استثمار الوقت عند العلماء
إن الوقت هو من أكثر ما يغبن فيه المرء كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما من مسلم إلا ويعد الوقت في حياته هو رأس ماله، فإن استغله واستثمره كان ذلك فوزاً وفلاحاً له في الآخرة، وإن فرط فيه وضيعه كان حسرة عليه وندامة.
ولقد ضرب لنا السلف أروع الأمثلة في استغلالهم لأوقاتهم، فلا يكاد الواحد منا يسمع تلك الروايات التي تحكي لنا عن كيفية استثمارهم لأوقاتهم في العمل والعلم، وقبل ذلك كله في العبادة إلا ويخال تلك الروايات من الأساطير لما يظهر فيها من جدهم واجتهادهم وجعلهم الآخرة نصب أعينهم.(1/1)
احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن أشرف ما يستثمر باتفاق العقلاء، هو الوقت؛ لأن الوقت هو العمر، وبمقدار ما يستثمر المرء هذا الوقت بمقدار ما تكون له المكانة في الدار الآخرة؛ لأن حياته في الآخرة إنما هي باستثماره لعمره، فإذا ضيعه خسر هناك، وإذا استثمره حق استثماره ربح.
ولا أفضل ولا أجود من ضرب المثال في استثمار الوقت بحياة العلماء؛ لأنهم هم الذين عرفوا شرف هذا العمر، فلذلك نضرب المثل بهم، فهم القدوة، وهم الذين نأخذ عنهم الفتوى.
لقد وجدنا في علمائنا السالفين أشياء يتعجب المرء منها، عندما ينظر إليهم وهم يستثمرون الثواني والدقائق في أعمالهم، وكان يتخلل ذلك كله إخلاص في طلب العلم؛ لذلك استطابوا المعاناة واحتسبوها في سبيل وجه الله تبارك وتعالى في طلبهم لهذا العلم.
وهذا الذي يفرق بين هؤلاء وبين كثير من الأجيال من بعدهم، وهي مسألة الحسبة في الطلب، فإذا احتسب الرجل جهده في الطلب لا يشعر بأي شيء من المعاناة؛ لأنه إنما يحتسب وجه الله تبارك وتعالى، وأضرب مثلاً بالقصة المشهورة في سبيل التثبت من لفظة واحدة أو من حديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقله هؤلاء العلماء إلى جميع الأمة بعدهم، ولولا ثبات هؤلاء وحسن بحثهم لما كان بأيدينا شيء ذو بال من تراث النبي عليه الصلاة والسلام: من أحاديث وأسانيد وأقوال علماء.
ذكر ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه المجروحين، عن نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بدار شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فخرج شعبة فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فخرج -أي: بعد ذلك- فوجدني قاعداً أبكي، فقال: هو بعد يبكي، فقال له: عبد الله بن إدريس إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، سمعته من عبد الله بن عطاء فغضب ولم يجب، غضب؛ لأن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس.
ومعروف أن من أنواع التدليس -وهو تدليس أبي إسحاق السبيعي - أن يسقط الراوي شيخه الضعيف أو الصغير فيعلو بسنده، وقد يكون هذا الرجل ضعيفاً أو كذاباً أو متروكاً، لذلك لم يكن العلماء يقبلون من المدلس حديثاً إلا ما صرح فيه بسماعه من شيخه، وكان من أشد المنكرين للتدليس والمدلسين شعبة بن الحجاج صاحب هذه القصة، حتى أنه كان يقول: لأن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس، وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وكان شديداً جداً، وكان يقول: التدليس أخو الكذب، فـ أبو إسحاق السبيعي كان شعبة لا يأخذ من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع.
وهنا فائدة في خصوص رواية شعبة عن ثلاثة نفر من شيوخه وهم من المدلسين، قال شعبة كما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار بسندٍ صحيح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة: كفيتكم تدليس قتادة، والأعمش، وأبي إسحاق السبيعي، فحيثما وجدت سنداً فيه شعبة عن واحد من هؤلاء ولو قال: (عن) فخذه ولا تعله بالتدليس، أي: إذا وجدت: شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن فلان، فلا تقل: أبو إسحاق مدلس وقد عنعن، لماذا؟ لأن الراوي عنه شعبة، وشعبة لا يروي عن هؤلاء إلا ما ثبت أنهم سمعوه من مشايخهم.
إذاً: يروي شعبة عن هؤلاء رواية خاصة فلا تعل الحديث بتدليس واحد من هؤلاء، وفي صحيح أبي عوانة بسندٍ صحيح قال: عن شعبة قال: (كانت همتي من الدنيا شفتي قتادة، فإن قال: حدثني كتبتُ، وإن قال: قال، تركته)، فلأن أبا إسحاق السبيعي يدلس خاف أن يكون دلس في هذا الحديث فسأله: سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء، فغضب، وغضبه هذا يدل على أنه دلس؛ لأنه لو كان سمع حقيقةً لبادر وقال: نعم.
سمعته، فما الذي يجعله يغضب ويتوقف؟! فهذا دليل على أنه لم يسمع، فأصر شعبة على أن يأخذ جواباً سمعت أو لم تسمع؟ وأَبى أبو إسحاق السبيعي أن يعطيه جواباً، فقال مصعب بن كدام وكان جالساً مع أبي إسحاق السبيعي: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -وشعبة هذا بصري- قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث.
قال: فذهبت، فدخلت على عبد الله بن عطاء فإذا رجلٌ شاب، قلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر قال: نعم.
قلتُ له: سمعته من عقبة بن عامر، قال: لا.
إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال شعبة: فذهبت إلى مالك فسألته: حج سعد بن إبراهيم هذا العام؟ قال: ما حج العام! قال: فقضيت نسكي وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر، قال: نعم.
فقلت سمعته منه؟ قال: لا.
إنما حدثنيه: زياد بن مخراق -وهو بصري- قال: من عندكم خرج، حدثني زياد بن مخراق قال شعبة: حديث مرة بصري، ومرة مدني، ومرة مكي، دمر عليه لا أصل له.
قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء عن عقبة بن عامر، قال: نعم، فقلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ فقال لي: إنه ليس من حاجتك! أي: أنه ضعيف، فقال له شعبة فما بد؟ قال: فلا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل، فتغسل ثيابك، ثم تأتيني، قال: فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، قلت: حديث الوضوء، قال: نعم.
قلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
حدثنيه شهر بن حوشب، فقلت: شهر عن من؟ فقلت: عن أبي ريحانة عن عقبة به، فقال شعبة: حديث صعد ثم نزل دمر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي.
فأنت ترى رحلة شعبة من البصرة إلى مكة إلى المدينة، ثم إلى البصرة لأجل أن يتثبت من حديث واحد فيه هذا الثواب العظيم، كم من الليالي أنفقها شعبة في سبيل طلب صحة هذا الحديث الواحد؟!! وكان شعبة من أمراء المؤمنين في الحديث -يعني: ممن يحفظون ألف ألف- فكم من الأحاديث له فيها نفس هذه القصة؟ ألف أو ألفان أو أربعة آلاف من ألف ألف؛ لترى أن هؤلاء الناس عندما كانوا يطلبون الحديث كانوا يطلبونه تديناً لا تكثراً، لذلك طال نفسهم لحسبتهم، فكان أحدهم يتحمل كل هذا النصب حتى يؤدي إلى أمة النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً صحيحاً يتعبدون به جميعاً.
ولذلك فنحن عندما نذكر شعبة بن الحجاج -وقد مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة عام- وغيره من أهل الحديث، فإننا نترضى عليهم أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكان كثيرٌ منهم في المسافات الطويلة بين البلدان يؤجر نفسه خادماً للقوافل نظير أن يحملوه، فإذا كان مثلاً بصرياً وأراد أن يخرج إلى مكة فإنه يذهب إلى بعض القبائل التي تتوجه إلى مكة، أو بعض القوافل التي تتوجه إلى مكة فيعرض نفسه خادماً يخدمهم ويقوم عليهم نظير أن يحملوه إلى مكة، وقد يكون قلامة ظفرٍ من هذا الإمام تساوي القافلة كلها؛ لكنه لا يهمه ذلك، والمهم أن يصل إلى بغيته.
فهؤلاء ما كانوا يضيعون أعمارهم، وكانوا يستثمرون العمر بشكل عجيب.
قال ابن أبي حاتم الرازي: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو مضطجع، وهو يمشي، وهو داخلٌ إلى الخلاء.
وذكر ابن الجوزي أن الخطيب البغدادي كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه.
وذكروا عن ابن أبي حاتم الرازي أنه قال: دخلنا مصر فظللنا فيها سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلنا ننسخ، حتى ذهبنا إلى بعض الشيوخ، فقالوا لنا: تأجل موعد الدرس، فقلنا: نأكل، فذهبنا إلى السوق فاشترينا سمكة، فما إن ذهبنا إلى الدار حتى حان موعد درس شيخ آخر فتركنا السمكة، وظللنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلينا ننسخ، فمكثنا ثلاثة أيام ما استطعنا أن نقربها -أي: السمكة- ولم نتفرغ لشيها فأكلناها نيّئة، وهذا بسبب أنهم لا يجدون وقتاً.
فإذا نظرت إلى مثل هؤلاء لوجدت أن ابن أبي حاتم الرازي كتب المصنف المسند في ألف جزء، مسند كبير في ألف جزء!! فما يستطيع أن يكتب ألف جزء من مروياته ولا الكتب الأخرى للجرح والتعديل وغيره إلا من كان يعد الدقائق والثواني.
وذكروا عن ابن أبي داود أنه قال: خرجت إلى أبي سعيد الأشج لأكتب عنه -وهذا من كبار مشايخه- قال: فاشتريت ثلاثين مداً باقلة -يعني (30) كيلو فول- فكنت آكل وأكتب عن أبي سعيد، فما نفد الفول(1/2)
تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية
إنك عندما تنظر إلى هؤلاء الأعلام وإلى عزائمهم، وتنظر إلى المتأخرين مع توفر الإمكانات وسهولة الحركة والتنقل، ومع ذلك لا ترى عند هؤلاء -المتأخرين من أهل العلم- عشر معشار ما عند المتقدمين، فالواحد لا يستطيع أن يحفظ مائة حديث مسند، فيدخل حديثاً في حديث، ويدخل متناً في متن، وتضطرب عليه الكلمات.
أما أولئك فكانوا يحفظون الألوف المؤلفة من الأسانيد، وقصة البخاري المشهورة لما دخل بغداد فقلبوا عليه الأحاديث خير دليل على ذلك، فـ البخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف، ولم يكن في وجهه شعرة، حتى كان بين المستملي والمستملي عشرون متراً، وعشرات الذين ينتظرون حتى ينقلوا كلام البخاري إلى هؤلاء الذين لا يسمعون صوت البخاري، فطار ذكره إلى بغداد قبل أن يدخلها، وكانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية وكل العلماء فيها، والكل يحرص أن يدخل إلى بغداد حتى يقابل العلماء الكبار كـ أحمد وابن معين وغيرهم.
وكان من عادة أهل بغداد أنهم ينتقصون الأفاضل، فلما رأوا البخاري استقلوه، فعمدوا إلى مائة حديث وقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا إسناد هذا الحديث في متن ذاك، وإسناد هذا المتن ذاك، وأعطوا عشرة رجال كل رجل عشرة أحاديث، وقالوا: قوموا واتلوا عليه هذه الأحاديث.
فبعد أن انتهى المجلس قام أحدهم، وقال له: ما تقول في الحديث: حدثنا فلان عن فلان عن فلان وساق متنه، فقال: لا أعرفه، طيب: والحديث الثاني، قال: لا أعرفه.
والثالث: لا أعرفه.
وهكذا، وقال الثاني، فأخبره بأنه لا يعرف العشرة، إلى تمام المائة وهو يقول: لا أعرفه، فأما الجهلاء الأغماط فقالوا: لا يعرف أي شيء؟!! فقضوا عليه بالعجز، وأما العلماء فقالوا: فطن الرجل.
