاشم، وقالوا: لا يقصد أحدٌ منهم ولا ينكحهم أبداً ثلاث سنوات، حصروهم حتى ألجئوهم إلى أكل الديدان والحشرات لماذا؟ حتى يتبرءوا من النبي صلى الله عليه وسلم ويعلنوا هذا الرفض، ما خلصهم إلا الله بأن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه يوماً: (أما تعلم أن الله أرسل الأرضة -دابة الأرض، مثل السوس- فأكلت الشروط -لأن قريشاً كتبت ورقة وعلقتها في الكعبة- فأكلت كل شيءٍ إلا اسم الله) فـ أبو طالب أول ما سمع هذا الكلام ذهب إلى قريش، وقال: لو أخبرتكم أن الأرضة أكلت ورقة الشروط كلها، وما أبقت إلا اسم الله؛ تفكون هذا الحصار؟ قالوا: قد أعذرت وذهبوا إلى الورقة فوجدوا الأرضة قد أكلتها كلها فعلاً إلا اسم الله عز وجل؛ ففكوا الحصار.
فاعلم أنك إذا رجعت إلى دينك ستحاصر دولياً ومحلياً، وعلى مستوى الفرد، ستنقل من وظيفتك المرموقة وتوضع في المخازن؛ ستسجن، وتمنع من علاواتك وترقياتك حرب اقتصادية، والأمة بمجموعها لو رجعت إلى الله لمنعوا صفقات القمح التي يمدوننا بها، لكن لا قوة لك إلا بالله، فاسمع إلى كلام الملك الصادق سبحانه وتعالى، الذي لا يتطرق إلى كلامه شكٌ فضلاً عن كذب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] طيب يا رب هؤلاء المشركون معهم المال ويعطوننا القمح.
فقال: ((وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً)) أي: فقراً {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]، مشركون يعطوننا المال والسلاح، فقال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا} [آل عمران:139]، {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] * {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] هذه مرحلة أخرى، امنع ولا تكتفِ بالمنع، بل اهجرهم في عقر دارهم، وقاتلوهم لنشر دين الله عز وجل؛ يرفعكم الله عز وجل.
هذه لمحةٌ وطرفٌ مما نعانيه الآن، إنما قلت ذلك لأن أول درجات النجاح هو وضع الخطة المحكمة، سواءٌ في التقدم أو في رجوع القهقرى.
أنت مستضعف، ونحن الآن نتكلم عن الاستضعاف من خلال سورة القصص، وكيف أن الله مكن لبني إسرائيل بعدما كانوا مستضعفين؟ ماذا فعل بنو إسرائيل حتى مكن الله لهم؟ لكن كانت هذه مقدمة ضرورية؛ لبيان حالنا ووضعنا، ومدى الضعف الذي نعانيه، حتى إذا حدونا قلوب المستضعفين وهم في طريقهم إلى الله؛ قالوا: لبيك، بل وألف (لبيك).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.(82/9)
سبل النجاة
إن دين الله عز وجل هو الصراط المستقيم وهدي النبيين، وما من نبي إلا ودعا إلى دين الله وحذر العباد مغبة المخالفة لرسم نهج الحق وطريق النجاة.
ولقد ابتلى الله عباده فيما ابتلاهم بدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، وقد ابتكروا لذلك مذاهب وفرقاً تختلف إحداها عن غيرها في تفاصليها ومناهجها، ولكنها جميعاً تلتقي عند نهاية واحدة ألا وهي غواية العباد وصرفهم عن الدين القويم.
فعلى العبد الناصح لنفسه تنكب هذه الطرق كلها والسير في طريق الله الذي رسمه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؛ لأنه سبيل النجاة.(83/1)
الافتراق سنة ماضية
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديثٍ أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فكان على العاقل أن يبحث عن هذا الطريق الوحيد للنجاة؛ طريق في وسط ثلاثٍ وسبعين طريقاً، فالأمر إذاً مشكل، ليت الأمر يتوقف على طريقين، أو ثلاثة، أو أربعة، فيمكن للإنسان عندها أن يميز، لكن أن تكون ثلاثاً وسبعين طريقاً والنجاة من طريقٍ واحد، فيكون الأمر مشكلاً جداً؛ هذا الطريق الواحد هو الذي تطلبه من الله عز وجل، سبع عشرة مرة في اليوم، اهدنا الصراط المستقيم، وهو الذي عناه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]، فالطريق الوحيد سماه الله صراطاً، والطرق الكثيرة سماها سبلاً؛ لأن الصراط أقوم، ولفظة السبل يظهر منها أثر المنفعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه)، فيمكن أن يحقق سبيل من هذه السبل، جاهاً، أو سلطاناً، أو مالاً، أو متعة؛ فهذه كلها سبل، لكنها قصيرة وهامشية لا قيمة لها، إنما طريق الله عز وجل طويل جداً لكنه مستقيم؛ فالطريق إذا كان متعرجاً تحتاج إلى علامات إرشاد، أن أمامك منحنى أو أنك ستتجه باتجاه اليمين، وبدون هذه الإشارات يضل الإنسان، أما لو كان الطريق مستقيماً فلو أن الماشي كان أعمى لا ينحرف عن مشيته فإنه يصل، فطريق الله عز وجل طويل نعم، لكنه مستقيم، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فهذا الطريق الوحيد أليس أوْلى أن تبحث عنه أكثر من بحثك عن لقمة الخبز في بلاد الكفر، أليس هو أولى أن تسأل عنه الليل والنهار كل من تلقى من أهل العلم، ما النجاة؟ وأين هذا الطريق، وما علامته؟ اعلم أيها الكريم! أنك لست أذكى ممن ضل، ولست أشد عبادة منه؛ الخوارج الذين خرجوا على الصحابة، تُرى هل أنت أذكى منهم؟
الجواب
لا.
بل هم أذكى بكثير؛ المعتزلة وسائر الفرق الثلاث والسبعين كان رءوسها من أذكياء العالم، هذا عمرو بن عبيد كان المأمون إذا رآه أنشد قائلاً: كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وذلك بسبب زهده، أما من سواه فأول ما يجيء أحدهم عند أمير المؤمنين يريد يصطاد صرة من المال، فيدخل يتكلم أي كلام فيه مداهنة.
كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد رويد: هو المشي البطيء، وعادة لا يمشي مشيةً بطيئةً إلا رجل له مأرب، إنما الرجل الذي لا يلوي على شيء تجده جاداً وسريعاً في مشيته، إنما الذي يمشي رويداً ويتلفت يمنةً ويسرة فإنما له مآرب.
كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وعمرو بن عبيد كان من أذكياء العالم، ومع ذلك ضل، فكيف ضل هذا وأنت اهتديت، ولست مثله في ذكائه، ولست مثله في عبادته، الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقسم غنائم حنين جاءه ذو الخويصرة وقال: (يا محمد اعدل فإنك لم تعدل، قال: ويلك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! فأراد خالد بن الوليد أن يضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحاباً) وفي الرواية الأخرى قال: (دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من أصله- أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) تعرفون قتل عاد؟ لما أراد الله معاقبتهم استأصلهم فصاروا كجذع نخلٍ منقعر -أي: قتلهم قتلاً ذريعاً- ولم يرحمهم.
الرسول عليه الصلاة والسلام يصف وينعت هؤلاء الأقوام للعباد الزهاد، الأكابر السادة، لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، أليس هؤلاء هم الصحابة الذين يضرب بهم المثل في الجد في العبادة؟ عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! افرضه عليَّ -افرض عليَّ أن أقوم بالقرآن كل ليلة- فأبى، قال: لعله أن تكون بك حياة) وقد طالت به حياة، وكان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لكنه كره أن يقل في العمل عما تركه عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص قصته مشهورة؛ فقد تزوج امرأته وفي ليلة الزفاف تركها وأقام الليل، قال: لشدة ما كنت أجده من العبادة، فكان عنده حب لقيام الليل، وهذا الحب أفسد عليه ليلة الزفاف، وكان أبوه عمرو بن العاص يعلم منه هذه الخصلة، فتخوف أن يكون قام ليلته تلك وترك المرأة، فجاء في الصباح وسأل زوجة ابنه ماذا فعل عبد الله؟ قالت: نعم العبد لربه لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فجاءني أبي فعزمني وعضني بلسانه وقال: أنكحتك امرأة ذات حسب من قريش فأعضلتها، وجعل يقول له: كذا وكذا، وشكاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان من قصته ما تعلمون.
إذاً: عندما يقوم عبد الله بن عمرو بن العاص الليل كله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (يا عبد الله! كيف تصوم النهار؟ يقول: أصوم الدهر كله)، يصوم كل يوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كأنه يقول: يا عبد الله! أنت ومن على شاكلتك سيأتي زمان ينبغ فيه رجال يصلون صلاةً، فتقوم أنت وتحتقر صلاتك أمام صلاتهم وتقول: هل أنا أصلي؟ إنما هذا لعب بجانب صلاة أولئك الناس، وحين ينظر إلى صيامه -رغم أنه يصوم كل يوم- يحتقر صيامه إلى صيام هؤلاء، وكل ليلة يصلي إلى الفجر ومع ذلك يحتقر صلاته إلى صلاة هؤلاء.
كيف تكون عبادتهم إذاً؟ منتهى الجد في الصلاة، ومنتهى الجد في الصيام، ومنتهى الجد في قراءة القرآن، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم) ما نفعته صلاته في تثبيت أقدامه على الطريق الحق، ولا نفعه صيامه في تثبيت أقدامه على الطريق الحق، كلما رأى مبتدعاً يلوح برايةٍ تبعه، أفأنت أشد عبادةً من هؤلاء؟ إذاً لماذا ضلوا؟ قلت لك: إن الأمر شائك وصعب، وحري بك أن تبحث عنه في وسط ثلاث وسبعين طريقاً، تفتش عن هذا الطريق الوحيد للنجاة، المسلم العاقل لا يفتر الليل والنهار، يسأل: كيف النجاة؟ وهو أولى من زيادة الدخل، كل ما شئت؛ فما زاد عن حاجتك إلى المجاري، والبس ما شئت إلى بِلى، وهذا كل ما يبحث الناس عنه، وما قطعوا أرحامهم ولا سافروا إلى بلاد الكفر إلا من أجل المال، وإشباع شهوتي البطن والفرج، الرسول عليه الصلاة والسلام حين يقول: (افترقت الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فصعب عليك المسألة.
والرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك البيان، وما ترك لنا شيئاً مشكلاً ليس له حل، قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) ونحن لا نعلم أبداً طريقاً ليلها كنهارها إلا هذه الطريق.
إذاً لا تقل: أنا مشيت بالليل فضللت؛ لأن الليل كالنهار، قال أبو ذر وقد أبصر طائراً في السماء: (ما من طائرٍ يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم)، وقال الله عز وجل ممتناً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فمن أين أوتينا؟ أوتينا من الجهل، وقلة المبالاة بالبحث عن الطريق الوحيد وسط كل هذه الطرق، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153] هذا هو الطريق الوحيد، إن العبد لا يصدر إلا من طريقين: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، هذان هما الطريقان، إما هواه أو الهدى من الله {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]، هذا الطريق الأول، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] وهذا الطريق الثاني، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَ(83/2)
التحاكم إلى القوانين الوضعية
إذن هذه الآيات كلها تدور على أن العبد يصدر إما عن وحيٍ وإما عن هوى، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فإذا لم يتبع العبد الوحي فما ثم إلا الهوى، أهل البدع برغم ذكائهم وبرغم جدهم وعبادتهم ضلوا؛ لأنهم خالفوا أهل الحق في منهج التلقي وفي طريقة الاستدلال؛ هذا هو سبب ضلالهم، منهج التلقي كما في الآيات التي تلوناها: الوحي، فلا تصدر إلا عن وحي، عن قرآنٍ وسنة، هذا أعذر لك حتى لو زلت بك القدم وضاق عقلك عن فهم الآية عذرت، قلت يا ربِّ! اجتهدت في طلب الحق من هذه الآية فلم أصب، هذا بخلاف الذي يعبد على غير وحيٍ.
ولذلك العلماء قالوا بالنسبة للقانون الوضعي الذي تسير عليه الدولة الآن في المحاكم، وفي الجنايات، وفي العقوبات، وفي القصاص، كل القوانين التي في المحاكم الآن ضلال مبين، وهي على خلاف الشرع، ما بقي لنا من ديننا في المحاكم إلا قانون الأحوال الشخصية وقد بدلوه أو بدلوا أكثره، ففيما يتعلق بالمرأة يريدون الإجهاز على البقية الباقية من القانون، الذي هو في الأساس منتقى من مذهب أبي حنيفة، وحتى لو كان ما في هذا القانون قولاً مرجوحاً في مذهب أبي حنيفة فهو خيرٌ من القانون الفرنسي، ومع ذلك فهم يزحفون على البقية الباقية من قانون الأحوال الشخصية.
فلو جاء رجلٌ فقضى بالقانون الوضعي في قضية ما، فأصاب حكم الله فهو مأزورٌ غير مأجور، ولو حكم بشرع الله وأخطأ فهو مأجورٌ غير مأزور، فما الفرق؟ الفرق أن هذا الرجل الأول اعتمد في الأصل على غير ما أنزل الله، أصاب الحق أو لم يصب لا قيمة لذلك، إنما من لطف الله بنا أن الرجل إذا أفرغ وسعه في طلب الحق واعتمد على الأدلة الشرعية وأخطأ فإنه يصيب أجراً واحداً كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) أي: أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق، والأول له أجر الاجتهاد فقط، إذاً برغم أنه أخطأ إلا أنه يؤجر أجراً واحداً، أما الأول فبالرغم من أنه أصاب حكم الله عز وجل، لكنه مأزور؛ بسبب أنه لم يعتمد على الوحي قرآناً وسنة، وهذا هو الأصل؛ لأن الحكم ليس له إلا وجهان فقط: إما وحيٌ وإما هوى.(83/3)
أسباب الوصول إلى طريق النجاة
إن أول سبيل وأنت تفتش عن الطريق الحق وسط هذا الكم من الطرق أن تبحث عما كان عليه الأصحاب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام عبادةً وعقيدة، كانوا أقل الناس تكلفاً، سمة التكلف غير موجودة فيهم أبداً، حتى الورع بالرغم من أنه يحمل العبد على التكلف بترك المباح، فترك المباح تكلف، فمثلاً لو افترضنا جدلاً أن رجلاً جاء يطعم عند رجل آخر فقال: هذا الدجاج أذبحته أنت بنفسك؟ قال: لا.
لكنه مذبوح في بيتي، قال: من الذي ذبحه؟ وهل من ذبحه يصلي؟ الرجل يسأل كل هذه الأسئلة بقصد ألا يأكل لحماً ذبحه رجلٌ لا يصلي، فهذا ورع أو داخلٌ في جملة الورع، لا يريد أن يطعم شيئاً فيه شبهة، ومع ذلك يلوح عليه أثر التكلف؛ لأنه مخالف لسائر الأدلة التي تبين لنا أن الأصل في ديننا اليسر، وما لم يأتك لا تتعنى البحث عنه، فتضيق على نفسك.
شخص يدخل الأسواق -ومعلوم أن كثيراً من أموال الأسواق سرقة وغصب، وأن كثيراً من المحلات قائمة على قروض ربوية من البنوك- فلو دخل رجلٌ محلاً تجارياً فسأل صاحب المحل: أتقترض من البنوك؟ أتجري المبايعات على الحل، أو تقع في المبايعات المحرمة.
كان ذلك تنطعاً، وهو يضيق على نفسه دائرة الحلال، إنما لو دخل واشترى فما على المحسنين من سبيل، ولا يقال له: لِمَ لم تسأل؟ لكن لو سأل وعرف، ثم احتاج بعد ذلك فاضطر إلى الشراء يلام، ويقال له: فتشت وتعنيت ولم يطلب منك، برغم أن التفتيش هذا داخل في دائرة الورع ولو في الجملة.
فالصحابة حتى في ورعهم لا يلوح عليهم هذا التكلف، وقلما وجدنا صحابياً يسأل مثل هذه الأسئلة، لكن ورعهم عليه نور وهالة، لأن هذا يتماشى مع فطرهم، ليس عندهم تكلف في الأصل.
فأنت في أول بحثك حتى لا تتوه اطلب سير الصحابة، واقرأ تراجمهم، وانظر كيف كانوا يركعون ويسجدون، كيف كانوا يذكرون الله عز وجل، ثم انظر في سير التابعين، وكيف تأسوا بهؤلاء الصحابة حتى تتدرج إلى العلماء المتبوعين، الأئمة الكبار كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، كل هؤلاء السادة عندما تقرأ سيرهم وتمشي على طريقهم ولو تقلدهم في بعض ما تقرأ، لا تقرأ إزجاءً للفراغ، فمثلاً روي أن الإمام أحمد رحمه الله أصيب بوجع فدخل عليه بعض أصحابه، وهو يئن من المرض، فقال الإمام أحمد له: حدثنا -وأحمد هو أحمد والذي يحدثه لا يبلغ في علمه نصف أحمد - فقال: حدثنا فلان عن فلان، عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض، قال: فما أنَّ أحمد بعدها، فـ طاوس تابعي وأي حجة في كلام التابعي أو في فعل التابعي إنما الحجة في كلام الله ورسوله، والتأسي يكون بالصحابة، لكن الإمام أحمد بن حنبل لا يجهل قدر طاوس، وكانوا إذا رأوا كلمة الحكمة تخرج من أي فمٍ وصادفت عندهم موضعاً يتبعونها، ولما سئل بعد ذلك عن أنين المريض قال: أكرهه؛ لأن طاوس كان يكرهه، فالإنسان يتأسى بمن سبقه من أهل العلم.
ذكر الإمام أحمد ما وقع له في المحنة فقال: وجلدت في يوم الإثنين وكنت صائماً ثلاثمائة جلدة حتى أغمي عليَّ عدة مرات -أي كان يفيق ويضرب ويغمى عليه- قال: فجاءني رجل لا أعرفه، وقال: يا أحمد! اصبر، قال: فكلما جلدت ذكرت الرجل وكلمته وتجلدت.
فمن هذا الرجل؟ وما قيمته؟ لا نعرف له رسماً ولا اسماً ومع ذلك صار إماماً لـ أحمد، قال: يا أحمد: اصبر، والأمر بالصبر، جاء في آيات وأحاديث كثيرة، لكن كان يتأسى.
فأول ما ينظر الإنسان إلى هدي الصحابة، وكيف كانوا يوجهون التابعين، يحاول أن ينفذ ولو جزءاً مما قرأ، فحين يسمع هذا الكلام يقول: أنا سأكون مثل الإمام أحمد، إذا مرضت فلن أئن، فهو في هذه الحال قد تأسى.
ومن المرضى من يعد مريضاً متعباً، ومنهم من يعد مريضاً مريحاً، فالمريض المتعب، أول ما تدخل عليه يجأر بالشكوى، وقد أتي له بالأطباء، وبذل معه كل ما يستطيعه البشر، ومع ذلك فهو يئن، فلا يستطيع القائم عليه أن ينام هو الآخر، بسبب هذا المريض الذي يكثر من الشكوى، وهناك مريض مريح، إذا دخلت عليه قال: الحمد لله لا تشغل نفسك بي، ويقول هذا الكلام وهو يتوجع، فتصور لو أن هذا المريض ترك الأنين لأراح من حوله ولتمكنوا من الاشتغال بأعمالهم دون إشغال فكرهم بحال مريضهم.
فالإنسان إذا قرأ مثل هذا وتأسى يكون له في ذلك منافع، لكن أيضاً لابد من النظر فيمن يتأسى، فلا يتأسى إلا بمثل طاوس بن كيسان رحمه الله، فضلاً عن الصحابة الكبار، ومنهم الصحابي الكبير جرير بن عبد الله البجلي، حين أرسل غلامه إلى السوق ليشتري فرساً وكان الغلام ذكياً وحاذقاً (والتجارة شطارة) واستطاع أن يشتري فرساً من رجل بثلاثمائة درهم وكانت فرساً قوية، وجاء جذلان فرحان، وجاء معه صاحب الفرس إلى جرير لينقده الثمن، فـ جرير بن عبد الله نظر إلى الفرس وقال: بكم اشتريت هذا؟ قال: بثلاثمائة درهم، قال: يا صاحب الفرس إن فرسك تساوي أربعمائة، قال له الرجل: بعتك: قال: تساوي خمسمائة، ستمائة إلى أن وصل إلى ثمانمائة، وفي كل ذلك يقول الرجل: بعتك، فارتفع السعر من ثلاثمائة درهم إلى ثمانمائة درهم، يعني: بلغ الفرق خمسمائة درهم، وهو ما يساوي قيمة فرسين، وجرير بن عبد الله هو الذي سيدفع، فلما أعطاه الثمانمائة درهم وخرج الرجل -صاحب الفرس- بقي الغلام مذهولاً، قال لـ جرير: ما هذا الذي صنعت، قال: (إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)، هذا هو النصح، فرسه تساوي ثمانمائة، لماذا تنقص في السعر؟ فانظر إلى حفظ العهد، ولذلك سادوا.
أنت تنقص سعر السلعة وتكسب خمسمائة درهم وتذهب تصرفها عند الطبيب، آه لو قدرها العبد تقديراً صحيحاً، لأدرك أنه يخسر بهذه الطريقة، والدراهم التي يخسرها في المبايعات كلها بسبب الذنوب لو يدري، لو كان عاقلاً لدفع المال صدقة اتقاء المعصية وشؤمها، وهو الرابح على أية حال، لكنه قصير النظر، لا يدري ما تحت شراك نعله، لذلك خسارته متوالية وهو لا يدري، والعجيب أنه يخطئ في نفس الموضع أكثر من مرة ولا ينتبه؛ كأنه أعمى لا يرى، إنما الهدى هدى الله، لذلك قال جرير: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح) ولو دفعت خمسمائة درهم زيادة خير لك من أن تخسر ذمة الله ورسوله بثمنٍ بخس، فلا تنقض عهد المبايعة بخمسمائة درهم، بل أوف بالعهد، وأعط الخمسمائة درهم وأنت الرابح، هكذا كان التزام السلف، إذا سمعوا الأمر لم يتجاوزوه ولو كان مُراً.
أبو قتادة رضي الله عنه جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه يقول: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه) قال: فما مسست ذكري بيميني قط، وصحابي شهد بيعة الرضوان، قال: (والله ما مسست ذكري بيمني مذ بايعت) حتى تظل هذه اليد آخر عهدها بيعة الرضوان، وقد يشق عليه الأمر، وقد يكون في موضع يحتاج أن يمس ذكره بيمينه في الاستنجاء، ومع ذلك لا يفعل، وما ذاك إلا لحفظ العهد، وكل النصوص في القرآن والسنة عبارة عن عهود ومواثيق متروكة لك، فلا تخسر ذمة الله ورسوله، وعظِّم الأمر أن تتركه، وعظِّم النهي أن تأتيه؛ يكون أسلم لك، فهذه هي بداية الطريق، وشياطين الإنس والجن على جنباته يتقاذفونك حتى لا تضع قدميك على هذا الطريق.(83/4)
دور الإعلام المضلل في الصد عن طريق النجاة
الإعلام المضلل الآن، سواءً كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً، كل ذلك صد عن هذا الطريق الوحيد، الذي فيه النجاة، فأنت يا أخي ليس لك معين، وإن وجد المعينون على سلوك هذا الطريق فهم أقل من القليل.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل أما آن لك أن تدرك حجم المحنة التي تمر بها، أنت في محنةٍ فعلاً؛ محنة حقيقة، والأَمَر من عدم سلوك الطريق، عدم إحساس العبد بأنه مبتلى، وهذا أشد من البلاء، يعني لو أصيب الرجل بمرض يسير وكابر وقال: أنا لست بمريض، فقيل له: إن بوادر المرض ظاهرة عليك، فقال: لا.
أنا صحيح معافى، وأبى أن يأخذ الدواء، أليس من الجائز أن يقتله هذا المرض اليسير (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له).
لا تنم لعدوك لو كان نملة، فمن الجائز أن يموت العبد بهذا المرض اليسير لأنه كابر، وقد يصاب العبد بمرضٍ عضال ويلتمس له العلاج ويبرأ.
إذاً عدم تسليم العبد بالمرض أشد عليه من المرض ولو كان فتاكاً، وعدم إحساس العبد أنه في محنة في وسط هذه التيارات، وعلى كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه، وأهل البدع عندهم إمكانيات، ولهم دول، ولهم مجلات.
وعلى سبيل المثال فإن تقي الدين صاحب الفاكهة -يسمونه تقي الدين، من باب تسمية الشيء بغير اسمه الحقيقي- هو رئيس المجلس الصوفي العالمي، عندما جاء إلى هنا آخر مرة قبل خمس سنوات أو ست سنوات قدم عدة ملايين، على صورة إعانة والقصد منها نشر الصوفية، فالفكر الصوفي هذا هو التنويم المغناطيسي، يجعل منك بطلاً مجاناً، لا تريق دماً ولا تقول كلمة حق، ولا تقوم الليل، ولا تصوم النهار وأنت في جنات عدنٍ، المطلوب منك أن تأكل الديك وبعدها تقوم تهضم، ويكون زاد الداعية الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، لا أعلم على وجه الأرض أكثر كذباً على الله ورسوله من هؤلاء الصوفية.
يأتي أحدهم ويقول لك: (الرسول عليه الصلاة والسلام أكل ثم جاء رجلٌ فأنشد: (لسعت حية الهوى كبدي)، فجعل يتمايل إلى أن سقط برده من على كتفيه)، يعني من كثرة الوجد والعشق تمايل حتى سقطت البردة من على كتفيه، هذا هو زاد الصوفية، طبعاً الكلام هذا مختلط بقليل شرك، وزندقة -نسأل الله السلامة- فيؤتى بالملايين وتنفق لنشر مثل هذه العقائد، إن الصوفية هم الذين أدخلوا الحملة الفرنسية، والجبرتي الذي يعتبر مؤرخ العصر أرخ لهذه العملية، اقرأ تاريخ الجبرتي وانظر كيف دخل الفرنسيون إلى مصر، فالصوفية هي أفيون الشعوب ومع ذلك ينفق عليها الملايين ولو تساءلنا عن الجماعة التي تحج وتعتمر منهم كل سنة من أين يأتون بالمال، وأين رأس مالهم، فلا تكاد تجد إجابة.
ومع ذلك لو جيء رجل من أهل الحق ووجد عنده بعض الكتب، لاتهم بأنه يتلقى تمويلاً خارجياً! ولو ركب سيارة لقيل له: من أين لك هذا؟! وإذا وجد عنده قطعة أرض قيل: الأموال آتية من إيران.
رغم أننا أعداء إيران، ونحن لا نحبهم ونبغضهم ونقر أنهم مبتدعة، ومع ذلك نتهم بأن تمويلنا آتٍ من إيران، وهو من المفارقات العجيبة.
وذات مرة دخل عليَّ رجل ونظر في كتاب عندي -الكتاب مطبوع في بيروت ومن المعلوم أن لبنان تعد معقلاً للطباعة في الدنيا- وقال: وجاء لك هذا الكتاب من بيروت، ومع ذلك فالواقع يقول أنه ليس في أيدينا شيء، وليس عندنا إمكانات على الإطلاق إلا هذا الوهج من الحق الذي نقوله.
فأنت حين تبحث عن الطريق الوحيد اعلم أن أهل البدع معهم إمكانات كثيرة جداً، وأنت ليس عندك إمكانات، ويا ليتهم تركوك تمضي وحدك، إنما يجتالونك، ويضعون العراقيل في سبيلك، فأنت في محنةٍ حقاً، فلابد أن تقدر للأمر عدته؛ حتى لا تفاجأ وينصرف عزمك عن مواصلة السير على طريق الله الطويل المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(83/5)
مخالفة أهل البدع لأهل السنة في منهجي التلقي والاستدلال
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن الفرق انقسمت إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة فقط في الجنة، واثنتين وسبعين في النار، وهم أهل البدع، وهم يخالفوننا في منهج التلقي، ويخالفوننا في منهج الاستدلال، ولهم مخالفات أخرى جسيمة كثيرة، لكن هذان الأمران هما أبرز ما عندهم، وكل ما يجيء بعد ذلك، فرعٌ عنهما.
وقلنا: إن منهج التلقي لا يكون إلا من طريقٍ واحد، وهذا فيه رد صريح على الصوفية؛ الذين يقولون: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر، والرسول عليه الصلاة والسلام في خطبة الحاجة التي كان يخطبها دائماً، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد)، إذاً: فليس هناك إلا طريقٌ واحد، ومع ذلك يأتي من يقول لك: عدد الطرق بعدد أنفاس البشر، أنفاس البشر لا تحصى، مئات الملايين من الطرق، لذلك كلما هووا شيئاً جعلوه ديناً؛ بسبب هذه المقالة، حتى وصل الأمر ببعض رءوسهم أيام ابن الجوزي إلى ترك الصلاة، لماذا؟ لأنهم أيضاً يخالفوننا في منهج الاستدلال، القرآن لا يستطيع أحد اللعب فيه ولا إدخال ما ليس منه فيه، ولا إخراج شيء من القرآن؛ لأن القرآن محفوظ بحفظ الله عز وجل، ولو وكله إلينا لضيعناه، كما فعل اليهود والنصارى، لما جعل حفظ التوراة والإنجيل إليهم حرفوه، والنفس البشرية واحدة.
وهم الآن يلعبون بآيات الله عز وجل عن طريق تحريف المعاني، بعدما عجزوا عن تحريف اللفظ، ولو ترك الله عز وجل الحفظ لنا لحرفوه أيضاً بعدما هانت عليهم الآيات فحرفوا المعاني {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فاللفظ محفوظ، لكن من أولئك من يأتي ويلعب بالمعنى، فذكر ابن الجوزي رحمه الله قال: وبعض أكابرهم هنا لا يصلي، فلما سئل عن ذلك، قال: إن الله عز وجل يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وأنا قد جاءني اليقين.
فمعنى الآية في فهم هذا المخذول: أي إذا وصلك اليقين كف عن عبادة ربك؛ لأن لفظ (حتى) حرفٌ لانتهاء الغاية.
كما لو قلت لك: ذاكر حتى تمل، أو صم حتى تضعف، أو كل حتى تشبع، (حتى) حرفٌ لانتهاء الغاية، فتكون وصلت إلى نهايتك في الشبع، وفي التعب، وفي الملل، فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فإذا وصلك اليقين فكف عن عبادة ربك؛ لأن اليقين هو الغاية.
قال ابن الجوزي: ويقول: وصلت وصدق.
إنما إلى سقر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أسدّ الناس طريقةً وأعظمهم يقيناً ما علمناه ترك الصلاة ولا ترك الصيام، فيكون هذا اتهام للرسول عليه الصلاة والسلام أنه مات ولم يصله اليقين.
والقائل بهذا حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار، أراد أن يجد لنفسه عذراً سائغاً، فاتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يصله اليقين.
ومنهج التلقي هو قرآن وسنة، لكن لابد أن يكون بفهم السلف الصالح أصحاب هذا الطريق الوحيد، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
وكما قال مالك رحمه الله: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
هم أوْلى بالدين وعاينوه غضاً طرياً، وسألوا عنه صاحبه، وأدرى الناس بمراد الله ورسوله، فهم أولى بالاتباع.
فمنهج التلقي ينبغي أن يكون محصوراً في الطريق الواحد؛ طريق القرآن والسنة، وبما أن النص قد وصلنا فيبقى النظر في هذا النص وما دلالاته؟ وماذا يريد الله منا بهذا؟ فخالفنا أهل البدع أيضاً في منهج الاستدلال ومنهج الفهم من النصوص، مثلما خالفونا في الأول.
فـ إبراهيم النظام وهو أحد أكابر المعتزلة ينكر حديث انشقاق القمر، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فهو يقول: القرآن حق وانشق القمر في القيامة، حين تصير السماء واهية وتنكدر النجوم وتصير الجبال كالعهن ينشق القمر، وينكر أن يكون القمر قد انشق في مكة، ويزعم قائلاً: إن القمر لا ينشق لـ ابن مسعود وحده.
فنقول لهذا الجاهل: ليس ابن مسعود فقط هو الذي روى هذا الحديث، رواه أمة من الصحابة.
لكنه جاهل بالحديث، جاهل بطريقة نقل السنة؛ لأنه أخذ طريقاً من الثلاثة والسبعين غير الطريق المنجي، لذلك فهم جهله، لا يعرفون شيئاً عن هدي الصحابة ولا عن سمتهم ولا دلهم، فيقول: القمر آية من الآيات العظيمة فهل يعقل أن يكون الناس كلهم نائمين وابن مسعود رأى القمر وحده؟!! وهذه آية لو رآها أهل الشرك لضلت أعناقهم لها خاضعين، فكيف لم يسلموا؟ فينكر النصوص ويهدم بمعول الباطل نصوص الحق؛ لأنه جاهل ومعادٍ، وقد رأى انشقاق القمر الكثير من الناس، كالقوافل التي كانت تمشي بالليل، رأت القمر فلقتين، فلقة هنا، وفلقة هنا.(83/6)
اعتماد أهل البدع على المناهج الفلسفية للصد عن المنهج الحق
إن من المبايعات الربوية التي يرعاها اليهود ودخلت بلاد المسلمين عن طريق البنوك، أن يقال لك: أنت تأخذ قرضاً لخمسة وأربعين يوماً، في اليوم الأول بخمسة قروش، وفي الثاني بعشرة قروش، وفي الثالث بأحد عشر قرشاً، وفي الرابع بأحد عشر قرشاً ونصف، وفي الأسبوع الثاني بخمسة وعشرين، فإن سألت عن أساس هذه المعاملة قال لك: هذا هو شغلنا وهذا هو نظامنا.
فتقول له: ولكنكم تعسرون على الخلق، وكثير منهم سيموتون تحت الأرجل، قال لك: هذا ليس مهماً، نحن نريد أن نسيطر على قرارات الدول المستضعفة التي تعيش على هامش الحياة، وندخل في ميزانيتها، فنأتي لمن يزرعون القمح ونقول لهم: لماذا تزرعون قمحاً وتتعبون، ازرعوا عنباً، ونحن سنأخذه منكم بالعملة الصعبة، يعني العنب في بلدنا -وهذا الكلام على لسان ذاك الأخرق- يقول لك: العنب في بلدنا مثلاً يعطي اثنين جنيه ونصف، أنت ازرع العنب وأنا سآخذه منك بعشرة جنيهات، فالغافل يفرح، ويقول: أنا أبيع العنب بعشرة جنيه، وأشتري القمح الرخيص واستفيد بهامش الربح، فإذا زرع الأرض عنباً وجوافة، وجعل كل المسطحات الزراعية جوافة وعنباً حتى يصير المكسب سهلاً، ولا يستطيع أحد أن يتنازل عن مستوى حياته الجديد، ولسان حاله يقول: إنه في آخر السنة بعد قضاء كل مستلزماتي يتبقى لي عشرة أو خمسة عشر ألف جنيه، أصلح بها من حالي، وأنا الآن غير مستعد أن أنزل عن هذا المستوى، فإذا وصلت إلى هذا المستوى، قيل لك: العنب كثر عندنا والقمح قل.
فنقول: ما الحل أنا لا أستطيع الاستغناء عن رغيف الخبز، فيقال لك: إذاً لا داعي لأن تبعث لنا عنباً، وسنحاول أن نعطيك القمح بقدر المستطاع، فيبدأ عندها التنبه إلى خطورة ترك زراعة القمح، ولكن بعد أن تكون القوى الاقتصادية العالمية قد أطبقت قبضتها على اقتصاد البلد.
وإذا قلت لهذه القوى الاقتصادية: الناس في الصومال المسلمة يموتون من الجوع، وأنتم ترمون القمح والبر والشعير واللبن في المحيط، قالوا: حفاظاً على الأسعار، وهذا نظام اقتصادي عالمي.
أهل البدع فعلوا مثلما فعل هؤلاء، فيأتي أحدهم ويقول: إن أصحاب الحق عندهم سهام قوية جداً، وإلزامات خطيرة، وكي أهرب منهم وأتقي ضربتهم أقوم بوضع أصل مخترع من عندي، وحين يقول لي أحدهم: قال الله أقول له: أين المطلق؟ وأين المقيد؟ وأين الخاص؟ وأين العام؟ وأتوهه، وأقول له: لابد من فهم كذا، والمقدمة المنطقية الفلسفية وأتوهه، وإذا كثرت التفاصيل تاه الأصل والمراد.
ولذلك فإن قصص القرآن يجتنب الخوض في التفاصيل: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، كيف عاشوا وما حكايتهم، ولو جاءت التفاصيل: فقيل: وأشرقت الشمس، وهبت الريح، وغربت الشمس، ونبح الكلب، وعندما يصل إلى المهم في القصة يكون دماغك قد امتلأ بتفاصيل لا قيمة لها، ومن المعروف أنه إذا كثرت التفاصيل ضاع العقل وتاه، فهذا الذي صنعه أهل البدع، ولعلنا نبسط شيئاً يسيراً من ذلك بعد الصلاة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(83/7)
اعتماد أهل البدع منهج التشنيع على المحدثين للطعن في منهج أهل السنة
السلفيون لهم مِنَّة في أعناق جميع المسلمين؛ لأنهم أصحاب المواجهة ضد الثنتين والسبعين فرقة، في اثنتين وسبعين جبهة مفتوحة ضد الطائفة المنصورة، صاحبة الطريق الوحيد، وقد ظهر ذلك في حياة الإمام أحمد بن حنبل، وفي حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.
لذلك فالتشغيب قائم على قدمٍ وساق ضد هذه الطائفة؛ لأنهم هم الذين يفضحون هؤلاء المبتدعة، ويغزونهم في عقر دارهم، ولا يجد المعتزلة لها عدواً مثل السلفيين، ولا يجد الأشاعرة لهم عدواً مثل السلفيين؛ لأن من عادة أهل البدع أنهم يداهنون أهل الباطل؛ ليسلكوا مذهبهم، لا مانع عند المبتدع أن يرى الرجل على طامة من الطامات فيدعه، يقول لك: دعه يهلك، المهم أننا نتخذه جسراً ونمر عليه.
أما أصحاب الطريق الواحد؛ الطريق الوحيد الذي تكلمنا عليه: (ما أنا عليه وأصحابي)، يرى أن هذا من الغش، لذلك فإن لهم في كل وادٍ معركة، وشيخ الإسلام ابن تيمية حامل لواء الدعوة السلفية المباركة في القرن الثامن الهجري، كتبه كلها عبارة عن جولات حربية مع المخالفين في الأصول وفي مسائل الإيمان، وفي التوحيد، والأسماء والصفات، بل وحتى مع المخالفين في المسائل الفقهية الجزئية مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحدود والديات وغيرها.
كل هذا سببه ماذا؟ أننا نستقي من الوحي، وأن مصدر التلقي عندنا مخالف لمصدر التلقي عند المبتدعة، ومصدر الاستدلال عندنا مختلف عن مصادر الاستدلال عند المبتدعة.
نبتت نابتة في القرن الثالث الهجري في العراق أزرت على المحدثين وأظهرتهم في ثياب النقص والجهل وأنهم لا يعرفون الفقه، ولعلكم تعلمون أن الذي يغلب على طابع المحدثين هو التمذهب بمذهب السلف، وأسعد الناس بنهج هذا الطريق الوحيد هم المحدثون؛ لأن المحدث كل حياته: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فهو مثل القطار طريقه محدد لا يستطيع أن يخرج عنه، وكلما تسأله عن مسألة يقول لك: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ولابد أن يصل إلى صحابي أو إلى تابعي أو يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا المعنى الذي عبر عنه سفيان الثوري رحمه الله حين قال: (الحديث درج والرأي مرج)، والمرج: مفرد مروج وهي السهول الواسعة الفيحاء، والدرج هو السُلَّم، قال: (الحديث درج والرأي مرج) أي: الحديث درج مثل سكة القطار، فإذا أردت الكلام في المسألة الفلانية لابد أن يكون عندك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قول لصحابي، أو قول لتابعي، أو قول لعالم، المهم لابد أن ترجع إلى أحد، أما الرأي فهو مرج حيث تعمل عقلك في المسألة حتى تصل إلى رأي، فالمرج: هو المكان الواسع الفسيح، فإذا كنت على الدرج -أي كنت على السُلَّم- فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، لأن فلتة الرِجل عن السُلِّم ثمنها غال، فما معنى ذلك؟ معناه: إذا أفلت من الدليل فإن ذلك ثمنه غال، أما إذا كنت في المرج فسر حيث شئت، فالمحدثون أشهر من مشى على هذا الطريق وأبرزهم.
فطلعت نابتة في القرن الثالث الهجري يتهمون أهل الحديث بالجمود، وأن حياة المحدث محصورة في: حدثنا وأخبرنا، لكن أول ما يأتي الفقه يسكت، وفي أحد مجالس هؤلاء قال أحدهم: مساكين أصحاب الحديث، لا يعرفون شيئاً في الفقه، قال الحسن بن عمر الهسنجاني -راوي هذه الرواية-: وكانت بي علة وكنت في أواخر الناس فزحفت إليه ثم قلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات فماذا قال علي، وماذا قال عمر، وماذا قال ابن مسعود؟ فسكت، قال له: واختلفوا في الأرش -دية الأصابع- فماذا قال عبد الله بن عمر، وماذا قال ابن مسعود، وماذا قال عثمان؟ فسكت.
فجعل يعطيه مسائل من هذا النمط، واختلفوا في كذا، فماذا قال فلان، وماذا قال علان، والرجل صامت، ثم قال له: تعيب عليهم شيئاً لا يحسنونه بزعمك، وأنت لا تعرفه؟! فحين تظهر مثل هذه النابتة، ويأتي من يتكلم في أصل الدين من أهل العلم، يقال له: أنت لا تفهم في الفقه، دع الفقه لأهله، ثم يدعوه للمناظرة ويقول: هيا بنا ندخل ميدان المبارزة، فإذا قال المحدث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، يرد عليه قائلاً: لا.
هذا الحديث لابد أن نفهمه على ضوء الآية، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، فالرجل حر، يدين كما يشاء، وهذا دليل من القرآن وهذا دليل من السنة وإذا حصل تعارض يقدم القرآن على السنة، وبهذا يكون قد لبس في هذه المسألة، وبجانب هذه الكلمتين يرفع صوته بالصياح، ولا يترك لك مجالاً للكلام، وإذا به يخرج وهو ينفض يديه قائلاً: هؤلاء لا يفهمون شيئاً، وأغلب العوام ينطبق عليهم القول القائل: (أول سارٍ غره قمر) فالعوام لا تحقيق عندهم، ولا يسمعون إلا للصوت المرتفع، فهذه طبيعة عند العوام، ويظل ذاك الداعية الناصح يحاول عرض بضاعته في أي مكان، إلا أنه يلقى صدوداً من الناس، لماذا؟ لأنه لم يفهم شيئاً في الفقه -بزعمهم-.
فهذه من الأشياء التي تترس بها أهل البدع ضد ضربات أهل الحق، ولذلك لابد لصاحب الحق أن يكون طويل النفس.
سألني أحدهم مرة فقال: لماذا تزيد كراهة الناس للعالم المقاتل؟ وضرب مثالاً بالإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد بن حنبل.
عبد الله بن المبارك إمام مجاهد، زاهد عابد، هذا الرجل حين تقرأ سيرته تشعر أنه ليس في الدنيا مثله، فقد كان شامة في عصره كان جواداً، وكان تاجراً ناجحاً جداً، فكان عبد الله ينفق على ستة من أعلام عصره، وكان ينفق عليهم من حر ماله، وكان يقول: (لولا هؤلاء ما اتجرت) يعني: كان يتاجر خصيصاً حتى ينفق على هؤلاء الستة الذين لو بصق الرجل منهم بصقة فتقاسمناها لخرج كل من في المسجد علماء فكان عبد الله ينفق على سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، والفضيل بن عياض، وكان يخصص لهم الرواتب أول كل شهر، ومرة جاءه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقال له رجل: إنه لا يأكل إلا الشوى -مثل ما نقول نحن: هذا الرجل معه فلوس وهو أغنى منك- أي كأنه يقول: يا إمام تعطيه عشرة دراهم، وهو لا يأكل اللحمة إلا مشوية على الفحم، قال: آلله؟ قال: آلله! قال: إذاً هو يحتاج إلى أكل، فلا تكفيه عشرة دراهم، فأرسل له بمائة درهم.
فكان يرى أن النفقة في الله، وليس عنده فرق أأخذها من يستحق أو من لا يستحق، بينما نحن عندنا شح في هذه المسألة، ونتذرع بحجة أن هذا لا يستحق، حتى وإن كان لا يستحق فأنت لا تعامله، يعني: ضع الصدقة في يدي ودعها تذهب إلى غير مكانها، ألست مأجوراً؟! ألست أنت تعامل الله عز وجل؟ فكان عبد الله بن المبارك لا فرق عنده فيمن يأخذ الصدقة أيأكل لحماً أو غير ذلك؛ لأنه رجل يضع الصدقة ويعلم أنه يعامل الله عز وجل.
ذهب ابن المبارك ذات مرة إلى الحج هو وغلامه وكان معهم أكل معفن فرموه في المزبلة، وبينما هو جالس إذ رأى بنتاً صغيرة ذهبت وأخذت الكيس الذي رموه في المزبلة ودخلت بيتها بسرعة، وجاء أخوها ووجد طائراً ميتاً فأخذه ودخل مسرعاً، فلفت نظره المنظر، فذهب وطرق الباب عليهم وقال: ما الحكاية؟ قالت البنت: والله ما لنا نفقة منذ ثلاثة أيام، وقد حلت لنا الميتة، فقال لغلامه: كم معك من المال، قال: معي أربعون ديناراً، قال: هات خمسة وثلاثين، وأعطاها للولد والبنت وقال: خمسة دراهم تكفينا للرجوع إلى البلد مرةً أخرى، هذا أفضل من حجنا هذا العام، فقد كان رجلاً فقيهاً، بالإضافة إلى أنه مجاهد، يضرب به المثل، أول ما يذكر المجاهدون إذا عبد الله بن المبارك على رأسهم، كأنه مرابط على الحدود، وكان في غزوة من الغزوات فأبلى فيها بلاءً عظيماً، ولما جاءوا يقسمون الغنائم تركهم وانصرف، فلما سئل عن ذلك أجاب بأنه لم يأت للمغانم وإنما جاء للجهاد أما الغنائم فيتركها للناس.
أما من ناحية الحديث والفقه فكان ثبتاً وإماماً كبيراً، -وأنا حين أتحدث عن عبد الله بن المبارك فإنما أتحدث عنه حديث المحب المتيم، فلو قرأت سيرة عبد الله بن المبارك لعذرتني، رغم تقصيري في حقه لأن الموضع ليس موضع شرح سيرة عبد الله، لكن الحديث ذو شجون، والواحد إذا أحب أحداً أطال الحديث عنه.
فصاحبنا يقول لي يوم أمس: لماذا عبد الله بن المبارك لم يكن له خصوم يكرهونه بخلاف أحمد بن حنبل؟ قلت: لأن أحمد بن حنبل كان مقاتلاً يدك الحصون، وجاء وقت دك حصون المبتدعة، ونحن نسلم أنه لو كان عبد الله بن المبارك موجوداً في زمن أحمد بن حنبل لكان فعل مثلما فعل أحمد إن شاء الله، فالذي يهاجم ليس كالرجل الساكن، فالساكن لا خصوم له، إنما الرجل الذي يناوئ هذا ويناقش هذا ويدك معقل هذا المبتدع، لابد من أن تجد له خصوماً بصفة مستمرة، وكلما كثر خصوم الرجل في الحق دل ذلك على نباهته، وعلى علمه وذكائه، وهذا مستقى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فالصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه) فأهل البدع لهم أصول يضعونها ليتخلصوا بها من دلالات النصوص، وعفا الله عن أبي الحسن الكرخي -أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله- كان يقول: كل آيةٍ وحديثٍ يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.
يعني كلام أصحابه هو الأصل، وكلام الله ورسوله هو الفرع، أي: إذا حصل التعارض يكون كلام الله إما منسوخاً أو يحمل على غير ظاهره، فهل هذا من تعظيم النصوص؟! إن تعظيم النص أن يكون كلام الله ورسوله هو الأصل، كما قال(83/8)
فرار بعض أهل البدع من تشبيه الله بخلقه حملهم على نفي الصفات بالكلية
إن الدعاوى التي يطلقها أهل البدع إنما يتخذون منها متاريس يضعونها كعراقيل، والأدهى والأمر أنهم وضعوا متاريس ضخمة جداً في مقابل نصوص الوحي في العقيدة، وكلٌ منهم يطلب التنزيه، لكنهم يطلبون ما لا يدرك بالعقل، فالقمر وهو مخلوق، لو قلت لك: صف لي سطح القمر، وصف لي حجارة القمر، وصف لي جسمه، وصف لي هذه الأجرام التي تدور بسرعةٍ مذهلة، وهي تعد بالمليارات، فلن تستطيع؛ لأن العقل لا يستطيع أن يصف إلا ما وقع تحت الحواس، التي تعد البوابات للعقل، فما غاب عن أي حاسة من الحواس الخمس لا يستطيع العقل وصفه، والرسول عليه الصلاة والسلام أشار إلى ذلك، لما ذكر الجنة فقال: (فيها ما لا عينٌ رأت -فتستطيع أن تصفه- ولا أذنٌ سمعت)، إن أكثر حاستين يعمل بهما الإنسان ويستخدمهما العقل السمع والبصر، وبعد ذلك قال لك حتى لا تبحث كثيراً: (ولا خطر على قلب بشر)، انظر إلى نفسك حين تجلس للتأمل وتطلق العنان لخيالك فإنك لا تستطيع أن تصف ما في الجنة وهي مخلوقة، فهل تستطيع أن تصف الله؟!! فأهل البدع وقعوا في هذا الأمر فقالوا: نحن نطلب تنزيه الله عز وجل عن النقص، وإذا قرأت عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، قال لك: لو كان لله يد لكانت مثل أيدينا، والله ليس كمثله أحد، إذاً ليس له يد، وأنا أنزه الله، فتقول له: ثبت أن الله له يد، فيقول: أنت مجسم، وأنت ضال؛ لأنك تثبت لله يداً، ومعنى أن له يداً أنك تشبه الله بخلقه، فأنا أولى بالحق منك؛ لأنني منزهٌ وأنت مجسم.
فإن قلنا له: إذا كان مطلبك إثبات التنزيه لله فما هو رأيك في الصحابة؟ ترى أنهم ماتوا وقد نزهوا الله، أو ضلوا عن التنزيه؟ فليس له عندها إلا أن يقول: إنهم نزهوا الله، فتقول: هلم ننظر إلى سيرتهم، وإلى فهمهم فما ثبت عنهم نعض عليه بالنواجذ، وما لم يثبت عنهم نرميه في البحر.
وأي طالب للحق لن يرد هذا الكلام، ولا يتصور أن الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ماتوا على ضلال ولم يعرفوا الله، والمتصور أن هؤلاء الذين نقلوا لنا هذه الأدلة التي نحتج بها الآن هم أفهم لها منا، أو على الأقل فهمهم كفهمنا فلماذا، لا نطلب طريقة هؤلاء الصحابة؟!! وقد رد ابن قتيبة رحمه الله على هؤلاء برد جميل، يقول: أنتم نفيتم أن لله يداً، فما هي اليد عندكم؟ يقولون: اليد بمعنى النعمة، كما تقول: فلانٌ له عليَّ يدٌ وله عليَّ أيادٍ، فلان صاحب الأيادي البيضاء، ففلان له عليَّ يد أي: ليس بمعنى أنه يضع يده عليَّ، بل هي بمعنى: له عليَّ نعمة وجميل.
فـ ابن قتيبة رحمه الله رد عليهم بقوله: اليد التي هي بمعنى النعمة، تفرد في كلام العرب وتجمع، إلا أنها لا تثنى، فتقول: فلانٌ له عليَّ يد (بالمفرد) وله عليَّ أيادٍ (بالجمع)، ولا تقول فلانٌ له عليَّ يدان (بالمثنى).
وقد جاء في كتاب الله قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:64] فجاءت بالمثنى فدل على أن المقصود هنا اليد على الحقيقة، وليس المقصود بها النعمة، ولا المقصود بها القوة، كما في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فهذا يكون بمعنى التأييد والقوة والعون وغيرها من هذه الأشياء.
فنقول: هل يضر ونحن نسلم أن الله عز وجل ليس كمثله شيء أن يكون له يدٌ ليس كمثلها شيء؟
الجواب
لا يضر، فلماذا لا تتبنى هذا القول، وفيه إثباتٌ للنص؟ إذا كان هناك قولان، قولٌ إذا تبنيته أهدرت النص وألغيته، وقولٌ إذا تبنيته أبقيت النص، فلا خلاف عند الكل أن القول الثاني أولى، لماذا؟ لأنك أبقيت النص وقلت قولاً لا يصادمه لاسيما وأنا معترفٌ أنا والخصم أن الله تبارك وتعالى له حياة، وأنا أيضاً لي حياة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، فهذه (حي) والأخرى: (الحي)، إذاً أنا حيٌ لأني أتكلم، وأحرك جوارحي، فهل تسلم أن لله حياة؟ نعم.
وتسلم أن لي حياة؟ نعم.
وهل حياتي كحياته؟ لا.
فلماذا لم تنف الحياة عنه بما أنك أثبتها لي، فعندها لن يستطيع الرد.
ولو قلنا أنك أثبت له حياة تليق بجلاله، وأثبت لي حياة تليق بي، فلماذا لا تقول: وله يدٌ تليق بجلاله كحياته، وأنت لك يدٌ تليق بك كحياتك؟ ولماذا لا تقول: له إصبع وله قدم وتثبت سائر ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له عز وجل في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؟ فانظر ما أحلى هذا الكلام، مثل الماء لا يصادم فطرة ولا يتعب عقلاً، أما صاحب البدعة فإنه يدور بك في متاهات أقواله وفي النهاية ترى أنك ذاهب إلى سراب بقيعة، لكن الكلام الذي قلته الآن هو كلام الصحابة والتابعين، وهو الكلام الذي إذا سمعه أي إنسان فإنه لا يرده، فإننا نثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، فقد نفى عز وجل المثلية وأثبت الصفة، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] في النفي {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] في الإثبات، فيكون نفى المثلية وأثبت السمع والبصر، فماذا نفهم من هذا؟ أنه (سميع) وليس كمثله سمعٌ، (بصير) وليس كمثله بصر، وكذلك له يدٌ ليس كمثلها شيء، وهكذا.
لكن يأتي من يرد هذا الكلام فيقول: مَنْ مِن الصحابة قال بهذا القول؟ نقول له: هذا البخاري ومسلم رويا حديث أبي سعيد الخدري: (يوم يكشف الله عن ساقه)، يقول لك: هل روى هذا الحديث أحد غير أبي سعيد الخدري؟ وفيه نسبة الساق إلى الله هكذا بالضمير الصريح؟ لا.
أليس من الجائز أن يهم أبو سعيد؟ نعم جائز.
لكن التجويز العقلي لا ينبغي أن يعكر على الواقع الفعلي، فالذهن قد يتصور أشياء في الخارج لا وجود لها، مع إمكان حدوثها، أتسلم لي أن الله عز وجل قادرٌ على أن يخلق رجلاً بمائة ألف رأس، في كل رأس مائة ألف فم، في كل فم مائة ألف لسان، كل لسان يتكلم بمائة ألف لغة؟ فهل تنكر هذا؟ أما أن نقول: إن الله خلق واحداً من خلقه بهذه الصورة فهذا هو ما يخالف الواقع الفعلي.
فالتجويز العقلي شيء، والواقع الفعلي شيء آخر، أليس من الجائز أن يمشي رجلٌ على الماء، أليس من الجائز أن يسير رجلٌ في الهواء، لكن هل وقع أن رجلاً مشى في الهواء، لا.
مع أن القدرة صالحة، فقدرة الله عز وجل ليس لها آخر، ولكن ما وقع.
فأنت تقول: هل الصحابي معصوم من الخطأ؟ أقول لك: لا.
لكن أنا أقول لك: هو ليس معصوماً نعم، لكن هل أخطأ؟ فأثبت أنه أخطأ، فالتجويز العقلي ليس لنا اعتراض عليه، لكن لا ينبغي أن تهدر الدليل بالتجويز العقلي، أئمتك الذين تأخذ الهدى عنهم، هل يمكن أن يخطئوا؟ نعم يمكن ذلك.
فلماذا أخذت عنهم الدين، وأخذت عنهم الكلام مع إمكان أن يخطئوا؟ فلذلك نقول: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه روى الحديث، وأنت تسأل: هل أبو سعيد معصوم؟ أقول لك: لا.
من الجائز أن يخطئ أبو سعيد الخدري لكن أقول لك بدوري: أثبت أنه أخطأ بإثبات واقعي.
وذلك بأن تأتي بصحابي آخر روى ضد ما روى، فتقول: أنا استدل برواية عمر بن الخطاب على خطأ أبي سعيد الخدري، حينئذٍ أنا أول القائلين بهذا ولا أنازعك، لكن كلامٌ ليس عليه دليلٌ أن صاحبه أخطأ، لماذا ترده؟ يقول: لأن الخبر الواحد لا تثبت به عقيدة، والعقيدة لا تثبت إلا بالتواتر.
فنقول: إن معاذ بن جبل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اليمن لوحده، وقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، فهل هذه عقيدة أو لا؟ فلو أن أهل اليمن قالوا له: يا معاذ! لن نؤمن لك، فماذا يكون الحكم الشرعي في حقهم؟ كفرة أم لا؟ بإجماع العلماء هم كفرة، فهل نكفرهم بواحد؟ إذا ثبت عليهم التكفير بخبر الواحد دل على أن خبر الواحد حجة ملزمة قطعية؛ لأن التكفير لا يكون إلا بالقطعي، كما أن إثبات الإيمان لا يكون إلا بالقطعي، فالتفسير لا يكون إلا بالقطعي.
وبما أنهم كفروا بخبر الواحد، فدل ذلك على أن خبر الواحد قطعي.
فلا يتمكن أهل البدع من رد هذه الأدلة.
وعلماء المسلمين مثل ابن القيم وغيره أفاضوا في مثل هذه المسألة في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، وكان حين يناقش شبهاتهم يقول: كسر الصنم الأول، كناية عن أن الجهمية لهم أصنام، وهي عبارة عن المتاريس والشبهات التي يضعونها أمامنا، فجاء ابن القيم وكسر الصنم الأول من ثمانين وجهاً، 1، 2، 3، 4، 5، 6، إلى 80، حتى إذا ما أبطلوا وجهاً رد عليهم بالثاني، ثم الثالث والرابع، والخامس، حتى يأتي على بنيانهم من القواعد، وعندما تقرأ الصواعق المرسلة تعجب كثيراً من قدرة علماء المسلمين على نحت الأدلة من الصخر، وكيف اهتدوا إلى مثل هذه الاستدلالات التي هي من وراء وراء الكلمات.
ومن الأصنام التي يحتج بها المبتدعة (المجاز).(83/9)
حرص أهل البدع على إبعاد أهل السنة عن منهجهم الحق
فالمقصود أن أهل البدع ما تركوا طريق أهل الحق سالماً إنما وضعوا المتاريس فيه، وفي نفس الوقت فتحوا الطريق إليهم على مصراعيها، فينظر الناظر إلى طريقهم فإذا به يظهر في منتهى السهولة، وحين ينظر إلى طريق أهل الحق يرى العوائق والصعوبات فيظن الخير في اتباع الطريق السهل.
وهذا يذكرنا بحال أصحاب الأحزاب الدينية الذين يقولون: نحن ندخل مجلس الشعب، وبعد أن ندخل يحلها حلال، وندخل مع حزب العمل مرة، وندخل مع حزب الأحرار مرة، وأول ما ندخل نلعب عليهم، فيدخل ويقول لك: الانتخابات واجبة، ويدخل في الانتخابات، فإذا قلت لهم: كيف تدخلون مع حزب الوفد، بينما شعاره يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أي: يقول: الدين في المساجد، وإنما أول ما تطلع خارج باب المسجد يحكمك القانون، لكن طول ما أنت في المسجد فسأترك لك البخاري ومسلم، وسأترك لك القرآن وتفاسيره، فإذا خرجت فسأمسكك بالقانون، وهذا معنى: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فكيف بحزب علماني يقول بفصل الدين عن الدولة بمنتهى الصراحة، تذهب لتلتحق به وتعمل تحت مظلته؟ فيقول: أنا سأمسك المعارضة وأخليها إسلامية!! (مثل السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية)!! فنقول له: ماذا تظن نفسك؟ ألا تعلم أنهم ما أجازوا التعددية الحزبية إلا بعدما أمنوا أنفسهم مائة في المائة؛ لأن من المعروف أن كل حزب يريد الحكم، فهل تتصور أن يترك لك خرم إبرة لكي تدخل منه للحكم، هذا بعيد عنك، لقد سد عليك كل الطرق، وسماها دستوراً، وسماها قرارات، ولجنة الأحزاب تعطي كل حزب يرغب في الانخراط في العمل السياسي لوائح معينة فإن وافق عليها أعطي تصريحاً بمزاولة العمل السياسي، ومتى ما خرج عن هذه اللوائح التي وافق عليها ابتداء، لوح له أولئك بهذه اللوائح، فإما أن يعود إليها وإما أن يسحب منه التصريح، فلا يكون أمامه إلا الانصياع والقبول بكل ما يملى عليه على أصل أن يأتي يوم من الأيام فيتمكن فيه من الإصلاح الذي يرجوه، فيبقى طول حياته ماشياً على الخط الذي هم عملوه، وهذا الخط يوصل إلى المحيط.
فهو يدخل في أهل البدع، لكن هل يا ترى إذا بقي على هذا المسلك إلى النهاية هل سيجد طريقاً؟ لن يجد إلا المحيطات، وقد يجد طريقاً جانبياً يفتحه له أهل البدع بعدما يكون قد تعبت أنفاسه، وبعد ذلك يغرونه بالمناصب والامتيازات، كما حصل في أول الصحوة، فالصحوة حين بدأت في الجامعات سنة (74 و75م)، كانت هذه الصحوة التي عمت الجامعات آنذاك سلفية، وكانت منشورات الجماعة الإسلامية آنذاك تحمل هذه السمة، فتجدها تنقل من كتب ابن القيم وابن تيمية والألباني، والشيخ ابن باز، فكانت صحوة سلفية مائة بالمائة، أما بعد سنة (77، 78م) بدأت الأحزاب السياسية تدخل وأخذوا الشباب، ووضعوهم في القمة، فقالوا لأحدهم: أنت تأتي رئيساً للكتلة الفلانية، وأنت تأتي رئيساً للكتلة العلانية، وكانت المؤتمرات في ذلك الزمان يحضرها ألوف مؤلفة، فتصور عندما يكون الشاب في سن العشرين ويجلس بجوار المجاهد الكبير فلان الفلاني، ويقال: وفضيلة الشيخ فلان الفلاني، الآن سيقدم لنا كلمة، وفلان الفلاني الذي كان بالأمس القريب يسمع مع الجماهير، إذا به اليوم من القادة، والكل يشير إليه، ولم يكن قد ظهر آنذاك الجماعات المختلطة كما هو حاصل اليوم، فتجد الجماعة الواحدة تحمل الفكر السلفي على التبليغي على غير ذلك، أما من قبل فلم يوجد إلا العاطفة الجياشة للإسلام.
فكل ما نحظى به الآن جماعات مشرذمة كانت فيما سبق تحمل رصيداً كبيراً من العمل الإسلامي، فكان الواحد من أولئك الشباب من واحد وعشرين سنة، لما يرى نفسه أصبح في هذا الموقع المبهر البراق لا يستطيع الرجوع، فخطفوهم بهذه الطريقة، حتى صار منهم من يعادي ما كان يعتقد أول مرة، وهذا بسبب الرياسة.
فأهل البدع لا تسلم لهم أبداً، فهم كالثعابين ناعمة الملمس لكن القضاء المبرم في لدغتها، ولذلك فإن الطريق الوحيد في وسط الثنتين والسبعين سبيلاً يحتاج منك إلى تفتيش، والأمر جد ليس بالهزل، هذا طريق ناح فيه نوح، وأضجع للذبح إسماعيل، وألقي في النيران إبراهيم، وزاد مقداراً على البكاء داود عليه السلام، ومشى وسار مع الوحي عيسى، وقاسى الضر أيوب، وعالج أنواع البلاء محمد صلى الله عليه وسلم، تزهو أنت باللهو واللعب؟!! هذا طريق كله دماء وأشلاء، لذلك ينبغي أن تعد العدة حتى لا يصرفك عن مواصلة السير ما تجده من مصاعب هذا الطريق، لكن عاقبته الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم فيها، وأن يسددنا ويسدد أقوالنا، ويسدد أفعالنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
والحمد لله رب العالمين.(83/10)
العزلة الشرعية
العزلة أمر شرعي وسنة نبوية، فقد شرع الله لعباده المؤمنين اعتزال أقوامهم إذا وجدوا منهم الإصرار على الكفر، والتمادي في الصدود، وقد ضرب الله لنا مثلاً وأسوة بقصة إبراهيم عليه السلام، وهذه العزلة لها مواطن وأحوال تستلزمها؛ استنطبت أحكامها من نصوص الكتاب والسنة وعلى وفق ما سار عليه سلف الأمة.(84/1)
الأسباب الداعية إلى عدم العزلة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام! من آثار البراءة من أعداء الله عز وجل: الهِجْرة، والهَجْر، والعُزْلة، وقد تكلمنا باختصار عن الهجرة والهجر، ونتكلم اليوم عن العزلة، وهو موضوع شائك؛ إذ يحصل فيه توهمات نظراً لخطأ المعطيات.
العزلة أمر شرعي، وهو سنة للأنبياء، وأول من اعتزل: إبراهيم عليه السلام، لما دعا قومه ولم يستجيبوا له، قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، لكنه اعتزل يوم أدى ما عليه فلم يجد نتيجةً فخاف على نفسه.
إن الرجل التاجر إذا أنفق من رأس ماله، ينبغي له أن يعيد النظر في تجارته، فنفقته ينبغي أن تكون من ربحه، لا يأكل من رأس ماله، فإذا رأى أنه يأكل رأس ماله، فعليه أن يعيد النظر، رجلٌ دعا الناس إلى الله عز وجل، فآذوه، حتى خشي على نفسه منهم، فحينئذٍ وجب عليه أن يحفظ نفسه، وهذا هو حد العزلة الشرعية، وإلا فالأصل عدم العزلة.
من الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اعتزل الناس؟ من الذين يقفون على الثغور ويحاربون الكافرين إذا اعتزل الناس؟ من الذي يبين الباطل، الذي هو كالنهر الهادر في الجرائد والمجلات إذا اعتزل الدعاة إلى الله عز وجل خشية الأذى؟ في كل يوم سخافات تكتب في الجرائد والمجلات، لقد اعتقد بعض الناس وبكل أسف ممن كنت أتصور أنه رجل عاقل رشيد، اعتقد وحزن على موت البغي الداعرة وتصور أنهم قتلوها؛ لأنها أسلمت واحتارت وقد كانت حامل في شهرين، فكأن المسلم إذا زنا بكافرة يبقى الزنا حلال؟! ما هذا الخبث الجاري والمشكلة الكبيرة أن كثيراً من الناس ليس لديه من العلم ولا أبجديات الإسلام ما يرد هذا الخبث، موضوعات تافهة، لكن عند الذين يعلمون أبجديات دينهم، لكن هناك أناس لا يعرفون شيئاً.
في هذا الوقت وهذه المعمعة: خرج علينا خبران متناقضان أشد التناقض يبعثان على الأسى والحزن، الخبران في صحيفة المسلمون.
الخبر الأول: ملياردير فلسطيني عرض أن يشتري حطام سيارة المرأة البغي التي في الحادث، بعشرين مليون دولار، وصفوا حطام السيارة أنها مثل علبة وطأت بالأقدام، فعملوا معه لقاء وحديثاً، أنت رجل فلسطيني، على الأقل تتضامن مع الجياع العراة الذين لا يجدون مساكن، فكيف تشتري حطام سيارة بعشرين مليون دولار!!، قال: يا أستاذ! أنا رجل تاجر! وهذه المعاني التي تبحث عنها، ليست عندي، أنا رجل تاجر، أشتري حطام السيارة بعشرين مليون دولار وسأبيعها بمأتي مليون دولار! يقول: أنا رجل تصرفت من الناحية التجارية، مسألة العواطف التي تبحث عنها، هذه ليست عندي.
وفي ذات الصحيفة: ملياردير يهودي يعرض على حكام السعودية أن يبيعوا له أرضاً بمكة بأي ثمن، لكي ينشئ معبداً هناك، ويعرض ما يشاءون من الأرقام التي تخطر على بالهم، فانظر إليهم وانظر إلينا، انظر إلى هؤلاء كيف يفكرون، وانظر إلى هذا كيف يفكر؟ اليهود في العالم: خمسة عشر مليون يهودي، معهم التكنولوجيا والزراعة والإعلام والأموال والسياحة، يملكون الدنيا كلها؛ لأن أغنياء اليهود وظفوا أموالهم لخدمة اليهود، حتى أصبحوا الآن لا يتحكمون في انتخابات الرئاسة البرنامجية فقط، بل يتحكمون في انتخابات معظم الدول الهامة في العالم، وهم الذين يضعون التقارير وهم الذين يرشحون الوزراء، وهم الذين يرشحون رؤساء الجمهوريات، بما لديهم من مخطط رهيب، عندهم تغلغل كامل في الأنظمة، ومن يقرأ كتاب: (بورتوكولات حكماء صهيون) يعلم صدق ما أقول، الكتاب هذا له أكثر من مائة سنة وكأنهم يتكلمون عن الواقع الآن، وكل شيءٍ خططوا له كان.
إذاً: ليست المسألة عرض قضايا تافهة، بعض الناس قد يقول: أنت تتكلم في قضايا ليست ذات بال ولا مهمة، نحن نريد القضايا الخطيرة! أقول: لا.
من جرب الناس تجربتي، قال مثل قولي، ولقد صدق القائل: (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له)، (ومعظم النار من مستصغر الشرر).
كنا نظن أن هذه المسائل تافهة ولا تؤثر في العوام وإذا بها تؤثر فيهم فعلاً، ويعادون كثيراً من النصوص الثابتة، لا أذهب بك بعيداً، فهذا أحد الدعاة الكبار نشر كتاباً يتكلم فيه عن الزهد في الدنيا، وأحاديث الزهد في الدنيا موجودة في الصحيحين والسنن، فأتى بكتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، وأتى بالأحاديث التي ترغب في الزهد بالدنيا، وقال: آفاتنا من انتشار مثل هذه الأحاديث وهي أحاديث في الصحيحين، أجمع العلماء على صحتها.
قال: هل نحن طلقنا الدنيا وتزوجها الكافر، وعندما نزهد في الدنيا، المال يكون مع من؟ فهالني أن يكون هذا الداعية لا يفهم معنى أحاديث الزهد، هذا فهم مغلوط، لم يقل الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون عندكم مال ولا تكونوا أغنياء، إنما أحاديث الزهد في الدنيا بمعنى زهد القلب، ولو كانت الدنيا بما فيها لها قيمة لجمعها النبي صلى الله عليه وسلم ولحض عليها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، فكان معه العشاء وليس عنده إفطار، لأن العبد إذا لم يجد فليس له ملجأ ولا منجى إلا إلى الله عز وجل، فدائماً يلهث: يا رب، يا رب، مثل الولد الذي يحتاج ويقول: يا أبت، يا أبت، يا أبت، لذلك قل الشكر في بيوت الأغنياء، تجد الرصيد عنده في البنك والشيكات موجودة، والثلاجة موجودة، والمحفظة مليئة، لماذا يقول: يا رب؟ متى يقول: يا رب؟ لا يقولها إلا إذا تورط، لكن فيما عدا ذلك لا يقولها.
فالفقراء زكى عملهم؛ لأنهم أكثر الناس ذكراً لله عز وجل بسبب الحاجة المستمرة.
الزهد في الدنيا الوارد في الأحاديث معناها زهد القلب، وليس زهد اليد، إنما رغب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في حيازة المال باليد فقط، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر طبقات الناس، وأنهم جميعاً لا يخرجون عن طبقات أربع؛ جعل صاحب المال العالم أعلاهم، فقال صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجلٌ آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان، لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يتقي الله فيه ولا يصل به رحمه، ولا يرعى لله فيه حقه؛ فهذا بأخبث المنازل، ورجلٌ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان، لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء)، فكل رجلٌ منا لا يخرج عن نمط هؤلاء الأربعة: عالمٌ غني، ثم عالمٌ فقير، ثم غني جاهل، ثم فقير جاهل، وأفضلهم جميعاً العالم الغني؛ لأن تعدي الخير بخلتين أفضل من تعديه بخلة واحدة، إذا كان عالماً ينفع الناس بعلمه ثم يسد بطون الجياع، هذا أفضل من واحد يعلم فقط، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله الحكمةَ، فهو يعلمها الناس، ورجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق).
وأنت تلاحظ في الحديثين أن المال لا يبدأ بذكره استقلالاً إنما يأتي تبعاً، ففي الحديث الأول قال: (آتاه الله علماً ومالاً)، وفي الآخر: (آتاه الله الحكمة؛ فهو يقضي بها، وآتاه الله مالاً؛ فسلطه على هلكته في الحق) دليل على أن المال بغير علم مذموم.
الولد الذي كنا نتكلم عنه، لديه طائرة خاصة، وعنده سبعون سيارة من أحدث سيارات العالم، فماذا فعل بالمال؟ يذهب إلى باريس ليتعشى فقط، يركب الطائرة ليذهب ليأكل السمك ويرجع، هذا الذي معه مال فقط، ليس عنده علم يعصمه، ولذلك كان الرجل الثالث بأخبث المنازل كلها: (ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ولا يرعى لله فيه حقاً، ولا يصل رحمه).
إذاً: المال وحده ليس ممدوحاً، فعندما نقرأ أحاديث الزهد في الدنيا، لا بد أن نعلم أن الزهد الوارد هو زهد القلب، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ عمرو بن العاص: (يا عمرو إني أريد أن أرسلك إلى غزاة كذا)، قائد سرية، قائد جيش، كتيبة (لتغنم مالاً، فقال: يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك) أنا ما اتبعتك لأحرز المال، فقال له: (يا عمرو! نعم المال الصالح للرجل الصالح).
ذلك هو الرجل الذي يتقي الله ولديه مال ينفقه لبيوت أناس يأكلون بجانبه، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، فعندما يأتي رجل كبير له منصب في الناس والدعوة ويقول: لا ينبغي أن نعرض أحاديث الزهد في الدنيا على الناس!! هذا فهم مغلوط لمعنى الزهد، وإلا فإن تج(84/2)
مشروعية العزلة في بعض الأحوال
أيها الإخوة الكرام! العزلة تشرع في ثلاثة أحوال:(84/3)
وجود الفرد لوحده مع الخوف على النفس
الحالة الثالثة التي توجب الاعتزال، أن تكون فرداً لا معين لك، وبين هذه والتي قبلها عموم وخصوص، ففي هذه الحالة تعتزل إذا خفت على نفسك، أما دون هذا فإن العزلة لا تشرع، حتى نقيم دين الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وجاء هذا الفعل مضارعاً مؤكداً باللام، ونحن نعرف أن من صفات الفعل المضارع الاستمرار، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، فإذا شرعنا العزلة للناس جميعاً وكل واحد يعتزل؛ فمن الذي يقوم بهذه الشعيرة العظيمة.
كل عالم عندما تقرأ ترجمته تجد عنواناً مشتركاً في تراجم العلماء الربانيين، التراجم الجانبية: اسمه كنيته مولده شيوخه تلاميذه ورعه وزهده تقشفه، طلبه للعلم؛ ثم تجد محنته.
هذا العنوان الجانبي (محنته) تجده في تراجم العلماء الربانيين.
ما معنى المحنة؟ أليس فيها مواجهة، هو إذا اعتزل وحده وتفرد ما يمتحن، إنما يمتحن لأنه أمر ونهى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]، فدلنا ذلك على أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لا بد أن يصيبه أذى، لذلك قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(84/4)
كثرة المخالفين وقوة شوكتهم
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هناك كلمة حكيمة قالها العلماء، لها صلة بموضوع الاعتزال، يقول العلماء: (لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف)، الجدل الذي يحصل بين الأقران، ويتكلم أغلبهم بلا علمٍ سابق فضلاً عن عقيدة راسخة، هذا ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الأغلوطات، ونهى عن عُضل المسائل، فهذا أحد وجوه العزلة، ليس المقصود أن تكون هناك فتنة فيها سيوف ودماء تعتزل، لا.
كل مسألةٍ لم تعتقدها وليس عندك فيها علم سابق تعتقده ديناً اعتزله، لا أقول: اعتزله فقط، إنما أقول: تعلمه، لكن لا تجادل.
الحالة الثانية في الاعتزال: أن تضعف وتقل مئونتك في عرض الحق الذي عندك؛ بسبب كثرة المخالفين وقوة شوكتهم، وهذا أيضاً يدخل في حكمة الدعوة.
بلد فيه مبتدعة كثيرون، فالصوفية مثلاً يقدسون الأولياء وينذرون لهم، وأنت فرد وحدك بدأت تدعو إلى التوحيد، واستجاب الناس لك، ورأيت ثمرة غراسك، فليس من المصلحة ولا الحكمة أن تتصدى لذم القبور وأن تقف في مواجهتهم علانيةً؛ لأنه ليس هناك أية مصلحة في كسرك، بقاؤك أفضل من تدميرك.
العز بن عبد السلام وهو يتكلم في القواعد الكلية في باب المصلحة، قال: إذا وقعت حربٌ بين المسلمين وأعدائهم ولم يحصل نكاية وجب الانهزام.
أي: إذا لم يحصل منا نكاية في العدو بأن كسرناهم وغلبناهم، وغلب على ظننا أننا إذا دخلنا الحرب غلبنا وجب أن ننهزم لعدونا، ثم علل ذلك قائلاً: لأنه إذا لم يحصل نكاية كسرت شوكة المسلمين، وذهبت بيضتهم مع عدم وجود مصلحة في ضياع النفس إذ ضاع الدين.
والضرورات الخمس التي نزل الإسلام بكل نصوصه لحفظها: أولها: الدين.
ثانيها: النفس.
فنحن في حربنا مع عدونا إنما نحارب لتكون كلمة الله هي العليا، ليست حرب استرداد أرض، ولا حرب غزو النسل، أو من أجل أن نوسع الرقعة التي معنا أبداً.
ما شرع الحرب في الإسلام إلا لإعلاء كلمة الله دفعاً أو طلباً، جهاد الدفع إذا هجم عليك عدو، فتدفع عن نفسك، لتحفظ بلدك ودينك ومواطنيك.
أما جهاد الطلب: فأنت الذي تطلب العدو، تبعث رسلاً، أريد أن أدعو إلى الله عندكم، قالوا: لا.
قلنا لهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دعوة الناس ولا تحجروا عليهم وإما قاتلناكم، والله إذا رضوا بجز الغلاصم، ولكز الأراقم والبلاء المتلاطم المتراكم، فهم وما أرادوا ندخل عليهم، وإذا رضوا وقالوا: تفضلوا ادخلوا وادعوا، فإذا دخلنا، فمن أسلم منهم صار منا، ومن لا، فعليه أن يدفع الجزية وهو صاغر، مشروع الجهاد كله إنما قام لأجل هذا.
وترك الجهاد مهلكة للذين لا يجاهدون، قال الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ذهب أسلم بن عمران إلى أبي أيوب الأنصاري، فسأله عن قوله تعالى:: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] هو الجهاد؟ قال: لا.
وهناك قصة استدعت أن أبا أيوب الأنصاري يقول التفسير الصحيح لهذه الآية، فقد وقع حصار بين المسلمين والروم وبينما هم محاصرون إذ خرج صف عظيم من الروم، فخرج صف من المسلمين للالتقاء بهم، وحصل الاشتباك، فأحد المسلمين دخل في وسط المشركين وجعل يضرب هذا وذاك، وأحدث نوعاً من الاضطراب في صفوف المشركين، فجعل الناس يقولون: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة، فحينئذٍ خطبهم أبو أيوب الأنصاري وقال: أيها الناس! إنكم تضعون الآية في غير موضعها، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا بيننا وبين أنفسنا سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ قد أعز الله دينه وكثر ناصروه، فلنصلح أموالنا التي تلفت، كل واحد منا له تجارة وزراعة، وبسبب الجهاد المستمر، تلفت الزراعة وتوقفت حركة التجارة، قال: فنزل قول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فكانت التهلكة: ترك الجهاد.
إذاً: مسألة المصلحة والمفسدة مهمة في تحديد معنى الاعتزال، فأنا في بلد، أدعو ووجدت لدعوتي صدى، وبدأ الناس يستجيبون، فلنكن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكسر الأصنام يوم دخل مكة، بل كانت رايات البغايا على البيوت ترفرف وهو يمر، وكانت الأصنام في جوف الكعبة وهو يطوف، ومع ذلك سكت؛ لأنه ليس هناك مصلحة في استباحة بيضة المستضعفين، فإذا وجدنا أننا لا نستطيع إقامة الدين في وسط هؤلاء؛ دعونا من استجابوا لنا، فإن وجدنا أننا لا نستطيع ولا يوجد لنا رصيد في هذا البلد، وخشيت على نفسي التلف، إما بالأذى وإما بالركون إليهم حينئذٍ نعتزل.
وهذا ينطبق عليه قصة أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، فاعتزلوا هؤلاء؛ لأنهم لا يقدرون على تغيير مجتمع فيه أباطرة، وهم مجموعة من الفتية الصغار الذين لا يقدرون على ذلك.(84/5)
عدم التمايز بين الحق والباطل
الحالة الأولى: ألا تميز بين الحق والباطل، فإذا دعيت إلى جهة من الجهتين وأنت لا تستطيع التميز فحينئذٍ تعتزل، وقد فعل هذا جماعة من خيار الصحابة، لما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لما وقعت الفتنة، أخذ أولاده وماله وخرج خارج المدينة، فجاءه ولده عمر بن سعد، وقد تورط وشارك في قتل الحسين، فلما رآه سعد من بعيد جداً وهو لا يعلم من هذا الراكب، وقد كان سعد صاحب فراسة، فقال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فاقترب الراكب شيئاً فشيئاً، فإذا هو عمر ابنه، فدخل عليه، فقال: يا أبت! أرضيت أن تكون أعرابياً في إبلك، والناس يتقاتلون على الملك، أما والله لو ذهبت أظنها تئول إليك، وتصبح أنت الخليفة، فضرب على صدره وقال: يا بني! اجلس، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي النقي الغني الخفي).
وروى ميمون بن مهران رحمه الله، عن سعد بن أبي وقاص أنهم جادلوه: (كيف تركت هذا ولم تدخل؟ قال: إذا جئتموني بسيف ينطق له عينان ولسان، يقول: هذا كافر اقتله، وهذا مؤمن دعه، حينئذٍ أخوض معكم.
يا قومِ! إنما مثلي ومثلكم كمثل قومٍ في سفر، فهبت عليهم ريح مظلمة، ففقدوا الطريق، فقال جماعة: الطريق يميناً، فمضوا، وقال جماعة: الطريق يساراً ومضوا، وقال جماعة: بل نبقى في مكاننا حتى تنجلي، فما لبثت الريح أن انجلت، فإذا الذين وقفوا، وقفوا على الأمر الأول) هذا هو الفقه، أنهم وقفوا على الأمر الأول.
ولما اعتزل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قيل له: لم اعتزلت؟ قال: لا أعرف من الباغي، ولو علمت لقاتلت.
واعتزل الفتنة أيضاً محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يمشي مع علي ولا يقاتل، حتى إذا قتل عمار قاتل؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمار بن يا سر عندما كان يبني المسجد النبوي، وكان عمار مريضاً، فكان الصحابة يحملون لبنة لبنة، ويحمل عمار لبنتين لبنتين مع مرضه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزيل التراب عن ظهره وهو يقول: (ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية)، وكان عمار مع علي.
إذاً: الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه ومن معه، فظهر لـ خزيمة بن ثابت أن الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه، فحينئذٍ لم يترخص ولم يتوقف وإنما قاتل، فقد ظهر له برهان أن علي بن أبي طالب مبغي عليه.
فإذاً: إذا لم يميز المرء الحق من الباطل يعتزل، وليس هذا في الفتن فقط، إنما هذا في كل قضية طرحت، وليس عندك علم أهذا محقٌ أو مبطل، اعتزل الجدل، ولا تخض بلسانك، ولا تقل: أنا رأيي كذا، طالما أنك لم تميز بين الحق والباطل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(84/6)
حكم إلقاء السلام على اليهود والنصارى
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
في الحقيقة وصلتني رقاع مكتوبة، وهي تتعلق بكلامنا عن الولاء والبراء، ورأيت العناية بها، وأن أجلّي لأصحابها ما أخطأوا فيه، أو ما توهموه على خلاف ما ذكرته من النصوص الصريحة سواءً كانت من القرآن أو السنة.
وأيضاً هناك بيانٌ آخر يوزع على أئمة المساجد وعلى الخطباء فيه أشياء تستحق الإشادة، وأشياء تستحق أن ننظر إليها وأن نعلق عليها.
يقول بعض الذين أرسلوا إلي هذه الرقاع: بعد البسملة والصلاة والسلام، والثناء على الله عز وجل.
يقول: أنا من أشد المعجبين بك، ولكن اسمح لي أن أتجرأ، وأخالفك في بعض وجهات النظر، وذلك لا يفسد الود إن شاء الله.
السؤال يقول: أنت تقول: إن من علامات الولاء والبراء مقاطعة النصارى وعدم إلقاء السلام عليهم أو أي تحية أخرى وذكرت حديثاً معناه: أن المجتمع عندما يرى يهودياً أو نصرانياً في طريق بئر يطرحه في البئر؟
الجواب
أغلب المستمعين هم حاضرون ومواظبون على خطبي، فهل مر هذا في كلامي؟! لا.
ما مر على الإطلاق أنني قلت: إذا رأيته في طريق بئر؛ قم وضعه في البئر، وأيضاً ما قلت: إذا قابلت النصراني فلا تحيه بتحية، أنا قلت: قل له أي تحية؛ صباح الخير أو صباح الفُل، لكن قلت: لا تلقي عليه تحية الإسلام التحية الخاصة بالمسلمين.
أيها الإخوة الكرام! أخونا الذي أرسل هذه الرسالة، أنا معجبٌ به أنه طرح ما عنده ولم يكتمه حتى أسدده وحتى أصلح له ما أخطأ فيه.
لما قلت أنا في الخطبة: أن بعض الناس فعلاً لام عليّ كتابةً ومشافهةً، أنني أحياناً أتعرض في خطبتي للكلام عن بعض الموضوعات العامة مثل الحادث الذي حصل للمرأة الإنجليزية وهذا الولد المصري، يقول: إن المنبر أقدس من أن تذكر عليه أمثال هؤلاء هذا كلام رجل لم يجرب الدعوة ولم يجرب الناس، الذي جرب الناس يختلف كلامه وعطاؤه تمام الاختلاف عن حديث الغرف والمكتبات، يختلف كلامه عن الرجل المثالي الذي لا ينظر إلا في المثاليات، نحن نعالج الواقع، تعرفون ما هو أهم جهد نفتقده في أغلب الذين يعتلون المنابر؟ إن جهد الداعية الأعظم، أن يعين الناس على تنفيذ النصوص، لا يقول له: أنا وضعت لك النص أنت (عقلك في رأسك اعرف خلاصك)، إذا خالفته صرت فاسقاً أو كافراً أو مبتدعاً، أنت حر، لا.
أنا مهمتي أن أقول له: النص كذا، وهو يقول: لكن البيئة عندي لا أستطيع أن أقاومها، فآتي أنا أفكر له، كيف ينفذ النص في حدود إمكاناته، لا أتركه على الإطلاق، أسدده وأفكر له، يمكن أن تنفذ الطريقة الفلانية كذا، ويمكن تعمل كذا وكذا، هذا هو جهد الداعية، ربط النص بالواقع، وإعانة الناس على العمل بالنص، لكن أن تقول له: هذا النص أمامك في القرآن والسنة وهو يقرأ! لكنه عاجز عن التطبيق بسبب ضيق عقله، بسبب أنه هو في المحنة، وعادة الإنسان الممتحن لا يستطيع أن يفكر؛ لأن عقله مشغول بالمحنة التي هو فيها، فيحتاج إلى رجل هادئ غير ممتحن يفكر له، فهذا هو جهد الداعية الأعظم.
فأنا عندما أتكلم بكلام عربي مبين واضح، ويأتي مثلاً بعض إخواننا في الله عز وجل يستمع هذا، فيكون من نتيجة السماع أنه يفهم، أنني أقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قابلت اليهود والنصارى في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، فحين يفهم أن (أضيقه) أنني أرميه في بئر، طيب ما لقيت بئراً، أذبحه؟! هذا ليس مستبعداً، فهو يقول: طالما عرفت هذا، لزم أن أعمل فيه أي حركة، مثلاً؟ لا.
هذه المسألة لم أقلها وليس هذا هو مضمون الحديث.
عندنا آفة أيضاً تكلمت عنها في مسائل الولاء والبراء، أننا أُنشئنا تنشئة خاطئة، فمثلاً: مصطلح الأخوة في الإنسانية غزا مصطلح الأخوة في الله؛ لأن كل وسائل الإعلام مرئية كانت أو مقروءةً أو مسموعة، تصب في مصطلح الأخوة في الإنسانية.
التعامل مع أهل الكفر وأهل الحرب جائز باتفاق المسلمين، أنت رجل تاجر وتحتاج إلى بضاعة مستوردة، تعمل عقداً وصفقات معهم، هذا جائز لا إشكال فيه، وقد كان المسلمون يتبايعون مع الروم وفارس، وليس مجرد التبايع معهم دلالة على أننا نحبهم؛ لكن ما هو الحب الممنوع في التبايع؟ التوقير فالكافر تقول له: صباح الخير، عقدنا كذا وكذا، والحكاية كذا وكذا، ابعث لي؛ أبعث لك، انتهت المعاملة على هذا، لكن المسلم تختلف معاملته، أول ما تقابله: كيف أنت، كيف أصبحت، كيف أولادك، لعلك بخير، إذا حمد الله؛ أنا أحمد الله وأثني عليه أنه ما زال بخير، وحتى لو كان بيني وبينه خصومة، الأخوة في الله عز وجل لا يرفعها البغي: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9 - 10]؛ لكن نحن ما ربينا على هذا المصطلح، آباؤنا فرطوا في تربيتنا والإعلام له دور، والمثال الذي سأذكره يندرج ولو من طرفٍ خفي تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه).
فأنا أقول الآن: عند الناس في أمثالهم مثل خطأ، لكني سأحتج به، يقول المثل: الأب الذي ربى وليس الذي خلف، طبعاً هذا المثل غلط، الأب هو الذي ولد باختصار: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5].
مثلاً: امرأة طلقت ومعها ابنها الصغير ثم تزوجت برجل آخر، فزوجها الثاني أخذ الولد وهو ابن شهرين، ورباه حتى صار رجلاً كبيراً، ولم ير أباه على الإطلاق طيلة حياته، من أبوه؟ الذي رباه أو الذي خلفه؟ هذا من باب الإلزام فقط، وليس من باب الاحتجاج، أقول: إن الذي يربي ابنك هذا، ابن من؟ ابن التلفاز؛ لأن الأب على مذهبهم هو الذي يربي.
طيب التلفاز مفتوح أربع وعشرون ساعة والأب يعمل ثماني عشرة ساعة، وأحيانا بعض الآباء يقول: أفتقد أولادي تدخل الساعة الواحدة ليلاً وتخرج الفجر، هذا متى يربي؟ تعرف الأولاد يستهويهم الشيطان، هناك ولد كان القاضي يسأله يقول له: أنت لماذا تعمل هكذا؟ فيقول الولد: ما رأيت أبي منذ سنة، قال له: يا بني أبوك مسافر؟ قال له: لا.