فبعد أن انتهى العشرة من تمام المائة، قال للأول: أما حديثك الأول، فمع الثاني، هذا السند للمتن الفلاني، وسندك الثاني للمتن الفلاني، وسندك الثالث للمتن الفلاني، حتى رد المائة حديث إلى أسانيدها وإلى متونها، فما قام من مجلسه حتى شهدوا له بالفضل.
يقول الحافظ ابن حجر: ليس العجب أن يحفظ الصواب، فإن الصواب يحفظه كل أحد، إنما العجب أنه حفظ الخطأ على ترتيب ما ألقوه، يعني يقول له: سندك الأول مع الخامس رقم أربعة، وسندك الثاني مع الثالث رقم تسعة، وهكذا، فكيف حفظ هذا الخطأ على هذا الترتيب بمجرد أن ألقوا عليه الحديث مرةً واحدة.
فكان هؤلاء العلماء يحفظون، كما صح عن البخاري أنه قال: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح)، لا يدخل عليه متن في متن، بل بلغ من ضبطهم -سواء كان ضبط الصدر أو ضبط الكتاب- مبلغاً عجيباً جداً.
فيذكر ابن حبان وغيره في مقدمة المجروحين بسند صحيح إلى أحمد بن منصور الرمادي، قال: جاءني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وفي يد يحيى ورقة، فقال: أعط هذه أبا نعيم الفضل بن دكين، وهذا من مشايخ أحمد وابن معين، ومن مشايخ البخاري، لأنه عمر فأدركه البخاري، فترى أن أحمد شيخ البخاري، والبخاري أدرك شيخ أحمد، إذاً: كأنه مثل أحمد في الطبقة في هذا الشيء، لأن كلام الرجلين يأخذ عن شيخ واحد، مع أن أحمد شيخ البخاري وهذا الذي يسميه العلماء العلو.
فقال: يحيى بن معين أعط هذه الورقة لـ أبي نعيم إذا خف المجلس، قال: فنظر أحمد في الورقة فإذا يحيى بن معين خلط أحاديث لـ أبي نعيم بأحاديث ليست من حديثه، فخلطها ببعضها وأدخل أسانيد في المتون، على أساس أن يعطيها للفضل، فإذا نظر الفضل وأقر بما فيها فقد اختلط؛ لأنه لا يميز حديثه من حديث غيره، وكان الفضل بن دكين إذا جلس في تلك الأيام على الكرسي كان يجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن يساره لجلالتهما، وكان بقية الطلبة يجلسون دونيهما.
فبعدما خف المجلس قال أحمد بن منصور الرمادي: فناولته الورقة، قال: فنظر إليها وجعلت عيناه تلتفت أي: أنه قد فطن لهذا الأمر- ثم أطرق ساعة -أي: لحظة- ثم قال لي -يعني لـ أحمد بن منصور الرمادي -: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا وأشار إلى أحمد فآدب من أن يفعل ذلك، وليس هذا إلا من عمل هذا، يعني عمل يحيى، ثم أخرج رجله ورفسه، فأسقطه من على الدرج، وقال: أعلي تعمل؟! قال: فقام يحيى فقبله بين عينيه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فلامه أحمد، وقال: قد نهيتك أن تفعل ذلك، وقلت لك: إن الرجل ثبت، فقال له يحيى: والله لرفسته أحب إلي من رحلتي.
فكانوا يحفظون حفظاً عجيباً، وهذه الأمة تميزت من بين سائر الأمم بهذا الحفظ، يعني رجل يحفظ ألف ألف حديث ولا يدخل له إسناد في متن أبداً، هذا مما يقطع عليه بالعجب، فهؤلاء ما كانوا يفعلون ذلك إلا لأنهم ما كان يشغلهم عن ذلك شيء، فحياتهم وهمتهم في هذا الطريق.
لذلك فطالب العلم إن لم يتأس بهؤلاء ضاع عمره هباءً، وإلا فأنت الآن عندك من الكتب والإمكانات التي ما كان يحلم بتوفرها أي إنسان، فالحافظ ابن حجر ما كان عنده هذه الكتب، وإنما كان أمين المكتبة العامة، كان هو صاحب الخزانة، فكان ينتفع بها، وإلا فقد كانوا فقراء، لا يستطيعون أن يستأجروا ناسخاً لينسخ لهم كل الكتب الموجودة، وأنت الآن عندك هذه الكتب، لكن متى ستحفظ؟ العز بن عبد السلام لم يكن عنده المحلى ولم يكن عنده المغني، وكان إذا أراد أن يستخرج مسألة من هذين الكتابين يرسل إلى محيي الدين بن عربي الصوفي المعروف ليستعير منه الكتابين، وقال: ما استطبت الفتيا حتى صارت عندي نسخة من المحلى والمغني، يعني: ما حصّلها إلا بعد زمن طويل، والآن أصغر الطلبة عنده هذين الكتابين وزيادة.
وأقرب مثال الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر في تعليقه على المحلى لما نقل ابن حزم أثراً من مصنف عبد الرزاق، فجعل يتحسر، ويقول: أين هذه الكتب عند صبيان الكتاتيب ونحن لا نسمع لها بخبر ولا أثر، بل مات رحمه الله ولم ير موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، وهو يتكلم في ابن حبان قال: وعلمت أن للهيثمي كتاباً في ذلك، ولو اطلعنا عليه لكان كبير الفائدة ينفعنا في إخراج الصحيح.
والآن الكتب كثيرة والمخطوطات كثيرة، ولكن كما يقول ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم!! لا يبكى على ضعف الإمكانات؛ لأنه إذا آتاك الله تبارك وتعالى همةً عالية فما من شيء يمكن له أن يعترضك، كان الحافظ الحازمي رحمه الله يكتب طوال الليل يصنف ويؤلف ويتعقب وينسخ طوال الليل، فأشفق عليه جارٌ له من هذا السهر، فكلما نظر رأى السراج يضيئ، فقال لجاريته يوماً، قولي له: ليس بالقنديل زيت، لعله ينام أو يستريح.
فقالت الجارية: ليس بالقنديل زيت، فقال: لا بأس، وطبعاً: الرجل يريد أن يراقب هل ينام أم لا.
قال: فنظرت إليه فوجدته يقوم الليل، سُمع صوته وهو يقرأ القرآن إلى هذا الجار حتى أذن مؤذن الفجر.
كانوا أناساً لم يتعودوا على عيشة البطالين، وإنما كانت حياتهم كلها إما عبادة وإما طلب علم، والحافظ الحازمي هذا مات وعمره ستة وثلاثون سنة، وابن عبد الهادي مات وعمره تسعة وثلاثون سنة، وأعجب من ذلك سيبويه الإمام المشهور، صاحب الكتاب في النحو، مات وعمره ثنتان وثلاثون سنة.
وسيبويه هو صاحب الكتاب في النحو، الذي ما جسر كبار النحاة وكبار العلماء أن يدخلوا على هذا الكتاب حرفاً واحداً، ولا زالوا يلتزمون عباراته حرفياً حتى الساعة.
وهذا كله بسبب الهمة العالية التي كانت عند الأسلاف: ومسلم رحمه الله روى في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير، مع أن هذا ليس من موضوع في كتابه، إنما موضوع كتابه الصحيح المسند، روى بسنده إلى يحيى بن أبي كثير، أنه قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
إذا كنت ذا همةٍ عالية فيظل بدنك متعباً بصفةٍ دائمة، لماذا؟ لأن روحك طموحة، تحتاج إلى بدن وبدن وبدن، يعني بدنك هذا لا يصلح لهذه الروح الفتية.
وأعجب من ذلك ما ذكروه عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له كتاب اسمه (الفنون) طبع منه مجلدان، وهذا الكتاب يقع في ثمانمائة مجلد، قال ابن رجب في ذيل الطبقات: حدثني فلان أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة، وهذا كتاب واحد!! فكيف صنف كتاباً بهذه الضخامة؟ إلى جانب كتبه الأخرى، إلى جانب الدروس التي كان يلقيها، إلى جانب حياته، فكان له زوجة وأولاد وكان عنده مشاكل وكان له رحم، فمن أين وجد الوقت حتى يصنف مثل هذا الكتاب.
اسمع إليه يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلّ لساني عن مناظرة وبصري عن مطالعة، استرحت فأعمل فكري حال استراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإنني أسطر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار خث الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.
فرجل يلاحظ الوقت ما بين مضغ الخبز والكعك، لا يمكن أن يضيع ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً وهو يحرص على دقيقتين، فكانوا يحرصون على الأنفاس؛ لأن الأنفاس هي العمر، وبقدر استكمالك للعمر يكون جزاؤك في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله تبارك وتعالى إلى عبدٍ بلّغه ستين سنة)، فإذا بلغ ستين سنة بلغ عذره، لأنه(1/3)
فوائد أخذ العلم عن المشايخ
قد يقول قائل: نحن الآن صارت عندنا همة، ونريد أن نطلب العلم، فما هي أقصر السبل إلى طلب العلم وقد ضاع من عمرنا الشيء الكثير؟ فيقال: إنك إذا أردت أن تقصر عمرك أو تختصره في طلب العلم فاحرص على لقاء المشايخ، فإن لقاء المشايخ والتعلم والأخذ عنهم سنةٌ ماضية، وانكبابك وحدك على الكتب له مضار كثيرة، وهذه المضار لا توجد إذا تلقيت العلم عن شيخ، فإن ميزة الأخذ عن شيخ أنه يقصر لك العمر، ويصحح لك الفهم، ويعطيك الأدب.
لذلك تجد أن أكثر الذين تعلموا على الكتب وحدهم ليس عندهم من الأدب ما عند الذين تعلموا على المشايخ، لماذا؟ لأنه يقرأ في كتاب، فيرى العلماء يتعصب بعضهم لبعض، فيعيش في نفس الدور.
فإذا ذكر النووي أو ذكر ابن حجر أو ابن تيمية أو غيره وقد رأى رد العلماء عليهم يتجاسر أيضاً فيرد عليهم، وما لاحظ الفرق بين الراد والمردود عليه، لكن لو تعلم على شيخ فإنه يتأدب بأدب طالب العلم.(1/4)
اكتساب الأدب من أهم فوائد التعلم على المشايخ
من أعظم ثمرات الأخذ عن الشيخ: الأدب، والمشايخ كانوا ينقلون الأدب مع العلم، فما كانوا يعلمون فقط، وإنما كانوا يؤدبون، فممن أذكرهم في هذا المضمار الإمام العلم المشهور سليمان بن مهران الأعمش، وقد كان يؤدب تلاميذه أدباً ما نعرفه عن كثير من المشايخ، كان يذلهم إذلالاً في طلب الحديث، وكان عسراً جداً فما يكاد يعطي واحداً حديثاً إلا بشق الأنفس، حتى أن واحداً سأله سؤالاً فكلح وجهه، فقال له: والله لقد علمناك كالح الوجه إذا سئلت حديثاً كأنما تنتزع روحك، مع أن الأعمش من المتقنين، يعني: أحاديثه كثيرة جداً في دواوين الإسناد، فلم يكن على عُسر في الحقيقة، وإلا لو كان عسراً ما حفظنا عنه كل هذه الأحاديث، لكن كان إذا رآهم مقبلين على الحديث تمنع عليهم، حتى إذا كان فيهم مستكبر أو من يظن نفسه ابن أمير أو وزير فسيقول: أيظن أنه يذلنا؟ فينصرف، ومثل هذا لا يفلح، فهو كان يعالج فيهم الكبر بهذا الإذلال.
حتى أن رجلاً ذات مرة جاءه وقال له: يا أبا محمد! -وهذا الراوي: كان يبكي في تذكره، لأنه كان إماماً كبيراً- قال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده، فأخذه من حلقه ورجزه في الحائط وقال: هذا إسناده، فما قال: الأعمش هذا سيئ خلق، والمشايخ غيره كثير، وكان بدل الأعمش ألوف؛ لأنهم كانوا يريدون الأعمش لعلو سنده وثقته وضبطه.
وذكر الخطيب في شرف أصحاب الحديث عن الأعمش مقالات كثيرة جداً، وخص الأعمش بالذات بهذا الكم، فذكر من ضمن ما ذكر أنه اشترى كلباً لأصحاب الحديث، حتى إذا جاءوا واقتربوا من الباب أطلق عليهم الكلب، فكان إذا سمع همهمتهم وأصواتهم وأصوات أقدامهم يرسل عليهم الكلب فيفرقون، وهم في كل ذلك لا يكلون ولا يملون، أي: ليس إذا رأوا الكلب يعتبرون ذلك اليوم عطلة، لا.
وإنما إذا دخل الكلب الدار رجعوا مرة أخرى، فإذا خرج الكلب عليهم فروا مرة أخرى وهكذا، حتى دخلوا عليه ذات يومٍ وإذا بالكلب غير موجود، فلما رآهم الأعمش بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟! قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، الذي هو الكلب! وذات مرة كان يمشي في جنازة -وكان الأعمش كفيفاً رحمه الله- فأخذه رجلٌ من أصحاب الحديث، وقال: أصاحبك يا أبا محمد!، فصحبه لكنه أخذه وانحرف به عن طريق الجنازة، وطبعاً كان هناك صمت فلم ينتبه الأعمش أنه خرج من طريق الجنازة، فما زال يمشي ويمشي حتى قال له الرجل: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا.
قال له: أنت في جبانة كذا وكذا، والله لا أردك البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً، فقال له: اكتب، فكتب! فقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان حتى ملأ الألواح، وهذا الذي لا يستطيع أن يأخذ حديثاً من الأعمش، فأخذ منه هذه الأحاديث كلها، فرجع به والأعمش متغيظٌ عليه، وهو يعلم ماذا سيفعل الأعمش به إذا رجع إلى الدار، فدفع الألواح لأول صاحب لقيه في الطريق، فلما ذهب إلى الدار قال: وصلت إلى الدار يا أبا محمد! فأمسك بعنقه، وقال: خذوا الألواح من الفاسق!! فقال: لقد مضت الألواح يا أبا محمد؟ فقال له: كل ما حدثتك به كذب!! حتى يزهده فيها، فقال له: أنت أعلم بالله من أن تكذب.
فكان عسراً جداً رحمه الله.
فهذا كان يربي تلاميذه، وكان تلاميذه يجلسون فما يستطيع الواحد منهم أن يتنفس، فلو تكلم رجل في الحلقة فإنه يوقف مجلس التحديث وينصرف، حتى إن رجلاً من الغرباء جاء وجلس بجانب الأعمش، وكان الأعمش يكره أن يجلس أحد بجانبه، ولكن الرجل لا يعرف أن العادة أنهم لا يجلسون بجانب الأعمش، فجلس، فأحس به الأعمش، فكان يقول: حدثنا فلان ويبصق عليه ومن ينهونه أن يتحرك؛ لأنه لو قال للأعمش: ماذا تعمل؟ فسوف يوقف مجلس التحديث، فصبر على هذا حتى انتهى المجلس.
فأي ذل أكثر من هذا؟!! إنها تربية فكان رحمه الله شديداً، والمربي يحتاج في هذه المواضع إلى الشدة، حتى لا يفلت منه الحبل كما يقولون، وليس هذا فقط، بل كان هذا شأنه حتى مع الحلاقين، فكان إذا دخل عند الحلاّق وأمره بشيء فخالفه قام، حتى ذكروا أنه قال لأصحابه: أبغوني حلاقاً أخرس، لأن الحلاق معروف بكثرة الكلام، فهو يريد حلاقاً أخرس لا يتكلم يحلق له فقط، لا يجلس الوقت بعد الآخر يقول له: الحديث الفلاني يا أبا محمد والحديث العلاني، فبحثوا له عن حلاق وأخذوا على الحلاق المواثيق ألا يتكلم، ولا يسأله في حديث، فحلق له رأسه حتى بلغ النصف، قال: يا أبا محمد! حديث ولم يكمل! فقفز الأعمش من على الكرسي بنصف رأسه، ودخل الدار، فظل ثلاثة أيام ونصف ورأسه محلوق، حتى كانوا يقولون له: الرجل لن يتكلم بعد ذلك، فبعد ثلاثة أيام من المراجعة دخل إلى الرجل فحلق له النصف الآخر ولم يتكلم.
فكان عند الأعمش رحمه الله حدة، كان يستخدمها مع طلاب الحديث، ولم يكن الأعمش وحده هكذا بل كان كثير من المشايخ على هذا النحو، فذكر ابن عساكر في ترجمة يحيى بن معين في تاريخ دمشق: أن رجلاً جاء لـ يحيى بن معين وقال: يا أبا زكريا! أنا مستعجل، حدثني بحديثٍ أذكرك به، قال له: اذكرني إذ طلبت مني حديثاً فلم أفعل، وأبى أن يحدثه، وأبو بكر بن عياش أيضاً ورث هذه الشدة عن الأعمش، كان عسراً جداً، لا يكاد يعطيهم حديثاً، حتى إنهم قالوا له ذات يومٍ: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، قال: ولا بنصف حديث، قالوا: حدثنا بنصف حديث، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: أنت عندنا اثنان، يعني: كبروه من أجل أن يحنّ عليهم، فقال لهم: (كان إبراهيم يدحرج) فقال الخطيب: فانظر إليه كيف أنه حدثهم بشيء لا ينفعهم.
يعني ضن عليهم حتى في نصف حديث أن يحدثهم بشيء ينفعهم، فكانوا يربون، ما كانوا يعطون علماً فقط، فلذلك إذا لزمت المشايخ تأدبت كثيراً وراح عنك كثير من الأخلاق الجاهلية، ويظهر هذا في طلبة العلم لاسيما إذا تعددت مشايخهم؛ لأن الذي يلزم شيخاً واحداً إذا وقع الشيخ في حفرة سقط وراءه، وكما قال الأول: الذي يقتصر على شيخٍ واحد كمن له زوجة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها، وإذا مرضت مرض معها؛ أما الرجل الذي يعدد فليس كذلك، فكذلك الرجل إذا طلب العلم عن عدة مشايخ فإنه لا يستطيع أن يعرف خطأ شيخه الأول إلا إذا جالس شيخه الآخر، ولذلك ترى السماحة والإنفاق في البحث عند من له أكثر من شيخ أكثر ممن له شيخ واحد.
فالذي له شيخ واحد يكون وراءه بقضه وقضيضه يقول بقوله، ويجمع جراميزه في سبيل نصر قول هذا الشيخ، بخلاف إذا كان له أكثر من شيخ، فطلب العلم على المشايخ مهم جداً.(1/5)
اختصار الوقت في الطلب من فوائد التعلم على المشايخ
التعلم على شيخ يقصر لك العمر، ويختصر لك الوقت، في مجلس واحد يلخص لك كتاباً لو أنك قرأته وحدك لعلك تظل فيه شهراً، ويحِل لك كثيراً من الإشكالات؛ يعني مثلاً: مرت عبارة من العبارات في كتاب، كان قالها أحد الذين يردون على بعض العلماء، بعدما أبدى بعض الاحتمالات على دليل من الأدلة، فقال بعد أن ذكر ذلك: والقاعدة تقول: (إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال).
فأنت تذهب وتفتش في الكتب عن هذه القاعدة، هل أفردها أحد بذكر فما تجد أن أحداً أفردها بذكر، فكل دليل يمكن أن يطرقه الاحتمال، وكل دليل تستطيع أن تورد عليه أي احتمال، فهل إذا أوردت احتمالاً على أي دليل يسقط الاستدلال بالدليل، إذاً: لم يسلم لك من الأدلة شيء، فأي إنسان يقول: يحتمل أن الموضوع كذا وكذا، يحتمل كذا، ويحتمل كذا.
إذاً: هذه القاعدة هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟ ولو سلمنا أنها صحيحة فما هو الحد الفاصل في الاحتمال؟ ما هو الاحتمال الذي يسقط الاستدلال بالقاعدة؟ هل هو كل احتمال أم لابد له من وصف معين؟ هذه المسألة لن تجد لها حلاً إلا إذا كنت تدرس الأصول على شيخ، وكنت ذكياً بحيث تمر عليك مثل هذه العبارات فتسأله وتناقشه، فيعطيك عصارة عمره في هذه القاعدة، وهذه القاعدة ليس لها فصل مفرد في كتب الأصول، ولكن هو من خلال استقرائه ومناقشته يعطيك ثمرة عمره، ولعله ظل السنوات حتى حصل على العشر كلمات التي أزجاهن لك في عشر دقائق.
وأنت تطالع كتاب الفروق للقرافي أول فرق هو الفرق بين الشاهد والراوي، وقال: إنما بدأت بهذا الفرق لأني ظللت ثماني سنوات أطلبه، ولا أجد أحداً من مشايخي يكفيني حتى وقفت على كتاب، ثم كتبها في نصف صفحة.
فالنصف صفحة هذه تساوي ثماني سنوات من عمر القرافي، فالشيخ يقصر لك العمر، ولا زلت أذكر أنني في بداية طلب علم الحديث ما كنت أعرف أن هناك شيئاً اسمه مشايخ، ولا أن هناك شيئاً اسمه علم، ما كنت أعلم إلا أني قرأت أشياء، فقلت: هذا العلم من أين آتيه؟ فقالوا: عليك بكتاب الباعث الحثيث أو آخر مختصر عنه.
لكن ما كنت أعرف أن هناك مشايخ ولا طلب وما دلني أحد، فجعلت أقرأ في الكتب وأنا لا أفهم شيئاً، نعم هو كلام عربي لكن لا أفهم شيئاً من هذا الكلام، فقلت: سأدخر هذا الكتاب إلى الإجازة الصيفية ثم أقرأ فيه، فجعلت أقرأ فيه ولا أفهم أي شيء، وأجهد نفسي حتى أخذ مني الحديث الصحيح نحو واحد وعشرين يوماً؛ حتى فهمت، وبعدما بدأت أقرأ في مصطلح الحديث بدأت أفهم معنى المصطلحات، والمسألة يسرت لي، لكن اعترضتني عبارة في حد الحديث الضعيف، وحتى أساعد نفسي على الفهم كنت آتي ببعض الأولاد الصغار من القرية الذين في الإعدادية وأشرح لهم، وإنما أشرح لنفسي؛ لأنهم لا يفهمون، فأنا آتي وأصلي بهم ثم أسلم وأشرح، والإنسان عندما يشرح يصبح عنده شيء من النشاط، ويتوقد ذهنه ونحو ذلك.
فكنت أشرح لهم؛ لأنني لا أعرف أحداً يدلني على هذا العلم، حتى جاءت هذه العبارة في هذا الكتاب، والضعيف: هو الذي لا يحتج به، والذي تقاعد به الجابر، والضعيف غير المنجبر هو الذي تقاعد به الجابر عن مرتبة الذي لا يحتج به، فما معنى (جابر) و (منجبر) و (تقاعد به)؟ فلم أفهمه قط، وكان موعد الدرس بعد العصر، فبعدما صليت الفجر جلست أفكر وآتي العبارة من اليمين والشمال لأفهم؛ لأني سأشرحها، وحاولت فهم العبارة ولكن دون جدوي، كانت مغلقة تماماً، وكانوا يجلسون أمامي وأنا خجلان بيني وبين نفسي ماذا أقول لهم، فجعلت أقول: الحديث الضعيف والمنجبر وغير المنجبر والكلام واضح، وهو ليس واضحاً بالنسبة لي، فأنا أتكلم لعلها تأتي من هنا أو تأتي من هنا، فقلت: تعرفون (المجبراتي)، وأول ما نطقت بكلمة (المجبراتي) افتتح علي التعريف، فقلت: يعني هل عرفتم عظم الإنسان إذا كُسر، فيأتي بالعظم على بعضه ويجبره، حتى يرجع العظم إلى مكانه، فإذا لم تنفع الجبيرة فلا يستطيع هذا الرجل أن ينتفع بعظمه؛ كذلك الحديث الضعيف يجبر؛ لأن كل طريق من طرقه ضعيف، فإذا ضممت هذا إلى هذا إلى هذا فكأنما جبرته، فيعطيه نوعاً من القوة.