إنه يبيت في البيت كل ليلة، هو دبلوماسي معروف، قال له: لم أره منذ سنة؟ طبعاً هذا الولد يسهر مع أصحابه ويرجع الساعة الرابعة فجراً، والرجل ينام بعد العشاء، يطلع الفجر لكي يذهب ديوان الشغل، والولد لا يزال نائماً، فبقي سنة لم ير أباه، لذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه) فإذا غاب الوالد وغاب دوره، فلا يبقى إلا الحاضر، والتلفاز هو الذي يربي، فمن جملة ما قتله التلفاز، مسألة الاعتزاز بدينك، وليس معنى الاعتزاز بدينك أن تظلم، هذا الكلام غلط، أنا أعتز بديني ولا أظلم، جاري النصراني لا يؤذيني؛ لا أؤذيه، وإذا وقع في مشكلة، كذلك لا مانع أن أقدم له يد المساعدة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في كلب سقاه).
يا أخي! نزل هذا منزلة ذاك، وانتهى.
فإذا كان لك في كل كبدٍ رطب أجر، وإذا سقيت كلباً تأخذ أجراً، ولو مددت يد العون لرجل على غير دينك واحتاج إلى ذلك، فالإسلام لا يمنعك من ذلك، لكن يمنعك من السهرات ورفقاء السوء وكثرة الدخول والخروج وأن تقطع إخوانك المسلمين.
فنحن نقول لصاحبنا: أنا لم أمنع السلام على النصراني نهائياً، بل أجريت الخلاف الوارد بين العلماء، وقلت: إن بعض العلماء لما قرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، نظر إلى العلة في المنع، لماذا لا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام؟ العلة وردت في حديث آخر: إن اليهود إذا سلموا عليكم يقولون: السام عليكم، أي: الموت عليكم.
فقولوا: وعليكم.
يبقى إذاً أنا أرجعتها له، وهذا هو العدل ما ظلمته، بل بالعكس هو الذي بدأ ودعا عليَّ بالموت، فأنا رددت عليه هذه الدعوة، رداً رفيقاً بدون مشاكل: السام عليه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم الزيادة على ذلك، مع أن البادئ أظلم، لكن ليس المعنى: أن تعطيه بالصاع صاعين! لا.
لو زدت شيئاً عليها، فقد تظلمه.
دخل رجلٌ من اليهود كما في البخاري وغيره على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (السام عليك يا أبا القاسم، فأجابت عائشة، فقالت: وعليك السام والذام واللعنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع: السام عليك يا أبا القاسم، قال: وعليك.
فـ عائشة كادت أن تنفلق فلقتين لما سمعت الدعاء عليه، فقالت هذا الكلام، فقال لها: (يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش، قالت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قال؟ قال: أولم تسمعي ما قلت).
ونحن إذا خرجنا عن هدي الرسول الكريم، نكون قد ظلمنا أنفسنا وليس هناك عدل أحسن ولا إحسان أفضل من هذا، فالعلماء عندما قالوا: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالكلام، قالوا: لأنه يلوي بلسانه ويقول: السام عليكم، ومع الأسف فإن بعض المسلمين لا يقصدون الدعاء يقولون: السام عليكم يختطها خطاً، وهذا فيه شبه بالمغضوب عليهم، والمفروض أن الإنس(84/7)
بين ابن عباس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما [1، 2]
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم القدوة في العبادة والعلم والأخلاق والحرص على الاستزادة من الخير، وكان ابن عباس رضي الله عنه من أشدهم حرصاً على ذلك، ولهذا وغيره كان عمر رضي الله عنه يقدمه ويدنيه في مشورته، وبين أيدينا مثال على حرص ابن عباس على العلم، إذ يسأل عمر عن آية نزلت في أمهات المؤمنين، وتتابع الحديث بينهما حتى فتحا لنا وللأمة نافذة مشرقة تصف حياة الرعيل الأول وأحوالهم -الخاصة والعامة- التي يفترض أن تكون قدوتنا ودستور حياتنا.(85/1)
حرص ابن عباس على العلم وتفضيل عمر له
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حج وحججت معه، وعدل وعدلت معه بالإداوة، فقضى حاجته، ثم جاء فكشفت عليه منها، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال عمر: واعجباً لك يا ابن عباس! هما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، فكنت أنزل يوماً وينزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.
فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني.
فقالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك يا ابن الخطاب وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراجعنه ويهجرنه اليوم حتى الليل؟! قال: فقلت: أوتفعل حفصة ذلك؟ لقد خابت وخسرت.
قال: ثم جمعت عليَّ ثيابي ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنية! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم.
فقال لها: أو أمنتِ أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟ لا تستكثري النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تسأليه شيئاً، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ، ولا يغرنكِ أن كانت جارتكِ -يعني عائشة - أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكِ.
قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري نوبته، ثم جاءني عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثم هو؟ قال: فخرجت إليه، فقال: حدث اليوم أمر عظيم! قلت: ماذا؟! جاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم؛ طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه.
فقلت: قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون، ونزلت فصليت الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مشربة له، وجلست عند المنبر مع رهط يبكي بعضهم؛ فغلبني ما أجد فأتيت المشربة، فإذا غلام أسود فقلت له: استأذن لـ عمر.
فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.
قال عمر: فرجعت، فجسلت بجنب المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فرجعت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لـ عمر.
فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.
فانصرف فلما وصلت إلى الباب إذا هو يدعوني، وقال: قد أذن لك.
قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو مضطجع على حصير، ليس بينه وبين الحصير فراش، قد أثر الحصير في جنبه.
فقلت: يا رسول الله! أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليَّ وقال: لا.
فقلت: الله أكبر! ثم أردت أن أستأنس فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فقلت له: يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك إن كانت جارتكِ أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فجلست.
ثم أدرت نظري في بيته فلم أرَ شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله.
وكان متكئاً فجلس فقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.
فقلت: يا رسول الله! استغفر لي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقسم ألا يدخل على نسائه شهراً من شده موجدته عليهن، فلما انقضت تسعٌ وعشرون دخل على عائشة فقالت له: يا رسول الله! قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً، فقد دخلت علينا من تسع وعشرين أعدها عداً.
فقال لها: الشهر تسعٌ وعشرون، فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.
ثم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم فخير عائشة فاختارته، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثلما قالت عائشة).(85/2)
عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وحالنا اليوم
قال عمر: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا) وغسان موالون لملوك الروم، وكانوا في الشام، وكان المسلمون قد أمنوا كل الجهات إلا من جهة ملك غسان فقد كان يهدد أنه سوف يغزوهم في المدينة، فكان الصحابة على أتم استعداد لملاقاة هذا الرجل إذا تحرك إلى المدينة.
واستخدم هذه الاستعارة الجميلة: (تنعل الخيل لغزونا) الرجل إذا انتعل فهذا معناه أنه سيمشي وسيمضي، و (تنعل الخيل): أي تهيئ الخيل لتغزونا.
ففي يوم من الأيام بعد صلاة العشاء، وفي نوبة هذا الأنصاري جاء فضرب الباب ضرباً شديداً، في بعض الروايات قال عمر: (فخرجت إليه عرياناً -طبعاً ليس عرياناً بمعنى غير متستر، وإنما لم يكن متهيئاً بكامل زيه، وهو دال عن السرعة والمبادرة- فقلت: مالك؟ قال: حدث اليوم أمر عظيم.
قال: أجاءت غسان -لأن هذا هو الأمر العظيم الذي كانوا يتوقعونه، وما خطر ببال عمر أبداً هذا الذي سيسمعه من الأنصاري-؟.
قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم!).
ما أعظم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إن تَكَدُّرَ خاطره صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن تستولي غسان على المدينة، ما كانوا يصبرون على أن يلحقه أذى أياً كان!! أمّا ما يجري الآن في زماننا في حق النبي عليه الصلاة والسلام فما كان الصحابة يسمحون بعشر عشر معشاره؛ لأن محبتهم كانت صادقة، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام يسب في ديار المسلمين ويلمز ويغمز، وقد صرح بعضهم به تصريحاً، لما رسم أحدهم في رسومه الساخرة (الكاريكاتير) ديكاً وتسع دجاجات، وكتب فوق -هذا كان سنة خمسة وستين في جريدة الأهرام - هذا الرسم "محمد جمعة وزوجاته التسعة" من الذي تزوج تسعاً في المسلمين ولا يحل إلا أربعة لسائرهم؟ من الذي تزوج تسعاً فقط؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، يخرج الرسم بهذا السفور الفاضح، ومع ذلك يظل هذا الرجل في مكانه ولا يحاسب، وكل هذا بدعوى حرية الرأي وحرية الكلمة، وأننا لا نحجر على كلام أحد كيف لا نحجر؟ إذا كان هناك إنسان يستحق أن يحجر عليه فليحجر عليه، فالألفاظ قوالب المعاني.
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يوماً يقول: (والله! ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية.
فجلده الحد، وقال: إن هذا تعريض بالزنى) أي: لو أن الأب أو الأم كانا طاهرين، لِمَ نفيت التهمة عنهما؟ أكيد هناك أصل لهذه التهمة، فجلده حد القاذف؛ لأن هذا فيه إيماء وفيه معنى القذف بالزنى.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يعتدى عليه، ويعتدى على سنته من قبل الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً في هذا العلم، كل يوم لما أطالع مثلاً بعض الصحف لا يكاد يوم يمر إلا وفيه هجوم على السنة، أو على القرآن أو على النبي عليه الصلاة والسلام، أو على الله تبارك وتعالى.
فأغرى هذا أعداءنا وجرأهم، فرسموا النبي عليه الصلاة والسلام على صورة خنزير، وفي الضربة الأخيرة للعراق في شهر رمضان كانت الصواريخ التي تضرب بها بغداد مكتوب عليها: (هدية رمضان للمسلمين) فلما استنكر بعض المسلمين هذا رد الرئيس الأمريكي وقال: أحد الجنود كتبه ماذا نصنع به؟! متأسفين وانتهى الأمر على هذا، وما أرى حالنا اليوم إلا كما يقول الشاعر: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا الورع البارد هذا أغرى أعداءنا أن يعتدوا على النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك الاعتداء الصارخ لم يكن هناك أي رد فعل رسمي لأي بلد من بلاد المسلمين.
يا أخي: اسحب السفير، اعمل احتجاجاً رسمياً، اعمل مؤتمراً صحفياً، اعترض، قل: كيف تسبون نبينا؟ كيف ترسمونه على هيئة خنزير؟ هذا أقل ما يجب، لكن لم يكن هناك أي رد فعل رسمي على الإطلاق، كأن هذا النبي لا يدين بدينه أحد! الرسول عليه الصلاة والسلام لما طلق نساءه، يقول هذا الصحابي لما سأله عمر: (أجاءت غسان؟ يقول: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم) مجرد أن يطلق نساءه هذا أعظم من أن تستولي غسان على المدينة.
فقال عمر: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون) لماذا؟ لأن له مقدمات: المرأة التي تعترض على زوجها وتهجره، وتنشز عليه ماذا يُتصور أن يكون رد فعله تجاه ذلك التصرف الخاطئ؟! الرجل الذي تتدفق دماء الرجولة في عروقه لا يطيق أن تفعل به المرأة ذلك، أنها تهجره، وكلما يأمرها تعصيه، ولا تسمع له كلاماً، وتحط من كلامه، وأي رجل يأبى هذا.
فهذه مقدمات كان عمر يرى أنها قد تؤدي إلى ذلك، ولذلك أول ما سمع الخبر قال: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فنزل وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، والنبي عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة دخل المشربة، ما كلم أحداً -المشربة: غرفة ملحقة بالمسجد- ولم يجرؤ عمر بن الخطاب أن يراجعه أو أن يكلمه؛ لأنه كان غاضباً، فجلس مع قوم عند المنبر، قال عمر: (يبكي بعضهم).
أنا على يقين -بما أعلمه من سير الصحابة- لو أن واحداً من هؤلاء الذين يبكون عند المنبر طلقت ابنته لما بكى فلماذا يبكي إذاً؟ يبكي لتكدر خاطره عليه الصلاة والسلام، مجرد أنه متكدر الخاطر -متعكر- هذا يقلقه؛ لأنهم كان يحبونه غاية الحب.
هذا الموقف موقف مهيج ومثير، ناس يبكون حزناً قال عمر: (فغلبني ما أجد) يعني: ما كان في صدره من الهم والغم غلبه فلم يصبر على هذه الجلسة، وذهب إلى هذا الغلام وقال له: استأذن لـ عمر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(85/3)
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة
قال عمر: (فأفزعني ذلك، وقلت: أوتفعل حفصة ذلك؟!) ولم يقل: أتفعل عائشة، أتفعل أم سلمة؛ لأن الإنسان إنما يكون عطوفاً على ولده، يبحث عن ولده قبل أن يبحث عن غيره، ما ذكر إلا حفصة وقال: (لقد خابت وخسرت، ثم جمع ثيابه ونزل في الحال، وقال: أي بنية! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم.
قال: وما يؤمنكِ أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟ لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ).
الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث لأجل هذه الفقرة، قال: (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها)، يا ليت الآباء الذين زوجوا بناتهم يتعلمون من هذا الدرس، (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها).
أي رجل منا له بنت فزوجها ذراعه مكسور مهما كان ملكاً مطاعاً، وإذا كان زوج البنت ليس بذاك الرجل النبيل، ومع ذلك أنت ممكن تنفق على بنتك، وتعطيه مالاً، وتثني عليه بما ليس فيه ليستقيم الحال بخلاف الولد.
فأنت ينبغي عليك أن تعين زوج ابنتك، ولا تحرض ابنتك عليه، ومن المشاكل الكثيرة الشائعة التي زلزلت البيوت أن الأب مثلاً ممكن يذهب فيقرّع زوج البنت أمام البنت، يقول له: أنت غلطان، وهي محقة، المفروض تفعل كذا وكذا لا يا أخي! ينبغي أن تظل قوامة الرجل كما هي، ولا توغر صدره، مر ابنتك بالمعروف والإحسان، فإذا خلوت بزوجها فمره بالإحسان، لكن لا تسمح لابنتك أن تذكر سيئات الزوج هكذا أمامه، كل هذا رعاية لصدر الزوج، وإعمالاً لتمام قوامته على المرأة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لها: (لا تسأليه، ولا تستكثريه، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ.
ثم قال لها: ولا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يريد بذلك عائشة-) يريد أن يقول لها: إن عائشة أجمل منكِ، ولها دلال على النبي عليه الصلاة والسلام، فقد يحتمل ذلك لها لمكانتها عنده، فإذا حاولت أن تقلديها لا يحتمل لكِ؛ لأنه ليس لكِ من المكانة مثل ما لها.
وكانت عائشة رضي الله عنها محبوبة جداً لدى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك، بل كان يبديه أحياناً، لما حدث بينه وبين بعض زوجاته كلام بشأن عائشة قال: (لا والله، ما نزل الوحي في لحاف امرأة غيرها) وجعل هذا منقبة لها، وكان هذا -كما قلت سابقاً- لا ينكره النبي عليه الصلاة والسلام حتى علمه الصحابة، فكانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة كما في الصحيحين، من حديثها أيضاً رضي الله عنها، قالت: (كان المسلمون يتحرون بهداياهم ليلة عائشة) فحبيب حبيبي حبيبي، إذا أكرمت من أحب أحببتك.
فكان الصحابة يعلمون ذلك، فكانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة، من أراد أن يهدي النبي صلى الله عليه وسلم هدية فإنه يمكث حتى إذا كانت ليلة عائشة يعطيه الهدية، حتى صار عند عائشة هدايا كثيرة، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام يعلمن ذلك، فما أعجبهن هذا الحال، فأردن أن يراجعن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنه يقسم الهدايا عليهن، فأرسلن أحب الناس إليه، وهي فاطمة رضي الله عنها.
قالت عائشة: (فدخلت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فدخلت فقال: أهلاً بابنتي! فأجلسها، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة.
فقال: أي بنيتي! أتحبينني؟ قالت: أجل.
قال: فأحبي هذه.
وذهبت إليهن وهن مؤتمرات في بيت إحداهن، فلما دخلت قالت: والله! لا أراجعه فيها أبداً)، فأرسلن بعد ذلك زينب، وهي التي كانت تسامي عائشة رضي الله عنها في المنزلة عند النبي عليه الصلاة والسلام.
قالت عائشة: (فدخلت زينب والنبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فكلمت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وجهت كلاماً لـ عائشة وأضجعت في الكلام -يعني: قالت كلاما قوياً- قالت عائشة: فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟ -يعني: لو رددت عليها هل يكره ذلك؟ - قالت: فلما علمت أنه لا يكره أن ينتصر قمت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها ابنة أبي بكر!) أي: لا تغلب.
فانظر إلى هذا الوفاء من قبل عائشة رضي الله عنها تقول: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟) المرأة ينبغي أن تراعي شعور زوجها، فلا تأتي الشيء الذي يكرهه أبداً، هذا من العشرة بالمعروف، من حقه عليها، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقسمة الهدايا؛ لأن هذا ليس ملكاً له عليه الصلاة والسلام، إنما يسأل الرجل -إذا تزوج بأكثر من امرأة- العدل فيما يملك، أما الهدايا فلا تدخل في هذا؛ ولهذا لم يجبهن النبي عليه الصلاة والسلام.
وكانت أخبار عائشة رضي الله عنها فاشية يتحدث بها الخاص والعام، فيقول عمر بن الخطاب لها: يا بنيتي ليس لكِ من الإجلال ولا المكانة ولا الجمال مثل عائشة، فلا تقلديها، فإنه يحتمل لها ولا يحتمل لكِ.
وهكذا وعظها أبوها، وحضها على أن تعاشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمعروف.(85/4)
من سلوكيات الصحابة ونسائهم
(ثم استقبل عمر رضي الله عنه الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة) وهذا يدلك على حرص عمر بن الخطاب على تحصيل العلم، وأن طالب العلم لا يشترط له أن يتفرغ، ما كان عمر متفرغاً، إنما كان صاحب همة.
ومن هذا ننبه بعض طلبة العلم إلى أن من يقول: أنا لا أستطيع أن أطلب العلم إلا إذا تفرغت.
نقول له: لا، لو كنت صاحب همة لا يعوقك عن طلب العلم ما تجده من العمل.
فقسم عمر رضي الله عنه الأيام بينه وبين صاحبه، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، ويكون صاحبه في تجارته أو زراعته، ثم ينزل عمر إلى تجارته أو زراعته، ويكون هذا الأنصاري عند النبي صلى عليه الصلاة والسلام، فيأتيه بخبر ذلك اليوم، لو نزل وحي أتاه به، ولو قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أتاه بها، ولو قال حديثاً أو حدثت واقعة يقص عليه ما حدث من خبر ذلك اليوم.
قال رضي الله عنه: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، ينزل يوماً وأنزل يوماً.
قال: وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) وفي بعض الروايات (قال: فلما أنزل الله عز وجل ذكر النساء تبجحن، ورأين أن لهن علينا فضلاً) فبدأت النساء لما نزل الوحي يشاركن الرجل في العبادة وتحمّل تكاليف الشريعة، وأهل مكة أم القرى، يعاملون النساء معاملة مباينة لمعاملة أهل المدينة، فأهل المدينة يعاملون النساء معاملة ألطف من معاملة أهل مكة.
وفي بعض الروايات الأخرى قال عمر: (وإنما كانت المرأة لحاجة أحدنا، فإذا أحتاجها قضى حاجته، ثم لا يكون لها بعد ذلك ذكر ولا كلام).
فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والطبع ينتقل من إنسان إلى آخر؛ بدأت النساء يرمقن فعل نساء الأنصار مع أزواجهن، وينقلن مثل هذا الأدب إلى بيوتهن، انظر إلى لطف عمر وحسن تعبيره، مع أنه معترض! قال: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) ولم يقل: من قلة أدب مع أنها من وجهة نظر عمر قلة أدب، لأنه معترض، ومع ذلك يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي الألفاظ سعة، فالعرب كان عندهم ذوق رفيع في استخدام الألفاظ، مثلاً: (القافلة) إنما تقال للذين رجعوا ولا تقال للذين ذهبوا.
ومع ذلك يقولون للذين ذهبوا (قافلة)؛ تيمناً برجوعها.
(اللديغ) كانوا يسمونه (سليماً) رجاء سلامته، الصحراء كانوا يسمونها (مفازة) تفاؤلاً بالنجاة منها.
ثم هذا أوقع من أن يذكر اللفظ الصريح.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية أخرى أيضاً في صحيح البخاري: (يأخذن من أرابيب نساء الأنصار) (الأرب): هو العقل.
قال: (فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني) والصخب من وجهة نظر عمر، مجرد أنها تراجعه.
في بعض الروايات قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، وقلت لها: أتراجعينني؟ قالت: ولِمَ لا أراجعك؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وليس هذا فقط، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) وهذا يبين لك أثر القدوة.
وقد تعبر كلمة واحدة عن مكنون ما في النفس، على سبيل المثال مرة وفي بعض المؤتمرات في بعض البلاد رجل نيف على التسعين عاماً، معه عصا يتوكأ عليها، وذهب إلى هذا المؤتمر، وبعد ذلك قال: أيها الناس! اسمعوني رفع العصا، وقال: العصا هذه معوجّة من أين؟ قالوا له: من فوق.
قال لهم: السلام عليكم.
هذا الذي أراد أن يقوله، ومضى الرجل بعد أن أوصل رسالة مهمة إلى أذهان الحاضرين.
القدوة له أثر عظيم في استقامة المجتمع، إن الله تبارك وتعالى حكم عدل، إذا كان الرأس صالحاً رزقه الله مرءوسين صالحين، وإذا كان فاسداً رزقه فاسدين، هذه من السنن الكونية التي لا تتخلف، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده.
فامرأة عمر بن الخطاب تقول له: لِمَ تنكر وأزواج النبي -اللاتي هن القدوة- يفعلن كذا وكذا؟! (يراجعنه، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) ولم تقل: ويهجرنه الليل حتى الصبح؛ لأن هذا لا يجوز، ولا تقع فيه واحدة من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرأة إذا باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إنما الواحدة منهن كانت تغاضب النبي عليه الصلاة والسلام من أول النهار إلى آخر النهار.(85/5)
الصحابة قدوة في علمهم وسلوكهم
هذا الحديث الجليل يوقفنا على طرف من حياة المسلمين رأساً ومرءوسين، ويبين لك السبب في تماسك هذا المجتمع، والسبب أنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأفئدة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكي طرفاً من حياته مع بعض أصحابه.
فياليتنا إذ نسمع مثل هذا الكلام نترجمه وننقله إلى الواقع؛ فإن بيننا وبين نصوص الإسلام بوناً بعيداً، وأنا أشبه واقع المسلمين مع نصوص الإسلام قرآناً وسنة بهرم، هذا الهرم أو هذا المثلث حاد الزاوية، له ثلاثة نقاط: رأس وهذا ضلع وذاك ضلع، حياة المسلمين الأولى هي هذه النقطة التي في رأس المثلث، فكلما نزلت زادت المسافة بين الضلعين، فإذا أردت أن تقل المسافة اصعد إلى فوق.
وهكذا: كلما اقتربنا من القرن الأول سلوكاً وعلماً وعملاً قل الفرق ما بين الواقع والمثال، وكلما ابتعدنا عن هذا القرن الفاضل ونزلنا إلى تحت -مثل هذا الزمان- وجدت هذا البون شاسعاً.
هذه النقطة لا أبعاد فيها، ليس فيها طول ولا عرض، وإذا كان فيها طول وعرض فهو يسير جداً لا يكاد يذكر وقد قال النبي صلى الله عليه وآله سلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فكان القرن الثاني والثالث فرعاً عن القرن الأول، إذاً ما بقي إلا القرن الأول.
وهذا الحديث الذي نتولى شرحه في هذه الخطبة دليل ظاهر على ذلك، الذي يحكي هذه الحكاية هو عمر بن الخطاب، وإن كان الحديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]).
في رواية البخاري قال: (ظللت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب فتمنعني هيبته، حتى حج وحججت معه، وعدل -أي: ترك طريق الناس ليقضي حاجته- فلما قضى حاجته وجاء وكانت الإداوة -وهي شيء يشبه الإبريق فيه ماء- في يد ابن عباس، وهو يصب عليه وضوءه قال: يا أمير المؤمنين! إنني أريد أن أسألك منذ سنة، ولكن تمنعني هيبتك.
فقال: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فاسألني.
فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عباس!) وإنما تعجب عمر رضي الله عنه من هذا إما لشدة تتبع ابن عباس لتفسير القرآن، ومعروف أنه ترجمان القرآن، وكان من أكثر الصحابة تفسيراً، وهناك نتف تفسيرية كثيرة عن ابن عباس، فالذي له هذا الباع في التفسير كيف خفي عليه مثل هذا الموضع؟ أو لأنه ما ظن أن ابن عباس يتتبع مثل هذه وتبلغ عنايته حتى يعرف أسباب النزول، وكان لـ ابن عباس مكانة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الصحيحين أيضاً (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدخل ابن عباس مع مشايخ بدر.
فلما دخل ابن عباس أكثر من مرة -وكان عمر حريصاً على إدخاله مع شيوخ بدر- فغضب عبد الرحمن بن عوف، وقال: ماله يدخل هذا ولنا ولدان مثله -لنا غلمان مثله-: فسمعها عمر فأسرها في نفسه.
فلما اجتمعوا يوماً قال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] ما تقول يا فلان؟ فقال: إن الله عز وجل أمر نبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] أن يستغفر ربه.
وأنت يا فلان؟ قال: أقول كما قال صاحبنا.
وأنت يا فلان؟ كلهم يقول ما قال الأول.
فقال: وما تقول يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلامة موته؛ لأنه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ودخل الناس أفواجاً في دين الله فما بقاؤه؟! فإنه قد أدى ما عليه.
قال: هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: والله يا ابن أخي! ما أعلم منها إلا ما تقول.
قال ابن عباس: وكان يريد أن يريهم ما عندي، فقال لهم عمر بن الخطاب بعد ذلك: إنه من حيث علمتم -أي أنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم-).
فكان لـ ابن عباس هذه المكانة عند عمر، فتعجب أن يفوته هذا الموضع مع شهرته، ومع أن خبر عائشة وحفصة في هذا شاع بين المسلمين.
وفي هذا دلالة على أن الشيء قد يخفى عن الإمام الجليل ويعلمه من هو دونه، وإنما نقول هذا لبعض المقلدة الذين إذا قيل لهم: إن الإمام الفلاني لم يعلم بالحديث الفلاني، يقولون: كيف لا يعلم هو به وتعلم أنت به، وهو أعلم منك؟!.
نعم هو أعلم من حيث الجملة، لكن جزئيات العلم لا تتناهى، ولم يجمع واحد قط -بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أدنى رجل- العلم كله ولا جزئيات العلم في صدره، لا يجمع جزئيات العلم جميعاً في صدره إلا نبي، أما غير الأنبياء فقرنهم الله عز وجل بالعجز، ووصفهم بالحاجة، فما منا من أحد -كما يقول الشافعي رحمه الله- إلا وتعزب عنه سنة للنبي صلى الله عليه وسلمُ وقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل.
وخذ مثالاً للخضر وموسى عليهما السلام، ولا شك عند جميع المسلمين أن موسى أفضل من الخضر، ومع ذلك لما أراد الله عز وجل أن يعلم موسى عاتبه وذلك عندما سأله رجل من بني إسرائيل فقال: يا كليم الله! أتعلم أحداً هو أعلم منك؟ قال: لا؛ فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، قال: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك وبعد ذلك قصة الخضر وموسى عليهما السلام معروفة، ولكن كان عند الخضر من العلم ما لم يكن عند موسى، والخضر مفضول وموسى فاضل.
فقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل، فينبغي على المرء أن يتواضع لله، وأن يعلم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا؛ فلا ينبغي أن يستطيل على أحد.
فهاهو ابن عباس مع اهتمامه بالتفسير وتقدمه فيه، خفي عليه موضع يعرفه جل المسلمين.(85/6)
المرأة والمجتمع
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(85/7)
إفساد المرأة أمر متعمد
اعوجاج النساء سبب دمار البيوت، وذهاب الدفء، وقد علم أعداؤنا أن قاعدة بنياننا المرأة، فشرعوا في إفسادها، وصارت كل المؤتمرات التي تعقد في جنبات العالم -وخصوصاً في ديار المسلمين- المقصود بها إصدار قرارات لإفساد المرأة، وإعطائها أكبر قدر من الحرية؛ والقصد بهذه الحرية: أن تخرج من قبضة الرجل.
مؤتمر السكان كل قراراته كان المقصود بها إفساد المرأة، تجريم ختان المرأة، والغريب أنه صدر قانون بغاية السرعة، نحن نعلم أن القوانين حبك لها في الخفاء طويلاً، هذا القانون صدر في أقل من شهر وتضمن تجريم ختان المرأة، وأنه إذا ضبط أي طبيب أو أي أحد متلبس بختان امرأة يعاقب بالسجن كذا وبغرامة مالية وصاحب ذلك معركة صاخبة، لكنها مضحكة مؤلمة، صرح فيها بعض من سيقف بين يدي الله غداً لا ينفعه أحد: (أن الختان ليس له أصل في الشريعة الإسلامية) وهؤلاء لا أقول: إنهم جهلة، فهم يدرسون العلوم الشرعية ومع هذا يقولون: إن الختان ليس له أصل، وأن هذه عادة جاهلية، وأن هذا فيه اعتداء على أنوثة المرأة.
وكأنهم يخاطبون الصم البكم العمي، الذين لا يقرءون ولا يسمعون ولا يرون.
المجلس أباح -منذ سنوات- الاختلاط والإجهاض، ويقرر إمكانية أن تتولى المرأة العمودية -تصبح عمدة- وأباح أن تسافر المرأة إلى الخارج رغم أنف زوجها والبقية تأتي.
إفساد المرأة أمر متعمد، (90%) من فساد البيوت على عنق المرأة وعلى عاتقها، وأيضاً (90%) من استقرار البيوت على عاتق المرأة؛ لذلك ينبغي على المرأة المسلمة أن لا تخذلنا في معركتنا الفاصلة، مع هذه القوى المناوئة لشرع الله عز وجل، إذا تحاكمت المرأة إلى الشرع فقد أسقطت كل هذه القوانين التي قننت لإفسادها، لا ينبغي عليها أن تخذلنا في معركتنا، ولا ينبغي أن يؤتى الإسلام من قبل المرأة المسلمة.
واستكمالاً لما تقدم من شرح حديث ابن عباس في الشطر الأول للمادة أقول وبالله التوفيق: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي ابنته برسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستكثريه، ولا تهجريه، ولا تراجعيه، وسليني ما بدا لك).(85/8)
من آداب الاستئذان
استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال الغلام: (ذكرتك له فصمت) هذا الغلام اسمه رباح، وكان واقفاً على باب الرسول، واحتج أهل العلم بهذا على جواز أن يتخذ الإمام حاجباً إذا دعت إلى ذلك ضرورة، وأن اتخاذ الحجاب والحراس أمر له أصل في الشرع إذا دعا إلى ذلك داع، وإلا فإنه يجوز للإمام ألا يتخذ حاجباً ولا يتخذ بواباً، وفي هذا أدلة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين - مر على امرأة تبكي عند قبر جديد فقال: (يا أمة الله! اتقي الله واصبري.
فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي.
فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُخبِرَت المرأة أنه رسول الله فزعت وانطلقت خلفه، فجاءت بيته فلم تجد حاجباً ولا بواباً، فاعتذرت إليه، فقال لها عليه الصلاة والسلام: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
وفي اتخاذ الحاجب والبواب هذا الحديث وحديث آخر، حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله بباب بستان وقال: لا يدخل أحد.
فجاء أبو بكر فأراد أن يدخل، فقال له: على رسلك، فاستأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، قال: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له وبشره بالجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على حافة البئر، وقد دلى رجليه في البئر فجاء أبو بكر الصديق وجلس بجانبه ودلى رجليه في البئر.
قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إن يرد الله بفلان خيراً يأتِ به، يريد أخاً له -طمعاً أن يقول له أيضاً: بشره بالجنة، فهو يتمنى أن يأتي أخوه في هذه اللحظة حتى يبشر بالجنة- قال: فجاء عمر.
فقلت: على رسلك، واستأذن له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له وبشره بالجنة، فجاء عمر فجلس بجانب أبي بكر ودلى رجليه في البئر.
ثم جاء عثمان قال: على رسلك.
فاستأذن له، قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه.
فقال عثمان: الله المستعان.
فدخل عثمان، فلم يجد بجانبهم مكاناً، فجلس في مقابلهم ودلى رجليه في البئر).
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: فأولتها (قبورهم)؛ لأن أبا بكر وعمر دفنا بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ودفن عثمان في مقابلهم في البقيع.
ففي هذا دليل على جواز أن يتخذ الأمير أو العالم أو الحاكم حاجباً إذا دعت إلى ذلك ضرورة.
وفي قوله: (استأذن لـ عمر) دلالة على استحباب أن يسمي المستأذن نفسه، ما قال له: ائذن لي، -مع أنه معروف- إنما قال: استأذن لـ عمر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يستأذن عليه المستأذن فيقول: أنا.
كما في حديث جابر في صحيح مسلم (أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: أنا.
قال جابر فسمعته يقول: أنا أنا؟! كأنما كرهها).
قال ابن الجوزي رحمه الله: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم (أنا) لأنها تشعر بالكبر، فكأن قائلها يقول: أنا الذي لا أذكر نسبي، ولا أنسب نفسي لشهرتي.
كأنما قال ذلك فكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (استأذن لـ عمر.
قال: فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.
فرجع عمر إلى المنبر مرة أخرى).
وللبحث صلة بعد الصلاة إن شاء الله.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(85/9)
التعامل مع النساء
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
لما دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم سأله: (يا رسول الله! هل طلقت نساءك؟ قال: لا.
فقال عمر: الله أكبر!) في بعض الروايات أن أم سلمة سمعت تكبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قالت: (فلما سمعنا تكبير عمر علمنا أنه لم يكن طلاقاً) طبعاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه هذا الخبر عن صاحبه الأنصاري نزل فصلى الفجر، ثم أتى حفصة فدخل عليها وهي تبكي قال: (ما يبكيكِ؟! أولم أكن حذرتك؟! هل طلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا) في بعض الطرق الأخرى قال عمر: (ولولاي لطلقكِ).
فلما سأل عمر النبي عليه الصلاة والسلام: هل طلقت نساءك؟ قال: لا؛ فكبر، فأراد عمر أن يؤنسه فذكر ما قاله لـ حفصة، ومثل هذا لا يقال عادة، لكن عمر أراد أن يستأنس وأراد أن يضحك عليه الصلاة والسلام ليزيل عنه ما يجد.
قال: (يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) العلماء يقولون: أن تبسمه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه رضي طريقة الأنصار في معاملة النساء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحسن الناس لأهله كما صرح هو بذلك، قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
بكل أسف قد تجد الرجل حسن الخُلق، بساماً ضاحكاً في الخارج مع أصحابه، فإذا دخل البيت دخل وعلى وجهه الغضب، ولا يبتسم لماذا؟ النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن النساء عوان عندكم) (عوان) أي: أسيرات، فالمرأة أول ما تتزوجها تدخل السجن مباشرةً لماذا؟ لأنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك، وإذا سافرت وتركتها ظلت معلقة بك، ما تستطيع أن تأخذ الإفراج إلا بالطلاق، فالمرأة لما دخلت سجنك كن كريماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام قدوتنا في ذلك وقد حث ورغب في الإحسان إليهن وأنا أوصي إخواني أن يطالعوا كتب الشمائل -شمائل النبي عليه الصلاة والسلام- والكتب التي تعنى بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، مثل شمائل الترمذي، ومثل أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وهناك الشمائل لـ أبي الحسين البغوي، وهو من أجمع هذه الكتب.
واربط حياتك بحياة النبي عليه الصلاة والسلام، وحاول أن تنقل ما تتعلمه إلى حياتك، ولن تشقى على الإطلاق.(85/10)
الإحسان إلى المرأة وإكرامها
إن هناك بيوتاً -بكل أسف- تتصدع كل يوم بسبب عدم الثقة، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام كانت حياته عنواناً للود والوئام، والمعاملة المبنية على التفاهم والحوار وعدم تهميش الآخر.
المرأة تحتاج إلى مداراة، لكن ليس معنى المداراة أن تكذب وتقسم على الكذب، هذا لا يحل أبداً، المداراة: أنك توري بالكلام فقط، ولا تقسم على المداراة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وأن تركته ظل على عوج، فاقبلوهن على عوج).
وبما أن المرأة ضلع أعوج هكذا، فأنت لابد أن تتعوج لكي يتلاءم الشيئان على بعض، لو أنت مثل السيف، وهي -ربنا خلقها هكذا- (عوجاء) لا يحصل التطابق والائتلاف، فلأجل حياة سوية سعيدة عليك أن تجاريها وتداريها كي يحصل الائتلاف والشعور بالكيان الواحد.
فالنبي عليه الصلاة والسلام طالب الرجل أن ينزل من مكانته إلى المرأة، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه فإن أردت أن تقيمه -أي: تجعله سوياً مثلك- كسرته) وأنا على يقين لو أن المرأة صارت كالرجل لطلقها الرجل لماذا؟ لأن الرجل ليس من الممكن أن يعيش مع رجل آخر في البيت، ويخضع له ويطيعه ويمتثل أمره، ويسعى لتوفير راحته؛ بخلاف المرأة، فإن كمالها في اعوجاجها، ونقصها الذي يحوجها إلى الرجل، ولا تستطيع الاستغناء عنه، وبذا يكون التكامل والبناء الواحد.
لكن لو استوت مثلك فلن تستطيعا أن تعيشا معاً أبداً.
فكذلك ينبغي على الرجل أنه يراعي هذه المسألة.
عاملوا النساء معاملة كريمة وتذكروا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم أخذتموهن بكلمة الله) فمن الرجال من إذا تزوج المرأة يسب أباها وجدها وسائر قرابتها والله يا أخي! أنت ما تزوجت المرأة يوم تزوجتها من وليها على هذا، ولو كان أبوها يعلم أنك تسبه أو المرأة تعلم أنك تسبها وتسب أباها ما قبلتك زوجاً.
إذاً أنت لم توفِ بالعقد والعهد، فاحفظ العهد ووفِ بالعقد، العقد الذي هو كلمة الله تبارك وتعالى.
ثم قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ) وعائشة كانت تلقب (بالحميراء) والحميراء: هي المرأة البيضاء التي يخالط بياضها حمرة، وليست بيضاء مثل الأعاجم الذين تحس أن بياضهم برص، وإنما كانت بيضاء بياضاً ناعماً مشرباً بحمرة، وهذا يعطي جمالاً.
فيقول: (لا يغرنك أن كانت جارتكِ أوضأ -الوضاءة: الجمال- وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكِ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، قال عمر: فجلست) وهذا من فقه عمر، لأنه لابد أنك إذا حادثت رجلاً حزيناً، أن تستأنس قبل أن تجالسه وقبل أن تكلمه أول ما جلس عمر بن الخطاب جعلت عينه تدور في البيت قال: (فما رأيت فيها شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة -الإهاب: الجلد، أي: ثلاثة جلود هذا الذي كان في بيته عليه الصلاة والسلام- فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله.
وكان متكئاً فجلس -وهذا يدل على اهتمام النبي عليه الصلاة والسلام بما سيقوله؛ لأن الأمر الذي قاله عمر يستحق التعليق- قال: أوفي هذا أنت يـ ابن الخطاب -يعني أأنت تقول هذا وأنت الرجل في علمه، وفي قربه مني، وفي فقهه؛ وتقول مثل هذا الكلام- هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا}.
هنا مسألة أحب أن أجليها؛ لأنه حصل فيها خلط، كل الأحاديث التي تزهد في الدنيا بعض الغالين نفاها، وقال: ليس من الممكن أن المسلم يطلق الدنيا ويتزوج الخوالي، وأن أحاديث الزهد هذه أغلبها أحاديث قيلت في مناسبات مخصوصة لا ينبغي أن تعمم، وأنه ينبغي على المسلمين أن يمتلكوا الدنيا حتى يقاوموا أعداءهم ويقاتلوهم، وطائفة أخرى تركت الدنيا لأعدائنا فعلاً والحق بين الإفراط والتفريط.
أحاديث الزهد في الدنيا المقصود بها زهد القلب، وليس المقصود بها زهد اليد، المقصود بالأحاديث الحاضة على الزهد في الدنيا أن يزهد المرء في الدنيا بقلبه، وأن تكون الدنيا في يده، فإذا خلا قلبه من الدنيا وقصرها في يده كان كالطراز الأول من الصحابة رضي الله عنهم.
اليوم نحن نحتاج إلى هذا المال لإقامة حياتنا، ولا نستطيع أن نقاوم أعداءنا إلا بامتلاك هذا المال، وامتلاك السلاح، وامتلاك التكنولوجيا وهذه الأشياء، وهذا لا يكون إلا بمال، لكن لا ينطوي قلبك على حب الدنيا، كل هذه الأثرة التي ذكرها علماؤنا السالفون في أحاديث الزهد في الدنيا لاذعات قوية لا يستغني المرء عنها لسلامة قلبه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا) وليس معنى ذلك أننا نعيش فقراء، وأننا لا نبحث عن تحصيل دنيانا، الكلام هذا غير صحيح، لكن المقصود أن لا تغزو الدنيا قلوبنا، وعلى هذا تتنزل كل الأحاديث الحاضة على التجافي عن الدنيا وعدم التكالب عليها.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(85/11)
وجوب مراعاة نفسية المرأة والتودد إليها
ربنا عز وجل خلق الرجل على خلقة، وخلق المرأة أيضاً على خلقة، فالمرأة ضعيفة، كثيرة الظنون، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة) إياك أن تتصور أن المرأة سوف تمشي معك كما تحب على طريقة واحدة.
فكل يوم المرأة لها طريقة، فإذاً ينبغي أن تعلم أن الله عز وجل خلق المرأة على هذا؛ فتعذرها، ولا تعامل المرأة كمعاملة الرجل لماذا؟ لأن خُلقها دون خُلق الرجل، وخَلقها دون خَلق الرجل، ومزاجها دون مزاج الرجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت هذه سيرته رفق ورحمة وسماحة، ومن ذلك حديث مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم عائشة في غزوة من الغزوات.
وبصراحة: كم واحداً منا فعل مع امرأته هذا أو قريباً من هذا؟ الكثير من الناس يرى الرفق بالمرأة يجرئها عليه وإذا قسى عليها لانت له واحترمته، ولذلك لابد أن تعامل معاملة قوية وحاسمة، وهذا خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
ولنا في حديث أم زرع درس تربوي عظيم، ويظهر مدى وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على أعلى وأرقى الأخلاق، وتبسط مع عائشة رضي الله عنها وسمع منها هذا الحديث الطويل برغم أنه محمل ومثقل بأعباء الدعوة إلى الله عز وجل.
والبخاري بوب على هذا الحديث -حديث أم زرع - قال: (باب السمر مع الأهل).
بينما من الناس من يرى أن المرأة كل حكاياتها ليست مهمة، ويقول -بكل تبجح- آتي أحط دماغي لكي أستريح ثلث ساعة، وهي تشغلني بهذا الكلام الفارغ! فنقول لهذا وأمثاله: هذا الرجل الذي لم يتأدب بأدب النبي عليه الصلاة والسلام بينما الرجل العاقل هو الذي يشعرها بحلاوة حديثها، والاستماع فن! الاستماع فن! المرأة لما تحكي لك صبر نفسك ثلث ساعة، صبر نفسك ربع ساعة لما تحكي لك مثل هذه الحكايات، لأن هذه حياتها، وأنت طول النهار في الخارج، وهي طول النهار مع الأولاد، فأول ما يأتي زوجها تريد أن تتكلم معه أي كلام، فتفتح معه أي حوار؛ لأن الحياة الرتيبة ليس فيها شيء يستحق الحوار، فإذاً لابد أن تفاتحك بشيء كهذا.
وتأمل في هذا الخلق العظيم للرجل العظيم النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة سمع عائشة رضي الله عنها تحكي حكاية أم زرع، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أجود مثال، وشبه نفسه عليه الصلاة والسلام به تطييباً لخاطر عائشة، بل أضاف إلى ذلك شيئاً من عنده عليه الصلاة والسلام تطييباً لخاطرها، قال لها: (كنت لكِ كـ أبي زرع لـ أم زرع -في رواية للنسائي - قالت: يا رسول الله! بل أنت خير من أبي زرع)، وفي رواية الزبير بن بكار قال لها: (كنت لكِ كـ أبي زرع لـ أم زرع، غير أني لا أطلقكِ) لأن أبا زرع طلق امرأته.
فالنبي عليه الصلاة السلام كان حسن العشرة جداً مع أهله وبه يجب الائتساء، قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
فمعنى أنه يتبسم عند أن سمع عمر يقول: (والأنصار تغلبهم نساؤهم) إذاً: رضي سيرة الأنصار مع النساء، فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ)، وهذا من أدب عمر رضي الله عنه في استخدام الكلام، ما قال: (ضرتكِ) إنما قال: (جارتك)؛ لأن الجار له حقوق، فالرجل المتزوج بامرأتين إذا ذكر إحدى امرأتيه للأخرى يقول: أختك، كما أنك -مثلاً- إذا ذكرت ابن أخيك لابنك تقول له: أخوك لماذا؟ لأن فيه استعطافاً.
ثم أنت لا تنقل شيئاً من حياتك في هذا البيت إلى هذا البيت، إذ أن هذا التصرف أكبر غلطة! وهو أن الرجل ينقل حياته ويتحدث عن تصرفاته في بيت إحداهن للأخرى.
وأنا في المشاكل أو الحالات التي رأيتها في البيوت التي فيها تعدد، وفيها عدم الاستقرار؛ في الغالب بسبب الرجل لماذا؟ لأنه يذهب يحكي حياته وعشرته مع المرأة الأخرى.
يأكل مثلاً طبيخاً معيناً -ملخوية مثلاً بالبامية- فيقول لها: تسلم يديكِ! البامية التي أنا أكلتها البارحة كانت حلوة مثل هذه أيضاً! يعني كأنك تريد أن تقول أنها مثلها؟! هي المرأة لا تقبل أصلاً هذا! حتى لو كانت دونها، يعني هذا أن حياتك هنا غير حياتك هنا.(85/12)
تعدد الزوجات والقسط في الهدي النبوي
النبي عليه الصلاة والسلام من جوانب عظمته: أنه كان معه تسع نساء وانظر ماذا فعل في الدنيا، كان قلبه لربه تبارك وتعالى، وكان لا يغفل طرفة عين عن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفقد حاجات المسلمين برغم أنه متزوج بتسع! والمشادّة عادة تكون مع الرجل إذا تزوج بأكثر من امرأة، يكون باب الملاحاة أوسع منه من أن يكون زوج امرأة واحدة.
فأنت إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ترى عجباً، هناك حديث في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يذهب إلى جمل عائشة) فكان دائماً وهو مسافر يبحث أين الجمل ويذهب إلى الجمل، وهو كان راكباً ناقته، ويذهب هناك لكي يتحاورا ويتسامرا.
ففي مرة من المرات في سفر كانت حفصة مع عائشة، فـ حفصة رضي الله عنها عملت حيلة، فقالت لها: ألا نبدل ركابينا، أنا أركب جملك وأنت تركبين جملي، وعائشة رضي الله عنها ما فطنت إلى الذي تريد حفصة.
فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى جمل عائشة، الذي تركبه حفصة وبقي يتحدث مع حفصة.
وأول ما رأت عائشة رضي الله عنها هذا المنظر غارت، حتى دعت على نفسها أن تلدغها حية، انظر إلى أين وصل الأمر! يصل الأمر إلى أنها تدعو على نفسها أن حية تلدغها، وتقول: (اللهم! رسولك ولا أقدر أن أقول له شيئاً) ومع ذلك كانت عائشة وحفصة أختان متوائمتان، كانت الغيرة فعلاً موجودة، لكن كانت الغيرة حميدة إذ لم تتجاوز الحد، كانت غيرة مؤقتة، والمرأة التي تريد أن تنفرد بزوجها وتستبد به تتمنى أن تهلك أختها أو لا تستريح إلا إذا طلقت أختها لا؛ لم يقع ذلك بين أمهات المؤمنين، مع أن المعروف عند كثير من الضرائر ليس مجرد الكراهية لبعضهن وإنما يتعدى الأمر إلى كراهيتهن للرجل، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد كان محل المحبة والإجلال في أفئدة نسائه جميعاً.
بعض إخواننا المتزوجين بأكثر من زوجة ممكن أن يطلق إحداهن بسبب أنه يريد أن تكون الزوجتان متفقتان مع بعض، نقول: يا أخي! هذا ليس من شغلك، المهم أن يحببنك كلهن، وأن تكون محبوباً عند الكل ودعك منهن سواء كانت بينهن محبة أو غيرة وكراهية، هذه مسألة أنت ما لك دعوة بها، المهم أن يحببنك، كلما تدخل البيت -أي بيت تدخله- تجد منهن المحبة.
والبعض من الرجال يصر أن يسكنهن في بيت واحد، ويأكلن من أكل واحد، ويقول لهما: تعاليا حتى نقرأ كلنا في كتاب الله -مثلاً- ويحاول إجبارهن على الاندماج مع بعض فالرجل هذا يسبح ضد التيار.
لا يا أخي! ما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، كان كل امرأة لها بيت، حتى لو كانت المرأتان في بيت واحد فأنت سوف تمشي على الجمر، ولن تأخذ راحتك أبداً لماذا؟ إذا نظرت إلى إحداهن غارت الأخرى وأضرمت عليك البيت ناراً ومشاكل وهكذا مع الأولى، وستظل كل يوم في تحقيق وفي محضر، أما عندما تكون في بيت مستقل فلن يكون الأمر كذلك، النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسلت صفية بطبيخ لها -إدام- وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا جماعة من أصحابه في بيت عائشة، وصفية أرسلت بهذا الإدام -يعني: طبيخ - وكانت صانعة طعام جيدة حتى لقد وصفت عائشة رضي الله عنها طعامها فقالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية).
فأول ما أتي بالطبيخ ورائحته تفوح، وطبعاً عائشة لا تطبخ مثلها، فـ عائشة ظنت أن صفية بعثت هذا الطبق حتى يُرى الفرق بين طبخها وطبخ عائشة، فغارت ورمت الإناء حتى انكسر، فالنبي عليه الصلاة والسلام فطن للمسألة هذه، والصحابة جالسون والحدث كان أمامهم؛ فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (غارت أمكم، وأخذ إناء عائشة رضي الله عنها وأرسله إلى صفية وقال: إناء بإناء وطعام بطعام).
لو حصل مثل هذا الأمر مع شخص آخر من الممكن أن يكون فيه طلاق للمرأة، لا يا أخي! الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعامل النساء معاملة راقية جداً، والنساء ضعيفات يحتجن إلى الرفق والسماحة.
ربنا سبحانه وتعالى أعطى الرجل القدرة على أن يعاشر أربع نسوة، وما ملك من الإماء، لديه القدرة على أن يتعامل مع أربع نسوة، ويكون صادقاً في تعامله معهن جميعاً، يعني مثلاً يمكن يبث بحبه للمرأة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، لا أحد يقول لي: يا غشاش! أو يا كذاب! والمرأة غير الرجل، ربنا سبحانه وتعالى لما خلق الرجل خلق عنده هذه الطاقة وهذا الصبر، بدليل أنه أعطاه أربعاً، فهو إذا قال للمرأة الأولى مثلاً: أنا أحبك، فهو يحبها، وإذا قال للثانية: أنا أحبك، فهو يحبها فعلاً، لكن المرأة لو قالت لغير زوجها: أنا أحبك؛ فهي كاذبة؛ لأن الله عز وجل لم يجعل لقلبها إلا مكان رجل واحد فقط، بينما جعل للرجل أربعاً، فالرجل لما يوزع في أربع جهات فهو صادق، المرأة لو وزعت في جهتين تكون كاذبة.(85/13)
ماذا بعد رمضان؟!
المسلمون في رمضان يظهر جلياً اهتمامهم بالعبادة والقيام وقراءة القرآن وسائر القربات، بينما يهملون دينهم بقية شهور العام، ومن أسباب ذلك الفتور الذي يعتريهم في سائر أيام العام: سيرهم إلى الله على مركب الرجاء أو كما يسمى (دراسة الجدوى) فيستثمرون أوقاتاً تضاعف فيها الحسنات كليلة القدر مثلاً وكأن عملهم فيها مقبول يقيناً، ولا يلتفتون إلى الأوقات الأخرى، ولو ركبوا في إبحارهم إلى المولى الودود تعالى مركب الشوق والمحبة لما تهاونوا ولما استثقلوا العبادة والطاعة.(86/1)
أحوال الناس بعد رمضان
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعملنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(86/2)
العودة إلى الله وترك التمرد على أمره ونهيه
فإذا كان الله عز وجل يعاملنا هذه المعاملة ومن صفاته الودود، فيا أيها العاصي المدبر عن ربك تبارك وتعالى! إنك لا تساوي شيئاً إذا انحرفت عن دربه، ومن العجب أن الله عز وجل لما خلقه وسواه بشراً سوياً إذا به خصيم لله مبين، يحاد الله عز وجل، رفعت نسبك فوق نسبه فأنا أعلمك بنسبك جملة بغير تفصيل، قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] فهم يعلمون مما خلقوا، جدك الأعلى تراب ووالدك الأقرب ماء مهين، وقد خرجت من مجرى البول مرتين فكيف تستطيل على ربك؟ ولله در الحسن حين قال: (هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم).
أيها المسلم: إن ترك الذنب أهون عليك من طلب التوبة، فإنك قد لا توفق لتوبة، وقد تتوب فلا يقبل منك، فلماذا تلقي بنفسك في المجهول، وقد قدمنا في أول الكلام أنه ما من نهي نهى الله العبد عنه إلا وبإمكانه أن يتبعه، ترك الذنب إذاً خير لك، وأقرب سبيلاً وأشد من طلب التوبة.
أيها الإخوة الكرام! إنه ينبغي علينا أن نحقق العبودية لله تبارك وتعالى في أنفنسا وأولادنا، نعم شهر رمضان شهر طاعات، ولكن الله تبارك وتعالى يحب العبد إذا عبده في وقت غفلة الناس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، وهو حديث زيد بن أرقم في صحيح مسلم، والفصيل هو ولد الناقة الصغير الذي لم يستوِ خفه فهو لا يتحمل حرارة الأرض فيمشي على الأرض قفزاً، هذا الوقت يقدر بأنه قبل الظهر بنحو ساعة ونصف أو ساعة وربع، فإذا صليت لله عز وجل في هذا الوقت فقد عبدت الله في وقت قلما يسجد له فيه ساجد، من الذي يصلي قبل الظهر بساعة ونصف؟ الناس في معايشهم يسعون في الأرض، فإذا عبدت الله عز وجل في هذا الوقت فقلما يسجد لله فيه ساجد، فلك من قبل الظهر بنحو ساعة ونصف إلى قبل الظهر بساعة إلا ربع، فإذا كان قبل الظهر بنحو ساعة إلا ربع تمتنع من الصلاة؛ لأن هذا وقت الزوال إلى أن يؤذن للظهر، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة صلاة الأوابين، والأوابون: جمع أواب وهو الرجاع إلى الله عز وجل، وهذه منزلة من المنازل العظيمة التي إذا حققها العبد كان ناجياً لا محالة، لو ثبت أنه في رتبة الأوابين، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الأوابين لذلك.
إذاً: نفهم من هذا الحديث أنك إذا كنت في فقر فتصدقت فقد حققت أعظم العبادة؛ لأنها كانت عن فقر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، فإذا كنت فقيراً ولأهلك عليك نفقة واجبة فلا تتصدق مع هذه القلة إلا على أهلك، هم أولى من غيرهم، إذا كان عليك نفقة واجبة فقد وجب عليك، فإذا لم تكن عليك نفقة واجبة فأولو الأرحام أولى، لكن الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل).
إذاً: كلما عبدت الله عز وجل وأجبرت نفسك على ذلك كان ذلك أسد لك؛ لأن هذا عنوان الحب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(86/3)
معاملة الله تعالى لعباده مبنية على الفضل
إن من آيات معاملة الله تبارك وتعالى لنا بالفضل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك)، أي: إذا قدرنا أنه بقي على المغرب دقيقتان أو ثلاث دقائق وكان لك عذر في تأخير الصلاة فقمت فأدركت ركعة وركعت، ثم قلت: سمع الله لمن حمده فأذن المغرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فقد أدرك) وهذه معاملة بالفضل، وإلا إذا عاملنا بالعدل رد علينا ثلاث ركعات؛ لأن الثلاث الركعات الباقيات من صلاة العصر إنما صليتها في وقت المغرب، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] لها وقت أول ووقت آخر، فإذا أتيت بركعة واحدة في العصر ثم الركعة الثانية والثالثة والرابعة في وقت المغرب فكان مقتضى العدل أن ترد عليك الركعات الثلاث، لكن الله عز وجل قبل منك ثلاث ركعات أوقعتها في غير الوقت بركعة أدركتها في الوقت، فوهب الكثير للقيل، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً؟ قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)، فهم كانوا أكثر عملاً، من الصباح إلى منتصف النهار مدة طويلة، ومع ذلك عجزوا، أي: ما أتموا ما فرض الله عز وجل عليهم فأعطوا قيراطاً قيراطاً، أي: وزعوا الأجر على العاملين، ولذلك كرر لفظة القيراط كما لو أردت أن تقول: إنك أعطيت فلاناً حقه كاملاً فتقول: أعطيته حقه درهماً درهماً، أي: ليس له عندك حق، فتكرير القيراط إشارة إلى أن كل عامل أخذ أجره على قدر ما عمل.
وأخذ علماؤنا من هذا الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً) أن المرء إذا كلف بأمر فعجز لظروفه الخاصة فإنه يأخذ أجره، ففي بني إسرائيل يأخذ قيراطاً قيراطاً، وعندنا يأخذ أجره كاملاً، وهذا من جملة معاملة الله إيانا بالفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث في الصحيحين-: (إذا سافر العبد أو مرض كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، فإذا كان له ورد من الليل يصليه، أو كان له قيام، أو كان له صدقة، فإذا سافر العبد فلم يستطع أن يعمل مثلما يعمله في بلد الإقامة كتب له أجره كاملاً كما لو كان مقيماً، وإذا مرض العبد فعجز عن القيام بما كان يفعله في حال الصحة كتب الله عز وجل له ذلك كاملاً: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) [النساء:70].(86/4)
دواعي الفتور في العبادة
بعد هذه المقدمة الضرورية وهي: أن الأمر والنهي في إمكان العبد، ف
السؤال
لماذا يفتر الناس بعد رمضان؟ لماذا يقبلون على الله في رمضان ثم يفترون بعد ذلك؟ إذا كانت المسألة عدم الجدية في العبادة فلقد رأيناهم يجدون، إذاً: بإمكانهم أن يجدوا في غير رمضان، إذ لو كانوا عجزة لما أتوا بهذا الجد في رمضان، فإذا كان بإمكانه أن يفعل فلماذا يحجم؟ لماذا هذا الفتور؟ في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأنا ذاهب إلى المسجد في الساعة الواحدة لفت نظري هذا العام أن أغلب المساجد ملأى بالناس، وهذا ليس وقت سعي للعبادة، وليس وقت مكوث في المساجد، إذاً: لماذا عمّر الناس المساجد في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ طلباً لليلة القدر، إذاً: فالناس أذكياء! ويعرفون مصالحهم، ويقبلون إذا وجدوا الأجر، لذلك تركوا فرشهم الدافئة في هذا الشتاء وذهبوا إلى المساجد يصلون لله عز وجل، بينما ليلة ثماني وعشرين لا تجد أحداً في المساجد إلا العمّار الراتبون، ما معنى هذا الكلام؟ أيضحكون على الله؟ أول ما يظن أنه أخذ ليلة القدر يذهب لينام، لماذا هذا التفريط؟ إذاً: الناس تعرف دراسة الجدوى، يعرفون المكاسب والخسارة، لكن بكل أسف لم يحسبوها صحيحة هذه المرة.
إن الله تبارك وتعالى حي قيوم يقبل العمل، سواء عملته في الليل أو في النهار، عملته في رمضان أو عملته في شوال، فهو تبارك وتعالى قيوم {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، وهو تبارك وتعالى يعاملنا بالفضل، فبرغم قصر أعمار هذه الأمة إلا أنها أكثر الأمم أجراً، فقصر أعمارها وبارك في أعمالها؛ حتى أن الحسنة الواحدة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا لا نعلمه لأمة من الأمم قط إلا لأمة المسلمين، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، حتى إن العبد قد يفعل الشيء الذي لا يلتفت إليه فينجو به غداً؛ لأن الله عز وجل قبله منه، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] وألف شهر تعني: (838) سنة وبضعة أشهر وعدة أيام، فإذا قمت ليلة القدر وأصبتها فعلاً فقد أضيف إلى عمرك القصير ثمانون عاماً، فإذا سددك الله عز وجل وكل رمضان أدركت ليلة القدر -إذا قمت العشر الأواخر بجد واجتهاد- فكل سنة تعبد الله عز وجل فيها ثمانون عاماً محسوبة إلى عمرك، فإذا لقيت الله عز وجل تلقاه بعمر قد يصل إلى ألفين أو ثلاثة آلاف عام، فيكتب لك أجر عابد ثلاثة آلاف عام، وهذا لو قدرنا أن رجلاً منذ فرض عليه الصيام من سن الثامن عشر عاماً مثلاً ومات وهو ابن ستين سنة، وصام خمسة وأربعين رمضان، وأدرك في كل رمضان ليلة القدر، فإذا ضربت خمسة وأربعين في ثلاثة وثمانين يصبح معك أكثر من ثلاثة آلاف، فكأنك عبدت الله عز وجل أكثر من ثلاثة آلاف عام، برغم أن عمرك الفعلي لا يجاوز ثلاثين عاماً عند الله عز وجل، فالعمر الفعلي الذي تحاسب عليه أمام الله لا يتجاوز ثلاثين عاماً، إذا مت على رأس ستين سنة، وهذه هي دراسة الجدوى لعمر إنسان مات وسنه ستين سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك).
فلو قدرنا أن إنساناً يموت على رأس ستين عاماً، فهو لا يحاسب حتى يبلغ، والبلوغ قد يصل إلى خمسة عشر عاماً، ثم هو ينام ثمان ساعات في اليوم، إذاً: ثمان ساعات تطرح من ستين سنة تذهب عشرون سنة، تقضى في النوم وخمسة عشر سنة إلى سن البلوغ، وهذه خمسة وثلاثون سنة، فلو قدرت ساعات النوم أيضاً في البلوغ وتختصر خمس سنوات، إذاً: ثلاثون عاماً.
إذاً: رجل يموت وعمره ستون سنة يحاسب عند الله على ثلاثين عاماً فقط، فهل ثلاثون عاماً مهما فعلت فيها توصلك؟ لا توصلك.
ولو عمرت عمر نوح عليه السلام لا توصلك، ولو عمرت عمر إبليس الذي قال لله عز وجل: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]، فلو عمرت من أول ما خلق آدم إلى أن ينفخ في الصور فلن تدخل الجنة بعملك أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
وهناك قصة ضعيفة الإسناد أذكرها على سبيل التقريب لا الاحتجاج، وقد ذكرها الحاكم في المستدرك مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: (أن عبداً عبد الله عز وجل في جزيرة ستمائة عام، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان في الصخر، وأخرج له بقدر الإصبع عيناً عذبة من الماء المالح، فكان يأكل من الرمان ويشرب من الماء ويعبد الله، فسأل الله يوماً أن يقبضه وهو ساجد، فعندما جاء أجله قبضه الله وهو ساجد، ثم قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب بل بعملي! قال: برحمتي! قال: بل بعملي! فقال الله عز وجل: قايسوا نعمي على عبدي بعبادته -ومسألة القيامة مسألة موازين- فأتوا بنعمة البصر ووضعوها في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت الستمائة عام في العبادة أمام نعمة البصر، فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل العبد يستجير ويستغيث ويقول: يا رب، أدخل الجنة برحمتك!! فقال: أوقفوه.
فوقف، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟ برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من الذي أخرج لك قحط رمان في الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: فبرحمتي أدخل الجنة، يا عبدي كنت نعم العبد)!! وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن الأحاديث الصحيحة تنطق على مقتضاه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته آنفاً: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا.
إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فوضع الله عز وجل الآصار التي فرضها على بني إسرائيل عن هذه الأمة، كما قال الله عز وجل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] كان الواحد من بني إسرائيل إذا أصابه البول قرضه بالمقاريض، لا يكفي فيه الغسل ولا يطهره ماء، وإنما يقرضه بالمقاريض، ووضع الله عز وجل هذا الإصر عن هذه الأمة، بل إن الرجل إذا فقد الماء تيمم وصلى وأجزأته صلاته ولا يلزمه الإعادة، وإذا فقد الطهورين معاً صلى بلا وضوء ولا تيمم، وإذا قابله قاطع طريق فأخذ ثيابه كلها وتركه عارياً صلى عارياً وأجزأته صلاته، ولا تلزمه الإعادة، وهذا كله من التيسير الذي امتن الله عز وجل به على هذه الأمة.
حرم الله عز وجل على بني إسرائيل الطيبات: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] حرم عليهم الخبائث وحرم عليهم شطراً من الطيبات فضيق عليهم الحلال، فكان البحث عن الحلال في أيامهم في غاية المشقة، وهذه الأمة لطف الله عز وجل بها، ووضع الآصار التي وضعها على بني إسرائيل عن هذه الأمة.
إذاً: فالله عز وجل يعاملنا بالفضل، فما الذي غرك به وجعلك تُجبر عنه بعد رمضان؟ ألا يحصي عليك بعد رمضان، أو يغفل عنك فلا يراك؟!! لماذا نعامل الله عز وجل هذه المعاملة؟ ولماذا لا نقبل عليه دائماً في كل يوم وشهر؟ هذا عقوق لله عز وجل، وإن الكريم لا يجب عليك أن تعقه فهذا لؤم، ويوشك الله تبارك وتعالى أن يعاقب الذي حلم عليه كثيراً فلم يرجع.(86/5)
شرط الاستطاعة لامتثال الأمر والنهي
من القواعد المقررة في ديننا قول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقول الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6] فكل أمرٍ أمر الله عز وجل به عباده على سبيل الوجوب فبإمكانهم أن يفعلوه، وكل نهي نهاهم عنه فبإمكانهم أن ينتهوا عنه، فليس هناك أمر فوق مقدور العبد أبداً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وليس هناك نهي يعجز العبد عن فعله قط، وهذا شيء مؤكد لا يختلف فيه اثنان قط، والأمر والنهي معاً يشكلان العبادة مع توحيد الله عز وجل، فالعبادة: هي التوحيد، ومقتضى هذا التوحيد من الأمر والنهي، فمن لم يأت بالعبادة -التوحيد ومقتضاه- فإنه لم يعبد الله عز وجل، إذ إن الله قد خلق الخلق ليعبدوه؛ كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] في الرحلة إلى الله أكثر من مركب يُمتطى، فهناك من يمتطي مركب الرجاء، وهناك من يمتطي مركب الخوف، وأعظم الواصلين إلى الله عز وجل هم الذين يمتطون مطية المحبة إليه تبارك وتعالى، فلا تكلف أبداً مع المحبة.
فهذه العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل يجب علينا أن نأتي بها في مكاننا، فإن عجزنا فإلى مكان آخر، لم يخلقك الله تبارك وتعالى لتكون عابداً له في بلدك، بل لو اقتضى الأمر أن تخرج من بلدك ومن أهلك ومن مالك لتحقق العبادة وجب عليك ذلك، فإن لم تفعل ولم تأت ما أمرت به فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:56 - 57] إنما ذكر الموت بعد السياحة في البلدان طلباً للعبادة، كأنه يريد أن يقول لك: كن عبداً لله ومت حيث شئت، المهم أن تحقق العبودية لله، فلا يشترط أن تموت بأرضك وبين أهلك وخلانك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57] وذكر هذا بعد قوله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] أي: حقق العبادة حيثما كنت.
وقد رأيت وأنا أقرأ ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه حقق هذا المعنى، فأيام كان طليقاً كان يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفرق المبتدعة، وفعل هذا الرجل بالمبتدعة ما لم تفعله كتائب من العلماء، فلما سجن وجد المسجونين يلعبون ويلهون، ويقضون أوقاتهم في العبث، فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وقام فيهم بما يجب أن يقوم به العالم، فجمعهم على الصلاة، وأمهم، وشرع يعطي دروس العلم في التفسير والحديث والفقه، فاجتمع المسجونون عليه حتى ذكر الذين ترجموه أن كثيراً من المسجونين لما جاءهم الإفراج أبوا أن يخرجوا، وخرج من بين هؤلاء المسجونين علماء، فهذا الرجل قام بحق العبودية حتى وهو في السجن، فلا يضرك أين ذهبت، المهم أن تكون عبداً لله عز وجل.(86/6)
امتثال شرع الله محبة له تعالى
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام! إذا كان الله عز وجل ودوداً يتودد إلى عباده، ويتحبب إليهم بنعمه، فنحن نعلم يقيناً أن المرء لو رزق النبل وسلامة الأصل لا يقابل فعل الكريم بلؤم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فأي رجل عنده نبل لا يعق ربه أبداً، من قرت عينه بالله قرت به كل عين، وأنس به كل مستوحش، وأمن به كل خائف، وفرح به كل حزين، وعز به كل ذليل، وجرب من عق ربه عز وجل أرسل طرفك معه وهو يعامل عباد الله، لا يخلو من لؤم أبداً، أما الإنسان الأصيل فلا يعق ربه.
فإذا كان الله عز وجل يتحبب إلينا بذلك ونحن نُدبر عنه فيا ترى! ما هو العلاج؟ وما هو الحل؟ الحل أن تحب ربك، إنك إذا أحببته وهو أهل للحب لا يحب لذاته إلا الله، لا نبي ولا ملك، يحب لذاته، وإنما أحببناهم لأن الله قربهم، ولأن الله عز وجل اجتباهم واصطفاهم على العالمين؛ لذلك أحببناهم، ولو نزع الله عز وجل منهم الاصطفاء لأبغضناهم، إذاً: فلا يحب لذاته إلا الله عز وجل.
إذا حققت معنى العبودية لم تر مشقة لأمر ولا لنهي، إن راكب مركب الحب لا يضل، الحب مطية لا يضل راكبها، والعبادة بالحب وإن قلت أفضل من العبادة بالخوف وإن عظمت وزادت، ولذلك ترى في عبادة المحبين من الروح مالا تراه في عبادة غيرهم؛ لأنهم يعبدون الله عز وجل حق عبادته، ولله در أبي الطيب المتنبي لما قال وهو يقرب هذا المعنى: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سرّكُمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمو ألم هذا عنوان صدق المحبة! طالما أنه راضٍ فلا أشعر بألم الجرح، وفي بعض الأدعية التي تعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنها بسند ضعيف أنه كان يناجي ربه، فيقول: (لك العتبى حتى ترضى، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) وهذا هو معنى الحب، فإذا أحب الله عز وجل ورضي فلن تشعر بأي تكليف، ولا بأية مشقة، ولله در الشاعر المجيد أبي الشيص الذي قال أيضاً في توضيح هذا المعنى: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخراً عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إذ كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم إن علاج هذا الإدبار أن تحب ربك.
ونحن نقول للداعين إلى الله عز وجل: لا تبغضوا الله إلى الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الناس: (إن منكم منفرين)، فالمفتي إذا كان هناك وجهان في الدليل: شديد ويسير، فلا جناح عليه أن يأخذ في خاصة نفسه بالأشد، بحسب ورعه، لكن لا يجوز له أن يحمل الناس على الأشد إن كان اليسر له وجه في الدليل، فإذا حمل الناس على الأحوط فالأحوط فهو من المنفرين؛ لأن الأحوط فالأحوط معناه: الأشد فالأشد فالأشد، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) إذاً: حببوا الله إلى الناس، وكان علي بن أبي طالب يقول كما رواه البخاري في صحيحه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فاترك المجهول بالنسبة للناس الذي لا يضرهم الجهل به، وعليك بالمعروف.
لما جاء عثمان بن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم) رعاية للضعيف، فإن القوي لا يضره إذا قصرت الصلاة لكن الضعيف يضره إذا طالت الصلاة، فقال: (اقتدِ بأضعفهم)، ولما (صلى معاذ بن جبل بقومه فافتتح صلاة العشاء بالبقرة ترك شاب الصلاة وصلى في ناحية المسجد وحده وانصرف، فقيل لـ معاذ: إن فلاناً ترك الصلاة خلفك، فقال: (إنه لمنافق) فبلغ ذلك الشاب، فشكى معاذاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟) فالشاب شكى للرسول عليه الصلاة والسلام، قال له: نحن أصحاب نواضح، نسقي طوال النهار، ونحن متعبون من العمل، وهذا يصلي معك العشاء ثم جاء فافتتح البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك: (أفتان أنت يا معاذ؟ هلّا صليت بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى) فلما سمع الشاب قول معاذ: إنه لمنافق قال الشاب: (سيعلم غداً)، فلما كانت أول غزوة قتل هذا الشاب فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ما ظنك؟)، أي: أين ذهب ظنك، وهل صدق لما قلت عنه: إنه منافق؟ إن الله تبارك وتعالى يقبل الصلاة من الخاشع الخاضع ولو كانت بالحد الأدنى منها، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واقتدِ بأضعفهم) ليس المقصود بها الصلاة فقط، بل هذا قانون، فإنك إذا حملت الناس قسراً على عبادة الله عز وجل ولم يكن عندهم من المحبة ما يقاوم ذلك أدبروا؛ لذلك كانت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما، وهكذا عليك أن تكون بشرط: أن يكون للأيسر حظ من الدليل، ليس أن تذهب فتأتي بالرخص، وترخص للناس كل شيء بلا دليل، لا، بل الشرط أن يكون له وجه في الدليل.
فمحبة الرحمن تبارك وتعالى هي التي تسهل عليك العبادة، فلا ترى فيها تكلفاً ولا مشقة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، وكل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(86/7)
وسيلة دفع الهم [1]
إن أعظم وسيلة لدفع الهم الذي يبتلينا به الله عز وجل ويكفر به من خطايانا هي دعاء الله عز وجل واللجوء إليه سبحانه، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الوقوف بين يدي الله والتضرع إليه طمعاً في تفريج الهموم وكشف الكربات، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أدعية إذا دعا بها العبد ربه مستشعراً فقره إليه، وحاجته إلى إحسانه وفضله، فإن الله يبدله بضيقه سعة، وبهمه فرجاً.(87/1)
شرح حديث كشف الهم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسم مربعاً على الأرض، ومد خطاً من داخل هذا المربع إلى خارجه، وخط خطوطاً قصاراً حول هذا الخط الطويل داخل هذا المربع، ثم قال: (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به، وهذا أمله -وأشار إلى الخط الطويل الذي خرج من هذا المربع- ثم أشار إلى الخطوط القصيرة، وقال: وهذه الأعراض إذا نجا من عرض نهشه الآخر) فهذا يبين لنا أن المرء من يوم ولادته إلى زمن موته وهو عرضة للمصائب والآلام، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
إذا كانت الحياة كذلك فلابد من دواء، وقد تعددت الأدوية القرآنية والنبوية، ومن أحسنها ما رواه ابن حبان وأحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما يصيب المسلم من هم ولا حزن، فيقول: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يبدل همه فرجاً، وحزنه فرحاً، قالوا: يا رسول الله! أفلا نتعلمهن؟ قال: حق لمن سمعهن أن يتعلمهن).
(حقٌ) أي: واجب وفريضة، ومن سوف نبين المعاني التي اشتمل عليها هذا الحديث العظيم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (حقٌ) أي: صار واجباً وفريضة لمن يسمع هذا الحديث أن يعلم معناه.
إن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره، فإذا لم يفهم المرء المعاني نقص إيمانه جداً، وكلما علم معاني القرآن والسنة ازداد إيماناً، ولذلك لما سئل علي بن أبي طالب كما رواه البخاري في صحيحه: (أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ قال: لا.
إلا فهماً يؤتاه الرجل في كتاب الله)، فالفهم منحة من الله عز وجل، قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]، وقال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] حتى لا يتصور المستمع أن هذا نقص في داود عليه السلام، فقال: (ففهمناها سليمان) وكل على خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) أي: في الإيمان الذي عند هذا الضعيف، فكان هذا الخير عنده.
فالفهم في كلام الله ورسوله مُورثٌ لزيادة الإيمان، وما منا من إنسان إلا أصيب أو ينتظر مصيبة؛ لأن الله عز وجل قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، أي: في معاناة ومشقة، فالذي يتصور أنه من يوم أن يولد إلى أن يموت لا يبتلى فقد ظن باطلاً وعجزاً، ومن دخل الحرب وهو يظن أنه لا يصاب فقد ظن عجزاً.(87/2)
معنى قوله: (أسألك بكل اسم هو لك)
وقوله: (أسألك بكل اسم هو لك) نزه الله عز وجل قبل أن يسأل، فاعترف بالعبودية والذل وخلع حوله وقوته، وأثبت العجز الكامل لنفسه، وأن الله حكيم لا يفعل الشيء إلا لحكمة، وأثبت أن ما نزل به من المصيبة فبما كسبت يده، بعد كل هذه الديباجة بدأ يسأل: (أسألك بكل اسم هو لك) وأيضاً قبل أن يسأل بدأ بالثناء على الله: (بكل اسم هو لك)، والأسماء والصفات أعظم الأبواب لزيادة الإيمان.
وروى أبو ذر الهروي في فوائده أن خالد بن صفوان دخل على هشام بن عبد الملك، فكان خالد بن صفوان خطيباً بليغاً، فقال خطبة طويلة بين يدي هشام يذكره فيها بما أنعم الله عز وجل عليه، وبامتداد ملكه، وبما له من الشوكة والسلطان والاستقرار، وقال: فإن شئت يا أمير المؤمنين ذكرت لك مثلاً من الملوك قبلك، فقال له: قل.
قال: كان ملك قبلك وكان شاباً فتياً، وله مملكة رائعة كلها خضرة وزهور، وبينما هو جالس في هذا النعيم إذ قال لحاشيته: هل تعلمون أحداً فيما أنا فيه؟ قالوا: لا.
وأثنوا عليه وأطنبوا، فقال شيخ كبير أدبه الحق، وقام لله بالحجة، فقال: أنا أقول لك! قال: قل.
قال: هذا الذي أنت فيه شيء أصيل أم ورثته عن غيرك، وهو سيكون إلى غيرك؟ قال: بل ورثته عن غيري ويكون إلى غيري، قال: إذاً فما يفيد ما أنت فيه؟ قال: ويحك! وما المهرب؟ قال: أن تعمل بأمر الله على ما أمرك وأعطاك وأسعدك، أو تخلع هذا التاج وتسيح في الأرض فتعبد الله؟ قال: أمهلني حتى السحر، فإذا كان السحر فاقرع بابي فإني متدبر في هذا الأمر، فلما كان السحر قرع الباب فإذا به يجد الملك قد خلع التاج ولبس أطماراً باليه، وقال: أرضى أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، ولو رضيت بالملك لاتخذتك وزيراً، وقد رضيت بالسياحة فاخترتك رفيقاً، فدخل هذا الرجل ورفيقه في جبل فعبدا الله حتى ماتا، فلما سمع هشام ذلك بكى حتى اخضلت لحيته، وأمر بما كان من الطنافس وفأخرجت، فناله بعض حاشيته -أي حاشية هشام - وقالوا: كدرت عليه، ونغصت عليه، فقال: إني عاهدت الله عهداً ألا أدخل على ملك، إلا قمت بما أوجب الله عليَّ من النصح.
لقد ترجم خالد بن صفوان مظاهر الجلال لرب العالمين: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40] مع أن الآيات كان يمكن أن تكون: (إنا نرث الأرض) والمعنى مستقيم، لكن جاء ضمير العظمة المنفصل (نحن)، ويضاف إلى ضمير العظمة المجاور له (إنا)، و (نرث) أيضاً ضمير عظمة، فالإنسان إذا راقب جملة معاني أسماء الله عز وجل ازداد بها إيماناً، وإذا راقب نعوت الجلال انكسرت رقبته، وإذا راقب نعوت الجمال تعلق به، وإذا راقب الأمر والنهي امتثل وخف عليه التكليف، وإذا راقب صفات التوكل وأن الله عز وجل يدفع عن عبده ويقيه قوي قلبه على التوكل، وإذا راقب مقتضى السمع والبصر أورثه ذلك الحياء من الله، من أن يقيم على معاصيه، أو أن يسمع منه ما يكره.
هذه هي معاني أسماء الله عز وجل، ولذلك تأمل آخر الآيات: (إنه هو: الحكيم، العليم، القدير، الخبير، العزيز) وراقب هذه الصفات وتدبرها مع الآية تجدها في غاية الروعة، وأن غيرها لا يغني عنها: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9] لا تكون (العزيز الحكيم)، فالرحمة هنا تقوم أكثر من مقام الحكمة، وتدبرها.
قوله: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك) وهذا يدل على أن بعض الأسماء خاصة، لا يعرفها إلا بعض الناس، أو آحاد الناس، كاسم الله الأعظم، وإنما يعلمه الله بعض عباده: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) أي: لا يعلمه أحد قط، وفي هذا دلالة على أن أسماء الله لا تحصر في تسع وتسعين بل هي أكثر من ذلك، وهو الذي عليه جماهير العلماء، وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) لا يفيد الحصر، ولا يحصر أسماء الله في التسعة والتسعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(87/3)
معنى قوله: (ماض فيَّ حكمك)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ماضٍ فيَّ حكمك) لا يستطيع أحد أن يرد قضاء الله عز وجل وحكمه الذي نفذ: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73] {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، لكن بعض الناس يقول عن نفسه: (الحق والحق أقول) وهذا خطأ، فلا يجوز لبشر أن يقول عن نفسه هذه العبارة؛ لأنه ما من إنسان إلا وكلامه يشتمل على بعض الباطل، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، وهذا لا يقوم به إلا رب العالمين ورسله، أما الذي لم يعصم فإن كلامه يشتمل على بعض الباطل وإن كان رجلاً فاضلاً.
والذي يجري في المحاكم الآن من المعارضة والاستئناف يدل على أن القاضي الأول لما حكم ما تحرى العدل، فيضع أقصى عقوبة حتى وإن كان الجرم لا يستحق ذلك، لأن هناك استئنافاً للحكم، وبعدما يحكم عليه بالإعدام يكون براءة، كيف هذا؟ لأن عندنا مسألة النقض والإبرام، والأصل أن يجتهد القاضي في الحكم وفي النظر إلى أصول الشريعة، وبالنظر إلى دوافع الخصم، ويدرس القضية دراسة جيدة ثم يحكم، هذا هو الواجب، لكن هذا بداية يقول: أطالب بالإعدام!! لماذا؟ لأنه يعرف أن هناك مسألة أخرى، والمحامي يقول لهم: هذا حكم ابتدائي، أي: باطل! فالقاضي ألقى الكلام على عواهله؛ لأنه يعلم أن هذا الحكم سينقض، أو سيخفف، إذاً: لم يكن محقاً عندما تكلم بهذا الكلام، أما رب العالمين فحكمه ماضٍ؛ لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] لا استئناف ولا نقض ولا إبرام، كل هذا لا يوجد عند الله تبارك وتعالى.
ولذلك إذا ظلمت في الدنيا أخر الحكم للملك تبارك وتعالى؛ مع أنها مرة، لكن سوف تنصف غداً، ومع ذلك أقول لك: لن يمضي خصمك في الدنيا بسلام، فالظالم لا يظلم رجلاً واحداً.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم وهذا كلام المتنبي، يقول: (الظلم من شيم النفوس) إلا إذا أوّلنا الكلام بأن هذا أصل الإنسان؛ أي: أن المرء خلق ظلوماً، وهذا حق، فقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأصل الإنسان أنه ظلوم لنفسه، لا يظلم لأنه رجل في نفسه، وإنما هناك علة منعته من الظلم، والعلل عند الناس كثيرة، فأهل الإيمان العلة العظمى عندهم: مخافة رب العالمين، وكفى بها علة شريفة يشاد بها، والإنسان لا يظلم؛ لأنه يخاف الله، وآخر لا يظلم؛ لأنه لا يقوى على إيصال الظلم والانتقام فهو عاجز، فيسكت، أو أن له مصلحة، فهذا الظالم لا يظلم نفراً دون نفر وإنما ظلمه فاشٍ، فإذا تركت الدعاء عليه أصابه سهم آخر لمظلوم آخر؛ فلا بد أن يصاب.(87/4)
معنى قوله: (عدل في قضاؤك)
حكم الله ماضٍ، وهذا يطمئن القلب: (ماضٍ فيَّ حكمك -أي: أنا لا أملك من أمر نفسي شيئاً فعله- عدل فيَّ قضاؤك) ففرق بين الحكم والقضاء، وهناك نفر من الناس يبغضون الله إلى الناس، فيقولون: إن الله عز وجل يظلم ومحض العدل عنده سبحانه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، فالمؤمن قد يقلب عمله إلى سيء ويدخله النار، والفاسق من الممكن أن يدخله الجنة، وهذا صحيح في جملته، لكن لابد أن يكون هناك كسب من العبد أدى إلى النهاية، وإلا فنحن نقطع أن رب العالمين لا يسوي بين مَن عمل الصالحات وبين مَن عمل السيئات، من عمل صالحاً وأتى بالإيمان فنحن نجزم أنه من أهل الجنة، ومن تاب وأتى بالتوبة على أركانها وشرائطها وواجباتها فنحن نجزم بأن توبته مقبولة.
وقد جعل الله إبليس بدلاً من أن كان طاوس الملائكة -على قول من يقول بذلك وليس بصحيح- جعله مخلداً في النار، فيقولون: هكذا قضى الله عز وجل، سبحان الله! إذا كنت لا تأمن مكر ربك بمعنى: تعمل الصالحات فيقلبها عليك، فمتى يطمئن قلبك إلى الله؟ متى يتشجع المرء على عمل الصالحات إن كان الله عز وجل يقلب عمله الصالح (100%) إلى السيئ؟ هذا محال!! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] هذا لا ينبغي ولا يليق، وإنما يرتكب العبد شيئاً لا يعلمه الناس فيكافئه الله بما في قلبه، هذا هو الفارق بين الأمرين، لا أن من عمل الصالحات وآمن بالله عز وجل أن الله يقلب ذلك عليه، لا يكون ذلك أبداً!! إن الذين يحتجون بهذا القول من أهل البدع إنما يحتجون بدليل صحيح لكن ليس فيه دلالة، أو بما لا يصح وإن كان فيه دلالة، إن الله تبارك وتعالى من أسمائه: العدل، فلا يسوي بين من أطاعه وعمل الصالحات من قلبه وبين من أظهر للناس العمل بالصالحات وليس في قلبه مقتضى لهذا العمل، هذا هو الفرق، وإلا كيف تحب ربك؟ وأضرب لك مثلاً -ولله المثل الأعلى- تخيل أن لك امرأة خائنة لا تأمن غوائلها، ومن الممكن أن تضع لك سماً في الأكل، هل ستأكل؟ أو من الممكن أن تذبحك وأنت نائم، أتنام؟ تخيل أن هذه المرأة خائنة، أو العكس هناك امرأة زوجها هكذا، فهل من الممكن أن تأمن وتطمئن.
فإذا كان الأمر كما يقولون فمن لهؤلاء العصاة الذين عصوا الله عز وجل وأرادوا أن يتوبوا ويرجعوا من قلوبهم فعلاً؟ من لهم إذا كانوا يصورون الله عز وجل كذلك؟ إن ربنا عز وجل أولى بالوفاء، ولذلك تهوي الأفئدة إليه؛ لأنه يغفر الزلة ويمسح الحوبة، وقد يخرج الرجل من جبّ المعاصي فيضعه في قمة الولاية؛ لأنه عبده، فالله تبارك وتعالى أولى بذلك، وهؤلاء هم الذين يحتجون بالقدر على المعاصي، وهم الذين أساءوا الظن بالله عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:23] ليس الله كذلك، لكن من ظن أن الله كذلك عامله على مقتضى ظنه فأهلكه.
نسأل الله عز وجل أن يعافينا من سوء الظن به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إذا اعتقد المرء أن قضاء الله عدل ازداد إيمانه؛ لأن الذين يسخطون على الله عز وجل يظنون أن الله ظلمهم، فإذا أصابته مصيبة قال: لماذا يا رب من دون كل هؤلاء اخترتني؟ أليس كثير من الناس يعترض على ربه بهذا؟ يسيء الظن بالله ويسخط عليه، ومن سخط فعليه السخط، فإذا اعتقدت أن الله عدل في قضائه وأصابتك مصيبة فقل: هذا بذنب! وأنا أستحق ذلك، بل الله لطف بي؛ لأنه لم يعجل لي وترك لي فرصة أن أتوب وأرجع.
وهناك من الناس من لا يرجع، {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، لا يرجعون من تلقاء أنفسهم، فكلما أصابتك مصيبة قل: أنا أستحق ذلك، وقل: بل لطف بي ربي، ولو عجل لي ما تبت، كم من حسرات في بطون المقابر، كثير من الذين ماتوا كان الواحد منهم يتمنى أن يتوب، لكن أهلكته السين وسوف، وسأتوب وسأتوب فاعتقاد أن الله عز وجل عدل هو مقتضى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، رجل يبتلى بالوسوسة في أهله، وهذه ظاهرة بدأت أرى لها غباراً، يسيء الظن في زوجته مثلاً، ليس لأنه غيور، لكن لأنه خائن، إنه ابتلي على نحو ما فعل بالآخرين، لو قلب في صفحاته لوجد أنه خان أيضاً، ولم يكن نبيلاً، ولم يكن ذا عفة، ولم يكن محترماً، فابتلاه الله عز وجل بهذا، وهذه ليست غيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يحب الغيرة في غير ريبة) فإذا لم تر من امرأتك ما يدعو إلى ذلك، فلا توسوس وتقول: أنا غيور، هناك فرق، لكن العاقل الذي لا يكذب ولا يخدع نفسه لو فتش لوجد أن حياته تشتمل على خيانات، فنزع إطار الله عز وجل السكينة من قلبه خشية أن يخون أهله، والعكس أيضاً، والجزاء من جنس العمل.
وهذا عدل من الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فالخداع منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء؛ لأنه منه مجازاة فكان أحسن شيء، ومنهم لؤم؛ لأنهم يخدعون الذي لا يخدع فكان أقبح شيء، مثل المكر تماماً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فمكره أحسن شيء، ومكرهم أقبح شيء؛ لأنه يمكر بالقوي الكبير، المتعالي العلي القدير، الخبير اللطيف، وإنما الله عز وجل رد عليهم مقتضى فعلهم؛ لذلك كان فعله أحسن شيء تبارك وتعالى.
وعندما تصيب الإنسان مصيبة يعلم أن الله لا يظلم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] أفمثل هذا الرب العظيم يظلم؟ {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لا يظلم أي شيء، فـ (شيئاً) نكرة ومنفية، فاعتقاد أن الله حكم عدل يعينك على التوبة، وأن ترجع فتذم نفسك لا أن تلقي باللوم على ربك: (عدل فيَّ قضاؤك).(87/5)
معنى قوله: (اللهم إني عبدك)
سن لنا النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً ندعو به يشتمل على التوحيد وعلى العبودية: (اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) أي: أنا عريق في العبودية، عريق النسب، ضارب الجدود في العبودية، فأنا عبد وأبي عبد وأمي أمة.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكثر من ذكر هذا البيت في جلوسه وقيامه، ومشيه وسفره وترحاله، قائلاً: أنا المكدي وابن المكدي كذلك كان أبي وجدي أي: كلنا خدم، وطيلة عمرنا ونحن مماليك خادمون للملك، (أنا المكدي) أي: أعمل بالأجرة، مكدود، و (كذلك كان أبي وجدي) أيضاً، كلنا خدام للملك، ومماليك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
فاشتمل هذا على الإقرار بعبوديته لله عز وجل، وأكثر ما ينغص على الناس في شأن الإيمان: خروجهم من العبودية، وخذ مثلاً: رجل تقدم لوظيفة، فقال: أنا لا آتي إلا مرة في الأسبوع، أو قال: لا آتي إلا شهراً في العام، وآخذ العمل وأعمله عندي في البيت، من الذي يقبل منه هذا إذا ذهب إلى مصلحة حكومية أو إلى أي وظيفة؟! فهؤلاء الذين يناديهم المؤذن فلا يأتون المسجد إلا يوم الجمعة، أليس هذا كالذي يقول: أنا لا آتي العمل إلا مرة في الأسبوع، وهذا الرجل سيفصل قطعاً؛ لأن العمل له ضوابط ولوائح، وسيفصل قطعاً إذا استمر على هذه السياسة، كالذي يقول: أنا لا آتي المسجد إلا يوم الجمعة أو لا أصلي إلا في رمضان كما هو شأن كثير من الناس، وأنا أنظر إلى صلاة القيام شعرت بغصة في حلقي، أين الناس؟ أين ذهبوا؟ لماذا هذا الجحود؟ لماذا تعاملون الله هكذا أيها المحقرون؟ فإذا كنا معاشر البشر لا نرضى هذا لأنفسنا وفي أعمالنا، فكيف نرضاه لله تبارك وتعالى، وهو الغني عن طاعة الطائع ولا يضره عصيان العاصي؟ فالعبودية أمرها عظيم للدين كله، ما أرسل الله الرسل ولا أنزل الكتب إلا لتحقيق أمر العبودية، فمن تمام العبودية ألا يكون لك أمر مع سيدك: {اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك} هناك استعطاف، إذاًَ: مبدأ الأمر كله ذل وخضوع، وهذه هي الصفة الملازمة للعبودية.(87/6)
معنى قوله: (ناصيتي بيدك)
الناصية: هي الشعر الذي في مقدم الرأس: {يؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] فالناصية: التي يؤخذ المرء بها، مثل الجمل الأنق، إذا وضعت الحلقة فمه الجمل فإن أصغر ولد يسحب هذا الجمل الطويل العريض، فهذا شأن الناصية عندما تؤخذ، فيكون الإنسان بعدها مسلوب الإرادة، لا يستطيع المشي، والناصية إشارة إلى التفكير.
والأقدام هي الموجه، فإذا أخذ بالقدم لا يستطيع المرء السير، كما قال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]، ومعنى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] أي: رجل متعسر الخطو إلى الله، كالرجل الذي يمشي فالتفت ساقه وهو يمشي، فيسقط على الأرض مباشرة، هذا هو معنى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29]، لا أنه إذا مات التفت ساقاه، لا.
نحن نرى الموتى الساق بجوار الساق، فلا تلتف ساق على ساق لا في خروج الروح ولا بعد الموت، وإنما المعنى: أن هذا رجل متعسر الخطو إلى الله، ويدل على هذا تتمة الآيات: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] فبأي وجه يلقى ربه تبارك وتعالى، فهذا متعسر الخطو، فالأخذ بالأقدام عجز عن المسير فقوله:.
(ناصيتي بيدك) أي: أنا لا أتوجه إلى وجهة إلا بإذنك، وينبغي على العبد أن يتوجه إلى الله من تلقاء نفسه لا يجر جراً، إن الذي يجر إلى الله جراً لا خير فيه، بل السماء خير منه؛ لأن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وقال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فمعنى (ناصيتي بيدك) أي: أني لا أملك من أمر نفسي شيئاً، وهذا هو المناسب لمفتتح الدعاء: (أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) فما يتصور أن يكون له اختيار مع الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وهناك حديث موضوع يذكره الخطباء والناس بخصوص هذا الشأن وهو: (عبدي! أنت تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا كذب، لا أقوله وأنسبه إلى رب العالمين، وإنما فحوى النصوص تؤيده، وهذا معنى ناصيتي بيدك، (عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمتني فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلمني فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا الكلام حق في معناه؛ لأن النصوص كلها تؤيده، لكن لا أنسبه إلى رب العالمين كقول، والقرآن والسنة مليئان بهذا، بأن الله عز وجل إذا أراد أن يذل عبداً رزقه بشيء، وجعل تلفه فيه، وأهلكه به.
إن كثيراً من الناس الذين لم يرزقهم الله عز وجل الولد يتقلبون على جمرات الغضب، ويبيتون يرعون النجوم: اللهم ارزقنا ولداً، فإذا لم يرزقهم الله الولد، يتكدر خاطرهم لذلك، مع أنه قد يرزق بالولد ويشقى به إلى أن يموت، ويشقى به، أي: يحبه غاية الحب، وبعض الناس يحبون أولادهم إلى درجة أنهم يمنعونهم من الخروج إلى الشارع، فيعذبونهم بذلك، وهذا الولد في آخر المطاف لابد أن يسعى في الناس ويتعامل معهم، فإذا مات أبوه ولم يأخذ منه الخبرة في كيفية معاملة الناس شقي فيهم، وعاش حياته كلها شقياً، فبعض الآباء أحب ابنه غاية الحب حتى أنه سلب عقله فلا يستطيع أن يعمل عملاً حتى يتصل في كل وقت ويقول: هل خرج الولد؟ لعل سيارة تصدمه، أو يضربه الأولاد، وحياته كلها كذا، ولما كان وحده كان خالي البال، وكان أفضل من ذلك.
فلذلك شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما نكره أن نقول: (قدر الله وما شاء فعل) أي: ما شاء فعل وهذا قدره، فكل شيء يكون في هذه الدنيا إنما يكون على وفق ما أراد الله، فإياك أن تضع اختيارك في مقابل اختياره فتشقى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] إذا اختار لك فلا تختر لنفسك، فإنك لا تدري ما تحت شراك نعلك.
كثير من الناس الذين يخرجون ويموتون أو يصابون بمصائب لم يخطر ببالهم قط أن يصابوا، والخير أقرب إلى شراك النعل والشر كذلك كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا سلم العبد بأن ناصيته بيد الله تبارك وتعالى سهل عليه ما يأتي بعد ذلك من حكم الله عليه وقضائه.(87/7)
وسيلة دفع الهم [2]
إن المتأمل في أسماء الله تعالى يجد فيها الكثير من المعاني التي تجعل العبد يستشعر عظمة الله تعالى؛ لأن عظمة هذه الأسماء والصفات تدل على عظمة المسمى والموصوف بها جل وعلا، ودعاء الله عز وجل بأسمائه، واستجداؤه بكامل صفاته لهو من أوفق أسباب إجابة الدعوات وتفريج الكربات.(88/1)
التفكر في أسماء الله تعالى وصفاته
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وبعد: فهذه دعوة إلى محبة الله تبارك وتعالى بالنظر في أسمائه وصفاته، كل اسم من الأسماء الحسنى له معنى خاص ومعنى عام يلتئم مع بقية الأسماء، وكلما تدبر المرء طائفة من أسماء الله عز وجل التي تحمل معنى الجلال، مثل: الحي، والقيوم، والعظيم كل هذه تؤدي معنى الجلال على تفاوت بينها في المعنى، فكلما جمع المرء طائفة من الأسماء التي تختلف في المعنى العام سهل عليه أن يتدبر أسماء الله عز وجل، ثم ينظر في الكون ليرى أثر هذه الأسماء، ولا يعرف كيف يصل إلا إذا تدبر القصص وتدبر القرآن والسنة.
قصة الخشبة فيها تدبر معنى الكفالة، فأنت تعلم أنك عندما تعمل توكيلاً رسمياً لإنسان فهو قائم مقامك، وهذا شيء متعارف عليه عند الناس جميعاً.
فأنت عندما تقرأ اسم الله (الوكيل) فهو يقوي قلبك على العطاء، وقصة الخشبة عندما حكيتها في الإمارات أثرت جداً في رجل سمعها لأول مرة، وأثرت فيه كلمة واحدة في الحديث، والكلمة هذه وردت في رواية في صحيح ابن حبان، وإن كان الحديث رواه البخاري وانفرد دون مسلم.
عندما التمس الرجل مركباً وذهب إلى صاحبه بألف دينار أخرى بعدما رمى الألف دينار الأولى في البحر في الخشبة قال له: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: هذا أول مركب.
قال: ارجع فقد أدى عنك وكيلك) هذه القصة كان لها أكبر الأثر، كأنها غزت قلبه: (ارجع فقد أدى عنك وكيلك)! والوكالة هذه إنما نقولها في باب العهد، إذا تعاهدنا على شيء.
إياك أن تجعل الله كفيلاً ووكيلاً وتخونه احذر! لو تحققت بأسماء الله عز وجل قوي قلبك وعلمت أنه لن يضيعك، والرجل لما جاء وقال: (اعطني ألف دينار.
قال له: ائتني بشهيد، قال: كفى بالله شهيداً، فأعطاه الألف دينار)؛ لأنه قلبك يقوى بوكالة الله، لاسيما إذا كان الحال لا يدل على ذلك.
وبعد ذلك لما حان موعد الوفاء جعل الرجل يسأل عن صاحبه، لأنه تأخر عليه، وكان من المفروض أن يأتيه في الموعد، فمر يوم ويومان وثلاثة والرجل لم يأت، فرفع رأسه إلى السماء وقال: (ربي إني أعطيت بك فأخلف عليَّ) خدعني بك، وكان يقول لي: كفى بالله شهيداً وكفيلاً ووكيلاً، وأنا لأنني أحبك وأعظمك قبلت بشهادتك، فأخلف عليَّ؛ لأن المال ذهب وانتهى، فأساء الظن بصاحبه.
والآخر لما رمى بالخشبة في البحر قال: (يا رب! جعلتك كفيلاً ووكيلاً، أنا قلت له: كفى بالله وكيلاً، كفى بالله شهيداً، وأنت وكيلي في هذه المسألة، فخذ هذا المال) فوثق بوكالة الله، ولو وكَّل إنساناً غداراً خائناً فإنه سيبيعه ويبيع أملاكه، ولا يمكن أن إنساناً آنس غدراً من إنسان أن يعمل له توكيلاً أبداً، لكن لما قال: (جعلتك كفيلاً ووكيلاً) والرجل تحقق بمعنى الوكالة، قال الآخر: فأنا كذلك لست أقل منه، جعلتك كفيلاً ووكيلاً، فأوصل هذا الدين إلى صاحبه، فتحقق هو بمعنى الوكيل، والوكيل بمعنى: الشهيد.(88/2)
تحت كل محنة بشرى [2]
إن التفاف الساق عند الموت -المذكور في القرآن- هو تعثر السير إلى الله، وليس هو الالتفاف الحسي، ومذهب أهل السنة هو اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، أما التفسير الإشاري ونحوه فهذا من آثار الصوفية والرافضة.
كما أن الإرجاء هو تأخير العمل عن الإيمان، والصحيح أن يقال: العمل جزء من الإيمان ولا يقال: هو شرطه.(89/1)
معنى التفاف الساق عند الموت
قال الله عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * =6005577>وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *
الجواب
=6005578> وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ *
الجواب
=6005579> وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
السؤال
هل كل ميت تلتف ساقاه؟
الجواب
لا، وإن التفت ساقا ميت فهذا قليل.
ومعنى التفاف الساق في الآية يظهر بتأمل الآيات وما بعدها، فقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي: الروح، ((بلغت التراقي)) يعني: على وشك الخروج.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}: يعني هل هناك راق يرقيه من هذا الخطب الفادح أو طبيب يشفيه؟ وبعض العلماء فسر الآية {مَنْ رَاقٍ} أي: من الملك الذي يرقى بروحه؟ ولكن التفسير الأول أقوى؛ لأن الميت إذا مات فهناك ملائكة موكلون بأن يرتفعوا بروحه، ولا حاجة لأن يقول أحد لأحد: من الذي يرتفع ومن الذي يحمله؟ إنما {مَنْ رَاقٍ} يعني: هل من راق يرقيه أو طبيب يدفع عنه العلة.
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} لو أن أحداً أراد أن يمشي فالتفت ساقاه فإنه لا يستطيع أن يمشي، ولهذا بعدها مباشرة قال: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}، وهو لا يستطيع المشي، فهو ذاهب إلى الله، لكن هو ذاهب إلى الله كمن التفت ساقاه فلا يستطيع أن يمشي، ولذلك في آخر هذا كله قال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] ومصداق هذا في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حمل الرجال الجنازة الفاجرة على أعناقهم صاحت بصوت يسمعه الخلائق إلا الثقلين -الإنس والجن-: يا ويحها! أين تذهبون بها؟!) لما تعاين من عذاب الله تبارك وتعالى فهذا متعثر الأقدام، متعثر السير إلى الله كمن التفت ساقاه وهو يمشي، ومع ذلك لابد أن يساق، سواء استطاع أن يمشي أولم يستطع فهو يساق، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}(89/2)
بيان مذهب أهل السنة ودعوتهم
السؤال يقول: ما هو مذهبكم؟ وما هي دعوتكم التي تدعون الناس إليها؟
الجواب
إننا جميعاً نتكلم عن الإسلام، وكلنا يدل الناس على الله، لكن هناك بعض الناس يدل الناس على غير الله: إما بجهل وحسن نية وإما بعمد.
مثلاً: الحادي إذا لم يكن عليماً بطرق الصحراء كانت دلالته للقافلة مصيبة! ولو أن رجلاً غريباً في بلد، وأنت أيضاً غريب، فسألك أين محطة القطار؟ فأشرت عليه بخلاف الصواب، فسيذهب إلى حيث أشرت إليه ويفوته القطار فقصدت أن تدله فأصبته! حقيقة دعوتنا التي ندعو الناس إليها، ومذهبنا الذي ندين الله عز وجل به، يرتكز على أصل وهدف: الأصل: هو كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح.
وهدفنا: تعبيد الناس لربهم؛ حتى يكون الدين كله لله، دقيقه وجليله، كبيره وصغيره.
كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف عليهما أحد من المسلمين حتى أهل البدع، فهم أيضاً يقولون: كتاب الله وسنة الرسول؛ لأن أي رجل يقول أنا أنبذ الكتاب وراء ظهري؛ كافر، وكذلك لو قال: أنا أنبذ السنة وراء ظهري؛ كافر، فكلهم يقولون: الكتاب والسنة، لكننا نزيد القيد الثالث الذي نتميز به عن جميع طوائف المسلمين، وهو: بفهم السلف الصالح، لا نخرج عن إجماعهم ولا مجموعهم، إذا اجتمع الصحابة على فعل شيء أو على عمل شيء لا نخرج عنه، وإذا لم يحصل لنا منهم إجماع لم نخرج عن مجموعهم، فلا نتبنى قولاً لم يقل به واحد منهم، بل إذا قال واحد منا قولاً لابد أن يكون مسبوقاً من واحد منهم، فنحن أسرى للإجماع أو للمجموع.
وإذا ظهر في عصرنا شيءٌ من النوازل لم يكن موجوداً عندهم اهتدينا بمجموعهم أو إجماعهم، مثل مسألة نقل الأعضاء، هذه مسألة جديدة حديثة، وليس للسلف فيها قول واضح صريح، لكن إذا أردنا أن نفتي في مثل هذه النازلة فإننا نصير إلى القول بإرشاد منهم بأن ننظر في كلامهم في قضية مماثلة أو شبيهة، والعلة فيها تشابه العلة أو تساوي العلة في النازلة الجديدة التي نبحث لها عن حكم.
فنحن حتى في القياس أو في الوقائع الجديدة لا نخرج أيضاً عن مجموعهم ولا إجماعهم.(89/3)
الكتاب والسنة محفوظان من التحريف
فلعبوا بكتاب الله عز وجل كثيراً، لكن عزاءنا أن لفظ الكتاب محفوظ، لا يستطيع أحد أن يحرفه، ويستطيع الإنسان بمعرفة كلام الصحابة، ومعرفة اللغة العربية، ومعرفة مقاصد الشريعة أن يصل إلى التفسير الحق.
وأيضاً عبث هؤلاء في السنة ولعبوا بلفظها ومعناها! ولكن قيض الله عز وجل لحفظ سنته جهابذة من الرجال، أفنى بعضهم أعمارهم في ضبط لفظة واحدة.
ومن تلبيس هؤلاء العابثين أنهم يقولون: حاشا الرسول أن يخون الله، ولكن من دون الرسول ليس بمعصوم، يمكن أن يغلط، فـ أبو هريرة ليس بمعصوم، ويجوز أن يغلط، وإذا جاز على الصحابي أن يغلط جاز على التابعي أن يغلط، وإذا جاز على التابعي أن يغلط جاز على تابعه أن يغلط وهكذا.
فينفون الحديث برمته ويتهمون الرواة الثقات العدول.
ونحن لو فتحنا هذا الباب ولم نضع له ضابطاً لن ننتفع بكلام الله؛ لأن السنة مبيِّنة لكتاب الله، وإذا ضاع المبيِّن لم يُنتفع بالمجمل.
فمثلاً قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72]، إذا لم يكن عندنا فهم للركوع والسجود وقراءة القرآن، لا نستطيع أن نقيم الصلاة بمجرد الأمر، {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} فإذا ضاع البيان ضاع الانتفاع بالقرآن لأجل هذا أدرك علماء الحديث المهمة الخطيرة لحفظ السنة، فوضعوا لها من الضوابط ما لم يخطر على بال بشر في الأمم كلها، والله عز وجل هو الذي هدى المسلمين إلى وضع هذه الضوابط.(89/4)
من هو الشيعي
والشيعي قديماً في أيام التابعين هو الذي يقدم علياً على عثمان فقط، ولا يتعرض لـ أبي بكر وعمر بشيء، بل يعظمون أبا بكر وعمر، وغاية تشيعه أنه يرى أن علياً كان أولى بالخلافة من عثمان، هذا هو الشيعي، وعلماء السنة -كـ سفيان الثوري وجماعة- ردوا على هؤلاء، قالوا: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى على المهاجرين والأنصار.
لأن المهاجرين والأنصار جميعاً اتفقوا على تقديم عثمان، ولما دخل عبد الرحمن بن عوف في مسألة الشورى بعد مقتل عمر، أخذ العهد على عثمان وعلي أنه إذا أمره أن يعدل وأنه إذا ولي صاحبه أن يطيع ويسمع، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاث ليال يطوف على المسلمين واحداً واحداً ليرى من الذي يكون أهلاً للخلافة -في نظرهم- عثمان أو علياً، فلما انقضت الأيام الثلاثة التي ما ذاق فيها لذيذ نوم، جاء إلى علي فقال: يا علي! ما رأيت المسلمين يعدلون بـ عثمان أحداً.
فالذي يأتي بعد ذلك فيقول: علي أولى، كأنما أزرى على كل هؤلاء الأفاضل، وسفه رأيهم، ونسبهم إلى الخطأ وإلى سوء المقال، فكان الشيعي سابقاً هو الذي يعتقد أن علياً أولى من عثمان بالخلافة، وأما الذي يتعرض لـ أبي بكر وعمر فهذا يسمى رافضياً: إن الروافض شر من وطئ الحصى من كل طائفة ومن إنسان فالروافض هؤلاء لديهم تفسير باطني أيضاً اسمه التفسير الإشاري، والتفسير الإشاري ليس فيه علاقة بين المعنى واللفظ، فمثلاً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] يقولون: عائشة، مع أنه ليس هناك علاقة بين البقرة وعائشة.(89/5)
التفسير الإشاري وخطره
وهناك مصيبة وداهية دهياء وفاقرة جسيمة اسمها التفسير الإشاري، الذي يعتمد عليه الصوفية اعتماداً كبيراً، يقولون: إن الكلام له ظاهر وباطن، والله عز وجل حجب الباطن عن علماء الفقه، الذين هم مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وداود الظاهري، وسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي هم هؤلاء علماء الفقه الذين علمهم أضاء ديار الإسلام.
أما أصحاب التفسير الإشاري فهم كـ ابن سبعين وابن عربي وابن الفارض، وابن عطاء الله السكندري كل هؤلاء لهم التفسير الإشاري الذي لا يمت أحياناً للفظ بصلة، فوافقوا الروافض في هذه الجهة، والروافض هم غلاة الشيعة، مثل رافضة إيران، الذين يحقدون على أبي بكر وعمر ويلعنونهما ويكفرونهما.(89/6)
مثال على ورع السلف
أما عن ورعهم فناهيك به! روى الطبراني في المعجم الكبير بسند جيد عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: (أعرست في حياة أبي - (أعرست): أي صار لي عروس، يعني تزوجت في حياة أبي- فآذن أبي الناس -أي: دعاهم ليحضروا عرسه- وجاء أبو أيوب الأنصاري فوجد الجدران مكسوة -أي: ستائر على الجدر- فوقف على الباب فلم يدخل، وقال لأبي: ما هذا الذي أرى، أتسترون الجدر؟! قال سالم: فقال أبي وخفض رأسه واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب -أي: هذا صنيع النساء وغلبونا في هذه المسائل-.
فقال أبو أيوب: لئن غلبن أحداً فلا يغلبنك -يعني: مثلك في ورعه وتقواه وتحريه لا تغلبه النساء، وابن عمر كان معروفاً بالسنة، شديد الورع- ثم قال أبو أيوب: والله لا أكلت لكم طعاماً، ولا شربت لكم شراباً ذلك اليوم، ورجع وانصرف.
مع ما كان يربط بين ابن عمر وأبي أيوب من الآصرة القوية والديانة المتينة، لكن ما كانوا يجاملون في مثل هذا، فكيف فيما فوق ذلك؟! ونحن عندما ندعو الناس إلى كتاب الله عز وجل لا ندعوهم إلا بفهم الصحابة، وإلا فالقرآن الكريم قد اعتدى عليه المبتدعة تحريفاً وصرفاً لألفاظه عن دلالاتها.(89/7)
حقيقة الإرجاء ومن هم المرجئة
المرجئة طائفة مبتدعة من طوائف هذه الأمة، مثل المعتزلة، والجبرية، والقدرية، والأشاعرة، والماتريدية، كل هذه فرق موجودة عندنا الآن، فالمذهب الأشعري والماتريدي يدرس في الأزهر كعقيدة، فالشافعية كلهم أشاعرة، والأحناف كلهم ماتريدية، وليس هناك سلفي في باب العقيدة إلا الحنابلة، وطوائف قليلة من الشافعية والمالكية والحنفية، لكن الغالب على الحنابلة أنهم ينتحلون العقيدة السلفية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون: القرن الأول والثاني والثالث.
فالإرجاء: معناه التأخير، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] أي: أخرهم الله وأخر إنزال التوبة عليهم.
وجماهير المسلمين يدينون بمذهب الإرجاء الآن وهم لا يشعرون، فعندما يعمل الذنب، ثم تذكره بعذاب الله يقول لك: الله غفور رحيم، هذا مذهب الإرجاء، حيث لا يضع عذاب الله في الحسبان، فالإرجاء معناه: تأخير العمل في الإيمان، ومعلوم أن تأخير العمل في باب الإيمان مسألة غير جائزة، وفي القرآن كثيراً: ((إن الذين آمنوا وعملوا)) ليس (إن الذين آمنوا) فقط فلا بد في الإيمان من أن يصحبه عمل حتى ينجو العبد.(89/8)
خطأ التسرع في الاتهام بالإرجاء
وبعض الناس اشتد نفسه في الرمي بالكفر فسارع إلى اتهام غيره بالإرجاء، ومن عنده نفس قوي في التكفير من السهل عليه أن يتهم المعتدل بالإرجاء، وهذه مسألة فيها مزلة أقدام ينبغي على الإنسان أن يعتدل فيها! فبعضهم اتهم الشيخ الألباني -رحمه الله- الداعي إلى السنة، والذي أحيا السنة من العدم في هذا العصر، وما من رجل ينسب إلى علم إلا ولهذا الشيخ عليه منة وفضل دق أو جل! اتهموه بالإرجاء.
فدخلنا في مسألة رمي الرءوس، وهذه مسألة خطيرة!(89/9)
العمل جزء من الإيمان
ونحن نعتقد أن العمل جزء من الإيمان، ولا نقول: شرط؛ حتى نغلق الباب على الخوارج والمرجئة، فالخوارج يقولون في العمل: شرط صحة، فإذا لم يعمل سقط إيمانه كله، ولذلك الزاني عندهم كافر، خارج من الملة، والقاتل كافر، وشارب الخمر كافر، وكل مرتكب للكبائر كافر.
حتى ضاق عطن أحدهم لما مر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) والحديث هذا معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيشفع لأهل الكبائر الذين هم الفساق والزناة والقتلة؟ فقال: لا، معنى الحديث (شفاعتي لأهل الكبائر) أي كبائر الطاعات، كقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، قال ((لكبيرة إلا على الخاشعين)) إذاً المقصود بأهل الكبائر أهل الصلاة وأهل الزكاة وأهل الحج وأهل الصيام وأهل الصدقة وهكذا، فلما ضاق عطنه حرفه.
إذاً الصواب والحق: أن العمل جزءٌ من الإيمان، ولذلك بوب الإمام البخاري في كتاب الإيمان بقوله: (باب الصلاة من الإيمان) أي أن الصلاة جزء من الإيمان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما قلنا وسمعنا.
وصلى الله على محمد وآله وصبحه.(89/10)
تفريق المرجئة بين الإيمان والعمل
فالمرجئة فرَّقت بين الإيمان وبين العمل.
فقالوا: لو تأخر العمل قليلاً ما يضر، وقالوا: إن العمل شرط كمال.
يعني إذا حصل فهو خير، وإذا لم يأتِ لا يضر كثيراً.
وبعضهم قال: لا يضر أبداً، وهؤلاء هم غلاة المرجئة، ومنهم من المعاصرين رجل ألف كتاباً فصل فيه على أن فرعون مؤمن ويدخل الجنة؛ لأن الإيمان عندهم كلمة، والعمل ليس شرطاً، ففرعون قال الكلمة: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، ونسي الآيات في القرآن التي تذم فرعون، وتكفره، وتكفر حتى الجنود الذين استمعوا لكلامه والذين أطاعوه، فيقول هذا الرجل: من قال لا إله إلا الله كان إيمانه كإيمان جبريل وإن زنى وإن سرق وشرب الخمر ولاشك أن أي رجل آتاه الله تعالى صغير عقل لا يعتنق هذا المذهب على الإطلاق.
بقيت طائفة أخرى من المرجئة، وهم الذين لا يستهينون بالعمل، لكن يؤخرونه قليلاً، فهؤلاء أتوا على أحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم كحديث أبي سعيد الخدري الطويل، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً يدخل الجنة لم يعمل خيراً قط).
فالحديث هذا في ظاهره حجة للمرجئة، إذ كيف يدخل الجنة ولم يعمل خيراً قط؟ فالإيمان أصل ومقتضى، أصل الإيمان: الكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومقتضاه هو القيام بالتكاليف: أن تصلي وتزكي وتحج وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهذا هو المقتضى.
والإيمان كمثل طائر يطير بجناحين: الجناح الأول: الإيمان، والجناح الثاني: العمل.
فماذا نقول عن رجل دخل الجنة لم يعمل خيراً قط؟ ولم يَبْقَ معه إلا الكلمة التي هي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فالذين يردون على المرجئة قالوا: هذه الجملة في الحديث لا تصح؛ لأن الرواة عن أبي سعيد الخدري غير عطاء بن يسار لم يذكروا هذه الجملة وعطاء بن يسار من ثقات التابعين الفحول الكبار، والحديث طويل في حدود الصفحتين، وقد روى غير عطاء بن يسار عن أبي سعيد جملاً ليست في حديث عطاء بن يسار، أفنعلها بالشذوذ، ونقول: طالما الجملة هذه لم ترد في هذا الحديث تكون شاذة؟! علماء الحديث لا يتصرفون مع الأحاديث هكذا، إنما قال هذه المقالة من ليس له دراية بعلم الحديث، وهكذا يجني على السنة من يقول: هذه اللفظة شاذة؛ لأنه عجز عن تفسيرها، أو عجز عن التصرف فيها.(89/11)
نظرات في سورة الأنفال [1]
إن سورة الأنفال من السور المليئة بالدروس الإيمانية، وقد نزلت هذه السورة عقب وقعة بدر، وذكر الله في مطلعها أحكام الأنفال والصفات التي ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها ليتحقق لهم النصر على عدوهم والتمكين في الأرض، ومعلوم أنه لن يتحقق النصر لهذه الأمة حتى تتخلص من شوائب الحزبية والقومية، وتتمثل بصفات المؤمنين المجاهدين.(90/1)
إن تنصروا الله ينصركم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذه نظرات مجملة في سورة الأنفال: دعت إليها الحالة الراهنة التي يعيشها المسلمون مع اليهود في الأرض المحتلة.
أيها الإخوة: إن أعجز الناس وأحمقهم من يطلب النصرة من عدوه، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، أي: إذا أردت أن تتخذ بطانة -والبطانة إنما تتخذُ للمشورة والنصرة- فإياك أن تتخذ من دونه، أي: مَنْ ليس على دينك، وليس على مذهبك، إياك أن تتخذه بطانة لماذا؟ ((لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)) أي: لا يقصرون في إعناتكم وفي التغرير بكم، هذا كلام الله للذين آمنوا.
إنما السياسة التي لا دين لها قاتلها الله؛ هي التي أودت بالمسلمين إلى هذا الدرك الأسفل من الذل والهوان والعار، ولذلك افتتح الله عز وجل سورة الأنفال التي نزلت بعد غزوة بدر، بأوصاف الذين آمنوا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]، ثم بدأ يسرد وقائع الغزوة.(90/2)
ضرورة صفاء المنهج والعقيدة من أجل النصر
موقفنا الرسمي من الشيعة أنهم متطرفون، وأنهم أعداؤنا، وأن أي شخص يضبط متورطاً بأية مشكلة يقال: إنه تبع إيران، والعلاقة الرسمية مقطوعة مع إيران.
حزب الله الذي في لبنان حزب شيعي، استطاع أن ينتصر انتصاراً جزئياً بعد مرور سبع عشرة سنة على احتلال اليهود لجنوب لبنان، واستطاع أن يخرج هؤلاء اليهود من الأرض، حتى الآن لا زالوا يعزفون ويتشرقون بهذا الانتصار.
أمةٌ مهزومة في كل المجالات، حتى في لعب الكرة مهزومة أيضاً! ما صفا لها لعبٌ ولا جد، أمةٌ على هامش الأرض، رأت عز اليهود واستطالتهم، وأنهم يملكون كل شيء في العالم، الآن لما هُزموا هزيمةً جزئية، فدخل هؤلاء المهزومون بنشوة الانتصار، ويصورون القتل كأنه فيلم مثلما صوروا حرب الخليج، حرب الخليج كانوا يصورون طلعات الطيران، والطائرات تنسف المباني، وتقتل المسلمين العزل وغيرهم من الأطفال، بسبب قتل اثنين من إسرائيل.
هذه الحرب كلها لأجل الدين الذي مزقه المسلمون هناك في الأرض المحتلة تمزيقاً، رداً على مقتل مائة مجرم، لأجل اثنين الضربة مستمرة حتى الآن، ونطالب بضبط النفس! هذه أول السلبيات.
وثاني سلبية: أن يمجد مثل حزب الله وإن كان قد انتصر، فالمسألة في النهاية مسألة عقيدة، الفرقان بيننا وبين أهل البدع هو العقيدة، والمنهج.
نحن لا نراهن على المنهج والعقيدة مهما كنا مهزومين، لكننا نطالب أهل السنة أن يتقوا الله تبارك وتعالى، وأن يحققوا شرط الإيمان، وشرط العبودية التي أمرهم رب العالمين تبارك وتعالى بها، وذلك هو جهاد النفس، إذ لا يطلب أن تقاتل وتجاهد عدوك وأنت لم تنتصر على نفسك، ولا يمكنك أن تنتصر على عدوك في الخارج، هذا مستحيل؛ لأن هذا العدو الكامن في النفس يخذلك، ويقول لك: ستقتل، ويقسم ميراثك، وتتزوج امرأتك، ثم ماذا تفعل وأنت فردٌ واحد؟ وعدوك عنده من العتاد كذا وكذا، ومن العدة كذا وكذا، والدنيا كلها صارت دولةً له، فيخذلك فلا تستطيع أن تقوم.
وبناءً عليه ضيعت الأوامر والنواهي، وانتهكت الحرمات، إن أمرت بشيء لم تفعله، وإن فعلته لم تفعله كما أمرت به، وثمة خلل يملأ ديار المسلمين، وهو الشرك والبدع، ومما يدل على ذلك أنه يزور قبر البدوي أربعة ملايين، لا تجد هذا العدد عند الكعبة ولا في عرفات ولا في منى، ويلمع في الليلة الختامية، ويحضرها أكبر الشخصيات، وهذا محفل شركي لا يعبأ الله به، لو دعا كل هؤلاء أنى يستجاب لهم، لا يعبأ الله عز وجل بهم، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112] (لا تطغوا)، أي: لا تتجاوزوا حد الاستقامة.
إن الله عز وجل أنزل رسوله بالدين الحق، ومع ذلك تجد في بلاد المسلمين أحزاباً: الحزب الفلاني له تصور في إقامة الحياة وفي حكم الناس، الحزب العلاني له تصور مخالف، وأين حكم الله عز وجل؟ وكأن الله ما أنزل كتاباً ولا بعث رسولاً، حتى بدأ الناس يفكرون كيف يحكمون الناس؟ وكل حزب له تصور، الإسلام خارج كل هذه الأحزاب، يظلون يتكلمون الساعة والساعتين والثلاث لا يذكرون الله، ولا يذكرون الإسلام ألبتة فأنى ينصرون؟!(90/3)
لابد من الإيمان لحصول النصر
ما معنى ذكر هذه الأوصاف في ذكر بدر؟ معناها أيها الإخوة: أن نكون مسلمين، إذا أردتم أن تظفروا على عدوكم، ولو كان عددكم وعتادكم قليلاً، كما كان إخوانكم من الأسلاف في بدر، ونصرهم الله نصراً مؤزراً برغم أنهم لم يأخذوا أهبة غزوهم، وما خرجوا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين فقط، وكان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، وكانوا يقتسمون التمرات، وكانوا جياعا: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، وقال لهم الله جل وعلا: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
فإذا أردتم أن يكون النصر حليفكم كما كان حليف الأسلاف في بدر مع ذلهم وقلتهم؛ فعليكم أن تكونوا من المؤمنين أولاً، فلابد من شرط الإيمان، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41].
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة: اليوم ثلث الأمة لا يصلون، ولا يسجد لله ركعة.
والزكاة صار أداؤها شيئاً شخصياً، مع أن الدولة يجب عليها أن تجبر المواطنين على دفع الزكاة، وإذا رفض رجلٌ دفعها يقاتل حتى يقتل؛ لأن الزكاة حق الله في المال، وهذا هو الذي فعله أبو بكر رضي الله عنه، وشايعه جماهير الصحابة آنذاك، وقد صار دفع الزكاة شيئاً ثقيلاً، كم من المسلمين لا يدفعون زكاة الأموال! وكثير من الذين يدفعون الزكاة إنما يدفعونها بالتشهي، وبالتقتير الشخصي، فهؤلاء لا يُمكَّن لهم في الأرض أبداً ولو ظلوا ألف عام يصرخون بمكبرات الصوت، ويحرقون الأعلام، ويقذفون عدوهم بأشنع العبارات، فإن الوضع باقٍ كما هو.
إنما النصر من عند الله تبارك وتعالى ليس من عند أحد، وإنما ينزله على عباده المؤمنين.
استنجدوا بالأمم المتحدة، والأمم المتحدة هي التي صنعت إسرائيل، هي التي وضعت اليهود في أرض المسلمين، فهذا لا يفعله عاقل يعقل ما يقول: أن يأتي الأمم المتحدة ليستجير بها، فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار، فكانت النتيجة: أن الأمم المتحدة أدانت الفلسطينيين وقالت: أنتم السبب، أنتم الذين استثرتم شارون، وأنتم لم تتعاملوا معه كرجل كبير صاحب دولة، إنما أطلقتم عليه الصغار؛ فكانت النتيجة هذه الشرارة فأنتم السبب.
لابد من اعتذار رسمي، وسيعتذرون، ونظل سنتين أو ثلاثاً نحقق في هذا الهجوم الفلسطيني على اليهود، وبعد سنتين أو ثلاث يتولاها وغد آخر غيره وتبدأ المجابهات مرة أخرى، ويدانون ويدان عليهم، ونظل مائة سنة نحقق من الغلطان.
هذه مسألة مكشوفة لأي رجل عنده (أ، ب) فهم لليهود، و (أ، ب) فهم للإسلام، لكن قلت لكم: السياسية التي لا دين لها.(90/4)
دروس النصر من غزوة بدر
غزوة بدر: جاءت على خلاف مراد الصحابة: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، الطائفة الأولى: العير، والطائفة الثانية: النفير.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة لإصابة الطائفة الأولى، وقوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) لم يعين للمسلمين الطائفة، بل أبهم الأمر؛ لكن لابد من النصر والظفر، لأن الله عز وجل قال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ)، هذا وعد من الله لا يتخلف، إما الطائفة هذه أو هذه، فهذه مسألة مقطوع بها ومنتهية: أنه لابد أن يظفر المسلمون أو يغنموا.
الطائفة الأولى: العير، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً لما علم بالعير، وكان موقناً أنه إذا ظهرت العير سيأخذها؛ لضعف حاميتها، لأنهم أربعون رجلاً لا أكثر، وهم غير مدججين بالسلاح الذي يمكنهم من خوض حرب متوقعة أو غير متوقعة، إنما معهم اليسير من السلاح احتياطاً إذا اعترضهم لص أو اثنان أو عشرة لصوص ونحو ذلك، فالسلاح الذي مع الحامية ليس سلاح حرب.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كما في الصحيح، وأرسل أبو سفيان -لما علم بما عزم عليه المسلمون- وعدل أبو سفيان عن طريق القافلة المعتاد وسلك طريق الساحل وهرب، ففاتت الطائفة الأولى على المسلمين.
ظنوه نصراً عاجلاً مختطفاً، يأخذون العير ويرجعون، لكن أمر الله قدرٌ مقدور: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، (غير ذات الشوكة) هي العير، ما فيها شوكة ولا فيها حرب، ولا فيها قتال ولا قتل ولا ذبح، بل يأخذونها بلا مجهود، يقول: أنتم تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال:7]، إذاً: لابد أن تصيبوا الطائفة الثانية وتقع حرب؛ لأن المسألة ليست مسألة أن تأخذ أموالاً فحسب، المسألة مسألة إظهار الحق، نعم لكم أن تغنموا من المشركين أموالاً؛ لكن ليست هي القضية الأساسية، المسألة التي من أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب، والملاحاة المستمرة بين الحق والباطل، حتى يمحص أهل الحق ويظهر الحق على أيديهم.
((ويريد الله)) هم يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، ولكن الله لا يريد ذلك، فكان ما أراد: أفلتت العير، فلما أفلتت العير علم المسلمون أي الطائفتين أراد الله، فكان النفير.
بدأ بعض الصحابة يقول: نحن غير مستعدين، نحن ما خرجنا لقتال، فدعونا حتى نأخذ أهبة: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6] العير أفلتت، فلم يبق إلا النفير، وهذا هو الذي تبين وظهر، فيجادلونه في الحق الذي تبين والذي ظهر: (بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6].
إذاً: قضى الله عز وجل أن يلتقي المعسكران على غير ميعاد، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يطرح نفسه على عتبة عبودية الله رب العالمين؛ لأن الحل الوحيد أن ينصرهم وأن يأخذ بأيديهم؛ ولذلك نظر إلى أصحابه الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم فداءً لله تبارك وتعالى، ونصراً لدين الله عز وجل، لم يلتفت واحدٌ منهم إلى داره، ولن يتأسف أنه فقد أمواله التي جمعها طيلة حياته، إذا كان الله عز وجل هو المقصود، ومن أجله عملوا، وفي سبيله خرجوا، لم يلتفت ولم يندم واحد من هؤلاء الذين تحقق فيهم الإيمان، والصفات التي بدأ الله عز وجل بها سورة الأنفال.
خرج المسلمون العزل الذين لم يكن معهم غير فارسين، ونظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالغ في الدعاء، وفي رفع يديه؛ إشارةً إلى الاستسلام الكامل والانخلاع من الحول والقوة: اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراةٌ فاكسهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض.
حينئذٍ أمسك أبو بكر بمنكبيه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك، فإنه منجزٌ لك ما وعد)، الدعاء -يا إخوان- كم أسقط من ممالك وكم رفع! فلا تستهينوا به، إن الدعاء هو السبب الموصول بينكم وبين الله، {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77].
لولا أنكم تدعونه بتضرعٍ وتذلل لم يعبأ بكم، ولستم في ميزانه شيئاً مذكوراً، الدعاء بإخلاص أن ينصرنا الله عز وجل، لكن مسألة النصر مشروطة بما ذكر في قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، قويٌ لا يغلب، عزيز لا يجار عليه.(90/5)
إيجاد العزة للإسلام والتربية عليه
اليهود لن يغلبهم إلا المسلمون وليس العرب، النعرة القومية ضيعت الأرض، ومثيروا النعرة القومية رعاع سوقة على هامش الدنيا، لن يعيد الأرض، ولن يعيد العرض، ولن يعيد المجد إلا الإسلام، ويوم نرفع راية الإسلام نكون أعزة، ولن تكون عندنا قزامة وحقارة وانهزامية، كثير من الناس لا يصرح بلفظ الإسلام لأنه عار وعيب، واستطاع اليهود أن يصوروا الجهاد للعالم بأنه إرهاب ووحشية، ودماء ودمار، وبدءوا يدندنون ليلاً ونهاراً: ما أنتج الإرهاب الإسلامي (الجهاد) إلا دماء، وحشية، إبادة جماعية، عدم رحمة للأطفال، قتلاً للنساء.
واستمروا أكثر من قرن يتكلمون على الجهاد ليل ونهار بهذه الطريقة، فلما خرج جيل ضعيف في ديار المسلمين، وراجت هذه الحملة، بدءوا يعتذرون عن هذا يقولون: نحن لا نقول جهاد، نحن الحرب عندنا حرب دفاعية، وهكذا.
ويتكلمون عن الرق، الإسلام ينهى عن الرق، والإسلام ينهى عن استعباد الناس، فنقول: لماذا صورتموه هكذا؟! إن الدول الكبرى تسترق الدول وليس الأفراد فحسب، الدول الكبرى استرقت المسلمين الآن، فتش عن محقنة دم في أي قربة دم في العالم تجد أنها دم مسلم، فهذا استرقاق، أي حصار على أية دولة، هذا استرقاق، يمنع الداخل والخارج عنك، يميتك جوعاً، هذا هو الاسترقاق، لماذا لم تتكلموا عن هذا الرق؟ رق المسلمين كان أشرف.
مسلم يسترق كافراً، يأتي الكافر يدخل ديار المسلمين فيرى المسلمين فيسلم، ومع ذلك علقت كثير من الكفارات على إعتاق الرقاب، لا يقال: إذا كان عبداً يضل عبداً إلى أن يموت، لكن كثيراً من الذنوب والخطايا كانت المكفرات متعلقة بإعتاق رقبة وتحرير رقبة، وندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عتق الرقاب، فقال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من ضمن الثلاثة هؤلاء: رجل عنده جارية، فأحسن تعليمها وتأديبها وأعتقها وتزوجها)، فالإسلام يحض على مسألة عتق الرقاب.
ومع ذلك لو بقي في ديار المسلمين هذا الكافر -الذي صار عبداً بعدما كان سيداً وأذله الله بكفره- لكان خيراً له؛ لأنه في النهاية يرى المسلمين، ثم يسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من قومٍ يدخلون الجنة بالسلاسل)، وهم الكفرة الذين دخلوا الإسلام بسلاسل الحرب، ولم يدخلوا الإسلام عن طواعية، ثم هؤلاء يتكلمون عن الرق!! فيأتي المهزومون روحياً وعقلياً، والذين لم يشربوا الإسلام من منابعه الصافية، فيرون أن الجهاد عار، وعليك ألا تنطق بكلمة الجهاد، لأن الجهاد عندهم وحشية ودمار، وهتك للأعراض والدماء والأموال إلخ، فيعتذر من الجهاد، مع أن الجهاد ليس كذلك.(90/6)
إعداد جيل التمكين
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41]، أنت رب أسرة ممكن في الأرض على أسرتك، لماذا لا تصلي امرأتك؟ لماذا لا يصلي أولادك؟ لماذا لا يصلي خدمك؟ إذا كنت صاحب محل، إذا كنت صاحب شغل والعامل لا يصلي، إذا قصر عامل في أي شغل عاقبته، وربما تفصله من العمل، وربما تقيم عليه محضراً في القسم؛ لأنه أهمل في البضاعة، وأهمل في الشغل، وخسَّرك، مع أنه لا يصلي، ويسبُّ الدين وأنت تسمع ذلك، ثم إذا قيل لك: لم لا تنصحه؟! قلت: أنا ماذا أعمل لهم؟ العمال كلهم هكذا.
مع أن هذا العامل الذي يبحث في ذلك الوقت عن عمل، والدنيا كلها متعطلة، لو علم أنك ستفصله لأجل أنه لا يصلي؛ سيصلي ولو نفاقاً.
إذاً هذا بمنزلة الخادم تماماً، طالما أنه يعمل لديك فأنت مسئول، لا تقل: أنا لا ذنب لي، لأن هذا ذنبك، وأنت مسئول عن عدم صلاة العامل الذي يعمل معك، سرحه لله، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، لن يتعطل عملك، ولن تترك شيئاً لله عز وجل في شيء فتجد فقده أبداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عوضهُ الله خيراً منه).
وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالآن أول الدرجات: إصلاح البيوت.
إننا لو خرجنا جميعاً بما فينا من خبث فلن ننتصر على اليهود، أرجو أن لا تحركنا العاطفة، ونتصور أن خروج الآلاف المؤلفة يمكن به أن تنتصر على اليهود.
رئيس الوزراء الإسرائيلي لما يريد أن يقرأ نصاً من التوراة وهو يخطب في الكنيست يخرج الطاقية السوداء ويلبسها؛ لأن هذا تقليد عندهم، والتوراة المحرفة محترمة عندهم؛ لأن لها قيمة دينية.
بعض المسرحيات -في بلاد المسلمين- أتوا فيها برجل معمم يرقص، وكان أحسن واحد يرقص في المسرحية! رجل معمم بعمامة رجل الدين، عمامة العلماء، ويلبس الجبة! وهؤلاء يستهزئون بدينهم إلى هذا الحد! لو جاء عابد بقر، أو عابد حجر ويوقر الحجر، فإنه يغلب هؤلاء، هذهِ سنة الله الكونية، والله لا يحابي أحداً من عباده، كما لم يحاب الصحابة في يوم حنين لما قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فركنوا إلى الكثرة فهزموا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
فأول مراتب الجهاد مجاهدة النفس، إذا كنا نريد أن نقيم الجهاد ونحرر الأرض، فإنها لن ترجع إلا بهذا.(90/7)
الجهاد لإعلاء كلمة الله
الجهاد إنما شُرعَ لإعلاء كلمة الله، وأهل الأرض ثلاثة: إما مسلم أو كافر أو منافق: مسلم لا يتوجه له إلا نصرة الدين والإسلام؛ لأنه هو المخاطب في النصوص، فما بقي غير صنفين: الكافر والمنافق، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) (الناس) في الحديث هم الكفار والمنافقون، فالمنافق يظهر كلمة الإسلام ويبطن الكفر حتى يستبقي دمه وماله ويعيش بأمان، فهذا المنافق تلقائياً سينضم إلى المسلمين.
إذاً: من الذي بقي؟ الكفار، فيقال لهم: ادفعوا الجزية وخلوا بيننا وبين الناس، إذ لا يجوز لأحدٍ أن يحجب الحق عن أحد، ونحن لا نقنع الناس بالضرب، نحن نعرض الحجة، فخلوا بيننا وبين الناس وادفعوا الجزية، إذا قالوا: نحن موافقون على أن ندفع الجزية فستضع الحرب أوزارها، لأننا لا نقاتل الكافر طالما أنه يدفع الجزية، وطالما أنه وافق على الشروط.
وإذا قال: أنا لا أسمح لك أن تنشر دينك، ولا أن تنشر الحق الذي تعتقده، ولن أدفع الجزية؛ حينئذٍ ما بقي إلا الحرب، لأنه صد عن سبيل الله.
ليس الجهاد أن يخرج المسلمون من ديارهم لمجرد خاطر خطر على بالهم أن يخرجوا ويستولوا على الأموال ويقتلوا الناس بلا هدف، هذا لم يحدث في تاريخ الإسلام قط، إذاً الجهاد إنما هو لإعلاء كلمة الله.
ثم إن جهاد العدو في الخارج يسبقه جهاد المنافقين، وجهاد النفس؛ لذلك لا يزال سيف المسلمين كليلاً مع العدو الخارجي حتى يحققوا مواطن الجهاد الثلاثة التي تسبق جهاد العدو الخارجي، ومنها جهاد النفس، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث فضالة بن عبيد الذي رواه أحمد وابن حبان والحاكم: (من المؤمن؟ قال: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم.
قالوا: ومن المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده.
قالوا: من المجاهد؟ قال: من جاهد نفسه في ذات الله أو في طاعة الله.
قالوا: من المهاجر؟ قال: من هجر الخطايا والذنوب).
إذاً: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله.
بيوتنا مليئة بالمخالفات.
نريد أن ننتصر ونكون جادين، ونظن الطريق غير طويل، البعض يقول: الطريق طويل، وأنا حتى أربي نفسي وأربي عيالي، سأكون قد مت أنا وعيالي، نقول: نعم يا أخي! مت متعبداً لله، إن الذي يزرع النخل لا ينتظر نتاجها، وإذا قيل له: لم تزرع النخلة وهي لن تعطيك البلح ولن تنضج إلا بعد عشر سنوات أو بعد سنوات؟! يقول: كما زرع أجدادي وأنا آكل من غرسهم، كذلك أزرع حتى يأكل أحفادي من غرسي.
إذاً: أنت تورث العبودية، هي هذه الجدية في الجهاد.
ونحن قصرنا في أن نأخذ الأمر بمأخذ الجد، لا تقل: إن الدنيا كلها مخالفات وأنا فرد؛ فإن الله عز وجل نصر أهل بدر وهم أذلة، والمسألة واضحة: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
لو أن هناك مائة من طراز أهل بدر لفتحنا الأرض المحتلة، مائة من ذلك الطراز النفيس الذين نوه الله بهم في مطلع السورة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:2]، و (إنما) عند أكثر العلماء تفيد الحصر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، والوجل هنا ليس المقصود به الخوف المحض المجرد، بل المقصود به: الخوف الذي يخالطه شوقٌ ومحبةٌ وتعظيم، فليس خوفاً مجرداً، بل هو ما يعتري القلب من الوجل عند سماع من يحب.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أحدٌ ممن يمت إليه بصلة، ولو كان قريباً لمن يحبهم، كما كانت أخت خديجة رضي الله عنها، كان يصيبه مثل هذا، طرق عليه الباب يوماً فسمع صوتاً قال: (اللهم هالة) وهو في الصحيحين - البخاري ومسلم - قال: (فارتاع لذلك) أي: نبض قلبه بشدة لمجرد أنه سمع الصوت الذي يُذكِّره بمن يحب، فارتاع لذلك، واللفظ الثاني: (فارتاح لذلك، وقال: اللهم هالة) فالوجل ليس خوفاً مجرداً، إنما هو خوف مع حب.
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، وهذا هو عامل الحب في الوجل، يسمع كلام من يحب فيزداد شوقاً، ويزداد تعلقاً، ولله المثل الأعلى.
مثل إنسان يكون له حبيب وأرسل له خطاباً، وهو كل يوم يفقد من قلبه شيئاً شوقاً لهذا الحبيب، وبين الحين والحين يُخرج الخطاب ليقرأ منه، ويظل يتأمل الحروف، ويقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ستمائة مرة، ويقرأ (إلى فلان الفلاني) لاسيما إذا ذكره بلفظ المحبة: إلى حبيبي، أو: (إلى عزيزي)، أو: إلى قرة عيني، يظل واقفاً عند هذه الجملة لا يريد أن يقرأ غيرها، ويسرح في الماضي وأيام اللقاءات، وأيام الجلسات الجميلة والطيبة، فيزداد شوقاً على شوق، ويعد الأيام والليالي، بل الثواني متى يلتقي بحبيبه! كذلك حال الذين يحبون الله تبارك وتعالى، مع الخوف منه، وعدم التجرؤ على حدوده، بل عدم الاستطاعة أن يفكر أن يتجرأ، هذا الذي خالط قلبه هذا الوجل -الذي هو الخوف والحب المخلوط- إذا قرأ آيات الله ازداد محبة، فإذا قال الله عز وجل له: (اقتل روحك، يقول: حباً وكرامة) كما في الصحيح أن عمير بن الحمام لما أصابه سهم قال: فزت ورب الكعبة، يقول: فزت؛ لأنه متحقق، يريد أن يلقى ربه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).
إذاً: الحاجز بيني وبين رؤية ربي أن أموت! فقال عمير: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، مثل هذا لا يخالف لا في قليل ولا في كثير، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(90/8)
تنازع المسلمين على الغنائم يوم بدر
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
جاء ذكر المؤمنين في مطلع السورة، ولكن سبق هذه الأوصاف الآية التي افتتح الله عز وجل بها السورة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:1 - 2].
الذي حدث أن المسلمين اختلفوا على الأنفال في الغنائم التي غنمها المسلمون يوم بدر، لا ينبغي أن يختلفوا على مال وقد تركوا أموالهم خلف ظهورهم، فلا يليق بهم بعدما ضحوا بالغالي والنفيس أن يختصموا على الأنفال -والأنفال: جمع نفل، وهي الغنائم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}: قضيت المسألة، فليس لأحدٍ أن يقول: أنا لي الغنيمة الفلانية، وأنا لي كذا أو كذا طالما أنها لله والرسول.
ثم ذكرهم بصفات المؤمنين الذين يعبأُ الله بهم، والذين يحبهم الله عز وجل، فكأنما قال: أفلا أدلكم على خيرٍ مما تختصمون فيه؟! إنني إذا ذكرت عند أحدكم اضطرب قلبه خوفاً وحزناً، ولو ذكرت آياتي عندك أن تزداد بها إيماناً وترضى بالله قسماً فهذا أفضل من أن تحصَّل غنائم الدنيا.
ومما أنزل الله: (الأنفال لله والرسول)، أليست هذه آياته زادتهم إيماناً، ولم يقل: زادتهم جشعاً وطمعاً وخلافاً، بل قال: زادتهم إيماناً، وكان الصحابة إذا ذكروا ذكروا وارتفعوا حتى يصلوا إلى مدارات الأفلاك.(90/9)
حل الغنائم للمسلمين دون غيرهم
فالله تبارك وتعالى يقول للمسلمين: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] طالما أنك مؤمن، وإذا ذكر الله وجلت، وإذا تليت عليك آياته ازددت إيماناً ولم تزدد جشعاً، فالأنفال لله والرسول، وحلت مشكلة الأنفال كلها بنزول هذه الآية.
ثم كانت النتيجة: أن الله عز وجل أغنم المسلمين النفير، فلما فاتت عليهم العير أباح لهم الغنائم إلى يوم القيامة تعويضاً، وما أبيحت لأحد قط من لدن آدم عليه السلام؛ ولو أخذ المسلمون العير لكان انتصاراً جزئياً، وكان سيستمتع بالعير الصحابة فقط، ولكن من بركات الطاعة: أن الله أباح الغنائم لهذه الأمة إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لسود الرءوس غيركم)، وقال صلى الله عليه وسلم تعقيباً على حديث يوشع بن نون الذي رواه الشيخان: (فلما رأى الله عز وجل عجزنا وضعفنا أباحها لنا) يعني الغنائم.
إذاً: ما فاتهم شيء على الحقيقة، ما فاتهم لا العير ولا النفير، بل الذين أحرزوه من إصابة الغنائم إلى يوم القيامة كان أعظم من إصابة العير.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى به عن المنكر.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(90/10)
الغنيمة الحقيقية
في غزوة حنين اختصموا على الغنائم أيضاً، لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم، والعامة الذين تأخر إسلامهم، وترك المؤمنين الخلص الذين أبلوا بلاءً حسناً في القتال، فالشباب لم يعجبهم هذا الكلام، وقالوا: يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم، ما هذا بالنَّصَف.
يعنون أن هذا ليس إنصافاً، المفروض أن الذي قاتل وضحى بنفسه هو الذي يأخذ المال، والمؤلفة قلوبهم لم يبلوا بلاءً حسناً، ثم إذا به يعطيهم الأموال فما هذا بالنَّصف.
بلغت هذه الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعالجها علاجاً حكيماً، فلم يعاتب ولم يعنت، إنما دعا الأنصار، وقال: (يا معشر الأنصار! مقالة بغلتني عنكم، أنكم قلتم كذا وكذا.
فقال كبراء الأنصار: أما الشيوخ فلا) أي: الكبار، الناس الذين أسلموا قديماً ما قالوا هذا الكلام، قالوا: إنما قاله بعض صغارنا.
فجمعهم وقال: (هل فيكم أحدٌ من غيركم؟) وهذا كله من أجل أن يبين الحظ والقسم الذي أصاب الأنصار، كأنه لا يريد أن يكون أحدٌ من غير الأنصار يدركهم في هذا الذي سيقوله، (قالوا: لا.
قال: يا معشر الأنصار! ألا تحبون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله تحوزونه في رحالكم)، عندما تخير بين مال أو يبقى الرسول معك؛ ماذا تختار؟ لا يتردد مثل الأنصار، ولا يتردد أي مسلم أن يلفظ بها حتى لو انعقد قلبه على خلافها، لا يستطيع إلا أن يقول: نعم، أرضى برسول الله قسماً، حتى لو كان قلبه يأباه، لكنه لا يجرؤ على النطق بها.
الناس رجعوا بالدينار والدرهم والمغانم، وأنتم رجعتم برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنكم، ومحبته لكم، ودعائه لكم، (فبكوا جميعاً، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً.
قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار)، هذا هو الذي حازه الأنصار حقيقةً، أما الدينار والدرهم فليس له قيمة.
كان في زمان الأئمة الكبار والتابعين أناس لديهم أموال لا تقدر، الآن ماتوا وماتت أموالهم، ولا نعلم عنهم شيئاً، ولم يبق إلا أهل الآخرة، هم الذين يذكرون على المنابر وفي الجلسات ويترضى عنهم، كم من غني كان في زمان الإمام أحمد أو الإمام البخاري لا نسمع عنه شيئاً، وكان الإمام أحمد رجلاً فقيراً، وكان الإمام الشافعي رجلاً فقيراً، مات أصحاب الأموال التي هي بالمليارات ولا نعلم عنهم شيئاً، وما بقي إلا هؤلاء.
ماذا يعني أن معك ديناراً أو درهماً؟! هؤلاء معهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المستجابة: (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ثم قال لهم: الأنصار شعار والناس دثار) يا لها من بشرى! ويا له من عطاء لا يقبله إلا أهل الإيمان ممن اتجهت قلوبهم إلى الآخرة! (الأنصار شعار) والشعار هو اللبس اللين الداخلي الذي يلاصق جسدك مباشرة، هذا اسمه شعار.
والثياب العليا اسمها دثار، فممكن الإنسان أن يلبس الدثار، والدثار صوف خشن، لكن لا يستطيع الإنسان أن يلبس صوف الغنم على جلده، فكأنه قال: أنتم أقرب إليّ كقرب هذا الثوب الناعم للجلد.(90/11)
نظرات في سورة الأنفال [2]
لقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بصفات كريمة، ووصف الكافرين بصفات ذميمة مقابلة لصفات المؤمنين، ومن هذه الصفات المذكورة نستطيع أن نعرف أسباب النصر والهزيمة لأمتنا.
ولما تخلى المسلمون اليوم عن صفات المؤمنين، وصاروا يتبعون الكفار، ويهتمون بالدنيا، ويستهينون بالدين، سلط الله عليهم الكفار، فاستباحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاروا يتحكمون في كثير من أمور حاتهم.(91/1)
وجل القلوب من ذكر الله
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلا زلنا -أيها الإخوة- نلقي بعض النظر على ما جاء في سورة الأنفال، ونربط بين هذه المعاني وبين واقعنا الأليم، ونستخرج أوجه الشبه بين ما كان عليه الصحابة في غزوة بدر، وبين ما نحن عليه الآن.
قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، ثم ذكر خمس صفات للمؤمنين في مطلع السورة، وقد ذكرنا في الجمعة الماضية أن استهلال السورة بهذه الصفات له أكبر الأثر في انتصار القلة المؤمنة، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة صفات للكافرين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، وقد ذكر في مقابل الصفات الخمس صفات أخرى ولكن بالذم.
قال تعالى: {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4]، فقد ذكر خمس صفات لهم.
وقلنا: إن الوجل هنا ليس هو الخوف المحض كما في قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر:51 - 52] (وجلون): أي خائفون منزعجون، فهذا هو الخوف المحض، {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [هود:70]، إذاً: الوجل المذكور في آية الحجر هو الخوف والفزع، (قَالُوا لا تَخَف) هذا هو الخوف المحض، أما الخوف في سورة الأنفال فهو الخوف المشوب بالمحبة، إذا سمعت ذكر من تحب فإن قلبك ينبض بشدة، وتشعر بشوق مختلط، وهذا الشوق مختلط برعدة تتسلل إلى الجسد، هذا هو الوجل المقصود من الآية.
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]، فهذا هو الوجل المختلط بالمحبة، وتلك هي مقدمات ذكر الله، فأول ما يذكر العبدُ ربَ العالمين يشعر بالوجل، ثم سرعان ما يتبدد هذا الوجل إلى طمأنينة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فليس هناك منافاة بين أن يوجل القلب عند ذكر الله وبين أن يطمئن، فإن الوجل هو مقدمة الذكر، والطمأنينة بالذكر الخاتمة.
فربنا تبارك وتعالى يذكر صفات المؤمنين، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] هذا مقدمة الذكر، قال: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] (تلين): هذه هي الطمأنينة، وهي آخر درجات الذكر.(91/2)
الصم والبكم الذين لا يعقلون
أول الدرجات أن يوجل القلب، وهي أول الصفات التي ذكرها الله تبارك وتعالى للمؤمنين، وفي مقابل هذا قال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، هذا وصف للكافرين في مقابل وصف المؤمنين فذكر الله عز وجل فقد الكافرين لأعظم حاستين من الحواس وأجل طريقين إلى الفهم، ونحن نعلم أن مستقر العقل هو القلب، وأن عقل المرء في قلبه.
ولهذا العقل طرق، أجل هذه الطرق: السمع والكلام، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:22 - 23] عنده الجارحة -وهي الأذن- سليمة ولا إشكال فيها، فهو سمع سمع إدراك -أي: سمع حاسة- ولكنه لم يسمع سمع فهم، بل يسمع فيزداد طغياناً، يسمع فتنقلب عليه المعاني؛ لأن الفهم منحة من الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الأنبياء:78 - 79].
فالفهم منحة من الله عز وجل يختص الله عز وجل بها من يشاء من عباده، فهؤلاء سمعوا سمع حاسة، ولكنهم لم يفهموا عن الله تبارك وتعالى، ولم يستفيدوا بهذا البيان الذي سمعوه وهم معرضون، وهنا تجد التباين ما بين الفئة المؤمنة وما بين الفئة الكافرة.
إننا نذكر هذا التباين لنستفيد منه في هذا الواقع المر، إن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام الآن يصنعون صنيع المشركين: يسمعون آيات الله عز وجل فيخرون عليها صماً وعمياناً.
وعندما تطالع الصحف والمجلات والكتب المنشورة، لا تتصور أننا في بلد يحكمه الإسلام، ففي كل يوم تظهر صور جديدة للردة عن الدين! ويخرج هذا باسم حرية الفكر، وأنه لا حجر على الفكر، وأن المتضرر يلجأ إلى القضاء، والقضاء لسان حاله: (مت يا حمار) فحتى يفصلوا في هذه القضية سيأخذون سنين عدداً، والاستشكالات تخرج من مكامنها.
نصر أبو زيد حتى الآن قضت المحكمة السورية بردته، تغير القاضي وجاء قاض آخر فنسخ هذا الحكم، وهذا رجل كافر، وكفره واضح مثل الشمس في رابعة النهار، ومثله ألوف مؤلفة، فكيف ينصر قوم يُسب الله عز وجل في ديارهم؟! إن الله عز وجل لما ذكر أنه عاقب المشركين قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13] (شاقوا الله ورسوله) يعني: كانوا في شق، والله رسوله في الشق المقابل، تخلوا عن الله ورسوله وتركوا جانبه، وكانوا مع الذين يظاهرون عليه وعلى رسوله وعلى دينه.(91/3)
نصر الله للمؤمنين في بدر مع قلتهم وذلتهم
فهذه مشاقة لله ورسوله: أن ينشر الكفر باسم حرية الرأي؛ ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى أن نضع أيدينا على مواطن النصر، إن الفئة المؤمنة كانوا في وضع لا يحسدون عليه، وضع من جهة الموقع، ومن جهة الإمكانات كانوا في غاية الضعف، قال تعالى وهو يصور ذلك: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42].
ما معنى (العدوة الدنيا والعدوة القصوى)؟ (العدوة الدنيا) أي: المكان القريب من المدينة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والفئة المؤمنة.
(وهم بالعدوة القصوى) أي: جهة مكة.(91/4)
نموذج إيماني بدري
فانظر إلى هذه الطائفة تتلى عليهم آيات الله، فيزدادون بها إيماناً، وقد ظهر هذا الإيمان في جزئيات من غزوة بدر حفظتها لنا كتب السنة.
في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أول ما بدأت الحرب: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فقال: عمير بن الحمام: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم.
فقال عمير: بخ بخ -يعني: أنعم وأكرم-! فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما يحملك على قولك بخ بخ! قال: لا -والله- يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها.
فقام عمير وأخرج من قرنه تمرات، وجعل يأكلها، فلما تذكر هذا الوعد وأنه من أهلها، وهي جنة عرضها السماوات والأرض قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) يعني: الذي يحجزني عن دخول الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض هي أن أموت (فألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل، فكان أول قتيل في غزوة بدر).
يقول: بخ بخ، هذا الذي يتمنى أن يموت، ترى هل تمنى أن يرجع إلى أهله، أو إلى داره أو إلى ماله، أو إلى جيرانه وعشيرته؟ لا، خرج لا يلوي على شيء إلا أن يقتل: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]: النصر أو الشهادة.
المؤمن عزيز، يظل في الدنيا غالباً لا مغلوباً، وهو عندما يتحرك لقتال أعداء الله يقول في نفسه: إما أن أعيش سيداً منصوراً تدين لي الآفاق، وإما أن أموت شهيداً سليماً ولا أبقى على الأرض ذليلاً.
المسلمون في الأندلس مروا بواقع أليم، فكل واحد من الأمراء أخذ مقاطعة وقال: هذه دولتي، وجعل يحارب بعضهم بعضاً للاستيلاء على أملاك الغير، الأسبان كانوا في الشمال والمسلمون كانوا في الصعيد -وجنوب أي بلد هو صعيد البلد- كان المسلمون في جنوب الأندلس والإسلام في شمال الأندلس، تصور أن طليطلة -إحدى مدن المسلمين في أسبانيا- ظل الأسبان يحاصرونها سبع سنوات كاملة، ومع ذلك لم ينجدها أحد.
وطلنكية ظل الأسبان يحاصرونها عشرين شهراً حتى أكلوا الجيف وأكلوا الفئران، بل وكانوا يأكلون الذي يموت منهم، إذا مات رجل أو امرأة كانوا يأكلون هذا الرجل أو المرأة، وبعد عشرين شهراً سقطت أيضاً؛ لأنهم انغمسوا في الشهوات والنساء والقيان، بل طاوعوا ملوك الأسبان، وأغروا ملوك الأسبان بأن يدخلوا إلى البلد؛ فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضربهم بهذه الهزيمة، وليس على الله بعزيز أن يذل أمثال هؤلاء.
يا أيها الإخوة: إن عوامل النصر في غاية الوضوح، إنه لا نصر لنا على الإطلاق على اليهود إلا إذا حققنا هذه الصفات الخمس التي كانت في أهل بدر، مع قلتهم ومع ذلهم ومع فقرهم انتصروا، وكما قلت في مطلع الكلام: الأرض لم تكن تساعد هؤلاء على الكر والفر، لكن الله عز وجل يعطي من أسباب الفوز للطائفة المؤمنة ما يجل عن الحصر وما لا يخطر على البال.
قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، في مقابل هذا بطر وعناد: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] فهذا الإيمان الذي كان عند الطائفة المؤمنة ظهرت مفرداته في القتال يوم بدر.(91/5)
جوانب الضعف المادي عند المسلمين في بدر
الذي يدرس تضاريس الأرض يرى أن العدوة الدنيا كانت رمالاً رخوة، تسيخ الأقدام فيها ولا تثبت الأرجل عليها، بخلاف العدوة القصوى فإنها صخر، الواقف عليها متمكن يستطيع أن يكر ويفر ويرجع ويقدم، بخلاف العدوة الدنيا التي هي عبارة عن أرض رملية لا يستطيع المرء أن يجري فيها ولا يكر ولا يفر.
ثم هناك عامل آخر يدعو أهل مكة إلى الثبات: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال:42] ذلك أن أبا سفيان لما علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخذ ساحل البحر هارباً.
(الركب أسفل منكم) أي: أنه خلف ظهور المكيين القرشيين الذين خرجوا بطراً، وهذا حافز لأن يقاتلوا أشد القتال دفاعاً عن التجارة والأموال التي خلف ظهورهم.
وكان من عادة العرب أنهم يأخذون النساء ويأخذون الأموال حال الحرب؛ ليكون ذلك باعثاً على ثباتهم، فيقاتل الواحد منهم دون امرأته أو دون أخته أو دون أمه، ويفضل أن يقتل ولا ينال أمه ولا أخته ولا امرأته ولا ابنته ولا إحدى حريمه سوء، إذاً: كان هناك حافز لأن يثبتوا، ذلك أن الركب - وهي العير- كانت خلف ظهورهم، وهم إنما خرجوا نجدة للعير، فلا يتصور أن يتركوها.
فانظر إلى هذا الذي تسمعه، وذكره رب العالمين تبارك وتعالى من تباين الأرض التي يقفون عليها! ولذلك امتن الله عز وجل على المؤمنين وهو يقول لهم: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، لما نزل المطر جعل هذا الرمل الرخو صلباً تحت الأقدام؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولاهم بلطفه وعنايته، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] عزيز لا يغلب، حكيم في نصر الفئة المؤمنة برغم قلة الإمكانات.
خرجوا من ديارهم ثلاثمائة وتسعة عشر نفراً كما رواه مسلم في صحيحه، وخرجوا -كما تعلمون- لا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين، وقرابة أربعين أو خمسين بعيراً، كان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، في حين أن قريشاً خرجت تريد القتال، وقد استعدت وأخذت أهبة استعدادها، والأرض في صالحهم، والكثرة في صالحهم، والعتاد في صالحهم، لكن الذي رجح كفة الفئة المؤمنة هو التضرع لله والتذلل، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، لم يغمض له جفن، ظل طول الليل يدعو الله تبارك وتعالى، ويمرغ خديه على عتبة عبوديته، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وقضى ليلته يمرغ خديه على عتبة عبوديته تبارك وتعالى، فقال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، لأنه لا قيمة لجهد الملائكة ولا لجهد البشر ما لم يكن مكللاً بعناية الله عز وجل.
فانظر أخي: هل يهزم طائفة فيها هؤلاء المؤمنون، وفيها هؤلاء الملائكة، ويظاهرهم رب العالمين تبارك وتعالى؟! لا يهزمون أبداً، فئة مؤمنة تحققت فيها صفات خمسة قضى الله عز وجل أن هؤلاء هم المؤمنون حقاً.(91/6)
جوانب القوة الروحية عند المؤمنين في بدر
محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء؛ والمحبة أعظمها على الإطلاق.
هذه الثلاثة هي الحادي الذي يحدو القلوب في سيرها إلى الله عز وجل: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، وهذا الوجل له أثر عملي، وهو أن ينساب الدمع من العين، وهو أهم مظاهر الوجل المختلط بالمحبة، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] وكان هذا هو شأن الصحابة جميعاً، وما كان أحدهم إذا سمع القرآن يسقط مغشياً عليه، وقد قيل لـ ابن عمر رضي الله عنهما: (إن جماعة يسمعون القرآن فيصعقون -أي: من خشية الله- قال ابن عمر: والله إنا لنسمع القرآن ونخشى الله ولا نصعق)، لأن سماعهم كان أتم، وكانت قلوبهم في غاية الاستعداد لسماع قرع الموعظة.
أما الذي نزل في عباد البصرة، فكانت قلوبهم ضعيفة مع قوة آيات الذكر فلم يتحملوا، فالصادقون منهم كان يغشى عليهم، لكن جملة الصحابة كانوا ينكرون هذا، قيل لـ عائشة رضي الله عنها في ذلك، قالت: (إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله عز وجل: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]) وكذلك كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول.
أثر الوجل نزول الدمع، واقشعرار الجلد، وهي رعدة تحس بها في جسمك وفي قلبك، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، هذا نصيب الطائفة المؤمنة.
أما الكافرون فقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:31 - 32]، هذه هي محصلة سماع الذكر، أول ما يسمع الذكر يقول: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) لا يقول: فاهدنا إليه، إنما يقول: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة) إذاً سماع الذكر زادهم طغياناً، بخلاف الذين آمنوا: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
التوكل: هو اعتماد القلب على الله، ليس التوكل كما ظن بعض الغالطين أنه ترك الأسباب بالكلية، فإن السبب جزء من التوكل، والذي يترك السبب بدعوى التوكل أحمق ضعيف العقل، فقد اتفق العلماء جميعاً، وتؤيده مئات النصوص من الكتاب والسنة: على أن السبب جزء من التوكل.
كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة إلى المدينة اختفى في الغار، ولو شاء لمشى، ولكنه اختفى حتى يبين أن الاختفاء عن الأعداء ليس قدحاً في توكله على الله عز وجل، ولما قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا.
قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فإن الله عز وجل الذي خلق عباده وهو عالم بهم قادر على أن يعطل السبب إذا أراد: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198] استخدم حاسة النظر نعم، ولكن نزع الله عز وجل منه هذه الخاصية خاصية إدراك الأجسام بالنظر، فالله عز وجل نزعها لأنه مالكهم، وهو ربهم وخالقهم، ولا يكون شيء في هذا الكون إلا عن إرادته.(91/7)
إقامة الصلاة عند المؤمنين وصفة صلاة الكافرين
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55] وإقامة الصلاة: أن تأتي بها على الوجه الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيمها، بأن يأتي بأركانها وواجباتها ومستحباتها، لا يخرج عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن تمام إقامة الصلاة: الذل لله تبارك وتعالى، وهذا الذل يظهر في وضع اليمنى على اليسرى، وهي علامة الاستسلام؛ لأن معنى وضع اليد اليمنى على اليسرى يشير إلى التكتيف كالمقيد، والإنسان المقيد لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فكأنما كبل نفسه اختياراً بين يدي الله، كأنما قال: أنا ذليل وعلامة ذلي تكبيل يدي (وضع اليمنى على اليسرى) ثم النظر إلى الأرض، والنظر إلى الأرض ذل، وهو علامة الخشوع؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذين يرفعون أبصارهم إلى السماء حال الصلاة: (يوشك أن تخطف أبصارهم)، الإنسان إذا نظر إلى السماء وشمخ بأنفه لِمَ تشمخ بأنفك وأنت في موقع الذل؟! كل هذا من إقامة الصلاة، وهذه هي صلاة المؤمنين.
حسناً: كيف كانت صلاة هؤلاء الجبابرة العتاة الذين سقطوا من عين الله تبارك وتعالى؟ قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35] (مكاءً): أي: صفيراً، (تصدية): هي التصفيق بالأيدي، هكذا كانت صلاتهم، وهذا أقرب إلى اللعب منه إلى الخشوع، إن هذا لا يليق بمكان البيت ولا بشموخ البيت: أن يطوفوا حوله يزعمون أنهم يصلون، وفوق ذلك كانوا يطوفون عراة، ويقولون في ذلك: (لا نريد أن نطوف بثياب عصينا الله فيها)، فانظر إلى هذا الورع البارد! ثياب خلعوها وقلوبهم مفعمة بالشرك، ومفعمة بالكفران، ومع ذلك لا يطوفون بها، وما خطر لهم أن يخلعوا الشرك من القلب، إنما اكتفوا بخلع الثياب.
وهكذا تجد الأمم المتدنية تأخذ من الالتزام الشكل دون الجوهر، يعمرون المساجد بالقرآن، وينقلون القرآن، وشعائر الصلاة بمكبرات الصوت، وفي أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم ينصبون السرادقات والاحتفالات، لكنهم أبعد الناس عن الاتباع، ولا جوهر في الحقيقة.
طرق الصوفية في أيام مولد النبي عليه الصلاة والسلام يأخذون الدفوف ويعقدون الرايات، ثم يغنون ويصفقون ويتمايلون، وهذا هو حقيقة المكاء والتصدية، يضربون بالدف في يوم مولده وهو الذي حرم الدف على المؤمنين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فالدف من جملة المعازف، ويقول: (يستحلون) إشارة إلى أنها كانت محرمة فاستحلوها، فانظر إلى هذا التباين العجيب: يحتفلون بذكرى مولده بما حرمه عليهم!! فأنى ينصرون؟! الأمم الذليلة هي التي تأخذ بظاهر الدين.
خطبة في مولد النبي عليه الصلاة والسلام، كلهم يقولون: الرسول عليه الصلاة والسلام بعث رحمة للعالمين فأين أثر هذا عليكم؟ أين أثر هذا على السلوك العام؟! التوجه العام أن يسب الله، وأن يسب النبي صلى الله عليه وسلم في ديار المسلمين، ولا يصادر كتاب إلا بحكم قضائي، والحكم القضائي يأخذ فترات طويلة، ويقوم شياطين الإنس فيأتون بثغرات القانون، ولا تستطيع أن تصل إلى إنصاف الله ورسوله من العباد إلا بعد جهد كبير، وربما تكون القضية قد ماتت، وتكون المظاهرة الجماهيرية ذهبت أيضاً واختفت.
اليوم هل يشعر أحد بما تعانيه الأرض المحتلة الآن كشعوره الذي كان قبل عشرة أيام؟ وسائل الإعلام كتمت الموضوع، ولم تعد الجرائد تأتي بها في صدر الصفحات، ولم يعد الصحفيون يتكلمون كلاماً تفصيلياً ولا النشرات، بل كلام مجمل مقتضب، نحن الآن شعرنا كأن الوضع سكن، مع أنه في غاية الاشتعال، بل هو أشد مما كان عليه وهكذا، فهؤلاء المشركون إنما ابتدعوا لأنفسهم صلاة، فهم في الحقيقة ما أقاموا صلاة.(91/8)
التسلط اليهودي في الجانب الاقتصادي
قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] (ينفقون) أي: في أوجه البر، وفيما شرعه الله تبارك وتعالى لهم، أما الذين كفروا فقال تعالى: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] إذاً: هؤلاء اليهود الذين معهم المليارات، أغنى رجل في العالم الذي عنده مائة وتسعة وأربعون مليار دولار، رجل صاحب شبكة الإنترنت رجل يهودي، لديهم مليارات لا تنتهي، وهذه المليارات يجندونها لخنق المسلمين في ديارهم بسبب غفلة أبناء المسلمين، شهادة (الأيزو) التي ابتدعها اليهود حتى يفتكوا بالصناعة في ديار المسلمين، تلقفها أبناء المسلمين المغفلون وهم لا يعلمون حقيقة ما ينصب ولا حقيقة ما يدبر لهم.
شهادة (الأيزو) مفهومها: أنك كلما صنعت صناعة فاعرضها علينا، واعرض علينا البضاعة، فإذا رأينا أنك وصلت إلى نسبة من الجودة حددناها لك وأعطيناك هذه الشهادة، فكلما جود المسلمون عملاً عرضوه على أعدائهم نحن وصلنا إلى هذا المستوى! فيقال: بكم تبيع -مثلاً- هذه السلع؟ أبيعها -مثلاً- بمائة جنيه، إذاً: هو سيعرف أنك وصلت إلى هذه الجودة وستبيع بالسعر الفلاني، إذاً هو سينزل بضاعة أجود منها وبأقل من سعرك، فتكون النتيجة أن مصنعك يتوقف بلا أدنى مجهود، بعدما يعطيه الجهد، ونتاج العرق والشغل، يقول له: أنت تستحق الشهادة، تفضل، علق الشهادة على الجدار، وهكذا! المسألة مكشوفة في ديار المسلمين.
ثم يقولون لهم: إن الذي يحصل على شهادة الجودة سوف يكون له محل في النظام العالمي الجديد الذي أصبح فيه التكتل الاقتصادي أهم من السياسة، اتفاقيات (الجات) هي اتفاقيات اقتصادية وارتباطات، يقولون: الدولة التي لا تشترك في اتفاقيات الجات ستموت، لن نستورد منها ولن نصدر لها، إذاً: ديار المسلمين ديار مستهلكة، وكل البضاعة التي فيها آتية من الخارج، إذاً: ستتوقف الحياة في بلاد المسلمين إذا منعوا الاستيراد أو منعوا التصدير.
يقول لك: ما دام أنك عارف أنك ستموت لابد أن تشترك في اتفاقيات الجات.
تقول: أنا مشترك.
يقول لك: لا، ليس بهذه البساطة ولا بهذه السهولة، في مقابل هذه الاتفاقيات، فإن الدول -التي نصت على الاتفاقية- لها تصور للبنية الاجتماعية، ليس هكذا ببساطة تقول: أنا سوف أشترك، أو أترك الاشتراك، فلابد من تحرير الناس، ولابد أن الناس تتحرر بمحض إرادتها وعلى هواها وعلى كيفها.
تقول: فماذا تريدون؟ يقولون: ما معنى أن النساء يتحجبن؟ ما معنى أن المرأة تظل في البيت؟ هذا تخلف، ومن شرط قبولك عضواً في اتفاقيات (الجات) أن تخضع للتغييرات الاجتماعية التي نطلبها منك.
لذلك عقد مؤتمر السكان وما تلا مؤتمر السكان حتى هذه اللحظة التي أتكلم فيها، من تجريم ختان المرأة، ومن مد سنوات الاختلاط بين البنت والولد بعدما كان يفصل بين البنت والولد في فترة جزئية في المرحلة الإعدادية والثانوية، ثم يعودون ثانية يختلطون في الجامعة، يقول لك: الاختلاط من أول ابتدائي إلى أن يخرج من الجامعة، وبعد ذلك دخول المرأة البرلمان، ثم بعد ذلك تصير المرأة عمدة، وبعد ذلك المجلس القومي للمرأة، وبعد ذلك وثيقة الزواج الجديدة، هم حرموا تعدد الزوجات، وكنت أقول في نفسي: كيف يحرمون تعدد الزوجات؟! يستحيل أن يستطيعوا أن يحرموا تعدد الزوجات؛ لأن هناك نصاً في القرآن وإذا بشيطان من شياطين الإنس يبتكر وسيلة شيطانية لتحريم تعدد الزوجات، ويقول لك في القسيمة الجديدة: ثلاثة أسئلة توجه إلى الطرفين، هذا السؤال يقول للمرأة: هل تقبلين أن يتزوج زوجك عليك؟ طبعاً: يستحيل أن أية امرأة في الدنيا -والرجل متقدم لها أول مرة- توافق على أن يعدد زوجها عليها، ولو وجد لكان عشر عشر عشر عشر في الألف، امرأة واحدة من كل مليون، فطبعاً لن تقبل المرأة، فيكتب في قسيمة الزواج (لا أقبل أن يعدد زوجي عليَّ)، وفي حال أنه عدد عليها طبعاً المسألة لا تأتي مرة واحدة، لا زال، وستذكرون ما أقول لكم ولو بعد خمسين عاماً، القسيمة الجديدة: أن من خالف هذه الشروط يدفع عشرة آلاف جنيه أو يسجن، فيكبل الإنسان ولا يستطيع أن يخالف ما كتب في القسيمة.
إذاً: منعوا التعدد، أول ما تقول له: أنت حرمت التعدد؟ يقول: لا، أنا ما حرمته، أنا كيف أحرم؟ أنا فقط أسأل هذا
السؤال
هل توافقين؟ يا أخي! إذا وافقت أنا لا أعترض، وهو يعلم أنها لن توافق، إذاً: بهذا لن يخالف حكم الله، وفي نفس الوقت منع التعدد.
هذا تغيير كامل للبنية الاجتماعية، إما أن تفعل هذا وإلا نخرجك من اتفاقيات (الجات)، إذاً تموت، تنتج في بلدك وتبله وتشرب ماءه، وأنت طبعاً لا تنتج شيئاً في بلدك، لا يوجد في البلد شيء، فأنت مضطر لاستيراد كل شيء؛ إذاً: لازم تدخل غصباً عنك، ولازم تغير البنية الاجتماعية غصباً عنك أيضاً.
فانظر كيف أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم! نحن في غاية الضعف والهوان، ومع ذلك الصوت يجلجل: إننا إذا رجعنا إلى الله، وحققنا شرط العبودية التي أمرنا الله عز وجل بها؛ إننا لمنصورون عليهم مع ذلنا وضعفنا وقلتنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(91/9)
المسلمون بين عز الماضي وضعف الحاضر
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا لله الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة: هذا التباين الواضح الجلي بين صفات الطائفة القليلة المؤمنة، وبين صفات الطائفة الكافرة الكثيرة، يدعونا إلى النظر مرة أخرى في محاولة الخروج من هذا التيه الذي يعيش المسلمون فيه منذ قرون.
بعد انتصار محمد الفاتح رحمه الله وفتح القسطنطينية، وهزيمة المسيحية شر هزيمة على يد المسلمين، بدأ النصارى وأهل المسيحية الشمالية في أوروبا يلمون شعث تفرقهم، واستعانوا في هذا الرجوع بعلمائهم القساوسة، اجتمعوا مع ملوك هذه الأمة وقالوا: كيف الخروج من هذا التيه بعد أن حاقت بهم الهزيمة، وانتصر المسلمون نصراً مظفراً؟ اتفقوا جميعاً، وكان رأيهم كلمة إجماع، أن ينزلوا عند قول علمائهم، اتفق القسُس على أن أعظم مواطن النصر للمسلمين هو كتابهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فعملوا في محاور عديدة: محور إغراق المسلمين بالشهوات، ومحور غسيل الدماغ لمن يذهب من المسلمين إلى بلاد الكافرين، وجعلوا لهم عيوناً في بلاد المسلمين يستقطبون الذين يظهر عليهم النجابة والذكاء، فيأخذونهم إلى بلادهم، ثم يعمل له عملية غسيل مخ حتى يستخدمه فيما بعد.
تقرأ كلام المستشرقين في القرآن فترى كلام رجل منصف، لا يتهجم على القرآن، ولا يقول إن هذا الكتاب فيه تخريف، ولا يقول ليس من عند الله، بل يقول: هو من عند الله وهو الكتاب المقدس، ولكن يأخذ الآيات ويبدأ يحرف هذه الآيات.
الذين تولوا الجامعة عندنا قديماً، والذين أنشئوا بعض الكليات الخطيرة تعرضوا لعملية غسيل الدماغ: رفاعة رافع الطهطاوي، هذا غُسل مخه وذاب.
وهذا أبو التعليم الدكتور طه حسين رجل يأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس لماذا؟ ما الذي جرى في الدنيا؟ لماذا لم يأخذها من ديار المسلمين الذين هم أهل اللغة العربية أصلاً؟ أخذ هناك الدكتوراه ورجع، ولما رجع زوجه عميد الجامعة ابنته الوحيدة لماذا؟ ألجماله، أم لخضار عيونه؟ لا، ابنته الوحيدة يزوجها له لأنه رسم له لوحة، رجل تكلم في الشعر الجاهلي قبل أن يذهب إلى باريس والعلماء كفروه، لما قال: إن دعوى أن قريشاً هي التي بنت الكعبة هذه من أساطير الأولين، ودعوى أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذين بنيا الكعبة من الأساطير أساطير؟! والرجل حفظ القرآن في كتاب القرية، ودخل الأزهر، ولم يقرع سمعه قط: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] لم يقرأ هذه الآية من سورة البقرة؟ ثم يأتي يقول: دعوى إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة من الأساطير؟!! لأجل هذا لم يتردد العلماء في تكفيره، ولكن الرجل أظهر التوبة، ثم ذهب إلى هناك ورجع بدماغ آخر غير الدماغ الذي خرج به، وبدأ هؤلاء يفتعلون صدمات أدبية، ويثيرون النقع والغبار على آيات القرآن والسنة.
هو هذا الذي قرر علماء المسيحية الشمالية أن يدخلوا على المسلمين منه، وبدءوا يستحوذون على تراث هذه الأمة، ألا وهي المخطوطات، ونحن أمة عظيمة لم تخدم أمة من الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى اللحظة التي أتكلم فيها -سنة ألف وأربع مائة وواحد وعشرين هجرية- لم تخدم أمة من الأمم دينها كما خدمت أمة الإسلام دينها.
إنك لو وضعت الكتب التي صنفت في معرفة كلام الله ورسوله كتاباً جنب كتاب لغطت الكرة الأرضية! إن الذي طبع وهو بمئات الألوف بل بالملايين لا يساوي ثلث الذي لم يطبع ولم ير النور؛ كل هذا صيانة لكلام الله ورسوله.
فنظر هؤلاء وقالوا: لو استحوذنا على تراثهم واستلبناه منهم وأخذناه، لحلنا بينهم وبين دينهم، ينشأ الناشئ فيهم واهي الدين، ليس له صلة قوية بتراثه، وكلما فقد هذا التراث ومع مغايرة الخصم ومشقة القراءة، مع طول الزمن ستنفصم العرى بينهم وبين تراث دينهم، فلا يعرفون شيئاً عن مراد الله ولا عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما جاء نابليون إلى مصر سرقوا مخطوطاتنا من المكتبة الأزهرية وغيرها، وذهبوا إلى فرنسا وأنشئوا مكتبة من أكبر المكتبات العربية في العالم في فرنسا هناك! ولا تجد بلداً من البلاد إلا وفيها مكتبة إلى خمسة وعشرين مكتبة في البلد الواحد، كلها تعج بتراث المسلمين.