فالحديث الذي لا ينجبر وهو شديد الضعف الذي تقاعد به الجابر، يعني: أن هذا الجبر لا ينفعه؛ فلذلك لا يحتج به، فتصور أني لو وجدت شيخاً في مطلع هذه الدراسة، وإنما عثرت على الشيخ بعدما قطعت شوطاً طويلاً في الكتاب، ثم بدأت أعرف أن هناك طلبة ومشايخ، ولزمت شيخاً من مشايخ المنوفية رحمه الله تبارك وتعالى.
فلو أني وجدت شيخاً في أول العمر لكان لخص لي هذا العلم واختصر علي المدة في اللبة التي أنفقتها في معرفة الحديث الصحيح من الحديث الضعيف -وهي مجرد تعريفات فقط- فضلاً عن أن أصير متمرساً في هذا العلم.
فقراءتك على المشايخ يختصر لك العمر، ويصحح لك الفهم؛ لأنك ربما تقرأ فتقلب العبارة، ولذلك جرى على لسان كثير من العلماء التحذير من أخذ العلم من الصحف؛ لأن رب كلمةٍ تنقلب عليك، وأنت تنقلها على الخطأ وتفهمها على الخطأ بدون تدقيق لفظ وتدقيق معنى، وقد ذكروا في أخبار المصحفين أشياء مخجلة، وهي مخجلة مضحكة في آنٍ واحد.
يذكرون أن رجلاً كان يحفظ كتاب الله تبارك وتعالى بدون شيخ، وتعرفون قديماً أن الكتابة لم يكن فيها إعجام (لم يكن فيها نقط)، فالذي لا يتلقى القرآن على المشايخ يخطئ، فهذا الرجل كان هو أحفظ من في القرية، فزاره في القرية شيخ كبير ماهر، فدعاه للغداء عنده، فلما تغدى انتحى به جانباً، وقال له: إني والحمد لله أقرأ من كتاب الله الشيء الكثير، لكن أشكلت علي بعض أحرف في الحمد -يعني: في الفاتحة- فقال له: وما أشكل عليك فيها؟ قال له: (إياك نعبد وإياك تسعين أم ستين)؟! -لأن (نستعين) إذا أزلت منها النقاط وأتى رجل لا يعرف شيئاً فسوف يقرؤها هكذا- فقال له: على كل حال أنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!!! ويروي أعداء حمزة بن حبيب الزيات -صاحب القراءة المشهورة، قراءة حمزة - عنه أنه لماذا لقب بـ الزيات؟ مع أنه ليس في لقب الأسرة لا زيات ولا زيت ولا أي شيء؟! قال: لأنه أول ما بدأ يقرأ القرآن الكريم قرأه وحده، وليس على شيخ فسمعه أبوه يقرأ ويقول: ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه، قال: قم، فالزم شيخاً، فلقبوه بالزيات، وأنا أقول أعداء حمزة لأنهم شنعوا عليه وعلى قراءته.
أما في الحديث فحدث ولا حرج، فذات مرة سمع رجل ابن معين يقول: حدثني فلان عن فلان عن طاوس فقام ونفض نفسه، وقال: تحتجون علينا بالطيور، ما يعرف أن هناك رجلاً اسمه طاوس.
ويقال: إن بعض الناس قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فليأت بسكينة ووقار، فأراد أن ينفذ الحديث فأخذ سكيناً وفأراً -وهذا حكاه لنا الشيخ المطيعي - فذهب إلى المسجد فقالوا له: ما هذا الذي جئت به؟! فقال: تنفيذاً للسنة! وما في الأحاديث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فليأت بِسِكّينَةٍ وَقَار! وإنما قال: (بِسَكِينَةِ وَوَقَار)، فصحفها.
وهكذا أخبار التصحيف عار يلحق صاحبه، لاسيما في الأسماء التي لا يدخلها القياس.
ولا أنسى محاورةً جرت بيني وبين بعض الناس في مسألة وضع اليدين قبل الركبتين، وهذه المسألة كانت منذ أكثر من عشر سنوات هي شغلي الشاغل، فلا أذهب إلى بلد إلا وأذكرها وكأنها من أصول الدين، فقلت: من ضمن الأشياء أن ابن عمر في مستدرك الحاكم كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) فقال: هذا الحديث مقلوب، قلت: ومن ادعى القلب فيه؟ قال الحاكم! فقلت: هذا غير موجود! فقال: هذا في المستدرك، ففتحنا المستدرك فإذا بـ الحاكم يقول بعد هذا الأثر: (وهذا الذي روي عن ابن عمر القلب إليه أميل)، فالقلب إليه أميل يعني: قلبه يميل إليه، فأين القلب في هذا، فقال: القلب يعني الحديث مقلوب، أي: أنه انقلب على راويه، فبدل أن يقول: الركبتين قبل اليدين، قال: اليدين قبل الركبتين، فقلت: سبحان الله! أنت تذكرني بالشيخ الذي مر على قارئ يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم!! فقال: لا عقل ولا قرآن!! لأن السقف لا يكون إلا من فوق، فكيف يخر عليهم السقف من تحت، فلا عقل ولا قرآن.
فهذا الرجل يقول: (والقلب إليه أميل) فهل يعني هذا أنه مقلوب؟ فالحضور على الشيخ يقيك من مثل هذا الفهم الخطأ، سواء كان فهماً أو تصحيفاً جلياً.
وقرأت لبعض الناس، وهو يبدو من الذين انتحلوا نحلة الخوارج في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، يقول: هذا الحديث ليس معناه أهل الكبائر الذين يرتكبون الكبيرة من الذنب، وإنما الذين يفعلون الكبيرة من الطاعات، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، فهذا هو المقصود بالكبيرة في الحديث، فأهل الكبائر هم: أهل الصلاة والزكاة والحج، يعني الأعمال الكبيرة من أعمال البر والطاعات.
فإذا قرأ رجل مثل هذا الكلام ولم يكن له شيخ يصححه وقع في مثل هذه المتاهات، وأخذ العفن الموجود في الكتب؛ لأنه لا يميز، وليس عنده شيخ يقول له: هذا صحيح، وهذا غير صحيح.(1/6)
تحديد المنهجية في انتقاء الكتب من الأسباب المعينة على الاستفادة منها
ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة؟ لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك، فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدراً من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص، يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني، فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتابٍ وأشده تحريراً، وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن، فافترض مثلاً أنك تبنيت كتاباً فقهياً، فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار، أو سبل السلام -وله متن أيضاً- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها.
فكيف تنتفع بكتاب سبل السلام؟ الذي يعتمد فقه الدليل، فيأتي لك بالدليل ثم يأتي لك بالفوائد المستنبطة منه؟ عليك أن تفعل الآتي: فمثلاً أول حديث في كتاب سبل السلام، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
فيبدأ يأتي لك بكلام أبي بكر ابن العربي، فيقول لك: وهذا من محاسن الفتيا، الذي يسميه العلماء الجواب الحكيم، وهو أن يزيد المفتي في كلامه على حاجة السائل، فأنت تحرر هذا الكلام في دفتر خارجي: أن يزيد المفتي على حاجة السائل في الجواب، ثم تبدأ بجمع أدلة وأحاديث تقابلك تحت هذا المعنى، وكل حديث يقابلك أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد للسائل في الجواب، تأخذه وتضعه في مكانه، وهذا لا يتأتى لك بمرة أو مرتين أو ثلاث، ولكن تظل طيلة عمرك وأنت تجمع في هذا الشيء، فقد تمر عليك عشر سنوات ولم تجمع سوى عشرة أدلة فقط؛ لأن قراءتك متناثرة متنوعة، فكلما وقفت على فائدةٍ تنفعك في هذا الموضع وضعتها، ولعلكم جربتم كم من الفوائد مرت عليكم واستملحتموها لكن حرتم أين تضعونها، فيقول أحدكم: ما مكانها حتى أستحضرها إذا أردتها، لكن لما لم يكن لك منهج في الكتب فقدت الفائدة، فإذا احتجتها ندمت عليها، وقلت: ليتني كتبتها، لكن إذا كتبتها فلن تنتفع بها إذا لم يكن لك منهج.
فتنظر في كل الاعتراضات على كل حكم من الأحكام في الكتب الفقهية، أي: عندما تقرأ كتاب أدب المفتي والمستفتي تجد قول العلماء: لا ينبغي للمفتي أن يزيد على حاجة السائل في الجواب، ويجعلون هذا من سوء الأدب، فأنت تفاجأ بهذا الكلام، إذا سبق عند كلام أبي بكر بن العربي أن الزيادة في الجواب على سؤال المستفتي من الجواب الحكيم.
فإياك أن ترد كلام الفقهاء وتقول: لا.
هذا الكلام بخلاف القاعدة، وعندنا الأحاديث ترد هذا الكلام، فالمسألة أهون من ذلك، فلو أنك تمعنت قليلاً لعلمت أنه لا منافاة بين هذا ولا ذاك.
فعليك أن تبحث عن جواب تخرج به قول الفقهاء الذين يمنعون، وتجمع بينه وبين قول أبي بكر بن العربي والأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الجواب عن حاجة السائل؛ لأنه قال للسائل لما سأله عن ماء البحر، قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أن الرجل لم يسأل: هل ميتة البحر حلال أم لا؟ لكنه زاده حل ميتة البحر؛ لأنه إذا كان استشكل على السائل طهورية ماء البحر فاستشكاله لميتته أولى وأشد، فلعله يستشكل ميتته وهو رجل يركب البحر، فيحتاج إلى أن يصطاد، فيقول: إن هذا داخل في جملة الميتة فلا آكله.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال له هذا الحكم ليستحضره وينتفع به، فيحمل كلام العلماء على أن الزيادة في الجواب تشوش على السائل -يعني: لا تنفعه- وإنما تشوش عليه، كأن يسأل عن مسألة من المسائل: كالقراءة خلف الإمام، أو التكبيرات الانتقالية يرفع فيها أم لا، أو النزول على الركبتين واليدين، فيقول له المفتي: فيها أقوال: أما القول الأول: فقد قال فلان وفلان وعلان، واعترضوا عليه بكذا، ولم يكن ذاك الدليل صريحاً في المسألة والقول الثاني: فيه وفيه، فالرجل في الأخير لا يفهم شيئاً، ويقول: ثم ماذا؟!! يعني: أقرأ أو لا أقرأ؟ أرفع أو لا أرفع؟ لأنه ما استطاع أن يحصِّل جواباً من خلال هذه الأجوبة الكثيرة.
فهذا هو الذي يمنع منه المفتي، فإذا زاد زيادةً تشوش على السائل فلا ينبغي له أن يزيد، وعلى هذا ينزل كلام العلماء الذين منعوا المفتي من أن يزيد.
فعندما تتبنى تفصيل الكتب بهذه الطريقة تكون فقيهاً ضليعاً، فكل مسألة لها عندك أدلة كثيرة، بخلاف ما إذا اقتصرت على الدليل الوارد في كتاب الأصول، فلو سلمنا أنك قابلت رجلاً أمهر منك في هذا العلم، فقال لك مثلاً في علم الحديث: نريد أن نعرف الفرق بين الشذوذ وزيادة الثقة، فتقول له: نعم، هناك فرق، وتضرب له مثالاً أو مثالين فيهدم لك هذه الأمثلة، ويقول لك: ليس لك فيها حجة لكذا وكذا وكذا هات أمثلة أخرى، فتقف أنت عند هذا الحد!! لماذا؟ لأنك لا تحفظ إلا الموجود في الكتب، بخلاف ما إذا كنت تبنيت هذا المنهج، وكلما مررت بحديث ووصفه العلماء بالشذوذ وضعته بجانب، فيصير عندك في بحث الشاذ مائة أو مائتين مثلاً، فإذا هدم لك دليلاً أتيته بثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس.