في نفس الوقت بدءوا -كما قلت لكم- يقرءون الشبهات في كتب المسلمين، وكم بذل هؤلاء القسس من الجهد في فهم اللغة العربية، مع أن اللغة العربية من أصعب اللغات، وفهم اللغة العربية يحتاج إلى تدريب وممارسة في غاية الجدية، فتخيل أن رجلاً إنجليزياً أو رجلاً فرنسياً أو أسبانياً أو أية جنسية من الجنسيات، عكف على قراءة أصول اللغة العربية، واستطاعوا في خلال عشر سنوات أو عشرين سنة أن يوجدوا كوادر محترفة تقرأ في كتب المسلمين وتفهم كتب المسلمين، هؤلاء بذلوا جهداً خارقاً وحبسوا أنفسهم، وكانوا يبنون الأديرة في قلب الصحراء حتى يجبروا أنفسهم على العزلة، يريد أن يعتزل فيضطر أن يحلق شعره كله، لماذا يحلق شعره؟ من أجل مصلحته، شكله صار قبيحاً، فيجبر نفسه على العزلة، هؤلاء ذهبوا إلى الأديرة التي هي في فيافي الصحراء، وحرموا أنفسهم من متع الحياة ومباهجها، لأنهم ما كانوا يرون إلا تأثيل مجد المسيحية.
وهكذا ينبغي علينا إذا كنا نريد أن نصل حقاً، ونبين أو نظهر للناس علامة جدنا؛ أن يظهر العلماء مرة أخرى؛ وألا ينفصل السلطان عن العلماء، إن العلماء هم الناصحون، لكن الحاكم يقرب لاعبي الكرة، والممثلين والمغنيين والله لو ظللنا نهتف ونصرخ إلى أن نموت، فإننا لن نحرر شبراً واحداً من الأرض السليبة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منا وما بطن والإثم والبغي بغير الحق اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(91/10)
حق النبي على أمته [1]
إن للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقاً كثيرة على أمته، وهي عظيمة لعظم صاحبها، فمن هذه الحقوق محبته، وتعظيمه، والاقتداء بسنته، والدفاع عنه وعن سنته، وعدم الاعتراض على ما جاء به، وليعلم أن السنة وحي أنزل على نبينا لبيان ما أجمله القرآن، فالواجب علينا المحافظة على هذا الدين بتعلمه وتفهمه وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواجهة أهل البدع والأهواء الذين يشككون في دين الله، وينكرون سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(92/1)
سنة الدفع وتعلقها بحق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إن الله تبارك وتعالى ذكر سنة الدفع في آيتين من القرآن العزيز، كلاهما في معرض القتال، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وجاءت هذه الآية بعد القتال الذي دار بين جالوت وبين داود.
وفي الموضع الثاني من سورة الحج قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40].
سنة الدفع من أهم السنن الكونية التي ترتهن الأمم بها، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، أي: لابد أن يتدافعوا ولابد أن يقتتلوا، لكن هناك فارق؛ فإن الله عز وجل جعل قوة الحق ذاتية فيه، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، فالحق قذيفة، يحمل أسباب القوة في ذاته، لكنه يحتاج إلى مسدد، ومن قوة الحق أنه يتوجه إلى كبد الباطل وإلى دماغه، لا يتوجه إلى العضلة ولا إلى الكتف، وإنما إلى الدماغ، ولذلك قال تعالى: (فَيَدْمَغُهُ) يدمغه نستفيد منها فائدتين: الفائدة الأولى: أنها تصيب دماغه، والمرء إذا أصيب دماغه لا يعيش.
ثانياً: فيه معنى الدمغ، الختم، أي أن الذي يصيبه الحق يصاب بدمغٍ وعلامةٍ ظاهرةٍ يظهر منها أنه مبطل، والباطل زاهق، لا روح له ولا نفس.
فمن الفوائد التي يستفيدها الناس من سنة الدفع أن نرجع فنغير بعض الأبجديات، التي يظن كثيرٌ من الناس أنه على علم بها، وإذا به بسبب سنة الدفع يعلم أنه لم يكن عالماً بما كان يقدر في نفسه أنه يعلمه.
الشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ما معناها؟ كثيرٌ من الناس يظن في نفسه أنه يفهم معنى الشهادة، وهو لا يفهمها؛ لأنه ورثها، ولا نشترط ولا نقول: إن الإيمان لا يكون إلا على سبيل التفصيل لا، بل يقبل إيمان العامي جملةً، والتفصيل بحسب الأنفس وحسب الأشخاص، لا نشترط أن يقف كل مسلمٍ على حقائق الدين ويعلم الأدلة، ويعلم النواقض ويعلم الردود، إنما يكفي الإيمان المجمل.(92/2)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
ينبغي أن يعلم المسلم الذي يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أن الشطر الثاني من الشهادة، وهو قولنا: محمد رسول الله، معناه: أن لا متبوع بحقٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شريك له في الاتباع، وأي عالمٍ يأتي بعده إنما نطيعه لطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الأصل، وقد أجمع أهل العلم على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه، وبعد مماته إلى سنته؛ حتى تقوم الحجة على كل الخلائق الذين يأتون من بعده عليه الصلاة والسلام، وهذا شيءٌ لا نعلم أحداً خالف فيه: أن الرد إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته يكون إلى سنته.
فترى كيف نقلت هذه السنة؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يطعن عليها؟(92/3)
كيفية نقل السنة النبوية واهتمام الصحابة ومن بعدهم بذلك
نقول بملء الفم: إنه لم يحظ نبيٌ قط من أنبياء الله بعشر معشار ما حظي به نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا نعلم نبياً رزق بأصحابٍ أوفياء نقلوا كل شيءٍ عنه؛ لتتم الأسوة به غير نبينا عليه الصلاة والسلام، فما من بابٍ من أبواب العلم إلا وفيه أثر، مهما دق، حتى فيما يفعله الناس فطرة، ولا يحتاجون فيه إلى تعليم، كقضاء الحاجة مثلاً، قال اليهود لـ سلمان رضي الله عنه: (إن نبيكم علمكم كل شيءٍ حتى الخراءة؟ قال: نعم، علمنا: أنه إذا دخل أحدٌ الخلاء ألا يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بثلاثة أحجار)، حتى في مثل هذا الأمر، حتى في إتيان الرجل شهوته، حتى في الأكل والشرب ما ترك شيئاً، وكانت أعينهم (كالكاميرا المسجلة) يقولون: (كنا نعرف قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر باضطراب لحيته) وحتى لما قرأ في سورة المؤمنون فجاء ذكر موسى وهارون سعل سعلةً فركع، أنه سعل سعلةً فركع.
ويخرج جابر بن سمرة خصيصاً من بيته في ليلةٍ قمراء ليعقد مقارنةً بين القمر وبين وجه النبي عليه الصلاة والسلام، وخرج من بيته لأجل هذا، يقول: (خرجت في ليلةٍ قمراء إضحيان -كان القمر تاماً- فجعلت أنظر إلى القمر تارة، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، فكان في عيني أجمل من القمر)، ويسجل مثل هذا الحب.
ولهم في ذلك أعاجيب في مسألة النقل، بحيث أن الأمر كما قال أبو ذر رضي الله عنه: ما من طائرٍ يقلب جناحيه في السماء إلا وعندنا منه علم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقلوا السنة على أوثق راءٍ من الإحكام والاتصال في السند، والدقة في الضبط والحفظ.
فالنصارى لا يصلون إلى عيسى عليه السلام بإسنادٍ متصلٍ أبداً، ولا يصلون إلى أصحاب نبيٍ أصلاً، والانقطاع في الأسانيد عندهم قد يصل إلى مائة عام، انقطاع بين الرجل وبين شيخه، بين الذي تلقى عنه الكلام، قد يصل الانقطاع إلى مائة عام، إنما نحن معاشر المسلمين نقلنا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام على أوثق القواعد العلمية، وتعب العلماء في تقريب هذه القواعد كعادة الأصول، الأصول مثلها كمثل هذا الجدار في الترابط والتماسك والقوة، فكل عالم يضع لبنة ويمضي، فهذا الجدار ليس نتاج فكر عالم واحد، إنما هو نتاج فكر مئات؛ بل ألوف العلماء الأذكياء، النابهين، فنقلوا السنة، ووضعوا لنا الشروط والضوابط لقبول الأفراد.(92/4)
معارضة السنة بالعقل ومعارضته لها
مما يدعو للأسف أن الخلائف عندما جاءوا لم يكلفوا أنفسهم النظر فيما حققه الأسلاف! يا ليتهم نظروا، لكنهم طرحوا هذه الجهود وراء ظهورهم، وطفقوا يعترضون على السنة، كلما نقل إليهم كلام لا يستسيغونه، جعلوا عقولهم حاكمةً على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتكروا أشياء هم لا ينفذونها في واقع حياتهم.
يقولون مثلاً: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة، مع أنهم يقبلون أخبار الآحاد من الكافرين، هذا الذي ينكر الشفاعة الآن، كونها جاءت عن طريق الآحاد، وهذا ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، إنما هو مذهب المعتزلة، الذين يخلدون المذنبين أهل الكبائر في العذاب، ويحتجون بحجج واهية قد رد عليها أهل السنة، وما تركوا قولاً لقائل، وأتوا على بنيانهم من القواعد، فيأتي هذا الآن في الوقت الحاضر فيعرض أدلة المعتزلة يحسب أن أهل السنة لم يردوا عليها.
لو أن هذا الإنسان أو غيره من المعترضين على السنة بعقولهم، أصيب بمرض وسافر إلى بلاد الغرب، فقال له الطبيب: أنت مريض بالمرض الفلاني، وأنت ستخضع لعلاج مكثف، وتأخذ الأدوية الفلانية، ترى: هل يقول له: أنت طبيب واحد -يعني: أنت فرد- ومن الممكن أن تخطئ في التشخيص، فلو سمحت ائتني بثلة من العلماء الأطباء -عشرين طبيباً، أو ثلاثين طبيباً- ممن يقع بهم التواتر، ويقولون: إنني مريض بالعلة الفلانية؛ حتى أسلِّم لك! هل سمعتم بهذا في العالمين: أن رجلاً ذهب إلى طبيب، فقال له: أنا لا أقبل كلامك، حتى تأتيني بأطباء يبلغ عددهم حدَّ التواتر، ولا يجوز عليهم الخطأ؛ حتى أقتنع بكلامك، وآخذ العلاج؟ ما علمنا أن أحداً قال هذا الكلام! فلماذا يقولونه في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذا الذي قال له: أنت مريض بالمرض الفلاني رجلٌ كافر، يعني لا ينعقد به خبر، فضلاً عن أن ينعقد به اليقين، ومع ذلك يسلِّمون له، فإذا اعترضنا عليهم بهذا القول اتهمونا بالجهل، وأنه لم يقل أحدٌ بقولنا.
ثم يجوزون الأشياء العقلية التي لم يجر عمل الناس عليها، يجوزونها في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأبونها في كلام الناس وفي أخبار الناس، فمثلاً: هل هناك امرأة معصومة بالنص من الزنا أي امرأة كانت؟! غير النساء اللاتي برأهن الله تعالى وعصمهن من الزنا، نحن نقول: إن العفيفات كثيرات، لكن قد تكون عفيفة وتزل مرة -وهي عفيفة-، وهذا الخطأ قد يرتكب بسبب ضعف الإيمان، ومع ذلك لا يزيل الخطأ اسم الإيمان عنها، فأي امرأةٍ في الدنيا ممكن عقلاً أن تزني، وليس هناك دليل على عصمة هذه المرأة ويستحيل منها الزنا
السؤال
أليس من الجائز أن يكون الولد الذي تعتقد في نفسك أنه ولدك، يكون ولد رجل آخر أتت به المرأة؟ نحن الآن نتكلم بالعقل مثلما يتكلمون في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي يتكلم في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا العقل المجرد، لو أني قلت له: إن هذا الولد الذي ينسب إليك في الهوية -في البطاقة وفي الأوراق الرسمية- ليس ولدك عقلاً، احتمال أن تكون امرأتك زنت، وهي ليست معصومة من الزنا؛ لأنكر ذلك أشد الإنكار، ولجزم أن امرأته عفيفة، ونحن لا ننكر ذلك، لكن نقول: عقلاً يجوز للمرأة أن تزني، وعقلاً يجوز لأي رجل أن يشك في نسب ولده، لكن هل جرى هذا الكلام بين الناس؟ لم يجر.
المرأة تلد الولد ابن سبعة أشهر، ابن ثمانية أشهر، يقول الأطباء: إنه يلزمه أن يدخل الحضانة لمدة شهر، حضانة فيها عشرات الأطفال، فأول ما يولد الولد قبل أن تتحقق من شكله، وقبل أن تعرف أن هذا ولدك تضعه في الحضانة، ويكون له رقم، أليس من الجائز أن تخطئ الممرضة فتأتيك بولدٍ ليس هو ولدك، أو هذا مستحيل؟ جائز عقلاً أم لا؟ جائز عقلاً، فكيف ساغ لك أن تسلم لهذه الممرضة مثل هذا الأمر الخطير، وتأخذ الولد مسلِّماً ومطمئناً مائة بالمائة أنه ولدك، مع أنه جائز عقلاً أن تخطئ الممرضة فتأتيك بغير ولدك.
لماذا لا يعمل بهذا؟ مع وجود الفساد العريض المترتب عليه، فلماذا يأخذون هذا الجواز العقلي ويجعلونه في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يا ليتهم استضاءوا بكلام أهل العلم الأوائل، لكن يأتون بأدلة المعتزلة في إنكار الشفاعة مع أن أهل السنة والجماعة قد ردوا على المعتزلة، أراد أن يعيدها جذعة مرةً أخرى في زمن انتشر فيه الجهل، بحيث قد أصبح الناس لا يعرفون من الدين إلا قليلاً، فتراه يأتي بالآيات المطلقة التي خصصت بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: أن لا شفاعة لأحد، إنما هي لله، ويستدل بهذه الآيات يقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، فهذا نصٌ في عدم قبول الشفاعة على الإطلاق، وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وقال عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]، {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70]، ويأتي بهذه الآيات، ويقول: هذه الآيات فيها دليلٌ على أن الشفاعة لا تكون لأحد.
فنقول من القرآن: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أين ذهبت هذه الآية، وهذا دليلٌ واضح على أن الله يأذن لبعض الناس أن يشفعوا وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، إذاً سيأذن لبعض عباده، ويرضى عن شفاعتهم، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، إذاً هناك استثناء، وهناك إذن بالشفاعة لمن شاء سبحانه.
لماذا طويت هذه الآيات؟ ولماذا لم تبين وتوضع بجانب الآيات الأخرى؟ هذا هو المكر، ينقلون شيئاً ويتركون أشياء، وقد أجمع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على قبول الأحاديث المتكاثرة، التي بلغت درجة التواتر العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع، وأن المؤمنين يشفعون، وأن الشهداء يشفعون، ووردت في ذلك أحاديث صحيحة، فما هي المصلحة أن يأتي رجل على طائفة من الأخبار ويأخذها ويترك ما عداها؟ هذه فتنةٌ قديمة أطلت برأسها الآن وقد دحرها أهل العلم قديماً، وانتهت، ثم بدأت تعود جذعةً مرةً أخرى، والسبب في ذلك: غياب حرس الحدود، العلماء الرسميون ليس لهم رد فعل حتى الآن، مع أن هذا العفن يطفح يومياً على صفحات الجرائد والمجلات، وليس هناك رد فعل، وينبغي أن تصان عقائد الناس، ولا يسمح لهؤلاء أن يتكلموا إلا بشهادة تخصص، لماذا يتكلم الكل في دين الله عز وجل، ولا يحترمون أهل التخصص؟ العلماء هم الذين يقولون: هذا مستحب هذا واجب هذا مباح هذا مكروه هذا حرام هذا حقهم وملكهم، ومع ذلك يريدون أن ينتزع هذا الحق منهم، ويقولون: الحق هذا يذهب للأطباء، مع العلم أن الطبيب لا يجوز له أن يقول: هذا حرامٌ شرعاً أو هذا حلالٌ شرعاً، لا يجوز له ذلك.
الختان فيه أحاديث، وطالب الأزهر من يوم أن أنشئ وهو يقرأ في كتاب الطهارة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ختان الرجل وختان المرأة.
وفي صحيح البخاري: (اختتن إبراهيم بالقدوم لما بلغ ثمانين عاماً) ونحن مطالبون بملة إبراهيم، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فملة إبراهيم تلزم المؤمنين جميعاً رجالاً ونساءً، فإذا كان إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم، فهذا فيه مشروعية الختان للرجال والنساء معاً، إذ الأدلة تعم الرجال والنساء، ولا يقال: هذا للرجال دون النساء إلا بدليل، كأن يقال: ثبت الدليل أن النساء لا يشرع في حقهن الختان.
فلما نقلوا هذا إلى غير أهل التخصص أغرى ذلك الجهلة بخطوة أخرى مما جعل امرأة قد بلغت من العمر سبعين سنة، تقول في مقال لها: وبعد أن كسبنا الجولة الأولى في استصدار قانون بتحريم ختان النساء، فأنا الآن أطالب بمنع ختان الرجال.
ليس عندها حياء، حتى لو كان لها وجه، ليس عندها حياء حيث تقول: أطالب بمنع ختان الرجال، ومن ثم تتكلم أن هذا أصلاً يؤثر على المسألة الجنسية! امرأة بلغت من العمر سبعين سنة، ما هذا الهوان الذي بلغناه؟! هذا معناه أنها ترتفع على كل رجل يحمل العلم الشرعي في هذا البلد، ومع ذلك لم تعاقب المرأة، ولا قيل لها: لقد تعديت الحدود، كيف تطالبين بمنع ختان الرجال، ولم يرد عليها المهتمون بالشريعة، بل أول من رد عليها الأطباء، لأنهم يعتقدون أن هذا من تخصصهم، مع أنه من خصائص أهل الشريعة بالدرجة الأولى.
إن عمل وفعل هؤلاء الملبسة أغرى كثيراً من الجهلة في أن يطعنوا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبدءوا يأتون بالأحاديث التي لا يفهمونها، ولا يعرفون وجهها، ويعترضون عليها، وأسهل شيء عندهم هو أن يقول لك: هذا مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام.
ولو أتيتهم بكل آية لم يؤمنوا؛ لأنه ليس لديهم منهج علمي يتحاكمون إليه، اعلم أن الأخبار تقوم على الصدق والكذب، فالصادق يقبل خبره، والكاذب يرد خبره، والمتوهم نتوقف في خبره حتى نتأكد أنه محق، هنا الضابط العام لقبول الأخبار، فهؤلاء إذا جاء حديث بسندٍ واحد، هذا الحديث كأن يكن في سنده مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وهذا إسناد كالشمس، مالك بن أنس الإمام العلم، ونافع مولى ابن عمر، وابن عمر صاحب النبي عليه الصل(92/5)
الاعتراض على أحاديث في الصحيحين والرد عليه
هذه القصة التي رواها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد في الصحيحين، من أصح الأسانيد، قال صلى الله عليه وسلم: (جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك، ففقأ موسى عينه، فصعد ملك الموت إلى الله، وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، وقال: اذهب لعبدي فقل له: ضع يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مستها يداك سنة.
فلما نزل ملك الموت إلى موسى عليه السلام وأخبره بذلك، قال: أي ربِّ! ثم ماذا -بعد هذا العمر الطويل-؟ قال: الموت.
قال: فالآن) فيقولون: هذا حديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل على كذبه أمور اسمع لتعلم حجم الهجمة الشرسة، وكيف يلعبون بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: أولاً: يستبعد هذا من نبيٍ من أولي العزم أن يفقأ عين ملك الموت.
ثانياً: أنه صعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فكأن الله لا يعلم ذلك.
انظر إلى طريقة الاعتراض! بهذه الطريقة يعترض على كلام الله في الوحي المنزل، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، إذن: هو يعترض على الآية بنفس الطريقة التي اعترض بها على الحديث، يقول: كيف يحملون أثقالاً مع أثقالهم، والله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؟ كلام الله المنزل يعترض عليه بمثل هذه الطريقة أيضاً، فهلاّ قرءوا كلام أهل العلم في توجيه هذه الأحاديث، وأنه ليس فيها أي معنى منكر؟ فموسى عليه السلام كان جالساً في بيته، فإذا به يرى رجلاً داخل البيت من أين دخل؟ لم يطرق باباً، والنوافذ مغلقة، وإذا بهذا الرجل يقول: أجب ربك.
يعني: سلم روحك، هذا معنى الكلام، يعني يريد أن يقتله، يريد أن ينتزع روحه، فدفع الصائل مشروع، أي رجل يدخل عليك ويريد أن يقتلك فقاومه حتى لو أدى ذلك إلى قتله.
وموسى عليه السلام فعل بهذا الرجل هذا الفعل لكونه دخل البيت بدون إذن، كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام من أمره بفقء عين الناظر في بيت غير بيته بغير إذن، وهذا حد شرعي، صعد ملك الموت إلى الله عز وجل وقال: (إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت)، رد الله عينه ثم أرسله مرة ثانية، فقال له: أجب ربك، لماذا لم يفقأ عينه في هذه المرة، وفقأ عينه في المرة الأولى؟ لأن ملك الموت عليه السلام كان يأتي الأنبياء عياناً كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح في هذه القصة أيضاً.
فلما أراد الله أن يبتلي موسى عليه السلام، نزل ملك الموت هذه المرة بغير صورته التي يعرفها موسى، فلذلك فقأ عينه، فلما رد الله عز وجل عليه عينه ونزل بصورته التي يعرفها موسى لم يفقأ عينه؛ علم أن الأولى كانت اختباراً وامتحاناً،؛ لذلك لم يفقأ عينه هذا جواب.
الجواب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يقبض نبيٌ حتى يخير)، يخيره الله عز وجل بين الدنيا وبين الآخرة، كما رواه أبو سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوماً فقال: (إن عبداً خيره الله بين زهرة الحياة الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده.
فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله.
قال: فتعجبنا لهذا الشيخ لِمَ يبكي؟ وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير) خيره الله بين ما عنده وبين زهرة الحياة الدنيا، فاختار ما عنده.
فكل نبيٍ يخير بين أن يلقى الله وبين أن يعيش فهم يختارون لقاء الله، ولذلك في آخر الحديث لما قال: (أي ربِّ! ثم ماذا؟ قال: الموت.
قال: فالآن) حينئذٍ خُير أنه يعيش بعدد سنوات شعر العجل، أو أنه يلقى الله، فلما خُير وعلم أن ذلك من عند الله اختار ما عند الله، فلما نزل عليه ملك الموت بغير صورته المعهودة وقال: أجب ربك -يعني: سلم روحك- ولم يسبق أن نزلت علامة، أو علم موسى أن هناك علامة، فظن أنه مفترٍ فعاقبه بفقء عينه، ولذلك لم يفقأ عينه في المرة الثانية.
ثم يقول: إن الصالحين لا يكرهون الموت، وهذا خطأ، بل الصالحون يكرهون الموت، وفي هذا يروي الشيخان حديثاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
فقالت: يا رسول الله! كلنا يكره الموت) ومعروف أن لفظة (كل) من ألفاظ العموم، بل من أقوى ألفاظ العموم.
فهاهي عائشة رضي الله عنها تتحدث عن الكل: (كلنا يكره الموت) فلم يقل لها: لا يا عائشة، ليس كل الناس يكرهون الموت، بل الصالحون يحبون الموت، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التعقيب عليها في هذا، وترك البيان؛ دل على أنه إقرار منه لها.
وأن كل الناس يكرهون الموت، ولكن قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الأمر كما تذهبين إليه -أي: من الفهم- إن العبد الصالح إذا كان في إدبارٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة رأى ما أعد الله له من الكرامة؛ فأحب لقاء الله؛ فأحب الله لقاءه.
وإن العبد الفاجر إذا كان في إدبارٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة رأى ما أعد الله له؛ فكره لقاء الله؛ فكره الله لقاءه).
فأي معنى منكر -يا عباد الله- في هذا الحديث حتى يقال: هذا كذبٌ على النبي عليه الصلاة والسلام، ويتجرأ على الدعوى أن صحيح البخاري فيه أربعمائة حديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام.(92/6)
الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه والرد عليه
لقد صنف رجل كتاباً وسماه: الأضواء القرآنية لاكتساح ما في البخاري من الإسرائيليات، ويطبع في المطابع، ويباع على الأرصفة، وكأن هذه البلاد لا يوجد فيها عالم، ويطبع الكتاب أكثر من طبعة، بل إن كتاب: أضواء على السنة المحمدية، لرجلٍ أزهريٍ فاسد، فصله علماء الأزهر آنذاك من الجماعة الأزهرية، ألف كتاب: أضواء على السنة المحمدية، يتهم أبا هريرة بالكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، ويطبع هذا الكتاب في أكبر دار طبع رسمية في البلد، وهي دار المعارف، ويمر هذا ويباع، ويطبع حتى إلى الآن! فلم يكذب أبو هريرة حافظ الصحابة؟! وهو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اللهم حبب أبا هريرة وأمه إلى عبادك، قال أبو هريرة: فلا يسمع بي يهودي ولا نصراني إلا أحبني) عملاً بهذه البشارة، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة حافظ الصحابة، ما طعن واحدٌ قط في صدقه يوماً ما.
فلم يتكلم عن الصحابة بهذا الهراء؟! وتطبع الكتب في الطعن فيهم، وعدم رد العلماء الرسميين عليهم جناية كبيرة، من الذي يحفظ على الناس عقائدهم؟ لقد بدأ الشك يتسلل إلى الذين لا يعلمون شيئاً.
جلست مع بعض الناس وتكلمت معه في هذه المسألة، فقال لي: يا أخي لا يضر السحاب نبح الكلاب.
ومثل هذا كثير.
كنت أتخيل كل شيء إلا شيئاً واحداً، لم أتخيله قط، وهو أن يخرج من بين أظهرنا رجل يدعي النبوة فيجد له أتباعاً، ممكن أن نصدق أي شيء إلا هذه، يخرج رجل من بين أظهرنا يقول: أنا رسول الله، والرسالة لم تختم، ويجد له أتباعاً! إذاً فكثير من الناس مستعد لقبول الباطل الظاهر، وحماية عقائد الناس أمر واجب، ولابد أن يقف العلماء للذود عن دينهم، ولا يغترون بقول القائل: (لا يضر السحاب نبح الكلاب)، وقول الآخر: يا أخي! صحيح البخاري في السماء، فلا يضر أن يأتي جاهل يتكلم على صحيح البخاري دعه يفضفض هذا هو تعبيره.
فلم يتكلم عن صحيح البخاري، ويشكك فيه، ويدعي أن البخاري يروي المكذوبات، فكلما سمع حديثاً قال: وما يدريني لعله مكذوب؟ حتى يأتي ذلك على جميع السنة، فيصبح الناس وليس في أيديهم من البيان الذي امتن الله عز وجل به على المسلمين، حيث يقول سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فإذا جاز أن يلعب بالسنة، وما جاء فيها من البيان والتوضيح؛ فإن الإجمال لا يكفي أحداً، إنكار السنة من حيث التفصيل، وإثباتها من حيث الجملة؛ بدعة قديمة بدأت تطل برأسها الآن.(92/7)
الاهتمام بطلاب العلم واجب شرعي
إن مما على عموم الأمة أن تفرغ طلاب العلم، فلا ينفقون أوقاتهم في طلب المعاش، بل يتفرغون لإتقان العلم وأصوله؛ من أجل الذود عن هذا الدين، هذا واجب على العوام.
أنت أيها التاجر الغني! لا تعرف شيئاً عن الأصول، ولا تستطيع أن ترد عن دينك، اكفل طالب علم، كان طلاب العلم قديماً تكفلهم الدولة، ولهم أعطيات، لذلك كثر العلماء وطلاب العلم في ديار المسلمين، فمع كثرة العلماء لا يستطيع المبتدعة أن يطلوا برءوسهم على السنة ولا يتكلموا فيها.
الآن كثير ممن يشار إليهم بالبنان يصعدون المنابر، فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون، نصف الأحاديث التي يحفظونها لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا رجل محب لله ولرسوله إن شاء الله، ونحسبه محباً لله ورسوله، ومع ذلك يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، فيرحم الله زماناً سمع فيه شعبة بن الحجاج رجلاً يروي حديثاً منكراً، فقال له: لتنتهين عنه أو لاستعدين عليك السلطان، وكأنه لم ينته فذهب إلى أمير المؤمنين ويقول: إن رجلاً يروي حديثاً منكراً، فيعاقب بالحبس، أو يعاقب بالمنع من التحديث، فيرحم الله ذلك الزمان.
إن إيجاد العلماء مهمة الأمة جمعاء، فرِّغ نفسك لطلب العلم، فإن لم تستطع أنت فتعاون مع آخرين في كفالة طالب علم.
إننا مقبلون على خطبٍ عظيم، كل يوم يطل برأسه، ونحن نخاف على العوام مما يكتب في الجرائد والمجلات من طعن في الدين، وتشكيك في الثوابت.
فإن هذا دين يجب المحافظة عليه، والدفاع عنه، فإذا كانت الحكومات تخصص إذا كانوا حرس حدود لمنع دخول (الهروين) و (الكوكايين) فإن الاعتداء على صحيح البخاري أعظم من دخول هذه الأشياء.
لما رسم النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الخنزير، ولم يتحرك الناس، لأنه في تلك الفترة كان هناك مفاوضات على الأرض، إن عرض النبي صلى الله عليه وسلم أثمن من الأرض، فلو أخذت أرض المسلمين جميعاً من تحت أرجلهم لكان أخف ألف مرة من أن يسب النبي صلى الله عليه وسلم وفينا عينٌ تطرف.
ينبغي أن يظهر هذا المعنى عند الناس، وأن يوالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدفعوا هؤلاء الذين يكذِّبون بسنته بلا مستند ولا برهان.
بإيجاد خط الدفاع الأول الذين هم في طبقة الفرسان، ونحن نعلم أن الضحايا سيكثرون في هذه الطبقة، الضحايا والقتلى يكثرون في الصف الأول، لكن نمهد للذين يأتون بعد ذلك، وقد هددنا الله تبارك وتعالى، فقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في مثل هذا الجحود والنكران تضيع الأمانة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(92/8)
الرد على الآراء الشاذة سبب في إشاعتها
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن الأصول التي ما اختلف عليها أحدٌ قط من أهل العلم، ولا من العوام، كثرت اليوم الآراء التافهة التي تتناولها، فكثر الكلام في الدين، والطعن فيه، أَوَ كلما قال رجلٌ رأياً تافهاً رددنا عليه؟ كان ينبغي أن لا يرد عليه حتى يموت قوله، لكن المشكلة أنه كلما قال رجل قولاً تافهاً قامت الصحافة والجرائد وأشاعوا هذا القول، وبعد ذلك يقولون: نريد من أن أهل العلم أن يردوا عليها، نريد من أهل العلم أن يقولوا قولهم في الموضوع، مع أنه قول تافه، ليس له قيمة، وما ينبغي أن يلتفت إليه، مثل ذلك الرجل الذي يقول: إن القرآن لم يحدد أن يوم عرفة هو يوم تسعة من ذي الحجة، وأن الله عز وجل قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] أشهر الحج: شوال، وذو العقدة، وعشرُ ذي الحجة، أي: سبعون يوماً، أو أقل بيومين تقريباً، على حسب الرؤية.
إذن بدل من أن يتزاحم خمسة أو أربعة ملايين يقتل بعضهم بعضاً عند الجمرات، أو في طواف الإفاضة، أو طواف الوداع، أو في النفرة من عرفات، فبالإمكان أن نقول: في شهر شوال يحج أهل البلاد الفلانية، وفي شهر ذي القعدة يحج أهل البلاد الفلانية، وفي شهر ذي الحجة يحج أصحاب البلاد الفلانية، وبهذا نتغلب على مسألة الزحام، فبالتالي الذين سيحجون من واحد شوال إلى عشرة شوال يكون يوم عرفة بالنسبة لهم تسعة شوال، ويوم العيد عشرة شوال، وبهذا يكون هناك أكثر من يوم عرفة، وهناك أكثر من يوم نحر! كل هذا لنتغلب على مشكلة الزحام في الحج، مثلما حصل في تونس سنة (1964م) حيث صدر قرار -لكن لم يعمل به- بنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، هي اسمها: صلاة الجمعة، من أجل يوم الجمعة فهذا قال لك: لا، إن يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية، فنجعل الصلاة فيه؛ لأن يوم الجمعة يذهب الناس لصلاة الجمعة فيتعطلون عن الإنتاج ساعة! فلم يقول هذا الكلام؟ يقول: إن القرآن لم يقل لنا: إن يوم عرفة يوم تسعة ذي الحجة، وأن يوم العيد كان يوم عشرة، لم يرد هذا في القرآن، وإنما جاء في السنة وفيها أحاديث مكذوبة كثيرة؛ فهذا لعله من المكذوب، فنحن نعرض -بدل ما نختلف هل هو صحيح أو ضعيف؟! - عن الكلام هذا، وننظر إلى مصلحتنا! هناك شخص اقترح اقتراحاً وهو: أن بدل الزحام الذي يكون حول الكعبة نقوم بإيجاد آلة سريعة يركب الناس عليها بذلك يكونون قد طافوا الأشواط السبعة في دقيقة واحدة، ويكون الجماعة الذين يركبون آلة السير قد طافوا طواف الإفاضة، وطافوا طواف الوداع، أو طواف القدوم، أو طواف العمرة في لحظات، وينزلون ويأتي غيرهم وانتهى الأمر! الآن هذا الكلام نحن نستخف به، لكن قد يصدر فيه قرار فيما بعد، مثلما نسمع بأن هناك دعوى بتدويل الحرمين، يعني: لا تكون الدولة السعودية هي التي تتحكم فيه، وإنما كل دولة تتحكم في الحرمين سنة، وهكذا.
وكل كلام قد يقال هزلاً في يومٍ من الأيام، ربما يصير حقيقة مع انتشار الجهل وغياب العلماء الربانيين، قبل عشرين سنة قرأت عن الدولة البترولية الجديدة، وصار هذا الآن مشروعاً يريدون تحقيقه، وإن لم يستيقظ المسلمون ربما تحقق.
ما هي الدولة البترولية الجديدة؟ قال لك: هي عبارة عن دائرة تشمل المنطقة الشرقية السعودية، وجزء من العراق، وجزء من الإمارات، وجزء من الكويت وهي عبارة عن الدائرة التي يوجد فيها البترول، فليس معنى أن (البترول) في أرضك أنك تتحكم في الناس لا، وإنما النظام العالمي الجديد سيهيمن على هذه البقعة ويجعلها دولة حيادية، يقول لك: الدولة البترولية هذه ليست خاضعة لأحد، هذه حق للعالم، وأنا أبوكم (أي أمريكا) فأنا الذي أوزع عليكم التركات، إذا كنت محتاجاً لبرميل نعطيك برميلاً، تحتاج برميلين نعطيك برميلين، وانتهى الأمر، لكن ليس معنى أن (البترول) في أرضك يكون ملكك! الكلام هذا منذ عشرين سنة وهو مكتوب، وبعد حرب الخليج بدأ يطرح نفسه بقوة، أنه لابد من التحكم في مصادر الطاقة في العالم؛ لأنها ليست ملكاً لمن هي في أرضه.
هذا كان رأياً ربما قرأه قارئون في ذلك الزمان، فتمططوا ومطوا شفاههم استهزاءً، فأي رأي خطير ربما -مع غلبة الجهل واستدارة الزمان- يكون حقيقة.
الآن يقول: يوم عرفة لم يرد في القرآن أنه يوم تسعة، إذاً نقول له: فأين السنة العملية التي أجمع أهل العلم عليها، بل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وبدأ الحج في يوم ثمانية، وختمه في يوم ثلاثة عشر؟! فلا يحل لأحدٍ أن يقول: إن الحج يبدأ يوم سبعة، ولا يوم ستة، ولا يوم تسعة، بل هو كما وقَّته رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان يخطر ببال أحدٍ أن يقول رجل مثل هذا الكلام؟! حسن رجل قال هذا الرأي الخطير، وصار يطرح كقضية للمناقشة، ثم يقال لعلماء الدين: ردوا عليه، فيشغلون العلماء بأمور مقطوع بها ومستقرة، متى يصل الإنسان إلى الغاية، إذا كان كلما نادى عليه منادٍ في الطريق وقف له ورد عليه فمتى يصل؟! يا إخوان! لقد بدأت الأصول ينظر إليها ويشكك فيها، الذي لم يكن يخطر على بال أحد في يوم من الأيام أن يناقش فيها، بدأنا نتناقش فيها، وفي هذا حيدة ولفت لأهل العلم عن القضايا الخطيرة التي ينبغي أن يعلموها الجماهير، وإشغالهم بهذه المناقشات التي لا طائل تحتها، كونها معروفة عند الجميع.
إن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كثيرة، وهذه الخطبة مقدمة لسلسلةٍ هي: (حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته) ما هو هذا الحق، وما الذي ينبغي أن يفعله المسلم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا وإياكم على تحقيق الشهادة، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو مصدر التلقي بالنسبة لنا نحن المسلمين.
قال ابن مسعود: كنا ضلالاً فجاءنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلمنا أننا لا نستقل بمعرفة مراد الله تبارك وتعالى إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، كان الصحابة أزكى الناس، وكانوا أفهم الناس للمعاني والألفاظ، ومع ذلك (لما نزل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] شق ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس كما تفهمون، ألم يقل العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟ فهذا هو الظلم).
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، العرب فهموا الآية على مقتضى أساليب العرب، إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فالنكرة كلمة: (ظلم) - (نكرة) يعني: غير محلاة بالألف واللام- وأيضاً هذه النكرة منفية: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ)) (لم) هذه نافية، هذه النكرة منفية تفيد العموم، يعني: أي ظلم مهما دق ومهما كان صغيراً، يؤاخذ المرء به فهذا الذي فهمه الصحابة.
لذلك جاءوا وقالوا: (أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟) فصحح لهم النبي صلى الله عليه وسلم مراد الله عز وجل، حين قال: (ألم يقل العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])؟ فهذا هو الظلم المقصود من الآية، فنحن لا نعرف مراد الله عز وجل، ولا ما يحبه الله، ولا ما يبغضه، إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(92/9)
حق النبي على أمته [2]
من المعلوم أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض، وأنها أحد أركان الإيمان والإسلام، وله صلى الله عليه وسلم على أمته حقوق، منها: أن لا تضع في مقابله أحداً ولا تقدم قول أحد على قوله، وأن تجعل محبته صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة النفس والأهل والولد.
والعلماء رحمهم الله تعالى قد ألفوا الكتب في شمائله وأخلاقه وأوصافه صلى الله عليه وسلم.
فبدراستها وقراءتها نزداد محبة وموالاة وتأسياً به صلى الله عليه وسلم.(93/1)
طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض على الأمة
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إن من المستقر عند المؤمنين جميعاً أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض، وأنها أحد أركان الإيمان والإسلام، قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإسلام: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) وبقية الأركان مبنية على هذه الشهادة، فالشهادة هي القاعدة، فلا تقبل صلاةٌ ولا زكاةٌ ولا صيامٌ ولا حجٌ ولا سائر الطاعات إلا بعد أن يسلِّم المرء بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
معنى: أن محمداً رسول الله أي: لا متبوع بحقٍ سواه، كما أنه لا معبود بحقٍ إلا الله، فلا متبوع بحقٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شريك لله في العبادة، ولا شريك للنبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع، واتباعنا للعلماء إنما هو من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإليها المرد في النهاية، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر الذي يوزن عليه كل أحد.(93/2)
عدم وضع أي مخلوق مقابل النبي صلى الله عليه وسلم
إن أول حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: أن لا يوضع في مقابله أحد، إذ لا يزنه أحد أصلاً، إذاً لا يوضع في مقابله أي إنسان كائناً من كان.
هذا ابن عباس أتاه جماعةٌ فجادلوه في متعة الحج، وكان ابن عباس يفتي بوجوب التمتع، فقال له القائلون: إن أبا بكر وعمر كانا لا يريان ذلك، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: أبو بكر وعمر؟!) يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ترجمون بها؛ وذلك لمجرد أنهم رأوا رأياً لأفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأزكاهم باتفاق الأمة، ومع ذلك يستعظم ابن عباس أن يوضع أحد في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام، هذا أول حقه علينا.
في مجادلات الناس مع الشباب والشابات وهم في طريق الالتزام، تجد كثيراً من الناس إذا أراد الشباب أن يعفي لحيته، وأن يحضر في حلقات العلم الشرعي، وأن يترك التعامل مع البنوك الربوية، وينتقدها فإنهم يقفون أمامه بالمرصاد ولكن دون جدوى، فالشاب ماض بعزيمة، وأيضاً الفتاة التي تريد أن تلبس الحجاب ماضية بعزيمة.
وفي الأخير: إذا لم يذعن الفتى أو الفتاة لما يريدون، يقولون له: أنت ليس لك كبير.
ليس لك كبير أي: قدوة.
أقول: لا والله، هذا له كبير ولا أكبر منه في سائر المخلوقات، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أنتم ليس لكم كبير؛ لأنكم خالفتم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ترجعوا إليه، وطاعته واجبة، ومخالفته تساوي ناراً وعذاباً، فمخالفته ليست بالأمر الهين.
فأول شيء عليك أن لا تضع أحداً في مقابله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يزنه أحد.(93/3)
من لوازم تعظيمه صلى الله عليه وسلم محبته
اعلم يا أخي! أن هذا الحق إنما ينبني على شيءٍ ضروري، وهو: أن تحبه؛ فإن أحببته حققت هذا الحق الذي له صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله! والله لأنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال عمر -مباشرة بلا تردد-: الآن يا رسول الله، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي) الحب هنا ليس حب الطبع، إنما هو حب الاختيار، فإن المرء قد يطبع على حب ولده حتى يموت بسبب حبه، لو أصاب الولد شيئاً فإن الأب يتألم على ولده.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب: العيال: أن سفيان الثوري سئل لما مات ولده محمد، وكان ولده الوحيد، وكان سفيان الثوري كلما رآه يقول: يا بني! لو مت قبلي لاحتسبتك، وكان يحبه حباً شديداً فلما مات ولده محمد، سئل: ماذا فعلت يوم مات محمد؟ قال: بلتُ دماً.
بال دماً من الحزن على ولده.
لا سبيل إلى تغيير الطباع فمن المكن أن يحب إنسان إنساناً آخر إلى درجة الهلكة، ويغلب على حبه، مثل حب الوالد لابنه، وحب الطبع لا يحتاج إلى توصية، ولذلك أوصى الله الأبناء بالآباء وليس العكس قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] وقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151] وقال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وقال جل شأنه: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] وقال عز من قائل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، ولم يوص ربنا تبارك وتعالى الوالد بولده إلا في موضع واحد، قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]؛ لأن الوالد مطبوع على حب الولد، ومغلوب عليه، فمثل هذا الحب المطبوع عليه صاحبه لا يقال له: أحب ولدك.
ولذلك ترى الأب عندما يمرض ولده، يذهب ويبحث في أرجاء الأرض عن طبيبٍ يرفع هذه العلة عن ولده بإذن الله، وينفق ماله كله، ويذهب إلى أبعد مكانٍ في الأرض، ثم يموت الولد ويفلس أبوه! لا يندم الوالد على هذا الإفلاس أبداً، ولا يقول: يا ليتني سمعت كلام الأطباء عندما قالوا لي: لا تتعب نفسك، لا أمل.
الطبيب يقول له: لا أمل، وهو يقول: الكلمة الأخيرة لله، أنا سأسعى.
ويسعى بجد ونشاط، فكما قلت لكم: بعدما يموت الولد يكون هو قد أفلس، ومع ذلك لا يندم أبداً أنه أنفق كل ما يملك على ولده، برغم أنه قد سمع كلام الأطباء أنه لا فائدة.
بالمقابل انظر إلى حال الولد مع أبيه المريض الذي طالت علته، والولد ينفق على أبيه من مال أبيه وليس من ماله، ويطوف به على الأطباء، فيقابله صاحب له: ماذا فعل أبوك؟ يقول: ربنا يريحه لماذا؟ لماذا قلت هذه الكلمة؟! إذا كانت كلمة بكلمة قل: الله يشفيه، قل: الله يعافيه، قل لصاحبك: ادع لأبي بالشفاء؛ بالعكس إنما قال: الله يريحه، هو يريد أن يقول: الله يريحني منه، لكنه يستحيي أن يقول ما في دخيلة نفسه.
فانظر إلى هذا التباين، ما بين حب الطبع وحب الاختيار! الولد يحب أباه حب اختيار، والوالد يحب ابنه حب طبع؛ لذلك يكون حب الاختيار أعلى في الميزان من حب الطبع؛ لأن معنى الاختيار أنك تتجاوز هواك، يعني: أن هناك مطاوعة بينك وبين هواك؛ لأن هذا حب اختيار.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -يبين لنا التباين ما بين الحقَّين-: (لا يجزي ولدٌ والده) مهما فعل الولد، وتخيل كل شيء يمكن أن تفعله لأجل أبيك، فإنك لا تجزيه أبداً إلا في حالةٍ واحدة، إذا فعلتها وهي أن تجد أباك مملوكاً فتشتريه وتعتقه، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه)، في هذه الحالة الوحيدة التي يستوفي الوالد حقَّه من ولده.
إذاً حب الاختيار أمامه عقبات وهي: وقوف الهوى، والنفس، وقرناء السوء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر: (أنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي.
قال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك) ليس هذا هو حب الطبع لا، إنما هو حب الاختيار، ولذلك بادر عمر مباشرةً، وأعلن أن حب النبي صلى الله عليه وسلم أولى من حب نفسه.
إذاً معنى الحديث: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عمر! إنك لا تكون صادقاً في حبك لي إلا إذا آثرت رضاي على هواك، ولو كان فيه تلف نفسك هذا معنى الحديث: لا تصدق في حبي إلا إذا آثرت رضاي على هواك، ولو أدى اتباعي إلى هلاك نفسك.(93/4)
التزام أمره صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل شيءٍ أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في القرآن، وقد ورد هذا في القرآن صريحاً كما في سورة النساء، فأغلبه يدور على هذا المعنى، الذي هو من أول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فذكر الفعل مع لفظ الجلالة، وذكر الفعل مع الرسول، وأخلاه من أولي الأمر، ولم يقل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر)، فدلنا ذلك على أن طاعته تبارك وتعالى واجبة، وطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة، وطاعة أولي الأمر خاضعة وتابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة، فأوجب علينا تبارك وتعالى هذه الطاعة.
ثم قال بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].
يعني: لو أن الله عز وجل كتب عليك أن اقتل نفسك، فلا ينبغي لك أن تتردد، أو اخرج من دارك، فلا ينبغي لك أن تتردد، لو فعلت ما توعظ به لكان خيراً لك، حسن ما هو هذا الخير؟ ختمت هذه الفقرة بالبشارة وبالأجر، أن من أطاع الله ورسوله ولو أدت هذه الطاعة إلى هلاك نفسه، وإلى خروجه من ماله، وخروجه من داره، فهذا الرجل قال فيه الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70].
فهذا هو الأجر، والتكاليف الشرعية في جملتها طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ يحتجون على الله يوم القيامة: الشيخ الهرم الذي جاء الإسلام ولا يعقل، يقول: يا رب! جاء نبيك ولا أدري شيئاً، والمجنون، والصغير -فهؤلاء يحتجون على الله، يعني: لو كنا عقلاء وجاءنا الرسول لآمنا- فيقول الله عز وجل: ألئن أرسلت إليكم رسولاً تؤمنون به؟ قالوا: أجل.
فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار)، إذاً فجملة التكاليف الشرعية لهؤلاء هي امتثالهم لأمر ربهم بدخول النار.
إن الحرب الضروس على الملتزمين المتدينين لشيء عجيب!! قال الأولون: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، أهي جريمة أن أتطهر؟! مثال واقعي: شاب كان يغازل البنات أو كان في عصابة إجرامية، لا يصلي، فأول ما بدأ يلتزم وأعفى لحيته وواظب على حضور صلاة الجماعة في المسجد، وترك الربا، فبدلاً من أن يفرحوا بتوبته والتزامه، إذا بهم يشعلون الحرب ضده لماذا؟ بأي عقل؟ وفتاة منتقبة تقوم عليها الحرب، وتقوم عليها الأسرة الواسعة الطويلة العريضة، ويجبرونها على خلع نقابها لماذا؟! فهذا الملتزم يعاني من البلاء بسبب التزامه بدين الله، وقد يضحي برقبته في سبيل الله، وقد يسجن ولا يخرج إلا محمولاً على الأعناق، وقد يسجن ويخرج وهو مصاب بأمراض، ومعه عاهات، ومع ذلك هو ثابتٌ على الطريق، كل هذا لو جمعته لساوى النار؛ نار الابتلاء التي ابتلى الله بها أولئك المحتجين عليه بالصغر وبالجنون وبالكبر الذي لا يعقل صاحبه شيئاً.
يقول عليه الصلاة والسلام: (فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فمن أبى أن يدخلها سحب إليها، ومن دخلها وجدها برداً وسلاماً)، يعني: هذا الذي أبى الدخول في النار لو عاش، وكان سليم الأعضاء وجاءه نبي لعارضه، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
فحب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المقصود به حب الاختيار، الذي يمليه العقل والإيمان.(93/5)
السبيل إلى محبته صلى الله عليه وسلم
إذاً: أنت لا تستطيع أن تطيع النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا أحببته، فما هو السبيل إلى حبه؟ كيف تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟(93/6)
النظر في وصفه صلى الله عليه وسلم يوصل إلى محبته
إننا إذا وفقنا في الإجابة عن هذا السؤال، فالنظر في وصفه صلى الله عليه وسلم حتى يكون رأي عين يعيننا على استيفاء هذا الحق، وإنما يحسن تصور المرء بقدر ما يعطي قلبه وأذنه للكلام؛ فإنه إذا أعطى أذنه وقلبه عاين، أو كان قريباً من المعاينة، والفرق ما بين المعاينة والسماع المجرد كالفرق بين السماء والأرض.
قال القائل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غايةٍ ما بعدها لي مطلب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب هذا هو الفرق بين إنسان يتعلق بمعنى من معاني المحبة، ولكنه عند مشاهدة من يحبه يعلم أنه كان يلعب، أي: لعظمه ومكانته وحسنه وأنه لم يقدره حق قدره.
إنما يُحب المرء لصفاته وشمائله، فكلما كان أقرب إلى الكمال، كان ينبغي أن يكون هذا الإنسان أوفى في مسألة المحبة له.(93/7)
التفكر في صفات الله تعالى يوصل إلى محبته سبحانه
وأنت إذا تأملت في صفات الله تبارك وتعالى، وأمعنت النظر فيها؛ غُلبت على حبه، لأجل هذا نتمنى إذا طرح باب الأسماء والصفات على الناس أن لا يطرح بالطريقة الأكاديمية الموجودة في الكتب، إنما نريد أن نحبب الخلق في الله، نريد من الخلق أن يحبوا الله، وأوسع هذه الأبواب باب الأسماء والصفات.
وأنت تقرأ القرآن تأمل خواتيم الآيات، وتأمل أسماء الله وصفاته مع سياق الآيات، إن كنت ذكياً وعاقلاً بحثت في هذا الكون عن مقتضى لكل اسمٍ من هذه الأسماء.
فمثلاً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] عندما تنظر وتتأمل صفة الإحياء المشتملة على الرحمة في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج:5] أرجو أن تعطيني سمعك؛ لأن الآيات لها سياق {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] ثم قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
انظر إلى هذا الربط ما بين خلق الإنسان وما بين الأرض؛ إنما يتكون المرء جنيناً في بطن أمه، والنساء هن الأرض التي تبذر فيها النطفة، فتخيل امرأةً لا تنجب، وطافت على الأطباء وقالوا لها: لا أمل.
تستطيع أن تصف حالتها بأنها ذابلة، وحزينة، ولا أمل لها.
قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] (هامدة) أي: خاشعة، وأظهر علامات الخشوع: الذل والانكسار.
(فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ) فمثل المرأة كمثل الأرض، فإذا ذهبت المرأة إلى طبيب وقال: مبروك، أنتِ حامل، اهتزت وربت، وربربت، وتورد وجهها، وصار لها في الدنيا أمل، فإذا تأملت هذا في الناس وفي الأرض علمت معنى المحيي، وبان لك هذا الاسم، هو صحيح موجود في القرآن، لكن إذا ربطته بالواقع زاد إيمانك، إذاً هناك علاقة ما بين نمو الإنسان في بطن المرأة وما بين الأرض، فالمرأة مثل الأرض، كما قالت امرأة أبي حمزة لما هجرها؛ لأنها لا تلد الذكور قالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا غضبان أن لا نلد البنيينا والله ما ذلك في أيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا أي: نحن نخرج ما قد يبذر فينا ولذلك لا عهدة على المرأة في مسألة الذكور والإناث، رجل متزوج امرأة لا تنجب إلا البنات باستمرار، فيذهب الرجل ويتزوج بأخرى لكي تلد أولاداً ذكوراً، فالمرأة ليس لها دخل بمسألة الإنجاب سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً.
فانظر إلى آثار الله عز وجل في هذا الكون، واربطه بأي اسم من الأسماء والصفات ومثل اسم (الوكيل) عندما يظلمك إنسان تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وترى المظلوم يذهب إلى القسم ويشتكي ممن ظلمه، ومع ذلك يفتري عليه، مع أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، إذاً هذا الإنسان لم يفهم معنى (الوكيل) وإلا لما ذهب وعمل تقريراً مكذوباً، إذاً ما معنى الوكيل أو الكفيل؟ لا يكون الوكيل وكيلاً حتى يحفظ، ولا يكون كفيلاً حتى يحفظ، فإذا لم يحفظ لم يكن لا كفيلاً ولا وكيلاً.
وإليك قصة الخشبة التي رواها البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسلف رجل من رجلٍ ألف دينار، فقال الرجل: ائتني بكفيل.
قال: كفى بالله كفيلاً، قال: ائتني بوكيل.
قال: كفى بالله وكيلاً.
قال: ائتني بشهيد، قال: كفى بالله شهيداً، قال صدقت، وأعطاه الألف دينار على أجل) بعد ما انتهت المدة المضروبة أراد الرجل أن يوفي دينه إلى صاحبه، وكان بينهما بحراً وهاجت الريح وانقطعت حركة الملاحة، وحيل بينهما.
الرجل صاحب المال منتظر على الشاطئ الآخر، والرجل المدين على الشاطئ الثاني، فلما يئس المدين أن يجد مركباً أتى بخشبةٍ فنقرها، ثم رفع بصره إلى السماء، فقال: (ربِّ! إنك تعلم أنني جئت فلاناً فقلت: أسلفني ألف دينار.
قال: ائتني بشهيد، قلت: كفى بالله شهيداً.
فرضي بك، قال: ائتني بكفيل، قلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك.
قال: ائتني بوكيل، قلت: كفى بالله وكيلاً، فرضي بك، وأني استحفظك هذه الخشبة) -ووضع الألف الدينار في الخشبة وسمر عليها، وقذف بها في البحر.
ما معنى خشبة في بحرٍ لجي، الأمواج فيه كالجبال، أليس من السهل أن تبتلع هذه الخشبة وتذهب؟ لكن الله وكيل، أي: حفيظ، كفى بالله كفيلاً، ولذلك البخاري افتتح كتاب الكفالة بهذا الحديث، ليقول لك: لا يكون كفيلاً إلا من يكون حفيظاً، فإذا ضيع لا يكون كفيلاً، ولا يكون وكيلاً.
فلما رمى بالخشبة في البحر، وذهبت الخشبة وصلت إلى الرجل في الشاطئ الآخر، وجعلت تتأرجح على الموج تروح وتجيء، (فلما يئس الرجل أن يرى مركباً، ونظر إلى الخشبة فقال: آخذها أستدفئ بها أنا وعيالي، فأخذها، فلما ذهب إلى البيت نقرها فإذا صرةٌ تنزل منها، فتح الصرة فإذا بكتاب من صاحبه إليه: إنه قد حيل بيني وبينك، وإني قد استودعت الشهيد والكفيل الخشبة.
فأخذ الرجل الخشبة، وعلم أن صاحبه عجز أن يصل إليه)، كل ذلك والرجل يحاول أن يجد مركباً آخر، حتى وجد مركباً (فأخذ ألف دينارٍ أخرى وانطلق إلى صاحبه، فقال: هذا مالك، وإنه لم يمنعني أن آتيك في الموعد إلا أنه حيل بيني وبينك ولم أجد مركباً.
فقال له صاحبه: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ فقال الرجل: أقول لك: هذا أول مركب، فقال له -كما في صحيح ابن حبان من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة -: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك)، لا يكون وكيلاً إلا أن يكون حفيظاً.
ولذلك كثير من الناس يفهم كفالة اليتامى غلطاً، النبي عليه الصلاة والسلام لما قال للصحابة -كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد -: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) فبعض الناس يتصور أنه عندما يلقي بعشرة جنيه أو عشرين جنيهاً لكفالة اليتيم وكفى يتصور أنه حقق الكفالة وسيأخذ هذا الأجر أبداً.
(أنا وكافل اليتيم) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتم بعد احتلام)، فأول ما يبلغ الولد الاحتلام سقط عنه حكم اليتم، وأول ما تبلغ المرأة المحيض لم تعد يتيمة.
إذاً قبل الاحتلام وقبل المحيض هو طفل صغير، وصبي صغير، أو طفلة صغيرة، لا يدبر أمر نفسه، هذا الولد ماذا فقد؟ فقد أباه، فلا تأخذ هذا الأجر إلا إذا كنت في موضع الوالد من هذا اليتيم، تذهب إليه، وترعاه، وتتفقد أمره، إذا كان مريضاً تسعى في علاجه، إذا كان في المدرسة تتابع ملفاته… أنت ولي أمره، تنزله بمنزلة الولد.
إذا فعلت هذا كنت كافلاً؛ لأن الكفيل بمعنى الحفيظ، وليس من أعطى يتيماً مبلغاً من المال يكون كافلاً له، لا.
لكن لا شك أن هذا فيه خير، لكن لا يصل إلى ذلك الفضل أن يكون هو والنبي صلى الله عليه وسلم كهاتين، والحافظ ابن حجر يقول: وإن كان هناك فرقٌ بين الإصبعين لكن ليس بينهما إصبع ثالث، وهذا يدل على المتاخمة، وعلى قرب ما بين هذا الكافل وما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً ظلمك شخص وقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فإياك أن تعمل شيئاً محرماً، كأن تذهب وتفتري عليه، وتعمل تقريراً مكذوباً لماذا؟ لأنك جعلت الله وكيلك، وهذا شرفٌ لك أن يكون الله وكيلك، أنت لا يمكن أن تعطي توكيلاً رسمياً لخائن، أو لشخص تظن انه يمكن أن يبيع أملاكك، لا تعطي عادةً التوكيل إلا لرجلٍ يحفظ لك حقك، سواء كان توكيلاً مؤقتاً أو خاصاً أو عاماً، ولا يتصور أن توكل خائناً أبداً.
فمعنى أن تجعل الله وكيلك فإنه سيستوفي لك يقيناً، أكثر من استيفائك لنفسك، فلما تقول: حسبي الله ونعم الوكيل تحقق من معنى اسم (الوكيل) وتأمله، لو تحققت من معناه وملأ قلبك؛ لتركت كل شيءٍ له، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ما الذي حصل لهم؟ قال عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]، فهذا جزاء الوكالة، فأنت لا تحب ربك إلا إذا ربطت ما بين الأسماء والواقع؛ لترى آثار الأسماء الحسنى في حياتك.
حدثني بعض الذين كانوا يوصلون أموال الزكاة إلى الفقراء، قال: ذهبت إلى بعض الفقراء في منتصف الليل، وكنا في الشتاء -ومنتصف الليل في الشتاء يعني لا يوجد أحد قط في الشارع- قال: ولما أوصلت الأمانة للفقير حتى لا يراه الناس ولا يراني الناس وأنا أعطيه؛ حفاظاً على شعوره وإحساسه، قال: وأنا راجعٌ إلى بيتي سمعت غطيط نائم، قال: وكانت الدنيا باردة، والجو مطير وفيه رعد وبرق، فلفت نظري هذا الغطيط، ولا يصدر للمرء غطيط إلا إذا كان مستغرقاً في نومه، قال: فتتبعت(93/8)
وفاؤه صلى الله عليه وسلم
في باب الوفاء مثلاً: إذا استحضرت أن الغدر مر وسيء، ولا تحتمله نفسك؛ عظمت قيمة الوفاء، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، ونحن سنمر على أبوابٍ كثيرة؛ لأن هذه المحاضرات تعينك على محبة النبي عليه الصلاة والسلام وتعلمك كيف تحبه حب الاختيار، بمعنى لا تقدم قول أحدٍ على قوله ولو كان فيه تلف نفسك، ولو لم يكن لك فيه مصلحة ألبتة، لا يدفعك إلى سلوك هذا السبيل الصعب إلا الاختيار الذي دافعه الحب والإيمان.
باب الوفاء ضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة حتى مع أعدائه، جاء في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: لم أشهد بدراً لا أنا ولا أبي، السبب في ذلك أن المشركين لقوهما مهاجرين إلى المدينة، فقالوا لهما: إلى أين؟ قالا: إلى المدينة.
فقالوا لهما: إنكما ستقاتلاننا مع محمد.
قالا: بل نحن متوجهان إلى المدينة.
قالوا: لا نترككما إلا إذا أعطيتمانا العهد أن لا تقاتلا معه، فأعطوهما العهد على ذلك، ومضيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصا عليه ما جرى، فقال عليه الصلاة والسلام: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) وهم أعداء وهم محاربون لهم، قال: (وفوا لهم عهدهم، ونستعين الله عليهم).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(93/9)
معاملته صلى الله عليه وسلم مع أعدائه
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وأيضاً روى أبو داود والنسائي وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: (لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أمَّن الناس جميعاً إلا أربعة رجالٍ وامرأتين، قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيط بن قبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح.
فأما عبد الله بن خطل فأدركه الناس متعلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، وأما مقيط بن قبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى البحر وركب سفينة، فهاجت ريحٌ عاصف، فقال صاحب السفينة: أيها الناس! إنه لن تنفعكم آلهتكم هنا، أخلصوا.
فقال عكرمة: لإن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله عليَّ إن أنجاني لآتين محمداً صلى الله عليه وسلم، فلأجدنه عفواً كريماً.
فجاء عكرمة فبسط يده للنبي صلى الله وسلم، وأسلم وقبل منه، فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، وكان عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد اختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة جاء عثمان بـ عبد الله، -وكما تعلمون كان لـ عثمان حظوة عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يحبه ويقربه- ولما جاء عثمان بـ عبد الله قال: يا رسول الله! بايع عبد الله.
فرفع إليه بصره وخفضه وسكت، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله.
فسكت، قال يا رسول الله! بايع عبد الله، فبايعه بعد الثالثة.
ثم التفت إلى أصحابه وقال: أليس منكم رجلٌ رشيد، إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا، أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟! قالوا: يا رسول الله! وما أعلمنا بما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينيك -غمزت لنا غمزة-؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي أن يكون لنبيٍ خائنةٌ الأعين).
انظر إلى الوفاء حتى مع الأعداء، أمثله صلى الله عليه وسلم لا يحب حب اختيار؟! أمثله لا يوالى؟! أمثله لا يستعذب المرء العذاب في سبيل نصر دينه؟! استحضر هذا يمدك الله عز وجل بقوةٍ على قوة، لا يغلبك أحد، إننا المستضعفون الآن في الأرض لا شك في ذلك، لكننا على يقين أننا سنغلِب، هذه المسألة مسألة إيمانية محضة، لا يصلح فيها الحساب؛ لأن معنا الملك، وانظر إلى كل طائفةٍ من طوائف المؤمنين قبل ذلك، تراها قلة، لكن مكَّن الله لها.(93/10)
تفاني الصحابة في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم وعن دعوته
في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، حديث هرقل لما أرسل له النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب، وحصل بين هرقل وبين أبي سفيان محاورة بشأن النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه، فكان من ضمن هذه المحاورة أن قال هرقل لـ أبي سفيان: هل أتباعه الضعفاء أم الأشراف والأغنياء؟ قال: بل الضعفاء.
قال: يزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون.
فقال له هرقل بعد ما تم الأسئلة: لئن كان صدقاً ما تقول ليملكن موضع قدميَّ هاتين.
من الذي معه؟ مستضعفون عضهم الفقر بنابه، وتأمل هذا الاستضعاف في يوم بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر صحابياً خرجوا لأخذ تجارة قريش ولم يخرجوا للحرب، أفلت أبو سفيان بالعير وأرسل إلى قريشٍ: لا عليكم فقد نجوت بالعير، لكن تعست أمةٌ على رأسها أبو جهل! فقال أبو جهل: لا، بل لابد أن نخرج، فننزل بدراً، وتغنينا القيان، ونشرب، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً.
وخرج مع ألف رجل، كانوا يذبحون عشراً من الجمال في اليوم الواحد ليأكلوها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتسم مع أصحابه التمرات، ولما فرضت عليهم المعركة فرضاً، وهم ما خرجوا لقتال أصلاً، وإنما خرجوا لأخذ العير، لكن لم يكن أمامهم إلا القتال، ولابد أن يقاتلوا.
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، ثم رفع يديه إلى ربه، وبالغ في رفع يديه والتذلل إليه، حتى سقط برده عن منكبه، وهو يقول: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم عالة فاحملهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد أبداً) هذا هو وضعهم، ودارت رحى الحرب، وكان الظفر للمؤمنين لسبب واضح وبسيط: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12] من الذي يغلب إذا انحاز إليه الملك؟ من الذي يغلبه؟ في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على طائفة من أصحابه وهم يتناضلون بالسهام، فقال: (ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان، فالجماعة الآخرين وضعوا النبال وقعدوا، قال: ما لكم؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟! -يعني: ما نستطيع أن نرمي، ولا نغلب وأنت معهم- قال: ارموا وأنا معكم جميعاً).
لا يغلب أبداً طرفٌ يؤيده الملك، إننا مستضعفون نعم، لكن سنغلب، والله العظيم! سنغلب بإذن الله، مع أننا ضعاف، ولا نملك الشوكة، لكننا سنغلب، لكن المسألة تحتاج إلى انحيازٍ كامل لله ورسوله؛ حتى تضمن ولاء الملك لك، أن تنحاز بكليتك إلى الله، إنما هذا التردد عندما تجد الواحد منا يفعل طاعة ثم تراه يترك الطاعة بمنتهى السهولة، أللامبالاة موجودة عنده، فمثل هذا لا يَغلب أبداً.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا في كل باب من أبواب الخير، تجده متقدماً على الخلق جميعاً، أمثله صلى الله عليه وسلم لا يحب ولا يوالى؟ والله يا إخواني! لو درستم شمائله صلى الله عليه وسلم لغلبتم على حبه -أقول: لغلبتم على حبه- ولقدرتموه حق قدره، وهناك كتب في الشمائل مثل: كتاب الترمذي، وهذا الكتاب اختصره شيخنا الألباني حفظه الله، وميز صحيحه من ضعيفه، وكتاب: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الشيخ؛ وكتاب: الأنوار للبغوي حسين بن مسعود، وهذا أوسع الكتب تقريباً.
مع كتب المناقب الموجودة في كتب الصحاح والسنن، فكلها مشتملةٌ على وصف النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأبواب، حتى وصل الوصف إلى نعله، أنا على يقين بأنك إذا أدمنت النظر في شمائله وواليته صلى الله عليه وسلم فإنك ستحبه وتعظمه وتقدره وتبجله، ولا غرو ولا عجب، ففي حديث أم زرع؛ الطويل المعروف، أن المرأة لما تزوجت أبا زرع فجعلت تصف أبا زرع وابنه وابنته وأمه وجاريته، وتصبغ عليهم من الأوصاف والخصال الحميدة، يقول الراوي في غير الصحيحين عند الزبير بن بكار، يقول: وجعلت المرأة تصف كل شيءٍ، حتى وصفت كلب أبي زرع! انظر من حبها للرجل وصفت الكلب.
فلذلك سنذكر فضائله صلى الله عليه وسلم في كل باب؛ لتستعين بهذا العرض الصحيح على محبته صلى الله عليه وسلم، وأنه يستحق أن لا تضع أحداً في مقابله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربِّ آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وسرنا وعلانيتنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(93/11)
البحث عن الرجال
إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش ويلات ومصائب ونكبات، وتمر بأزمة هي أشد وأقسى أزماتها على الإطلاق أزمة لا ككل الأزمات، إنها تعاني أزمة حادة في الرجال.
نعم! الرجال الذين يحملون هم هذا الدين ويقتدون بالأنبياء والمرسلين، وما قصة إبراهيم عليه السلام وأهل بيته إلا مثالاً يقتدى، وأنموذجاً يحتذى لمن تاقت نفسه لأن يكون رجلاً يؤثر فيما حوله، ويكون عاملاً في صناعة الأحداث، وليس مجرد صفر يضاف إلى الأصفار الكثيرة التي تمتلئ بها المجتمعات المسلمة.(94/1)
نص حديث المنطق
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث سعيد بن جبيرٍ رحمه الله، قال: قال ابن عباس: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة؛ ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماءٌ؛ فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمرٌ وسقاءً فيه ماء، ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذاً: لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء؛ فعطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فذلك سعي الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صهٍ -تريد نفسها- ثم تسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم -أو قال-: لو لم تحوضه لكان زمزم عيناً معيناً.
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيتٍ من جرهم مقبلين من طريق كذا فنزلوا في أسفل مكة، فرءوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ، فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم.
ولكن لا حق لكم في الماء.
قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم؛ فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبياتٍ منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأَنْفَسَهم وأعجبهم حين شبّ، فلما أدرك زوجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يصارع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرٍ، نحن في ضيقٍ وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحدٍ؟ فقالت: نعم.
جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته: أنا في جهدٍ وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ فقالت: نعم.
أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، فقال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك.
الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعدُ فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، قالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم.
قال: فما شاربكم؟ قالت: الماء.
قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يثبت عتبة بابه؛ فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحدٍ؟ قالت: نعم، أتانا شيخٌ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيءٍ؟ قالت: نعم.
هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ، فقال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.
قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعةٍ على ما حولها، قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع هذا البناء جاء بهذا الحجر: فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]).(94/2)
قصة إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل وزوجته هاجر
هذه قصة أهل بيت نذروا أنفسهم لله تبارك وتعالى، قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام.
ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أن أول من اتخذ المِنْطق أم إسماعيل؛ لتعفي أثرها على سارة، وكانت سارة لشدة غيرتها من هاجر قد أقسمت أن تقطع منها ثلاثة أعضاء، وهاجر وهبها ملك مصر الجبار لـ سارة -كما رواه الشيخان في صحيحيهما-: أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بلداً -ذكر الشراح أنها مصر-، وكان حاكم البلد طاغيةً جباراً لا يرى امرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه، إلا أن تكون أختاً مع أخٍ لها؛ -إنما زوجة مع زوجها- كان يأخذها عنوة، فأرسل شرطته يبحثون فوجدوا امرأةً وضيئة -أي جميلة- فكان إبراهيم عليه السلام يعرف هذا من خلق هذا الجبار، فقال ل سارة: إذا سئلت فأنا أخوك وأنت أختي، والله لا أعلم أحداً يعبد الله غيرنا، فأنت أختي في دين الله تعالى، هذه من الكذبات التي كذبها إبراهيم عليه السلام في ذات الله تبارك وتعالى.
فلما رأى الملك جمالها خالف شرطه فأخذها، فمد يده نحوها فدعت عليه فيبست يده وشلت، فقال لها: ادعي الله لي إن عافاني لا أقربك بسوء، فدعت فعوفي، فمد يده مرةً أخرى فدعت عليه فيبست يده -يعني شلت-، فقال لها: ادعي مرةً أخرى ولا أَمسّكِ بسوء، فدعت، فمد يده مرةً ثالثة، فدعت عليه فيبست يده، فقال لهم: إنكم ما جئتموني إلا بشيطان، ثم دعت له ففك الله عز وجل شلله، فأخدمها هاجر -أعطاها هاجر كخادمة- فتزوجها إبراهيم عليه السلام، ثم حملت هاجر، فغارت منها سارة غيرة شديدة، فأقسمت -كما يذكر الشراح- أن تقطع منها ثلاثة أعضاء؛ فخافت هاجر على نفسها، فكانت تشد المنطق على وسطها -وهو: نوع من الإزار كانت تربطه على وسطها وتجره خلفها كي تعفي أثرها؛ كرسم القدم على الرمال ونحو ذلك، كان هذا المنطق يغير رسم القدم فيزيله من على الأرض حتى تضلل سارة وهي تبحث عنها لتقطع منها أعضاءها، فلا تجدها-؛ لذلك اتخذت هاجر المنطق خوفاً من ذلك.(94/3)
أهمية صدق الرجل مع أهل بيته
لما رأى إبراهيم عليه السلام ذلك -بحث سارة عن هاجر - أخذ إسماعيل وأمه هاجر ورحل من الشام إلى مكة، فجاء بها فوضعها في هذا المكان -مكة- في وادٍ غير ذي زرع، فلما وضعها وابنها وترك معها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ولى راجعاً ولم يكلمها كلمة، فتركها ومضى: فنادت عليه: يا إبراهيم! يا إبراهيم! فلم يجبها، فانطلقت وراءه حتى وصلت إلى ثنية في مكة وهي تنادي: يا إبراهيم! يا إبراهيم! إلى من تتركنا، فوقف ولم يرد عليها، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذاً: لا يضيعنا، ثم قفلت راجعة.
ونستفيد من هذا
الجواب
أن صدق الرجل في بيته من أهم أسباب إقناع المرأة بأخطر القرارات التي يتخذها الرجل في حياته وتجد أن الرجل الكذوب الذي يكذب وتكتشف امرأته أنه يكذب فيفعل الفعل ولا يجرؤ على أن يصرح به، تضعف هيبته ويقل رأس ماله عند امرأته بخلاف الصدق كما يبدو واضحاً جلياً في جواب إبراهيم على سؤال هاجر وردة فعلها كما جاء في بعض الروايات: (آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه أن نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا) أي: وثقت فيه، فإذا قال: الله أمرني بهذا لا تراجعه، ولا تكذبه، ولا تمتري في صدقه، فرأس مال الرجل: أن يكون صادقاً.
إن الآباء لهم في حياة أبنائهم عمق وتأثير وللرجل في حياة المرأة عمق وتأثير، لاسيما إذا تزوجها بكراً، وكان أول رجل في حياتها؛ فإنه يؤثر جداً في تنشئتها وتربيتها؛ ولهذه العلة حث الرسول عليه الصلاة والسلام على الزواج بالأبكار.(94/4)
بيان مدى تأثر المرأة بخلق زوجها
ومما يدل على ذلك ما ورد في في حديث أم زرع كما تقول أم زرع: (أبو زرع فما أبو زرع، أناس من حليّ أذنيَّ، وملأَ من شحمٍ عضديَّ، وبَجَّحَنِي فبجحت إليَّ نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل، وأطيط، ودائس، ومنق، فعنده أقول: فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح).
وكما هو واضح فهي تصف زوجها وتقول: هي امرأة بكر، وأبو زرع هذا كان قد تزوج قبلها، والرجل لا يقال عنه بكر أو ثيب، فإن هذا الوصف خاص بالنساء، فالرجل يمكن أن يتزوج مائة امرأة، والمرأة مرة واحدة وتصبح ثيباً، فيكون أول رجل قادراً على تشكيلها والتأثير فيها كما يريد.
تقول: أناس من حلي أذني.
أناس: أي: ليس عندها ذهب ولا تلبسه في أذنها، فجعل الذهب في أذنها.
وكلمة أَنَاسَ: من النوس وهو الاضطراب.
يعني: المرأة إذا هزت رأسها اهتز القرط في أذنها وهو معنى قولها: (أناس من حلي أذني).
تقول: (وملأ من شحمٍ عضديَّ) أي: كانت هزيلة فلما تزوجها أطعمها وسقاها إلى أن امتلأ عضدها بالشحم واللحم.
وقولها: (وجدني في أهل غُنَيمة بشق).
غنيمة تصغير غنم.
أي: كانت حالتهم تعيسة جداً وكانوا فقراء للغاية، وكلمة: بشق.
يعني: كانوا يعيشون بشق الأنفس، وكانت الحياة كرباً.
فنقلها نقلة عظيمة فجعلها في أهل صهيل: -كناية عن الخيل- وأطيط: -كناية عن الإبل- ودائس: -كناية عن الزرع- ومنق: -المنق: هو المنخل- وكان يستخدم المنخل آنذاك أهل الترف.
قولها: (فعنده أقول فلا أقبح) أي: إذا قلت قولاً مهما قلت لا يجرؤ أحد أن يقول: قبحكِ الله، أو قبح الله وجهكِ، لا.
لماذا؟ لأنها كريمة على زوجها، لا يوجد أحد يستطيع أن يسبها ولا يشتمها ولا يقبحها.
تقول: (وأشرب فأتقمح)، وفي الرواية الأخرى: (فأتقنح)، والفرق بينهما أن يقال: بعيرٌ قامح، إذا ورد الماء فشرب وارتوى ثم رفع رأسه زهداً في الشراب.
أما أتقنح: فهو يشرب فوق طاقته.
أي: أنها تأكل وتملأ معدتها وبعد ذلك زوجها يقول لها: خذي هذا وكليه، فلم يبق في بطنها موضع للقمة كرامة لها؛ لأنها كريمة عليه.
وقولها: (وأرقد فأتصبح)، يعني: تستيقظ في ضحوة النهار، وهذا يدل على أنها امرأة مخدومة عندها خدم؛ لأن المرأة إذا كانت عاملة نفسها فإنها تقوم من بعد صلاة الفجر ولا تنام، تخدم أولادها وتخدم زوجها، وإنما هذه تنام إلى أن ترتفع الشمس في السماء، وهذا يدل على أن عندها خدم يكفونها المؤنة.
وبعد أن وصفت زوجها أبا زرع، ومن حبها له وصفت قرابته فقالت: ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع: مضجعه كمسل شطبة، يشبعه ذراع الجفرة: المضجع هو السرير.
كمسل شطبة: مسل الشطبة جريدة نخل، وهذا يوحي أن الولد مفتول معتدل القوام، بحيث أن السرير الذي ينام عليه مثل مسل الشطبة، وهذا كلام مدحٍ عند العرب، ففي الكر والفر والقتال لا يظفر إلا ولد بمثل هذا العود.
يشبعه ذراع الجفرة، أي: ولد قنوع يشبعه ذراع الجفرة.
وتقول: (بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها).
فالمرأة على عكس الرجل، هي تقول: بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها، يعني: بنت مؤدبة تسمع كلام أبيها وأمها، وملءُ كسائها، يعني: بدينة، والبدانة مستملحة في النساء، وقد كان العرب يحبون ذلك بخلاف المرأة النحيفة.
وغيظ جارتها: كان الرجل -زوجها- متزوجاً بامرأة أخرى فهي ضرتها.
أي: جارتها، فهي مغيظة لها من جمالها وبدانتها.
أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، عقومها رداح وبيتها فساح.
العقوم: هي الجراب التي تتخذ فيه المطعومات، وهذا يدل على السعة والرفاهية.
ورداح بمعنى: طويل.
وبيتها فساح: واسع؛ لأن سعة البيت نعمة من الله عز وجل.
- جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً -أي: ليست مثل البث المباشر، أي شيء وقع في البيت نقلته على طول إلى بقية الخلق، لا- فهي كتومة، تحفظ الأسرار، ولا تبث الحديث وتشيعه.
ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، يعني: لا تتبذل بالمال وتحافظ على المعاش، فهي مُدَبِّرة للبيت.
ولا تجعل بيتنا تعشيشاً: أي: لا تجعل البيت كعش الطائر يكون كالمزبلة.
بل نظيف مرتب.
قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض الدنيا ربيعاً، والماشية كلها تحلب لبناً، فلقي امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فأعجبه المنظر هذا! فطلقني ونكحها، قالوا: يا رجل! أمسك المرأة وتزوج عليها، لكن الرجل أعجبه المنظر الذي رآه فطلق المرأة ونكح المرأة الأخرى.
قالت: فطلقني ونكحها؛ فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك.
ومعنى كلامها: فتزوجت بعده رجلاً سرياً، أي: من سراة الناس وأشرافهم.
ركب شريا، الشري: أجود أنواع الخيل.
وأخذ خطياً، الخط: هو الرمح الذي كان يجلب من الهند، وكان مركز توزيعه في الجزيرة بلد بالبحرين اسمها الخط، كانت الرماح الهندية تأتي إلى البحرين، ومن البحرين كانت توزع على الجزيرة، فنسب الخط إليها مسمى الرمح.
-فهذا الراكب شريف، ومن سراة الناس ويركب أجود الخيل، وراكب الخيل يشعر بالكبر وهو راكب عليه وقد ألمح الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذا، فقال: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالغنم تمشي وهي مدلية رأسها باسطة في الأرض، فالراعي يأخذ من صفاتها، وكذا راكب الخيل فإنه يتقمص بعض صفات الخيل في مشيه وتبختره.
وهناك من كتب في بحوث الأغذية أن الإنسان الذي يدمن على أكل لحم حيوان ما ينتقل إليه بعض صفات ذلك الحيوان-.
تقول: وأعطاني من كل رائحة زوجاً: -وفي الرواية الأخرى-: وأعطاني من كل ذابحةٍ زوجاً، أي: من كل ما يصلح أن يذبح، من بقر أو غنم إلخ.
وقال: كلي أم زرع وميري أهلك.
تقول: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه هذا الرجل ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
يعني: كل الرفاهية والتوسع التي عند هذا، تساوي أقل إناء عند أبي زرع.
ما هو الفرق؟ الفرق: أن أبا زرع كان يخاطب قلب المرأة، ولكنها لم تجد هذا الخطاب ودفء الحنان عند الرجل الآخر، على الرغم من أنه وفر لها جميع سبل الرفاهية والعيش الهنيء.
فيتبين أن المرأة لا تحتاج إلى مال، ولكنها بحاجة إلى قلب وحنان، وهذا هو الذي فعله أبو زرع، ثم إن أبا زرع كان هو أول رجل في حياة أم زرع، لذلك خط في وجدناها خطاً عميقاً جداً، فهو أول رجل في حياتها، وكان رجلاً صدوقاً حنوناً فأثر فيها.
فالمرأة لا تنسى أول رجل في حياتها وهي تحتاج إلى قلب الرجل، وتحتاج إلى دفء الحنان، ولا تحتاج إلى الترف أبداً، فإذا شعرت المرأة معك بالأمان والسلام النفسي، استغنت عن كل شيء في الدنيا.
واعلم أن رأس مال الرجل مع زوجته أن يكون رجلاً صريحاً، قدوة، لا يكذب عليها، وإلا فالمرأة تعامل الرجل على ما عرفته من سجاياه أول مرة، وهناك مثل يقول: (اذبح بستك -قطتك- ليلة دخلتك)، البس: كناية عن القط، وفي هذا المثل قصة لطيفة وظريفة: يقال: أن رجلين تزوجا في يوم واحد، أما أحدهما فكانت حياته مستقرة تمام الاستقرار، بينما الآخر في حياة مضطربة صاخبة، مليئة بالمشاكل الأسرية والضرب والصياح، وفي يوم قال الرجل -صاحب المشاكل- لصاحبه: أنا لا أسمع صوتك ولا صوت امرأتك، وأنا كل يوم في نكد، فقال: إن حياتي هانئة جداً، وممتازة، فقال له: ما الذي صنعته؟ فقال: في أول ليلة الزواج كنا نأكل لحمة مع بعض وهناك قطة قربت مني فأمسكتها وذبحتها بالسكين -فهابته المرأة فاعتدلت- فقال: هذه نصيحتك؟ قال: نعم.
فذهب إلى السوق واشترى قطة ووضعها في البيت، وأتى بلحمة وجعل يأكل هو وزوجته، وجاءت القطة، فقام وأمسك القطة وذبحها، فقالت له زوجته: هذه فاتت عليك، (اذبح قطتك ليلة دخلتك)، أي: هذا الفعل جاء متأخراً، فلو أنك فعلت هذه الفعلة ليلة الدخلة كنت أتيت بنتيجة.
خلاصة الكلام: أن المرأة أول ما رأت خلق الرجل وعرفت أخلاقه عاملته على قدرها.
إذاً: الرجل هو قطب الدائرة، والمرأة تدور حوله، يبقى الرجل هو الأصل، وأنا من واقع تجربتي، وملامستي للمشاكل التي أتوسط فيها كل يوم على مدار أكثر من خمسة وعشرين عاماً، ما وجدت امرأة ناشزاً قط إلا وجدت الرجل سبباً في نشوزها، فلو قام عليها بحق القوامة ما نشزت عليه، لكن تفريط الرجل في قوامته هو الذي أغرى المرأة في النشوز، وهاهو إبراهيم الخليل عليه السلام يبين لنا كيف أن المرأة لا تعصي زوجها إن قام عليها بحق القوامة، فانظر إليه عليه السلام وقد جاء بزوجته إلى بلد ليس فيها إنسي وتركها بوادٍ غير ذي زرع وجن الليل عليها هي وابنها الرضيع وإذا بها تلحق به وتقول له: يا إبراهيم! يا إبراهيم! وهو لا يرد عليها، وهي ما تزال تجري وراءه حتى وصلت إلى أعالي مكة، ثم بعد ذلك تقول: يا إبراهيم! لمن تتركنا، بواد غير ذي زرع ولا إنسي، فلا يجيبها، فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أن نعم.
فما زادت المرأة المُسَلِّمَة لله عز وجل على أن قالت: إذاً: لا يضيعنا.
فرجعت تواجه أقدارها؛ إنما رجعت لأن معها الصدق الذي تعودته من إبراهيم عليه السلام، فهو ما كذبها أبداً عليه السلام.(94/5)
حفظ الله لأوليائه
رجعت هاجر إلى ابنها وعاشت وحدها، تشرب من السقاء الذي تركه إبراهيم عليه السلام، وتأكل من جراب التمر حتى نفد الماء، وعطشت وعطش الصبي وجعل يتلمظ من أثر التمر ولا ماء، فكرهت أن تراه وهو يموت، فذهبت فكان أقرب شيء إليها الصفا، فصعدت الصفا فلم تر أحداً وانحدرت تجري حتى صعدت المروة، تبحث في كل هذا عن ماء، فلم تر أحداً، وسعت سبع مرات، وهكذا يسعى الناس بين الصفا والمروة، وكانت تسعى سعي الإنسان المجهود، والمسافة بين الصفا والمروة حوالي أربعمائة وخمسين متراً.
وهي تقطع هذه المسافة وتجري تبحث عن ماء.
وبعد أن سعت كل هذا السعي، فإذا بها تسمع شيئاً، فقالت: صهٍ -لنفسها- تقول لنفسها: قد أسمعت لو كان عندك غواث، أي: لو كان شيء يغيثني فضرب جبريل عليه السلام بجناحه الأرض، فخرج الماء من زمزم، فأول ما رأتها تفور، جعلت تحوضها.
أي: تعمل حولها حوضاً بقصد أن تحفظ الماء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركتها، لكانت عيناً معيناً).
انظر: ماء زمزم من أيام إبراهيم عليه السلام والناس يشربون ويتوضئون ويغتسلون ويرسلون إلى كل مكان وهي لا زالت عيناً، فكيف لو لم تحوضها، إذاً: لملأت الدنيا، فذهبت هاجر إلى رضيعها إسماعيل فإذا بها تجد أنه قد رضع وأكل وشرب وارتوى، وأن الذي غذاه هو جبريل عليه السلام.
وهذا درس نستفيده: أن الله عز وجل لا يترك أولياءه يتخطفون في الأرض، لكنه يبتليهم وتكون العاقبة لهم.
وهذا الكلام موجه لكل رجل مبتلى، لكل رجلٍِ فارٍ في أنحاء الأرض بدينه، لاسيما إذا كان أهله معه أيضاً، فإن الله عز وجل لا يضيع هؤلاء، فكل الأنبياء والصالحين، الذين فروا بدينهم إلى الله عز وجل مكن الله لهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا).
وقد يقول قائل: لماذا أناط الله البلاء بالأولياء وهم أكرم عليه من أعدائه؟ أي: الأنبياء يبتلون وكذا الأولياء، وأعداؤهم -أعداء الله- لهم الدولة والقوة، وهم الذين شردوا المؤمنين، والله قادر على أن يمكن لأوليائه الكل، فلم أعطى الله الدولة لأعدائهم وأناط البلاء بهم؟ فتقول: العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، فسلامة قلبك عند الله عز وجل مقدمةٌ على سلامة جوارحك، يبتليك في جوارحك، ويحفظ لك قلبك وهذه رحمة منه جل وعلا.
قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
فالقلب يستمد حياته من المحن ومن العواصف، وتجد أن أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف، لكن أهل البلاء هم أقوى الناس قلوباً، فلذلك أناط الله البلاء بأوليائه؛ حتى يلقوا الله عز وجل بقلب سليم.
والجارحة تستمد قوتها من القلب.
فهذا أيوب عليه السلام مرض ثمانية عشر عاماً حتى رفضه القريب والبعيد، لكن قلبه كان سليماً وما ضره ما فاته من الجارحة.(94/6)
قصة أبي قلابة في الصبر على البلاء
وفي هذا قصة رواها الإمام ابن حبان في كتاب الثقات عن الإمام أبي قلابة الجرمي.
عن عبد الله بن محمد قال: كنت مرابطاً بعريش مصر فمررت على خيمة فإذا أنا برجل ذهبت يداه ورجلاه، وبصره، وثقل سمعه، فسمعته يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فقلت: سبحان الله! ما هذا الذي يقوله الرجل، أعلمٌ علمه؟ والله لآتين هذا الرجل، فأتيته فقلت: يا عبد الله! سمعتك تقول كذا وكذا، أي شيء تحمد الله عليه، قال: يا عبد الله! لو أرسل الله الجبال فدمرتني، وأرسل إلي البحر فأغرقني ما ازددت لربي إلا شكراً على هذا اللسان الذاكر، وهذا القلب الشاكر.
ثم قال: إن لي ولداً كان يوضئني، وكان يطعمني ويقوم على أمري وقد افتقدته منذُ ثلاثة أيام فابحث لي عنه، فقلت: والله ما سعى إنسان في حاجة آخر أفضل منك، قال: وذهبت أبحث عن الولد، فما مضيت غير بعيد إلا ووجدت عظامه بين كثبان من الرمل قد افترسه سبع، قال: فركبني الغم، وقلت: ماذا أقول للرجل، وهو في هذا البلاء العظيم؟ قال: فجعلت أفكر ماذا أقول له، فتذكرت أيوب عليه السلام؟ قال: فجئت فسلمت عليه، قال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى.
قال: ما فعل ولدي، قلت يا عبد الله! أتعرف أيوب عليه السلام؟ قال: نعم.
قلت: ما تعرف عنه؟ قال: ابتلاه الله ثمانية عشر عاماً، قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، وليس هذا فحسب إنما ابتلاه بأهله وابتلاه بماله، فوجده صابراً، فقل ماذا تريد؟ قلت: احتسب ولدك، فإني وجدت عظامه بين كثبان الرمل، قال: فشهق شهقةً وقال: الحمد لله الذي لم يخلق مني ذريةً إلى النار ومات.
قال: فركبني غم، وقلت: ماذا أفعل بالرجل؟ فلا أملك له شيئاً، إن تركته أكلته السباع، فمر قطاع طرق، فوجدوني أبكي بعدما سجيته فقالوا: مالك وما قصتك، ومن هذا الرجل، فكشفوا عنه فإذا هو أبو قلابة الجرمي، فقالوا: بأبي عينٌ طالما غضت عن محارم الله وبأبي جسمٌ طالما عانا في طاعة الله، قال: فسجيته ودفناه، وذهبت إلى رباطي، فلما نمت رأيته في منامي في أحسن حالة، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى.
قلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة، وقيل لي: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
وأبو قلابة الجرمي أحد الأئمة الثقات، من الرواة عن أنس بن مالك، ثقةٌ، حافظ.
فهذا البلاء المنوط بالأولياء هو نعمة من الله سبحانه وتعالى عليهم كما هو واضح في قصة أبي قلابة الجرمي، وقصة هاجر وإسماعيل عليهما السلام.
وعاشت هاجر وإسماعيل في هذا الوادي، وبينما قبيلة جرهم تمر في طريقها إلى بلدها، إذا رأوا طائراً يطير ويحوم فقالوا: لا يحوم هذا الطير إلا على ماء، فأرسلوا جرياً لهم أو جريين يعني: رسولاً -يبحثون عن ماء فوجدوا أم إسماعيل ووجدوا الماء هناك، فجاءوا واستأذنوا أن يسكنوا حول الماء، فقالت: نعم، اسكنوا ولكن لا حق لكم في الماء فوافقوا، وبنوا لها بيتاً وسكنت، وشب إسماعيل عليه السلام في هذه القبيلة، وتعلم منها العربية وقد جاء في بعض الآثار أن إسماعيل عليه السلام هو أول من تكلم بالعربية، وفي هذا الحديث: أن جرهم هي التي علمته العربية.
فجمع العلماء بين الحديثين، وقالوا: أول من تكلم بالعربية الفصيحة المعربة هو إسماعيل، ومطلق التكلم باللغة العربية كان جرهم.
وسكنت قبيلة جرهم مع هاجر وإسماعيل عليهما السلام، وكبر إسماعيل فيهم وكان ذا خلق رفيع، فكان كل بيت يريدون أن يزوجوه ابنتهم، وتزوج إسماعيل عليه السلام امرأة منهم.(94/7)
دور المرأة الصالحة الزاهدة في صلاح البيت وسعادة الرجل
وانقضت الأيام ومرت الشهور والأعوام وجاء إبراهيم عليه السلام من الشام لينظر ماذا فعلت المرأة والولد فوجد هاجر قد ماتت، وسأل عن بيت إسماعيل، فدلوه عليه، فدخل وقال لزوجته: أنت زوجة إسماعيل؟! قالت: نعم.
فقال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا، -أي: يطلب المعاش- فقال: كيف حالكم؟ قالت: في كرب وظنك وشدة، والله المستعان، وقعدت المرأة تشتكي له.
فقال لها: إذا أتى فقولي له: إن أباك يسلم عليك، ويقول لك: غير عتبة بابك.
فمضى إبراهيم عليه السلام، وجاء إسماعيل عليه السلام وأول ما دخل البيت آنس شيئاً -هذه لغة القلوب يحس أن هناك شيئاً، فهذا يعقوب عليه السلام كما قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:94 - 96]- فسأل إسماعيل عليه السلام: هل جاء أحد؟ قالت: نعم.
جاء رجل، قال: ما صفته؟ قالت: رجلٌ وضيء، صفته كذا وكذا.
قال: هذا أبي، فهل أوصاك بشيء، قالت: يقرئك السلام، ويقول لك: غير عتبة دارك، -هي لا تعلم معنى عتبة الدار، فهي تقولها بسلامة نية، وربما لو كانت عرفت أنه يقول له غيِّر عتبة دارك يعني: طلق زوجتك، ربما كتمت هذا الكلام- فقال: هذا أبي وأمرني أن أطلقك فالحقي بأهلكِ.
ونستفيد من هذا فائدتين: الأولى: أن المرأة هي زينة البيت، وعتبته، -والعتبة كناية عن الباب- فهي التي تحفظ البيت، وتدبر المعاش، فإذا كانت المرأة خائنة، ومسرفة، أشقت الرجل غاية الشقاء.
الثانية: أنه لا ينبغي للمرأة أن تشكو من زوجها ولا تفضحه أمام أحد ولو كان أقرب الأقربين، ولا تشتكي أنها لا تأكل ما تريد، وأن مرتبه ودخله ضعيف، وأنه لا يستطيع أن ينفق عليها، فليس هذا من وفاء المرأة، والرجل دائماً يحب المرأة الوفية التي تستر عليه، ولا تكشف عيبه ولا عجزه، ويحفظ لها الجميل.
وأنا أعرف رجلاً غنياً من أعيان الجيزة في مصر كان يبكي على امرأته لما ماتت بكاءً شديداً، وأصبره وأقول له اصبر واحتسب، -لأنه كان يبكي بصوت عالٍ- فقال لي: ومن أين لي بمثل هذه المرأة؟ وبدأ يحكي طرفاً من حياته معها، فقال: تزوجتها وليس لي في الأرض شيء، كنت عامل بناء، أعمل مع مقاول، فلما رأى المقاول فيَّ الأمانة والجد، جعلني رئيس العمال، ثم زوجني ابنته هذه، قال: فتزوجتها فكانت نعم الزوجة، كنت فقيراً وكنا نذهب كل خميس وجمعة، لزيارة والد المرأة، وكان بعد صلاة الجمعة يعمل مأدبة ويتوسع فيها، يقول: فكنت آكل، ولكن زوجتي لم تكن تأكل، فيقول لها والدها: كلي، فتقول: يا أبي! فلان هذا كل يوم يأتي لنا بمثل هذا، وهي لم تأكل من ذلك شيئاً، وإنما تظهر هذا التعفف، لكي لا تفضح زوجها ولا يظهر بأنه أقل من أبيها.
فالمرأة لا ينبغي أن تفضح زوجها وتشوه سمعته، وليس هذا من خلق المرأة الوفية، المرأة عتبة الباب، وعتبة الدار هي محل اعتناء واهتمام، فإذا أغلق الباب بإحكام أمنا على ما في الدار، فكذلك إذا كانت المرأة أمينة أمن الرجل على ماله وعرضه.
ولذلك إبراهيم عليه السلام، عندما جاء وسأل زوجة ولده فتبرمت واشتكت الضيق والشدة.
إن المرأة غير الوفية لا تستحق الحياة مع هذا الرجل، والرجل يتخذ قراراً حاسماً، إذا كانت المرأة تشقيه ويئس من إصلاحها، بشرط أن يكون قام بحق القوامة عليها، كما هو حال إسماعيل عليه السلام، عندما استمع وصية أبيه وطلق زوجته.
وفي الصحيح: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لابنه عبد الله بن عمر: طلق امرأتك، قال: لا أطلقها.
إني أحبها، فشكاه عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قلت له: طلق المرأة فأبى وقال: أنا أحبها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! أطع أباك، فطلقها عبد الله بن عمر).
قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس كل الناس عمر؛ لأن عمر بن الخطاب عندما يقول: طلق المرأة، إنما يقول ذلك لأمرٍ ديني شرعي، كما قال إبراهيم عليه السلام لابنه وعمر بن الخطاب لا يمكن أن تكون المرأة صالحة، تقية، وفية، مطيعة لزوجها ويأمر بطلاقه فلهذا السبب فإن هذا الحديث ليس عاماً، فإذا أمرك أبوك لغير أمرٍ شرعي أن تطلق زوجتك فلا طاعة له.
وبعد أن طلق إسماعيل عليه السلام زوجته عملاً بوصية والده، تزوج امرأة أخرى من جرهم وعاش معهم، ومضت الأيام والأعوام وجاء إبراهيم عليه السلام يسأل عن ولده، فدخل بيت إسماعيل، فوجد امرأته فسلم وقال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا.
فقال: كيف حالكم؟ فأثنت على الله عز وجل، وحمدته وقالت: بخير حال.
فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم.
فقال: ما شرابكم؟ قالت: الماء.
فدعا إبراهيم عليه السلام لهم باللحم والماء، ولو كان في مكة حب وزرع آنذاك لدعا لهم إبراهيم بالبركة بالحب والزرع أيضاً، ولذلك تجد اللحم والماء والبركة في مكة، وتجد فيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تبارك وتعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]، كل الثمرة الموجودة في الدنيا تجبى إلى مكة تحقيقاً لدعاء إبراهيم عليه السلام.
فلما وجد إبراهيم عليه السلام المرأة تثني على الله تبارك وتعالى بما هو أهله، وتحمده تبارك وتعالى وتثني على زوجها، قال لها: أقرئيه السلام وقولي له: إن أباك يقول لك: ثبت عتبة دارك، فجاء إسماعيل، وكأنما آنس شيئاً فسأل: هل جاءكم من أحدٍ؟ فقالت: نعم.
جاء رجل.
فقال: ما صفته؟ قالت: كان رجلاً وضيئاً، ومن وصفته كذا وكذا.
فقال: بما أوصاك؟ قالت: أن أقرئك السلام، ويقول لك: ثبت عتبة دارك، فقال: إن أبي يأمرني أن أمسكك.(94/8)
الاهتمام بالأبناء وتربيتهم وتنمية عقولهم
وبعد سنوات جاء إبراهيم عليه السلام، وقال لابنه إسماعيل: إن الله أمرني أن أبني البيت هنا، أفتعينني؟ قال: نعم.
بعد أن قال: افعل ما أوصاك الله به، وإسماعيل عليه السلام له موقف مشرف وغير هذا، كما هو وارد في قصة ذبحه، عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وفي هذا درس لنا ينبغي على الآباء أن يهضموه لكي يخرجوا ذرية طيبة من الأولاد وهذا الدرس في قوله: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فهذا حوار، وإشراك الولد في اتخاذ القرار، ما رأيك؟ قل لي رأيك في الموضوع؟ لا تقل: إنما هو ولد صغير، فالولد كبير لكنك أنت الذي تصغره، فيكبر وليس له شخصية.
لكن إبراهيم عليه السلام يشارك ولده في القرار، فيرد الصغير: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
والولد ينشأ على ما عوده أبوه وما رباه عليه أهله.
وهذا محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وحقق الوعد الأول للرسول عليه الصلاة والسلام كانت أمه تأخذه كل يوم وهو صغير إلى النهر، وتكلمه عن الشاطئ الآخر، وتحدثه أن الشاطئ الآخر أحد الأماني الذي يسعى المسلمون إلى فتحه وكل يوم يتفرج على الماء وهي تمنيه وتقول له: نريد أن نعبر ونصل إلى الشط الآخر، وكان يكبر كل يوم ويكبر فيه هذا المعنى، فكبر محمد الفاتح وعنده هذه العاطفة، عاطفة النهر حتى صار شيئاً أساسياً في حياته، فصدق فيه قول القائل: (وراء كل رجلٍ عظيم أم).
وليس كما يقولون: امرأة.
بل هناك نساء دمرن رجالاً تدميراً.
مثل أم محمد الفاتح، ومثل أم سفيان الثوري، فقد كانت تقول له: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، تشتغل بالمغزل وتبيع الغزل لكي تصرف على ابنها الذي يطلب العلم، ووراء الشافعي أم علمته العلم وكانت أيضاً تغزل، وكانت تنفق عليه.
فنشأ محمد الفاتح على هذا الحلم والأمنية حتى صار حقيقة.
فالواجب على الآباء والأمهات الاعتناء بتربية أولادهم وتنمية عقولهم، ومشاركتهم في المشاكل والحوادث؛ لكي يتعلموا معنى الرجولة الحقة، عليهم أن يقدموا تنمية عقولهم على الأكل والشرب والملبس.
فإبراهيم عليه السلام كان يشرك ولده في القرارات والملمات كما قال تعالى حاكياً عنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، أي: أرنا كيف تري الله من نفسك؟ أرِ الله من نفسك خيراً ولا تنكص على عقبيك، فيرد الولد، ويقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، كان في كلامه التسليم.
تؤمر: فعل لما لم يسم فاعله: أي أن هناك آمر، يعني: هذا ليس بملكك ولو كان بملكك ما ذبحتني، لكن هذا أمرٌ لا دخل لك فيه، فأول شيء تفطن له إسماعيل عليه السلام، في إحالته أن والده مأمور: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، قال إن شاء الله، ولم يقل: ستجدني من الصابرين، إنما قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)؛ لأنه لم يركن إلى نفسه، ولم يعتمد عليها، ولم يثق بها، إنما استثنى، وفوض أمره إلى الله.
وهناك قصة لأحد العباد الزهاد ويسمى سيمنون الزاهد، كان يقول: يا رب! ابتلني وسوف أريك.
-أي: سأصبر على البلاء- فحبس الله فيه البول، فتمرغ بالتراب وقال: يا رب! يا رب! فرّج عني، يا رب! أزل العذاب، لم يتحمل البول محبوساً بداخله، فعافاه الله، فكان هذا العابد يذهب يطوف على الكتاتيب، ويقول للأطفال الذين يحفظون القرآن: استغفروا الله لعمكم الكذاب.
فلا تثق بعزيمتك؛ فإن العزائم تنفسخ، والإيمان يزيد وينقص.
ولكن قل: إن شاء الله.
فأنت قد تقرأ قصة لأحد الأبطال كأن تقرأ قصة أحد المجاهدين من الصحابة، فتحس أنك لبست الشخصية وتقمصتها، حتى إنه لو جاءوك وقطعوك إرباً إربا لا تتأوّه؛ لأنك ما زلت متحمساً وتقرأ في القصة، وتعيش هذا الدور، وفي هذه اللحظة إيمانك مرتفع، ولو جاءوا بك وآذوك فلن تستكين لهم، لكنك لا تدري بعد أن تقرأ القصة ويمضي الوقت ما يحدث، فعند أول كربة قد تصرخ: ارحمونا، ارحمونا.
فإسماعيل عليه السلام، يقول: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، يعني: أنا لا أثق بعزمي، وأنا ما عندي من قوة فهي من الله تبارك وتعالى: فخلع الحول والقوة في كلامه، قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
وختاماً: لهذه القصة نقول: إن قصة إبراهيم عليه السلام، تدور على ثلاثة هم: إبراهيم، وابنه إسماعيل، وأمه هاجر.
فكن قوي العزم وتأس بالرجال؛ إذا أردت الأسوة: إبراهيم عليه السلام، فإن نزل عزمك، فتأس بالصبيان تأس بإسماعيل عليه السلام، فإن نزل عزمك، أفلا تتأسى بربع رجل، وهي هاجر عليها السلام، وأنت تعرف أن المرأة الحرة، نصف الرجل، والأمة نصف الحرة، أي: ربع رجل، وتثبت وتعتمد على الله عز وجل بقلبها، وتسكن في بيداء مكة وحدها، وهي موقنة أن الله عز وجل لن يضيعها.
فلابد لك من أسوة، والله يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، وهؤلاء هم أسرة إبراهيم عليه السلام.
ونحن نحتاج في عصرنا هذا إلى أمثال هؤلاء الرجال، أزمتنا أزمة رجال، وليست أزمة موارد أبداً، إن الله عز وجل جعل الخير في بلاد المسلمين، لكننا نحتاج إلى رجال، رجال من معادن الرجال الذين مكن الله عز وجل لهم في عشر سنوات.
اقرأوا تاريخ البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، لن تجدوا أقواماً مكن الله عز وجل لهم، وصنعوا دولة في عشر سنوات إلا الصحابة، فقط، دولة عشر سنوات فقط، يعني من ساعة ما هاجروا إلى المدينة، إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر سنوات صنعوا دولة ودانت لهم فارس والروم، وما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وكلمة الله هي العليا؛ لأنه كان عنده أمثال هؤلاء الصحابة الكرام الأفذاذ.
إذاً: أزمتنا أزمة رجال، فهذا الحديث فيه بحث عن الرجال أصحاب القيمة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(94/9)
الولاء والبراء [1]
إن أعلى مقامات الحب هي العبودية، ولا تنبني العبودية إلا على أصلين عظيمين هما: كمال الحب، وتمام الذل، ولا ينبغي صرف هذين الأصلين إلا لله سبحانه، وإن أكبر ثمرة من ثمار هذا الحب هي موالاة الله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الكافرين والمنافقين، ولقد كانت أهم قضية تناولها القرآن بعد نبذ الشرك وتقرير التوحيد هي قضية تقرير عقيدة الولاء والبراء، ولقد ضرب لنا الصحابة في ذلك أروع الأمثلة، ولعل من أبرز ثمار هذه العقيدة قيام الجهاد في سبيل الله، وهو الباب الذي فرطت فيه الأمة في هذا العصر، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.(95/1)
العبودية أعلى مقامات الحب
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لا زال الحديث موصولاً عن علامات الحب، وآخر علامة نقف عليها اليوم، ثم نصل إلى الثمرة العظمى من هذه الدروس وهي: أن أعلى علامات الحب قاطبة هي العبودية، وقد درج بعض الناس -لاسيما بين الرجال والنساء- إذا أراد أحدهما أن يعبر عن شدة حبه للآخر، وأنه ليس له بعد الحب مذهب، يقول أحدهما للآخر: أنا أعبدك.
هكذا يقولون، والعبادة لا تكون إلا لله عز وجل، مستحق الحمد وحده ومستحق العبودية وحده، لكنهم يعرفون أن أعلى علامات الحب هي العبادة، وحقيقة العبادة تنبني على أصلين عظيمين: الأصل الأول: هو كمال الحب، والأصل الثاني: هو تمام الذل، فلا ذل إلا بحب، ولا حب إلا بذل.
فإذا وصل العبد إلى درجة العبادة لا يرى لنفسه اختياراً قط؛ لأن هذا ينافي الذل وينافي الحب اخضع وذل لمن تحب فليس في حكم الهوى أنف يشال ويعقد ليس لك أنف وأنت محب؛ لأنك إذا تحسست أنفك -الذي هو مناط النخوة- فهذا يضاد الحب، والمحب لا أنف له يتحسسه.
المستحق للعبادة وحده هو الله عز وجل؛ لأنه وحده هو الذي يحب لذاته، ومن دونه يحب لقربه من الله، لا يحب لذاته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنما نحبهم لقربهم من الله؛ ولأن الله اصطفاهم؛ لذلك أحببناهم وقدمناهم.(95/2)
العبودية مفتاح النصر
والسنوات القادمة لعلها تتمخض عن حرب فاصلة بيننا وبين اليهود، فما هي عدتنا لهذه الحرب، إننا سنغلب اليهود في أول جولة إذا حققنا شيئاً واحداً: إذا كنا عباداً لله عز وجل فقط.
فالعبودية لله سلاحنا الوحيد، واقرأ مطلع سورة الإسراء يتبين لك هذا الأمر: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:1 - 6].
انظر! السورة بدأت بالعبودية، وكررت العبودية مرتين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا}.
كلمة (عباد) في القرآن عندما تأتي مضافة بالياء -ياء الإضافة- {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، أو بنون الإضافة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] لما تأتي كلمة (عباد) في القرآن مضافة على الله عز وجل، فهي في الغالب تأتي إضافة تشريف، بخلاف كلمة (العبيد) فلم تأت قط إضافة تشريف، وإنما جاءت لوصف العبودية العامة الشاملة على العباد، عبودية القهر، وأن الكل يحتاج إلى الله عز وجل، لكن عبودية التشريف لا تأتي (بعبيد) تأتي (بعباد) {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5].
وقلت: إن (عباد) إذا جاءت مضافة إنما تعني إضافة التشريف غالباً؛ لأنها قد تأتي مضافة وليس للتشريف، وإنما للقهر أيضاً، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] وهذه ربوبية شاملة على العباد.
فالله عز وجل سيبعث على هؤلاء عباداً له قاموا بحق عبوديته، ولا يمنع أن يسلط عليهم من هو أرذل منهم، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، سواء كان مؤمناً أو كافراً.
واستحضروا في العصر الحديث ما فعله هتلر النازي باليهود، حتى إنهم في المؤتمر الأخير طالبوا الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعله هتلر رسمياً، مع أن الرئيس الأمريكي لا علاقة له بما فعله هتلر، ولكن هي الآن: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:6]، لماذا؟ لم يعودوا عباداً، فرجعت الكرة عليهم مرة أخرى! ثم حذرهم وقال لهم: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [الإسراء:7] إذا ضللتم عباداً سيظل لكم الغلبة والنصر، وتظفرون على عدوكم، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] ترجع الكرة عليكم مرة أخرى.
: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:7 - 8] أيضاً، إذا سكرتم بخمرة الانتصار، وتجاوزتم حدود الله عز وجل، وعدتم للطغيان بعد أن أظفرناكم على بني إسرائيل؛ عدنا أيضاً لإذلالكم، وعاد بنو إسرائيل ليظهر عليكم مرة أخرى وهكذا.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يقول: (إن الله لينصر الدولة الظالمة إذا كانت عادلة، ويخذل الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة) فإن الله لا يحابي أحداً من عباده: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، انظر! مع أن المناسب أن يقال: (وإن أسأتم فعليها) وليس (فلها) لكن هذا نوع من التبكيت، كقول الله عز وجل: (فبشرهم بعذاب أليم)، والبشرى لا تكون إلا بالخير، فهذا نوع من التبكيت: أن توضع البشرى مكان النذارة والعكس (وإن أسأتم فلها).
سلاحنا في مقاومة كل أعدائنا: أن تكون عبداً لله عز وجل، كثير من الناس يسمع هذا الكلام وينفعل، ولكنه لا يغير في بيته شيئاً، ومع ذلك يصرخ في كل مكان، وينادي بالخلافة، وينادي بالحكم فمن غير المعقول أن يعجز الرجل عن ضبط بيته ثم يحكم دولة، هذا ليس بالإمكان! عاجز أن يأمر امرأته أو ابنته بلبس الحجاب الشرعي، أو هو عاجز أن يأمر ولده بالصلاة، ثم يريد أن يحكم دولة هيهات،!! هو عن حكم الدولة أعجز.
إذاً العبودية هي مفتاحنا إلى النصر، وسلاحنا الوحيد.
وإنني أطنبت وطولت في الكلام على علامات العبودية لكي أصل إلى الثمرة المرجوة من هذه الدروس وهي: الولاء والبراء، ولأن أكثر أهل الأرض أدعياء، والناس أربعة: مؤمن وكافر ومنافق وعاص.(95/3)
ولاؤك لمن
فولاؤك لا يكون إلا للمؤمنين، وبراءتك لا تكون إلا من الكافرين والمنافقين، والعاصي يكون ولاؤك له بقدر إيمانه بالله، وبراءتك منه بقدر معصيته.
فإذا راقبت علامات المحبة في الناس عرفت من توالي ومن تعادي، ومن الذي تلقي إليه بالمودة ومن الذي تتبرأ منه.(95/4)
ضياع عقيدة الولاء والبراء في واقعنا المعاصر
عقيدة الولاء والبراء لأنها متصلة بالله مباشرة؛ حرص أعداؤنا على تمييعها وتضييعها، فظهرت مصطلحات الأخوة الإنسانية، حتى من بعض الذين ينسبون إلى الدعوة يقولون: إخواننا من النصارى، إخواننا الأقباط، هذا قدح في الإيمان، وقدح في عقيدة الولاء والبراء، لقد كفرهم الله عز وجل وهذا يقول: أخونا في الوطن، إخواننا النصارى أو إخواننا الأقباط!! هذا حرام لا يجوز، لأن الله كفرهم، فلا يحل لمن كفره الله وأهانه أن تكرمه.
وإذا أردت أن تعرف عقيدة الولاء والبراء أنها ضاعت فاسمع التجار الذين يتعاملون مع المستوردين، وانظر إلى إكرام التجار لهؤلاء الكافرين، وكيف أنه لا يجلس على الكرسي إلا إذا أجلسه، ويتودد إليه، وأن هذا الكافر قد يعقد صفقة محرمة، وقد يفعل شيئاً أو قد يقول شيئاً محرماً، ثم يبتسم هذا المسلم، ولا يغضب لله عز وجل! انظر أيضاً إلى الدرجات العلمية في الجامعات لما يأتي مستشرق، انظر إلى تكريمه في الجامعات! فضيلة المستشرق الفلاني، وقد جاء وهو عبقري وعلامة وفهامة إلى آخر هذه الألفاظ.
جون بولكلتر الوجودي أول ما جاء هنا هو وعشيقته دخلوا الجامع الأزهر وأنا رأيته بعيني، وأنا في الأزهر ذات مرة كان هناك رجل فراش أعطوه خُمر، فأي واحدة متبرجة أجنبية تريد أن تتفرج وتدنس المسجد بقدميها -انظر الورع الكاذب والبارد! - يقول لها: البسي هذا الخمار طيب هي لابسة (شورت!) لبِّسها جلباب! امرأة لابسة خمار وشورت في الجامع الأزهر! فأنا داخل المسجد فوجدت هناك مجادلة بين المرأة والفراش، وهو يحاول أن يعطيها الخمار وهي ترفض، هل تعلم ماذا كانت النتيجة؟ أخرجت جنيهاً من جيبها وأعطته في يده، فلم يلزمها بوضع وهذا يحصل في بيوت الله! لماذا يدخل الكفار المسجد الأزهر؟ ما هي المصلحة؟ هل المسجد الأزهر أثر؟ أهو هرم؟ أهو أبو الهول؟ هذا بيت الله عز وجل، وبيت الله عز وجل لا يدخله كافر إلا إذا دخله ليسأل عن شيء، وفيه أحكام كثيرة، كما كان الكفار يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم، يدخل لأجل أن يسأل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له الغلبة، وكان له القهر والسلطان، فأي مشرك يدخل المسجد يدخل لعلة أو لمصلحة، لكن يدخل ليتفرج والمرأة متبرجة ويدخلون في مساجدنا؟! الآن أنا أقرأ في الجرائد منذ سنة (1974م) مقالات لمستشار يقول فيها: إن اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين في الجنة، مستشار يكتب من سنة (74م) حتى الآن، وكتبها هذه السنة أيضاً أن المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة كلهم.
ويسمح لمثل هذا أن يكتب، وينشر، ولو كان مضاداً لعقيدتنا التي تمتهن بحجة حرية التعبير وحرية الرأي.
المشاركة في أعياد الكافرين، وتسهيل المسألة، ولا تكن متزمتاً ولا تكن متعصباً، كل هذا ضرب لعقيدة الولاء والبراء في مقتل، وصار الذين يملئون ويعمرون أعياد الكافرين هم المسلمون، من الذي يملأ أعياد الكافرين يوم (شم النسيم) غير المسلمين، وبكل أسف أرى أصحاب لحى، وأرى صاحبات نقاب يتنزهون، وخرجوا يشمون الهواء، أقول في نفسي: هل غيب هؤلاء؟ هل نسي هؤلاء أنهم مصنفون كإرهابيين على كل الموائد الدولية؟ هل نسي هؤلاء هذا الأمر؟ هل نسي هؤلاء أن كل حرب تعقد في بلاد من بلاد العالم إنما هي عليهم؟! يخرجون يعمرون مشاهد الكافرين! ليلة رأس السنة من الذي يزني، ومن الذي يعاشر النساء ويشرب الخمر غير المسلمين؟! ويدفعون ألوف (الجنيهات) في الفنادق، والذي له واسطة يجد تذكرة دخول، من الذي يفعل ذلك غير المسلمين في ديار المسلمين؟! وهذا على مرأى ومسمع، ثم بعد كل ذلك يطلبون النصر من الله عز وجل.
إن بقاء هذه الأمة على وجه الأرض مع كل هذا الخبث معجزة، إننا نستدل على أننا سننتصر على عدونا ببقائنا، بقاؤنا مع كل المخالفات معجزة وآية من آيات الله عز وجل، نستدل بها أننا سننتصر، كل هذا ولم يخسف بنا.
إن الله تبارك وتعالى نهانا أن نسكن في مساكن الذين ظلموا، مع أن الأرض لله، والأرض لا تقدس أهلها، ولا تصبغ إلا بصبغة الساكنين عليها.
مكة -التي هي أحب البلاد إلى الله- كانت في يوم من الأيام دار كفر، وهي أحب البلاد إلى الله، إنما الدار بساكنيها.
الآن الدار دار إسلام غداً تصير دار كفر، فالأرض لا علاقة لها بالكفر والإيمان، ومع ذلك نهانا أن نسكن في مساكن الذين ظلموا مع أن الأرض لله لماذا؟ هذا داخل في عقيدة الولاء والبراء، فكثرة مشاهدة آثار الذين ظلموا تؤثر على القلب، ويزعمون أنهم أتوا ليروا أبا الهول والأهرام! فكثرة مشاهدة آثار الظالمين يؤثر على عمل القلب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على الحجر من ديار ثمود، أين ثمود من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ تفصله عنهم سنين طويلة، ومع ذلك أول ما مر على الحجر من ديار ثمود تقنع، واستحث الراحلة أن تسرع، وقال: (إذا مررتم بديار الذين ظلموا فأسرعوا؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم)، وهؤلاء موتى لا يؤثرون، فكيف بالأحياء؟ إذاً يقول لك: إذا مررت على قبر ميت أسرع، وبعد ذلك تتعامل مع الكافر فهل هذا كلام معقول! وقد أمرك بالإسراع بجانب قبر الميت منهم، فيحرم عليك أن تجامع المشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشركين فهو منهم)، ألا يكفي هذا رادعاً؟ فيجب علينا أن نخرج العادات والتقاليد البالية التي أخذناها من بلاد الكفر كالتقاليد البالية في الأفراح.
بالأمس كان هناك فرح سبحان الله! هؤلاء الناس ليس عندهم حياء، المرأة متبرجة والديوث يتأبطها، والذي لا يشتري يتفرج، في الشارع! حتى قال مؤذن الفجر: الله أكبر فسكتوا وذهبوا ليناموا.
أليس هؤلاء أولى بالعقوبة؟! أليس هؤلاء أولى بالعقوبة شرعاً وعرفاً؟! بعض الناس كانوا يشتكون من المحاضرات المعلنة في المساجد، وذات مرة نزل أحدهم ممن لم يصل الفجر في المسجد، ونسي القائمون على المسجد أن يطفئوا (الميكرفونات) الخارجية، وكنت أقول تذكرة عشر دقائق، فتطوع هذا ونزل من بيته ودخل على المسجد كأنه كتلة نار، وقال: هناك أناس نائمون، وهناك طلبة يذاكرون واستدار.
وأنا أكمل الجملة، قلت: أكملها في دقيقة، فهو قال هاتين الكلمتين واستدار ذاهباً إلى باب المسجد، وبينما أنا أكمل الجملة استدار وشتم وخرج فهل يستطيع هذا إذا كان الفرح تحت بيته أن يتكلم؟ لا يستطيع، ولا ينصره لا عرف ولا سلطان.
فهذه أمثلة! وفي سنة ثمانية وسبعين حين كان أحدهم وزيراً للأوقاف، ساكنو حي المهندسين اشتكوا من الأذان في (الميكرفونات) وقالوا: إن الأذان يزعجنا، وصدر قرار بإغلاق الميكرفونات العلنية في حي المهندسين، وقامت وقتها ضجة وثورة، وتكلم الدعاة عليها كلاماً طويلاً، وقالوا: الأذان لا يزعج أحداً، بل المريض وهو يتقلب في مرضه إذا سمع (الله أكبر) قال: رب أنت أكبر من المرض، فعافني، إذا سمع الله أكبر استبشر؛ لأنه لا ناصر له إلا الله في هذه الحالة، فهل تقوم تحرمه أن يسمع الأذان، وتقول الأذان يزعج! لا يزعج إلا البطالين الكسالى الذين شربوا الخمر إلى الأذان ثم يريدون أن يناموا.
إذاً عقيدة الولاء والبراء هي والإيمان بالله لا ينفصمان، إذا وجد أحدهما وجد الآخر، وإذا رحل أحدهما رحل الآخر.
وأيضاً -لخطورة عقيدة الولاء والبراء؛ ولأنها أخطر وأطول في الكلام من علامات المحبة- سنذكر أيضاً ضوابطها وعلاماتها، وأن بعض الصور تخرج من مسألة الولاء والبراء مثل المبايعة مع الكافر: أن تتعامل مع الكافر في البيع والشراء هذه الأفعال غير داخلة في عقيدة الولاء والبراء إلا إذا انضاف إليها أشياء، وسنذكر كل شيء بضوابطه.
نسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولاتسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(95/5)
نماذج من حياة الصحابة في تقرير عقيدة الولاء والبراء
الصحابة الأوائل ضربوا أروع الأمثلة في عقيدة الولاء والبراء، فقد خرجوا من ديارهم وتركوا كل شيء جمعوه في حياتهم فداءً لله ورسوله، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] آمن لكنه لم يهاجر، وكانت الهجرة علامة على الولاء لله عز وجل، فبرغم أنه مؤمن إلا أنه قال: (لا توالوهم حتى يهاجروا)، فالصحابة لما خرجوا من ديارهم وتركوا كل شيء، تركوا آباءهم وأبناءهم وأموالهم لله عز وجل، حتى إن بعض هؤلاء كان رجلاً كبيراً بلغ من الكبر عتياً، فوق الثمانين عاماً، ولكنه آمن وكره أن يعيش في برودة المجتمع الكافر، فخرج يقاوم سنه، ويقاوم قلبه وجوارحه، وخرج من مكة إلى المدينة ماشياً، فبينما هو في الطريق إذ أدركه الموت، فضرب كفاً بكف، وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
اعمل لله ومت حيث شئت {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26] أي: جمعناهم على ظهرها ونجمعهم في بطنها، فكن عبداً لله ومت حيث شئت، كن في جوف سبع، كن في جوف بحر، ستصل إلى الله عز وجل.
وها هو صهيب الرومي رضي الله عنه، وكان قد جمع مالاً طائلاً وخبأه تحت جدار، ثم خرج هارباً بالليل، فعلم به المشركون فخرجوا وراءه، فأدركوه في الطريق، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال.
قال: أرأيتم إن أعطيتكم مالي تخلون بيني وبين وجهي؟ قالوا: أجل.
قال: فإن المال في مكان كذا.
فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث، قال له: (ربح البيع أبا يحيى) ربح البيع لماذا ربح البيع؟ لأن الله عز وجل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
عقد بيع ينتظر توقيعك فقط، المشتري مضمون، لا ينكث أبداً، عقد بيع ينتظر توقيعك أنت فقط، فهل توقع؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، لذلك قال له: (ربح البيع أبا يحيى).
وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان أبر الناس بأمه، حتى كان يضرب المثل ببره، فلما أسلم قالت: (لا آكل ولا أشرب حتى تكفر بدينك، لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه).
وظلت يومين أو ثلاثة لا تأكل، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فتحوا فمها بالعصا، قال: فجئتها فقلت لها: (والله يا أمي! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني، كلي أو دعي) هذا هو الولاء والبراء، هذا هو الولاء لله عز وجل، كامل المحبة كامل الولاء، وولاؤك بقدر محبتك.
وذكر ابن هشام في سيرته أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضرباً شديداً حتى كان يهذي، بسؤال واحد: ماذا فعل رسول الله؟ يسكتونه ويهدئون من روعه، وهو لا يكف عن هذا السؤال، حتى جاءت أم جميل بنت الخطاب وقد استدعوها: تعالي، طمئنيه، وهو لا يفتأ يقول: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: هو بخير.
قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم.
أيها المسلمون: لقد عجز كثير من المسلمين أن يكونوا مثل امرأة مسلمة، لما مات أبوها وأخوها وزوجها، ثم لا تأبه بكل ذلك وتقول: وما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير.
قالت: أريد أن أراه.
فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل لا قيمة لها!(95/6)
الولاء والبراء في القرآن الكريم
القرآن الكريم يدور في أغلب محاوره على تقرير التوحيد ونبذ الشرك، والمعنى التالي مباشرة لهذا المعنى هو: الولاء والبراء، وعقيدة الولاء والبراء: أن تتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الكافرين والمنافقين والعصاة بالقيد الذي ذكرته في العصاة، واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومتى كانت المحبة في القلب كاملة كان الإيمان كاملاً، أما فعل الجوارح فبقدر الاستطاعة.
الإيمان: اعتقاد وعمل قول وعمل، وهو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، (آمنوا): هذا عمل القلب، و (عملوا الصالحات): عمل الجوارح، فالإيمان اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فلابد أن يكون عقد القلب كاملاً لا نقص فيه، كل نقص في عقد القلب يعد نقصاً في الإيمان، بخلاف عمل الجوارح، فهذا بقدر الاستطاعة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] (أكره): عمل الجوارح.
مر رجل على قوم يعبدون الأصنام، فقالوا له: لن تمر حتى تقرب لإلهنا قرباناً، وإلا قتلناك، فقرب قرباناً لآلهتهم وهو كاره فهذا لا يضره شيء، لأن عقد القلب كامل، ولا يتصور نقصه في عقد القلب؛ لأن في مقابله نقص في الإيمان، والذي يحب الناس لمحبته واعتقاده فيهم إنما يحبهم بالهوى، ينبغي أن تكون محبته لله عز وجل، قد يسيء إليك أخوك ولكنك تحبه، لما فيه من الإيمان برغم إساءته لك، هذا هو الإيمان.
الإيمان اعتقاد بالقلب، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان) لماذا؟ لأنه لا يتصور الإكراه في عمل القلب، لأنك تستطيع أن تظهر غير ما تعتقد وأنت آمن؛ لأنه لا يشق عن قلبك، فلذلك جعل الإنكار باليد والإنكار باللسان بحسب الاستطاعة؛ لأنه ظاهر، أما القلب فلم يعذر فيه؛ لأنه لا يتصور عقد القلب إلا كاملاً، والنقص فيه يساوي النقص في الإيمان.
إذاً كلامنا على علامات المحبة حتى تعرف من توالي ومن تعادي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فالذي لم يكن مؤتمناً على عبادة ربه كيف يولى منصباً؟!.
ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة حكاية عجيبة: أن الملك الصالح كان عنده مستشاراً نصرانياً، وكان هذا المستشار شجاً في حلوق المسلمين، كان يقرب النصارى ويبعد المسلمين، وفي يوم من الأيام جلس الملك الصالح مع هذا النصراني في مجلس، فتطرق الكلام إلى الكلام على النصارى واعتقاد النصارى، فالملك الصالح ذم النصارى، وذكر حكايات عن النصارى فقال: إنهم لا يحسنون الحساب، لأنهم جعلوا الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة! جسم الأب والابن والروح القدس إله واحد! فخطر على بال الملك الصالح أنه يفتش وراء هذا الرجل، فإذا كان خان الله في التوحيد فماذا يفعل في الخزينة؟! فأكتشف أنه يؤدي إلى السلطان ديناراً ويأخذ دينارين على مذهبه، فهم ثلاثة، خان الله عز وجل في التوحيد أفنجعله أميناً على الخزنة؟!! أميناً على الجباية!! ومع أن الأدلة صريحة في القرآن، فأهم معنى بعد التوحيد ونبذ الشرك هو الولاء والبراء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]، هذه الأشياء التي ذكرها الله عز وجل هي مدار حياة الناس كلها، هذه الأشياء هي التي يوالون عليها ويعادون، الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والتجارة والمساكن، هذه هي حياة الناس، قال الله عز وجل: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24]، (تربصوا): يعني انتظروا فاقرة، وانتظروا عقوبة تنزل بكم حتى يأتي الله بأمره، ثم فسقهم جميعاً فسق هؤلاء الذين يحبون هذه الأعراض على الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.(95/7)
عسى الله أن يأتي بالفتح
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
في قول الله عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] ما هو الفتح؟ وما هو الأمر؟ وهل بينهما فرق؟ ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)).
(أن يأتي بالفتح): أن نظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، فإن لم يكن هذا الفتح، ((أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)) يدمرهم مكانهم بغير كسب منك، كما فعل الله عز وجل فيهم يوم الأحزاب {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25] ((أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)): يعني: ما خطر لك على بال، ولا دخل في حسابك.
والفتح: كسب منك، والله عز وجل يظفرك به ويظهرك عليه.
وإذا نظرت إلى حال الصحابة الأوائل، وجدت أن كلا الأمرين قد تحقق، الصحابة خرجوا من ديارهم وأموالهم.
وقصة جالوت وداود وطالوت، لما اشتكوا لنبيهم ماذا قالوا له؟ قالوا: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] ولو كانت وأبناؤنا (بالضم) يعني: نحن وأولادنا خرجنا وتركنا المال والديار، لكن انظر! يقول: أخرجنا من ديارنا وأخرجنا من أبنائنا، فانظر إلى فداحة المصيبة! {أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246].
الولد قرة عين الوالد، فهؤلاء الصحابة لما قيل لهم: اخرجوا، تركوا ما بذلوه طيلة أعمارهم من المال والدار وراءهم، وذهبوا إلى مستقبل غير معروف، الصورة غير معروفة على الإطلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الله لم يضمن لهم أكلاً جيداً ولا ملبساً جيداً، وما تكلم عن هذه قط، ولكنه وعدهم الجنة، فإذا بذلت نفسك لله وخرجت من ديارك وخرجت من مالك وخرجت من ولدك أنا لا أعدك بشيء في الدنيا، فلا أعدك بتمكين ولا أعدك بمطعم وشراب بارد، وإنما أعدك إذا مت أن تدخل الجنة، هذه هي دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: وقود البذل والتضحية هو الإيمان لماذا؟ لأن هذه جنة! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] لم يقل: بأنه يمكن لهم، ولذلك من الغبن الشديد في حقنا: أننا نستعجل التمكين ونستعجل النصر، الرسول عليه الصلاة والسلام قال له الله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، أما مسألة أن يمكن لك أو يمكن لابنك أو يمكن لحفيدك أو لا يمكن إلا للجيل القادم بعد زمن طويل هذه مسألة في علم الله عز وجل، المطلوب منك أن تستقيم، أما الوعد بالتمكين فلا، لا نعد بالتمكين إلا إذا أقمنا العبودية، فإن الله عز وجل وعدنا بذلك، لكن لا تقل: أنا فعلت، فلم لم يمكن لي؟! الصحابة لما خرجوا وتركوا أموالهم، ما الذي حصل؟ الله عز وجل أباح لهم رافداً إلى يوم القيامة، نحن نعيش على خيره لو رجعنا إلى الجهاد، كم أُخذ منهم من المال تقريباً؟ جازاهم بأن أباح لهم الغنائم إلى يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل، فعندما ترك الصحابة مالهم لله؛ أباح لهم رافداً لا ينضب، فأباح لهم الغنائم في وقعة بدر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم).(95/8)
تضييع الأمة لفريضة الجهاد
ونذكر هنا قصة يوشع بن نون المشهورة، وهذه القصة وإن كنا تكلمنا فيها وفي فوائدها ولكن أذكرها لأن هذا وقتها، وقت الجهاد والفداء، وليستشعر الذين كانوا يثبطون الدعاة ويكتبون ضدهم حينما كانوا يدعون إلى الجهاد، فقد ظهر شخص على أعلى مستوى دبلوماسي في مؤتمر صحفي يقول: كلام الجهاد والعنتريات هذا ولى وانقضى، الآن زمان السلام.
الكلام هذا كان بمدريد.
فالسياسة لا دين لها، والدعاة لم يغيروا كلامهم أبداً، فهم ينادون دائماً بضرورة تعبئة الأمة للجهاد في سبيل الله، وصارت كلمة الجهاد سبّة، وعوقب من ينسب إليها ولو زوراً! بعدما قتلت هذه الروح في الجماهير وهجم علينا أعداؤنا، من يدفع الضريبة ومن يدفع الثمن؟ بعدما قتلوا هذه الروح الفتية في نفوس الجماهير، من الذي سيدفع هذا الثمن، ويدفع ثمن هذا الجرم العظيم في حق الأمة؟ فالجهاد مصطلح إسلامي خالص لا يعرف في أي ملة، يعرف القتال الكفاح النضال أي شيء من هذا الكلام، لكن (الجهاد) كلمة إسلامية خالصة، لم تعرف إلا عن المسلمين.
أحد الملوك مرة قال: الجهاد! فاهتزت العروش، وأرسل الأمريكان والإنجليز ليسألوه: ماذا تقصد بهذه الكلمة؟ وضح مرادك! لماذا كلمة (الجهاد) مرعبة؟ لأنها أولاً: مصطلح إسلامي.
ثانياً: لا يعلم استخدام هذه الكلمة من قبل المسلمين إلا مع الكافرين، فعندما تقاتل أخاً لك مسلماً فليس اسمه جهاداً: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فقال: اقتتلوا ولم يقل جاهدوا، وقوله: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه) لم يقل: إذا جاهد.
فلما نحيي كلمة الجهاد مرة ثانية، وندرس أبواب الجهاد وأحكام الجهاد، فأنت تجهز نفسك لمن؟ نحن نعرف أن الجهاد للكفرة فقط.(95/9)
عواقب ترك الجهاد
فنحن في زمان الجهاد، وقد أظلنا زمان الجهاد، والجهاد في سبيل الله متعة، والصحابة كانوا يتسابقون إليه، وما الفقر الذي نحن فيه إلا بسبب ترك الجهاد، ولو نغزو كل سنة مرة أو مرتين أو ثلاث، ألم يكن سيسلم أناس كثيرون في الأرض؟ والذين سيرفضون هذه الدعوة ويحولون بيننا وبين دعوة الناس ألن نقاتلهم، ونغزوا أولادهم وأموالهم ونساءهم، وكل هذه عبارة عن أموال، وكل مجاهد كان يرجع من الجهاد ومعه أموال كثيرة والسبي من النساء والأولاد، ولو ذهب ليعمل صفقة تجارية في بلاد الغرب ما حصَّل هذه الأموال أبداً، وإذا احتاج إلى المال يبيع من السبي، وليس هذا فقط، بل هؤلاء منهم من سيسلم، فيكون هو أدخل أناساً آخرين في دين الله عز وجل وظهرت كلمة الله عز وجل.
فكتاب أحكام الذمة لـ ابن القيم كتاب من أمتع الكتب في هذا الباب، وقد نشره رجل محقق واعترض على ابن القيم في أشياء كثيرة بسبب الذل المضروب على المسلمين.
مثلاً: ابن القيم يقول: إن النصارى واليهود لابد أن يعطوا الجزية وهم صاغرون فهذا شرط، يعني: لا يدفع الجزية إلا وهو ذليل منكس رأسه ويقول: خذ الجزية وهذا شرط مذكور في الآية.
فهذا يرد على ابن القيم ويقول: هذا الكلام هذا غير صحيح، ويكفي أن نأخذ الجزية، وما صاغرون هذه؟ وهذا الكلام غير صحيح وإنما هذا المحقق يتكلم من وضع الضعف والهوان الذي يراه ويعيش فيه! الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالكلام).
وصح عن عبد الله بن عمر أنه سلم على رجل فعلم أنه يهودي فجرى وراءه، وقال له: رد علي سلامي -هكذا بمنتهى العزة- فقال له: رددت عليك سلامك؛ لأن عز الفرد من عز أمته ودولته، وذله من ذل أمته ودولته.(95/10)
وقفات مع قصة يوشع بن نون ومقارنتها بالواقع
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة يوشع بن نون، قال: (غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا يتبعني رجل له خلفات ينتظر نتاجها)، أي إنسان من هؤلاء أنا في غنى عنه: رجل تزوج ولم يبن -أي: لم يدخل بالمرأة- فهذا يجلس بجانبها لماذا؟ لأن الرجل يتمنى أن يتزوج، و (يعيش في ثبات ونبات ويخلف صبيان وبنات)، فهذا أول ما يرى بارقة السيف تلمع يفر كالجبان هذا لا ينفع.
(ورجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها)، رفع الجدران وما زال السقف والدور الثالث والرابع والخامس، هذا الرجل يتمنى أن يرجع ليتمم ما بنى، فهذا يقعد.
(ورجل له خلفات ينتظر نتاجها) له غنم، وهو ينتظر الغنم تلد، فبدل أن يكون لديه رأس غنم واحد يكون عنده رأسان وثلاثة وأربعة ويمني نفسه بالغنى.
وهذا يذكرني بالرجل الفقير الذي كان له (قلة) سمن، وهذا الفقير كان في كل سبت يذهب ليبيع قلة السمن هذه ويشتري بطتين، ثم يبيعها ويشتري وزتين، فيوم من الأيام رأى بطاً ووزاً، فقال: هذا البط سأبيعه وآتي بشياه، ثم أبيع الشياة وأتي بخرفان، ثم أبيع الخرفان وآتي ببقر وجواميس، وبذلك سأصير غنياً جداً، وأبني قصراً منيفاً، وأتزوج أجمل امرأة في البلد، وأخلف من هذه المرأة ولداً جميلاً أربيه وأؤدبه وهذا الرجل كان يمشي على عكاز، انظر إلى هذه الأحلام كلها! وهو يمشي على عكاز ويحمل القلة، وهو ذاهب إلى السوق ليبيعها ويرجع، وهو مستغرق في أحلامه: وهذا الولد لابد أن أحسن تربيته -وهو في ذلك الوقت كان قاعداً والعكاز بجانب السرير- وأنا لا أحب الحال المشين ولا الكلام الفارغ، لابد أن أجعله ولداً جيداً، فإذا قال لي: لا؛ سأضربه هكذا فضرب على القلة فكسرها وانتهت أحلامه! فهذا رجل له خلفات ينتظر نتاجها ويقول: إن شاء الله تلد وسوف نبني ونترك ونفعل فالقلب هو الذي يعطي قوة الجارحة، فإذا أدبر القلب سحب تأييده للجارحة، وإذا أقبل أعطاها القوة، فلما يكون الإنسان يتمنى أن يرجع فهل يريد أن يموت؟!! ولذلك أحسن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم غاية الإحسان حينما استثنى هؤلاء، فخرج بالجيش وكان ذاهباً إلى حرب العماليق، وليس الجبناء هؤلاء.
بالمناسبة! الجيش الأمريكي جيش ضعيف، ولم ينتصر في معركة دخلها قط، واسألوا فيتنام، فالجيش الأمريكي ليس لديه أي انتصار مشرف يستطيع أن يقول: أنا انتصرت، وكما هو معلوم فإن اللص (الفتوة) إنما يرعب الآخرين بقوته وفتوته، والأمريكان يعيشون هكذا (فتوات) فقط.
وفي حرب الخليج لو أن العرب تنحوا عنها أكان بإمكان أمريكا أن تدخل وتنتصر؟ أبداً والله، ولذلك أدخلوا العرب في الحرب البرية، وهم شاركوا في الطيران فقط، ولكن الحرب البرية التي هي حرب المواجهة الحقيقية، فالذي يريد أن يقول: أنا غلبت، وأنا قوي، وأنا شجاع يدخل الحرب البرية، فالحرب البرية قدموا فيها العرب، حتى يكونوا -أي: العرب- هم الذين يطهرون الأرض أماهم في الألغام.
فيوشع بن نون عليه السلام أخذ جنوده، وكان ذاهباً لمحاربة العماليق، ويذكرون في الإسرائيليات أن العماليق هؤلاء الواحد منهم كان طويلاً جداً، وكانت خلقتهم عظيمة.
يقولون: من ضمن الحكايات أن واحداً من جيش يوشع بن نون ذهب إلى بستان حتى يتجسس على العماليق ويأتي بأخبارهم، مع العلم أن هذا الجندي ربما كان طوله كطولي مرتين -فالخلق ما زال يتناقص إلى يوم القيامة- فجاء أحد العماليق ودخل البستان فوجده مختبئاً في جذع شجرة، فأخذه ووضعه في كمه -الرواية تقول هكذا- وذهب به للأمير وقال له: وجدت هذا.
فتخيل جماعة هذه صفتهم وذاهبون لمحاربة عماليق! أنا أقول هذا الكلام لتعرف أن الجبان لا ينتفع بالقنبلة في يده، الجبان يسلم لك مباشرة لو أنك أجرأ منه قلباً، فالرءوس الذرية التي يتحدثون عنها والتي يمكن لها أن تحرق الشرق الأوسط كله من أوله إلى آخره لا تهب قوتها ولا تخف منها؛ لأن الله عز وجل ناصرك، {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].
ومثلاً: دولة مبتدعة مثل إيران، والذي حصل في صحراء إيران أيام الرهائن الأمريكان معلوم عند الكثيرين، والرئيس الأمريكي غُلب بسبب هذه المسألة، فقام الأمريكان في صحرائهم فبنوا سفارة مثل سفارة أمريكا في إيران تماماً بنفس المداخل والمخارج، ووضعوا رهائن داخلها وأحضروا قوات (كوماندوز) ليخلصوا الرهائن ولعبوا هذه اللعبة! فهم مخترعو (السينما) في العالم، وتنظر فتجد عمارة مكونة من ستين دوراً وإذا بأحدهم يقفز منها كيف نزل سليماً؟ فهم أصحاب (هوليود).
فيقول لك: نحن لابد أن نبين قوة أمريكا فأعدوا هذه التمثيلية لمدة ثلاثة إلى أربعة شهور، يأتي الطيران فينزل جنود (الكوماندوز)، ولكنهم نسوا شيئاً مهماً، نسوا أن الرجل مهما كان يمثل لا يمكن أن يتقمص شخصية الخصم.
المهم تدربوا على هذه المسألة مرة ومرتين وأربع مرات وعشر مرات حتى تيقنوا مائة بالمائة أنهم سينتصرون؛ لأن (الرادارات) الموجودة في إيران كلها صنع أمريكي، وهم يعلمون كيف يشوشون على هذه (الرادارات)، ويعرفون أقصى مدى لها، وأنا قرأت في مذكرات بعض القادة العسكريين التي نشرت في السنوات الأخيرة أن أي دولة تصنع السلاح لا يمكن أن تعطي كل أسرار السلاح للدولة المستوردة، فتترك بعض أشياء معينة وكفاءات خاصة لا تستخدمها إلا الدولة المصنعة نفسها، فأنا لدي رادار مثلاً، وهذا الرادار أقول لهم: أقصى مدى له إذا الطائرة أتت على ارتفاع -مثلاً- سبعين متراً، وممكن (الرادار) هذا يكشف الطائرة وهي على بعد أكثر من ذلك، ولكن أنا معطل لهم هذه الخاصية، فلا يستطيعون أن يستخدموها.
فطارت الطائرات الأمريكية على ارتفاع منخفض جداً وأفلتت من رقابة (الرادارات)، وربضت في صحراء إيران، وإيران ليس عندها علم بأن هناك طائرات أجنبية على أرضها، واستعدوا للدخول إلى السفارة وتخليص الرهائن حتى يعرِّفوا العالم أن أمريكا لا تغلب، وبينما هم يطيرون اصطدموا ببعضهم، هذا لو أنه مازال يتعلم ما فعل الخطأ البسيط هذا، فاصطدموا مع بعضهم أحياناً وأنت تمشي على الطريق السريع ترى حوادث سيارات لا يعملها طفل صغير، والذي فعلها إنسان يسوق السيارة منذ سنين طويلة.
والحادثة أنت إذا وصفتها فستقول: طفل صغير لا يعملها، وتنكشف المسألة بحدوث حريق في الصحراء، ما هذا الحريق؟ قالوا: الطائرات اصطدمت ببعضها، والرجل ظهر واعترف.
لماذا هؤلاء لم يضعوا الله عز وجل في حسبانهم؟ نسوا الله فنسيهم، وهؤلاء مبتدعة، فما بالك إذا كنا نحن على عبودية لله كاملة، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7].
فخرج يوشع بن نون عليه السلام هو والجيش صباح يوم الجمعة -كما في مستدرك الحاكم- وظلوا يقاتلون العماليق قتالاً عنيفاً إلى أن غربت الشمس ولم يفتح لهم، حينئذ قال يوشع عليه السلام للشمس: (إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم ردها علينا) فرجعت الشمس كما كانت، فظل يقاتل حتى فتح له، وغلب وانتصر لماذا؟ لأن معه رجالاً، والأزمة الموجودة في أمتنا الآن: أزمة رجال، وليست أزمة موارد ولا أزمة سلاح ولا أزمة خطط، وإنما أزمة رجال فقط.
فلما جمعوا الغنائم كانت العادة أن النار تنزل من السماء فتحرق الغنائم، فهذا يدل على أن الله تقبل غزوهم، فلما نزلت النار لتأكل الغنائم لم تطعمها وارتفعت مرة ثانية، فمباشرة يوشع عليه السلام قال: (فيكم غلول)، هناك لص في الجيش سرق شيئاً وغل مالاً، فمن يعترف؟ لم يعترف أحد إذاً: (فليبايعني من كل قبيلة رجل أو رجلان)، وكان من علامة (الغال) آنذاك أن تلتصق يده بيد النبي، فالتصقت يد رجل أو رجلين بيده فقال: فيكم الغلول؛ فأخرجوا من رحالهم مثل رأس البقرة من ذهب، فلما أرجعوه نزلت النار من السماء فأحرقت الغنائم.(95/11)
من ثمار الجهاد
هذه القصة عقب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (فلما رأى الله عجزنا وضعفنا أباحها لنا) التي هي الغنائم (لما رأى عجزنا وضعفنا أباحها لنا) مع الحديث الآخر: (إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم) إذاً نحن الأمة الوحيدة المتفردة بحل الغنائم، فنكون قد ضيعنا على أنفسنا خيراً كثيراً على المستوى الاقتصادي بضياع كل هذه الغنائم.
الغنائم أباحها الله لنا بعد قصة مطاردة أبي سفيان لما هرب بالعير، والرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يأخذ عير قريش جزاءً وفاقاً، أيأخذون أموال الصحابة، ويحرمونهم من مالهم ونتركهم؟! لا، فعلى الأقل نأخذ هذه العير في مقابل ما أخذوه من مال.
فلما هرب بالمال عوضهم الله عز وجل خيراً من هذه الصفقة برافد إلى يوم القيامة، والتي هي الغنائم، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه)، فالشيء الذي نتركه لله محضاً وخالصاً يعوضنا الله خيراً منه فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ونحن نقرأ في هذه الآية: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} أننا نغلب وننتصر، ونظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، وفي ذلك شفاء لصدور المؤمنين.(95/12)
إن الله يعين عباده المجاهدين بما يسلطه على أعدائهم من العذاب
{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] وأنا ربما حدثتكم قبل ذلك عن الفيضان الذي ضرب ولاية فلوريدا الأمريكية، وكانت الخسائر المبدئية اثنين وأربعين مليار دولار، وبعد حوالي شهر ضرب أيضاً البحر -بإذن الله عز وجل- مدينة هاواي الأمريكية، وهي مركز من مراكز الدعارة العالمية، فكانت الخسائر المادية خمسة مليارات دولار، ففي ثلاثين يوماً كانت الخسائر سبعة وأربعين مليار دولار وأنت لا تدري ما الذي جرى، مع هذه المخالفات التي في ديار المسلمين، خسر الأمريكان سبعة وأربعين مليار دولار في شهر، ولو أنك تمتلك أقوى جيش في العالم ودخلت في حرب معهم فلا يمكن أن تخسرهم سبعة وأربعين مليار دولار في شهر واحد.
إذاً السلاح الماضي لنا هو العبودية {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5].
بختنصر الذي ظهر على اليهود أول مرة، دخل مرة على البلد فوجد أن هناك دماً يفور على كومة من القمامة، فقال: ما هذا؟ قالوا له: وفق عقيدة ورثناها عن آبائنا فإن هذا الدم سيظل يفور حتى نرويه من دم أعدائنا، هل تعلم أنه لكي يطفئ هذا الدم -كما تقول الروايات- قتل سبعين ألف يهودي وصب دمهم على هذا الدم، قالوا: حتى إنه لم يبق أحد يقرأ التوراة، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167] فإذاً لا يعذبهم بعباده المؤمنين فقط، بل بكل الناس.
حتى هتلر النازي كان يشويهم في الأفران شيّاً، وقد ذكرت قبلاً أنهم طلبوا من الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعل هتلر لماذا؟ لأنهم لم ينسوا ضحاياهم، وهم يتحركون بهذه العقيدة، فهل نحن نتحرك بهذه العقيدة، نحن نسينا أن اليهود أعداؤنا، ونسينا أن النصارى أعداؤنا، ونسينا أن المجوس أعداؤنا كل هذا لأن الجذوة التي تتقد منها عقيدة الولاء والبراء ذهبت، وهذه الجذوة هي الإيمان بالله عز وجل، ونحن على يقين أننا سننتصر؛ إذا فعلنا ما أمرنا به من تحقيق العبودية لله عز وجل قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(95/13)
الولاء والبراء [2]
إن عقيدة الولاء والبراء هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها علاقة المسلم مع غيره، فالمسلم يوالي المسلمين ويحبهم على غير أنساب تربطه بهم، ويعادي الكافرين وأتباعهم، ولو كانوا أقرب الأقربين.
ولقد أدرك أعداؤنا أهمية هذه العقيدة فحرصوا على تمييعها بشتى الوسائل، ودأبوا على استبدالها بمصطلحات دخيلة: كأخوة الوطن، والروابط الإنسانية وغيرها، وأعانهم على ذلك العلمانيون الذين هم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بلساننا.(96/1)
ترسيخ عقيدة الولاء والبراء
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قلنا فيما مضى: إن أول ما ينبغي أن ينشأ عليه الولد: هو صدق الانتماء إلى الله ورسوله، وذكرنا معنى الانتماء، وأن أساس الانتماء الحب، وكما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: (كل حركة في الكون أساسها الحب والبغض).
كل حركة يتحركها الكائن أساسها الحب أو البغض، فأساس الموالاة: الحب، وأساس المعاداة: البغض.
فبعدما ذكرنا علامات الحب قلنا: أثر هذا الحب هو موالاة الله ورسوله والمؤمنين ومعاداة الكافرين، فالرجل صادق الانتماء لا ينتظر أمراً من أحد ليدعو إلى من يحب، إنه يدعو إلى من يحب طبعاً، فلا يقال له: ادع إلى من تحب، أو الهج بذكر من تحب، إنه لا يحتاج إلى ذلك.
أفلا أعطيك مثلاً ودليلاً؛ لعلك بعدما تستمعه تقول مثلما قال ابن آدم الآول: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31]؟ الهدهد أحد جنود سليمان عليه السلام، وهو عبد لله عز وجل، فلا يوجد الكفر إلا في الثقلين الإنس والجن فقط فانتبهوا! فهذا العبد الموحد -الهدهد- انطلق بغير أمر، وراعه ما رأى، ورجع ليحيط سليمان عليه السلام بذلك التقرير الخطير! {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21]، رجع الهدهد ولكن ينطوي صدره على سر عظيم، لو اقترب من سليمان لعله قاتله قبل أن يبوح بالسر الذي بين يديه، لذلك {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] ولم يترك مهلة لسليمان ليسأله أين كنت، حتى عاجله وبادره بهول ما رأى {فَقَالَ} [النمل:22] جاءت الفاء تفيد التعقيب مباشرة، حتى لا يترك أي فرصة للسؤال {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، ما أخبرني أحد، بل رأيت بعيني.
{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} وهذا عجب! المرأة مملوكة لا مالكة، ولذلك حرمت من القضاء، وحرمت من الولايات العظيمة، وجعل عليها القوامة؛ لأنها مملوكة، فالعجيب أن يملُك هذا المملوك! كأنه قال له: اعجب وتنكر أن امرأة تملكهم، ولم يقل: تحكمهم؛ لأن الملك يدخل فيه معنى الحكم، والملك أعظم، ولذلك العلماء لما تكلموا في قوله تبارك وتعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أو ((مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) وكلاهما قراءتان متواترتان، وتكلم العلماء أيهما أبلغ، ((ملك يَوْمِ الدِّينِ)) أو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فقال جمهورهم: بل ((ملك يوم الدين)) أبلغ، لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملك، فيقول: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} لم يقل: تحكمهم بل قال: (تَمْلِكُهُم) وهذا أشد لهوانهم.
تصور لما تكون العصمة في يد امرأة، ماذا تفعل بالرجل؟! العصمة في يدها، لذلك نهيت المرأة عن تولي الولايات العامة والقضاء؛ لأنها مملوكة، ولا تكون مالكة، {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23].
هذه توطئة: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فلماذا ذكر التوطئة هكذا؟ {وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} إنما قدم بأنها تملك كل شيء حتى يظهر قبح الشرك، بعدما آتاها كل شيء، وملكها وأجلسها على عرش عظيم؛ تسجد لغير الله؟ وليظهر قبح ما ارتكبته المرأة وقومها، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:24 - 26].
فهذا جندي خرج بلا أمر، فلما رأى هذا الشرك لم يحتمل، وذهب ليضع هذا التقرير الخطير بين يدي سليمان عليه السلام، وكل محب منتمٍ يفعل ذلك، والذين يزعمون الالتزام كم من الفواحش، لا أقول: مررت عليها، بل هي في بيتك، وكم من المخالفات لا أقول: غيرك هو الذي يفعلها، بل أنت الذي تفعلها، وأولادك يفعلونها، وامرأتك تفعلها، وجيرانك، ومن معك في البيت، ومن معك في الشارع، ومن معك في البلد، ومع ذلك يقول أنا: لا شأن لي! هذا يصرف معنى الانتماء؛ لأن من يتحقق عنده الانتماء لا ينتظر الأمر في الدعوة إلى من يحب، ولا في اللهج باسم من يحب، إنما يجد نفسه منساقاً إلى ما يعتقد.(96/2)
حقيقة البراءة من الكافر
إن حربنا مع أعدائنا -الذين يجب علينا أن نبغضهم غاية البغض لأنهم كفروا بالله عز وجل- ليست اقتصادية ولا سياسية ولا اجتماعية، إنما هي حرب عقائد، كذا قال الله عز وجل، كل حرب مع عدو لنا القصد منها أن نكفر بالله، أن نرتد عن ديننا، كذا قال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].
هذه الآيات ناطقة بأن رجاء كل الذين كفروا أن يرتد المسلمون على أدبارهم، إذاً: ليست حرباً سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، بل هي حرب عقيدة، ولذلك تجد أي مستعمر لأي بلد أول شيء يحرص عليه أن ينشر لغته؛ لأنه لا يتم نشر الاعتقاد ولا فهم المعتقدات إلا باللغة، وتجد هذا واضح الأثر حتى الآن، فاللغة الأولى في بلادنا ما هي؟ لا تقل لي اللغة العربية، فهذا حبر على ورق، مثلما يقال في الدستور: الدين الرسمي للدولة الإسلام هذا غلط، الدين الرسمي للدولة هو القانون، لا الإسلام، هذا هو الواقع، دعنا من الحبر المكتوب على الورق، فهذا كلام لا يساوي المداد الذي كتب به، الواقع أن اللغة الأولى في بلادنا هي اللغة الإنجليزية، وليست هي اللغة العربية، فاللغة العربية مظلومة، ومدرس اللغة الإنجليزية يحظى باحترام وتقدير لا يجده حتى مدرس اللغة العربية.
وحافظ إبراهيم له قصيدة رثائية رائعة، اللغة العربية ترثي نفسها، يقول فيها على لسان اللغة العربية المهضومة: وسعت كتاب الله لفظاً وآية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي حتى الآن وما زالت مشكلة تعريب الطب مشكلة المشاكل، كيف تقاعسوا عنها حتى الآن، ولا نعلم أن هناك بلد تحترم هذا التعريب إلا سوريا ومن جرى مجراها من البلاد العربية، ولا زالت بعض المصطلحات الكافرة موجودة حتى الآن ينطقها المسلمون ويعجزون عن تغييرها، مثل أن يقال: عيب خلقي {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فهل يقال عيب خلقي؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في ظهره انحناء، فجعل الرجل يخفي هذا بثوبه، فلحظه النبي صلى الله عليه وسلم فناداه، وقال له: (يا فلان! كل خلق الله حسن).
الأمم المنتصرة تفرض نفسها وتفرض مصطلحاتها على الأمم الضعيفة، فنتكلم بالكلام الكفري باسم المصطلحات العلمية، ونعجز عن تغييرها لماذا؟ لأنه ساد المصطلح، وصار معروفاً للأساتذة الكبار والتلاميذ الصغار، فلو قلت له: ماتقول في كذا -وسميته اسماً من عندك-؟ لا يعرف الطالب ماذا تريد، مع أن الدنيا كلها تشهد أننا اخترعنا الطب، وهم أخذوه منا، ونحن أولى به، وبضاعتنا يجب أن ترد إلينا، لكن هذا القهر اللغوي غلبنا في كل شيء.
المغرب العربي اللغة الرسمية فيه هي الفرنسية، وقد قابلت كثيراً منهم في الحج والعمرة ولا يتكلمون العربية إلا بصعوبة، بل أقول لكم شيئاً رأيته بنفسي، لما سافرت إلى أسبانيا وأنا طالب، وجعلت أبحث عن مسجد لأصلي فيه الجمعة، ظللت أسبوعين أبحث وأسأل كل من ألقى: أين المسجد الموجود في مدريد؟ وبعد بلاء وصعوبة قالوا: المسجد في الشارع الفلاني، فذهبت وأنا أظن أنه مسجد له مئذنة أو مسجد كبير على وجه الأرض، فقابلت رجلاً على قارعة الطريق فسألته: أين المسجد الذي هنا؟ فبصق في الأرض ومضى، فذهبت إلى عنوان وصف لي، فلما وصلت ذهبت إلى استعلامات العمارة وأنا خائف أن يبصق الرجل أيضاً، فسألته وأنا وجل: هل يوجد هنا مسجد؟ قال: انزل هذا البدروم، نزلت تقريباً ستة عشر درجة، فوجدت شقة مؤلفة من غرفتين وصالة ووجدت بها مجموعة مكونة من حوالي مائة رجل يصلون الجمعة، كلهم يتكلم بالعربية وينتمون إلى جاليات عربية، وأغلبهم من الشام.
فجعلت أتكلم بالعربية معهم، وأردت أن أتكلم مع ولد بجواري فرفض، وتكلم بالأسبانية، ففرحت وكدت أطير، حيث وجدت بغيتي أخيراً وجدت مسلماً أسبانياً في بلد ظل الإسلام فيه ثمانية قرون -ثمانمائة سنة- فلما تكلمت معه أُسقط في يدي إذ لم يكن أسبانياً، ولكنه شاب مغربي لا يعرف حرفاً من اللغة العربية! فاللغة الرسمية في بلاد المغرب العربي هي اللغة الفرنسية، وهكذا فإن الاستعمار أول ما يدخل يبدأ ينشر لغته؛ لأنه إنما ينشر اعتقاده باللغة، وكل الحروب الدائرة بيننا وبين الكفار حرب معتقدات، وليست حرب اقتصاد ولا سياسة ولا هيمنة أبداً، إنما هي حرب معتقدات كما قال الله عز وجل: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا)) [النساء:89]، كل المسألة أنهم يريدوننا أن نكفر كما كفروا.
فهل نوالي مثل هؤلاء؟ هل نلقي إليهم بالمودة؟ إن الولاء والبراء هو الأثر الطبيعي لصدق الانتماء، وإن الكافر إذا ظهر لا يدعك أبداً، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، وقال في الفتية الذين آمنوا وهربوا إلى الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، هذه طبيعة ظهور الكافر على المسلم.(96/3)
فقه البراءة من الكفار
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
روى الإمام النسائي في سننه أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، واشترط علي فأنت أعلم -من العهود والمواثيق-.
قال: تبايعني على ألا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح للمسلمين، وتفارق المشركين)، فتأمل هذا! مفارقة المشركين ضرورة، ومن غير المتصور على الإطلاق بأي مذهب على وجه الأرض أن توالي عدو حبيبك وتزعم أنك تحبه! أو تقول: أنا أكرهه، ثم تبسط يدك إليه بالود! فأنت عندما تحب الله عز وجل؛ تكره أعداءه بتلقائية، بدون مجهود، و (تفارق المشركين).
لقد كانت جناية الطابور الخامس على أمتنا جناية عظيمة الأثر، بالغة الخطر، لا زلنا نتجرع مرراتها حتى الآن.
والعجيب: أن كل خائن وصل إلى قمة الهرم كيف؟ لا أدري! وكأن من مسوغات ارتقاء الهرم أن تكون خائناً! وكلما بالغ المرء في الخيانة كلما واصل ارتقاءه.
وقد قرأت منذ أيام في مذكرات أحمد لطفي السيد، الذي لقبوه بأستاذ الجيل، ونزل هذا الكتاب بخمسة وعشرين قرشاً في وقت كان أسعار الورق فيه مرتفعة، وأسعار الكتب في الذروة، ولكن هذا الكتاب كان مدعوماً، وقد كتب عليه في أعلى الغلاف (المواجهة) ومن تحت (التنوير) وعلى غلاف الصفحة الأخيرة مذكور: لماذا تنشر هذه السلسلة بهذا الثمن الرخيص؟! قال لك: لأن الإرهاب سيحطم كل الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك، فأحببنا أن نواجه الإرهاب بالتنوير.
في هذا الكتاب تحت عنوان (الجامعة الإسلامية) في أيام اللورد كرومر، وعندما كان الإنجليز يحتلون مصر، ظهرت فكرة إنشاء جامعة إسلامية في مواجهة الإنجليز لتحرير البلد، فلما نطق بهذه الفكرة بعض الصحفيين على صفحات الجرائد آنذاك؛ هاب الإنجليز والغرب ذلك، فبعثوا يسألون عن حقيقة هذه ما الجامعة الإسلامية، فانبرى أستاذ الجيل يفند وينفي بقوة قلب وجرأة جنان أن يكون هناك أي فكرة للجامعة الإسلامية، وقال: هذا تفكير ساذج لصحفي كاذب.
كل هذه آثار ينبغي أن يكون المسلم عالماً بفقه البراءة منها؛ لأن من أسباب عدم ظهور هذه الشعيرة العظيمة: الجهل، ووضع الضعيف في مكان القوي، والقوي في مكان الضعيف.
ونحن نعلم أن الخوارج لما وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام -في صحيح البخاري- قال: (يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام) مثلاً: أنت مختلف مع واحد في مسألة، القنوت في الفجر -مثلاً- أبدعة هي أم لا؟ أو مسألة رفع اليدين في دعاء الجمعة بدعة أم لا؟ هذه المسائل الفرعية، مسألة أن الجماعة الفلانية مبتدعة أم لا، مسائل كهذه يهجره بسببها، ويصير جاره النصراني يقول له: صباح الخير، وصباح الفل، ويضحك في وجهه، وأول ما يرى أخاه يتجهم وهذا من أسلوب الخوارج، (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).
فتعاملك مع الناس يجب أن ينبني على أساس الدين، وبالتالي فإن هجرك لأصناف الناس يجب أن يكون وفق العقيدة التي يعتقدها كل صنف، فالمبتدع له نمط، والعاصي له نمط، والكافر له نمط، الرسول عليه الصلاة والسلام قال -كما في صحيح مسلم-: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) ضيق عليه، وهذا حديث في صحيح مسلم، أين ذهبت هذه الأحاديث؟!(96/4)
من صور البراءة من الكفار
وباختصار: عدتنا القادمة هو الإيمان بالله، والاستعلاء بهذا الدين، والولاء والبراء، وأول من ينبغي أن تتبرأ منه هو الكافر بالله عز وجل.
مثل إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]، انظر الكلام! {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} عقب من؟ عقب إبراهيم عليه السلام.
إذاً: الولاء والبراء جزء من لا إله إلا الله،، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، فهذا معنى كلمة: (لا إله) أليس البراء رفض، والولاء انتماء؟ فعندما تقول: (لا إله) فهذا شطر البراء الموجود في الكلمة المباركة، و (إلا الله): هذا هو الانتماء، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}: هذا هو معنى (لا إله) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] (إلا الله) فجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام يتناقلها أبناؤه وذريته إلى يوم القيامة، فكل الأنبياء من نسله، وإن تعجب فعجب أن يقول الذي نزل بالتوحيد: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، يخشى -وهو الحنيف الذي أرسل بالتوحيد- أن يرتكس في عبادة الأصنام؛ فيستعيذ بالله من ذلك.
لأنها كلمة باقية في عقب هذا النبي الكريم شرفه الله بها، وشرف ذريته بها، فإعلانك البراءة من الكافرين لا يتم قول لا إله إلا الله واعتقادها إلا بذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(96/5)
ضياع الانتماء والولاء والبراء في واقعنا المعاصر
نحن في زمان نمر بأحداث جسام، وأزمتنا أزمة رجال، نريد أن نستعلي بهذا الإيمان، فهو الذي يغلب، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
هذا هو سلاحنا الوحيد، وعندما قال الدعاة إلى الله عز وجل: إن السلام الذي عقد مع اليهود ليس سلاماً، بل هو استسلام؛ رموهم بالرجعية والتخلف، وهجم عليهم العلمانيون، الذين يريدون ربط الناس بالتراب وليس بالله عز وجل، حيث يقول قائلهم: وطني لو صوروه لي وثناً هممت ألثم ذلك الوثنا ويقول الآخر: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ويقول الآخر: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا هكذا يريدون أن يربطوا الناس بالتراب، ومن رُبط بالتراب دِيس بالأقدام، وهذه هي طبيعة التراب، فهؤلاء ليس عندهم نخوة العربي الجاهلي، الذي رأى أن اعتداء المعتدي عليه عدة مرات إذعان وإهانة، ليس عندهم نخوة هذا العربي الذي قال -ونعم ما قال! -: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ َولَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بضَرْبٍ فيه تَفْجِيعٌ وتأْيِيمٌ وإرْنانُ وطَعْنٍ كفَمِ الزِّقِّ غَذَا والزِّقُّ ملآنُ ثم قال -ونعم ما قال! -: وبعضُ الحلمْ عِنْدَ الجهْلِ للذلّةِ إذْعانُ وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ بعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان، يعتدي عليك فتسامحه، ثم يعتدي مرة ثانية وتسامحه، ثم ثالثة ورابعة وتسامحه لا، هذا ليس حلماً، هذا إذعان.
فبعض الحلم -إذا جهل الجاهلون عليك، ولم يراعوا معك اتفاقاً- إذعان، فإذا أحسنت إلى أحدهم مرة وثانية وثالثة ولم تجد لإحسانك موضعاً -إذ الذي أحسنت إليه لئيم- حينئذ لا يبقى إلا الأخيرة.
وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ ما بقي إلا هذا، فنحن مقدمون على مرحلة خطيرة، والعلمانيون فعلوا في هذه الأمة ما لم يفعله اليهود ولا النصارى، ولهم وسائل كثيرة متعددة.
فتسجيداً للانتماء وعملاً بعقيدة الولاء والبراء أول ما ينبغي أن نفعله، مقاطعة السلع اليهودية، وإن كنا نعرف أن اليهود يستطيعون كتابة (صنع في أي بلد)؛ مثل الأخطبوط، فيرسل لك البضاعة عبر أي دولة تريدها أنت.
حذيفة بن اليمان لما خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمسكه المشركون وأباه قالوا: إلى أين؟ فأجابا: إلى المدينة.
فقالوا: تذهبون وتحاربوننا أبداً! أنتم أسرى عندنا.
فقال حذيفة: لكم علينا أن لا نحاربكم فتركوهما، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصا عليه ما حدث، فماذا قال لهم النبي الكريم النبيل؟ قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)، فلم يشهد حذيفة بن اليمان ولا والده غزوة بدر، ليس لأنه لم يكن حاضراً؛ بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).
وفي الصحيح أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الحرب امرأة مقتولة، فغضب، وقال: من قتل هذه؟ قالوا: يا رسول الله! إنها خرجت معهم.
قال: سبحان الله ما كانت هذه تقاتل، ثم نهى عن قتل النساء والذرية).
في الحرب أعداؤك لا ينظرون بهذا المنظار، أعداؤك ليس هناك قانون يحكمهم، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، يريد أن يصل فليفعل ما شاء، وجاراهم المسلمون بالذات في باب الجاسوسية، فالجاسوس يزني، ويشرب الخمر، ويدفعون له المال، ويقولون له: ازن على حسابنا، واشرب خمر على حسابنا، واعمل كل الفجور على حسابنا، وهات عنهم المعلومات أهذا يرضي الله؟! جاريناهم، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، فنحن قوم نبلاء، ونحن محكومون حتى مع أعدائنا فكل شيء حرمه الله عز وجل لا يحل لنا حتى مع أعدائنا: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)، إذاً هو عدتنا وهو ملجأنا وهو ناصرنا، ولذلك نقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] هذا هو القانون.
ولذلك لا نسير سيرتهم على الإطلاق، محرم علينا ذلك، فالنبي ينهى عن قتل النساء والذرية ويقول: (سبحان الله! ما كانت هذه تقاتل) إذاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى قتل النساء المجندات في الجيش؛ لأنه إنما ربط الإنكار لعلة أنها لا تقاتل، وإذا ثبت أن المرأة تقاتل جاز قتلها، مثلها مثل الرجل تماماً، (ما كانت هذه تقاتل) معنى ذلك أنها لو كانت تقاتل إذاً تستحق القتل، فكل امرأة ثبت أنها مجندة في جيش العدو تقتل مثل الرجل تماماً، بنص هذا الحديث.(96/6)
من مكائد الأعداء
ظهرت عندنا مصطلحات بديلة، وراجت على الجماهير المغفلة، وروجها العلمانيون، يقول لك: أخوك في الإنسانية، ما مصطلح (الإنسانية) هذا؟! {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} ما تقول بعد هذا {تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} هل تصح هذه المعاملة؟! نحن آمنا بموسى وآمنا بعيسى، وآمنا بالتوراة والإنجيل جملة؛ لأنها نزلت من عند الله وإن كنا نقطع أن الموجود منها محرف، فهم يكرهوننا ويعادوننا، ومخططاهم يكشونها علانية، بينما كانوا قديماً كانوا يخافون من التصريح بها، أما الآن فينشرون المخططات على الورق، فهل سمعت بالدولة البترولية الجديدة التي ينوي أعداؤنا إنشاءها على أرضنا!! فحرب الحدود أصبحت مشكلة بين السعودية واليمن، فأرسلت الوفود، وأقيمت مأدبة عشاء هنا ومأدبة غداء هناك، وعقدت الاجتماعات الثنائية.
وهم في النهاية يختلفون على أرض في مجملها صحراء لا تصلح لحياة الكائنات.
حرب حدود ما بين مصر وليبيا، وبين مصر والسودان، وحرب حدود ما بين قطر والسعودية، حرب حدود ما بين العراق والكويت، وحرب حدود ما بين إيران والإمارات من الذي فجر حروب الحدود هذه؟ فجرها المستعمر عندما خرج اصطنع حدوداً ثم قال لكل فريق: سأجعل لك خطاً على الأرض يحدد ملكك، وأنت ملكك إلى هنا.
فالمسألة ليس لها قيمة على الإطلاق، بل افتعلها القوم المسألة هذه، ليكدروا صفو العلاقات الموجودة ما بين الدول الإسلامية بمثل هذه المنغصات.
فكم تنفق من الأموال والجهود بعد شحن الصدور بالعداوات، وكل هذا قناع هم صانعوه، وبعدما انتهت حرب الخليج نُشرت مذكرات القادة العسكريين والساسة، واكتشفنا منها أنهم كانوا يخططون لحرب الخليج منذ عشرين سنة، وكتبوا الأوراق بسرعة وببساطة: إن حرب الخليج ليست صناعة اليوم.
ومن ضمن النشرات التي نشروها ووضعوها في وسط الكلام: الدولة البترولية الجديدة، التي يريد النظام العالمي الجديد أن يقيمها وتشمل المنطقة الشرقية في السعودية، والعراق والكويت والإمارات، يعني: دائرة البترول، فيرسمون دائرة ويقولون لنا: هذه الدولة البترولية الجديدة، ولأن البترول في أرضكم فستظلون تتحكمون فيه، وأنا الآن العام سام، وأنا النظام العالمي الجديد، وسأعطيكم منه على قدر احتياجكم، والباقي يعطى لمن ينتفع به.
وبهذا تصير أرضنا أرضاً جدباء، ليس عندنا صناعة بعد اتفاقية (الجات).
وأنت تعلم أنه حتى شهادة التصنيع العالمية (الإيزو) أو (البايزو) هذه الشهادة الخائبة، نتمنى أن الغرب يشهد لنا أننا محترمون ونسكت، فتقوم شهادة البايزو هذه -لا بأس، فهذا مصطلح خاص بي، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكل قوم أن يصطلحوا على ما شاءوا، فلنصطلح على هذا المصطلح- وأصحاب المصانع في بلداننا يتسابقون في تقديمها للجهات الأجنبية، حتى يعطوا هذه الشهادة، فهل عرفت هذه الجهة ماذا تصنع؟ ما جودة صناعتك؟ وكم طاقة مصانعك؟ وهل غطت الإنتاج المحلي أم لا؟ وبضاعتك تسعرها بكم؟ وأنت تخسر أم تكسب؟! ويظل يقول لك: أنت الأول، ولا أحد مثلك وكل ما يعمل اختراع يعطوه هذه الشهادة، فصاروا يخترقوننا في كل شيء، حتى في الصناعات! وعلى سبيل المثال: فإن الحريق الذي حصل في مصنع (البطاطس) في العاشر من رمضان، وكان ذلك المصنع قد توصل إلى تركيبة رائعة، وكان قد تقدم تقدماً هائلاً، فصارت منتجاته تنافس الصناعة الأجنبية، وكانت الأسعار لا بأس بها، فما الذي حصل؟ ألقيت التهمة على المظلوم البريء الماس الكهربائي، هذا الماس كيف نحاسبه؟ فحرقوا المصانع الجيدة، وأصبحنا نستخدم الصناعة الأجنبية، يقول لك: العالم كله أصبح الآن مثل القرية، فنحن اتفقنا على التبادل التجاري، فإما أن تدخل معنا أو تظل صناعاتك ولن نأخذ منك أي بضاعة، فنحن دُفعنا دفعاً إلى اتفاقيات (الجات) وما دخلناها بإرادتنا، فإما أن تشترك أو لن نأخذ منك بضاعة ولن نعطيك بضاعة، وتقبل رغماً عنك القرارات التي تضر باقتصادك.
والسوق العربية المشتركة التي هم الآن ينظمونها في منطقة الشرق الأوسط، ما المقصود بها؟ هيمنة إسرائيلية محضة، فليس لدينا أي شيء.
فهم بذلك يكشفون عن خططهم، ونحن نعلم أنهم سيضربون اقتصادنا، بينما نقف عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا، فأي هوان وذل أشد من هذا؟!!(96/7)
البراءة من الكافرين
أيها المسلمون: نحن أزمتنا أزمة رجال الإسلام أعزنا، ولا توجد علاقات بيننا وبين النصارى، فلا يأتي إنسان يكفر بالله عز وجل وأقول: هذا أخي في الإنسانية أخوك من أين؟ كيف يظهرون كل مرة يقولون: إخواننا الأقباط إخوان من؟ نحن لا نعرف هذه الأخوة على الإطلاق، وهذه ليست دعوة، هذه فتنة طائفية؛ لأن العزة للإسلام والمسلمين، لكن تلك شكاة ظاهر عنك تعارها.
(لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام) هذا حكم شرعي، فإذا كان لك جار نصراني، أو زميل نصراني في العمل، أو يهودي فلا تبدأه بسلام على الإطلاق، إنما ابدأه بأي صيغة، كأن تقول له: صباح الخير، صباح النور، أو أي كلمة أخرى.
ولا يجوز لك أن تسلم عليه بلغته، فإن من علامة الذوبان في عدوك أن تتكلم بالمصطلحات الخاصة به، والكلام الدارج الذي على لسان الناس، حتى عناوين المحلات: (شوبينج إخوان) ما هذه التركيبة؟! لماذا ركبتها هذه التركيبة؟ لماذا جعلت نصفها عربياً ونصفها إنجليزياً؟ لماذا الأسماء الأجنبية صارت واجهات المحلات، وصارت جميلة؟!! وحتى بعض أصحابنا قديماً في الدراسة -الثانوية- الذين دخلوا الطب وصاروا دكاترة، هناك بعضهم -أنا أعرفه- يتعمد أن يتكلم بالمصطلحات الإنجليزية، كما كان قديماً، وإذا أراد أن يتكلم كلمة بالعربية فإنه يجد صعوبة في ترجمتها من الإنجليزية إلى العربية، أما الإنجليزية فصارت دارجة على لسانه وكأنها لغته الأم! شيخ الإسلام ابن تيمية عقد في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم باباً للكلام باللغة الأجنبية، وقال: إن هذا من علامات النفاق: أن الواحد يتكلم باللغة الأجنبية؛ لأن هذا فيه رفعة للغة عدوك، فتكلم بالعربية واعتز بعربيتك فهي لغة القرآن! فأنت قل له أي تحية، ولكن لا تبدأه بالسلام لماذا؟ لأن هذا من خصائص المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه قال:: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
والسلام تحية أهل الجنة، وهذا مصطلح خاص بالمسلمين، فلا تعطه لهؤلاء الكافرين على الإطلاق.
ضرب الجزية على هؤلاء علامة من علامات الكرامة والعزة التي أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أمرنا بنص القرآن أن نفرضها على اليهود والنصارى، ولا تتخذ المشركين ولا الظالمين إخواناً لك {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113]، إذاً {لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فمجرد الركون أنت ممنوع منه.
فمسألة الولاء والبراء غير منضبطة عندنا، الولاء والبراء من أساسه ومن أصوله ألا يغير في العلاقات الشخصية في محبة ولي الله، وإن كنت تبغضه في الدنيا، هو من أولياء الله أحبه؛ لما فيه من محبة الله عز وجل، ولا أكرهه لأجل مصلحتي، والله نحن نتمنى أن نتعلم هذا الخلق.(96/8)
موالاة المؤمنين
عائشة رضي الله عنها لما أسيد بن حضير حصل منه الذي حصل في الإفك، والنبي عليه الصلاة والسلام على المنبر بعدما أشاع عبد الله بن أبي ابن سلول أن عائشة رضي الله عنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل علي بن أبي طالب وسأل أسامة بن زيد، وتأكد من براءة أهله وكان متأكداً، فعندما صعد النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر وجمع الناس، وقال (أيها الناس! من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما أعلم عن أهلي إلا خيراً؟ فقام سعد بن معاذ -ذاك السيد الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات- قال: (يا رسول الله! إن كان من الأوس أمرتني فضربت عنقه)، لماذا؟ لأنه زعيم الأوس، فهو له كلمة عليهم، فقالها بلا تحفظ، (إن كان من الأوس أمرتني فضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج) لم يقل: ضربت عنقه أيضاً، لأن الأوس والخزرج كان بينهم مشاكل في الجاهلية وستدخل في الإسلام مرة ثانية.
فحتى لا تقع مشاكل تحفظ سعد رضي الله عنه في الكلام عن الخزرج وقال: (وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك) -انظر: الجمال في التحفظ! كان يمكن وهو منفعل أن يقول له: إن كان من الخزرج أضعه تحت رجلاي مثلاً- ومع هذا التحفظ قام سعد بن معاذ، وهو زعيم الخزرج، وقال له: (والله لا تستطيع، ولا تقدر) أي: أنا الذي يقوم بذلك إن كان من الخزرج.
كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على المنبر، وهم يتراشقون بسهام الملام، فقام أسيد بن حضير، فقال لـ سعد بن عبادة: والله إنك لمنافق تجادل عن المنافقين.
حتى ثار الحيان الأوس والخزرج، وهمَّا أن يقتتلا في المسجد، والنبي عليه الصلاة والسلام يخفضهم بيديه -يعني: يشير إليهم بالسكوت- فلا زال يخفضهم حتى سكتوا.
عائشة رضي الله عنها قالت: (فقام سعد بن عبادة -وكان قبل رجلاً صالحاً- فاحتملته الحمية)، لم يمنعها غضبها أن تشهد له بالصلاح؛ لأنه ولي لله عز وجل، وكان محبباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومن سادة الرجال، ومن سادة المسلمين.
إذاً الغضب الشخصي لا يزيل مناقب أخيك، تظل المنقبة موجودة فيه كما هي، هذه هي قاعدة الولاء: أن الحب في الله عز وجل لا يزيد بالود ولا ينقص بالجفاء لماذا؟ لأن الذي واليته من أجله لا زال موجوداً.
وهذا كان خلق الصحابة الأوائل، فلم يكونوا يحبون الشخص لصورته، وإنما لما فيه من الإيمان بالله عز وجل، ويكرهونه لما فيه من البعد عن الله تبارك وتعالى.