أضف إلى ذلك أنه بكثرة الأمثلة يتضح الفرق، ولذلك أكثر الذين يخطئون في التفريق ما بين الشذوذ وزيادة الثقة بسبب أنهم لم يمارسوا ذلك عملياً، والفرق بين المفهومين دقيق جداً يحتاج إلى كثرة أمثلة لكي يتضح.
مثاله: حديث التحريك بالسبابة في التشهد، فالبعض يقول: يحركها وآخرون يقولون: لا يحركها، هذه هي المخالفة؛ إنما هل زائدة خالف فعلاً، أم تفرد؟ الواقع أنه تفرد، ولذلك ابن خزيمة رحمه الله لما روى هذا الحديث في صحيحه، قال: (خبرٌ تفرد به زائدة) ولم يقل: شذ؛ لأن هناك فرقاً بين التفرد والشذوذ، فمطلق التفرد ليس لعلة، وإنما ينظر في حال المتفرد: فإن كان ثقة ثبتاً أميناً يقبل تفرده، وإن كان ضعيفاً يرد عليه تفرده، مثل حديث عبيد الله العمري الضعيف في أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الرجل يجد البلل في ثوبه ولا يذكر احتلاماً، أو الرجل يذكر احتلاماً ولا يجد بللاً، وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى بللاً ولم يذكر احتلاماً يغتسل، وإذا ذكر احتلاماً ولم يجد بللاً لا يغتسل)، فجعل مناط الأمر رؤية البلل.
فتفرد عبيد الله العمري بهذا التفصيل: (إذا رأى البلل وإذا لم يره)، في حين أن الذين رووا هذا الحديث لم يذكروا هذا، فهو تفرد بهذا التفصيل فيرده العلماء عليه، دليل على أنه ضعيف.
إذاً: التفرد ليس بعلة، فـ ابن خزيمة لاحظ هذا، فلم يقل: شذّ، وإنما قال: تفرد.
مثاله: حديث رواه جماعة منهم الطفيل بن سعيد وعمرو بن علي الفلاس وغيرهم عن حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بإناء رحراح -والرحراح هو الواسع- فوضع يده عليه، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه)، قلت: إنه روى جماعة عن حماد بن زيد، فقالوا: (بإناء رحراح)، روى هذا الحديث أيضاً أحمد بن عبدة عند ابن خزيمة عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس؛ لكنه قال: (في إناء زجاج) ولم يقل: (رحراح)، قال الحافظ ابن حجر: حكم جماعة من الحذاق على أحمد بن عبدة أنه صحفه، أي: رحراح وزجاج حصل فيه تصحيف.
ابن خزيمة رحمه الله لم يسلك هذا المسلك؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، فلا نرجح إلا مع عدم إمكان الجمع، فقال ابن خزيمة: والرحراح هو الواسع من إناء الزجاج لا العميق منه، فجمع بين الروايتين، فما هو المانع، فيحمل على أن هؤلاء رووا هذا الحديث، فقالوا: (رحراح) فذكروا صفته، أما أحمد بن عبدة فذكر جنسه، فهو إناء زجاجٍ رحراح، وهذا أولى من توهين الثقة لغير حجة، فنحن هنا لا نستطيع أن نقول: إنه شذ، لكن نقول: إنه تفرد بقوله: زجاج، ولا منافاة بين هذه الرواية وبين رواية الذين قالوا رحراح؛ لإمكان الجمع بينهما.
كذلك حديث زائدة بن قدامة عندما قال: يحركها، وهم قالوا: يشير بها، فالجمع بين الروايات المتناثرة يلزمه على الأقل إتقان بحث التعارض والترجيح لأصول الفقه؛ لأن هذه المتون تحتاج إلى قوانين لضبط الفهم والاستنباط، إذ حققت أن زائدة ثقة ثبت كان يعيد السماع ثلاث مرار، لم يغمزه أحدٌ قط بوهن، فإن لم تقبل زيادة هذا فمن الذي تقبل زيادته، فهنا: هل هناك منافاة بين الذين قالوا: يشير، وبين زائدة عندما قال: يحركها، لا؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالباً، ولا نقول: دائماً، لماذا؟ لأن الإنسان قد يشير ولا يحرك، فمثلاً لو سأل سائل: أين فلان؟ تقول: هو ذاك، فأشرت ولم تحرك، لكن الإشارة تجامع التحريك غالباً، وإن أبيت أنها تجامع التحريك غالباً فهي تجامع التحريك، ذلك أنك إذا أشرت ولم تحرك راح المعنى الذي تريده من الإشارة، فإنك إذا قلت لرجلٍ: تعال! تشير إليه، فماذا عساك أن تفعل، تقول: تعال! وتحرك عندما تشير، ولا يتصور أنك لو قلت له: تعال! أنك لا تحرك، فما يفهم الذي تريد إلا إذا قرنته مع الإشارة بالتحريك، وإذا قلت: اخرج! أو قم! أو تعال! لا بد من التحريك في هذه المسائل.
فالإشارة لا تنافي التحريك، فما هو المانع أن يكون هؤلاء ذكروا الإشارة أنه إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة، ثم ذكر زائدة بن قدامة التحريك، ولا منافاة بين هذا وذاك، فهذا الجمع أولى من أن نواسي زائدة بن قدامة وهو ثقة ثبت لا مجال لتوهيمه.
إذاً عندما تورد مثل هذه الأمثلة، وتجمع كل ما مر بك من الأمثلة على هذه المسألة وتضعه في مكانه، فيصير عندك بكثرة الجمع قناعة أن الشذوذ لابد أن تتوفر فيه المخالفة، والمخالفة لا تتأتى مع إمكان الجمع، فلو أنك وأنت تقرأ كتب الأصول كان هذا في ذهنك، وكل فائدة تقرؤها في الكتب توظفها لهذه الفنون؛ ستخرج بع(1/7)
تصنيف الفوائد بعد تقييدها مما يعين على حفظ العلم
إن قلت: هذه الكتب الكثيرة كيف أنتزع منها الفوائد؟ نقول: يجب أن يكون عندك طريقة منظمة في قراءة الكتب، وهذا على حسب اهتمامك، فمثلاً تقرأ في السير مثل سير أعلام النبلاء، فكلما مر بك تعليق لطيف للذهبي أو موقف من أحد العلماء في السلوك أو في الفتوى أو في الخوف أو في الورع أو في هذه الأشياء تدونه في بصورة مختصرة، وتكتب له عنواناً مناسباً ملائماً، حتى إذا أردت هذه الفائدة تستطيع أن تصل إليها.
فمثلاً: تقرأ في ترجمة عبد الله بن وهب قال: نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم، نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة.
فتأتي وتكتب على هذا المقطع: الإخلاص، أو أن الرجل إذا أخلص لا يهمه المدح والذم، فيستوي عنده المدح والذم، أو تقول مثلاً: هضم حظ النفس، لأن هذا فضح، والعادة أن الإنسان دائماً يكثر من ذكر نفسه بالجميل، لكنه فضح نفسه، فتعمل عدة عناوين لمثل هذه الفائدة وتضعها في بطاقة، وتكتب: (سير أعلام النبلاء، الجزء كذا، صفحة كذا).
وتمر مثلاً فتجد في ترجمة الدارقطني يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له، فهذه أيضاً تفيد الإخلاص، فأصبح عندك مثالين في الإخلاص.
وعندما تقرأ الكتاب ستكتب كلمة الإخلاص عشرين أو ثلاثين مرة، وفي نفس الوقت تكتب: كيف نعامل الشيطان، أو أي عنوان آخر مثلاً، وما وجه معاملة الشيطان في قصة ابن جريج؟ وتتمثل معاملة الشيطان في أن كثيراً من الطلبة ينصرفون عن العلم، يقول: أنا أخشى أن يقال عني: فقيه أو عالم فيحبط عملي، فنقول له: إن الدارقطني قال: طلبنا العلم لغير الله، أي: أنه لما كان حديث عهد بالطلب، ولم يكن عنده من فقه العمل شيء، لما طلب العلم طلبه من أجل أن يقال: الدارقطني المحدث الفقيه؛ لكن لما كان عنده من الإخلاص في الجملة صار كلما قرأ حديثاً انتفع بما فيه، فنفعهُ الله بهذا في الإخلاص، حتى صار فقيهاً وصار مخلصاً إلخ.
فإذا وجدت في نفسك صدوداً عن هذا العلم خوفاً من أن يكون من الرياء؛ فاعلم أن الشيطان يريد أن يصدك من هذا الباب، فتستخدم هذه في الرقائق والدروس.
وتمر مثلاً على جرح الأقران: فتجد أن قريناً جرح أخاه، مالك يقول في فلان من أقرانه: دجال من الدجاجلة، فتكتب أن جرح الأقران لا يضر، وبعدما تنقل فوائد هذا الكتاب تأتي بالبطاقات، وتضع كل عنوان مشترك مع أخيه، فتضع الإخلاص مع بعضه، وجرح الأقران مع بعضه، وهكذا فاقرأ الكتب على هذا الاعتبار، ستجد بعد نهاية القراءة أنه أصبح عندك بطاقات كثيرة في موضوعٍ واحد، ثم تبدأ بتصنيف هذه الموضوعات: فإذا أردت أن تتكلم عن الإخلاص فلديك بحر من الأمثلة، فأنت بهذه الصورة تكون قد استطعت توظيف هذه القراءة إذا كنت خطيباً، أو مدرساً، أو مؤلفاً، تستطيع أن تطعم كتبك أو تطعم دروسك بما يحار الإنسان في إيجاده من تلك الأمثلة والنكت.
وإذا قرأت كتاباً في الحديث ككتاب التهذيب فتجد أحياناً تنبيهاً على بعض مصطلحات العلماء، أو تقرأ في كتاب مثل علل الحديث لـ ابن أبي حاتم فتقف على أشياء لا تقف عليها أبداً إذا اقتصرت على كتاب من كتب أهل العلم، يعني: هناك شيء اسمه كلمات الثناء التي ظاهرها الجرح، فإذا لم تقف على أصل مغزاها حكمت على ظاهرها، فيكون خطأً، فمثلاً في ترجمة إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في تهذيب التهذيب آخر كلمة في الترجمة ذكرها الحافظ ابن حجر، قال: وذكر عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: إسرائيل لص يسرق الحديث.
فكلمة يسرق الحديث معروف أنها جرح، فإذا ذهبت لكتاب ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل فتجد العبارة بخلاف ما فهمت، فـ ابن أبي حاتم رواها عن أبي بكر بن أبي شيبة وليس عثمان، وعثمان أقوى من أبي بكر وأبو بكر أوثق الرجلين، فرواها عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: كان إسرائيل في الحديث لصاً، وليس هناك (يسرق)، فقال ابن أبي حاتم: أي: يتلقف العلم تلقفاً، إذاً: هذا مدح؛ كما أن اللص إذا دخل تلقف؛ لأنه مستعجل، فهذا إسرائيل بن يونس يتلقف العلم تلقفاً، وكما أن السارق إذا دخل انتقى الجيد من المتاع؛ ما خف وزنه وغلى ثمنه، فكذلك إسرائيل ينتقي حديث مشايخه، فترى أن الحافظ ابن حجر روى الرواية بالمعنى، فسواءٌ كان الحافظ هو الذي ذكرها أو عثمان بن أبي شيبة هو الذي ذكرها بالمعنى فقد أفسد الكلام، فبوقوفك على هذا تكون قد وقفت على فائدة، لكن إن لم تقف على هذه الفائدة فمن الممكن أن تقول في أي حديث مثلاً: ولكن إسرائيل يسرق الحديث، فتتهم الرجل ولا تهمة عليه.
كذلك في كتاب علل الحديث لـ ابن أبي حاتم كلمة في ترجمة إسماعيل بن أبي رجاء خلت منها كتب التراجم وهي أن شعبة سئل عن إسماعيل بن أبي رجاء فقال: ذاك شيطان!! والشيطان لا يفهم منه إلا الذم، فقال ابن أبي حاتم: يعني من حسن حديثه.