وهناك أشد من ذلك، وهو ما قالته زينب بنت جحش رضي الله عنها عن عائشة عندما سئلت في حديث الإفك، رغم أنه من عادة الضرائر أن كل واحدة تذم الأخرى، إلا المؤمنة بالله عز وجل، بل حتى المؤمنة قد تضعف؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أريد أن أتشبع أمام ضرتي بما لم يعطني زوجي) يعني: مثلاً تتكلم تقول: بالأمس جلس يضحك معي، ويقول لي: أنا لا أستطيع أن أستغني عنك.
فهذه تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أريد أن أتشبع أمام ضرتي بما لم يعطني زوجي.
فقال لها: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، انظر إلى هذا الكلام الجميل! إنسان يلبس ثوبي زور، وأنت تعرف الثياب التي تباع في الأسواق الآن، والذين يلبسون ثياب الزور هذه لا يحصون عدداً، لا يحصيهم إلا الله عز وجل، (كلابس ثوبي زور) ونهاها، برغم أن إنساناً ربما يقول: ألا يدخل هذا في الكذب المباح؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم أباح أن الإنسان يكذب لأجل المحبة القلبية، ولأجل أن يزيد الود ويتنامى؟! وهذه المرأة لما تقول هذا الكلام تريد أن يكون لها حظوة عند زوجها أقول لك: لا، بل الرسول صلى الله عليه وسلم لما أباح للرجل أن يقول ذلك لامرأته خاصة أو المرأة للرجل، أراد تحقيق المصلحة، ولكن هذا فيه مفسدة، لأنها ستلفت نظر المرأة الأخرى، فعلاقة الضرائر تكون علاقة فيها شيء من التوتر، إلا إذا عصمهن الله بالإيمان.
فـ عائشة اتهمت في عرضها وسئلت زينب عنها: ما رأيك يا زينب في عائشة؟ هل علمت عليها شراً؟ قالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، فوالله ما أعلم عنها إلا خيراً.
تقول عائشة رضي الله عنها: (فقالت حمنة -وحمنة أخت زينب، هي التي تكلمت في حادثة الإفك على عائشة - أما أختها زينب فعصمها الله بالورع).
ولما ماتت عائشة رضي الله عنها وسمعت أم سلمة العويل قالت: ما هذا العويل؟ قالوا: ماتت عائشة فقالت: (رحمها الله، إن كانت لأحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه)، شهادتك أساسها ما بالرجل من إيمان، ولاؤك لما له من القرب من الله عز وجل، ينبغي أن يكون هكذا، كذلك الصحابة كلهم كانوا هكذا، فلما تقلص هذا الميزان، وأصبح الناس يحب بعضهم بعضاً للصور وليس لاعتبار الإيمان؛ فظهرت المشاحنات والمشاكسات والخصومات.
أنا أعرف خصومات كثيرة وقعت بين كثير من الإخوة، خصومات من أتفه ما يكون، والله لو عرضت على ميزان الإنصاف لاتهم المنصف صاحبها بالحمق والتجني، كلها خصومات فارغة، وإنما هي حظوظ النفس، وهذا هو خلق المشركين.
ربنا سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73]، وبعد ذلك {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، أهل الدنيا هذا مذهبهم، تكذب على الله وتكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وتغير شهادتك، وتشهد الزور، وتخدمه في مصالحه يتخذك خليلاً، وهذا مذهب أهل الكفر: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} يعني: يكذب على الله عز وجل {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73] انتبه للمعلومة التي ستأتي! {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:73 - 75] هل لاحظت الفرق بين قوله) {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، وقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} [الإسراء:75] هذا يدل على ماذا؟ واو الحال من طبيعتها تهيئة المقام وتهيئة الكلام، وإعطاء مساحة للمعنى، إذا شطب وغير واستفاد هذه الخلة الموجودة في الدنيا والمصالح إلخ؛ فالعقوبة تأتي مباشرة، ليس هناك تهيئة، {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74]، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] مباشرة.(96/9)
ضياع مبدأ الموالاة في عصرنا الحاضر
فذهب أهل الدنيا إذا أعطيت أحدهم؛ فأنت حبيبه، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى كشف هذه المسألة في القرآن، قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
كنت أعرف رجالاً، وعلاقتي بهم كانت قديمة، ولا أعرف إن كانوا ماتوا أو لا زالوا على قيد الحياة، ناس من الذين وصلوا إلى قمة الهرم، ومنهم رجل وصل إلى وكيل أول وزارة من الوزارات، وقدر لي أنني كنت أخطب في المسجد الذي كان هو رئيس مجلس إدارة فيه في القاهرة، فبعض أصحاب الحي عملوا فيَّ وشاية، وعملوا بلاغاً لوزارة الأوقاف، فنحوني عن الإمامة، وأحضروا واحداً معه إعلام وسياسة واقتصاد، وأصعدوه على المنبر يخطب، وهذا الرجل كان لا يحسن أن يقرأ في كتاب الله عز وجل، وأنا أحسن حاجة كانت تعجبني فيه أنه كان يتحمس في الكلام، ولا أعرف لماذا يتحمس؟ يذكرني بقول القائل: ليس أضنى لفوائدي من عجوز تتصابى وذميم يتحالى وعليم يتغابى وجهول يملأ الأرض سؤالاً وجواباً هذه هي طبيعة علاقات الدنيا، لذلك ربنا قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وربنا سبحانه وتعالى قال (الأخلاء) ولم يقل الأصدقاء ولا الزملاء؛ لأن الخلة أعظم الحب، وما سمي الخليل خليلاً إلا بعد أن تخللت محبته قلب المحبوب.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، ولم يقل هذا في النبي عليه الصلاة والسلام، وهم يعلمون أن الخلة أعظم الحب، فقال (أتعجبون أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً؟!) قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، فأثبت الخلة لنفسه صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه أعلى مقامات الحب.
والله عز وجل يقول: (يا من أحب الآخر حباً حتى تخلل حبه مسام قلبه؛ أنت عدو له إن لم يجمعك التقى معه).
إذاً: اعتبار الإيمان هو الاعتبار الوحيد بين المؤمنين الذي من أجله تحب وتكره، وبسبب إهمال هذا الاعتبار صار بعض المسلمين يعطون الود للكافرين ويحرمونه المؤمنين؛ لأجل أنهم مختلفون معهم في المصالح، ولذلك نحن نقسم العداوات مع أعداء الله وأعداء الرسل، نقسمها دركات على حسب القوة: كافر، ثم موالي للكافر -منافق- ثم مبتدع، ثم عاص، وكل واحد من هؤلاء له درجة في المعاداة، بحيث أننا لا نخلط بين هذه الدرجات، وحتى نستفيد من مسألة الولاء والبراء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(96/10)
أين الخلل؟!
إن الدعوة إلى الله عز وجل وسام شرف يناله من اصطفاه الله من خيرة خلقه وأوليائه، والداعية أثناء سيره في حقل الدعوة إلى الله عليه أن يتسلح بالإخلاص والعلم والصبر والثقة بوعد الله عز وجل؛ حتى تكلل جهوده بالنجاح.
وطريقة التعامل مع المدعوين تتوقف على شخصية هذا المدعو، والبيئة التي خرّجته، فعلى الداعية أن يضع الحكمة في موضعها ويعامل المدعوين بأخلاق الداعية لا بأخلاقهم هم.(97/1)
أهمية العلم للداعية
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
أيها الإخوة الكرام: درسنا في هذا المساء بعنوان: أين الخلل؟! وأعرض فيه للجنس الثاني من الكلام على هذا الموضوع الخطير، وهو وإن كان الجزء الثاني؛ إلا أنه مستقل بذاته.
الناس في هذه الدنيا يتنافسون على الوظائف، ويُعرف شرف المرء وهمته بوظيفته، وأشرف الوظائف في الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل، إذ هي وظيفة الرسل، فهذه هي أشرف الوظائف على الإطلاق، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لها ثلاثة أركان: الدعوة، والداعيةُ، والمدعو، ودرسنا هذا المساء يتعلق بالداعية وما ينبغي أن يتحلى به، فهو يبلغ رسالات الله عز وجل.
جرت عادة الدول أنها إذا أرسلت سفيراً لها في الخارج فإنها لا ترسل رجلاً جلفاً غبياً غليظاً، إنما ترسل رجلاً ذا لسانٍ عذب ذكياً صاحب بديهة، إذا وقع في محنة فلا يورط نفسه ولا دولته، وتسمع كثيراً عن الإجابات الدبلوماسية.
معنى إجابة دبلوماسية يعني لا تحل ولا تربط، لا تستطيع أن تدين بها المتكلم؛ لأنه لما تكلم ترك لنفسه أكثر من مهرب، فإذا قلت له: أنت تقصد كذا؟ قال لك: لا.
أنا لم أصرح بذلك، وإذا قلت: تقصد كذا؟ يقول: لا.
أنا لم أجب بذلك، هذه هي الإجابات الدبلوماسية، أي أنك لا تستطيع أن تدين القائل، ولا تستطيع أن تقيم عليه حجة، بينما أي سفير غبي يورط دولته، ومعلومٌ أن الرئيس إذا أرسل رجلاً يتكلم باسمه حمل عهدته، وأنت إذا وكّلت رجلاً عنك بتوكيل رسمي صار توقيعه محلك، يبيع مالك، وأملاكك، ويشتري مكانك، بتوقيعه هو نيابةً عنك، ويمضي بيعه وشراءه، لماذا؟ لأن هذا التوكيل قائم مقام الشرع.
فالمتكلم عن الله تبارك وتعالى في الدنيا هم الرسل وأتباع الرسل، فالعلماء هم الذين يوقعون عن الله في الأرض، فيجيء المستفتي إلى العالم فيقول: إني عقدت صفقة كذا وكذا وفيها ربح وفير، أفأمضيها؟ فيقول له: لا.
فيتجنبها الرجل ويخسر بذلك الصفقة والمال والربح، بمجرد إمضائك وتوقيعك، يأتيك يقول لك: أنا طلقت امرأتي وقلت لها كذا وكذا مرتين أو ثلاثاً تقول له: هذه ليست امرأتك! فتفصلها عنه، ويشرد الأولاد بقولك، ولا يستطيع أن يخالفك؛ لأنك توقع عن الله عز وجل في الأرض.
ومن أعظم الجرائم أن تزيف التوقيع في الدنيا، فلو اكتشف رئيسٌ أو مدير أن رجلاً زيّف توقيعه أدخله السجن مباشرة، وذلك لو اكتشفوه، فكيف لو جاء رجلٌ ليس بأهلاً لأن يوقع عن الله في الأرض ووقع؟! إذاً هذا توقيع مزيف! فإذا كان في الدنيا يتعرض للعقوبة فكيف لا يتعرض للعقوبة في الآخرة؟ بل سيتعرض لأشد العقوبات؛ لأن توقيعه توقيع مزيف.
لهذا كان لابد للداعية أن يتحلى بالعلم، قال الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، لا تسأل عن الرحمن جاهلاً، إنما إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به تبارك وتعالى، وبصفاته، وبما أنزله من العلم على رسله، فأول شيء ينبغي أن يتحلى به الداعية إلى الله عز وجل هو العلم، ولا يحل له أن يفتي إلا عن علم، لذلك كانت حاجة طالب العلم للعالم فوق كل حاجة، وموت العالم من أعظم المصائب التي تصيب طالب العلم، وحاجة طالب العلم إلى الكتاب مثل حاجته إلى الطعام والشراب.
وأذكر واقعة ذكرها ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان في ترجمة الشريف المرتضى، قال: ذكر أبو زكريا الخطيب التبريزي رحمه الله، صاحب كتاب مشكاة المصابيح الأديب اللغوي: أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي الفالي كان له نسخة عزيزة نفيسه من كتاب جمهرة اللغة لـ ابن دريد، فاضطرته الحاجة إلى بيعها، فباعها بستين ديناراً، واشترى هذه النسخة الشريف المرتضى صاحب الترجمة التي ذكر فيها ابن خلكان هذه القصة، فلما تصفح الشريف الكتاب وجد هذه الأبيات التي كتبها أبو الحسن الفالي، ويقول فيها: أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال شوقي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقارٍ وصبيةٍ صغارٍ عليهم تستهل شجوني فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ مقالة مكوي الفؤاد حزيني وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فلما قرأ الشريف هذه الأبيات أرجعها إلى أبي الحسن وترك له الدنانير، فانظر إلى حزنه على نسخته من كتاب الجمهرة، والبيت الأخير من هذه الأبيات: تضمين، والتضمين في الشعر معناه: أن يأتي الشاعر إلى بيتٍ لشاعرٍ آخر سبقه فينظم القصيدة على وزن البيت وقافيته، وقد ضمن أبو الحسن الفالي آخر بيت في قصيدته حيث قال: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فهذا البيت قاله رجلٌ أعرابي فيما رواه الزبير بن بكار رحمه الله، قال: اشترى حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام جملاً من رجلٍ أعرابي، وكان الأعرابي شديد الحفاوة بالجمل لكن اضطر إلى بيعه، فلما اشترى حمزة الجمل وأعطى الأعرابي خمسين ديناراً، واستاق حمزة الجمل نظر الأعرابي إلى الجمل وهو يبكي لفراقه، وقال: وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ كرائم من رب بهن ضنيني أم مالك هي امرأة الأعرابي، يقول: يا أم مالك: إن الحاجة تضطر الإنسان أن يبيع شيئاً كريماً ضنيناً به، لا يستجيز لنفسه أن يبيعه لكن الحاجة اضطرته إلى بيعه رغم أنه عزيز عليه: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فلما سمع حمزة بيت الأعرابي أعطاه الجمل وترك له الدنانير، وكان أبو الحسن الفالي رحمه الله مشهوراً بتضمين الشعر، وهو صاحب الأبيات الرائقة المشهورة التي صارت على كل لسان، يقول فيها: تصدر للتدريس كل مهوس بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديمٍ شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها فلاها وحتى سامها كل مفلس هذا البيت الأخير أيضاً ضمنه أبو الحسن الفالي هذه الأبيات.
المهم: أن الكتاب من أنفس ما يقتنيه طالب العلم، مثل السلاح بالنسبة للمقاتل، إذا فقد المقاتل سلاحه غلبه عدوه، وبذلك لا يتصور طالب علمٍ ينهض بغير مكتبة عامرة بالكتب، وبغير المراجع الأصلية، كان العز بن عبد السلام رحمه الله يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي نسخةٌ من كتاب المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، والعز بن عبد السلام من أذكياء العالم، ومع ذلك يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن حصّل هذين الكتابين.
فجلوس طالب العلم بين يدي شيخه والتعلم من هديه وسمته ولحظه قبل لفظه أمر في غاية الأهمية، وإذا لم يلحظ طالب العلم أدب شيخه لم ينتفع بمقاله، والسلف كانوا يتعلمون الأدب قبل العلم، فإذا أحرز الأدب نَبُلَ في العلم، وإذا لم يحرز الأدب لم يزده علمه إلا خسةً ونزولاً؛ فإذا جلس في مجلس ملأه، فإذاً اللحظ قبل اللفظ، وإذا عجز أن يكون مؤدباً فإنه لا ينبل بعلمه أبداً.(97/2)
الإخلاص هو أول عدة الداعية إلى الله
قبل طلب العلم هناك ركيزةٌ أساسية ينبغي أن يتحلى بها الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الركيزةٌ البدهية هي الإخلاص لله تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5]، فقدم الإخلاص قبل العمل، إذ إن العمل لا قيمة له بغير الإخلاص: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، وكلمة خالص تعني: نقي لم يخالطه شيء.
فقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، حصر دينه كله في الإخلاص له، وتحقيق الإخلاص عزيز لكنه ممكن، فالإخلاص إما أن يكون ركناً أو شرطاً، أو واجباً، على ثلاثة أقوال للعلماء، واتفقوا جميعاً أن العمل بغير الإخلاص لا قيمة له، كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، لخلوه من الإخلاص، فلابد من الإخلاص في العمل، وهو إذا كان ركناً أو شرطاً أو واجباً فلابد أن يكون يسيراً، إذ لو كان عسيراً لما فرضه الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وأعظم أمر في الدين هو الإخلاص، فإذا أوجبه الله على عباده ناسب للطفه عز وجل وبره بعباده ألا يعكر عليهم طريق تحقيق أعظم شيء في الأعمال وهو الإخلاص.
أما المقالة التي قالها رويم بن أحمد، وذكر هذه المقالة الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد: (من لحظ في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص).
فنحن لو سلكنا هذه المقالة وقبلناها على مضض فمعناها: من تفاخر على الناس بأنه مخلصٌ واستعلى عليهم بذلك فإن إخلاصه يذهب سدى لهذا العجب وهذا الكبر، لا يقال له: إخلاصك صدق فأعد الكرة مرةً أخرى بالإخلاص، هذا إذا سلكنا هذه المقالة، وإلا فالصوفية لها أقوالٌ تعجيزية في باب الإخلاص، كمثل قول رويم بن أحمد أيضاً: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) من الذي يستطيع هذا في الدنيا؟! من الذي يعمل العمل ولا ينتظر عليه عوضاً لا في الدنيا ولا في الآخرة؟! وسئل عن الإخلاص فقال: (أن يستوي عندك المدح والذم)، وهذا مستحيل! أن يشتمك الرجل وأن يمدحك سواء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا شُتِم أو ذُم، والله تبارك وتعالى يرضى إذا مُدِح ويغضب على العبد إذا انتقصه.
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إن مدحي زين وذمي شينٌ -أي من مدحته فذلك المرفوع، ومن ذممته فذلك المخفوض- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل)، لست أنت ولا غيرك، ذاك الله عز وجل فمن مدحه الله رفع ومن ذمه أهين: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا ونظرةٌ بعين رضاك تجعل الكافر وليا هذا هو الله تبارك وتعالى، فلا يستوي عند رجلٍ المدح والذم، وإلا لماذا يغضب الناس من الذم، بل كان أولياء الله المتقون من الصحابة يزعجهم ويغضبهم الذم، وتتلون وجوههم، وها هو أجل وليٍ لله عز وجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر رضي الله عنه وقع فيه رجل فغضب أبو بكر واحمر وجهه، فقال قائلٌ: يا خليفة رسول الله! ألا أقتله؟ فهدأ أبو بكر وقال له: أكنت فاعلاً؟ قال: نعم.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: (ما كانت هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي أن الذي يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ويذمه ويقع فيه حده القتل.
فإذا قال قائلٌ الإخلاص: أن يستوي عندك المدح والذم، فقد كلف الناس ما لا يطيقون، بل المدح يتهلل الناس له، والذم ينزعجون منه، وكذلك لما سُئل أحدهم -وكل هؤلاء من الصوفية - عن الصبر، قال: أن تستوي عندك النعمة والنقمة، سبحان الله! ومن الذي يطيق ذلك في العالمين؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما مات ولده حزن عليه ودمعت عينه، بل لما قتل عمه حمزة وجد عليه وجداً شديداً، وأقسم ليمثلن بالمشركين، ولم يكن هذا من عادته ولكن لشدة وجده على مقتل عمه، وهل يستوي عنده مقتل عمه صلى الله عليه وسلم وانتصاره في يوم بدر -مثلاً- أو عند المؤمنين؟ ولذلك بسبب مثل هذا التعريف الخاطئ مات لبعض المتزهدة ولد فجعل يضحك، فقالوا له: أتضحك وقد مات ولدك؟ قال: إني أردت أن أظهر الرضا بقضاء الله عز وجل، فلما أراد أن يظهر الرضا لقضاء الله ضحك في موطن الفتنة والبلاء والحزن، فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد استشكل بعض القارئين هذه الحكاية، فقالوا: كيف يضحك هذا الرجل لما مات ولده بينما يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس يقيناً؟! لو كان الضحك في المصيبة منقبة لفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يبكي النبي عليه الصلاة والسلام والدموع علامة الجزع ويضحك هذا العابد والضحك علامة الرضا والانبساط؟ فلما حصل استشكال هذا المعنى، عُرضَ هذا على شيخ الإسلام رحمه الله، فقال: فعل نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من فعل هذا العبد الزاهد؛ لأن لله عز وجل في كل شيء عبودية، وعبودية الله على العباد في وقت المصيبة أن يظهروا الاستكانة والتضرع لقضائه، قال تبارك وتعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، يعني: لما وقع البأس عليهم هلا تضرعوا وبكوا واستكانوا، هلا فعلوا ذلك لنرفع عنهم؟ فعبودية المحن الانكسار بين يدي الله، والمحنة من طبيعتها أنها تسخن النفس، فالسخونة تفرز الدمع مباشرةً، والنفس الباردة لا يمكن أن تبكي، ولذلك إذا تحسست الدموع وجدتها ساخنة؛ لا تجد دمعاً باردة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أدى عبودية المحنة، وأدى عبودية الرضا بقضاء الله عز وجل، فقال: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، فكانت عبودية النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من عبودية هذا العبد الذي عجز قلبه عن استيعاب عبودية المحنة وعبودية الرضا، فقدم عبودية الرضا -إظهار الرضا- على عبودية قبول البلاء والصبر عليه.
فالصوفية لها خرافات لم يأت بها الشرع، وهي تكليفٌ بما لا يطاق، ومعروف أن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة، بل من مذهب أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فهم يجوزون على الله أن يظلم، ويقولون: فعال لما يريد، إذا ظلم جاز له ذلك!! كيف والله عز وجل قال في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي)؟ وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، ويجوزون التكليف بما لا يطاق، مثلاً: يقولون: يجوز أن يكلف الله عز وجل العبد بحمل جبل أحد على كتفيه، هم يقولون: يجوز، وأهل السنة قالوا: مستحيل! إن الله لا يكلف ما لا يطاق، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فأنت تعارض الأدلة القطعية.
وبعد ذلك كل الرخص نزلت في حالة إذا عجز العبد عن العزيمة أخذ بالرخصة: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ما معنى هذا التنزل؟ لو جاز أن يكلفك بما لا تطيق لما رخص للعبد أن يتكلم بكلمة الكفر وقال له: لا تتكلم واصبر على أذى الظلمة، حتى لو ذبحوك اصبر ولا تتكلم بكلمة الكفر، لكن لماذا رخص له أن يتكلم بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئاً بالإيمان؟ هذا كله ينافي القول بتكليف ما لا يطاق.
فعندهم بعض الإطلاقات والتسويات بين الأضداد، وهذا يخالف الحنيفية السمحة، ورويد بن أحمد هذا الصوفي المشهور الذي يقول: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) كان يدعو الله بأن يبتليه، وأنه سوف يصبر على البلاء، فابتلاه الله عز وجل فحبس فيه البول، فكان يتقلب ويدعو الله عز وجل أن يرفع عنه، وأنه لا يطيق، وأنه لا يتحمل، وظل يجأر إلى الله عز وجل حتى عافاه الله عز وجل، فلما عافاه الله عز وجل جعل رويد بن أحمد يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب! عمكم الكذاب الذي زعم أن الله إن ابتلاه فسوف يراه في مسلاخ رجل صابر.
الرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل على عمه العباس رضي الله عنه وكان مريضاً سمع العباس يدعو ويقول: (اللهم إن كنت مؤاخذي بشيء في الآخرة فشدد علي في الدنيا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة)، لو شدد عليك في الدنيا لا تقدر على تحمل بلاء الدنيا، سل الله العفو في الدنيا والآخرة، فكان لابد أن تدعو وتسأل بدلاً من أن تقول: ابتلني في الدنيا أن تقول ارفع عني، فاسأل الله عز وجل أن يعافيك.
تحقيق الإخلاص عزيز؛ فالشيطان يريد أن يعكر عليك هذا الركن؛ لأن بفساده فساد العمل كله، فبدل أن يأتي يعكر عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو صلاة، أو زكاة، أو صدقة، مفردات كثيرة يعكر عليك الإخلاص، وإذا عكر عليك الإخلاص فقد عكر عليك كل العمل، فبدلاً من أن يدخل عليك في كل عمل ويتعب نفسه يعكر عليك النية والقصد.
فلذلك الشيطان ينازع العبد في الإخلاص، فالعبد يقبل على العمل وهو مخلصٌ لله عز وجل من كل قلبه، فيأتي الشيطان يقول له: أتظن بذلك أنك أخلصت؟ لا.
هذا ليس بإخلاص، فالعبد من خوفه على الإخلاص يظن(97/3)
الثقة في موعود الله يعين الداعية على أداء رسالته
المتحصن بالعلم ليس كالجاهل، فأول ما ينبغي أن يتحلى به الداعية: الإخلاص؛ ثم الثقة في وعد الله عز وجل إذا جاءه من طريق قطعي لا يتطرق إلا ثبوته شك فلا يحل له أن يتوقف -مثل القرآن- بل عليه أن يثق أن الله ناصره مهما خذله الناس، ومهما كان وحيداً فريداً، فإذا قرأ في القرآن: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، فليعلم أنه غالب ما استقام على أمر الله عز وجل، فإذا قرأ قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فليعلم أنه متى استقام على أمره غلب ولو بعد حين، ولو كان وحيداً فريداً.
أحد مشايخ الصحوة سجن سنة (1981م) حين أصدر أنور السادات أمراً بالاعتقالات الجماعية، وهذا الداعية ناله الحظ الأوفر من شتائم رئيس الجمهورية آنذاك، ووصفه في الخطاب الرسمي بأنه كالكلب ملقى في الزنزانة، والذي دخل السجن يعرف أن رتبة مأمور السجن كله عقيد، لكن وزارة الداخلية آنذاك عينت على زنزانة هذا الداعية عميداً، وهذا كله من قبيل التشديد على هذا الداعية وإذلاله، يريدون أن يقطعوا عنه كل شيء، هذا العميد الذي عُين كان من المعجبين بهذا الداعية، فكان كل يوم وهو آتٍ لهذا الداعية يجلب معه دجاجة مشوية ويدخلها له ليأكلها، هل تتصور هذا الكلام، انتخبوه وهو رجل قاسٍ، لا يجامل، لا يداهن لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، سخر الله ذلك العميد لهذا الداعية، وأوقفه في ذلك المكان.
فلما سئل الداعية عن أيام الحبس الانفرادي قال: كانت كنار إبراهيم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، الرجل لم ينعم في حياته إلا في تلك الأيام، كان يأكل دجاجاً مشوياً كل يوم، ومن الذي يدخل له هذه الدجاجة المشوية؟ إنه الرجل الذي جلبوه ليؤدبه.
مثل موسى عليه السلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، هم ما اتخذوه ليكون عدواً وحزنا إنما اتخذوه ليكون قرة عين، فكان لهم عدواً وحزناً، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، وهم لا يشعرون أنه لهم عدو وحزن كأن تقول: فلان تزوج في الدنيا ليشقى، وهل هناك أحد يتزوج ليشقى؟! نعم، قد يبتليه الله بامرأة ناشز فيشقى بها، إذاً: الكلام فيه محذوف، تزوج فلانٌ ينشد السعادة فشقي، وهذا مثل قول القائل: لدوا للموت وابنوا للخراب فكل امرأةٍ تلد إنما تلد للموت، وكل بانٍ يبني إنما يبني للخراب، إذاً: هل المرأة حملت وأرضعت وولدت ليموت أم ليعيش فمات؟ ليعيش فمات.
ولذلك تحزن المرأة جداً إذا حملت وتعبت وولدت الولد ميتاً، فيقال: حملت وولدت ليموت! فالرجل إذا تصدر الدعوة إلى الله عز وجل وكان مستقيماً على أمر الله فليثق يقيناً بنصر الله عز وجل، ومن تمام ثقته بنصر الله عز وجل: ألا يعتمد قلبه إلا على الله، وييئس من نصر الجماهير له، ولا يزعجه قلة الأتباع إذا كان ذا منهجٍ مستقيم، وأنا أركز دائماً على المنهج المستقيم؛ لأن الجماعة المبتدعة مثل جماعة الهجرة والتكفير حتى الآن وأتباعهم قلة، يقول لك: يا أخي! الرسل كان أتباعهم قلة، وأي شخص مبتدع حوله خمسة أو ستة يقول لك: الكثرة ليست مهمة، فالرسل كان أتباعهم قلة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم المعروف في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط -من الثلاثة إلى العشرة- ويأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد)، النبي الذي ليس معه أحد، ظل طيلة حياته يدعو وخرج من الدنيا صفر اليدين من الأتباع، ولكن لا يعني ذلك أنه كان مخطئاً في دعوته، فالجماعة المبتدعة يحتجون بهذا الحديث، يقولون: هؤلاء الأنبياء يأتون وليس معهم أحد فنحن هكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا المسلمين في قريش ما كان حوله إلا ثلة (لا يزال الإسلام غريباً) (لا تزال طائفةٌ من أمتي) ويستدلون بهذه الأحاديث.
نقول له: لا.
الغربة غربتان، غربةٌ محمودةٌ وغربة مذمومة، أما الغربة المحمودة كأن يكون مستقيماً على أمر الله ولا يضره كثرة الأتباع من قلتهم، أما إذا كان منحرف المنهج وتخلى الناس عنه كأن يبقى معه واحد أو اثنان أو ثلاثة فهذه غربة مذمومة، فالفيصل ما بين صاحب الغربة المذمومة وصاحب الغربة المحمودة هو الاستقامة على المنهج الحق.
إذاً: متى استقام الداعية على أمره تبارك وتعالى نصره، ويجب عليه ألا يشك لحظة في هذه الثقة بالله تبارك وتعالى.
إذا تسلح الداعية إلى الله عز وجل بهذين السلاحين الماضيين وضم إليهما العلم فقد أحرز كل عدة.
إذاً: الإخلاص هو أول عدة الداعي إلى الله عز وجل.
ثانياً: الثقة في وعد الله عز وجل بالنصر.
ثالثاً: العلم.(97/4)
طريقة التعامل مع المدعوين تختلف من شخص لآخر
رابعاً: الصبر: إن الداعية سيقابل أخلاقاً شتى: يقابل المبتدع، والزنديق، والكافر، والموالي له، ويقابل الولي والعاصي، سيقابل كل هذه الأنماط، ولا يجوز له أن يسوي بينها جميعاً في المعاملة، فمعاملة العاصي بخلاف معاملة الطائع، ومعاملة الزنديق والحاسد تختلف، إذا كان الداعية ضيق العطن لا يستطيع أن يعامل الناس كلٌ بنمطه سيفشل في دعوته، فقد تجد أناساً يرمون عليك الكلام، وأنت تفهم أنه يعنيك، ويقصدك بالكلام، فإياك أن تظهر له أنك ذكيٌ فاهم، فإنك إذا بينت له أنك فهمت ضيعت على نفسك سلاحك، كما أن رأس مال التاجر المال، فرأس مال الداعية الناس.
يعني مثلاً: لو أن هناك تاجراً خدعه أناس وأعطوه نقوداً مزيفة، وكانت النقود كثيرة، مائة ألف أو مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف ثم اكتشف أن هذا المال مزيف، ماذا يعمل؟ يقوم بتصريفها أيضاً على آخرين؛ لأنه سيقول لك: لا، أنا سأخسر رأس مالي -وهذا لا يعني أني أقره على فعله- إنما أخبرك بما يفعله الناس، فهو مثلما خدع فإنه يخدع غيره من الناس، ويجد لنفسه عذراً في ذلك.
التغافل في بعض الظروف والأوقات يعتبر أحد الأسلحة الناجحة، فإياك أن تسوي بين الناس جميعاً في المعاملة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأله ونحن نستمع).
إذاً: لو سأل أنس رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يغضب؛ لأنه نهاه؛ لكن إذا جاءه رجلٌ من البادية لم يسمع النهي فسأله فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعامل صاحب البادية معاملة المقيم في الحضر، ومن الظلم أن يسوى بينهم، كان يتجاوز لأهل البادية إذا خالفوا، ولا يتجاوز لأهل الحضر.
رجلٌ أعرابي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام معه قعوداً -والقعود هو الجمل الصغير- فاستملحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي: تبيعني هذا الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا، قال: اشتريته منك وسأنقدك ثمنه إذا رجعنا إلى المدينة، فجاء رجلٌ آخر من المسلمين لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، فقال للأعرابي تبيعني الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا.
وزاد الأعرابي في ثمن الجمل على الثمن الذي اشتراه به النبي عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي صاحب الجمل: بعتك! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إما إن تعطيني ثمن الجمل الآن وإما سأبيعه، قال: أولم تبعني الجمل يا أعرابي؟ قال: ما بعتك شيئاً! قال: بلى بعتني! قال: ما بعتك شيئاً، هلم شهيداً يشهد أنني بعتك، يبيع للنبي الجمل ثم يقول له: ما بعتك وأت بشاهد، هذا كُفر، لأنه تكذيب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمسلمون يلوذون بالنبي عليه الصلاة والسلام ويقولون للأعرابي: ويحك! إنما يقول رسول الله صلى الله عليه حقاً، وهو لا يزال يقول: هلم شهيداً! حتى جاء خزيمة من مكان بعيد، فوجد اجتماع الناس وضوضاء، فسأل عن الأمر فأُخبر بالقصة، فدخل مباشرة على الأعرابي وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: أشهد بتصديقك، نحن نصدقك في خبر السماء أفلا نصدقك على بعير.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، في حين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقبل من الصحابة القريبين منه أدنى من ذلك يرى مثلاً عبد الله بن عمرو بن العاص يلبس ثياباً حمراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لبس الثوب الأحمر القاني -أي: الحمراء، الأحمر البحت الذي لم يخالطه لون آخر- هذا ممنوع أن يلبسه الرجال، ويدخل في أزياء النساء، فلما جاء عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يلبس ثياباً حمراء سلَّم على النبي عليه الصلاة والسلام فأعرض عنه ولم يرد عليه، فـ عبد الله بن عمرو فطن إلى هذا، فذهب إلى داره فوجد أهله وقد سجروا التنور؛ فخلع القميص ورمى به داخل التنور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهه، وبدَّل ثيابه ورجع، فسلم فرد عليه وقال له: ما فعلت بثيابك؟ قال: سجرت بها التنور! قال: فهلا أعطيتها بعض أهلك، إنه لا بأس بها للنساء.
طبعاً هذا الحديث لا يعارض الحديث الصحيح الآخر أظنه حديث البراء أو حديث سمرة بن جندب أو جابر بن سمرة: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وعليه حلةٌ حمراء؛ فيحمل هذا الحديث على أن الأحمر لم يكن بحتاً إنما خالطه لونٌ آخر لكن اللون الأحمر كان هو الغالب، وإذا كان لون لباس هو الغالب نسب اللون إليه، فمثلاً: إذا كان هذا ثوباً أبيض وفيه بعض ألوان أخرى مثل الأخضر أو الأزرق أو الأصفر أو نحو ذلك لكن الغالب عليه البياض، فأنت تقول: ثوبٌ أبيض، لماذا؟ لأن هذا هو الغالب عليه، أو يحمل أن هذا كان قبل نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن لبس الأحمر.
المقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يسوي بين الناس في المعاملة، فالداعية ينبغي أن يكون عنده بدائل، فيكون عنده للعاصي طريقة، وللمبتدع طريقة، وللذي يرميه ويؤذيه بالكلام ويستهزئ به طريقة أيضاً؛ وهو أن يستخدم معه لغة التغافل، وألا يظهر له أنه فهم؛ لأنك لو أظهرت له أنك فهمته فقد ضيعت على نفسك الطريق الذي ستسلكه إلى قلب هذا الرجل.
الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (وكانت قريش تسب النبي عليه الصلاة والسلام، لكن قبل أن تسبه كانت تقلب اسمه، فهو محمد فيقولون له: يا مذمم!) مثل شخص اسمه منصور فيقول له شخص: يا منخور، فيقلب اسمه، فالرسول عليه الصلاة والسلام اسمه محمد وهم يريدون شتمه، فلكي يغيظوه أكثر بدلاً من أن يقولوا: لعن الله محمداً قالوا: نخلف اسمه ونشتمه، وهكذا نكون قد ذممناه مرتين: مرة بقلب اسمه إلى الضد، ومرة بشتمه، فهو محمد وهم يقولون له: يا مذمم! ثم يشتمون مذمماً: لعن الله مذمماً! قتل الله مذمماً! قبح الله مذمماً! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد)، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنهم يقصدونه بالشتم، وأنهم يوجهون الشتم إليه، لكن طالما شتموا اسم رجل آخر إذاً فلا يلحقه الشتم: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد).
فطرق التعامل مع المدعوين لابد أن تختلف: العاصي لا تعامله معاملة المبتدع؛ لأن المبتدع شرٌ من العاصي، المبتدع يتقرب ببدعته إلى الله يظنها ديناً، لكن العاصي يعلم أنه عاصٍ لله لكن غلبه هواه، وأنت عملك عمل طبيب رفيق، رجلٌ غلبه هواه ماذا تعمل معه، تقتله أم تعينه على أن يتخلص من هواه؟ تعينه على أن يتخلص من هواه.
يعني رجل يقرأ في كتب أهل البدع ورجل يقرأ في كتب الجنس والغرام، أيهما أشر؟ الأشر هو الذي يقرأ في كتب أهل البدع، لماذا؟ لأن هذا الرجل الذي يقرأ في كتب الجنس والغرام، والذي يقتني المجلات الجنسية الفاضحة ليتفرج عليها، إنما يتفرج عليها بعدما يقفل الباب، وبعدما يكمل يخفيها عن الأنظار، لماذا؟ لأنه يعلم يقيناً أن هذا منكر، ولا يستطيع أبداً بأي حالٍ من الأحوال أن يقول أو يقنع أحداً أن هذا من المعروف، والرسول عليه الصلاة والسلام عرف الإثم تعريفاً جامعاً، لا تشذ عنه حالةٌ واحدة، قال: (الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس)، هل يمكن لأحد أن يعرف الإثم بهذا التعريف الجامع المانع إذاً الإثم هو ما فعلته وأنت مستتر مختفٍ من أعين الناس، كل شيء يدخل تحت هذا التعريف فهو داخل في كلمة الإثم دق أو جلَّ.
لكن المبتدع، يقرأ في كتب البدع ويظن البدعة ديناً يتقرب بها إلى الله، فمهما قلت له: هذه بدعة، يقول لك: هذا دينٌ! يتقرب إلى الله بذلك، إذاً كيف تصده وتردعه، وتثنيه عن بدعته؟ ولذلك العاصي أخف من المبتدع، قال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، واعتبروا بقصة الجعد بن درهم المذكورة في كتب التاريخ، وهو رجلٌ عارض الله عز وجل فقال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فلما جيء به ليقتل لم يتبرأ من مقالته وصبر على القتل، مع أنه كان من الممكن أن يقول: أنا تبت وينجي نفسه من القتل؛ لكنه كان يعتقد أن البدعة التي هو عليها دينٌ يدين الله به، كما لو جئنا لرجلٍ من أهل السنة والجماعة -مثلاً- وقلنا له: اكفر بالله! فيقول لك: لا، أقتل ولا أكفر بالله، ويرضى أن يقتل ولا يكفر بالله، لماذا؟ لأنه يتخذ القرآن والسنة ديناً، كذلك المبتدع.
فعندما تعامل العاصي فتعلمه أولاً، وتتلطف به، وتعينه على الخروج من هواه، لا تعطه أمراً وأنت تضع رِجْلاً على الأخرى وتهدده: تاب أو لم يتب فليذهب (في ستين داهية) وأنه لن يقبل منه عمل، وأنت حرٌ، هذا ليس من شأن الداعية، الداعية صبور حليم، إذا شتم لا يرد، كانت العرب تقول: لا تجار السفه بسفهٍ مثله فإنك إن جاريته بسفهٍ مثله فهذا يعني أنك رضيت فعله فحذوت حذوه! أنت غضبت لأنه سفيه، إذاً فلا ينبغي أن تكون سفيهاً عليه، ما كان ينبغي لك أن تفعل فعلاً أنكرته عليه.
النبي عليه الصلاة والسلام يأتيه سائل من الأعراب يطلب مالاً، يعني لو أتاك سائل يقول: أعطني فتعطيه ربع جنيه، فيقول لك: هذا لا يغطي حتى ضريبة المبيعات!! وأين غلاء المعيشة؟! أو تعطيه ربع جنيه فيقول: أريد ربع جنيه فضة!! فكون هذا الشخص متسولاً فعليه أن يرضى بالقليل دون أن يتكبر أو يسخر.
فهذا أعرابي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريد مالاً فجذبه من حاشية الثوب حتى أثر في رقبته وهزه هزاً عنيفاً، وقال له: أعطني من مال الله فليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك! -إذا(97/5)
أيها الداعية لا تنزل إلى مستوى من هو دونك
لو تسافه عليك رجل فاصبر، وإياك أن تنتصر لنفسك فتذم، حتى ولو كان الحق لك، مثلاً: لو كنت ماشياً في الشارع فلقيت طفلاً صغيراً فقال لك: يا سني! وقذفك بحجر، فجريت وراءه -الولد هو المخطئ، وأنت جريت وراءه لتأدبه- من سيخطئ الناس؟ سيخطئونك أنت على الرغم من أنك مظلوم والحق معك، لماذا؟ لأنهم لم ينزلوا عقله على عقلك، إنما عاملوك بقدرك وعاملوا الولد بقدره، يقولون لك: هذا طفل لا يؤاخذ على كلامه، يعني أنزلوك على عقلك، ولو ساووا عقلك على عقل الصبي لكان هذا ذماً في حقك.
إذاً: أنت رجل عالم، وهذا رجل سفيه وجاهل وتحامق عليك وتسافه أتعامله بعقله؟ لا.
لأن الناس وزنوك بعقلك وعلمك ووزنوه بجهله وسفاهته، إذاً: عليك تقدير نفسك وعلمك وعقلك، ولا تنزل إلى مستوى من هو دونك، ذكر الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء في ترجمة وكيع بن الجراح رحمه الله قال: سب رجلٌ وكيعاً فدخل وكيع داره وعفر وجهه بالتراب، وخرج على سابه فقال له: زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت علي، ولو أني أطعت ربي لعصمني منك، أراد أن يقول له هذا المعنى، فكأنه يقول: أنا المخطئ، ولذلك عفر وجهه بالتراب وخرج ليقول: سبني مرةً فلولا هذا الذنب الذي صرت أسيراً له لما تعرضت إلى هذا السب.
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها فترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها إذاً: أخطر شيء يهدد الإنسان هو الذنب، ووكيع تصرف بعلمه، ورجع إلى نفسه فذمها.
وأيضاً: ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة وكيع -ووكيع هو الإمام الضخم العلم الجبل، شيخ الإمام أحمد رحمه الله- قال: سب رجلٌ وكيعاً فقيل له: ألا ترد عليه؟ فقال وكيع: ولماذا تعلمنا العلم إذاً؟! يعني: هذا رجل جاهل أنا متفضلٌ لتعليمه، ولذلك لا يصح أن يعاقر الطبيب الداء الذي يداوي منه.
فقبيح مِن مَن تفضل بالوعظ أن يجعل الدين غرضاً لنيل مآربه، وقبيح من مَن يتظاهر بالعفة أن يذل نفسه على أبواب السلاطين والأغنياء، فيجعل الدين مطية للحصول على الدنيا، قال بعض السلف: مثل الذي يحصل الدنيا بدينه كمثل رجلٍ رأى وسخاً في أسفل نعله فمسحه بخده، وكان يجدر به أن يشرف هذا الخد ولا يهينه.
فالعلماء كانوا أعزة، فهذا عفان بن مسلم شيخ الإمام أحمد رحمة الله عليهم جميعاً استدعاه الخليفة ليسأله عن مسألة خلق القرآن -التي تعرفونها- هل هو مخلوق أم لا؟ قال له: ولماذا تسألني؟ قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك وحدك! لماذا؟ لأن عفان بن مسلم شامة العلماء في بلده فقال: نسأل هذا العالم الكبير، وقال: إنك إذا أجبت وقلت: إنه غير مخلوق سنقطع راتبك من بيت المال، فقال: وكيف يجوز لي أن أجيب بغير ما أعتقد؟! قال: إن أجبت بما تعتقد قطعنا عنك راتبك، فهل القرآن مخلوق أم لا؟ قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، قال: إذاً سنقطع عنك راتبك! فقام عفان من بين يديه وهو يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، وكان عفان بن مسلم يعول أربعين إنساناً في داره، من سينفق عليهم؟ كان متزوجاً بأربع، ولديه ستة وثلاثون ولداً، فكان الصف الأول في المسجد لأولاده، هذا هو العلم! فلما دخل الدار قالوا له: ماذا عملت؟ فقال لهم: أمروني أن أقول بخلق القرآن وإلا فسيقطعون عني الألف درهم التي كانوا يعطونني إياها من بيت المال، فجعلوا يلومونه ويقولون: من أين سنأكل، من أين سنشرب؟ ومن هذا الكلام الذي يقال في هذه المناسبات، في الليل أو في العصر جاء الإمامان الكبيران -ومن يقرأ هذه الحكايات يحس بالغربة- أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وكانا من تلاميذ عفان بن مسلم، وجاءا من أجل أن يطمئنا ما الذي قاله عفان، فلما دخلا سألاه عما قال: فقال: قلت لهم: القرآن كلام الله غير مخلوق فمنعوا عني راتبي: فقلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، قال: فرأيت وجه أحمد يتهلل فرحاً؛ لأنه ضحى بالمال من أجل دينه ومبدئه، نعم يضحون بالمال ولا يكفرون بالله.
قال: وفي عشية هذا اليوم جاء رجل إلى باب دار عفان بن مسلم، وقال: هذه دار عفان؟ قال عفان: نعم فقال: أين عفان؟ قال: أنا عفان، قال: هذه صرةٌ بألف درهم ولك في كل شهرٍ مثلها! -وهذه صحيحة- وهو لا يعرف الرجل ولا يعرف من الذي أرسل الرجل، ومن الذي أعطاه الألف درهم: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فالقصد أن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يضع الحكمة في موضعها، وألا ينزل في تعامله مع الناس إلى مستواهم، لو عامل الناس بمستواهم لتلون في اليوم ستين لوناً، مرة يصير لئيماً ومرة سافلاً، ومرة قبيحاً، ومرة طفيلياً فهذا لا يليق بالداعية أبداً، كيف سيعلم؟! فعامل الناس بمستواك وبما يليق بك ولا تنزل إلى مستواهم؛ فإن الله عز وجل جمع لك السلطان عليهم بأن جعل الدواء في يديك.
قيل لأهل البصرة: بم فاز فيكم الحسن البصري؟ ولماذا أصبح ذكره على كل لسان؟ فقالوا: استغنى عن دنيانا واحتجنا لعلمه.
إذاً: عليك أن تبعد عن الملوك والرؤساء وأصحاب الأموال وكل هؤلاء، وتعامل الآخرين بما يليق بمكانتك.
إن الملوك بلاءٌ حيثما حلوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تأمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا فاستغن بالله عن دنياهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذل اعرف مكانة العلم الذي بين جنبيك يرفعك الله تبارك وتعالى، وخلاصة الأمر: عامل الناس بقدر ما عندك من العلم، ولا تتحامق، ولا تجهل عليهم، فليكن عندك الصبر والذكاء والتغافل، وإنزال كلّ رجلٍ منزلته، لا توقر أهل الفسق ولكن أرشدهم، ووقر أهل الكرم ولا تزاحمهم، ولا تجادلهم فيمقتوك، كثرة المراء تورث الحقد والغل والبغضاء في الصدور، وعدم قبول الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من ترك المراء وإن كان محقاً بني له بيتٌ في ربض الجنة)، ولو كان محقاً في المراء فعليه أن يتجنبه حتى لا يطول الكلام، وحتى لا يجر المراء إلى خلاف أو إلى شتم أو إلى تغير القلوب؛ لأن المراء لا يكون من ورائه خير أبداً ولو كان بدايته حقاً، فإن عاقبته لا تئول إلى الحق أبداً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء ولو كان محقاً)، فكيف بمن يماري وهو مبطل؟ ولذلك الداعية إلى الله عز وجل يحمل على كاهله عبء الأمة كلها، وينبغي أن يكون شفوقاً، وصاحب نظرة واسعة لوضع المسلمين، ما يراه من هموم الدعوة خارج أقطار بلده ينبغي أن يؤرقه، وينبغي أن ينظر إلى الحل، ويراسل إخوانه من الدعاة، ويمد الجسور بينه وبين إخوانه من الدعاة إلى الله عز وجل، وليكن استماعه إليهم أكثر من كلامه معهم.(97/6)
انتفاع الداعية بما عند غيره من علم لا يعد انتقاصاً له
جرب أن تعطي أذنك وقلبك لمحدثك تجد أنك لن تعدم فائدةً تخرج بها، وكنت قضيت فترةً في صدر شبابي وقبل أن أطعن في الكهولة لا أكاد أسمع من غيري، والسبب لأنني تعودت أن أكون متكلماً، من تعود أن يكون متكلماً يشق عليه كثيراً أن يسمع، فلو نظرت مثلاً إلى ضابط جيش أحيل للتقاعد وعمل شركة تجارية مع شخص آخر فسترى أن ضابط الجيش يريد أن ينفذ كل شيء بالأمر، فلو قال له: نأتي بكذا، يقول: لا، هكذا أفضل، تعود أن يقول افعل فيقال له: تمام يا فندم! من يوم أن كان ملازماً وحتى أصبح ضابطاً كبيراً وهو يأمر فيطاع، كل شيء (تمام يا فندم)! فلو أتى شخص يأمره تصبح ثقيلة جداً عليه.
فالذي يتعود طوال عمره أن يتكلم قد يشق عليه أن يكون في محل المستمع، مثلاً شخص لم يخطب الجمعة في حياته وكان ملتحياً، فدخل مسجداً -وكان الخطيب فيه غائباً- وصعد المنبر وخطب، فقالوا له: لماذا تخطب؟ فقال: كوني أسمع نفسي أحسن من آخر يعكر عليَّ، وفي نهاية الأمر أنا الذي أتكلم، وهل هناك أحد ينزعج من نفسه، أو يقبح كلامه حتى ولو كان في غاية القبح؟ فهذه فلسفة شخص لا متكلم ولا شيء، فما بالك لو كان المتكلم متعوداً أن يرتقي أعواد المنابر؟! فيكون قد تعود أنه يتكلم والناس يسمعون.
فمن داوم على قراءة سير العلماء -وهذا هو في الحقيقة الباب العظيم لتهذيب النفس- يحتقر نفسه، والله يا إخواننا كثيراً ما فكرت أن أعتزل الدعوة العلنية وأعتزل الفتوى، فكلما قرأت تراجم العلماء أصاب بهم وغم، فأتصل بمن أثق برأيهم من إخواني وأعرض عليهم محنتي وأقول: أنا لست بأهل، وكم مرة أعظم بلائي لأجل أن يقول لي أحد الذين أثق برأيهم: يجوز لك أن تعتذر، فما كنت أرى منهم ذلك أبداً، وكانوا يقولون: أنت آثم لو فعلت! فأرجع بخفي حنين وأنا حزين.
عندما أقرأ تراجم العلماء، وأقرأ في صبرهم، وأقرأ في جدهم وعبادتهم، وأقرأ في سعة علمهم فأنظر إلى حالنا الذي يعيش المرأ فيه مع ضحالة العلم وقلة التحصيل وقلة الصبر مع ضيق العطن فأقول: أنا غير أهل أبداً!! فقراءتك في كتب العلماء وسيرهم يهذب من طبعك، فكان مما تعلمته من تراجم العلماء: أن أجرب أن كون مستمعاً، فكنت مثلاً أدخل أصلي الجمعة في أي مسجد، صحيح الخطيب لم يك شيئاً، لكن أعطيه أذني وقلبي، وأصوب النظر إليه، ففي الجمعة الماضية مثلاً وأنا مسافر عرجنا على مسجد في الطريق لكي نصلي، والخطيب لم يكن شيئاً، يعني خطبة ولدت ميتة، أتعرف ماذا استفدت منه في هذه الخطبة؟ شكل الرجل؛ لأنه رجل كبير في السن وكان يتكلم بانفعال، وله لحية بيضاء، وكان يلبس عمامة لطيفة، فكل الذي استفدته من الخطبة شكل الرجل وسمته والحرارة التي يتكلم بها، وخرجت وأنا أرى أني استفدت، لن تعدم فائدة تخرج بها إذا أعطيت أذنك وقلبك لغيرك من أهل الخير.
إذا جئت تحاضر في مسجد مثل هذا وتأتي لتحضر درساً لواحد من إخوانك الدعاة فتجد الناس فوق بعضهم والشوارع ممتلئة فتجد في نفسك غيظاً، وتقول في نفسك: إن هذا الرجل مشهور وأحسن مني ويحضر له أناس أكثر مني، ثم تسمع كلام المادحين: جزاه الله خيراً ولا فض الله فاه، وأكثر الله من أمثاله وغير ذلك من المديح، فتقول: لدي تنبيه خفيف لطيف، لا يعكر طبعاً على ما قال، في الواقع يغالط في المكان الفلاني والمكان العلاني وهذا غفر الله له، يعني هذا لا يضر إن شاء الله وغير ذلك من الكلام، ويقعد يتكلم في أخيه بدعوى الورع وغير ذلك.
لا.
إياك أن تحسد أخاك، ربما كان النفع بك أعظم من النفع به، وانظر إلى الدعاة الوعاظ الذين كان يصلي وراءهم أربعون وخمسون وستون ألفاً، هل لهم تلاميذ ورثوا هذا المنهج؟ لا، لكن تجد العالم الذي يعلم عشرين شخصاً سيخرج من ورائه خمسة عشر عالماً على الأقل.
إذاً: صار النفع بهذا العالم مع العشرين أكبر من الرجل الذي كان يحاضر في أربعين أو خمسين ألفاً: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].(97/7)
تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [1]
تعد مسألة تعدد الزوجات من المسائل التي أكثر أعداء الدين من الخوض فيها زعماً منهم أن في التعدد انتهاكاً لحقوق المرأة وهدراً لكرامتها، وهم خلال ذلك يستشهدون ببعض ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لدعم ما يذهبون إليه، فيحملون هذه الأدلة على غير محملها، ويفسرونها تفسيرات شاذة، حرصاً منهم على دفن كل فضيلة ونشر كل رذيلة في المجتمع المسلم.(98/1)
عظم ذنب من تنقص أحداً من الأنبياء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
لقد اشتهر عند العلماء والعامة قولٌ وهو: (إن لحوم العلماء مسمومة) ومعنى هذا أنه إذا حَرُم على الإنسان أن يغتاب أخاه المسلم، أو يأكل لحمه، فلا شك أن حرمة العالم أجل من حرمة المسلم مطلقاً؛ لأنه جمع الإسلام والعلم، فهو يزيد على الرجل العامي بدرجة العلم، ولأن منصب العلماء بين الناس هو كمنصب الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم)، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين يبلغون رسالات الله، فيجب أن تصان أعراضهم؛ لأن النيل من عرض العالم قد يضر بدعوته، لذلك كان لحمه مسموماً، وقلّما تجد رجلاً طعن فيه أو نال منه إلا هتكه الله عز وجل.
فإذا كان لحم العالم مسموماً فلا شك أن لحم النبي أشد سماً، وأنه لا يجوز لأحدٍ قط أن يسب نبياً أو يغمزه تحت أي دعوى.
وعلماؤنا صنفوا بعض التصانيف في مثل هذا الباب، وأقدم من علمته صنف في هذا الباب أبو الحسن الحموي، صنف كتاباً أسماه (تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء)، وللسيوطي أيضاً رسالة (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء)، جاء فيها: أنه لا يجوز أن تصف نبياً بما يكون في العرف غير كريم، وإن كان كذلك.
فمثلاً: لو افترضنا أن رعي الغنم في بلدنا هذه مهنة حقيرة، فلا يجوز أن تقول: الرسول عليه الصلاة والسلام كان راعي غنم، نعم هو كان راعي غنم، لكن عندما ذكرت رعيه للغنم في هذه المنطقة كان ذلك وضعاً من شأنه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت مهنة النجارة محتقرة في مكانٍ ما، فلا يجوز لك في معرض الدفاع عن نفسك أن تقول: زكريا عليه السلام كان نجاراً؛ لأن الكلام سياقٌ وسباقٌ ولحاق، فلا تأت بجملة وحدها، فتجزئها وتترك أولها وآخرها.
نعم زكريا عليه السلام كان نجاراً كما في الحديث، لكنك إنما ذكرتها في معرض الدفاع عن نفسك وعن هذه المهنة، والعلماء إنما قالوا ذلك صيانةً لجناب النبوة؛ لأنهم هم المبلغون عن الله تبارك وتعالى.(98/2)
التعريض بيعقوب عليه السلام بغرض الطعن في مشروعية تعدد الزوجات
حين يأتي الرجل يريد أن يدافع عن فكرة معينة، فلا يجوز له أن يدافع عنها بلمز أحد من الأنبياء، وحين يأتي رجل يكتب: أن تعدد الزوجات من أكبر المضار، ويستدل على ذلك بقصة يعقوب عليه السلام! نقول له: ما علاقة يعقوب عليه السلام بالموضوع؟ فيتعلل بأنه كان متزوجاً من امرأتين، ثم حصل حقد بينهما، وانعكس هذا الحقد على الأبناء، فقام إخوة يوسف بإلقائه في الجب؛ لأن الإخوة من الأب يكرهون بعضهم بعضاً، كما أن الأب معرض لعدم تمكنه من أن يعدل، فإذا كان هذا حدث لنبي فما بالك بغيره؟ إن مثل هذا الكلام في وجود سلطان شرعي لابد وأن يحد قائله حد المفتري، لأنه كاذب؛ وهل الإخوة الأشقاء لا يقتل بعضهم بعضاً؟ فالعلة موجودة في الإخوة الأشقاء.
وهل يعقوب عليه السلام فضل يوسف على سائر أخوته تفضيلاً سائغاً أم تفضيلاً متكلفاً فيه، يطعن عليه به؟ إن الوالد يكون له وجهة نظر في بذل العطاء والحنان لولدٍ دون آخر، ولا يكون ذلك تفرقةً منه، ولا يعرف هذا إلا من رزق الولد.
فحنان الوالد حنان فطري خلقه الله فيه، وهو سبب لوجود ابنه في هذه الدنيا، وقد ترتب على هذا الفرق بين الولد والوالد في هذه المسألة أحكام شرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقاد للولد من والده) بمعنى: لو أن والداً قتل ابنه لا يقتل الوالد به، لكن لو أن الولد قتل الوالد يقتل ما هو الفرق؟ الفرق: أن الوالد لا يمكن أن يقتل ابنه إلا إذا زال عقله؛ لأن حنانه جبلي فطري مخلوق فيه، أما الولد فمسألة أن يقتل أباه مسألة سهلة، أو أن يعق أباه، أو أن يرى أباه يبكي قائلاً: يا بني! أطعني في هذا المعروف.
بينما الولد شارد؛ لأن حبه تصنع وتكلف.(98/3)
بعض المقتضيات الفطرية لدى الآباء للتمييز بين الأبناء في المعاملة والعطاء
أسوق مثالاً لأبين أن التفضيل بين الأولاد لا يكون ظلماً أحياناً.
سئلت أم: من هو أعز ولدك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والمسافر حتى يعود.
فالمقتضى لتمييز بعض الأبناء موجود في هذه الأحوال، وهو: البعد، والصغر، والمرض، فلو مرض ولدك الصغير فإن قلبك يتفطر عليه، لكن لو مرض ولدك الكبير، تقول له: تحمل، أنت رجل؛ لأن الولد الصغير لا يدرك معنى الألم فلا يمكنه الإفصاح عما يعتريه، ولا يعرف معنى الصبر، لكن إذا كبر الولد، فقل له: تحمل، (أشد الناس بلاءً الأنبياء) فهو يفهم الكلام فيتأسى، بخلاف الصغير، ولذلك تجد حنانك وحزنك على الصغير أعظم من حزنك على الكبير.
فيوسف عليه السلام كان صغيراً إذ ذاك، وإخوته قالوا: (ونحن عصبة).
أي: كبار وكثر.
وبعض الناس يقول: إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء والصواب أنهم غير أنبياء؛ لأن الأنبياء باتفاق أهل السنة -بل باتفاق علماء الإسلام جميعاً، بل باتفاق المبتدعة منهم- لا يرتكبون الكبائر لا قبل النبوة ولا بعد النبوة أبداً؛ لأنه إذا ارتكب نبيٌ جريمةً نكراء قبل النبوة يعير بها، فصيانةً لجناب النبوة لا يحفظ عليه كبيرة أبداً قبل النبوة فضلاً عن بعد النبوة، وهم أيضاً منزهون عن الصغائر على القول الراجح.
وإخوة يوسف فعلوا فعلين كلاهما كبير، لما قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف:9]، ولما قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] فهم أتوا بأمرين: عقوق، وهمٌّ بالقتل؛ فألقوه في الجب بقصد أن يموت، فكأنهم قتلوه، فإن الرجل لو ذهب لآخر وضربه ضربةً لأجل أن يموت فخر صريعاً فمضى الرجل، ثم أفاق المضروب بعد قليل؛ فإن الضارب يعامل معاملة القاتل في الآخرة؛ لأنه لما ضرب أراد أن يقتل، والنية في هذه المسائل معتبرة.
هل يعقوب عليه السلام لما تزوج بامرأتين لم يكن يعدل بين أولاده حتى كان هو السبب في قول الإخوة: اقتلوا يوسف؟ أنا لا أريد أن أفيض كثيراً في محاسن تعدد الزوجات؛ لأنه من محاسن الشرع، دعك من أهواء الناس، وهذا الكلام قد لا يرضي عامة النساء، لكن ما جاء الدين لإرضاء أهواء الناس، إنما نزل الدين مهيمناً على الكل، أليس الدين قيداً؟ ألسنا أسراء في يد الشريعة؟ بلى.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالمؤمن مسجون بالتكاليف الشرعية: افعل، لا تفعل، ليس هناك حلالٌ مطلق في الدنيا، كل ما يخطر ببالك أن تفعله لا تستطيع أن تفعله؛ لأنك في الدنيا كالمسجون تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أول رؤيا بعض الصحابة -أظنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو غيره- لما رأى نفسه مقيداً في المنام بقيد، فأولَ القيد بأنه الدين، يعني: دينه متين، الدين قيد، لا تستطيع أن تفعل كل الذي تريد دون ضابط، لأن ديننا جاء ليهيمن على الخلق لا ليتنزل على هوى كل إنسان.(98/4)
حصر حق الزوج في التعدد بوجود ضرورة أو عيب في الزوجة
نحن في مسألة إنكار تعدد الزوجات صرنا كالنصارى بكل أسف، حتى إنك قد تجد رجلاً ينسب إلى الالتزام في هذا الباب -أيضاً- كالعوام، فحين يتزوج زوج ابنته بأخرى يأتيه قائلاً: لماذا تتزوج على ابنتي؟ هل ابنتي فيها عيب؟ هل ابنتي مقصرة في شيء؟ فنقول: هل الزواج الثاني لابد أن يكون عن تقصير من الأولى؟! أو بسبب علة فيها؟! من الذي قال ذلك؟ والله تبارك وتعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] والكلام السابق رد لهذا، إذا لم يرد ذكر للعلة فلو قال الرجل: أريد الزواج بالثانية بلا علة، فالزواج بها يشرح صدري، ويقربني من ربي، ويمكنني من أن أتمتع بالمتعة الحلال، وهذا هو مقتضى اللفظ: (انكحوا ما طاب لكم) {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3].
لكن حين يأتي هؤلاء وينزعون الكلمة من السياق، ويقدمون للناس أحكاماً مبتورة: أن الزواج الثاني لا يكون إلا لعلة، ولابد من استشارة الزوجة الأولى في الزواج؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل ذلك!! وأنا لا أدري أهذا كذبٌ على الله عز وجل أم جهلٌ، وكلاهما مر، هل النبي صلى الله عليه وسلم لما أبى أن ينكح علي بن أبي طالب على ابنته إلا أن يطلقها كان من هذا الباب؟ لا.
إن استدلالهم بهذا الحديث يذكرني بمن يقول: إن مكر النساء وكيدهن أعظم من كيد الشيطان، فتقول له: كيف يكون ذلك ولا يوجد أعدى من الشيطان الرجيم؟ يقول لك: يا أخي! هذا في القرآن، قال الله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، وقال بالنسبة للشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، فبين أن كيدهن عظيم، وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، واضح جداً من القرآن.
وليس الأمر كما يزعم؛ لأنه إنما استل هذه الجملة من السياق، واستلال الجملة من السياق بغير نظرٍ إلى السباق واللحاق جريمةٌ في حق المعنى، ففي قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] نقول: نعم، إذا قورن كيدهن بكيد الرجال؛ لأن الناس ما هم إلا رجلٌ وامرأة، فإذا قورن كيد الرجال بكيد النساء كان كيدهن عظيماً فعلاً، لكن كيد الشيطان لماذا كان ضعيفاً؟ عندما تقرأ السياق يتضح المقام، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] (ضعيفاً)؛ لأنه مقابل بكيد الله، فصار ضعيفاً لذلك {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:76]، وهو معهم وناصرهم، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76]، أي: يا أيها الذين آمنوا -الذين مولاهم الله- قاتلوا أولياء الشيطان؛ لأن الله مع الذين آمنوا، والشيطان مع الذين كفروا، فصار هناك مقابلة {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]؛ لأنه مقابل بكيد الله عز وجل، فما معنى أن نأخذ شطر آية مع شطر آية أخرى ونضربهما ببعض؟!(98/5)
نقض الاستدلالات على منع تعدد الزوجات(98/6)
الاستدلال بقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) على منع التعدد
تأتي الجريمة الثانية في حق المعنى بنزع السياق، يقول لك: إن الله تبارك وتعالى قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] يا أخي! خذ الكلام بكامله في السياق واقرأ قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:128 - 129].
فلو نظرت إلى السياق للفت نظرك في الآية الأولى: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا)، وللفت نظرك في الآية الثانية (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) ذكر الإحسان في الآية الأولى والإصلاح في الآية الثانية، وذكر التقوى معهما.
وأي بيت فيه من المشاكل ما لا يستطيع الرجل، ولا تستطيع المرأة الجهر بها، فقد تكون المشاكل متعلقة بأمور تخص المأكل والمشرب أو غير ذلك من الأمور التي يمكن مناقشتها والإفصاح عنها، ولكن في بعض الأحيان يكون الموضوع أعمق من ذلك، لكنه محرج، لا يستطيع الرجل ولا المرأة الإفصاح عنه، والله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآية: (وَإِنِ امْرَأَةٌ)؛ لأن بعض النساء يقلن: إن الله سبحانه وتعالى جعل للرجل سيطرة على المرأة، فإذا نشزت جاز له أن يهجر ويضرب، لكن افترض أن الرجل نشز، فماذا تصنع المرأة؟ نزلت هذه الآية لبيان ذلك، فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] الجملة هذه فيها (لا) النافية، وفيها نكرة وهو قوله تعالى: (صلحاً)، والنكرة: هي الاسم المعرى من الألف واللام، وحين تدخل الألف واللام على الاسم يصير معرفة، فكلمة (الصلح) معرفة، وبحذف الألف واللام تصير نكرة.
وقال العلماء: النكرة في سياق النفي تقتضي العموم، يعني: (لا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا) أي صلحٍ كان، هذا معنى الآية، المهم أن هذا الصلح يرضي الطرفين، وتمضي الحياة.
فإذا أراد رجل أن يطلق، فإن الله تبارك وتعالى وجهه إلى أن يصطلح مع زوجته على أي شيء، لو أنها تركت بعض ما لها من الحقوق لا ضير أن يمسكها.
وإذا عزم رجل على تطليق زوجته، فقالت له: لا تطلقني وأمسكني، ولا تقسم لي.
أي: لا تبت معي، وهي بذلك تتنازل عن حقها في الفراش، فهل يجوز؟ نعم يجوز، طالما أنها هي التي أسقطت حقها، والمرء حر في إسقاط حقه، إنما لا يجوز للرجل أن لا يوصل حقها إليها، يعني: رجل يمسك بامرأةٍ ولا يعفها في الفراش هذا لا يجوز، وهو آثم بذلك ومرتكب لذنب عظيم، لكن إذا قالت المرأة نفسها: أنا لا أريد ذلك، وأسقطه عنك؛ جاز لهما الاصطلاح على ذلك.
وبرهان ذلك من السنة: أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها -زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما كبرت وخافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادت أن تحتفظ بشرف التسمي بأم المؤمنين؛ تنازلت عن ليلتها لـ عائشة رضي الله عنها، فصار لـ عائشة ليلتان ولسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة واحدة، فهي التي تنازلت عن حقها في هذه الحالة.
ولأن الطلاق بيد من أخذ بالساق -وهو الرجل- ولأن المرأة قد تكون ظروفها صعبة جداً، إذا طلقت تضيع، فلا جناح عليهما أن يصلح بينهما صلحاً، لكن هذا فيه غبن للمرأة، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] على أي وضع، أفضل من أن تشرد المرأة، لو أن المرأة ظلت مع الرجل، وقد فقدت بعض حقوقها أفضل لها من أن تطلق بالكلية، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، كل واحد شحيح بالاعتراف بالخطأ لا يريد أن يقول: أنا مخطئ جاءوا ليتصالحوا وكل واحد مصر أنه هو المحق، ويشح بالاعتراف بالخطأ، فربنا سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} [النساء:128]، فجعل ضم المرأة إلى الرجل مرةً أخرى من الإحسان، وليس من الإحسان أن تظلمها فاتق الله.
إذا أحسنت لا ترد عليها بالسيئة؛ لأن هذا ضد الإحسان، قال الله تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] أي: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه، ثم قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129]، هنا جاء المعنى، فالآية الأولى بينت حال رجل بينه وبين امرأته خلاف، ويريد أن يطلقها، فيقال له: أمسكها ولو على مضض، من قبيل الإحسان.
أما لو كان الرجل متزوجاً بامرأةٍ أخرى، وصار قلبه بالنسبة للمرأة التي حدث بينه وبينها نشوز ليس على ما يرام، فإذا تحول قلب الرجل عن المرأة لا يعطيها حقها في الفراش، هذا معنى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:129] أي: بالمحبة القلبية والفراش؛ لأن هذا فرع على عمل القلب، أليس القلب مَلِك البدن؟ فالإنسان إذا كره بقلبه لا يمكن للجوارح أن تأتي بخلاف ما في القلب، ولذلك إذا تفتت عزم القلب ضاع عمل الجوارح، فأحياناً يأتي خبر للإنسان وهو متماسك فينزل عليه كالصاعقة، فعندما يسمعه يسقط على الأرض صريعاً ما الذي جرى؟ فهذا القلب لما انفت عزمه خانته قدماه؛ لأن قوة العضو إنما هي من قوة القلب والجنان، لذلك ترى الرجل إذا انفت عزم قلبه لا يستطيع أن يستخدم جارحته أبداً.
ذارت مرة قال أحدهم لي: إنه شعر بتعب، فذهب يكشف عند الطبيب، فقال له: عندك مرض القلب، فلما سمع ذلك -وكان قد صعد السلم على قدميه- نزل مستنداً على غيره، وقال: سأكشف عند أخصائي، وعندما كشف عليه قال له: أنت عند من كشفت؟ قال له: عند الطبيب فلان.
قال له: إن قلبك أقوى من قلب الذي كشف عليك، فخرج الرجل من عند الأخصائي على قدميه ما الذي جرى له؟ رجله هي رجله، ما الذي جرى له؟ لما انفت عزم القلب ذهبت قوة الجارحة.
فالرجل إذا كان يكره المرأة فمن الطبيعي أن لا يميل إليها، ولا يستطيع أن يأتيها في الفراش، قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:129]، إذاً: عدم الاستطاعة جاءت بعد مشكلة {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128].
إذاً: عدم الاستطاعة المقصود بها هنا العجز القلبي، وشيء طبيعي جداً أن الإنسان لا يسأل عن هذا العجز القلبي؛ لأن قلبه ليس بيده، إنما القلب بيد الرحمن، كما قال عليه الصلاة والسلام: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء)، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر: وهو أن قلبك ليس بيدك، رغم أنه هو ملك بدنك.
لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، لو كان قلبك بيدك ما كفرت طرفة عين، ولا كرهت إنساناً، ولا غُلبت على كرهه، لكن ليس بيدك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقسم يقول: (لا، ومقلب القلوب!) إشارةً إلى أن تقليب القلوب آية من آيات الله عز وجل.
إذاً: الآية جاءت في معرض سياق طويل، فنزع الآية من هذا السياق جريمة في حق المعنى، وتضليل لعباد الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(98/7)
الاستدلال بمنع النبي لعلي بن أبي طالب من الزواج بابنة أبي جهل على منع التعدد
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علياً، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يطلق علي ابنتي) فهم يستشهدون بهذا الحديث فيقولون: هذا كلام واضح جداً، إذا كنت تريد أن تتزوج فالزوجة الأولى مخيرة بين أن تطلب الطلاق أو تبقى، وهذا يدل على أنه لابد أن توقع على الموافقة، فهم بهذا الدليل جعلوا القوامة بيدها، انظر الكلام! يعني هي التي تقول للرجل: تزوج أو لا تتزوج، وإلا طلقتك، فالمسألة ستكون بهذه الصورة.
لكن لا بد من النظر في كل ألفاظ الحديث! الشعر الماجن عمل نفس الموضوع، قال: ما قال ربك ويلٌ للأولى سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينا أي: ليس هناك ويلٌ للسكارى، إنما هناك {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] دون أن يتم قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]؟! انظر إلى الجريمة التي ارتكبها، أخذ آية قرآنية صحيحة، لكن لا يتم معناها إلا بإتمام بقية السياق قال ({لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يطلق علي ابنتي، والله لا تجتمع بنت عدو الله وبنت رسول الله تحت سقفٍ واحد) هذه العلة الأولى.
بنت أبي جهل لا يتصور أحد أن علي بن أبي طالب كان سينكح ابنة أبي جهل وهي كافرة لا، لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] لا يمكن للمسلم أن يتزوج بكافرة، بينما يمكنه أن يتزوج كتابية مشركة، لكن الكافرة المحضة الأصلية لا يجوز الزواج بها.
فطبعاً أبو جهل كافر أصلي، وابنته تبعاً لذلك كافرة أصلية حتى تسلم، إذاً لا يجوز الإمساك بها، لكن بداهةً هي أسلمت.
فما المانع إذاً؟ قال عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع بنت عدو الله، وبنت رسول الله تحت سقفٍ واحد، إني أخشى أن يفتنوا ابنتي) فانظر إلى العلة، هي مسلمة، لكن خالها كافر، وعمها كافر، وعمتها كافرة، فعندما يأتي هؤلاء الكفرة إلى هذا البيت يخشى على ابنته ريحانته سيدة نساء أهل الجنة، بل سيدة نساء العالمين إلا ما كان من مريم عليها السلام، يخشى على سيدة نساء العالمين (إني أخشى أن يفتنوا ابنتي)، وحتى لا يظن رجلٌ أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحرم على علي بن أبي طالب مطلقاً الزواج الثاني، قال عليه الصلاة والسلام في نفس الحديث: (أما إني لا أحرم ما أحل الله، ولكن لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله تحت سقفٍ واحد)، فانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (أما إني لا أحرم ما أحل الله) أي: من التعدد، فكيف لم يفصل الذين وضعوا هذا القانون المشئوم الأبتر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا القول من أهواء الناس، والله تبارك وتعالى اللطيف الخبير، الذي هو أعلم بالناس منهم بأنفسهم، والذي شرع ذلك لهم، إنما هو لصالحهم، فنسبة النساء أكثر من نسبة الرجال؛ لأن الرجال معرضون للقتل في الحروب والعصابات والأوبئة، فيترتب عليه أن يكون عدد النساء أكثر من عدد الرجال.
أيتها المرأة التي تسمع كلامي! أيتها المرأة التي مات زوجها عنها وهي شابة، أو طلقها زوجها وهي شابة! ألا تتمنى هذه المرأة أن تكون في كنف رجل.
فالمرأة وقت وجود زوجها، تأبى عليه أشد الإباء أن يتزوج عليها وتهدده.
فهذه المرأة إذا مات الزوج وهي لا تزال بعد شابة، فهل يُقضى عليها بالإعدام، وتقضي حياتها كلها بلا زوج! ونقول للذين يدافعون عن حقوق المرأة -زعموا- ويقاومون الزواج الثاني! هذه المرأة لما مات عنها زوجها هل صارت وحشاً؟ أو صارت رجلاً؟ أو انتفى عنها وصف الأنثى، أو ما زالت امرأة؟ أليست هذه امرأة لها حقوق؟ فأين ذهب حقها؟ فالمرأة بعد وضعها الجديد ولو مضى على زواجها يوم واحد لا يعود بيت أبيها لها بيتاً، ولا تشعر فيه بالأنس والاستقرار؛ لأنها لا تعامل معاملة البنت البكر، حتى في بيت أبيها، فتنظر هي إلى حالها، من الممكن أن تكون هي المرأة القادمة التي يموت زوجها، أو يطلقها زوجها وهي شابة.
إذاً: هي لابد أن تحب لأختها من الخير ما تحب لنفسها، لاسيما إذا كان الرجل عادلاً مستطيعاً.(98/8)
الحكمة من تعدد الزوجات
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الحالة التي وصلنا إليها في هذا الباب هي أننا صرنا كالنصارى في هذا الباب؛ والسبب طويل، وجذوره ترجع إلى الوراء، إن الذين امتلكوا دفة الإعلام والثقافة عندنا لا يمتون إلى الإسلام بصلة، ولاؤهم ليس لدينهم، القصص المسرحيات المسلسلات الجرائد المجلات كل ذلك يصب في هذا المستنقع.
فإذا جاءهم من يقول: إن للرجل أن يتزوج على زوجته، قالوا: لماذا؟ هل بالمرأة عاهة؟ المرأة ليس لها كرامة؟ ليس لها حرية؟ لا، الكلام هذا كان في العصور الوسطى، في العصر الحجري، لكننا الآن أخذنا حريتنا.
هذا اتهام للنبي عليه الصلاة والسلام أنه عيش النساء في العصر الحجري والعصور الوسطى؛ لأن المرأة الآن لم تعد كما كانت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وصاروا يأتون بالشبهات التي يلبسون بها على الناس.
نحن قلنا: إن القلب ليس ملكك، يجبر الإنسان على عشق امرأة أو على حب شيءٍ ما وهلاكه فيه، تقول له: يا أخي! انس يقول لك: لا أستطيع، وهل قلبي بيدي؟ فهو لا يستطيع، ويكاد يتلف.
وفعلاً بدأ هذا الرجل يضمر، ووجهه ينحل، وأحست زوجته أن الرجل يموت، فذهبت إلى تلك المرأة وقالت لها: اعملي معروف، تزوجيه، أنا لا أريد أن أفقده، لو -صار معي نصف يوم أو يوماً من كل يومين أفضل من أن يموت، تزوجيه.
هي بالتالي ركبت دماغها، وقالت: أبداً، لا يمكن، فأرسلت رسالة للرجل صاحب البريد، تقول له: إنها تقرأ لك، أرجوك تحننها، وقل لها: تتزوج زوجي، أنا أريد ذلك.
فيقول لها: لا يا سيدتي، لن أقول لها ذلك.
أنا أفهم أنك تقول: لا أقول لها ذلك؛ لأن البيت سيتدمر وسيضيع، لكن المرأة نفسها هي التي تقول لك: اعمل معروفاً، كلمها.
فيقول لها: لا يا سيدتي، لن أقول.
انظر العداء السافر إلى أي درجة وصل! أنا أفهم أنه لا يريد أن يهدم البيت الأول، حسناً، كلام معقول مثلاً، ولو بادي الرأي، لكن المرأة نفسها هي التي تقول: مرها، وانصحها أن تتزوجه.
فيقول لها: لا يا سيدتي.
إن النساء المطلقات واللاتي مات عنهن أزواجهن كثرة كاثرة، والمتأمل في أحوالهن يبكي بالدمع السخين عليهن، وعلى ظروفهن وأحوالهن، ألسن نساء لهن ما للنساء؟ فأيهما أصلح: أن تقع المرأة في الحرام، أو يعفها رجل؟ (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، الرجل القادر المستطيع الديِّن الخيِّر زواجه خير، فيه تكثير لنسل المسلمين، وفيه أنه ضم امرأةً لا راعي لها.
فأعداء الدين عندما يتكلمون في هذه القضية لا يتكلمون بعدل ولا بإنصاف ولا بعلم، بل غمزوا نبياً من الأنبياء بسبب ذلك.
إن هؤلاء لا يتورعون في سبيل الوصول إلى ما يريد أسيادهم عن أن يغمزوا حتى الأنبياء، فانظروا يرحمكم الله إلى هذه المسألة، ولا زلت أقول: ما جاء الدين ليرضي أهواء الناس، إنما جاء الدين لمصلحة البشر، فقد يرتكب الإنسان عملاً ضد مصلحته وهو لا يدري، ولذلك العبد الذي يسلم لربه تبارك وتعالى -لدينه وشرعه- من أسعد الخلق.(98/9)
التزام الأحكام الشرعية لا يأتي إلا بالخير
إن الله عز وجل وجهك إذا أشكل عليك أمر أن تقول: ربِّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين؛ لأن الله إذا وكل العبد إلى نفسه طرفة عينٍ أهلكه.
ودعاء الاستخارة عندما تتأمل ألفاظه تدرك هذا الأمر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -وتسمي حاجتك-) تريد أن تتزوج، أو تنقل مسكنك، أو تغير الوظيفة، أو تبدأ مشروعاً، أنت لا تدري أهو خيرٌ لك أم لا؛ تدعو هذا الدعاء بعد صلاة ركعتين من غير الفريضة.
(اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -وتسمي حاجتك- خير لي في ديني ودنياي، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي.
وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به).
انظر إلى الكلام! لأنه قد يقدر لك الخير وأنت لا ترضى به فترفضه؛ فتحرم ذلك الخير.
فعليك عندما تدعو الله تبارك وتعالى أن لا تدعوه بالذي تريد؛ لأن ذلك الأمر قد يكون وبالاً عليك وأنت لا تدري، فلا تقل: يا رب! أريد أن أتزوج فلانة.
لكن قل: يا رب! إن كانت فلانة خيراً لي في ديني ودنياي فزوجنيها، ولا تقل: أريد الوظيفة الفلانية، أو المسكن الفلاني، لكن قل: إن كان ذلك الأمر خيراً؛ فإن ذلك من أدب الدعاء، وما ألطف دعاء أيوب عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] لم يقل: فاشفني، وإنما قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] إن كنت ترى الرحمة في استمرار بلائي فزده، وإن كنت ترى الرحمة أن ترفعه عني فأنت أرحم الراحمين، فانظر كيف لم يطلب العافية لنفسه، لم يقل: مسني الضر فاشفني؛ لأنه لا يدري، أيهما أصلح له: المرض أو الصحة، والعبد المريض لا يدري بعد أن يصح أيكون مجرماً في الأرض أم لا؟ ربما مرض حتى يعجزه الله عن معصية لو كان صحيحاً لأتاها؛ فرحمه الله بأن ابتلاه، والله أرأف بالناس من الأم بولدها، فانظر إلى أدب الدعاء، قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
فلذلك إذا كانت هناك امرأة يريد زوجها أن يتزوج عليها، فلا تتحانق، ولا تلج باب السفه، ولكن تلجأ إلى عتبة ربها تبارك وتعالى، وتمرغ وجهها بين يدي عبوديته وتدعو وتقول: إذا كان هذا الزواج الثاني يزيد في طاعتي، ويقربني من ربي، ويعف هذه الأخت؛ فاقدره له ويسره له، وإن كان هذا الزواج يضيع إيماني، ويقلبني رأساً على عقب، ويعكر حياتي؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر الخير حيث كان.
هذا هو دأب الصالحات المؤمنات، وليس أول ما تعلم أن زوجها سيتزوج عليها ترفع راية العصيان، هي لا تدري هل الزواج الثاني خيرٌ لها أم لا، ليس كل أمر يُرى شراً يكون في الأصل شراً، بل قد يكون خيراً، والله تبارك وتعالى أدب الصحابة في حديث الإفك، فقال: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فسلم للذي يعلم وادعه متضرع القلب، وصف قدميك بين يديه تبارك وتعالى، واضرع إليه ضراعة الذليل أن يقدر لك الخير.
هذا هو سلوك النساء الصالحات المؤمنات، ولا شك أن جميع النساء عندهن غيرة، لكن الغيرة لها حدود، والغيرة إذا طغت على حدود الله عز وجل لا تكون محمودة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تغار، وكانت تقول: (ما غرت على امرأة قط غيرتي على خديجة لكثرة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها) فغيرة النساء موجودة، والرجل الصالح العادل هو الذي يقتل هذه الغيرة بعدله وإقباله على نسائه، لكن لا يجوز لها أن تتخطى الحدود الشرعية؛ فتظلم بهذه الغيرة.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(98/10)
تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [2]
تعد وسائل الإعلام في العصر الحديث من أهم وسائل التأثير وأخطرها على عقل الإنسان ودينه، وقد أدرك أعداء الله أثر الإعلام في توجيه ثقافات المجتمعات، فاستغلوا ذلك في نشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة، ومن ثم إبعاد المجتمع عن الدين الذي يمثل الحصن الحصين لحمايته.
ومما يركز عليه هذا الإعلام في الآونة الأخيرة مسألة تعدد الزوجات لما لإثارة هذه القضية من قبول لدى طائفة من الناس وبخاصة النساء، وهم خلال ذلك لا ينشدون منح المرأة حقاً ضائعاً، وإنما يريدون من وراء ذلك سد الأبواب الشرعية التي تمنع من انتشار الرذيلة، والاستعاضة عنها بوسائل أخرى مثل اتخاذ الخليلات واعتبارها في النهاية بديلاً للزواج الشرعي.(99/1)
اتهام دعاة حقوق المرأة ليعقوب عليه السلام بعدم العدل بين أبنائه
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.
في قصة يوسف عليه السلام عبر كثيرة جداً، لكن من العبر التي نقف عليها، وهي متعلقة بالكلام الذي قلناه آنفاً عمن أورد قصة يوسف مع إخوته في معرض التمثيل على أضرار تعدد الزوجات، فقال: إن يعقوب عليه السلام فرق ما بين الأولاد، وهو يريد أن يقول: فإذا كان هذا حال الأنبياء فكيف بحال العوام؟ هو يريد أن يقول هذا.
فغمز ذلك النبي الكريم بالظلم، فهل في قصة يوسف من أولها إلى آخرها أية إشارةٍ من رب الأرباب إلى ظلم يعقوب عليه السلام لولده؟ وهذا الرجل من أين أخذ هذا الكلام؟ أخذه مما جاء على لسان إخوة يوسف: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] فهم الخصم في هذه القضية، فهل الخصم تؤخذ منه الدعوى؟! فإذا جاء رجل مدعٍ، يقول عن آخر: هو ظالم، أقول له: ما هو الدليل؟ فيقول لي: لأنه ظالم، فهذا رجل مدع ولم يقدم دليلاً إلا الدعوى، والدعاوى إنما يستدل لها لا بها، وملخص دعواهم؟ {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] هذه هي الدعوى: أنه يحبهما أكثر مما يحبنا.
فأنا آتي على هذا وأقول له: ما هو الدليل على أنه ظلمك؟ لا أقبل منه أن يقول: إنه ظالم لي لا، بل يقول: لا يعطيني كذا، ويعطيني كذا، وحرمني لي من كذا وكذا أما أن يستدل بنفس الدعوى على الدعوى! فهذا لا يقبل منه، فهم قالوا هذه الدعوى، فهل هم محقون فيها؛ حتى أسلم لهم، وألمز هذا النبي الكريم؟ ومما يدل أيضاً على أنهم من العوام أنهم يزنون الأمور بالكيلو، مثل العوام تماماً، فيقولون: بما أننا نحن عصبة؛ إذاً: نحن أولى بالحنان والحب من الاثنين، وهكذا مقياس العوام، إذا قمت في الناس تذكر وتنذر بآيات الوحي، وبكلام النبي عليه الصلاة والسلام، يأتي من يقول لك: هل أنت على هدى وكل هؤلاء على ضلال؟! يزنونها بالكيلو أيضاً، مع أن الحق لا يخضع لمثل هذه القسمة، بل الأنبياء جاءوا في وسط المخالفين، وكل المخالفين سفهوهم واحتقروهم، وأخرجوهم وهموا بقتلهم، بل وقتلوا بعضهم، كيحيى عليه السلام لما قتلوه وأهدوا رأسه لامرأة بغي.
فهؤلاء هذا ميزانهم، والمسائل عندهم لا تخضع لمقياس الحق، إنما تخضع للكثرة، والعجيب في المسألة: أن هذه الكثرة يمكن أن تنقلب على ضلال في رأيهم لو كانت ضد أهوائهم، وهذا هو العجيب في الموضوع! ولو عاملتهم بنفس مقاييسهم وقلت لأحدهم: أنت تزن بالكيلو وأنا سأزن لك بالكيلو، لو جاء واحد فقط من المفتين -والجماعة الذين معه لا يؤبه لهم- فقال: إن الفوائد الربوية حلال، ووضع الفلوس في البنوك حلال، وخالفه البقية ولجنة الفتوى، وكل المجامع العلمية في البلاد الإسلامية، قالوا: لا، هذا ربا صريح.
يقول لك: لكن أنا مع المفتي فلان! فنقول له: لماذا لا تزنها بالكيلو على مذهبك؟ فالمفروض أن كل هؤلاء يكونون على حق، وأنه يكون على ضلال إذاً: لماذا قلبنا المسألة هنا؟ لأنه صار فيها هوى، ولذلك ليس للعوام مذهب إلا الهوى.
فإخوة يوسف عندما جاءوا قسموا هذه القسمة، واتهموا أباهم بالضلال، لم يتفطنوا لمقياس الأب في الحنان.
نعم بالنسبة للعدل المادي يجب عليه أن يعدل، وكذلك ينبغي عليه أن يعدل حتى في القبلات، لكن قد يقوم مقتضى يمنع دون ذلك، ولا يكون من الظلم، ولد عاق يشتم أباه ويضربه، شيء طبيعي أن الوالد ينفر منه ويكرهه ويدعو عليه، فهل تريد أن تسوي بين هذا العاق، وبين الذي جعل خده مداساً لوالده؟ لا، لا يستويان مثلاً أبداً.
فعندما يوصل الحنان والعطف لهذا ويمنعه عن ذاك؛ فإنما فعله لقيام مقتضى، لكن إذا لم يكن هناك مقتضى فالأصل العدل بين الأولاد في كل شيء.
(جاء بشير -والد النعمان بن بشير رضي الله عنهما- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يخص النعمان بشيءٍ دون إخوته، فقالت امرأته: لا والله؛ حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فذهب بشير بابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! إني أريد أن أنحل ابني هذا نُحلاً -أي: أعطيه عطاءً- قال: أكل ولدك أعطيت -أي: مثل النعمان -؟ قال له: لا.
قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ثم قال له: أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم.
قال: فاعدل بينهم) لأنه حين يرى الأخ أخاه الآخر هو المحبوب، وهو الذي يأخذ كل شيء، فمن الطبيعي أن يحقد على أخيه وأبيه، ولا يوصل البر لأبيه، فلذلك نبهه النبي عليه الصلاة والسلام تنبيهاً لطيفاً بما جبل عليه، فأقامه كالدليل على ما يريد، قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم.
قال: فاعدل بينهم) لماذا؟ لأنه {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، تعطي عدل تأخذ بر، لكن تعطي ظلم وجور وتنتظر البر؟ لا.(99/2)
ترويج دعاة حقوق المرأة لاعتبار زواج المتعة بديلاً شرعياً لتعدد الزوجات
إن دعاة حقوق المرأة الذين يطالبون بمنع التعدد هم أنفسهم الذين يباركون اتخاذ الخليلات والعشيقات، أي: يمنعون الرجل من التعدد في الحلال ويبيحون المرأة له في الحرام، وقد ذكر أن أحد الدعاة إلى مثل ذلك -وقد أهلكه الله عز وجل في ليلةٍ مباركة- كان يرد على علماء الأزهر في زواج المتعة، ويقول: أليس الأزهر سنة كذا وستين قال: إن الشيعة مذهب إسلامي معتبر؟ فالشيعة يقولون بزواج المتعة، لماذا لا تبيحون زواج المتعة للشباب الضائع الذي لا يعرف كيف يتزوج؟ وصفة زواج المتعة: أن يتزوج الرجل لوقتٍ معلوم، وبمهرٍ معلوم، كأن المرأة تستأجر، كما روى الصحابي الجليل ابن سبرة الذي هو راوي حديث تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة، قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لنا: (استمتعوا بهذه النساء فأحلت المتعة للصحابة ثلاثة أيام ثم حرمت إلى أبد الآبد).