يعني: هل رأيت الجن عندما تأتي بالخوارق، حتى إنهم ذكروا أن يحيى بن معين قال في راوٍ: أظن أن أباه تزوج بجنية؛ لأنه كان صاعقة في الحفظ، يعني هذا الحفظ ليس لآدمي، فيقول إسماعيل بن أبي رجاء شيطان، يعني: من حسن حديثه، فلولا هذا التخصيص لقلنا: إنه شيطان، وقال شعبة: إنه شيطان! فإذا نظمت هذه الفوائد وعرفت كيف تجمعها في بطاقات سلِم لك جمعك، لكن عندما تقرأ على غير هدى، وليس عندك خطة في الكتب فتمر بك الفائدة فتستملحها، ولكن تحتار أين تضعها؟ وكيف تحفظها؟ حتى إذا احتجت إليها أخذتها.
إذاً: لابد من القراءة المنهجية في أي كتاب وأي فن، وهذه الطريقة هي أسلم الطرق، وهي أن يكون لك منهج في قراءة الكتب كلها، فتمسك بالكتب كتاباً كتاباً وتقرأ، فما مر بك كتبته بعنوان يناسبك، حتى وإن خالف عنوان الكتاب، المهم أن يناسبك أنت حتى إذا أردت أن تستحضر هذه المادة استحضرتها، وهذه هي أجود وسائل الطلب واستخراج الفوائد من الكتب، وجرب هذه الطريقة ستجد أنك بفضل الله تبارك وتعالى ستحصِّل فضلاً غزيراً لم يخطر لك على بال، والله أعلم.(1/8)
الأسئلة(1/9)
استحباب خروج طالب العلم إذا لم يجد من يعينه على الطلب في بلده الذي يسكنه
السؤال: ما العمل في حالة عدم وجود طالب علم متمكن في العلم في المنطقة التي أعيش فيها لآخذ عنه؟
الجواب
لن يعدم؛ لأنه من غير الممكن ألا يكون في المنطقة كلها طالب علم جيد، لا نقول: إنه شيخ، والإنسان إذا فقد الماء فليتيمم، أي: يستفيد من خبرة من سبقوه في هذا المضمار في تذليل بعض الصعوبات التي تواجهه، وإلا فيستحب لمثل هذا أن يرحل لطلب العلم، وطبعاً لا يفعل هذا إلا رجلٌ نذر نفسه لأجل هذا الدين، أي: يستهين بالمصاعب في سبيل الله، أما أنه يجد لنفسه الأعذار ويقول: أنا لا أستطيع، وعندي من الشواغل كذا إذاً: فليترك هذا العلم، لكن الدراسة على المشايخ فيها الفوائد العظيمة.(1/10)
عدم بذل العلم لمن لا يستحقه لا يعد من كتمان العلم المنهي عنه
السؤال
ما نقلته عن الأعمش رحمه الله تعالى هل هو من الشرع النبوي في معاملة الشيخ لتلاميذه؟ أليس في هذا شيء من كتم العلم؟
الجواب
لم يكتم علماً، بدليل أنني قلت في مطلع الكلام: إن دواوين الإسلام مليئة بحديث الأعمش، لكنه كان بعد أن يشتد عليهم يعود فيحدثهم، ونسيت أن أذكر في هذا الكلام أنه بعد أن يشتد عليهم ويعود ليحدثهم كان يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني؛ -لأنه كان في عينيه عمش- إنما رفعني الله بهذا العلم، فهو كان يحدث، وما كان يكتم علماً، ولكن كان يؤدب.
فالأخ يقول: نخشى أن يقوم بعض الشباب بنفس هذه الأفعال، فيقال: لا.
نحن ضربنا المثل بهذا لنعلل لماذا كان يسلك هذا المسلك، وإلا فلكل مقامٍ مقال، وأحياناً بعض الناس لا ينفع معه إلا الشدة، وبعضهم لا ينفع معه إلا اللين، فكلما كان هناك إقبال على الشيخ وكان طلابه يحتملون منه جاز له أن يفعل مثل هذه الأشياء، لكن إذا كان الإنسان متروكاً، أو ليس له تعظيم في قلوب الناس إذا عمل هذا العمل تركه الناس، فالإنسان يستخدم ما يسميه المتقدمون بالفقه النفسي والله أعلم.
مداخلة: هل يقال في هذا: إنه من باب عدم إذلال العلم؟ الشيخ: نعم.
فيما مضى كان العلماء يتعففون أن ينتقلوا بكتب العلم إلى أحد، حتى إن الإمام البخاري لما قال له الأمير عبد الله بن طاهر: إني أريدك أن تقرأ كتابك على أولادي -يعني: كتاب التاريخ الكبير وكتاب الصحيح- فقال: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كان لأولادك حاجة فليأتوني في المجلس، قال: يأتوك ولكن خصهم بمجلس! قال: لا أخصهم بشيء دون المسلمين، فإن شئت فامنعني حتى يكون لي حجةٌ عند ربي.
والإمام البخاري يقول هذا الكلام في عز دولة العلم، وكان الأمراء يوقرون أهل العلم؛ لكن الآن أنت تحمل علمك على كتفك، وتترصد الطلبة لعلهم يقبلون منك، وهذا بسبب اختلاف الأحوال، فلو وضع الإنسان رجلاً على رجل، وقال: من أراد العلم فليأتني فلعله يفوت الناس الكثير، فهو يأخذ هذا العلم ويمضي به إلى الناس يعلمهم، وطبعاً اختلاف الأزمان والبيئات له علاقة في الحكم بلا شك.(1/11)
القول المجمل في حكم حديث شهر بن حوشب
السؤال
ما هو القول الصحيح في شهر بن حوشب هل يحسن حديثه أم لا؟
الجواب
القول المجمل أنه يحسن حديثه إلا في المخالفة، يعني: هو حسن الحديث كـ محمد بن عمرو بن علقمة.(1/12)
قبول زيادة الثقة لا يكون على الإطلاق
السؤال
هل زيادة الثقة مقبولة على الإطلاق؟
الجواب
لا.
إنما تقبل بشروط، ليس هناك شيء اسمه على الإطلاق، كل شيء مقيد، فزيادة الثقة لا تكون مقبولة على الإطلاق إلا عند الأصوليين والفقهاء، لكن عند أهل الحديث لا يقبلون الزيادة على الإطلاق.(1/13)
ضابط الجمع والترجيح بين الروايات
السؤال
هل الجمع بين الروايات لازم، أم لابد من توافر ضوابط معينة لذلك؟
الجواب
مثلما ذكرنا في المثالين، مسألة تحريك الإصبع ومسألة الإناء الرحراح والإناء الزجاج، فذكرنا الضابط وهو ألا تكون هناك مخالفة، فإذا تحققت المخالفة وتعذر أو استحال الجمع ففي هذه الحالة لابد من الترجيح بالحكم على إحدى الروايتين بالشذوذ إن كان راويها ضعيفاً.(1/14)
الأحوال التي يقبل فيها جرح الأقران
السؤال
هل جرح الأقران بعضهم بعضاً يغض من قدرهم، بغض النظر عن أسباب الجرح؟
الجواب
لا.
جرح الأقران لا يقبل إذا لاح أنه لعصبية أو هوى، إنما لو تكلم سني في صاحب بدعة فهذا مقبول منه، لأن هذا من باب البيان والتبليغ، ولا يقال: إن الحامل له على أن يتكلم فيه هو أنه من أقرانه، وإنما إذا لاح أنه لعصبية أو هوى فهذا الذي يرد، أما لغير ذلك فلا.(1/15)
اعتبار الصحيحين أصح كتابين بعد كتاب الله لا ينفي وجود أحاديث ضعيفة فيها
السؤال
تلقت الأمة الصحيحين بالقبول، فماذا يقال لمن ادعى أنهما يحويان أحاديث ضعيفة؟
الجواب
أما عامة الناس فلا أظن أن لهم شغلاً في هذا الفن، وإذا قصد أن بعض المتخصصين أو من لهم أهلية تكلموا في بعض أحاديث الصحيحين؛ فيناقش كل إنسان تكلم، يعني: المسألة تكون مسألة علمية؛ لأنه ليس هناك من ادعى العصمة لكتاب البخاري ومسلم بحيث أنه لا يناقش في لفظة من ألفاظ الكتاب، ما قال بهذا أحد والحمد لله، ومن قال به فهو غالٍ، لكن ينظر في دعوى المدعي، فمثلاً: إذا كانت الدعوى قوية لاسيما وأن هذا المتأخر كان مسبوقاً إليها، ومع ذلك فنحن لا نفتح الباب لكل من يريد الكلام في الصحيحين، فكلام الجهلاء غير مقبول، وإنما كلامنا الآن في أهل الفن، الذين هم أصحاب القواعد وأولى الناس بالكلام في الصحيح والضعيف، فحينئذٍ ننظر إلى ما جاءوا به، فإن كانت أشياء غير مقبولة رددناها، مثلما فعلنا في حديث ابن عباس في صحيح مسلم لما قال أبو سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أعطني ثلاثاً؟ قال: نعم، فكان منها: (وأن أزوجك أم حبيبة أجمل العرب) فتكلم العلماء وقال الذهبي: إن هذا منكر، لماذا؟ لأن أم حبيبة تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أبو سفيان بدهر، حتى ثبت أنها طوت البساط من تحته وما تركته يجلس على بساط النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقول: (أزوجك أم حبيبة)، فالعلماء أجابوا بعدة وجوه واستضعف هذه الأوجه كلها ابن القيم.
لكن إذا اتهم على هذه الجزئية بنكارة لمخالفتها ما هو معلوم في السيرة بالاطراد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل إسلام أبي سفيان فإنما نحكم على هذه الجزئية دون غيرها، هذا إذا لم نستطع أن نأتي بوجهٍ غير مقبولٍ من وجوه الجمع، وإلا فالأصل إن استطعنا أن نجمع ما بين هذا وما بين الروايات الأخرى التي ظاهرها التناكر بوجه من وجوه الجمع المعتبرة؛ فهذا الذي يشار إليه، ولا ينبغي أن يصل إلى الترجيح إلا مع تعذر الجمع أو استحالته.(1/16)
أسباب تثبيت الحفظ لطالب العلم
السؤال
هل صح أنه يوجد دواء يساعد على الحفظ ويقوي الذاكرة؟
الجواب
سُئل الإمام البخاري رحمه الله وقد قيل: إنه يتعاطى دواءً يثبت الحفظ فسأله ابن أبي حاتم الوراق عن ذلك وعن قول الناس؟ فقال: ما أعلم شيئاً من ذلك إلا نهمة الطالب ومداومة النظر، يعني: الرغبة الشديدة لطلب العلم مع مداومة النظر، فهذا الذي يثبت الحفظ، والله أعلم.(1/17)
اشتغال السلف بطلب العلم مع عدم تقصيرهم في السعي لطلب الرزق
السؤال
هلا علقتم على قول البعض: كيف نفعل فعل السلف في الطلب مع مشاغل اليوم الكثيرة، وقد نقل عن الشافعي قوله: لو كلفني أهلي بشراء بصلة لما طلبتُ العلم.
الجواب
أولاً: هم كانوا في الشغل أكثر منا، بل لم يكن عندهم من الفراغ وسهولة الحركة مثل ما عندنا في حياتنا اليوم، أي: أنت تستطيع الآن أن تصل إلى أبعد بلاد الدنيا في ساعات قليلة، بينما هو إذا خرج من بلده ولتكن مصر مثلاً أو الشام، أو كان مثلاً من بلاد الأعاجم وأراد أن يصل إلى مكة والمدينة كان يقضي شهوراً، وأنت الآن تقطعها في ساعات، فهذا الوقت المختصر ماذا تفعل به؟ لا شيء، فهم كانوا أكثر شغلاً منا، وكانوا مع ذلك أرق حالاً منا، لكن المسألة تتوقف على الهمة.
وقول الإمام الشافعي لو صح عنه يشير إلى أن المرء لو اشتغل بالمعاش عن العلم، ولكن هل كان الإمام الشافعي عاطلاً، ما كان يعمل شيئاً قط؟ كان الإمام الشافعي يسعى في معاشه، لكن كان يختصر غالب حاجاته ويستغني عنها لطلب العلم، فتجد أنه قد يقصر في حظ نفسه، وفي جلب الطعام الجيد والفراش الوثير وهذه الأشياء لطلب العلم.
وأذكر في هذا العصر للشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، أنه قال: إنه كان لديه محل ساعات، ولكن كان يعمل في اليوم ساعة واحدة أو ساعتين، بمقدار ما يعيشه ذلك اليوم، ثم يغلق المحل وينطلق إلى المكتبة الظاهرية، فيقضي فيها عامة يومه ولا ينقلب إلا قرابة نصف الليل.
لكن عندما يكون للإنسان مطامع، يريد أن يحسن هنا ويفعل هنا وكذا ما تفقه، فلعل قول الإمام الشافعي يحمل على أن المرء إذا جعل همته في طلب الدنيا لا يفلح في طلب العلم.
فلو أن أحدنا يسعى في معاشه كل يوم ثماني ساعات، فيبقى عنده ثماني ساعات ينام فيها، ويبقى له ثمان ساعات، فلو كان عنده ذهن وإقبال ونهم فهذه الساعات تكفيه.(1/18)
صحيح البخاري
إن ما نشاهده اليوم من تفلت ديني، وتولية زمام الأمور غير أهلها، وانتشار الجهل في الدين، وإحياء البدع وإماتة السنن لهو مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر أن من علامات الساعة ضياع الأمانة، وتوصيد الأمر إلى غير أهله سواء أمر الولاية أو أمر الإفتاء والعلم والدعوة، أو أمر الحكم والقضاء، فبهذا كله ينتشر الفساد والظلم، ويفشو الجهل، وتكثر الفتن، وتقوم الساعة بعد ذلك على شرار خلق الله سبحانه وتعالى.(2/1)
شرح حديث أبي هريرة في سؤال الأعرابي عن الساعة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
قال الإمام البخاري رحمه الله: باب (من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل) حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح ح وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال.
وقال بعضهم: بل لم يسمع.
حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله! قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وهذا الحديث رواه الإمام البخاري أيضاً في كتاب الرقاق من حديث محمد بن سنام عن فليح بن سليمان.(2/2)
اللطائف الحديثية في سند الحديث
الإمام البخاري رحمه الله روى هذا الحديث عن شيخين له: الشيخ الأول هو محمد بن سنام.
والشيخ الآخر هو إبراهيم بن المنذر.
لكن بين رواية الشيخين فرق: الفرق الأول: أن رواية محمد بن سنام عالية، ورواية إبراهيم بن المنذر نازلة، وأشرف أنواع العلو أن يقل عدد الوسائط بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الإسناد فيه عال ونازل، العالي أنك تصعد إلى فوق، ولنفترض أن هذا القلم إسناد، فهذا طرفه الأول، وهذا طرفه الآخر، هنا الإمام البخاري في هذا الطرف، والطرف المقابل صحابي، فالإمام البخاري عندما يقول: حدثني محمد بن سنام، هنا الإمام البخاري الطرف الأسفل، وهنا في العلو الصحابي على أساس أن الزمان نازل، فالإمام البخاري متأخر، والصحابي هو أعلى طبقة في السند، وينقسم هذا السند إلى فترات زمنية تسمى طبقات، ولنتخيل أن هنا -مثلاً- طبقة، وهنا طبقة، وهنا طبقة، وهنا طبقة، فالإمام البخاري عندما يقول: حدثنا محمد بن سنام، حدثنا فليح بن سليمان، وبعد ذلك هلال بن علي ثم عطاء بن يسار، ثم أبو هريرة، فهذا اسمه علو كلما صعد إلى فوق.
السند الأول عندنا فيه محمد بن سنام، ثم فليح بن سليمان، وبعده هلال بن علي، وبعد ذلك عطاء بن يسار، وبعد ذلك أبو هريرة إذاً: بين الإمام البخاري وبين النبي عليه الصلاة والسلام في السند الأول خمسة رجال.
السند الثاني: قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستة.
فيبقى السند الأول أعلى من السند الثاني؛ لأن البخاري نزل فيه درجة، فأشرف أنواع العلو أن يقل عدد الوسائط بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما اقتربت من الضوء ومن المصباح كان أفضل، وكان المحدثون يسعون إلى تحصيل هذا النوع من العلو مهما كلفهم من الجهد والمال.
قيل لـ يحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ، وإسناد عالٍ، فالإسناد العالي مطمح للمحدثين؛ لأنه يقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يرحلون الفراسخ البعيدة لتحصيل السند العالي، لكن علو الإسناد مشروط بصحته، وإلا فالإسناد الصحيح النازل خير من الإسناد العالي الضعيف، والعلماء أحياناً كانوا يتجاوزون عن هذا الشرط في الأحاديث العالية من باب الإغراب الذي كانوا يعدونه للمذاكرة.
فالمحدثون كان لهم مذاكرات يأتون فيها بكل غريب وعجيب ومنكر، لأجل أن يغرب بعضهم على بعض، وليس المقصود أن يحتجوا بالحديث في إثبات حكم شرعي، لا.
فهذه الأسانيد الغريبة العالية من منح العلم، ما كانوا يحتجون بها في دين الله عز وجل ولا يأخذون منها الأحكام ولا الآداب، إنما كانوا يدللون على حفظهم وعلى رحلتهم وعلى سعة علمهم بمثل هذا النوع من العلم.
الإمام البخاري رحمه الله أورد هذا الحديث في كتاب الرقاق بالسند العالي، وسنبين لماذا نزل الإمام البخاري في السند الآخر.
قال: حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح -ثم ذكر حرف الحاء، وهذا الحرف مأخوذ من كلمة (تحويل) فهو فن ابتكره المحدثون يساوي الاختزال في العصر الحديث- وحتى أبين لك كيف اختصر الإمام البخاري السند، أسرده لك بكامله: قال: حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح بن سليمان قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: ويسوق المتن كله، وبعد ذلك يبتدئ من جديد فيقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
فحتى يعفي نفسه من هذه الإعادة يذكر السند الأول بالمتن، أو يذكر السند الأول كله، وبعد ذلك يذكر السند الثاني بالمتن، وهذا للاختصار، والاختصار في التحويل يبدأ من عند الراوي المشترك في السند.
فالإمام البخاري اختصر فقال: حدثنا محمد بن سنام حدثنا فليح وحدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه.
يعني: عن فليح فالراوي المشترك فليح، ولو وضع حرف الحاء في موضع آخر غير هذا الموضع لكان غلطاً.
إذاً: أنا لو أريد أن أختصر اختصاراً آخر، سأقول: قال البخاري: حدثنا محمد بن سنام وبعد ذلك أكتب (ح) وبعد ذلك أقول: حدثني محمد بن إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد بن فليح كلاهما عن فليح قال: حدثني هلال بن أبي ميمونة.
والإمام البخاري نادراً ما يحول، والإمام مسلم أكثر منه تحويلاً، والسبب أن الإمام مسلم رحمه الله يكثر من ذكر الأسانيد للحديث الواحد بخلاف البخاري، فأول حديث في صحيح مسلم ذكر له أسانيد كثيرة، فمع كثرة الأسانيد يحتاج إلى حرف التحويل، والأسانيد المكررة عند الإمام البخاري قليلة، ليست كما هي عند الإمام مسلم رحمه الله، وهلال بن علي هذا هو هلال بن أبي ميمونة وهو هلال بن أبي هلال، كل هذه الأسماء الثلاثة إنما هي لرجل واحد.
مداخلة: فائدة تحويل سند الحديث؟
الجواب
الله أعلم.
مسألة التحويل هذه مسألة فن، الإمام البخاري لم ير حاجة إلى ذلك، لكن أنت لو حولت من بعد محمد بن سنام جاز لك ذلك وربما الإمام البخاري لم يحول، لأنه لو حول بعد محمد بن سنام سيكون التحويل قيمته قليلة فهو راوٍ واحد فقط، لأنه إنما نحول إذا كثر عدد الشيوخ فخشينا الالتباس، فهو لو حول من بعد محمد بن سنام يبقى التحويل ليس له تلك القيمة.
مداخلة: هل هناك فرق بين أدوات التحل؟ الجواب: بالنسبة لأدوات التحمل: (حدثنا) و (حدثني)، فالعلماء يقولون: إن (حدثنا) تكون من لفظ الشيخ، وذلك إذا قرأ الحديث بنفسه تبقى أنت كمستمع تقول: (حدثنا)، وإذا قرأه رجل على الشيخ وهو يسمع ويقر تقول أنت: أخبرني، لكن هذا مجرد اصطلاح، وقد اتفق العلماء على أنه لا فرق بين (حدثنا) و (أنبأنا) و (أخبرنا)، فكلها بمعنىً واحد.
ولفظ (حدثنا) بالجمع إذا الشيخ هو الذي قرأ وسمع أكثر من واحد، أما إذا الشيخ حدث رجلاً على انفراده فيقول: حدثني، هذا هو المشهور عند جماهير العلماء.
ولا فرق عند العلماء ما بين أن يقرأ الشيخ من لفظه، أو أن يُقرأ على الشيخ وهو يسمع، فالقراءة على الشيخ وهو يسمع تُسمى عرضاً، أي: أن التلميذ عرض على الشيخ حديثه فأقره، وحصل خلاف ما بين أهل العراق وأهل المدينة في مسألة العرض والسماع، فكان أهل المدينة يرون أن العرض مثل السماع، وكان أهل العراق يقولون: لا.
بل ما كان من لفظ الشيخ يكون أرفع من العرض، فالإمام مالك رحمه الله رد عملياً على أهل العراق بأنه لا يقرأ الموطأ على أحد، إنما يقرأ عليه وهو يسمع؛ ولذلك حديث مالك في صحيح مسلم كله عرض، ما جاء من طريق يحيى بن يحيى عن مالك في صحيح مسلم كله عرض، يقول مسلم: حدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، هكذا في صحيح مسلم، يعني: أنه أخذ الحديث عرضاً.
وقال إبراهيم بن سعد وهو أحد أئمة المدينة: يا أهل العراق! لا تدعون تنطعكم! العرض مثل السماع.
وبالغ بعض أهل المدينة وقال: بل العرض أقوى من السماع، لكن العرض كالسماع وإن كان احتمال دخول الوهم في العرض أقوى من دخوله في التحديث المباشر، لأن الشيخ قد يسهو والتلميذ يقرأ عليه، وتدركه سنة أو نحو ذلك فلا ينتبه، فلا شك أن التحديث يمتاز عن العرض بمثل هذا، لكن المشهور والمعروف عند جماهير العلماء أن العرض والسماع كلاهما صيغة واحدة.
مداخلة: هل الكتابة مع الإجازة أقوى من السماع؟ الجواب: لا.
هذا خطأ بل التحديث أرفع أدوات التحمل، وهو أن يصرح الشيخ بلفظ التحديث، ربما يقول لك: الكتابة أحد أدوات التحمل، والإجازة أحد أدوات التحمل، فإذا اجتمعا هذا مع ذاك يبقى كأنه نور على نور، لا.
أقوى صيغ التحمل (حدثني) و (حدثنا) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (أخبرني) و (أخبرنا)، وثم (قال لي)، فهي ملتحقة بحدثنا وحدثني، ولفظة (قال لي) أكثر من يستخدمها الإمام البخاري، يعني: لم أقف لأحد من الأئمة الستة على استخدام هذه العبارة إلا عند الإمام البخاري ذكرها في الصحيح قليلاً، لكنه أكثر منها في كتاب التاريخ الكبير.
وأحياناً يروي في التاريخ الكبير حديثاً يقول فيه: قال لي مثلاً قتيبة بن سعيد، ويكون روى هذا الحديث بعينه عن قتيبة في الصحيح لكنه قال: حدثني قتيبة، فالعلماء قالوا: إن لفظة (قال لي) عند الإمام البخاري هي بمنزلة: (حدثني)، أو (أنبأني) أو (أخبرني).