يقول: (خرجت أنا وصاحبٌ لي، وكل رجل عليه شملة -أي: عباءة- فذهبوا إلى امرأة يعرضون أنفسهم عليها -أي: تقضي معنا شهرين وتأخذ هذه العباءة- قال: فاستملحت صاحبي -كانت عباءته جديدة، أو كان به مميزات أخرى؛ فاختارته- وما هي إلا ثلاثة أيام إلا ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمها).
زواج المتعة فيه إهانة للنساء، كأنهن مستأجرات؛ فلذلك حرمت.
فهو يقول: طالما أن الشيعة مذهب معتبر، والآن الشباب غير قادرين على دفع المهر، لا عشرة آلاف، ولا حتى خمسة آلاف، فالذي معه مائة جنية لماذا لا يتزوج شهراً؟ ويظل يتكلم، ويصف العلماء المعارضين لهذه المسألة بأنهم حمير، وهذا كان ينشر في صحيفة الأحرار منذ ثلاث سنين، بدعوى حرية الرأي.
فنقول: نحن نقترح اقتراحاً أحسن من هذا إلا أنه حلال: الآن الشباب يفتتنون من العهر والعري الموجود في الشارع، فهلا قلت: أيتها النساء! ادخلن مساكنكن، وتسترن، وهلا قلت لأولياء الأمور: خففوا على الشباب: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه).
لا هو يعتبر تحجب المرأة نوعاً من التخلف، ولا يجوز أن تفرط المرأة في مكاسبها، وهذا يعتبر مكسباً عظيماً أخذته المرأة.
هل تعلمون سبب تسمية ميدان التحرير بهذا الاسم؟ كان اسمه ميدان الإسماعيلية قبل هذا، وسمي ميدان التحرير لأن صفية زغلول لما خرجت مع من خرج للتظاهر ضد الإنجيلز، فراحوا عند معسكرات الإنجليز يحتجون ويهتفون ضد الإنجليز: يسقط الإنجليز، يسقط الإنجليز وإذا بها ومن معها من النسوة يخلعن الحجاب ويشعلن فيه النار.
فما هي المناسبة والرابط في الموضوع بين الأمرين؟ حتى أن التمثيلية ليست محبوكة، يعني: كون المرأة تخلع الحجاب نكاية بالإنجليز! فهل الإنجليز هم الذين فرضوا الحجاب أصلاً؟ وسمي ذلك الميدان بميدان التحرير من أجل تحرير المرأة من دين الله عز وجل، ومن أوامر الله تبارك وتعالى.
وبدأت المرأة تسير نحو الهاوية شيئاً فشيئاً، وكل هذا بدعوى تحرير المرأة والحفاظ على مكاسبها.
عندما تقول للمرأة: تحجبي.
فالله تبارك وتعالى أمر النساء بالحجاب، وأمرهن بالقرار في البيت، فلا تخرج المرأة من البيت إلا لضرورة أو لحاجةٍ ملحة، أما أن تخرج المرأة فيفتتن بها الشباب حتى يقعوا في الزنا، وبعد ذلك تقول: نبيح زواج المتعة! ظلمات بعضها فوق بعض، عصوا الله في أول الأمر، ويريدونا أن نعصي الله أيضاً بجبر هذا العصيان الأول كيف يكون ذلك؟!!(99/3)
الوسائل المعاصرة لأعداء الإسلام في غزو البلاد الإسلامية
نحن أمام مخطط رهيب وتغريب خطير، وهذا هو الذي يمشي فيه أعداؤنا من اليهود الآن، فالحزب الحاكم في إسرائيل الآن خطته غير خطة إسحاق شامير؛ لأن إسحاق شامير كان يذهب إلى استعمال القوة، فيبني المستوطنات على أراضي الفلسطينيين لكن إسحاق رابين كان مذهبه يعتمد على أسلوب المراوغة لنيل أكبر قدر من المكاسب.
ولذلك هم الآن يسعون بقضهم وقضيضهم لإقامة السوق الشرأوسطية -الشرق أوسطية-؛ لأنهم حين يغرقون الدول العربية ببضاعتهم هذه سيضيعون اقتصادنا نحن.
قرأت بحثاً لرجل ناصح، وهو أستاذ خبير في الزراعة، قال: إن نسبة الفشل الكلوي ارتفعت بسبب البذور التي تأتينا من إسرائيل عن طريق النمسا وسويسرا فهم يحقنون البذور بأشياء تضر التربة وتضر الآدميين، ولكن القاتل لا يعرف.
وقرأت خبراً مفاده أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لما علم أن امرأة يهودية قتلت في الضفة الغربية أصدر بياناً قال فيه: نحن نعترض، ولابد أن نثأر.
أما نحن فشعب البوسنة والهرسك يكاد يفنى، وكل الذي في جعبتنا الشجب والاستنكار.
علينا أن نأخذ العبرة من حرب رمضان، حين تجمع العرب لأول مرة ومنعوا البترول عن أوروبا مات الناس في النمسا وفي البلاد الباردة من البرد، ورأينا صورهم وهم يركبون الجحوش -جمع جحش- ويركبون الدراجات الهوائية لماذا؟ لا يوجد بترول، ولم يكن يأخذ البنزين إلا السادة الكبار.
أسباب الحياة في أيدينا لكننا حمقى! فنحن نستطيع أن نحول الحضارة الغربية إلى صفيح لو منعنا عنهم البترول، ولذلك النظام العالمي الجديد ركز على منابع النفط، ومما لا يخفى أن حرب الخليج أعدّ لها منذ نحو خمس عشرة سنة؛ وعندهم نفس طويل جداً في إعداد مثل هذه المخططات.
فأسلوب الغزو بأن يدخل على المسلمين ويحتل الأرض بالطائرات هذا كان فيما مضى، أما الآن فالمستعمر يمكث في بيته، ويضع رجلاً على رجل، ويمارس لعبة تحريك العرائس، فيحرك أعوانه كالدمى بالخيط، فهم هنا يعملون ما يريده منهم، وهو هناك يضع رجلاً على رجل!(99/4)
دور بعض من ينسب إلى الإسلام في الترويج لزيف الحضارة الغربية
كان أحد الأدباء -وقد أفضى إلى ما قدم- تربطه صداقة وطيدة بأديب آخر يكتب في عمود اسمه (مواقف في الأهرام) فكتب عن صاحبه في أحد أعمدته قائلاً: أنا رأيته في المنام في جهنم، وقال: أنت ستلحقني إن شاء الله.
ولم يستح هذا الرجل أن يكتب هذا الكلام في عمود (مواقف)! وبعد ذلك أقر وقال: فعلاً؛ لأن الأدباء لصوص وظل يشتم قليلاً.
وهذا الرجل ليس موفقاً ولا حكيماً، فعندما ذهب فرنسا سنه (1979م)، يعني الرجل كما يقال: (ما بقي في الكرم إلا الحطب) قيل له: ما الذي أعجبك في فرنسا؟ قال: أعجبني الزواج الجماعي، والزواج الجماعي يقصد به أنهم يتبادلون الزوجات فيما بينهم.
هذا هو الذي أعجبه في فرنسا؟! فنحن لا ينقل إلينا من تلك الحضارة إلا مثل هذا، فمثلاً لو أن عندنا طائرات، وحصلنا على معونة من الغرب في مجال الطيران، فإنهم يشترطون علينا مثلاً شراء قطع غيار بمبلغ عشرة مليون دولار، وهذه القطع تكون متعلقة بهيكل الطائرة الخارجي أو ما شابه ذلك، فلو قلنا: أعطونا قطع غيار خاصة بالمحرك يقول لك: المعذرة، يوجد لدينا عجز، خذ أبواباً وشبابيك، فتمتلئ المخازن عندنا بالأبواب والشبابيك لكنه لا يعطيك أسباب الحياة؛ لأنه عدوك، فكيف نسينا أنه عدونا؟ لأن عقيدة الولاء والبراء ليس لها أثر في حياتنا.(99/5)
دور الإعلام في بعض الدول الإسلامية في نشر الرذيلة بين المسلمين
أصبحت الحرب الآن فكرية إعلامية رهيبة، سئل مسئول إعلامي عن المسلسلات الفاضحة التي تدعو إلى المجون صراحة.
فرد المسئول قائلاً: التلفاز هذا أليس له مفتاح؟ فليغلقله يا أخي! فنقول له: وأنت ما عملك؟ فلماذا لا تدعني أقتل خلق الله، وأسرق البنوك، وأعمل كل شيء وأنا حر في ذلك، فلماذا تقتلني وتضعني في السجن وتشنقني؟! يقول لك: أصلاً أنت متعدٍ على القانون، وهذا ليس في مصلحة الناس.
وهل من مصلحة الناس نشر الفجور فيهم؟ وأنت رجل وضعت أميناً عليهم ومسئولاً أمام الله تبارك وتعالى، فكيف تسرب الفساد، ثم تأتي وتقول: للتلفاز مفتاح، والذي يريد أن يقفله يقفله وأنت تعلم أن الناس لا يلتزمون أهذا منطق؟! وهلاّ اعتمدت هذا المنطق في بقية المسائل، دعني أفعل ما أريد، فلماذا تحاسبني على أي خطأ آخر؟ لكن هذا مخطط رهيب لتغريب هذه الأمة، فكتب الدين والمناهج الدراسية، رفعت منها الآيات التي تسب اليهود وتلعنهم، كأنها ليست قرآناً.
جاءتني نشرة من شخص أرسلها إلي في خطبة من الخطب، وكنت أظنها سؤالاً، فإذا بها منشور من وزارة الأوقاف لفلان من مديرية الأوقاف لهذا البلد، وتطلب من هذا الرجل ألا يتكلم عن عمر بن الخطاب، وفيها ختم المدير وإمضائه، وبعث لي الورقة أقرأها، فضربت كفاً بكف عمر بن الخطاب! نعم؛ لأن عمر بن الخطاب ذكره يؤلم أناساً، فالكلام عن عمر بن الخطاب يعد مشكلة، لأنه كلام عن العدل والإيثار وهذه الأشياء مشكلة! وفي كل يوم تدفع إلينا أرحام المطابع بسموم كثيرة جداً، ولا يُمكن للدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن يصلوا إلى هذه الجماهير التي وصل إليها المفسدون فعلى الأقل لو جعلت وسائل الإعلام منبراً للجميع، وكل واحد يعرض فيها بضاعته، على سبيل العدل، فلو جاء شخص يدعو لزواج المتعة، فدعني أرد عليه، وهذا شيخ الأزهر نفسه تألم حين أرسل رداً إلى الصحف ولم يتم نشره، وهو أكبر شخصية إسلامية في البلد، فكيف يمكن أن يتم البنيان؟ فهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وأورد هنا حادثة حصلت عندنا حين عرضت وزارة الإعلام مسرحية ماجنة، قاموا فيها بالإتيان بمجسم يمثل الكعبة، وأتوا ببئر بترول تحت الكعبة، وجاءوا براقصة عارية ترقص فوق الكعبة! وهذه عرضت، وفي النهاية المخرج قال: أنا مسلم، موحد الله، حتى إني ألبس خاتم فضة.
فكأننا إذا لبسنا خواتم من فضة! يعني أننا وصلنا إلى قمة الالتزام!! فهل يفعل هذا في صورة الكعبة، التي هي البيت العتيق الذي تحن إليه أفئدة المسلمين من جميع العالم! أنت عندما تذهب إلى البيت العتيق وتدخل وتراه يقف شعرك، وجلدك يقشعر من عظمة البيت! وأنت ترى الناس وهم يطوفون حوله.
الشيء المعظم عندنا يصل به الامتهان أن يصور، ويؤتى براقصة لترقص فوق البيت؛ بدعوى أن الجماعة الذين عندهم البترول هم الراقصون وهم إلخ، ولا يستخدمون المال فيما يريد الله، فيأتي هذا المخرج لبيان هذا الواقع فيعرض البيت للمهانة! إن هذه رموز دينية، فلو جاء رجل ورسم صورة الكعبة، ووضعها على الأرض، وقال للناس: دوسوا.
فهذا يعزر؛ لأن هذه ليست مجرد صورة، بل هو رمز ديني.
لما سقطت الخلافة الإسلامية في تركيا، وفرضوا القبعة على الشعب التركي بدل العمامة -والقبعة شعار غربي- قام علماء الدين جميعاً يقاومون القبعة، فقبض على جماعة منهم، وجيء بواحد من العلماء -طبعاً حكموا عليه بالإعدام- فقال له القاضي وهو يحاكمه: ما أتفهكم يا علماء الدين! أقمتم الدنيا ولم تقعدوها لقبعة، وهي قماش، وتقولون: البسوا العمامة.
وهي قماش، فما الفرق بين القماشين؟! قال له: أيها القاضي! إنك تقضي وخلفك علم تركيا، فهل تستطيع أن تبدله بعلم أمريكا، وهذا قماش وهذا قماش؟! فألقمه حجراً وأسكته.
لأن هذا يمثل عنواناً، فكما أنك لا تستطيع أن ترفع علم بلد غير بلدك فوق رأسك وأنت تتكلم؛ لأن هذا يعتبر عندكم من الخيانة العظمى والعلم عبارة عن قماش، ثم هم يطالبونا بتحية العلم أيضاً لماذا؟ أليس العلم قماشاً؟ قال لك: لا، الذي لا يؤدي تحية هذا العلم نفصله لأن هذا رمز البلد، وشعارها، وعنوانها.
فنحن نخاطبهم بنفس الطريقة ونستخدم نفس الأصل، فنقول: هذا أيضاً عنوان، فالكعبة عنوان، فليس من الضروري أن يصعد فوق الكعبة المشرفة نفسها ويعمل هذه العملية ومع ذلك لم يحاكم المخرج بل أخذ الجوائز عن هذا العمل.
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالث وإذا تتابعت السهام، وتكسرت النصال في الجسد؛ لا يستطيع المقاومة، فلا تأخذوا دينكم لا من صحف ولا مجلات، وأخرجوا التلفاز من البيوت، فهو والله دمار، وهو من أخطر ما يكون! وأنا على استعداد لأن آتي لكم بتقرير شركة إنترناشونال -شركة يابانية منتجة لجهاز للتلفاز- وهذا نشر في مجلة البيان التي تصدر في لندن، يقول العالم الذي كتب هذا التقرير: إن الأشعة التي يرسلها التلفاز تجعل العقل نصف نائم، بحيث أنه يتلقى كل الذي يقذف إليه بلا أي مقاومة، فهذه الأشعة من خصائصها أنها تؤثر على العقل، وتجعله نصف نائم، ويقول: إن علماء الأشعة لم يستطيعوا الحد من خطورة الأشعة تحت الحمراء -التي في التلفاز الملون- وهي تصيب المدمن الذي يشاهد كثيراً بالسرطان.
وقد قرأت هذا التقرير مرة على المنبر، وقد صار لنا ثلاث سنوات نردد هذا الكلام وكأننا نحرث في الماء، ونقول: أخرجوا التلفاز، فهو حرام، ونأتي بالأدلة الشرعية على أن وجود التلفاز في البيوت حرام، ومع ذلك يرفض كلام العالم ويقال: هذا ليس خبيراً.
طيب: فالآن أتينا لكم برأي الخبراء.
وبالفعل هناك أناس رفعوا جهاز التلفاز لما لوحت بهذا التقرير على المنبر، فقفز إلى ذهني قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، فحين نسمع كلام (الخواجة) نسلم له لأن (الخواجة) يفهم، والخواجة دقيق في أحكامه ودراساته، لكن كلام الشيخ لا.
لماذا؟!! بل العالم هو أنصح الناس للناس، لاسيما إذا كان من بني جلدتك إذا كان مسلماً مثلك، هو يأخذ بيدك إلى الله تبارك وتعالى.
المشكلة حتى في عرضهم للمادة الإعلامية، عرض خبيث جداً.
طيب! مدرسة المشاغبين، عندما نشروها، ألم يزدد الشغب في المدارس؟ فما الذي استفدناه؟ يقول لك: لكي نبين أن الحق ينتصر في النهاية؟ ليتها ما زنت ولا تصدقت، كانت امرأة دائماً تزني لماذا يا امرأة؟ قالت: أريد أن أبني مسجداً هذا لا يصلح.
إنهم في وسائل الإعلام يعرضون الشر بالتفصيل الممل، يعني مثلاً: إذا عرض الشر في ثلاثين حلقة، بأن يعرض الممثل مبيناً كيف يضرب، وكيف يكسر القفل، وكيف يسرق، وكيف يعمل، وبعد ذلك لم يستطع أن يكسر القفل، فقام وقعد يخترع مفتاحاً ووسيلة لكسر القفل، ويستغرق خمس أو ست حلقات في هذا العمل، وأخيراً يفتحه، ثم إذا به عندما قبضت عليه الشرطة وأدخل السجن، يقول: يا ليتني ما أقدمت على هذا العمل، وينتهي المسلسل على هذا.
فهلا جُعلت أيضاً ثلاثون حلقة تصوره وهو يتجرع المر؛ لكي يحصل نوع من التصور، فاعتقاد الشيء فرعٌ عن تصوره، فحين تريد أن تنفر إنساناً من شيء تأتي له بتفاصيل هذا الشيء.
فأنت مثلاً حين تصور حاله بعد دخول السجن وقد تشرد عياله، وهو لا يستطيع النوم، ويظل يتقلب على فراشه يجافيه النوم، ويظهر عليه الندم على ما اقترفت يداه، فعند ذلك يحصل تصور لدى المشاهد.
لكن أتيت له بتصور مفصل للجريمة، ولما جاء الإصلاح قمت واختزلته في مشهد وأنهيت المسلسل، فهذا هو الذي يحصل، فهل هذا عرض يرجى به نصيحة؟ وأنا دائماً أقول: لابد من اقتران التربية بالتعليم، لأي مصلحة أعمل لافتة طويلة عريضة، أظهر فيها صورة علج على حصان، وبيده علبة سجائر (مالبورو) وأكتب بخط يرى بالميكروسكوب: التدخين مضر جداً بالصحة، هلا كتبت ذلك على رأس هذا العلج، لكي أراه أنا أيضاً.
ولماذا هذه القسمة الضيزى، فأنت تعلم أن هذه العبارة الصغيرة هي في صالح الناس، فلماذا تكتبه بهذا الحجم الذي لا يرى؟!! وهذا يذكرني بقصة رجل وجد عنزاً، فذهب إلى الشيخ وقال: يا شيخ! أنا وجدت عنزاً.
قال له: لابد أن تعرفها سنة.
قال: وكيف أعرفها؟ قال: تطوف في الشوارع وتقول: من الذي ضاعت عليه عنزاً؛ فكان يمشي في الشارع ويقول: من الذي ضاعت عليه عنز بصوت خفيف جداً -أي: أنه يرفع صوته بالكلام ثم يخفضه إذا جاء عند ذكر العنز- فماذا استفاد الناس من صراخ هذا الذي ينادي؟ لم يستفيدوا شيئاً.
فكذلك عندما يأتي من يقول: التدخين مضر جداً بالصحة، لا تدخن، فهل هذا مؤتمن عليَّ؟ والأساتذة في كلية الطب والمجامع العلمية الطبية تعقد المؤتمرات في كل مكان، وتعرض في شتى وسائل الإعلام خطورة هذا التدخين.
إذاً: أنا مثلما أقاوم المخدرات، والهيروين، أقاوم التدخين وما الفرق؟ بعدما ثبت طبياً عند الكفرة -ودعك منا؛ حتى لا نكون متطرفين- أن هذا مضر جداً بالصحة.
وإذا كان الناس لا يعرفون مصلحتهم فلماذا لا أضرب على أيديهم؟ وإلا فلم أتأمر عليهم؟ فيحق لي أن أضرب على يد المخطئ كي لا يضر نفسه؛ لأنني أدرى بمصلحته.
فنحن أمام مخطط رهيب، يجب التفطن له، ويجب الركون إلى علماء الدين الأعلام، لا تأخذوا دينكم من الصحف والمجلات، ولا ممن لا تثقون بدينه، الذين يتقلبون كل يوم كالحرباء، إنما خذوا دينكم من أهل العلم، وهم كثر والحمد لله، فإن الله لم يخل العصر من قائم له بالحجة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(99/6)
قل إن كنتم تحبون الله
للمحبة علامات كثيرة تدل على صدق المحب؛ منها: تفريغ القلب للمحبوب، فلا يشرك أحداً في حبه، وإنما يفرغ قلبه لمحبوبه الذي أحبه، كما أنه لا يصرف تفكره إلا في هذا الحبيب، ومنها أيضاً: البذل للمحبوب وطاعته والانصياع لأمره، فالإنسان إذا أحب فإنه يبذل كل ما يستطيع من أجل أن يرضي من أحبه فإن لم تتوفر هذه الصفات كان ذلك الحب ادعاء لا يقوم على دليل.(100/1)
علامات المحبة
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(100/2)
طاعة المحبوب
من علامات الحب -وهو فرع أيضاً على الأصل الأصيل الذي بدأنا به- ألا يزاحم أحدٌ محبوبك في قلبك، وأن تنفعل له حتى ولو كان بضد رغبتك، ولذا يكثر عجبي من الذين يظهرون الالتزام فإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
أيها المخالف الذي يظهر عليك سمت الالتزام! ألا تعظم نظر الله إليك حال المخالفة، ثم تدعي أنك لا تستطيع أن تترك هذه العادة السيئة ولا أن تترك معصيتك وتقول: كلما أردت أن أتركها أعجز عن تكرها، فنقول لك: ذلك لفتور المحبة، فإنك إذا كنت تحب الشيء وسيدك يغضب ولا يحب ذلك، فأيهما تقدم -أيها العاقل- إذا كان في يد سيدك حياتك وموتك، وشقاؤك وتعاستك، أيهما تقدم؟ تقدم أمر سيدك أم شهوة نفسك؟ كيف هان عليك أن تعلم أن سيدك ينظر إليك وأنت تعصيه، ثم هو يحلم عنك ويمهلك، فتزداد اغتراراً بالمعصية واجتراراً لها، لا والله ما هذا بالنَّصَف، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
إن من علامات الحب أن تطيع من تحب ولو كنت كارهاً، ولو كان على خلاف هواك، وهذا شأن كل محب صادق لا يمكن أن يعصي محبوبه، ألم تر إلى قول الشاعر: يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زورِ ويوهمنيك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني من سرورك في سرورِ فإنه يلتذ بكل ما يرضي المحبوب ولو كان غير مرضي لدى المحب.
وكما قال المتنبي: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم إذا كان قول حاسدي أرضاك مع أنه قد جرحني فليس لجرحي ألم إذا كان يرضيك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).
وقال آخر: ولئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك مجرد ما أخطر ببالك حتى ولو فكرت أن تؤذيني، فأنا أشكرك أنني خطرت ببالك! ولو كنت ستلحق بي الأذى، هكذا يقول المحبون بعضهم لبعض.
هذا كله من علامات الحب، فإذا نقلنا ذلك إلى المحبوب الحق وهو الله تبارك وتعالى فلا يحل لنا -أيها الإخوة الكرام- أن نمشي بهذا التفلت ونحن كل يوم نقدم على الله عز وجل.
أحياناً أتعجب -حتى يصيبني الدوار- من الذين يحتفلون بأعياد ميلادهم، والله هذا شيء عجيب! كلما مر من عمرك عام تحتفل أنك تقترب من مصرعك؟! هل رأيت عاقلاً يفعلها؟!! كلما اقترب من حبل المشنقة يحتفل!! لكن قاتل الله عز وجل الانحلال وقاتل تباع أهل الكفر، فهم الذين نقلوا إلينا ذلك، فالاحتفال بأعياد الميلاد إنما هو شعار الكافرين الذين لا يؤمنون بآخرة ولا بعث، فانظر كيف انتقل ذلك إلينا حتى صار عرفاً بيننا ولا ينكره أحد، بل بعض الذين منَّ الله عليهم بالالتزام في أشياء كثيرة لا يزالون يحتفلون بأعياد الميلاد، ويرددون نفس الأغنيات بنفس اللغة الأجنبية، أهؤلاء محبون لله تعالى حقاً، وكيف يجتمع حبهم المزعوم لله تعالى مع معاصيه وما يغضبه ويأباه؟!! كل يوم يمر فهو صفحة عظيمة تطوى من كتاب نهايته الموت، وكل لحظة تمر تدنيك من مصرعك شبراً فشبراً، فهل عملت لهذا المصرع؟ قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون عاماً، فقال له الفضيل: أنت منذ ستين عاماً وأنت سائر إلى الله، فانزعج الرجل وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وما العمل، وقد فَرَطَ منه تقصير؟ قال: أحسن فيما يأتي يغفر لك ما قد مضى.
فإذاً العبرة بالخواتيم، ولا شك أن معرفة ذلك واستشعاره يبعث على دوام المراقبة ورجاء حسن الخاتمة والخوف من سوئها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة.
فيا أيها العاصي! الذي قطعت عمرك في العصيان، أقبل على الله عز وجل، لن تجد أرحم منه، لا والداً ولا والدةً، إذا قلت له: (وعجلت إليك رب لترضى)، غفر لك وقبلك إنه هو الغفور الودود.(100/3)
حب ما يحب المحبوب وبغض ما يبغضه
من علامات الحب أيضاً: أن تنفعل لمحبوبك حتى تأتمر من غير أمر وتنتهي من غير نهي، ولكن بشرط وهو: أن تلاحظ تصرف محبوبك فما كان يأتيه ويحبه فقد صار أمراً من غير أمر، وما كان يكرهه ويعافه ويجافيه فأنت كذلك تكرهه وتأباه ولو لم ينهك عن ذلك، هذا الذي قصدته، فإذا رأيت محبوبك يقبل على شيء ما، ولكنه لم يأمرك ولم يقل لك: افعل كذا، فمجرد إقباله على هذا الشيء تعتبره أمراً في حقك وإن لم يأمرك حبيبك، كما في الحديث الصحيح: أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء ويتتبعه) الدباء هو: القرع، وهو غير الكوسة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، وكان يتتبع القطعة في الطبق ويأخذها.
قال أنس بن مالك: (رأيته صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء فلا أزال أحبه) مع أنه لم يقل له: يا أنس كل الدباء، لكن رآه محباً لأكله فانفعل له، وهذا يشبه تصرف الأم عندما ترى ابنها يأكل القطعة ثم تأخذها وتمضغها له بفمها مع أن الأب لا يعمل هذا الشيء؛ لأن النفس تعافه.
ما الذي هون على الأم مثل هذا المضغ؟ حبها للولد، وذلك بسبب طول الملازمة، وأسباب أخرى كثيرة، منها: الحمل، والرضاع، ومنها ما فطر الله عز وجل الأم على محبة الولد فالأم تسهر طوال الليل وبالذات حال فطامها له، وقد يستمر ذلك ثلاثة أو أربعة أيام، مع أنها طوال النهار تهتم بأمور المنزل، فيأتي الليل وهي مرهقة جداً، ومع ذلك تصبر ولا تتضجر، والأب قد يأتي من العمل وهو متعب ومرهق، فعندما يدخل البيت ويسمع صراخ الطفل يغضب وقد لا يحتمل فيضرب الطفل من أجل أن يسكته.
هذا هو الفرق، فالأم تفعل ذلك لشدة محبتها للولد، وإذا مات الابن تكون فجيعة الأم بالولد أضعاف فجيعة الأب بسبب شدة الحب، فالإنسان المحب حياته كلها لمحبوبه، فيظل يفكر فيه، ويبحث عن الأشياء التي يحبها، ويقوم بها، ويتمنى لو أنه يتكلم معه الساعات الطويلة، وإذا أرسل رسالة فيظل يقرؤها طوال الليل والنهار، ويكون قد قرأها ستمائة مرة، ومع ذلك لا يزال يقرأ، وكل مرة يحس أنه أول مرة يقرأها؛ لأن كل مرة فيها جرعة شوق لم تكن في المرة الأولى، فجرعة الشوق هذه هي التي تأتي بطعم للكلام.
لماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: (اقرأ عليَّ القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) لأن القرآن كلما تعطيه عقلك، يعطيك جديداً، لا ترجع أبداً بغير فائدة.
سأذكر مثالاً، ولكن لن أتوسع فيه كثيراً وإنما سأذكر بعض ما يتعلق به، ومن أراد أن يتوسع فليبحث في كتب التفسير عن هذه النكتة اللطيفة، قال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95] لماذا قال (مطمئنين)؟ مع أن السياق -في الظاهر- ينفع بدونها؛ لأنه ذكر في الآية التي قبلها أنهم اعترضوا فقالوا: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:94] بشراً مثلنا؟! استنكار، وقالوا: نحن نريد رسولاً من نوع مختلف لا يكون مثلنا، لا يمشي في الأسواق ولا يأكل المطعومات وغيرها.
ولو أنهم أُرسل إليهم ملك لقالوا: هذا ليس من جنسنا ونحن نريد أن يُبعث لنا رسولٌ من جنسنا، ليس هذا هو معنى الآية، وإنما معنى الآية أنه: لو أن الأرض عليها ملائكة لن أنزل بشراً، بل سأنزل واحداً من جنسهم، فأنت كلما تعطي القرآن قلبك وعقلك أعطاك أشياء جديدة، وهكذا في خطاب المحبوب، كلما تقرأه مرة جديدة وتعطيه قلبك مرة بعد مرة يعطيك أشياء جديدة، وهذه هي علاقة التفاعل بين المحب والمحبوب، علاقة إخاء وود، لا يمكن أن يكون العطاء من جانب واحد، فيظل المحب يعطي والمحبوب يبخل عليه، لا يريد أن يعطيه شيئاً، والمحب قد تفتر محبته، فلكي تبقي من تحب لا تثقل عليه، فكما أنه يعطيك، فلابد أن تعطيه.
وينبغي أن يكون المحب ذكياً لأنه إذا كان محباً فعلاً يبقى هو ومحبوبه على طريقة واحدة، فلا يكون هناك تغاير، ولو نظرت عين المحب إلى المحبوب أو المحبوب إلى المحب عرف أن فيها كلاماً، لكن الغباء أكثر ما يضيع المحبة، فممكن لأي أحد أن يعبر عن طريقة حبه بلمسة، أو بكلمة، والمفروض أن يكون ثمة تجاوب بين المحب والمحبوب ولا يشترط أن يكون كل واحد نسخة من الآخر بل كلٌ يعبر بطريقته، لكن الشيء الملحوظ المشترك هذا التفاعل.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) يعني: أنت أولى أن تلتذ به وأولى أن تفهمه إذا قرأته فأنت أولى به مني إذ أنه نزل عليك، فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ من أول النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] قال: حسبك، قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) إذاً من علامات الحب: الانفعال.
فأنت كل حياتك لمحبوبك وهو محور حياتك، أفنيت عمرك فيه وفي ملاحظته؛ حتى إذا تبسم وضحك تعرف فمه كيف يبتسم وعيناه كيف تلمعان، كل شيء عندك محفوظ بسبب شدة عنايتك به، فـ أنس بن مالك رآه يتتبع الدباء فأحب الدباء، حتى صار أحسن أكل بالنسبة له، مع أنه لم يؤمر، لكن هذا تصرف المحب، وينتهي وإن لم ينهه، مثل الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وكانت دار أبي أيوب الأنصاري تتألف من طابقين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكن في الطابق الأرضي فقال له أبو أيوب: (اصعد إلى فوق يا رسول الله! فقال: السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي، فصعد أبو أيوب إلى فوق فقال: بينما أنا بالليل إذ انتبهت وقلت: أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟) يعني: رجلاي فوق رأسه، وهذا الحديث رواه مسلم وغيره، وأنا أسوق القصة من الألفاظ المجتمعة، يعني: لا أذكر خصوص لفظ مسلم رحمه الله.
قال: فقلت: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟ قال: وانكسر لنا حب -الحب هو الزير- قال: فجففته بلحافي أنا وامرأتي، والله ما لنا غيره، فخشيت أن ينزل الماء على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، اجتمع هو وامرأته في ركن، فلما أصبحا نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبداً، اصعد إلى فوق، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكنت أرسل إليه الطعام ولا آكل أنا وامرأتي إلا إذا رجع الطعام إلينا، فنتتبع مواضع يده وفمه فنأكل منها ونشرب، قال: فأرسلت إليه ذات يوم ثوماً -أو قال بصلاً- فلم يأكل منه ففزعت وصعدت إليه وقلت: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا.
ولكني أناجي من لا تناجي، وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) يقصد جبريل عليه السلام، لما يأتي يناجيه بالوحي فيشم رائحة البصل فيتأذى.
فانظر إلى حقوق الصحبة، فإنه لا يريد أن يؤذي صاحبه الذي يأتيه بالوحي، قال: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فقال أبو أيوب -ذاك المحب-: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) لم يقل له: حرام، أو لم يقل له: لا تأكل، بل أجاب إجابة صريحة واضحة: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فانتهى بغير نهي منه.
هي هذه علامة المحب، علامة المحب أن يراقب أحوال محبوبه فإذا رأى محبوبه يأتي الفعل مراراً وتكراراً فعله، مثل عبد الله بن عمر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي ولا يركب، فكان عبد الله بن عمر كل سبت يخرج من بيته إلى مسجد قباء ماشياً.
بل وصل أمر هذا الصحابي الجليل إلى أبعد من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبروه أن النساء يصلين معه ويحضرن المسجد، فكان هناك بابان للمسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) قال سالم أو نافع: فما دخل منه عبد الله بن عمر إلى أن مات، والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال: لا تدخلوا من الباب، إنما قال: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) فما دخل منه عبد الله إلى أن مات عبد الله، فهل مثل عبد الله يمكن أن يخالف أي مخالفة دقت أو جلت؟!! لا يمكن ذلك أبداً.
وكان عبد الله بن عمر يتتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيها، وكان أبوه على خلاف مذهبه، فـ عبد الله بن عمر كان رائده الحب، وعمر بن الخطاب كان رائده المصلحة وسد ذريعة الشرك، كان عمر بن الخطاب مرة يمشي فرأى رجالاً يتدافعون تحت شجرة فقال: ما بال هؤلاء يتدافعون؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تحتها، فنهاهم عن ذلك وفرقهم وقال: صلوا أينما كنتم، فقد جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم تتبعهم لآثار أنبيائهم.
هذا هو رأي عمر، ولو كان لوحده لساغ له أن يفعل فعلهم، لكن بما أنه في باب الأسوة لا يسوغ له إلا أن يفعل ما يصلح الرعية حتى ولو كان بخلاف مراده، مثل العلماء، فبعض العلماء يفتون بأشياء فإذا خلوا بأنفسهم خالفوا بعض ما يفتون به من باب الورع.
مثل ما يعزى لـ أبي حنيفة رحمه الله عندما أخبره رجل أن شاته قد سرقت، فذهب إلى قصاب وقال له: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: عشر سنين.
فحرم على نفسه لحوم الشياة عشر سنين؛ لأنه ربما يكون السارق باعها لجزار فيشتري منه فيكون بذلك قد أكل حراماً.
ولو جاءه رجل فسأله: هل يجوز أن أشتري لحماً وأنا لا أعلم هل هو ذلك المسروق أم لا؟ فسيكون جوابه: نعم.(100/4)
تفريغ القلب للمحبوب
اعلم -أيها المسترشد- أن أهم علامات الحب: ألا يزاحم محبوبك أحد في قلبك؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد، فإذا شغلته بغير محبوبك لم تكن محباً، وإذا قسمته بين محبوبك وغيره نقصت المحبة وكانت الدعوى أعرض مما بين المشرقين؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:1 - 4] فأبان بهذه الآيات أن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة، وأنه كلما أخلصت هذه الجهة لمحبوبك كانت المحبة أتم ونلت الرضا، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، والتقوى هي جماع كل خير، ولا تتم التقوى إلا باتباع الوحي أمراً ونهياً، ثم لا يتم كل ذلك إلا باعتماد القلب على الله وهو حقيقة التوكل {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]؛ لأن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة.
فإن قلت: كيف يتم ذلك وقد (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه من النساء؟ فقال: عائشة، فقيل: من الرجال؟ قال: أبوها) فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب، ولابد أن يكون للمحبة شيء في القلب.
نقول: لا تنافي؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وأبي بكر فرع عن محبة الله عز وجل لهما، فإذا أحب غير الله عز وجل إنما أحبه لحب الله إياه، فهو في النهاية لا ينفعل إلا لحب الله عز وجل، فإذا كان القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة فحافظ عليه، ولابد أن تغار أن يملأ هذا القلب غير محبوبك.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ليبين لهم فداحة الشرك وعظم الجرم الذي يقترفونه في حق أنفسهم قال: (أيها الناس! أيكم يرضى أن يكون له عبد يعمل فيؤدي إلى غير سيده؟) أيكم يرضى هذه الصورة: أن يكون لك عبد يعمل بالأجرة، فإذا كان آخر النهار أخذ الأجرة وأعطاها لغيرك، أهذا عدل بار؟! هل أحد منكم يطيق هذا العبد؟! فإذا كنا جميعاً نجيب: لا أحد يطيق هذا العبد، فكيف صرف الناس العبادة إلى غير الله عز وجل؟!! يأكلون من خيره ومن نعمائه، وكل شيء في حياتهم هو المتفضل عليهم به، ومع ذلك يصرفون العبادة إلى غير الله عز وجل، فكيف لم ترضوا لأنفسكم ما رضيتموه لله عز وجل؟!! هذا من علامات الشقاواة والتعاسة كما قال حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور بـ أبي تمام يقول: ومن الشقاوة أن تحب ومن تحب يحب غيرك أو أن تسير لوصل من لا يشتهي في الوصل سيرك أو أن تريد الخير بالـ إنسان وهو يريد ضيرك سيَّان إن أوليته خيراً وإن أمسكت خيرك فهذا من علامات الشقاء: أن الذي صرفت له مهجة قلبك منصرف عنك، يحب غيرك، ويعطيه الولاء.
هذا من أعظم علامات الشقاء، فلذلك كان أعظم سمات المحبة أن تفرغ قلبك لمحبوبك، وليس هناك أحد قط -لا ملك مقرب ولا نبي مرسل- يستحق المحبة لذاته إلا الله عز وجل، هو الذي يستحق المحبة لذاته ولا يستحقها أحد، فإذا أحببنا الأنبياء والرسل إنما أحببناهم؛ لأنهم دلونا على الله عز وجل، فمحبتنا للرسل فرع عن محبتنا لله عز وجل.(100/5)
البذل للمحبوب
ومن علامات محبتك: بذلك لمحبوبك، وهذا فرع من العلامة الكبرى التي بدأنا الكلام عنها.
واعلم أن الحب بذل وعطاء وليس أخذاً، كل الناس يأخذ والأخذ أسهل ما يكون، إنما الحب عطاء وبذل، ألم تسمع إلى الله عز وجل وهو يعلم الصحابة فيقول لهم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] هذا هو الحب، فمن هان عليه أن يبذل نفسه في الله هان عليه أن يبذل ماله من باب أولى، ولذلك لم يتقدم أحد أبا بكر في هذا الحب، كان يكثر أن يقول: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) أي: أفديك بأبي وأمي، ومن باب أولى (أفديك بنفسي).
وكما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: (إن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، قال أبو سعيد: فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قال: فعجبنا من هذا الشيء) ما الذي يبكيه؟!! والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال شيئاً سوى: (أن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده،) قال أبو سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر.
ولما غضبت فاطمة رضي الله عنها منه؛ لأنه لم يعطها شيئاً من ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، فالتقيا مرة فقالت: يا أبا بكر! أتصل قرابتك ويرثونك ولا يرث محمداً أهله؟ فقال لها: والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أن أصل قرابتي.
ولما جاء والد أبي بكر مسلماً يوم الفتح وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بكى أبو بكر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا أبا بكر؟! قال: والله لأن تكون هذه يد عمك أحب إليَّ من أن تكون يد أبي) لأن يكون عمك أسلم وتقر عينك أحب إليَّ من أن يكون أبي هو الذي أسلم.
هذا هو الحب، لم يتقدمه أحد على الإطلاق، ولذلك استحق هذه الشهادة: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، واستحق أيضاً هذه الشهادة: (ما منكم من أحدٍ له عليَّ يدٌ إلا وفيته بها غير أبي بكر فله عليَّ يد يجزيه الله بها)، واستحق أيضاً شهادات أخرى؛ منها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الصحابة إلى بذل أموالهم لله عز وجل -وكان أبو بكر سبَّاقاً لا يُلحق غبار جواد جوده في الله عز وجل- فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فذهب إلى بيته وأحضر مالاً عظيماً وجاء ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك يا عمر؟! قال: تركت مثله، وجاء أبو بكر ومعه مال عظيم فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فأتى بماله كله، فقال عمر: لا جرم، لا أسابقك بعد اليوم أبداً) ألم أقل لكم: لا يُلحق غبار جواد جوده في الله فضلاً عن أن يُلحق هو؟ وإنما كان ذلك بتمام المحبة.
الذي يبذل نفسه لله عز وجل لا يستصعب أن يبذل ماله وما دون ذلك، ولذلك قال صرمة بن قيس وهو يترجم شعور الصحابة وموقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثوى في قريش بضع عشرة حجةً يذّكر لو يلقى حبيباً مواسيا ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم يرَ داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيا وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم بعيد ولا يخشى من الناس عاديا بذلنا له الأموال من حِلِّ مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقد سمعت من المقداد بن الأسود كلمات لأن أكون أنا الذي قلتها أحب إليَّ من حمر النعم، سمعت المقداد بن الأسود يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لو خضت بنا هذا البحر خضناه معك، والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] قال: فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُرَّ بما قال) يقول ابن مسعود: لأن أكون أنا الذي قلت؛ لأن الرسول سُرَّ بذلك، وهكذا كانوا يتسابقون في رضاه.
البذل -أيها الإخوة الكرام- يكون على ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى: أن يبذل كارهاً بمشقة، وهذا يكون في ابتداء الأمر قبل استحكام المحبة.
المرحلة الثانية: إذا تخللت المحبة شغاف قلبه بذل راضياً طائعاً.
المرحلة الثالثة: إذا استحكمت المحبة أكثر بذل سؤالاً وتضرعاً.
تأمل هذه المراحل، يبذل بمشقة، ثم يبذل راضياً طائعاً، ثم يبذل سائلاً متضرعاً، هو الذي يسأل أن يبذل، فإذا قبلت بذله شكرك؛ لأنك قبلت بذله، كما كان بعض السلف يفعل: يخرج بصدقته فإذا وافى فقيراً أو مسكيناً مستحقاً وأعطاه الزكاة فقبلها المسكين صافحه وشكره، فيتعجب المسكين ويقول: أنا أولى أن أشكرك، فيقول له: لا.
بل أنا أولى أن أشكرك! لأنك الذي سقت الأجر إليَّ بقبولك الصدقة.
فيعطي المال ويشكر الآخذ؛ لأنه هو الذي أتاح له القربى والزلفى من الله عز وجل، أتظن أن الذي يبذل ماله سؤالاً وتضرعاً يبذله رياءً وسمعة؟!! لا.
لا يبذله رياءً وسمعة، وكذلك كان الصحابة يبذلون لله عز وجل مهجهم سؤالاً وتضرعاً.
في غزوة أحد جاء عمرو بن الجموح وكان رجلاً أعرج، شديد العرج، وقد أسقط الله عز وجل عنه فريضة الجهاد هو والأعمى والمريض فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] فجاء هذا الأعرج شديد العرج يشكو أبناءه، فهل يشكو من العقوق أو أنهم ضربوه أو أنهم حبسوا أموالهم عنه؟ هذا لم يكن يخطر لأبناء الصحابة على بال، أما الآن فإنك تجد أماً مات زوجها وتعبت على تربية ابنيها وأتعبت نفسها لأجلهما، وبعد أن بلغ أحدهما خمسة وعشرين سنة يقول للآخر: هيا نضرب أمنا ضرباً شديداً، فيأخذ كل منهما عصاً ويضربون أمهم، هل رأيت هذا في العالمين؟!! أو خطر ببالك في باب العقوق أن يستلذ ولد بضرب أمه؟!! إننا لا نبرئ الآباء من هذه المحن؛ لأنهم السبب في ذلك، وقلت لكم: إن محنة إهمال الأولاد مؤجلة، ولا يظهر هذا إلا بعد أن يستوي عود الولد.
جاء عمرو بن الجموح يشكو أبناءه؛ لأنهم يمنعونه من الجهاد ويقولون: يا أبانا! إن الله عز وجل قد وضع عنك الجهاد، ونحن ستة من أبنائك نقاتل في سبيل الله دونك ألا تقر عينك؟! فيقول لهم: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فلا تحولوا بيني وبينها، ويبكي ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكياً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه شهادة) وتدور رحى الحرب ويكون عمرو في أوائل من قتل، وهذا شيء طبيعي، فهو لا يحسن الكر ولا الفر، ولو أراد ذلك ما استطاع لعرجته، فلما جاء موعد الدفن، وكان يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، وهكذا يُعِز القرآن أهله في الدنيا والآخرة حتى عند الدفن، إذا دفن ميتان في قبر واحد فالسنة أن يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، لا يتقدم صاحبَ القرآن العامل به، الواقف على حدود الله عز وجل، المعظم لكلمات الله تبارك وتعالى أحدٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلما جاء موعد الدفن كان للمحبة شأن في الدفن، فقال صلى الله عليه وسلم: (ادفنوا عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد -لماذا؟ - قال: ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد) حتى الحب يُستصحب ويراعى دفن الميت، مع من كان يحب في الدنيا.
وهكذا يفرق الله عز وجل بدينه بين الناس في الدنيا والآخرة، فلا يجمع بين كافر ومؤمن في الدنيا والآخرة، لا في بيت ولا في مال ولا في قبر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين)، وقال: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) فلو أن رجلاً يسب دين الله عز وجل ثم مات على ذلك ولم يتب، فهذا كافر، ولو كان له مليارات وأبناؤه فقراء لا يحل لهم أن يأخذوا درهماً واحداً من هذا المال؛ لأنه لا يسوغ لك أن تباينه في الدنيا، ثم تأخذ ماله بعدما مات، إن صدق المحبة يستلزم أن تتبرأ من كل شيء هو فيه، ولا تجري وراء مصلحتك ولا تجري وراء ما يفيدك.
كم أوذي المؤمنون من الكافرين في الدنيا بسبب إيمانهم ومع ذلك لم يتركوا الإيمان، فلو ساغ للمؤمنين أن يتزلفوا إلى الكافرين أو ينتفعوا من ورائهم بشيء لهادنوهم؛ حتى يعيشوا وحتى لا يخرجوا من ديارهم وأموالهم، فلذلك قال لك: لا تأخذ المال؛ لأن هذا برهان وعلامة صدق الحب.
من علامات صدق الحب: أن تكره كل شيء من الكافر ولو كان يسرك أو ينفعك، هذه من علامات صدق المحبة.
وكذلك البذل لله عز وجل لا يجوز تلطيخه بشيء من الدنيا، وبذلك يظهر لك لماذا أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إلا أن يدفع له ثمن الراحلة، كما في صحيح البخاري: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر وأعلم أبا بكر أنه سيؤذن له في الهجرة اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يعلفهما انتظاراً لذلك اليوم، فلما أذن الله عز وجل لنبيه بالهجرة وجاء النب(100/6)
الغيرة وأقسامها
لا بد أن نراقب علامات المحبة؛ لأن أكثر أهل الأرض يدعون من المحبة والكمالات ما ليس لهم، وعلامات المحبة كثيرة، منها -مثلاً- أن تلتذ بهجر الناس واللياذ بمحبوبك، وتحب دائماً العزلة، والأنس بمحبوبك.
وابن القيم رحمه الله يقول: سمعت بعض أصحابي -وأظنه: تقي الدين ابن شقير أو غيره- قال: رأيت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية خارجاً وحده فتبعته إلى بعض الخلوات، فلما وصل إلى خلوة أنشد بيتاً من الشعر فقال: وأحدث نفسي بسيرتك لعلي أخلص بالسر خالياً المحب لا يحب أن يشاركه أحد في حبيبه، فهو يتمنى أن ينفرد ويخلو به لكي يستطيع أن يناجيه، وإذا رأى الناس مجتمعين حول حبيبيه فإنه يكرههم ويمقتهم.
ولذلك نحن قلنا في الجمعة الماضية: إن من علامات الحب: الغيرة على المحبوب، والغيرة: أن يريد المحب أن يتفرد بمحبوبه ويكره أن يشاركه أحد فيه، ونحن إذ تكلمنا على الغيرة فاتنا أن نقول في الجمعة الماضية تتمة للغيرة المحمودة والغيرة المذمومة: كل من يغار قد يغار غيرة محمودة، وقد يغار غيرة مذمومة، فالغيرة المحمودة: أن تخاف على محبوبك أن يتغير عليك، وأن تغار عليه أن يُسب وأن يُشتم وأن تُنتهك حرماته، هذه الغيرة المحمودة التي نحن تكلمنا عليها سابقاً.
أما الغيرة المذمومة فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: (إن من الغيرة غيرة يكرهها الله، وهي غيرة الرجل على أهله في غير ريبة) وثمة مشاكل كثيرة تصلني منها: أنه اتصلت بي امرأة وقالت إن زوجها يقفل عليها الباب بالقفل، افترض حصل حريق ماذا تعمل المرأة، هل تقفز من سابع دور؟ وهناك شخص قد عمل لكل شباك قفلاً؟ لكي لا ترى!! الله عز وجل يكره هذا، وإذا دخل غرفته ورأى أن السرير غير مرتب قال: من الذي كان قاعداً هنا؟ فإذا كنتَ محباً لله عز وجل فينبغي أن تكره الذي يكره، فإذا علمت أنه يكره هذا لا يحل لك أن تأتيه، ولو كنت ترغب فيه.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن الحبيب لمن يحب مطيع أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(100/7)
نفي الأسباب وإثباتها
إن من أعظم ما ابتليت به الأمة في عقيدتها فكرتان: الأولى: التعلق بالأسباب وما يقابله من ترك العمل بها.
والثانية: الاحتجاج بالقدر في فعل العباد للمعاصي والذنوب.
وقد بيّن الله ورسوله هذه الأمور في الكتاب والسنة، وتضمن البيان التحذير من الانزلاق في مثل هذه العقائد الباطلة والأفكار الهدامة للدين، وقد عقل سلف الأمة هذا التحذير، حتى قال بعضهم: ومن ذلك المقولة المشهورة بينهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع).(101/1)
الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد اشتهر عند علماء السلف قولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، وإنما ردوا بهذه المقالة على الذين غلوا في الأسباب وجفوا عنها، فقولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) بمعنى: أن العبد إذا التفت إلى السبب عن المسبب؛ فقد أشرك بالله عز وجل، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو قال الرجل: لولا الكلب لسرق اللص الدار لكان مشركاً.
والعبرة هنا بما يكنه قلبه، وإلا لو قال الرجل هذه المقالة، وهو يعني اختصار القول فقط، كأن يقول كما يقول علماء الأرصاد: تأتي الرياح الشرقية فتدفع السحب، فتسقط الأمطار، إذا عنى أن الرياح الشرقية والغربية هي التي ساقت الأمطار من نفسها، وأن الأمطار نزلت، فهذا هو الشرك بالله، أما إذا اختصر العبارة فقط، فقال: إن ذلك بفضل الله تبارك وتعالى وبقدرته، فهذا لا بأس به، كما قال عز وجل: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله؛ فهذا مؤمن بي، كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فهذا كافر بي، مؤمن بالكوكب).
فكثير من العباد افتتن بالأسباب، لاسيما إذا جاء السبب كاملاً، فهو يتصور أنه لابد أن يجني الثمرة طالما كان السبب كاملاً، فرد الله عز وجل هذا الاعتقاد بقصة مريم عليها السلام وهي قصة عجيبة مدهشة.
(كانت مريم عليها السلام قوية فتية في غاية صحتها، وكان يأتيها رزقها بغير أن تعمل، كما قال تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، وهي قادرة على الاكتساب، فلما ولدت ونفست وأصبحت في أضعف حالاتها -ومعروف أن المرأة بعد ما تلد تكون قد استنفدت كل قواها- قال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]، فتصور امرأة نفساء ماذا تفعل بنخلة؟ بل لو جاء مائة رجل من الأشداء فهزوا النخلة ما أسقطوا تمرة واحدة منها، فكيف قال لها ذلك؟! وقد أبان الشاعر المجيد عن هذا المعنى بقوله: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزقٍ سبب أراد الله عز وجل أن ينبهنا في الحالة الأولى أن الأسباب قد تكتمل على وجهها ومع ذلك لا تؤتي الثمرة، ومثل ذلك أنك ترى هذا في رجل صحيح (100%)، وامرأته صحيحة (100%)، ومع ذلك لا ينجبان، ويضع الطب تقريره أنه لا مانع إطلاقاً لا عند الرجل ولا عند المرأة، ومع ذلك يظل الرجل محروماً من الإنجاب مع اكتمال السبب.
والله عز وجل يريد أن يعلمنا أنه لا ينبغي الافتتان بالسبب إذا جاء على كماله، ويريد أن يعلمنا أيضاً أن لا نلتفت عن السبب لقول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، حتى لا يفهم بعض الناس أننا ننفي تأثير الأسباب، فالمعتزلة يقولون: إن السبب لا قيمة له، ولذلك ولج من هذا الباب كثير من العاطلين الذين قالوا: إذا كان الله كتب لنا الجنة؛ فإننا سندخلها بلا عمل، وإذا كان قد كتب علينا النار، فلو عملنا كل طاعة في الدنيا لا تفيد الطاعة، فأبطلوا شرع الله عز وجل بسبب هذا.
أما نحن فنقول: إن الأسباب لها تأثير، ولكن الأسباب لا تؤثر إلا بإذن الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) ففهم بعض الناس من قوله: (لا عدوى) أنه نفى العدوى مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فهذا فيه إثبات للعدوى.
لكن كيف نوفق بين هذين الحديثين؟
الجواب
أن الجمع بين الحديثين أن نقول: لا عدوى تنتقل بذاتها، وليس بالضرورة إذا جلست بجانب إنسان عنده مرض مُعْدٍ أن تحمل نفس المرض، بل قد يحمل الإنسان المرض، ويأتي آخر فلا يحمله، وأنت ترى أن الإنسان ممكن أن تأتيه رصاصة في رأسه في موضع ما ولا يموت، ويصاب آخر في نفس الموضع فيموت، فلو كان السبب مؤثراً -لا محالة- في كل حال؛ لكان ينبغي أن يكون التأثير عاماً، شاملاً كافة الخلق، لا يتخلف ولا يميز بين إنسان وآخر.
ومما يدل على أن الأسباب لا تؤثر بنفسها وإنما بمشيئة الله قول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] رميت الأولى بمعنى: أصبت، ورميت الثانية بمعنى: سددت الرمية، ورميت الثالثة بمعنى: أصبت، إذاً: عندنا رميتان بمعنى الإصابة، ورمية واحدة بمعنى تسديد الإصابة، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، وهذا يدل على أن الله عز وجل هو الذي يخلق التأثير في السبب، فيكون السبب مرة قاتلاً ويكون مرة غير قاتل، مثال آخر: (النار) معلوم أن من طبيعتها الإحراق، ومع ذلك نزع الله عز وجل عنها الإحراق لما رموا فيها إبراهيم عليه السلام، فهذا يدلنا على أن الله عز وجل هو الذي يسبب الأسباب، وهو الذي يجعلها تؤثر، لكنه أمرنا بأخذ الأسباب.
وباء السببية في القرآن كثيرة، قال الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] الباء هنا: باء السببية، فإن قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، وهذا الحديث ظاهر التعارض مع الآية، فهل الباء التي وردت في الحديث هي باء السببية؟ أي: لن يدخل أحد منكم الجنة بسبب عمله؟ قال العلماء: لا.
بل الباء في الحديث هي باء العوض والمقابلة، أي: لن يدخل أحد منكم الجنة عوضاً عن عمله، لأنه لا يوجد إطلاقاً إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يعمل عملاً يقابل النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها عليه، وقد روى الحاكم في مستدركه بسند ضعيف، ونستأنس بهذه القصة فقط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل، فقال لي: يا محمد! إن رجلاً عبد الله في جزيرة ستمائة عام، وسأل الله عز وجل أن يقبضه وهو ساجد، فأخرج الله عز وجل له رماناً من الصخر، وأخرج له عيناً من الماء العذب بقدر الإصبع، فكان يأكل من الرمانة، ويشرب من الماء، ويصلي، فلما جاء موعد وفاته، قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي، فقال: عبدي! إنه لا يظلم عندي اليوم أحد، كما قال تبارك وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] فوضعوا نعمة البصر في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر، وبقيت بقية النعم فضلاً من الله عليه، لم يؤد شكرها) وقد وضع ووضع نعمة البصر في الميزان أولاً؛ لأن أعظم ما يبتلى به المرء أن يفقد عينيه، كما قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه؛ فصبر؛ لم أجد له جزاء إلا الجنة) وفي اللفظ الآخر: (إذا ابتليت عبدي بفقد كريمتيه؛ لم أجد له جزاءً إلا الجنة)، وإنما سماها حبيبة؛ لأن المرء يحب الدنيا بها، فإذا فقدهما؛ استوى عنده الدر الثمين مع الخرز المهين، فلا قيمة لأي شيء عند الأعمى؛ لأنه لا يتمتع برؤية هذه الأشياء، ومن يحب الدنيا لا يحبها إلا بعينيه غالباً، وسماهما كريمتين أيضاً؛ لأن العبد إذا فقد عينيه احتاج إلى الخلق؛ والحاجة إلى الخلق ذل، فلا يكاد يمشي خطوة إلا وهو يحتاج إلى من يساعده.
فلذلك الإنسان إذا أنعم الله عز وجل عليه بنعمة البصر فقد أكرمه؛ لأنه عافاه من ذلك الافتقار والاحتياج للناس، فلذلك وضعت هذه النعمة نعمة البصر، ولذلك طاشت عبادة الستمائة عام، (فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل يستغيث ويقول: يا رب! أدخل الجنة برحمتك، فقال: أرجعوه، فقال الله عز وجل له: عبدي! خلقتك ولم تكن شيئاً أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرجت لك رماناً من الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: أخرجت لك عيناً عذبة من الماء المالح أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: قويتك على عبادة ستمائة عام أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: برحمتي ادخل الجنة، يا عبدي! كنت نعم العبد).
فيظهر من هذا أنه لا يستطيع إنسان أن يوفي نعمة واحدة مهما فعل، وحسبك مثالاً ما جاء في آخر الحديث: (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) هل وجدت أحداً تورمت قدماه من كثرة الوقوف في الصلاة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا تكاد تعثر على رجل بمثل هذا الجد، وهو أعبد من مشى على الأرض بقدميه صلى الله عليه وسلم.
يقول: (ولا أنا) فهذا يدل على أن كل العباد الذين يأتون بعد ذلك وعملهم ناقص عن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدخلون الجنة بأعمالهم، فالباء هنا هي باء العوض وليست باء السببية.
والذين لا يفهمون ولا يعملون للآخرة أكثر الناس اعتراضاً على الله عز وجل في باب القضاء والقدر، وبالمقابل انظر إلى الصحابة والأجيال التي أتت بعد ذلك، انظر إلى استقامة فهمهم، روى البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((101/2)
ترك الأسباب قدح في الشريعة
(وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، فلو أن كل رجل قال: أنا لن أتزوج! فمن يعمر الأرض ويقيم الدنيا ويقيم الصناعات ويقيم الجهاد بعد ذهاب هذا الجيل، لابد من نسل، فمن تجده يقول: إذا قدر الله عز وجل لي الولد فسأرزق الولد بلا زوجة، كل العقلاء يحكمون عليه بالحمق، فطلب الولد بلا زواج حمق، وطلب دفع الجوع بلا أكل حمق، كذلك طلب الجنة بلا سعي حمق.
وتجد التناقض في حياة الناس، فمنهم من تجده لا يصلي ولا يزكي، ويقول لك: أنا قلبي أبيض مثل اللبن مع أن هناك أناساً يصلون وعندهم حقد وحسد، ماذا عملوا بالصلاة؟ لكن أنا لا أصلي ولا أزكي لكن قلبي أبيض ولا يفعل شيئاً، هذا في جانب الهدى.
لكن لو سألته: لماذا تعقد صفقات كل يوم؟ ولماذا تسافر إلى الخارج؟ لماذا لا تجلس في بيتك وتضع رجلاً على رجل، ولو أراد الله لك الغنى لأغناك بلا تجارة وبلا سعي، إذا قلت له هذه العبارة ينكرها عليك، وإذا قلت له: لماذا تذهب إلى البيت؟ قال: لآكل لأني إن لم آكل سأموت من الجوع، لا لن تموت من الجوع إذا كتب الله لك الحياة بغير أكل طيلة عمرك ستعيش.
فما بالهم في مسائل الهداية يهونون منها ولا يعملون، ويعتمدون على القدر، وفي مسائل الدنيا يسلكون كل سبيل ويبحثون عن كل سبب مهما كان السبب محرماً، حتى إنك تجد بعض الشباب يذهب إلى بلاد أوروبا ليعمل، تقول له: ماذا تعمل في أوروبا؟ يقول لك: أغسل الصحون في مطعم، لكن لو سألته: كيف تغسل الصحون من بقايا الخنزير وكئوس الخمر؟! وهل خطر ببالك أن تغسل طبق أكلك في بيتك؟ أبداً، هو يأكل ويترك الأطباق، وما خطر بباله أن يأخذ هذا الطبق ويذهب به إلى المطبخ ليغسله.
وبعض الناس تجد أنه يسعى في معصية الله عز وجل، فتقول له: لماذا تسعى في معصية الله عز وجل؟ يقول لك: والله أنا بحثت عن عمل فلم أجد، وقد أغلقت الأبواب في وجهي، ويأتي لك بألف عذر حتى يسلك هذا السبب الذي هو في معصية الله عز وجل.
عندنا في مصر جماعة مبتدعة اسمها الفرماوية، هذه الجماعة تنسب إلى الشيخ الفرماوي الذي هو قائد الجماعة، يقولون: إن البخاري شيوعي، لأن منطقة بخارى هي تابعه للاتحاد السوفيتي سابقاً، وفي عيدهم يحرقون فتح الباري شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر العسقلاني؛ لأنهم يكرهون البخاري، وكل الأحاديث التي وردت من طريق عائشة أو أم سلمة رضي الله عنهما ينكرونها، وأي امرأة لها حديث ينكرونه بحجة أن صوت المرأة عورة، كأن الله خلق المرأة خرساء لا تتكلم، وهذا خطأ، صوت المرأة ليس بعورة، إلا إذا كان هناك خضوع في القول أي: ترقيق الصوت ونحو ذلك، وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
حتى إن بعض الدعاة الذين يسلكون مسالك الاحتياط؛ يقولون: إذا كانت المرأة صوتها ناعم وتتكلم في التلفون فعليها أن تخشن صوتها كالرجل، فنقول: لا داعي لمثل هذا الاحتياط، ونقول: إذا خلقها الله تبارك وتعالى بهذا الصوت فلتتكلم على سجيتها، لكن لا تخضع بالقول، إذ أن الله عز وجل خلقها هكذا، فلا داعي لمسألة تفخيم الصوت ولا دليل عليه إطلاقاً.
وهذه الجماعة تعتقد أن العمل شرك، وأن سلوك الأسباب يعتبر شركاً، وكأنك -أخذك بالأسباب- تتهم الله عز وجل أنه خلقك وضيعك، كونك تشتغل تكون قد اتهمت ربك ولسان حالك يقول: يا رب! أنت ما أنفقت عليَّ.
إذاً: هذا اتهام لله عز وجل، وحتى تجرد التوحيد فإنك لا تعمل.
ومن العجيب أن أفراد هذه الجماعة يلبسون ثياباً على لونين، تجد منهم من يلبس ثياباً خضراً، وآخرون يلبسون ثياباً بيضاً، الذي يلبس ثوباً أخضر يكون المصحف الذي يقرأ فيه جلدته خضراء، والذي يلبس ثوباً أبيض، تكون جلدة مصحفه (بيج) أو نحو ذلك، وقد كنا في المعسكر أول ما يقومون من النوم يلعبون الرياضة ويجرون، وعندما يأتي واحد منهم يسأل عنهم، يقوم الرجل منهم يلف نفسه ببطانية وبعد ذلك يكلم صاحبه، فيقول له صاحبه: لماذا أنت لافف نفسك بالبطانية؟ يقول: الآن استيقظت من النوم، وتجده يحذرنا ويقول: أرجوكم يا جماعة! لا يقل أحدكم أنني ألعب رياضة؛ لأن الرياضة من الأسباب، لأنهم سوف يكفرونه بذلك، يقولون له: أنت تبذل سبباً تقوي به جسمك، فيخشى أنهم -بذلك- يشكون فيه فيقدحون في توحيده.
فأنا أسأله أقول له: يا فلان! أنتم تقولون بالأسباب ولا تجوزون الأخذ بها، ومع ذلك أنت خياط تخيط ثياب في بلدك، وهذه الخياطة أليست سبباً؟ قال: نعم، لكن أنا أشتغل وأصرف على الذين وصلوا إلى القمة مثل (البشوات)، نحن إيماننا ناقص، فنصرف عليهم، فصاحب الإيمان الكامل يلبس ثوباً أبيض، وصاحب الإيمان الناقص يلبس ثوباً أخضر، إذاً: الثوب الأخضر للذين يشتغلون لتأكيل الكبار.
ولو سألت صاحب الثوب الأبيض: أنت لماذا تحفظ القرآن؟ لقال لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) قلت له: أليس الحفظ سبباً؟ ولماذا لم تترك القرآن ولو شاء الله عز وجل لصب القرآن في صدرك صباً؟ فإذا به يسكت ولا يجيب؛ لأنه خالف البدهيات التي لا يمكن لأحد أن ينكرها في حال من الأحوال وهو ما يراه في حياته العادية.
وخذ مثلاً: مفتاح الكهرباء لو ظللت مائة عام واقفاً لأجل أن يضيء لا يضيء حتى تضغط عليه.
فالمقصود من العبد أن يفعل السبب، وأن يكون مجداً في طلب الهدى كما هو مجد في إصلاح حياته وأمره، ولذلك قال العلماء هذه المقالة الجامعة: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) فمهما كان السبب قوياً، ومهما كانت الآلة صحيحة؛ اعلم أنك قد لا تحصل ما تنشده إلا إذا قدره الله تبارك وتعالى لك.
(وترك الأسباب بالكلية والانخلاع منها قدح في التشريع) لأن هذا سيؤدي بنا إلى ترك كل الحدود، وستكون المسألة في غاية الفوضى بين العباد.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(101/3)
الأسئلة(101/4)
حكم الحلف بغير الله
السؤال
ما حكم الحلف بغير الله؟
الجواب
بالنسبة للحلف بغير الله عز وجل، كأن يقول الإنسان: والنبي أو والولي أو غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بالآباء ونهى عن الحلف بغير الله تبارك وتعالى، وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: وأبي وأبي، فقال: يا عمر! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فما قلتها ذاكراً ولا آثراً) أي حتى مجرد أن يحكي الحكاية، ولا ذاكراً لها استئنافاً من عند نفسي.(101/5)
حكم الاعتماد على الأسباب فقط
السؤال
نحن في هذا الوقت في هذا العصر الحديث لابد أن نأخذ الأسباب التي توصلنا إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وتوصلنا إلى ما نريد، الأسباب بيد الله وهو القادر على كل شيء، يقول للشيء: كن فيكون، ولكن هذا المجتمع الذي نعيشه الآن ليس عصر النبوة ولا عصر الخلفاء الراشدين، نحن في وقت الطائرة والسيارة والكمبيوتر، لابد أن نأخذ بها حتى نصل إلى تحقيق المجتمع الإسلامي الكامل، أما أننا نقعد نقول: نحن لدينا إيمان قاطع بقدرة الله سبحانه وتعالى ولا نبذل الأسباب فهذا خطأ.
الجواب
أيها الأخ الكريم: هذا الذي ذكرته هو الذي أنا قلته تماماً، لكن أنا مضطر الآن لأن أبين بعض الإشكالات التي حصلت من كثرة ضرب الأمثلة.
قال العلماء: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع) فلو جاء رجل فقال: أنا لن أتزوج وأريد الولد، ماذا تقول في هذا الرجل؟ تقول: إنه أحمق، ولو قال رجل: أنا أريد أن أصل بالسيارة إلى المكان الفلاني بدون (بنزين) سوف نقول: أحمق، لو قال: لو شاء الله لأجراها بدون (بنزين) نقول: نعم، الله على كل شيء قدير، لكن لابد أن تبذل السبب، بأن تضع (البنزين) في السيارة.
كذلك هناك رجل يريد أن يعيش بلا أكل، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة:3]، ثم قال عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] قال سفيان الثوري: (إذا اضطر فلم يأكل الميتة فمات؛ دخل النار) لأنه أعان على نفسه، وقد أحل الله له الميتة لكي لا يموت، فلو شاء الله عز وجل لأقام العباد بدون أن يحل لهم ما حرمه، فإن ربنا سبحانه وتعالى قادر على إبدال أكلنا للميتة التي حرمها علينا، ويعطينا القوة والطاقة حتى نصل إلى الحلال، أليس ربنا على كل شيء قدير، لكن الله أباح لنا أن نأكل الميتة أخذاً بالأسباب، فمفهوم كلامي: أنه لا ينبغي لعبد أن يركن إلى الأسباب فيقول: إن الطب الحديث لازم يرفع العلة، هذا مرفوض، نقول: لا، الدواء قد يرفع العلة وقد لا يرفع العلة.
السائل: أنا أقول: إن للأسباب تأثيراً ولكني لا أعتقد أن الأسباب حتماً توصل إلى المقصود؟ الشيخ: هذا هو الكلام الصحيح.(101/6)
معنى قول أهل العلم: (ونفي الأسباب أن تكون مؤثرة قدح في العلم)
السؤال
ما معنى قول أهل العلم: (ونفي الأسباب أن تكون مؤثرة قدح في العلم)؟
الجواب
نفي الأسباب أن تكون مؤثرة هذا نفي في العلم، فأي رجل يقول: إن السبب لا يؤثر، كلامه هذا فيه إزالة للوحي كله، بل الأسباب تؤثر؛ لأن الله عز وجل قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] وباء السببية تكررت في القرآن كثيراً كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] أي: بسبب أنهم ظلموا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وكقوله سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] فالله عز وجل لعنهم؛ لأنهم كفروا، فهذا أيضاً سبب، فقولنا: إن الأسباب لا تأثير لها، كأننا ألغينا القضاء والقدر، وبالتالي ألغينا الوحي بطبيعة الحال، فنفي أن تكون الأسباب مؤثرة فيه رد على المعتزلة الذي يزعمون أن الأسباب لا تأثير لها؛ لأن عقيدة الجبر موجودة عندهم هي أن الإنسان مجبور على فعله ولا اختيار له.(101/7)
مفهوم حديث: (الدعاء هو العبادة)
السؤال
هل حديث: (الدعاء هو العبادة) يفسر قوله تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)؟
الجواب
نعم حديث: (الدعاء هو العبادة) ترجمة لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] أي: يستكبرون عن دعائي، فالدعاء هو: التضرع والانكسار بين يدي الله عز وجل وهذا هو حقيقة العبودية، معنى (عبد) يعني: مذلل، فلا يكون العبد عبداً إلا إذا كان ذليلاً، ولذلك قال العلماء وهم يتكلمون في مقامات التوبة قالوا: أيهما أفضل: التائب من المعصية أم الذي لم يرتكب معصية؟ فمع ترجيحهم أن الذي لم يرتكب معصية أصلاً هو أفضل، قالوا: ولكن الذي ارتكب معصية فتاب عنده عبودية ليست موجودة عند الذي لم يعص الله عز وجل وهي عبودية الذل والانكسار، فإن العبد إذا وضع ذنبه أمامه فلا يزال يخاف أن يرديه، وكلما زاد يقين العبد خاف من ذنبه، كما حدث للأنبياء في ساعة المحشر، يأتي الناس آدم فيقول: (نفسي نفسي، إن الله أمرني أن لا آكل من الشجرة فأكلت، فيذهبون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، إني كانت لي دعوة فدعوتها، فيذهبون إلى إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث، فيذهبون إلى موسى فيذكر وكزته للرجل الذي قتله، فيأتون إلى عيسى عليه السلام، فكلٌ يقول: نفسي نفسي، ولم يذكر ذنباً، حتى يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها! أنا لها) كما في حديث الشفاعة الطويل.
فهاهم الأنبياء المقدمون على أقوامهم يذكرون ذنبهم، فكذلك إذا رسخ إيمان العبد عظم عنده الذنب العظيم، كما روى الترمذي وغيره وهو في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (وإن الفاجر ليعمل الذنب العظيم، فيرى كأنه ذباب نزل على وجه، فقال به هكذا، فطار) أما المؤمن فيعمل الذنب، فيرى أنه كجبل يكاد أن يسقط على رأسه، فيبين خوف المؤمن أما الكافر فيفعل الذنب العظيم جداً ويرى هذا الذنب كذبابة حطت على وجهه فقال هكذا فطارت.
وجاء عن السلف قولهم: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً)، فالإنسان قد يفعل الطاعة فيعجب بها ويظن أنه فعل شيئاً ذا بال، فلا يزال يظن هكذا حتى يرديه الله تبارك وتعالى، ورب معصية يفعلها العبد ستأخذ بطريقه إلى الجنة، فكلما ذكر المعصية؛ جد واجتهد، خوفاً من الله تبارك وتعالى.
ولا يفهم من هذا أن المعصية أفضل من الطاعة، كما قال بعض المتصوفة لما جاء في كلمة السلف: (ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً) قالوا: وفي هذا دلالة على أن الذنب أحياناً يكون أفضل من الطاعة، وهذا تفكير مقلوب؛ لأنه لا يمكن أن يقول قائل: إن الذنب أفضل من الطاعة أبداً، لكن تأثير الذنب على العبد المؤمن يكون إيجابياً كما يقول العلماء في استثمار الصفات السلبية، فمثلاً هناك بعض الناس تجد عنده إحباطاً شديداً، لا يأكل ولا يشرب، وكل يوم يضعف جسمه، يقول: كلما تذكرت القبر وعذاب القبر والوحدة والغربة وإلى أين يصير، لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب، وتجده لا يصلي ولا يذهب إلى المسجد، بل غالق على نفسه الغرفة، وإن هذا يدمر نفسه، والمفروض أن يكون استثمار الخوف استثماراً إيجابياً، كلما خاف جد واجتهد، لا أن يقعد، فكذلك الذنب لابد للعبد أن يستثمره، أنه يجعله رائداً بين يديه إلى الله تبارك وتعالى.
فالدعاء أصله الانكسار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغضب على ابن آدم إذا لم يسأله) الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب والله أعلم.(101/8)
كيفية الجمع بين حديث: (لا عدوى ولا طيرة) وحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)
الجواب
حديث: (لا عدوى ولا طيرة) أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى من اتكل على الأسباب، وحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فيه إشارة إلى من اعتمد عليها واتكأ عليها، فهذا ليس فيه نفي للعدوى إنما فيه إثبات لها؛ بدلالة تتمة الحديث لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى، فقال الرجل: يا رسول الله! إنه يكون عندي الجمل الأجرب فيعدي السليم، كيف لا عدوى؟ فقال عليه الصلاة والسلام له: فمن أعدى الأول؟) أول جمل أجرب على وجه الأرض من أعداه؟ فيريد أن ينبه بهذا إلى أن الله عز وجل هو الذي قدر العدوى وقد تأثيرها، وأنه لا عدوى تنتقل بذاتها؛ بدليل أن الجمل الأول الذي أصابه الجرب لم يجرب بسبب عدوى وإنما قدره الله عليه، وهكذا ما بعده.(101/9)
الأخوة [1]
إن الأخوة في الله سبحانه وتعالى نعمة إلهية ومنحة ربانية، وإن الحب والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، وقد رتب الله سبحانه وتعالى لعباده المتحابين فيه الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، والنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في فضل الأخوة لا تخفى على ذي لب، فهي أساس صلاح المجتمعات وبناء الدول واستحقاق النصر من الله عز وجل.(102/1)
مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فأول ما بدأ أن أسس المسجد ليجمع بين الناس، وليربطهم بربهم، ثم بعد ذلك آخى بينهم، وحتى نعلم أهمية هذه الأخوة يجب علينا أن نُطل إطلالة سريعة على وضع المؤمنين في مكة قبل الهجرة، لأنك لن تستطيع أن تقدر هذه الأخوة ولا تحس بشأنها وضرورتها إلا إذا علمت حالهم في مكة، ولنبدأ -مثلاً- بحال زعيمهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم، برغم أن الله تبارك وتعالى منعه بعمه أبي طالب، فكان ذا منعة ومع ذلك وصل إليه الأذى.
قالت عائشة رضي الله عنها بعد غزوة أحد -وما أدرك ما غزوة أحد، وما جرى للمسلمين فيها والنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟! لقد كسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على جبهته، وقتل حمزة عمه وقتل نفر كثير من المسلمين، فحزن عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حزنا ًعظيماً- فقالت له عائشة كما في الصحيحين: (هل مر عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: نعم.
لقد لقيت من قومك -ثم ذكر لها قصته لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله عز وجل وقد أدموا قدميه بالحجارة- قال: فبينما أنا مهموم هائم، إذ رأيت سحابة تظلني، فرأيت جبريل عليه السلام، فقال: إن الله قد علم ما قال لك قومك، وما قلت لهم، فلو شئت لأقلبن بهم الأرض، وهاهو ملك الجبال، قال صلى الله عليه وسلم: فسلم عليَّ ملك الجبال، وقال: إن الله أمرني أن أكون طوع أمرك فلو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت -وهما جبلان عظيمان في مكة- فقال عليه الصلاة والسلام: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة إذ جلس أبو جهل وجماعة وقد ذُبح جزور بالأمس -جزور أي: بعير- فقال أبو جهل: من منكم يقوم إلى سلى هذا الجزور، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ -السلى هو موضع البهيمة في بطن الحيوان وهو يساوي من الإنسان المشيمة في بطن المرأة فكان ملقياً على الأرض- فقال: من يقوم فيأخذ هذا السلى فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فوضع السلى بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: وأنا أنظر فلو كان لي منعة -أي: لو كان له ظهر وعشيرة في مكة- لمنعتهم، قال: فأُخبِرت فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم فجاءت تجري وهي جويرية صغيرة فطرحت السلى من على ظهره وهي تشتمهم وتسبهم، وقد رأيت أبا جهل يميل إلى القوم وهم يتضاحكون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: اللهم عليك بقريش ثلاثاً، قال: فسكتوا وزالت الضحكة من على وجوههم -كانوا يخافون دعوته- ثم قال: اللهم عليك بـ أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وسمى أقواماً، قال عبد الله بن مسعود: والله لقد رأيتهم جميعاً صرعى يوم بدر).
والنبي صلى الله عليه وسلم برغم أن الله منعه بعمه إلا أن الأذى وصله، فما بالك بصغار المؤمنين المستضعفين الذين لا يأوون إلى أهل ولا إلى قرابة قوية؟! لقد كانوا يتوجسون ريبة من هؤلاء المشركين، ففي سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أول من أسلم النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه الله بعمه، وأبو بكر ومنعه الله بقومه، أما سائر المؤمنين كـ عمار وأمه سمية، وبلال، وصهيب، والمقداد، وخباب، فقد أخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وألقوهم في رمضاء مكة، أما بلال فقد هانت عليه نفسه في الله عز وجل فأخذه الولدان يجرجرونه، وهو يقول: أحد أحد) ففي هذا الجو العصيب لا يمكن أن تقوم أخوة.
والحياة إذا لم يكن فيها من تحبه ويحبك فلا قيمة لها، فقد كان الواحد منهم يخشى أن يجتمع بأخيه فيعذبان، وكان شيء مفقود أن تجتمع إلى إلفك، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم جد الحرص على أن يوجد في المسلمين هذه الخصلة (الأخوة).(102/2)
قصة إسلام أبي ذر الغفاري وما ورد فيها من صور الأخوة
وفي الصحيحين قصة عجيبة تريك هذه الريبة التي كان يشعر المسلمون بها في مكة، من حديث ابن عباس رضي الله عنها قال: (أخبرني أبو ذر عن أول إسلامه قال: علمت أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي -وأخوه هذا أنيس، أسلم أيضاً وهو أخوه الوحيد- فقلت لأخي: ارحل إلى مكة -وهو من غفار- فأعلم لي خبر هذا الرجل، قال: فركب أخوه ورحل ثم رجع إليه بعد أيام وقال له: لقد رأيت رجلاً يحث على مكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر -وأنيس أخوه كان شاعراً- قال: ويقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال له أبو ذر: ما شفيتني، ثم جهز رحله وأخذ شنةً فيها ماء ورحل إلى المسجد الحرام، قال: فمكثت في المسجد لا أسأل أحداً؛ لأنه إن سأل ضرب وعذب، وكانوا يتربصون بكل من يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فمكثت في المسجد يومي هذا لا أسأل أحداً، فمر بي علي بن أبي طالب فقال: الرجل غريب؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحد منا الآخر شيئاً، فلما أصبح الصباح رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً شيئاً، فمر بي علي، فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحداً منا الآخر شيئاً، فلما كان في اليوم الثالث رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً -كل هذا وهو خائف- قال: فتضعفت رجلاً منهم -نظر إلى رجل فوجده ضعيفاً فقال في نفسه: لو سألت هذا فإني آمن غوائله، فلن يؤذيني- فقلت له: أين ذلك الذين يقولون إنه صبئ؟ قال: فأشار الرجل إلى القوم وقال: الصابئ الصابئ قال: فقام القوم عليَّ بكل مدرة وعظم وانقلبوا عليَّ حتى كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت على وجهه- قال: فمر بي علي وقال لي: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ ألا تخبرني بخبرك؟ فقلت له: إن أمنتني أخبرتك؟ قال: لك ذلك، قال: إني أسأل عن ذاك الرجل الذي يزعمون أنه نبي، قال: فاتبعني فهذا وجهي -أي: أنا ذاهب إلى هناك- وإنني سأسبقك، فإن رأيت ما سيؤذيك فسأصلح نعلي، فإن رأيتني أُصلح نعلي، فانطلق ولا تنحني عليَّ -وفي رواية البخاري قال:- فإن رأيتني أريق الماء فانصرف ولا تنحني عليَّ- قال: فتبعته فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فأسلمت مكاني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى قومك وانتظر خروجي -أي: لا تجهر بدعوتك حتى لا ينالك الأذى وانتظر خروجي وظهور دعوتي- قال أبو ذر: أما والله لأصرخن بها فيهم، فخرج إلى المسجد الحرام وقال: أيها الناس! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فانقلب المسجد عليَّ، فما زالوا يضربونني حتى الموت حتى انكب عليَّ العباس وقال: أيها الناس! أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ قال: فتركوني، فلما أصبحت صرخت فيهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فانقلبوا عليَّ ففعلوا بي ما فعلوا بالأمس فأكب العباس عليَّ وقال: أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ فأنقذني منهم، -وفي رواية مسلم - قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم حتى كأني نصب أحمر فهربت منهم واختبأت في المسجد ثلاثين يوماً ليس لي طعام إلا ماء زمزم، حتى تكسرت عكن بطني، ولم يعد على كبدي سخفة جوع -العكن: كسرات البطن إذا سمن المرء، وكان المتصور أن رجلاً يعيش على الماء يصير جلداً على عظم، وإنما هذا تكسرت عكن بطنه، يعني: أصبح له كرش وأصبح اللحم يتكسر من السمن، ولم يعد على كبدي سخفة جوع، أي: لم يشعر بالجوع - فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عن ماء زمزم: إنها طعام طعم، وشفاء سقم).
فانظر إلى إسلام أبي ذر وإلى ما كانوا يلقونه إذا جهر المرء بدعوته، يقول له علي: (اتبعني فإن رأيت ما أخاف عليك انحنيت أصلح نعلي وانصرف أنت) فلا يستطيع الرجل أن يمشي مع أخيه، ولا أن يستمتع بهذه الأخوة، ولا أن ينصر أحدهم الآخر؛ لأنهم جميعاً مستضعفون، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع شمل هؤلاء المستضعفين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].(102/3)
بذل المؤمن ماله لإعانة أخيه
ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الأخوة عقداً نافذاً لا كلاماً فارغاً لدرجة أنهم كانوا يتوارثون دون ذوي الرحم، كانوا يتوارثون بهذه الأخوة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن من المهاجرين وسعد من الأنصار، فقال سعد: (يا عبد الرحمن! إني أكثر أهل المدينة مالاً ولي زوجتان، فأقسم مالي نصفين، وانظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما أطلقها ثم تزوجها أنت، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق) فدله على السوق فانقلب في ذلك اليوم بفضل أقطٍ وسمن -الأقط: هو اللبن الجاف- وما هي إلا أيام حتى قابل النبي صلى عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف في الطريق وعليه صفرة كأنه خضاب أو نحو ذلك فقال له: (مهيم -أي: ما هذا الذي أراه عليك وهو أثر الصفرة؟ - قال: إني تزوجت، قال: وكم أصدقتها؟ قال: بنواة من ذهب) نواة من ذهب في بضعه أيام.
إن المرء عندما ينظر إلى سماحة سعد لا يسعه إلا أن يُعجب بنبل عبد الرحمن وعفته فقد قال له: (هذا نصف مالي خذه، ثم انظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما) مع أن العرب كانوا يغارون جداً على العرض، ولا يتصور في رجل أن يقول: اختر بين زوجتي أطلقها وتزوجها أنت: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] وقصة الأوس والخزرج والمعارك الرهيبة الجاهلية التي كانت تحصل بينهم لا تكاد تنسى، فإذا لطم الرجل الآخر لطمة تقوم لها الحرب على قدم وساق، وقد قامت الحرب أربعين سنة بين الأوس والخزرج على شيء تافه جداً وقتل ألوف مؤلفة، ونزلت هذه الآية للأوس والخزرج: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] أي: إنك لا تستطيع مهما أوتيت من المال أن تشتري ولاء أحد، ولا أن تشتري قلبه، ويمكن أن يظهر لك الولاء، أما القلب فلا.(102/4)
عدم تحقيق الأخوة في الله سبب لضعف الأمة وتفرقها
إن هذه المحنة التي يعيشها المسلمون الآن هو هذا الشتات القلبي بين المسلمين، وهذه الأخوة الجوفاء التي يتشدق المسلمون بها الآن هي السبب في هذه المصائب، فأين حدبك على أخيك؟ وأين شفقتك؟ لقد قلت من هذا المكان مراراً وتمنيت من كل قلبي أن أجد له أثراً فعالاً.
قلت: الذين يحجون أكثر من مرة.
والحج بعد المرة الأولى يصير في عداد النافلة، أي: التطوع، فينفق بضعة ألوف من الجنيهات على هذا الحج ويذهب ولا يحج على السنة.
ففي اليوم الثامن يحشرون حشراً إلى عرفات ولا يبيتون في منى، وإذا ما أفاضوا من عرفات يتجاوزون المزدلفة ولا يبيتون بها قلت لمثل هؤلاء: هذه الألوف التي تنفقها انظر إلى أخ لك فقير لا يجد ثمن الزواج، أو إلى مريض لا يجد ثمن العلاج، أو إلى رجل يريد التوسعة في سكنه، أو إلى رجل هدم مسكنه رأساً ويعيش في عشة، قل له: خذ هذا المال، واقض به حاجتك، لكن عقد الأخوة فارغ، مجرد دعوى جوفاء لا قيمة لها، ولا يمكن لمثل هذه المؤاخاة أن تقوم في مجتمع يسوده الجهل والجبن والشح، مع أنك إن فعلت ذلك تقربت إلى ربك عز وجل أكثر من تقربك بهذا الحج الناقص، فحدبك على أخيك وعفوك عليه فرض عليك، وحجك نافلة، فقدم الفرض على النافلة إن كنت تريد الأجر؛ لكن ما أظنك تريد الأجر؛ لأن المرء إن علم أن هذا الموطن يؤجر فيه أكثر من الموطن الآخر لا شك أنه يذهب إليه.
والذين يذهبون إلى المصيف ينفقون في عشرة أيام أكثر من ألف جنيه، ثم يعودن بأوزار يحملونها على أظهرهم ويزعمون أنهم يرفهون عن أنفسهم، وإننا ما علمنا أن المعصية يمكن أن ترفه عن العبد وتزيل همه.
أترفه عن نفسك بالنار؟! كالذي يرى أن الجو حار فيقول: أدخل فرناً؛ فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فهذا الذي يذهب إلى المصيف ثم يعود بأوزار على ظهره يعمل عمل المجانين، وهذا من المفاهيم الخاطئة الناتجة عن الجهل بهذا الدين وحدوده ومعالمه.(102/5)
فضل الأخوة في الله
لقد رأينا أناساً يرون في سماع القرآن الكريم مأتماً، فيرفه عن نفسه بسماع أغنية، أو بأن يلهو ويلعب وإذا زجرته قال: ساعة لقلبك وساعة لربك.
اسمع نصيحتي: ساعة قلبك لا تكون إلا لربك.
إن هذا القلب إن لم يكن له صلة وثيقة بالله عز وجل يظل دائماً في جحيم، إن ذكر الله عز وجل يريح القلب؛ ولذلك لما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل وثيق يلقى الله تبارك وتعالى به قال: (أن تموت ولسانك رطب بذكر الله عز وجل) رطب بذكر الله عز وجل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام آخى بين هؤلاء المستضعفين، وصارت هذه الأخوة عقداً نافذاً حتى بعد الممات، (ففي غزوة أحد أراد عمرو بن الجموح أن يقاتل، وكان رجلاً أعرج شديد العرج وكان له ستة أبناء من الفرسان -يعني: ليسوا كأي المقاتلين، بل هم من الفرسان، في مقدم الجيش- فقالوا له: يا أبانا! إنك ممن عذر الله؛ فإنك أعرج، فقال لهم: إنني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة فلا تمنعوني، ثم شكاهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: دعوه لعل الله يرزقه الشهادة، ثم دارت رحى الحرب وقتل عمرو مع من قتل، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنه قال: ادفنوه مع فلان فقد كانا متحابين) يعني: أنه يحشر يوم يحشر مع من يحب، فانظر إلى هذا، وانظر إلى الذي يقول: (صديقي ريجن، صديقي كارتر)، ويعطيهم ود قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً حشر معهم)، وفي الصحيحين: (أن رجلاً جعل يصرخ في القوم ويقول: يا محمد! أجبني وكان رجلاً من الأعراب فجعل القوم يغمزونه -أي: يقولون له: حسن عبارتك ولا تقل: يا محمد قل: يا رسول الله- والرجل لا يأبه ويصرخ حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: أعماله دون أعمالهم، هل يمكن له أن يراهم مثلاً في الجنة أو أن يكون مع من يحب في الجنة؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مع من أحب، قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء كفرحنا لهذه البشارة) لأنهم جميعاً يحبون النبي صلى الله عليه وسلم.
والنبي عليه الصلاة والسلام ساق لنا أحاديث كثيرة في المودة والمحبة وهذا التعاقد الأخوي، فقال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله عز وجل: أين المتحابون بجلالي؟ أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، المتحابون بجلالي، أي: الرجل يحب الآخر لله، لا للمال والمصلحة.
لا تخضعن لمخلوق على طمعٍ فإن ذلك نقص منك في الدين واسترزق الله مما في خزائنه فإن رزقك بين الكاف والنون أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(102/6)
نعمة الإحساس بالخطأ
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن بعض المسلمين يفكرون تفكير هذا اللص الحميري الذي قال يوماً: إني لأستحيي من الله أن أُرى أُجرجر حبلاً ليس فيه بعير وأن أسأل النكس الدنيء بعيره وبعران ربي في البلاد كثير يقول: لم أسأل الدنيء بعيره وأستعيره منه وأقترضه لأقضي عليه حاجتي، وبعران ربي كثيرة في البلدان، أسرق منها ما أشاء؟! فبعض المسلمين يفكرون بعقلية هذا اللص إما جهلاً وإما تجاهلاً، ونعوذ بالله عز وجل أن نكون من أهل هذه الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] فلو أنه في يوم من الأيام تفطن لخطئه لعدل، لكنه يحسب أنه يحسن الصنع؛ فلذلك لا يمكن أن يرجع، وإن حاولت أن تقنعه لا يرجع؛ لأنه يظن أنه من المحسنين، وهذا ما يشير إليه بعض الباحثين بقولهم: (نعمة الألم)، فالألم من أجل نعم الله على العبد؛ بخلاف ما يتصوره بعض الناس؛ مثلاً: إن جاءك (مغص) شديد؛ فهذه نعمة؛ ولعل بعضكم يقول: وما وجه النعمة وهو ألم؟! فأقول انظر إلى الأمراض الفتاكة كالسرطان مثلاً، إنه ينهش في جسم المريض ولا يشعر المريض بالألم؛ فالألم إنذار؛ فلذلك يبادر الإنسان إلى الطبيب فيأخذ العلاج، ويمكن له أن يتدارك المرض من أوله، بخلاف ما إذا سرى المرض في جسم العبد، وهو لا يدري أنه مريض، حتى إذا شعر بالألم كانت القاضية، فنعمة الألم هذه كنعمة الإحساس بالغلط، ولذلك يقول الأطباء: (إن أولى درجات العلاج هي الاعتراف بالمرض) أن تعترف أنك مريض هذه أولى درجات العلاج أما أن تكابر فأنت وشأنك.
فهؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، منع الله عز وجل منهم نعمة إدراك الغلط، وقد حسن لهم الشيطان أعمالهم فهم: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104] انظر مثلاً: إلى هذه الصفوف عندما تقام الصلاة، هل المسلمون يحسنون تسوية الصفوف؟ إنه مما يؤسفني أن أقول: لا.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تختلفوا -أي: في الصف- فتختلف قلوبكم) لماذا تدخل في هذه الصلاة ثم تخرج منها وليس بينك وبين أخيك رابط؟ إنك لا تقف معه كالبنيان المرصوص، رجل بجنب رجل فقط، وقد قال عبد الله بن مسعود: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث يُنادى بهن، ولقد رأيتنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأينا الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف أي: يُحمل بين الرجلين؛ لأنه لا يستطيع أن يقف على قدميه.
فانظر إلى هذا الذي يُهادى بين الرجلين يُحمل حملاً، كي يأتي إلى هذه الجماعة، حتى يدرك جلال هذه الأخوة.(102/7)
الحب والبغض في الله
إن قصرت في قيام الليل، أو في صلاتك، أو لم يكن معك مال تتصدق به، أو عجزت أن تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، فأحب في الله عز وجل، تدرك منزلة رفيعة، ففي صحيح مسلم: (أن رجلاً ذهب ليزور أخاً له في قرية مجاورة، فأنزل الله عز وجل ملكاً في صورة رجل، فوقف على قارعة الطريق، فقال لهذا الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: إني ذاهب لأزور أخاً لي، فقال له الملك: أو ترى أن له عليك نعمة -يعني: له جميل عليك-؟ قال: لا.
غير أني أحبه في الله عز وجل، قال: فإن الله عز وجل يقول لك: إنه أحبك كما أحببته) إنه أحبك.
وإذا أحب الله عز وجل عبداً، أحبه كل أهل الأرض ووضع له القبول في الأرض، كما في الحديث الصحيح: (إن الله عز وجل إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلان بن فلان فأحبه).
تصور أنك إن ذكرك الله عز وجل في الملأ الأعلى، فقال: إني أحب فلان بن فلان، انظر إلى هذا الشرف السامق، وهذا لمجد الأثيل، أن الله تبارك وتعالى في علوه وكبريائه ومجده يذكر هذا العبد المستضعف الذي يمشي بقدمين على الأرض، ويقول: إني أحبه.
لو أن ملِكاً في هذه الأرض قال: إني أحبك -وأشار إلى عبد- لكاد أن يطير من الفرح، مع أن محبة هذا لا ترفع شيئاً ولا تضعه.
وهذه محبة الملك المتعال: (إني أحب فلان بن فلان) ألا ترغب أن تكون هذا العبد؟ إياك أن تستحقر نفسك، فإنك لا تدري منزلتك عند الله عز وجل: (إني أحب فلان بن فلان، فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) وورد في بعض الآثار: إن العبد الصالح إذا مات بكت عليه الأرض، بكى عليه موضع سجوده، وبكى عليه موضع قدمه الذي كان يمشي به على الأرض؛ لأنه افتقد هذا الصالح، ثم إن هذا العبد إذا مات رُفع ورفعت روحه إلى السماء، وتفتح له أبوب السماء، من هذا؟ فلان، أي: الذي كانوا يحبونه وهو حي، فيستقبلونه ويدعون له، وقد طيب الله عز وجل ثراه وروحه حتى يُرفع إلى عليين.
إذاً: هذه الأخوة في الله عز وجل لها أجر عظيم جداً، فإياك أن تدنس هذه الأخوة بشيء من هذه الأرض، كأن تتقرب إلى إنسان لأجل ماله أو جاهه أو نفوذه، لا.
أحب لله عز وجل وأبغض فيه، فإن هذه الأخوة كانت من أعظم ما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كانوا يتجمعون في المسجد كأنهم روح واحد، ألم تسمع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: (كنت أتناوب النزول أنا وأخ لي من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الأخ الذي عناه عمر هو: عتبان بن مالك وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمر، وظلت هذه الأخوة يتوارث بعضهم بعضاً إلى بعد موقعة بدر مباشرة، فنزل قول الله عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، فألغيت المواريث وبقيت المناصرة.
إن هذا المجتمع المفكك لا يمكن أن يعود وينتصر إلا إذا فعل الدعاة ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فالذين يريدون أن يجاهدوا بأيديهم، كيف يجاهدون في هذا التفرق العظيم بين الناس؟! هل يمكن مثلاً أن نقول الآن: حيَّ على الجهاد وربع الأمة مثلاً لا يصلي أو ثلث الأمة لا يصلي أو نصف الأمة لا يصلي؟ هل تضمن إذا دارت رحى الحرب أن لا يطعنك في ظهرك؟ لا تضمن ذلك، لأن قلبه ليس عليك، يجب على الذين يريدون هذه المنزلة أن يبدءوا من حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذين يقولون: (نبدأ من حيث انتهى)، فهذه مقالة خطأ، وأقل ما يمكن أن توصف هذه المقالة أنها خطأ، يقول: (نبدأ من حيث انتهى)، وهل النبي صلى الله عليه وسلم يوم انتهى ترك شيئاً لغيره حتى يبدأ به؟! لقد أتم كل شيء ثم انظر إلى حالك الآن وأنت مستضعف لا تملك من أمر نفسك شيئاً، وانظر إلى إخوانك وقد تفرقوا شذر مذر، بحيث أنك لو قلت لأحد الناس: إن فلاناً يموت، إن فلاناً سقط بيته، إن فلاناً مريض، أعطونا شيئاً من المال على الأقل، فنصف الموجودين لا يُعطي شيئاً، أظن هذا إن قلت له: أعطني روحك فسيكون بها أبخل.
يجب أن نبدأ كما بدأ النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الأخوة يجب أن تعود، لقد رأيت بعض المسلمين -ولا أريد أن أقول: (كثيراً) مع أن الواقع يشهد أنهم كثير- إذا اختصم أحدهم مع الآخر في مسألة فرعية، ترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه؛ بل لعله لا يقابله أبداً، ويتجنى بعضهم على بعض، وهم أسوأ ما يكونون في المعاملات المالية، ولقد رأيت بعض الناس قال للبعض الآخر: أليس معك مال نصنع شركة؟ قال له: نعم معي، وذهب الرجل إلى امرأته فقال لها: اخلعي الذهب، وهاتي كذا، وهاتي كذا، سوف نبيع كل هذا وننشئ شركة، وسنأخذ جزءاً من الأرباح كل شهر، وجاء الرجل بذهب المرأة، وجاء بالمتاع الذي كان ادخره يوماً ما، ووضعه في يد صاحبه، فأخذ هذا الإنسان المال، وكان عليه دين، فَسَدَّ دينه بمال أخيه، وكلما قال له أخوه: أين التجارة؟ قال له: أنا وصيت على البضاعة، ستأتي غداً، بعد غد، غداً، بعد غد حتى طال الأمل، ثم كشف هذا الآخر عن وجهه، قال له: حدثت لي ظروف، فأنفقت المال، وكاد الآخر أن يجن؛ لأن امرأته كادت أن تُطلق بسبب بيع الذهب، أهل المرأة أصروا على أن يأتي بالذهب، والرجل لا يملك شيئاً، والآخر يقول له: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] وهذا الآخر أيضاً فقير مثلك، وكان أولى بماله منك، وما أعطاه المال حتى هدده، وما أعطاه ماله كاملاً؛ بل أعطاه مقسطاً، وضاع ذهب المرأة وضاع متاعه الذي ادخره، وراحت الأخوة من بين الاثنين.
أهذه أخوة؟! أهؤلاء يمكن يوماً أن تقوم بهم دولة؟! إن سنة الله تبارك وتعالى في الأرض لا تتخلف وهي سنة عادلة، يوم ينظر الله تبارك وتعالى إلى هذا القطيع فيرى قلوبهم تجمعت في بوتقة واحدة وفي مكان واحد، نكون أحق بنصر الله عز وجل، أما الآن فنحن لا نستحق هذا النصر، ولا نستحق أن يرفع عنا هذا الضيم، الذي وضعه الله عز وجل بعدله، ويجب على المسلمين أن يراجعوا هذه الأخوة، وأن ينظروا أين مكانهم من هذه الأرض، وهل يحبون في الله عز وجل أم يحبون لعرض زائل، إن هذه الدروس يجب أن نستفيد منها استفادة عملية.
فأرجو أن يراجع كل منا نفسه في باب الأخوة، هل يحب أخاه فعلاً في الله عز وجل أم لا؟ إن كان عنده مال مدخر وأخوه يحتاج إلى هذا المال؛ فليحمله إليه، جرب يا أخي ولا تقل: هذا المال أنا أدخره للطوارئ.
جرب أن تعطيه لأخيك، كما يقول بعض الدعاة: (جربوا الله مرة)؛ فإنك إن كنزت هذا المال، أتى الله عليك بجائحة أخذت هذا المال وربما تستدين عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة) فجرب وأحسن إلى أخيك وسترى وقع هذا الفعل في حياتك، فإن الله تبارك وتعالى بيده نواصي العباد.
وستعلمون أثر هذه الأخوة فيما بعد عندما تبدأ المجابهة ما بين هؤلاء المسلمين، وما بين القوى الثلاث اللائي كن يقطن في المدينة المنورة وهم أعداء الدولة المسلمة: الكفار، والمنافقون، واليهود.
هؤلاء الأعداء الثلاثة الذي وقفوا بالمرصاد لهذه الدعوة، فلا تستطيع هذه الدعوة مع قلة عددها وعتادها أن تنتصر عليهم إلا بهذه الأخوة.
أرأيتم في غزوة أحد لما جاء طلحة بن عبيد الله وقد أحاط المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون أن يصلوا إلى ما الله مانعهم منه، وهو أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يقتلوه، ترس عليه طلحة وأبو دجانة -ترس يعني: احتضنه وجعل ظهره للسهام- فأصيب طلحة في ظهره بسهام الكفار وهو لا يتحرك، حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الأخوة والمحبة الصادقة.
إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(102/8)
الأخوة [2]
لقد سطر لنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياتهم العملية أروع صور الحب والبغض في الله، وإيثارهم إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ولذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى ومكن لهم في الأرض، ففتحوا البلدان، ومصروا الأمصار.
وإن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم وما تعيشه من ذل وهوان يجد أن من أسباب ذلك غياب روح الأخوة في الله.(103/1)
صور مشرقة من حياة السلف في الحب في الله
لا يستطيع قوم بناء مجتمع يسود هذه الأرض إلا إذا كانت لبناته كالبنيان المرصوص، أما أن يكون أفراده شذر مذر: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فخصوماتهم الدقيقة التافهة يمكن أن تقوض أركان المحبة الزائفة التي يدعيها بعضهم مع بعض.(103/2)
قتل كعب بن الأشرف
كعب بن الأشرف آذى النبي صلى الله عليه وسلم، وشبب بنساء المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام يوماً -كما في الصحيحين -: (من لـ كعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله.
قال محمد بن مسلمة: أتأذن لي في قتله؟!)، أتعلمون من هو كعب بالنسبة لـ محمد بن مسلمة؟ إنه خاله، ونحن نعرف أن الروابط من جهة الأم تكون أقوى من الروابط من جهة الأب في محل الحنان، فتجد خالك أحن عليك من عمك.
وهذا خاله، لكنه آذى الله ورسوله، فلا يساوي بعرة ولا قيمة له فقال: (أتأذن لي في قتله؟ قال: نعم.
قال: فهل تأذن لي أن أقول له شيئاً؟ -يعني أن أكذب عليه حتى أستدرجه- قال: نعم)، فذهب معه أبو نائلة، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، يعني: ليس رجلاً غريباً، إنما تربطه به أواصر محبة، كان من الممكن أن يحابي ويقول: يذهب غيري؛ فإن قلبي لا يطاوعني ولكن: نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا فذهبا إليه وقالا له: (إن هذا الرجل -يعنيان النبي صلى الله عليه وسلم- قد أعنتنا وشق علينا، وطلب منا صدقة ونحن لا نجد ما نأكل.
قال: قد علمت والله ليشقن عليكم.
قالوا: ولكنا لا نريد أن نظهر أننا تركناه حتى نرى شأنه أو ما يؤول إليه أمره، فهلا أعطيتنا وسقاً أو وسقين من شعير فنعطيهما لهذا الرجل؟! قال: ارهنوني شيئاً -وسق من شعير أو وسقين لا قيمة لهما، فانظر إلى هذا المشرك الكافر ماذا يريد في مقابل وسق! - قالوا له: وما تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم.
فقالوا له: أنت أجمل العرب، وقلما جاءتك امرأة إلا فتنت بك؛ فاغتر في نفسه، فقال: إذاً ارهنوني أولادكم.
قالوا: معاذ الله أن يسب أولادنا يوماً أنهم رهنوا بوسق من شعير! ولكن نرهنك اللأمة -اللأمة هي الدرع والسيف، وإنما قالوا: نرهنك اللأمة حتى إذا أتوا بالسلاح لا يشعر بريبة، وأنهم جاءوا ليقتلوه- قال: نعم.
فحددوا موعداً، فلما أرادوا -لأنهم اصطحبوا اثنين آخرين- أن يذهبوا إلى كعب بن الأشرف صحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الله معكم.
فذهبوا إليه وناداه أبو نائلة: انزل يا كعب.
فقالت امرأته: إلي أين يا كعب في هذه الساعة؟ قال: إنه أخي أبو نائلة، أخي من الرضاعة، وإن الكريم إذا دعي إلى طعان بليل أجاب، كيف لا أنزل؟! قالت: لا تنزل، فإني أشم رائحة الدم.
فقال: هذا أخي أبو نائلة، ونزل، وكان قد تطيب، وكان ريحه يسبقه، فقال محمد بن مسلمة: ذروني أقول له: دعني أشم رأسك، فإذا استمكنت من ذؤابتيه ورأسه فدونكم فاقتلوه.
فلما جاء كعب قال له محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم ريحاً! هلا تأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأعطاه رأسه، فاستمكن منه وقال: دونكم فاقتلوه، فسمعوا قعقة السيوف على عظمه، وانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه! قالوا: ووجهك يا رسول الله!).
هذا عدوا الله ورسوله لا قيمة له: نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا(103/3)
موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه رأس النفاق
وهذا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، ابن زعيم المنافقين ورأسهم: (قال عبد الله بن أبي ابن سلول: الذي قال {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]-ويقصد بنفسه الأعز وبالنبي صلى الله عليه وسلم الأذل، لعنه الله- فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أقطع عنقه.
قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
فقام عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال: يا رسول الله! إني لا أحب أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأنا أقتله.
قال له: لا تقتل أباك، فماذا يفعل عبد الله؟ - ذهب إلى أبيه وأخذ بتلابيبه، وقال: والله لن تدخل المدينة حتى تقول: أنك الأذل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز، وما تركه يدخل المدينة حتى قالها).
نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا(103/4)
موقف أبي قتادة مع كعب بن مالك
وهذا أبو قتادة الأنصاري لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من كلامه، قال كعب: (فكنت أمشي في الأسواق ولا يكلمني أحد -يأتي على الناس فينصرفون ويتركونه وحده- قال: فلما شق عليَّ ذلك، كنت في الحال الذي وصف الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] قال: فتسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة! أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟ -لماذا هذه الجفوة؟ أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟ - فالتفت إليه أبو قتادة وقال: الله أعلم.
قال كعب: ففاضت عيناي رثاءً لنفسه.
فهؤلاء هم الناس الذين انتظمت حياتهم في سلك واحد وهم الذين انتصروا على أهل الأرض جميعاً؛ لأن هذا يؤذن أن قلبهم واحد، وأن مشاعرهم واحدة لا تتخلف، فانظروا إلى حالهم وانظروا إلى حال المسلمين الآن، ترى أنهم أجدر الناس، وأحقهم بنصر الله عز وجل، وترى أننا الآن لا نستحق نصر الله تبارك وتعالى، كيف وقلوبنا ليست على قلب رجل واحد كما أومأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(103/5)
تعامل الأنصار مع المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم
إن أسباب نجاح المجتمع الذي كونه النبي صلى الله عليه وسلم كان من أساسه: صدقهم في هذه الأخوة، فقد كانت الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً.
في صحيح البخاري أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال لهم: لا) لماذا؟ لأن المهاجرين لم يكونوا يحسنون الزرع، فمعنى أنهم يأخذون نصف النخل ولا يحسنون الزرع أنهم سيتلفونه ولا يستفيدون به، إذاً: ماذا يفعلون؟ قال المهاجرون للأنصار: (تكفوننا وتقتسمون معنا الثمر)، يعني: أنتم تشتغلون بالفلاحة وبما يتطلبه النخل، ونحن نقسم معكم هذا الثمر في آخر الموسم.
بل كان من شأن الأنصار عجباً! أنهم كانوا إذا أرادوا أن يقسموا التمر وضعوا أيضاً معه سعف النخيل -وهو الجريد- فكانوا يأخذون بعض الثمر مع السعف، ويجعلون في مقابل هذا السعف تمراً كثيراً للمهاجرين، يعني: كانوا يبخسون أنفسهم حقها، وهم أصحاب الزرع والثمر.
فلما كان يوم خيبر وتدفقت الأموال، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفيهم حقهم، فقالوا: (يا رسول الله! إننا فعلنا الذي أمرتنا به -يعني فعلنا ما شرطت علينا- وإنك وعدتنا شيئاً في مقابل هذا، فنريد أن توفي لنا به، قد وعدتنا الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك لكم)، أين في المسلمين الآن من يقتسم اللقمة مع أخيه بحق، فضلاً عن أن يجور عليه أو أن يتهمه أو أن يأكله؟ إننا وضعنا أيدينا على مكمن الداء، وهو أن كل رجل في المسلمين إنما هو بمفرده يتحرك وحده، لا يلتصق بأخيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر).
هذا المجتمع مجتمع المؤمنين، وليس مجتمع أدعياء الإيمان، مجتمع المؤمنين الحق: إن أخاك إن تألم شعرت بوجع في قلبك هذا هو مجتمع المؤمنين! أما مجتمع أدعياء الإيمان فحدث عن الخلل الذي فيه ولا حرج، فهو أشبه بمجتمع اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، انظر إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، حتى في معرض القتل يذكره بأنه أخوه، لم يقل له فمن عفي له ممن قتله شيئاً، إنما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] حتى في معرض القتل والقلوب لدى الحناجر يذكرهم بأنهم إخوة، فما بالك إن لم يكن هناك قتل؛ فإن وجود رابطة الأخوة أدعى؟! وقد قال الله عز وجل أيضاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] قال هذه الآية بعد قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] هم يقتتلون، والذين يقتتلون عادة ينسون روابط المودة، بدليل أنه يمكن أن يقتل أخاه -في ساحة الحرب- الذي كان يبادله الود بالود، لكن هذه حرب، ومع ضراوة هذه الحرب يذكرهم الله سبحانه بأنهم إخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
وفي معرض الطلاق الذي يشحن النفوس ويشحذ، ويكون كل طرف متربصاً بالآخر، يقول الله عز وجل: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ليس لمجرد أنك طلقت المرأة أن تقطع روابط الصلة بينك وبين أهلها، في مثل هذه المواقف -التي تتغلب فيه النزعة الترابية الجسدية على نزعة الإيمان والروح- يذكر الله تبارك وتعالى بوجود هذه الروابط بين المؤمنين.
فهذه الأشياء إن لم تكن موجودة؛ فمن باب أولى أن يوجد هذا الحب والود.
إن ضياع هذه الأخوة أوقعنا في مأزق كبير جداً، فلا نستطيع الآن أن نجمع بين شتات المؤمنين؛ حتى عيرنا الكفرة، وأخذوا سفاسفنا وأظهروها على أنها كبائر، وصاروا يعيرون المؤمنين، والله تبارك وتعالى: {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] (ما بأنفسهم) أي: الذي علق بأنفسهم، وإن الله تبارك وتعالى سنته لا تتخلف ولا تختلف.
قرأت اليوم لأحد الصحفيين، يقول: إن العالم كله الآن مبهور، ويتابع باهتمام سفينة الفضاء التي أطلقوها من اثني عشر عاماً، وقد قطعت أكثر من أربعة آلاف مليون كيلومتر، يقول: فبينما العالم يهتم بهذا فماذا نجد في بلادنا؟ نجد القوم يناقشون فوائد البنوك هل هي حرام أو حلال، وستر الوجه أهو واجب أم مستحب، ونقل الأعضاء أهو جائز أم لا.
انظروا إلى هذا الجاهل! وما علاقة أن ترسو سفينة الفضاء على أي كوكب بالذي قاله؟! أيريدنا أن نأكل الربا مثلاً، وما علاقة هذا بهذا؟! وهل سلط الله عز وجل خراف البشر على هذه الأمة المتآكلة التي أكلها الجهل والهوى إلا بعد أن أكلوا الربا؟! إنهم رأونا أمة مستضعفة، كلؤنا مستباح، وليس هناك أحد ينتقم منهم ويردهم على أعقابهم، فشددوا وطأتهم.
يقول الصحفي: وقد سمعت أحد الدعاة هنا في خطبة جمعة يقول: جاءني رجل فقال لي: إني ألقيت يمين الطلاق على امرأتي، وقلت لها كذا وكذا هل وقع اليمين أم لا؟ يقول الصحفي: العالم وصل إلى القمر وهذا يسأل عن هذا، وهذا رجل داعية يعتلي منبر أكبر مسجد ويتحدث عن هذا.
فنقول له: كفى جهلاً! فما تمكن الأعداء من الأمة إلا عندما ضيعت أمر ربها وشرعه، وأصبحت أمة ينخر فيها السوس، ولا صريخ ولا منقذ؛ لأنها هانت على الله، وتركت شرعه، وخالفت الأخوة الإسلامية التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام.
فأين أخوتكم أيها المسلمون؟ إننا نرى الرجل يختلف مع أخيه في مسألة فرعية أو مسألة تافهة؛ فيكون حاله كما قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلنْ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا يعني: إن تضربني مرة أضربك عشر مرات، ورجعت العصبية المقيتة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم ووضعها تحت قدميه، وبدأت تطل برأسها على المسلمين.
وكان من نتيجة غياب هذه الأخوة أن ظهرت هذه الأنانية، وأن ظهر هذا الكبر والاعتداد بالنفس، وما ظهرت هذه الصفات في مجتمع إلا قتل، وكلمة (أنا) قد فتكت بثلاثة عتاة؛ فتكت بإبليس عندما قال لله عز وجل: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فما كان مصيره؟ كان مصيره النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وكذلك قارون عندما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] هذا بعبقريتي وذكائي، أنا كنت أعلم أنني سأكون غنياً؛ لأنني ذكي أحسن التدبير والخطط: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، اعتداده بنفسه، فماذا فعل الله به؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
وكذلك صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف الذي قال الله عز وجل فيه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32]، هذا الرجل قال لصاحبه وهو يحاوره: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] فماذا كان جزاؤه؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42]، صاحبه قال له: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، فلعل بعضكم يقول: هذا الرجل الصالح قال: (أنا) أيضاً؟! نقول: هناك فرق شديد بين (أنا) هنا و (أنا) هناك، إنك لو حذفت كلمة (أنا) في قول الرجل المتكبر ما استقام المعنى، ولو حذفتها في كلام الرجل الصالح لاستقام المعنى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} [الكهف:34] أحذف كلمة أنا تجد أن المعنى لا يستقيم، فهذا يدل على أن كلمة (أنا) يدور حولها المعنى، بخلاف قول هذا الرجل الصالح: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] فلو حذفت كلمة (أنا) استقام المعنى: (إن ترني أقل منك مالاً وولداً)؛ فيدل على أنه لم يعني كلمة (أنا)، إنما قالها في مقابل قول الرجل: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، فهو يقول له: إن كنت تراني أنا -هذا المستضعف- أقل منك مالاً وولداً {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} [الكهف:40].
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (طرقت الباب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ فقلت: أنا.
فسمعته من داخل الدار يقول: أنا أنا! كأنما كرهها) لماذا كرهها؟ لأنها تشعر بكبر، وإن كنا لا نعتقد أن جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك، إنما غيره يمكن أن يكون كذلك، فكأنما -وهو يقول: (أنا) - يقول: أنا مستغن عن نسبي وعن تعريفي، (أنا) فلم يقل: أنا جابر أو أنا ابن عبد الله الأنصاري، إنما قال: (أنا)، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فيها نبرة كبر) لذلك كرهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يكره شيئاً إلا أن يكون ممقوتاً ولا يأتي بخير، ونحن نتابعه صلى الله عليه وسلم، ونعمل بسنته، فإنه ما تضيع سنة إلا تحل مكانها بدعة، وما يزول إيمان عن بقعة من الأرض إلا حل محله مثله من الكفر، كالزجاجة الفارغة إن لم يملأها شيء ملأها الهواء، فلابد أن تملأ بشيء، ونف(103/6)
اتباع الكتاب والسنة هو السبيل لتحقيق الأخوة الصادقة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
لعل قائلاً يقول: قد أحسنت فيما قلت! يحنو بعضنا على بعض، لكن ما السبيل إلى هذا الخلق الرائع الذي كان فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: السبيل كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على نهج السلف الصالح -هذا هو السبيل- وأن تضع في حسبانك ألا تقدم بين يدي الله ورسوله قول أحد كائناً من كان وإن أصابك ما أصابك؛ فحينئذٍ تجد نفسك وضعت رجليك على أول الطريق، أما بغير ذلك فلا.
تجد الآن بعض المسلمين يكفر الطرف الآخر، لماذا يكفرونهم؟ لأنهم جهلة، ليس عندهم شيء من العلم، إنما عندهم شبهات، ويعتدون بأنفسهم أشد الاعتداد، وهذا -كما قلنا- ضيع ثلاثة من أكبر العتاة، فهو كفيل أن يضيع هؤلاء الغثاء، الذين لا يزنون شيئاً في الحياة.
إن الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه أصحاب عبادة وزهد، إلا أنهم جهلة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفتهم: (يخرج أقواماً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية)، أبعد أن يكون من القانتين الصائمين العابدين يخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية؟! نسأل الله العفو والعافية! (يخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية) نعم؛ لأنه جاهل، لم يقف على شيء كبير من العلم، لذلك خرج وما نفعته عبادته.
لذلك: نحن ندعو دائماً إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.
أما درى هذا القائل قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (من قال لأخيه (يا كافر) أو قال له (يا عدو الله) فإن لم يكن كذلك إلا حار عليه ورجع، ولو كان مازحاً) لو كان يمزح ويقول له: (يا كافر) مازحاً، إن لم يكن هذا كافراً رجعت إليه الكلمة.
هناك جاهل يقول: (من لم يكفر الكافر فهو كافر)، ويأتي على رجل من المسلمين يزعم أنه كافر، ثم يقول لك: إن لم تكفره فأنت مثله كافر.
وهذا إنما أتي من فهمه ومن يكُ ذا فمٍ مرٍ مريض يجد مراً به الماء الزلالا فالماء النقي عندما يوضع في إناء فيه طين يصير الماء كله طين، ويذهب صفاؤه.
إن هذه القاعدة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) إنما تقال في الكافر الأصلي، الذي لا يختلف على كفره اثنان، فمثلاً لو قال رجل: إن النصراني ليس بكافر.
نقول له: أنت كافر لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى حكم بكفره بلفظ قاطع محكم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] فهذا حكم الله عز وجل القاطع، الذي لا يحتمل تأويلاً.
حينئذٍ: الذي يتوقف في تكفير من أطلق الله عز وجل عليه الكفر فهو كافر، ونقول له: أنت كافر بملء فمنا.
إنما يأتي رجل كان في الأصل مسلماً، فارتكب أعمالاً هي من أعمال الكفر، واختلف الناس فيه، فقال جماعة: هو كافر، وقال جماعة: نلتمس له العذر وليس بكافر، فلا يمكن أن يقال: من لم يكفر الكافر فهو كافر؛ لأن هذا كافر من وجهة نظرك، والدلائل التي قامت عندي لا تكفره، حينئذٍ لا نعمل هذه القاعدة التي إنما تقال في الكافر الأصلي، لا على الكافر الذي اختلف المسلمون في كفره.
وهؤلاء ترى أحدهم يرمي جماهير المسلمين بالكفر؛ لأنهم لا يكفرون من يرى أنه كافر، وهذا جاهل جهلاً غليظاً جداً.
وهؤلاء الذين يكفرون المسلمين لا تصادقهم، ولا تدعهم إلى بيتك، ولا تؤاخهم؛ لأنهم قد يكفرونك، وأنت لا تضمن أنك إن أدخلتهم بيتك لم يسرقوا ما عندك من مال؛ على أنه غنيمة، ولا تضمن أنهم لا يستحلون امرأتك على أساس أنها من السبي.
فلا تدخلهم بيتك ولا كرامة، واغلظ عليهم في ذات الله عز وجل؛ فإنهم فرقوا شمل المسلمين.
فإن أسلافهم الخوارج كان عندهم شيء من العلم وكانوا أهل عبادة وزهد، أما هؤلاء فهم جهلة أغمار.
فأسلافهم كفروا علياً رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة.
انظر إلى فجور هؤلاء يكفرونه! يجعلونه من أصحاب النار! والمعصوم صلى الله عليه وسلم قد شهد له أنه من أصحاب الجنة، ومع ذلك يقولون: هو من أصحاب النار، وخرجوا عليه وكفروه، ومع ذلك فإن علياً رضي الله عنه أنصفهم والإنصاف عزيز: ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم فعندما سئل عنهم علي بن أبي طالب: أهم كفرة؟ قال عنهم قولة الرجل الفقيه، الذي يقف على حدود ما أنزل الله، ولا يتهجم إذا اغتاظ.
وهؤلاء الذين يكفرون المسلمين ترى أحدهم إذا هدأت ثورته كف عن التكفير، وإذا غاظه أحد كفر الجميع، فالمسألة عنده لا ترجع إلى موازين ولا إلى أدلة.
فلما سئل علياً رضي الله عنه عنهم: أهم كفرة؟ قال: لا.
من الكفر فروا، لكنهم قوم أصابتهم فتنه فعموا وصموا.
انظر تشق عصا المسلمين بالجهل والهوى.
إذا أردت أن تسلك طريق الأخوة في الله فعليك أن ترجع إلى اللبنة الأولى، إلى ما علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أول ما علمهم! فأول ما علمهم: التوحيد والرهبة من الله عز وجل، واتقاء غضبه، ورجاء رضوانه تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يهدي أمتنا إلى التي هي أقوم والتي هي أحسن.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا(103/7)
السنة بين المحبة والاتباع
إن من لوازم محبة النبي صلى الله عليه وسلم اتباع سنته، وواقع المسلمين اليوم يظهر زيف دعوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان عليه فالصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يعظمون كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أدرك الصحابة الكرام أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، وتعظيم كلامه أمر واجب على الأعيان، وأنه لا يتم الإيمان إلا به؛ فلذلك بذلوا الغالي والنفيس من أجله صلى الله عليه وسلم، بينما تجد في المقابل في زمننا من يحكّم عقله وهواه ويرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على عدم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فعدم تقديم النص أمر خطير جداً يجب الحذر منه.(104/1)
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته من الإيمان
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته، ونصب الحرب على أعدائه لأمر واجب على الأعيان، ولا يتم إيمان العبد إلا بهذا.
قال بعض العلماء: إن العبد إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن معنى وتفسير هذه الكلمة المباركة هو أن الله عز وجل هو المعبود بحق، ولا معبود بحق سواه، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع.
وهنا نكتة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما يتعلق بخطبة الحاجة، قال: لما بدأ الكلام بدأ بصيغة الجمع: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره) إلا في الشهادة لم يقل: ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه لا يقوم أحد نيابة عن أحد بهذا الأمر، بل لا بد أن يشهد كل عبد بذاته: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا يستقيم إيمانه إلا إذا شهد هو بنفسه: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.(104/2)
تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
إن الناظر في جيل الصحابة الأوائل يرى أن أعظم ما يميزهم المحبة العظيمة التي غرست فيهم الاتباع، اتباع أولئك الصحابة وتعظيمهم لكلام النبي عليه الصلاة والسلام.
جاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وكان دار أبي أيوب على طابقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي أيوب: (السفل أرفق بنا -أي اجعلنا في أسفل الدار- إنه يغشاني أصحابي فالسفل أرفق بنا) وكان أبو أيوب في الطابق العلوي، وذات ليلة وهو يمشي في الليل فزع، فقال: أنا أمشي على سقف يعلو النبي صلى الله عليه وسلم!! وانكمش هو وأهل داره في زاوية حتى الصباح، استعظم أن يمشي على السطح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحته، قال: (وانكسر حب لنا)، هذه الزيادة ليست في صحيح مسلم، إنما في نفس الحديث عند البيهقي في باب النبوة وغيره.
قال: (وانكسر حبٌّ لنا -الحب: هو الجرة العظيمة- قال: فجففت الماء بلحافي، اللحاف الذي يتغطى به هو وامرأته والله ما لنا غيره، خشية أن تسقط قطرة ماء على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح الصباح قال: يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها.
فصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى).
حتى إنه لما كان يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام فيأكل منه، فيرجع إليهم ما تبقى منه فيأكلون، فيسأل أبو أيوب: أين مواضع يده؟ وإذا شرب يقول: أين موضع فمه من الإناء؟ فيتحرى مواضع فمه ويده صلى الله عليه وسلم فيأكل من الموضع الذي أكل، وكذلك يتحرى في الشرب موضع فمه صلى الله عليه وسلم في الإناء فيشرب هو وامرأته منه، فأرسل له يوماً بصلاً، فلم يأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، فلما صعد الرجل بالطعام إلى أبي أيوب ورأى البصل كما هو فزع ونزل وقال: (يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أُناجَى فأكره ذلك) -يعني يكره أن يؤذي الملك، فماذا قال أبو أيوب؟ رغم أن البصل حلال، والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينهه عن ذلك، قال: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره، وامتنع من أكل البصل.
كذلك في الصحيح أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لأبنائه يوماً، وأبناؤه هم: عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم، وحمزة، وبلال، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفي لفظ: (إذا استأذنت أمة أحدكم أن تخرج إلى المسجد فلا يمنعها).
فقال أحد أبنائه -وهو بلال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً! الدغل: جمعه أدغال، وهو المكان كثير الشجر، كأنه يقول: إن بعض النساء قد يتخذن من الخروج إلى المسجد ذريعة فيقضين مآربهن، فيقول: لنمنعهن حتى لا يتخذنه دغلاً وحجة، يعني: -كما لو دخل رجل في الأدغال وراء شجرة أو نحو ذلك- فحصبه عبد الله بن عمر بحصيات، وقال له: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وتعارضه! والله لا رأيتك أبداً، فيذكرون أنه ما دخل عليه حتى مات.
هذا لأن ابن عبد الله بن عمر اعترض على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في اعتراضه سوء أدب من وجهة نظر والده، بغض النظر عن أنه متأول، ولا يقصد أن يرد برأيه الحديث، وإنما كان عنده علة جعلته يتلفظ بهذا القول، لكنه كان قولاً فجاً في نظر عبد الله بن عمر، فلم يتحمل منه هذا.(104/3)
اعتراض الغزالي على حديث: الكلب الأسود شيطان
الآن يعترضون ليس على حديث نبوي بل على آيات القرآن الكريم، وبطبيعة الحال هم لا يعترضون على ذات الآية إنما على معناها ومؤداها.
وهذا محمد الغزالي المصري في كتابه الأخير -وهو من أشأم الكتب التي صدرت في هذا العصر- لمّا أتى على حديث أبي ذر، الذي رواه عنه عبد الله بن الصامت، وأخرجه مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والكلب الأسود والحمار، قال أبو ذر: يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان).
فهذا بيان واضح للتفرقة، وأبو ذر استشكل الكلب الأسود، لماذا الكلب الأسود؟ فقال له: (الكلب الأسود شيطان).
فيأتي الغزالي فيقول: بل الكلاب كلها سواء، يعني: لا فرق بين الكلب الأسود والأحمر والأصفر.
كيف هذا وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما استشكله أبو ذر وقال له: إنه شيطان؟! فيأتي هذا فيقول: لا، ليس شيطاناً، بل الكلاب كلها سواء، لا فرق بين أصفر وأحمر وأبيض، فهذا رد صريح للأحاديث النبوية، وهناك العشرات الذين يردون الأحاديث، بل أكثر!(104/4)
اعتراض الغزالي على حديث الحبة السوداء
ومن الأمثلة أيضاً: لما ذكر الغزالي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، تدرون ماذا قال؟ لقد قال: لا يعقل أن الحبة السوداء تستخدم في (الأنفلونزا)، أو تستخدم في (المغص)، أو تستخدم في مثل هذه الأشياء، فلا بد أن الحديث ليس على ظاهره، فيقول وهذا كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، يقول: فهل دمرت كل شيء؟ مع أن لفظ (كل) من ألفاظ العموم، إذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فنحن نعتقد أن الحبة السوداء شفاء من كل داء، ولسنا نعتقد أن الحبة السوداء هي التي تدفع الداء، إنما هي سبب، قد يرفع الله عز وجل الداء بشربة ماء، وقد لا يرتفع المرض بأخذ جميع أنواع العلاجات التي صنعت لرفع هذا المرض، فالمسألة مسألة أسباب فقط، والله تبارك وتعالى هو الشافي.
هناك امرأة مغربية ذهبت إلى أطباء الدنيا، وقرروا أن عندها سرطان، وأن الحالة ميئوس منها، وقالوا: لم يبق من عمرها إلا ثلاثة أشهر فقط، وقالوا لأهلها: متعوها وأكلوها وشربوها كل ما تريد؛ لأنه لم يبق من عمرها إلا ثلاثة أشهر فقط، فقال الأهل للمرأة: أي شيء في نفسك وتريدينه من أكل أو شرب أو غيرهما سنوفره لكِ، قالت: أريد أن أذهب إلى الحرم، وأقضي بقية عمري هناك، وذهبوا بها إلى الحرم، ولم تكن تأكل ولا تشرب، وإنما كانت تشرب من ماء زمزم فقط، وكانت تأكل بعض حبات الفاكهة ونحو ذلك، مرت ثلاثة أشهر والمرأة لا شيء عندها أربعة أشهر خمسة أشهر ستة أشهر أين ذهب المرض؟ لا تدري، شعرت أنها في صحة جيدة، عرضت نفسها على أطباء المملكة، قالوا: إنك لا تشتكين من أي علة، قالت: هؤلاء لا يعرفون شيئاً، الأطباء الكبار قرروا أن بها سرطاناً، وأطباء المملكة يقولون: ليس بها شيء، أبناؤها لم يصدقوا ما قرره أطباء المملكة، فأخذوها وطاروا بها إلى الأطباء هناك، فبحثوا فلم يجدوا العلة، أين ذهب المرض؟ لا يعرفون، قالوا لها: عند أي طبيب تعالجت، وأي دواء أخذت؟! قالت: ما أخذت شيئاً سوى أنني كنت في الحرم، وكل طعامي وشرابي كان من ماء زمزم.
فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى رفع هذا الداء بماء زمزم.
كما قلنا: قد يرتفع العلاج بشربة ماء، وهذا ما حدث لـ أبي ذر في قصة إسلامه، أنه اختفى من المشركين في المسجد الحرام، ونزل إلى ماء زمزم، ولم يكن له شرب ولا أكل إلا من ماء زمزم، حتى قال أبو ذر: (حتى تكسرت عكن بطني).
يعني: صار اللحم طبقات بعضها فوق بعض من شرب ماء زمزم، (حتى تكسرت عكن بطني ولم أجد على كبدي سخفة جوع).
ماء زمزم هو الماء الوحيد الذي إن شربته قام مقام الطعام، بخلاف الماء العادي إذا كنت جائعاً فلا تستطيع أن تستسيغ الماء، بخلاف ماء زمزم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم) أي: ماء زمزم.
فمن الذي يقول بقول الغزالي؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فنحن نعتقد أنها شفاء من كل داء إلا السام، -وهو الموت- واحتجاجه بالآية في غاية العجب؛ لأن الآية تقول: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فيقول: فهل دمرت كل شيء؟ تمام الآية: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فدل على أن المساكن استثنيت من هذا التدمير.
انظروا إلى الجرأة على حديث النبي عليه الصلاة والسلام! فاتباع وتوقير كلام النبي عليه الصلاة والسلام فرع -بلا شك- عن المحبة، لو كان هؤلاء يحبون النبي عليه الصلاة والسلام كما كان يحبه السلف الأوائل لوقفوا عند قوله، ولم يتقدموا بين يديه بقول، فضلاً عن أن يخالفوا قوله، فإن مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام جريمة عظيمة.(104/5)
الفرق بين تعظيم الصحابة للكتاب والسنة وبين المتأخرين بعدهم
إن الفرق بيننا وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يظهر في قوله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] ورثوا الكتاب! هناك فرق بين الذي قاتل من أجل آيات الكتاب وبين الذي ورثه، أنت ترى أن الرجل قد يخلِّف ثروة طائلة لأولاده، فترى كثيراً من أولئك الورثة ينفق هذا المال كله الذي جمعه والده في عشرات السنين، ويأتي الولد ويضيعه في عشية أوضحاها دون أن يذرف عليه دمعة، إنما الذي جمعه بكده وعرقه لا ينفق منه درهماً واحداً ولا ديناراً إلا إن علم أن هذا هو موضعه فيه؛ لأنه تعب عليه.
كذلك الصحابة ما كانوا ليخالفوا الكتاب أبداً، ولم يكونوا ليخالفوا قول النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تحملوا الأذى من أجله، وما وصلنا الكتاب ولا السنة إلا على أشلاء أولئك الصحابة، والحروب التي خاضوها واستعذبوا الموت في سبيل الله عز وجل، من أجل أن يوصلوا إلينا هذا البيان نقلاً أميناً صحيحاً غير محرف، بخلاف أولئك الذين ورثوا الكتاب ترى أحدهم يحتج بالآية في غير موضعها، بل وبضد موضعها أحياناً، وتهون عليه، ويجاهر ويكابر.
هناك بعض أصحاب محلات الحلاقة يكتبون على جدران محلاتهم قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] وهذه الظاهرة موجودة عندنا في بعض محلات الحلاقة، ماذا يقصدون بكتابة هذه الآية؟ إنهم يقصدون بذلك أنه عندما يحلق اللحية مرتين يصير الوجه ناعماً والخد أملساً، فهذه الآية ساقها الله تبارك وتعالى مساق المدح لأهل الجنة، وهؤلاء يضعون الآية في غير موضعها بل ضد موضعها، لماذا هانت عليهم آيات القرآن الكريم إلى هذا الحد؟! لأنهم ورثوا الكتاب، لم يحسوا بقيمة هذا القرآن.
كذلك ترى مكتوباً في محل عصير أو شراب: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، هل هذا هو الشراب الطهور الذي أراده الله تبارك وتعالى من الآية؟! بل وترى بعض الذين يحملون القرآن الكريم -أي: يحفظونه عن ظهر قلب- مخالفات عجيبة.
حدثت عندنا قصة وهي: أن أحد الأثرياء ماتت والدته، فأراد أن يأتي بأشهر قارئ ليقرأ لها، فأتى بقارئ كبير ومشهور جداً، وإنما يسمع الناس صوته في الإذاعة، ولم تكتحل أعينهم برؤياه، فلما علموا أن القارئ الإمام سيقرأ في العزاء أتوا من كل حدب وصوب، ومن كل فج بعيد؛ حتى يرون هذا القارئ.
هذه القصة حدثت قبل عشر سنوات، يعني من نحو خمسة عشر عاماً، فلما ذهبوا ليتعاقدوا معه، قالوا له: بكم تقرأ ثلاثة أرباع؟ قال: أقرؤها بأربعمائة جنيه، الأربعمائة جنيه في ذلك الوقت كانت قيمة عالية، قالوا له: خذ المال، قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، انظروا! وكأن هذا القارئ لم يقرأ قط قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]! وكأنه لم يقرأ قط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، كأنه لم يقرأ هذه الآيات! بل قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، وجاء الرجل وقرأ، والناس ينصتون ليس لآيات القرآن، إنما ينصتون للصوت، هم منسجمون مع الصوت، حتى أن قارئاً كان يقرأ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] قام رجل وقال: الله يزيدك يزيده ماذا؟! أكثر من سبعين ذراعاً!! وأحياناً تقرأ هذه الآية: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] يقول بعض الحاضرين: اللهم اجعلنا منهم، هو لا يدري زمر الجنة من زمر النار، إنما يسمع للتطريب فقط، فانسجم الناس، المهم طلبوا ربعاً رابعاً، قال: أنا مرتبط بأعمال، حسن! خذ ما شئت من المال، الذي طلب منه مواصلة القراءة هو ذلك الرجل الثري؛ لأن الحاضرين في عزاء والدته عدد ضخم جداً، وهم يتفاخرون بذلك، أبى، فقال له بعض الناس: لماذا تغالي في أجرك؟! أربعمائة جنيه في ثلاثة أرباع! لماذا تغالي في أجرك؟! فقال -ما أدري مازحاً أم جاداً، مع أن المزاح في هذا لا يجوز- قال: ألم يقل الله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] أنا أعتقد أن هذا الرجل لو قصد واعتقد هذا المعنى لكفر، فإن الدنيا كلها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لو وضعت الدنيا في كفة ووضع شطر آية في كفة، لا يشك أحد أن هذه الآية بل وشطر الآية أفضل من الدنيا كلها، وهل يظن أن هذا الرجل لو غالى حتى أخذ أموال الدنيا كلها أنه وفى هذا القرآن حقه؟! فإذا كان هذا حال الذين يقرءون القرآن كله، ويحفظونه عن ظهر قلب فكيف بغيرهم؟! ولقد نعلم علماًَ ضرورياً أن جل الصحابة كانوا يحفظون القرآن كاملاً، لكن الفرق بيننا وبينهم كبير.(104/6)
الفرق بيننا وبين الصحابة في حفظ القرآن
كان الصحابة كتلة واحدة؛ لأنهم تعلموا الإيمان والقرآن جميعاً، وما كانوا يتجاوزون آية من آيات القرآن إلا ويعملون بها، ويقول بعض العلماء: لعل هذا هو السبب الذي جعلهم لا يحفظون القرآن كله، الذين يحفظون القرآن الآن ليسوا أذكى منهم ولا أحفظ، والعرب الأوائل اشتهروا بالحفظ، كانوا يحفظون المعلقات، ويحفظون الأمثال، هكذا كان الحفظ! أيعجزون أن يحفظوا آي الذكر، ويحفظوا أقوالاً مركبة معقدة كالصخر؟! أفلا يحفظون آيات الذكر الحكيم التي يحفظها الطفل الصغير؟! {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
أنا أعرف رجالاً عاشوا وهم يحفظون القرآن، وماتوا وهم لا يعرفون تفسير المعوذتين! {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] الواحد منهم لا يعرف ما هو الغاسق، ولا يعرف ما معنى وقب، وكذلك الطفل الصغير لا يعرف لكنه يحفظ، فهذه بركة في القرآن الكريم أن يحفظه الكل، أفيعجز أولئك الصحابة الذين كانوا يحفظون الأقوال الجامدة من أن يحفظوا القرآن الكريم؟! لا يعجزون، إذاً لماذا مات أغلبهم ولم يحفظوا القرآن الكريم كله؟ لأنهم لم يكونوا يتجاوزون الآية ولا الآيتين ولا الثلاث إلا بعد أن يعملوا بها.
وهذا -كما قلت:- أحد الفروق التي تميز أولئك الصحابة العظام وبين جيلنا الآن.(104/7)
السر في كون الصحابة فاقوا من بعدهم
أثُر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، وإنه يأتي أقوام يتعلمون القرآن ثم يتعلمون الإيمان)، هذا هو الفرق: تعلم الإيمان أولاً، فإذا جاءته آية أو جاءه حديث لا يفقه معناه لا يعترض، لأنه آمن أولاً فيسلِّم، بخلاف الذي يقرأ القرآن بغير إيمان كامل فإنه يمكن أن يعترض على آيات، أو يمكن أن يرد أحاديث كثيرة.
فلذلك عبد الله بن مسعود كأنه بهذا القول يشير إلى خطورة تعلم المرء القرآن قبل تعلم الإيمان، أو تعلم العلم قبل تعلم الإيمان، لقد وصلت استهانة الناس بالقرآن إلى حد أنهم حرفوا النص، لا أقول حرفوا التأويل، إنما حرفوا النص.
بعض أقطاب الصوفية وأظنه ابن عربي أو رجل يشابهه لما جاء يفسر قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]-الصوفية يفسرون القرآن بالإشارة- قال: تفسير الآية ليس كما يتبادر إلى أذهانكم، وإنما معنى الآية هكذا: (من ذل ذي يشف ع)، أتى بلفظ آخر للآية: (من ذل): من الذل.
(ذي): اسم إشارة، أي: من ذل نفسه.
(يشف) أي: من الكبر والبطر والرياء والعجب.
(ع): فعل أمر: من وعى، أي: ع هذا الكلام، هل الآية هكذا لفظاً ومعنى؟! سبحان الله! هانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأن الأمر كما قال تعالى: {وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169]، وهذا رجل وارث، ما قاتل على آيات الكتاب حتى يعز عليه أن يحرف المعنى، لأن مسألة تحريف اللفظ هذه مسألة خطيرة جداً.
صحيح أن ألفاظ القرآن الكريم يحمل وجوهاً كثيرة، والآية الواحدة قد تحتمل أكثر من معنى، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يعود على معنى الفقه بالإبطال، إذا كان التأويل سائغاً معتبراً لا يخرج عن حد اللفظ اللغوي، وكان معنىً سائغاً لائقاًً كهذا التفسير اللائق لقوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] هذه الآية معناها: أن المساجد لله تبارك وتعالى، فلا تخلط فيها شيئاً من الدنيا، ولذلك يمنع فيها البيع والشراء، وهيشات الأسواق، والنزاع والخصومة، وإنشاد الضالة، وهذه المعاني في المسجد إلى آخره.
فالمعنى السائغ اللائق هو كما قال بعض العلماء: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} المساجد هنا: جمع مسجَد، أي: أن أعضاءك السبعة التي تسجد بها لله، فلا تسجد بها لأحد غير الله، لا تأت وتخرَّ على الأرض ساجداً أمام أي إنسان مهما كان عظيماً، كما يفعل بعض الجهلاء، كما حدث مع شاه إيران لما خرج من المطار أتى رجل وقبل نعله وسجد له.
وهذا المعنى الذي قاله هؤلاء العلماء في هذه الآية معنى لاائق؛ لأن اللغة تدل عليه، لا يجوز لأحد أن يسجد لأحد من البشر على هذه الأعضاء السبعة، بل هذه الأعضاء إنما يسجد بها المرء لربه تبارك وتعالى.
فإذا كان اللفظ محتملاً للمعنى ولا يخرج عن دلالته اللغوية فإنه جائز، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يصل إلى إبطال الآية ذاتها، مثل لفظ: (من ذل ذي يشف ع) مع أن الآية خلاف هذا تماماً، إنما تجرءوا على فعل هذا الفعل المنكر، وهانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأنهم ورثوا الكتاب.(104/8)
الفرق بيننا وبين الصحابة في الاختلاف
الصحابة الأوائل كانوا يختلفون عن هؤلاء اختلافاً كبيراً، لذلك فنحن نشبه بُعْدَ المسلمين عن تطبيق الإسلام بمثلث حاد الزاوية، النقطة لا أبعاد فيها، مثل إذا وضعت نقطاً برأس القلم فليس فيها طول ولا عرض، وإن كان فيها أبعاد فهي أبعاد قصيرة جداً لا تكاد تذكر، فلو قلنا: هذه النقطة هي العهد النبوي، كانوا كلهم شيئاً واحداً، حتى لو حدث خلاف فهذا الخلاف ينتهي بسرعة؛ لأن الصحابة ما كانوا يقصدون الخلاف ولا يتعبدون به، إنما الخلاف شيء طارئ رغماً عنهم، حدث بسبب اختلاف وجهات النظر، ولكنهم كانوا يرجعون بسرعة إذا ظهر الحق.
كما في الصحيحين (أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، وكان في أبي بكر رضي الله عنه حدة، فكأنما احتد على عمر، فرجع أبو بكر فقال لـ عمر: اغفر لي.
فقال: لا أغفر لك.
فانصرف أبو بكر وندم عمر أن أبا بكر قال: اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فذهب إلى بيت أبي بكر فلم يجده، ف أبو بكر كان قد توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رفع شيئاً من ثوبه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم هذا فقد غامر -يشير إلى أن هيئة أبي بكر هيئة غير عادية- فجاء وقال: يا رسول الله! اختلفت مع عمر في شيء من الحديث، فقلت له: اغفر لي.
قال: لا أغفر لك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، فقعد، -فلما سأل عنه عمر فلم يجده توجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تغير وجهه، وقال له ولهم جميعاً: جئتكم فقلتم لي: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت! وواساني بماله ومنعتموني! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قال: فما أوذي بعدها.
الآن يختلف بعض الإخوة مع أخيه في مسألة فرعية، فتراه يترك المسجد الذي يصلي فيه مع أخيه، وإذا رآه قادماً من طريق أخذ في طريق آخر، وإذا ذُكِرَ أخوه ذمه، وقد ينهشه لماذا؟ لأنه مختلف معه، تراه يراقبه في صلاته: هل يحرك الإصبع أم يشير بها؟ هل يشير أم يرفع عند النفي والإثبات؟! هل يقبض بعد القيام من الركوع الثاني أم يرسل، قضايا فرعية يتعاملون فيها كالقضايا الأصولية، وهذه مصيبة عظيمة! إن الدافع هو جهل أولئك بالخلاف وأدب الخلاف وأدبه، كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في المسائل العظيمة، وأظن خلافهم في اختيار الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سقيفة بني ساعدة مشهوراً، وكان كفيلاً بتدمير الدعوة، لأنه كان من الأنصار من هو مصر على -بلغة العصر- أن يرشح نفسه بمقابل أبي بكر الصديق، أو في مقابل المهاجرين، حتى قال قائلهم: (منا أمير ومنكم أمير)، وأصروا على ذلك في بداية الأمر، ولكن لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنهم أخلصوا دينهم لله، وأنهم لا يتعبدون بالخلاف ولا يختارونه، فأصلح ذات بينهم، وزال الخلاف، فلما قضي الأمر لم تجدهم يعترضون على اختيار أبي بكر خليفة، ويقول: لا، أنا معترض، وهذه وجهة نظري.
الآن لو حدث كمثل الأمثلة التي ضربتها لا يتحمل الناس بعضهم بعضاً فيها، هؤلاء لم يتحمل بعضهم بعضاً في القضايا الفرعية فكيف بالقضايا الأصولية؟! وفي حديث عبد الله بن مسعود لما أتم عثمان في منى أربعاً، وهو في الصحيحين، لكن الجملة التي أريدها في سنن أبي داود، وفي مسند الإمام أحمد: (لما بلغ ذلك عبد الله بن مسعود أن عثمان يتم استرجع).
وفي مسند الإمام أحمد بسند فيه ضعف: (أن أبا ذر لما بلغه ذلك حوقل واسترجع أن يتم أربعاً) ولكن لما أقيمت الصلاة قاموا يصلون خلفه أربعاً، قيل لـ عبد الله بن مسعود في ذلك قال: (الخلاف شر).
لأن الخلاف الذي ينتج عنه خروج عبد الله بن مسعود على عثمان بن عفان، مع أن عثمان اجتهد في هذه المسألة، فأداه اجتهاده إلى ذلك ووافقته عائشة عليه، فإنه أعظم ألف مرة من المصلحة الحادثة التي يحصلها من لا يصلي خلف عثمان أربعاً، أيختلفون بين يدي الله في مناسك الحج؟ أهذا هو الفقه؟! فعندنا مثلاً المفتي لما يرى أن هلال رمضان لم يره، بينما في بلد مجاور لنا رأوا الهلال، فيقول هذا المفتي: إن لكل بلد رؤية خاصة، وهذان قولان معروفان عند أهل العلم: اختلاف المطالع واتحادها، وإن كان الراجح اتحاد المطالع، لكن الرأي الآخر قال به علماء، واختاره هذا المفتي، فلا نخالفه في هذا الأمر لعموم البلوى بالمخالفة، حدث عندنا في حلوان منذ أربع سنوات: أن السعودية رأت الهلال قبلنا بيوم، وصادف -ولعلكم تذكرون- العيد يوم الجمعة، فبعض الذين لا يتبعون المفتي بعد صلاة الجمعة وقف على المنبر وأخذ ماءً وشرب، بينما هذا اليوم كان هو المتمم لرمضان عندنا، الناس جميعاً صُوَّم، وهذا وقف على المنبر وشرب، وقال: اليوم يوم العيد ولا يحل صيام يوم العيد! لقد حدث خلاف كادت أن تطير فيه رقاب، ما هي المصلحة؟ وهل هناك مصلحة أن يذهب أناس يصلون العيد وإخوانهم في نفس البلد يتمون صيام رمضان؟! إذا كان من المسائل التي رجح بها القائلون باتحاد المطالع، قالوا: إذا اجتمعت الأمة المسلمة على يوم عيد واحد وعلى يوم صوم واحد، فهذا أدعى أن يحس بعضهم ببعض، فلا شك أن أهل البلد الواحد أكثر إحساساً بهذا الأمر من أهل البلدان المتفرقة، يعني: إذا كان العيد في تلك البلاد، ونحن لا زلنا صائمين، فإننا لا نحس أن هناك مخالفاً؛ لأننا جميعاً صُوَّم، إنما إذا كنا في البلد الواحد وأقوام يصلون العيد، وأقوام يتمون صوم رمضان! هذا بلا شك من الجهل، كما قال بعض العلماء: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف.
فالصحابة الأوائل كان عندهم من فقه النفس وفقه الأحكام الشرعية ما يعقلهم من مثل هذا الزلل الذي يقع فيه كثير من الشباب اليوم، أضف إلى ذلك الإخلاص، يوجد الآن أقوام يتعبدون بالخلاف، وهذه مصيبة كبيرة، بل بدعة قبيحة جداً، أن يتعبد عبد بالخلاف.(104/9)
من أدب الخلاف عند الصحابة
جاء في سنن الإمام الترمذي بسند صحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار)، فحدث بينه وبين ابن عباس جدال طويل حول هذا الحديث، صحيح أن هذا الحديث نُسخ، لكن لم يصل النسخ إلى أبي هريرة، فلا يزال يفتي بالذي سمعه، قال له ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! -أي: سآكل اللحم بغير أن أطبخه؟! - يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ -يعني: ألا يجوز لي أن أتوضأ من الماء الساخن؟ - هبني في شتاء قارس وأريد أن أتوضأ بماء ساخن، لا بد أن تمسه النار، يعني: أنت تلزمني إذاً بعد أن أتوضأ بالماء الساخن أن أحدث وضوءاً بماء بارد لم تمسه النار، إذاً لا فائدة في تسخين الماء.
هل ابن عباس أتى بنص أم بشبه عقلية؟ شبه عقلية، ما أتى بنص، لذلك ثبت أبو هريرة، ولم يرجع عن قوله، ثم قال له: يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال، لا تأت بهذه الشبه العقلية على النص، النص هو المقدم.
صحيح أن ابن عباس روى حديثاً -وهو صحيح- (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عند ميمونة، خالة ابن عباس وكان يحتز من كتف شاة، فدعي إلى الصلاة فصلى ولم يحدث وضوءاً)، فهذا من جملة الأحاديث التي يحتج بها العلماء على نسخ الحديث الأول.
لو أن ابن عباس روى هذا لـ أبي هريرة لرجع أبو هريرة عن قوله، لكن الذي جعل أبو هريرة يثبت على هذا القول: هو أن معه نصاً وابن عباس ليس معه نص، بل جدل عقلي.
انظر! هذا خلاف بين ابن عباس وبين أبي هريرة، هل هجر أحدهما الآخر؟ لا.
كما قلنا: الصحابة انتفعوا بالآيات، وانتفعوا بالأحاديث التي تحث على الترابط والتماسك، ولقد قال بعض العلماء: من عجز أن يقوم الليل، وأن يتصدق، وأن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، فليحب أخاه في الله، فإن هذا يحقق به خيراً عظيماً.
وحسبنا حديث أبي هريرة: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية مجاورة، فكان هناك ملك على قارعة الطريق، قال له: إلى أين؟ قال: إلى قرية كذا أزور فلاناً.
قال: هل ترى عليك له نعمة؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله.
قال: فأنا رسول الله إليك إن الله أحبك كما أحببته).
فإذا وصل العبد إلى مثل هذه المرتبة فاز والله، لكن تجد أن روح المحبة طاشت وزالت بخلاف تافه جداً!! ربما جزئية واحدة نختلف فيها تفرقنا، ومائة ألف جزئية متفقون عليها بيني وبينك لا تجمعنا! قد أكون متفقاً معك في عشرات المسائل، متفقاً معك في العقيدة، متفقاً معك في غالب الفروع، لكن خالفتك في جزئية واحدة، تتجنبني، ولا تصلي في المسجد الذي أصلي فيه، وإذا ذكرتني ذميتني.(104/10)
أدب الإمام الشافعي مع مخالفيه
ما أكمل عقل الشافعي رحمه الله! اختلف هو ويونس بن عبد الأعلى أحد تلامذته في مسألة وتفرقا، فما كان من الشافعي إلا أن ذهب إلى دار يونس، ودخل عليه، وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟! الذي أبعد هؤلاء الشباب عن جادة الصواب: أنهم لم يتتبعوا خُطا أسلافهم بحق، بل لم يتتبعوا أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة بمحبة المسلم لأخيه وعذره، وأن يلتمس له العذر؛ لذلك الفرق بيننا وبين أولئك كثير.(104/11)
ضعف الاتباع عند المتأخرين لبعدهم عن زمن النبوة
فلو افترضنا أن النقطة هذه هي زمان النبوة، فالخلاف الحادث فيها كان خلافاً يزول بسرعة؛ -كما قلنا- لأنهم ما كانوا يختارون الخلاف، إذا أخذت ضلعاً أو خطاً مستقيماً من هذه النقطة، واعتبرت أن هذه هي الأوامر والنواهي، وأن هذا هو الإسلام، وأخذت خطاً مستقيماً آخر ينبع من ذات النقطة، ومثلنا الصورة هكذا هذا رأس المثلث وهذان الضلعان، كلما انحدرت إلى أسفل كلما ازدادت المسافة بين الضلعين أي: أنك كلما انحدرت وبعدت عن مصدر الضوء -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- فكلما أوغلت في الظلام بعدت، وكلما ابتعدت المسافة بين الضلعين بعد الإنسان عن زمان النبوة، وكلما بعد عن تحقيق الإسلام يكون بينه وبين الأوامر والنواهي خط طويل طويل.
فلا شك أن الاتباع -اتباع النبي عليه الصلاة والسلام- فرع عن المحبة التي تكون في قلب العبد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الذي يحب النبي عليه الصلاة والسلام يستحيل أن يخالفه، أعجز كثير من المسلمين أن يكونوا كهذا الرجل الذي طاف بديار محبوبته يوماً، فقال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار مجرد أنها كانت في هذا المكان فهو يرى أن لهذا الجدار منة عليه وحقاً، أنا لا أقصد إقراره على هذا المعنى، لكن لعل المعنى الذي أريده وصل إليكم.
وكهذا الرجل الذي أراد أن يهدي محبوبه يوماً هدية، ولكنه كان عاجزاً فبكى ثم قال: أرسلت دمعي للحبيب هدية ونصيب قلبي من هواه ولوعه قال اجتهد فيما يليق بقدرنا قلت اتئد جهد المقل دموعه ما أملك إلا هذا فأنا أرسله إعلاماً بالمحبة.(104/12)
اقتداء الأئمة بالصحابة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
علماؤنا المتبوعون رحمة الله عليهم، كـ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان، والأوزاعي وهؤلاء السادة كانوا مثل أسلافهم من التابعين وشيوخهم حتى الصحابة رضوان الله عليهم، فساروا على نهجهم سيراً حثيثاً، ليت الذين يتبنون هذه المذاهب يتأدبون بالأدب الذي تحلى به إمام المذهب، اتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام الذي هو فرع عن المحبة الأصيلة في قلب ذلك الإمام العظيم، أظن قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هو قول مشتهر مستفيض عنهم جميعاً، فلا يقدمون قول أحد على قوله عليه الصلاة والسلام.
هذا المعنى نظمه بعض المتأخرين، وهو الشيخ محمد سعيد حفظ المدني، وكان حنفياً ويسكن في المدينة المنورة، وغالبنا لا يعرفه، له منظومة الهدى، نظم فيها قواعد الإسلام وآدابه، منظومة رائقة جداً، يقول بخصوص هذه الجزئية -جزئية الاتباع-: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأصل بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرض على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتموا قولي مخالفاً لما رويتموا من الحديث فاضربوا الجدار بقولي المخالف الأخبار وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر ما قالت الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وذكر في هذه المنظومة أيضاً قول بعض المتأخرين من الأحناف: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان يفصل بالمذهب الحنفي، فقال: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب فهذا القول من علمائنا السادة الأكابر يدل على محبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مستفيض بل متواتر من أقوالهم التي نقلت عنهم في كتب المذاهب وفي كتب غيرهم، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله لما تناظر هو وإسحاق بن راهويه في مسألة شراء البيوت، فاحتج الشافعي عليه بالحديث، فقال له إسحاق: إن الحسن وعطاء يقولان كذا وكذا.
فقال له الشافعي: أنت فقيه أهل خراسان؟ قال: هكذا يقولون.
قال: كنتُ أحوجَ أن يكون غيرك في موضعك فآمر بقرص أذنه، وهل لأحد قول مع قول النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولما سأله سائل: إذا جاءك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أتأخذ به؟ قال: سبحان الله! أتراني ألبس لباس الرهبان؟ أترى على وسطي زناراً؟ أتراني أخرج من كنيسة؟! أشهدكم أنه إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولاً فلم أقل به أنه قد زال عقلي.
وكذا قاله بعض العلماء المتبوعين كـ أحمد وغيره- قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، قلت به أو لم أقل.
فلله درهم برءوا أنفسهم أحياءً وأمواتاً! وكان الإمام الشافعي يقول لـ أحمد: يا أحمد! أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح عندك الحديث أعلمني به حتى أفتي عليه، -أو قال: أعلمني به حتى أقول به- كوفياً كان أو حجازياً أو بصرياً.
قال الإمام الذهبي: ولم يقل: أو مصرياً؛ لأن الشافعي كان أدرى بحديث أهل مصر من أحمد، إنما قال: بصرياً كان أو كوفياً أو حجازياً ولم يقل مصرياً؛ لأنه كان أبصر بحديث أهل مصر من الإمام أحمد.
فالحاصل أن الاتباع فرع على محبة النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن نعلم ضرورةً أن الذي لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ما نزعم أنه لا يحبه؛ لأن عدم محبة النبي عليه الصلاة والسلام كفر، لكن نقول: إن المحبة في قلبه خفيفة، ليست هي المحبة التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها، وأن يوقر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتقدم بين يديه بقول ولا فعل، ولله در الإمام السبكي! حيث قال في رسالته النافعة: بيان قول الإمام المطلبي.
إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وليتصور أحدكم إذا بلغه الحديث أنه واقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بهذا الحديث وبهذا الأمر، أكان يسعه أن يرده؟ ليتصور أحدنا أنه الآن يسمع هذا الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام، أكان يسعه أن يرده ويبدي التأويلات، فضلاً عن التمحلات الباردة التي يبديها بعض الناس ليفتن غيره، وذلك بتغيير دلالة الأحاديث النبوية، أكان يسعه أن يقول هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان الجواب بالنفي، فكذلك لا يجوز للمسلم أن يبلغه عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث فيخالفه إلى غيره، إذ أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(104/13)
الأسئلة(104/14)
حقيقة المدرسة العقلانية ونقد أحد ممثليها
السؤال
السائل يقول: الغزالي يمثل المدرسة العقلانية، ما أصل هذا النهج المنحرف؟ وكيف انحدروا ووقعوا فيه؟ كما لاحظنا أن كثيراً من الشباب السذج لا يعرفون خطر هذا الانحراف.
الجواب
الشيخ محمد الغزالي خطه من قديم تقريباً واحد، فالذي يتابع كتابات الشيخ الغزالي من أوائل ما بدأ يصنف، يرى أن كتابه الأخير ليس مفاجأة، إنما المفاجأة فيه أنه جمع كل الأوابد والطامات في هذا الكتاب، أما هذه فمتفرقة في كتبه كلها، فتقديم عقله على حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم اكتراثه بعقول غيره هذه هي مصيبة هذا الرجل، كأنما هو الوحيد الذي يفكر ويتدبر ويفهم، تعجبت جداً! عندما أورد حديث موسى وملك الموت الذي رواه البخاري ومسلم، واعترض عليه اعتراضاً متهافتاً للغاية! فيقول: إن بعض الطلبة من الجزائر قال لي: هذا الحديث هل هو صحيح؟ فقلت له متبرماً: وما يعنيك؟ قال: أردت أن أسأل عن صحته.
قال: فأجبته وأنا ضائق الصدر: الحديث مروي عن أبي هريرة.
ما علاقة روايته عن أبي هريرة بالصحة؟ هو لم يقل لك: من الصحابي الذي رواه؟ إنما يقول لك: ما صحته؟ مع كون هذا الرجل يعلم أن هذا الحديث في الصحيحين، لكنه لم يصرح بأن الحديث في الصحيحين؛ لأن تصحيحه أو اعتراضه على حديث في الصحيحين دعوى فجة من مثله، لذلك هو يتبرم ويحوم ويدور ويتحاشى أن يقول: إن الحديث في الصحيحين.
يقول: فلما رجعت إلى هذا الحديث في بعض مصادره -ونقل من شرح الإمام النووي كلاماً للمازري والخطابي وغيرهما- قال: ودافعوا عن هذا الحديث، ودفاعهم كله دفاع تافه خفيف الوزن لا يساغ، قال: ثم رجعت أتأمل وأتدبر فوجدت أن الحديث فيه نكارة، إذ كيف يكره الصالحون الموت؟! بل كيف يكره نبي بل رسول بل من أولي العزم من الرسل الموت؟! وهل الملائكة تصاب بالأعراض وأنه فقأ عينه؟! قال: ورفضت الحديث.
رفض الحديث بهذا التفكير الذي لا يعجز عنه أسخف الناس تفكيراً من الذين لا يتمتعون بعقل راجح يقولون مثل هذا القول، كيف وهذا الرجل داعية من عشرات السنين؟! ويقول: فرجعت أفكر وأتدبر، معنى ذلك أنه فكر ملياً في الأمر، لكن (تمخض الجبل فولد فأراً)، بعد كل هذا التدبر والتفكر ما وصل إلا إلى هذه النتيجة السقيمة، ما وسعه شروح العلماء السابقين، هلا عندما يردها يردها بعلم وحلم بدلاً من أن يصف أولئك العلماء كـ ابن خزيمة والحافظ والنووي والمازري والخطابي وابن القيم وابن تيمية، وكل هؤلاء الذين مروا على هذا الحديث وغيره وفسروه تفسيراً مستقيماً، هل هؤلاء جميعاً دفاعهم تافه خفيف الوزن لا يساق؟! فهذا عجيب! لو قرأ مثلاً في فتح الباري وكلف خاطره لعلم أن في مسند الإمام أحمد رواية لهذا الحديث بسند صحيح أن ملك الموت كان يأتي الأنبياء على صورة رجل، فحينئذ سؤاله: وهل الملائكة تصاب بالأعراض؟ سؤال لا قيمة له؛ لأن الذي أصيب هو الجسم العارض، يقول: وهل الصالحون يكرهون الموت؟ يعني يقول له: أجب ربك، فيفقأ عينه ويفر من لقاء الله! هذا منكر.
نقول: رجل دخل على موسى عليه السلام، ما يعرف من أين دخل؟ والباب غير مفتوح والنافذة غير مفتوحة، وهو جالس في داره إذا به يجد رجلاً يقول له: أجب ربك.
وكان ملك الموت قد نزل -كما يظهر من الحديث- في هذه المرة بصورة تختلف عن الصورة التي كان ينزل بها على موسى، وكان هذا من باب الامتحان له.
إذاً الخلاصة أن موسى عليه السلام رأى رجلاً غريباً في الدار، من أين دخل؟ لا يدري، فعاقبه المعاقبة الشرعية -كما يقول ابن خزيمة - وفقأ عينه، لأن الناظر في دارٍ بغير إذن صاحبها تفقأ عينه، لقوله عليه الصلاة والسلام عندما رأى رجلاً ينظر قال: (لو أدركتك لفقأت بها عينك ولا دية لك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فإذا دخل البصر فلا إذن).
فلو جاءك رجل لا تعرفه وأنت في الدار وقال لك: أجب أمير المؤمنين.
هل تجيب أمير المؤمنين، أو كما عهدت من أمير المؤمنين أنه إذا أرادك أرسل لك حاجباً من عنده، وعلمت أنه لا يرسل آحاد الناس، إذ لا سبيل لآحاد الناس أن يصل إلى أمير المؤمنين؟ فقال لك: أجب أمير المؤمنين حالاً، أتستجيب له؟ فهذا رجل قال لموسى عليه السلام -ولا يعرفه-: أجب ربك؛ ففقأ عينه.
ولذلك لما صعد ملك الموت وقال لله تبارك وتعالى: (إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد عليه عينه وقال له: انزل لعبدي فقل له: ضع يدك على متن ثور فلك بكل شعرة مستها يداك سنة).
فلما نزل ملك الموت نزل هذه المرة بصورته المعروفة، لذلك موسى لم يفقأ عينه، ولو كان الرجل غريباً أيضاً لا يعرفه موسى لفقأ عينه في المرة الثانية، أما أنه لم يفقأ عينه هذه المرة؛ لأنه نزل بصورته التي يعرفها موسى عليه السلام، حينئذ فطن موسى أن هذا كان امتحاناً له، فقال: (إن ربك يقول لك: ضع يدك على متن ثور، فلك بكل شعرة مستها يداك سنة) فعلم أن الأولى كانت اختباراً له، لذلك قال: (أي رب: ثم ماذا؟ قال: الموت.
قال: فالآن)، فواضح جداً أن موسى عليه السلام له مبرر أن يفعل ذلك.
لكن في عجز الحديث أن موسى لم يكره الموت بل رحب به، قال: (فالآن) فهل في هذا الحديث أن موسى كره الموت؟ ثم هل الصالحون فعلاً يكرهون الموت أم لا؟ هذا الرجل يقول: إن الصالحين لا يكرهون الموت؛ لأنهم يرحبون بلقاء الله، وكذلك كل الذين لا يعتمدون على الحديث يزلون، يعتمد على عقله فقط، ولله در سفيان الثوري رحمه الله حيث قال: الحديث درج والرأي مرج، فإذا كنت على الدرج فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، وإذا كنت في المرج فسر حيث شئت.
يقول: إذا كنت تتبع عقلك ورأيك وهواك فالمسافة كبيرة جداً أمامك، تنتقل من رأي إلى رأي لأنه لا ضابط لك، فالرأي والذي يتبع الرأي مرج من المروج الواسعة والفسيحة، أما الحديث فهو درج سلم، فإذا كنت على السلم احذر أن تزل قدمك فتندق فتقع على أم رأسك.
يريد أن يقول: إن من يحتج بالأحاديث النبوية يجب عليه أن يحذر؛ لأنه مقيد بالنص، بخلاف الذي يعتمد على عقله إن سار يمنة ويسرة ما يضره، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن)، سجن المؤمن؛ لأنه مقيد بأوامر ونواه: افعل لا تفعل كأنه مسجون، ليست هناك رغبة مطلقة لأي إنسان، كل رغباته محدودة ومقيدة، إنما الأشياء المطلقة لا يجدها المسلم إلا في الجنة، فالدنيا سجن المؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي؛ لأنه يمشي على درج.
فهذا الرجل لأنه لا يعني بالأحاديث النبوية ولا ينظر فيها، ويعتمد على عقله وفهمه، بغض النظر عن أفهام الناس وعقولهم، وفيهم ألوف مؤلفة عقل أقل واحد منهم يزن عقل عشرات مثله؛ فكان هذا سبباً في زلَله، لكنه لو نظر في الأحاديث النبوية لما أقدم على هذه الدعوى، وأن الصالحين يحبون الموت.
ونرد هذه الدعوى بحديثين: الحديث الأول: ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وفي آخر الحديث (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي بقبض روح عبدي المؤمن يكره إساءته وأكره مساءته) فهذا نص في أن العبد المؤمن يكره الموت، فمن أين له أن يقول: إن الصالحين يحبون الموت؟ الحديث الآخر: حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت) هنا الشاهد، ولو كان الصالحون يحبون الموت لقال لها: لا يا عائشة، هناك من يحب الموت.
أما وأنه أقرها على هذا القول -ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة- دل على أن إقراره عليه الصلاة والسلام لهذه الجملة في أن الصالحين يكرهون الموت.
ومن مثل عائشة رضي الله عنها في الصلاح؟! (قالت: كلنا يكره الموت.
قال: ليس كذلك، إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة رأى مقعده من الجنة؛ فتعجل أن يخرج من هذا الضيق إلى هذه الجنة؛ فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن العبد الفاجر إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، ورأى العذاب الذي ينتظره، والنعيم الذي كان فيه قبل ذلك -بالقياس إلى هذا العذاب- كره أن تخرج روحه؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه) واللقاء هنا معناه الموت، للحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (واعلموا أنكم لن تلاقوا ربكم حتى تموتوا) فدل أن اللقاء هنا ليس هو وقوف العبد بينه وبين ربه ليس بينهما ترجمان لا، اللقاء في هذا الحديث معناه: الموت، كما هو مفسر في هذا الحديث.
فهل في هذا الحديث ما يذكر أن يستنكر؟! وهل الرجل الذي تدبر وأمعن ونظر، ثم عبس وبسر، هل في نظره هذا أي فكرة عميقة أو أي أطروحة تستحق الاحترام؟! الجواب: لا، اعترض -كما قلنا- اعتراضاً لا يعجز عنه أقل الناس تفكيراً.
المدرسة العقلية معروفة، وهي المدرسة التي لا تكترث بعلم الأثر، ثم هم يحابون كتّاب العصر وأولئك العلمانيين، حتى إن الشيخ الغزالي نفسه مشترك مع بعض النصارى في إصدار مجلة اسمها: (كل الناس) عندنا في مصر، وفيها صور خليعة لنساء، وفيها لاعبي الكرة، وفيها كل شيء، فهذا يشترك مع أولئك؛ حتى لا يقال: متزمت.
فهذا الرجل من خلال كتاباته -وإن كان يقول: أنا أعتز بالإسلام، لكن يبدو أنه لا يعتز به، بل إنه يشعر بعقدة نقص إذا نسب نفسه للإسلام عند أهل الغرب، لذلك يتحاشى تماماً أن يخالف الحديثُ فكرَ أهل الغرب، ويظهر ذلك جداً في الأصل السقيم الذي يعتمده، وهو الترخص، وأخذ شواذ الفتيا من ا(104/15)
الكبائر والصغائر
إن للشيطان خطوات للإيقاع بالإنسان، إذ يبدأ بتهوين الصغائر في نفسه، ثم يقوده إلى الكبائر، ثم إلى الكفر والعياذ بالله، ولقد حذر الله منه وبين أنه عدو مضل مبين يجب الحذر منه، والكبائر هي كل وعيد ختمه الله بنار أو بعذاب أو بلعنة أو بغضب، وأما الصغائر فقد حذر الله عز وجل منها أيضاً، ولكنها أخف من الكبائر، وبين الشارع أنه لم ينج من اقترافها أحد، فما من رجل يقع بجهل أو هوى في الصغائر فيعترف بذنبه ويتوب إلا تاب الله عليه.(105/1)
خطورة موالاة اليهود والنصارى
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن موسى عليه السلام لما قتل الفرعوني قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، كل عدو مضل لكن ليس مبيناً، لكن صفة الإضلال صفة أساسية ورئيسة في العداوة، من ظن أنه سوف يأتيه نفعاً من عدوه فهو سادر في أودية الضلال، والذي يعتمد على عدوه أشد منه ضلالاً.
فربنا تبارك وتعالى قد حذرنا وخالفنا أمره، خالفنا تحذيره، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118 - 120] كلام واضح غاية الوضوح {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] أي: من سواكم، إذاً: لا يأتي من مخالفك في المذهب خير، سواء كان كافراً، أو كان فاسقاً، أو مبتدعاً لا يأتيك منه خير، قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] يعني: لا يقصرون في إفسادكم، الخبال يعني: الفساد (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي: ودوا من قلوبهم لو وقعتم في العنت.
فأفواههم ما بين الحين والحين تظهر هذه البغضاء؛ لكن لأن الحرب خدعة والحياة مكر فهم لا يستطيعون أن يخرجوا ما في صدورهم على ألسنتهم، إنما يخرج لبداً، وما تخفي صدورهم أكبر، فهل هذا الكلام العربي المبين واضح أم غامض؟ يقول تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران:118] وما من آية إلا وهي واضحة، لا يسمى الشيء آية إلا إذا كان واضحاً: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ) فهو كلام عربي واضح: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).
ثم ذكر ربنا تبارك وتعالى نماذج للمفارقات بيننا وبينهم، وأنهم لا يستحقون منكم أن ترفعوا لهم رأساً، بل انبذوهم نبذ النواة، ولا ترفعوا لهم رأساً لماذا؟ لأن هناك تبايناً بينكم وبينهم: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران:119] وهم بالمقابل لا يحبونكم، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119]، ولم يذكر: (ويكفرون بكتابكم)؛ لأن هذا الإضمار فيه وضوح، إنما صرح في الأولى لأن كل شيء يبني على الحب والبغض، ما من حركة في الكون أو سكنة إلا يتبعها حب أو بغض: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فإذا كانوا يكرهونكم فالإضمار أقوى وأبلغ.
{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119] لا يقول: ويكفرون بالكتاب كله؛ لأنه واضح، إذا فارقناهم في المحبة فكل شيء يأتي بعد المحبة ضرراً علينا، فيكون الإضمار أقوى من التعريف.
كما قال ربنا تبارك وتعالى في قصة يوسف لما نادى على صواع الملك: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:74 - 75] هذا أقوى من أن يقال: يسجن، يعاقب، يجلد، {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] أي: ما خطر ببالكم عقوبة له يستحقها.
فإضمار الجزاء أقوى من تعيينه، كذلك إضمار تكذيبهم للكتاب أقوى من تعيينه، لاسيما بعدما ذكر التباين في المحبة: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران:119]، هذه الآيات في غاية الوضوح، أنه لا يأتيك من عدوك نفع على الإطلاق، وذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآيات نزلت في اليهود، وما ندري والله ما الذي يجري، فألسنتهم تنطق بالسوء، هذا واضح غاية الوضوح: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] ونحن نعلم، ومع ذلك عز علينا أن نقول مثل ما قال الشاعر العربي -لما حدث بين قومه وبين آخرين موادعة ومهادنة، وكان الآخرون يعتدون عليهم، فاتفقوا أن يفتحوا صفحة جديدة، فإذا بهؤلاء يغدرون مرة أخرى، فقال هذه الأبيات التي اختارها أبو تمام وأودعها في ديوان الحماسة، ثاني قطعة في هذا الديون الكبير، وهي أبيات يصح أن أقول فيها: إنها شعار المرحلة، يقول: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا لكنهم لئام، فرجعوا مرة أخرى ونقضوا العهود، قال: فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ شر صريح وواضح، وعريان، غير مستتر، ولم يبق سوى العدوان، لا نقول: نحن مصرون على السلام، ولابد من السلام، ولابد من دفع عجلة السلام لا وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَان بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ كل هذه مشيات للأسد.
وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلاْنُ الزق: قربة من جلد، إذا كانت ملآنة ونخستها بإصبعك يفيض الماء، يريد أن يقول: كفى فقد بلغ السيل الزبى، هذا معنى الكلام وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ مثل أن يضرب شخص شخصاً آخر فيقول المضروب: الله يسامحك، فيضربه مرة ثانية، فيقول: الله يسامحك، يظل يضربه مائة مرة وهو يقول: الله يسامحك، لا، هذا اسمه: إذعان وخضوع واستسلام، ولا يجوز أن يقال: حليم، إنما يقال: ضعيف، سموا الأشياء بمسمياتها حتى لا ينخدع الناس، لا تقل: هذا حلم، قل: هذا ضعف.
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ مددت يدك مرة واثنين وعشراً وعشرين ومائة ومع ذلك فهو لئيم، يضرب اليد التي امتدت إليه للسلام، لم يبق إلا الشر، هذه هي سمات العدو، وهذه هي طريقة الرد على العدو.(105/2)
الشيطان يوقع الإنسان في الكبائر
إن أعدى أعداء الإنسان الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الشيطان ذئب الإنسان)، وقد ذكرنا قبل ذلك: أن هذا الشيطان نصب فخوخاً لبني آدم ستة تندرج تحتها كل أجناس الشر، وهي تترقى إلى أسفل، وقد يتعجل المرء، فهذا عدوك يترقى بك في المهالك إلى أعلى، فكيف يترقى الشيطان بك إلى أسفل؟ الشر الأول: أن يوقعه في الكفر، فإن نجا العبد من الكفر أوقعه في البدعة، فإن نجا من البدعة أوقعه في الكبيرة، فإن نجا من الكبيرة أوقعه في الصغيرة، إذاً: هذا تدني وتدرج لأسفل، وهذا لا يناسب كيد الشيطان، فيقال: إن هذا تدرج يائس مفلس، يريد أن يوقع بك الضر على أي وجه، لا يدعك سالماً على الإطلاق.
يبدأ بالكفر، فإن نجا لا يتركه، لكن يتدرج به إلى أسفل رجاء أن يرجع به مرة أخرى إلى الكفر.
هناك كلمة حسنة يقولها علماء السلف، يقولون: إن المقاتل لا يغير عقيدته، ولكن يغير موقعه.
أنت رجل لك هدف، إذا مضيت في هذا الطريق القصير اعترضتك عقبات كثيرة، فليس من الحكمة أن تدخل وتجابه كل هؤلاء الأعداء في هذا الطريق، لكن ارجع إلى الوراء وابحث عن طريق آخر ولو كان بعيداً، المهم أن تصل سالماً.
إذاً: رجوعك القهقرى إلى الخلف ليس هزيمة، ليس النصر أن تكسب أرضاً، وأن تتقدم إلى الأمام إذا كان في التقدم عطبك، اعلم أن النصر ألا تدمر وتهلك، ولذلك فإن القادة العسكريين يجعلون رجوع الجيش سالماً منهزماً من أبواب النصر؛ لأنه يستطيع أن يهاجم بهذا الجيش مرة أخرى، لكنه لو استمر على مواجهة العدو بدون سلاح قوي فهذه الهزيمة.
فهذا الشيطان إن عجز أن يلقيك في الكفر يتدنى بك الصغائر ثم الكبائر، ثم إلى الكفر مرة أخرى.
البدعة بريد الكفر وبوابته، وكذلك الكبائر إن أصر العبد عليها واستحلها كفر، إذاً: أخذه من الكبائر إلى الكفر، وقد يأخذه من باب المباح ويلقيه في الكفر، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] إنها خطوات ماكرة خفية، فقد يدخل الكفر من باب المباح وهو لا يدري.
فتكلمنا عن الكفر، وتكلمنا عن البدعة، والآن نتكلم عن الكبائر:(105/3)
سبب تسمية الكبيرة وأقسامها
إنما سميت الكبيرة كبيرة لجسامة جرمها، وأنكر جماعة من المعتزلة أن يكون في الذنوب صغائر وكبائر، قالوا: (كل ذنب كبير إذا قيس بجانب الذي عصيته)، ويقول بلال بن سعد: (لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظم من عصيت)؛ لذلك عظموا المعصية، وقالوا: إن كل ذنب كبير.
وهذا خطأ، وهو مخالف للشرع وللعقل.
أما مخالفته للشرع: فقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وهذه الآية واضحة، فجعل الذنوب كبائر، وفواحش، ولمماً.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.
قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك؟) ونزل في ذلك قول الله تبارك وتعالى مصدقاًَ كلام نبيه ومرتباً: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68].
الذنوب فيها كبير، وفيها أقل، وفيها أقل، ومن جهة العقل فقد اتفق العقلاء: أن من لطم رجلاً ليس كمن قتله، فإن من قتل رجلاً بحديدة فأرداه لا يعامل -لا في أعراف البشر، ولا في أحكام الله عز وجل- معاملة الذي لطم.
فكما أن الإيمان يتفاوت، فكذلك الظلم يتفاوت، وكذلك الفسق يتفاوت، وكذلك الذنوب تتفاوت، فهناك ذنوب كبيرة، عظيمة جسيمة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منها نحو ثلاثين كما في الأحاديث الصحيحة، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب) يشير إلى أن الكبائر لا تنحصر لا في سبع ولا في تسع، إنما مجموع ما ورد في الأحاديث الصحيحة من الكبائر يصل إلى ثلاثين، وقد اتكأ كثير من العلماء الذين صنفوا في الكبائر على أحاديث ضعيفة، لكننا لا نعول إلا على الصحيح.
إذاً: ما هي الكبيرة؟ وما حدها؟(105/4)