والطحاوي له رسالة اسمها: التسوية بين حدثنا وأخبرنا، يرد فيها على من يفرق بينهما ويقول: إن أخبرنا للعرض وحدثنا للقراءة.
وأيضاً من أدوات التحمل (عن) وهي من أدوات التحمل التي تحتمل ا(2/3)
الفوائد الفقهية والأصولية من الحديث(2/4)
استحباب الرحيل في طلب العلم
وقوله (جاءه أعرابي) فيه دلالة على استحباب الرحلة في طلب العلم والأعرابي: هو من يسكن البادية، يعني: ليس من أهل الحضر فالرسول عليه الصلاة والسلام يعقد المجلس لأصحابه وهذا الأعرابي رحل من بلده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليسأله عن أمر جلل، والرحلة في طلب الحديث أشهر من فعلها هم المحدثون، وأكثر من (95%) من الذين رحلوا من مكان إلى مكان إنما هم أهل الحديث، وتبقى (5%) لأهل الفقه وأهل اللغة، وسائر الذين يطلبون فنون العلم الأخرى.
فيمكن أن يكون في بلدك اثنين أو ثلاثة من الفقهاء تتخرج عليهم، وتكون فقيهاً (100%)، وتأخذ ما عندهم، لكن في الحديث قد لا تجد.
لماذا؟ لأن الأسانيد فرقت ووزعت بسبب رحلة الصحابة إلى الأمصار، وتركهم المدينة ومكة، فانتقل هؤلاء الصحابة ومعهم حديث كثير عن النبي عليه الصلاة والسلام، ففي كل بلد طلاب علم يسمعون عن شيوخ البلد، فكل واحد من هؤلاء معه من الأسانيد ما ليس مع الطرف الآخر، فلذلك وزعت الأسانيد كلها في صدور مئات بل ألوف من طلاب العلم في مختلف الدنيا، فهذه الرحلة اختص المحدثون بها لحاجتهم إليها بسبب تفرق الأسانيد في البلاد، وبذل المحدثون جهداً عظيماً كبيراً في سبيل جمع كل هذه الأحاديث من صدور طلاب العلم الذين أخذوا عن العلماء، والخطيب البغدادي له كتاب اسمه: الرحلة في طلب الحديث، ذكر فيه نماذج من رحيل الصحابة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ومن رحيل التابعين إلى الصحابة، ومن رحيل العلماء إلى المشايخ في البلاد الأخرى، فمجيء الأعرابي يدل على الحرص على طلب العلم، وأنه كلما بدا لك سؤال يستحب لك أن ترحل إلى العالم الذي يشفيك.
وقصة شعبة بن الحجاج في سبيل التثبت من حديث واحد مشهورة، ذكرها ابن حبان في كتاب المجروحين، وذكرها الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وهي مشهورة، وقد نوه بها الحاكم النيسابوري في المستدرك في آخر حديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) بعدما روى هذا الحديث وذكر له طرقاً كثيرة، نوه برحلة شعبة بن الحجاج رحمه الله إلى طلب هذا الحديث الواحد، أراد أن يقول: إنني تعبت واستقصيت جمع طرق هذا الحديث، ولا مانع من ذلك؛ فقد فعل شعبة مثل هذا، فرحلة شعبة بن الحجاج رحمه الله استغرقت منه نحو شهرين أو ثلاثة في سبيل التثبت من حديث واحد، فعن نصر بن حماد الوراق قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة؛ فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء) قال: وبينما أنا أحدث بهذا الحديث خرج شعبة من الدار فسمعني فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فجلست أبكي فدخل شعبة الدار ثم خرج فوجدني أبكي، فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث قلت له: حدثك إبراهيم بن سعد؟ فغضب وأبى أن يخبرني، فقال لي مسعر بن كدام وكان جالساً مع أبي إسحاق: يا شعبة! إبراهيم بن سعد حي بالمدينة إن أردت أن تستثبت فارحل إلى المدينة واسمع الخبر من إبراهيم بن سعد.
وشعبة بصري من أهل البصرة، قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث فقال: فلقيت مالكاً في الحج قلت له: حج إبراهيم بن سعد؟ قال لي: لا.
ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على إبراهيم بن سعد، فقلت له حديث الوضوء سمعته من عبد الله بن عطاء؟ قال: لا.
قلت: ممن سمعته؟ فذكر أنه سمعه ممن -أدركني سوء الحفظ- قال: حدثني زياد بن مخراق قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عبد الله بن عطاء؟ قال: ما هو من حاجتك، قلت له: لابد، قال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام وتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتيني، قال: فذهبت فاغتسلت وغسلت ثيابي وأتيته، فقلت له: حديث الوضوء، قال: حدثني شهر بن حوشب، قلت: عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، فقال شعبة: حديث مرة مكي! ومرة مدني! ومرة بصري لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي.
وهذا الحديث صحيح لكن من غير الطريق الذي أنكره شعبة، والحديث إنما صح عن عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه، لكن الذي يقرأ هذه القصة عن شعبة بن الحجاج لا يتصور أنه بذل ثلاثة أشهر من عمره في سبيل أن يتأكد من حديث واحد فيه مثل هذه الفضيلة، وهو يقول: (والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي).
فالحمد لله رب العالمين أنه قد صح هذا الحديث.
فالعلماء كانوا يسافرون هذه الأشهر الطويلة في سبيل التثبت من لفظة واحدة، يأتي من بعدهم لا يشعر بقيمة الجهد الكبير الذي بذلوه.
ومن أمثلة الرحلة أيضاً في طلب العلم أو في طلب الحاجة: ما رواه الشيخان البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إذ جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، ونفقت الماشية فادع الله أن يسقينا، قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء وقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا، قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -يعني: ليس فيها سحابة- قال: فما إن دعا صلى الله عليه وسلم حتى تكاثر الغمام في السماء، وما نزل من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة، قال: وفي الجمعة التي بعدها وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه هذا الأعرابي فوقف على الباب وقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع ونفقت الماشية فادع الله أن يحبس عنا الماء، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والضراب ومنابت الشجر، قال: فكان على المدينة شمس وحول المدينة مطر).
وكذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة أيضاً أن رجلاً جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإحسان والإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فلم يكن تميز عنهم فكان الجائي يجيء فيسأل عنه أين محمد؟ فجاء أعرابي فسأل عنه، فقالوا له: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فذهب إليه وقال: يا بن عبد المطلب! قال: قد أجبتك، فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقالوا له: يا رسول الله! لو اتخذنا لك منبراً، قال: إن شئتم، ومن هنا اتخذوا له منبراً كان يجلس عليه ليتميز فلا يحتاج السائل أن يسأل عنه إذا جاء، بل إذا وجده يجلس على هذا المكان المرتفع عرف أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/5)
الرفق بالسائل خصوصاً إذا كان جاهلاً
قال هذا الأعرابي: (متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث)، هذا فيه إعراض من النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن السؤال غير عاجل، هذا سؤال ما له كبير قيمة، أن تعرف متى الساعة، لذلك صرف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل إلى ما ينفعه، وهذا فيه من الأدب أنه ينبغي على الشيخ أن يرفق بالسائل، لأنه قد يكون جاهلاً، أو قد يكون من الذين لا يحسنون السؤال، فيعلمه إحسان السؤال، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما أجابه إنما سأله، فرد على السؤال بسؤال، كأنما قال له: السؤال الذي ينبغي أن تطرحه ليس الذي ذكرت بل الذي أنا أذكره، والذي ينبغي أن تهتم به.
وروى الإمام مسلم عن أبي رفاعة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فدخل رجل فقال: رجل غريب يريد أن يتعلم دينه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وجلس على كرسي وأدنى هذا الرجل وجعل يعلمه ما يلزمه من دينه، وبعد أن انتهى صعد المنبر فأكمل خطبته)، فهذا رجل متعجل لا يدري شيئاً عن دينه، فربما إذا أقيمت الصلاة لا يدري كيف يصلي، فالإجابة هنا عاجلة بخلاف الرجل الذي يقول: متى الساعة؟ فينبغي للعالم أن ينظر إلى سؤال السائل إذا كان الرجل متعجلاً فليعجل له بالجواب فهذا أرفق، وإذا كان السؤال يحتمل التراخي أقبل على شأنه وعلى كلامه ثم بعد ذلك لا يضره إن هو رجع له مرة أخرى.
لماذا؟ لتحاشي حصول مضرة من تأخير الجواب.
فهو يقول هنا: متى الساعة؟ فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يحدث، فالناس الذين يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم انقسموا إلى فريقين، جماعة قالوا: سمع ما قال، فكره ما قال، وجماعة قالوا: بل لم يسمع.
أما الفريق الأول الذي قال: سمع فكره، عرفوا من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كره الشيء لا يجيب، مثل الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت ولم يجبه، -حتى كرر الرجل المسألة أكثر من مرة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وفي اللفظ الآخر قال: لو قلت نعم لوجبت ولما أطقتم) فالرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا كره السؤال لا يجيب، لكن يضاف إلى عدم الإجابة شيء آخر هو الذي جعل الفريق الآخر يقول: لم يسمع، أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا كره لم يجب ويحمر وجهه، يظهر عليه علامات الكراهة، فعدم احمرار وجه الرسول عليه الصلاة والسلام أغرى طائفة أخرى فقالوا: لم يسمع، لأنه لو سمع وكره ما قال لتغير وجهه عليه الصلاة والسلام كما هي عادته، وكذلك فإن الفريق الآخر غلب حسن الخلق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن من عادته أن يهمل من يريده، لاسيما إذا كان الرجل من البادية، رحل وجاء من مسافة بعيدة، فقالوا: لا.
لم يسمع، لأن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في استقبال الغريب يمنعه ألا يجيبه، فالأولون غلبوا ما رأوه من عادته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا كره لا يجيب، لاسيما أن هذا السؤال وجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجب على السائل.
(حتى إذا قضى حديثه وأكمله، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ فقال: ها أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)(2/6)
استحباب عقد مجالس التحديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي) قلنا: إن هذا فيه دليل على استحباب عقد مجالس التحديث لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعقد المجالس لتعليم أصحابه(2/7)
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين
إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها، هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها وفي حديث حذيفة قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال).
الجذر الذي هو الأصل، أي: أن تعظيم حرمات الله عز وجل إنما يكون محله القلب، وهذا يصدقه قول ابن عمر وقول حذيفة أيضاً: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) فهذا الإيمان هو الأمانة، وعادة لا ينشط الرجل إلى فعل ما أمره الله عز وجل إلا والإيمان رائده، فالذي يفرط في أوامر الله عز وجل خائن، إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، ليس المقصود بالأمانة أن يعطى رجل آخر مبلغاً من المال فيأكله لا، هذا لون من ألوان الخيانة، لكن أعظم الخيانة أن يخون الرجل ما أمره الله عز وجل بحفظه لاسيما العقد الأول الذي أنت وقعت عليه، ووقعه كل إنسان على وجه الأرض، فخانه أكثر الناس قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هذا هو التوقيع، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية، أعظم الأمانة خيانة توحيدك، فكل البشرية جميعاً شهدوا على أنفسهم ووقعوا هذا العقد، قالوا: بلى شهدنا، فقال الله عز وجل لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، أي: إنما أشهدتكم حتى لا يقول قائل: إني غافل عن هذا.
هل أحد منا يذكر هذه المراجعة؟ لا أحد على الإطلاق يذكر هذه المراجعة؛ لأن الله عز وجل إنما فعل ذلك ونحن في عالم الأرواح، كما في الحديث الصحيح الذي يفسر هذه الآية أن الله تبارك وتعالى مسح ظهر آدم فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيام، ثم خاطبهم في عالم الأرواح -في عالم الغيب- جعل لهم أرواحاً وخاطبهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا، قال: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] فلما لم يذكر العباد هذا الميثاق أرسل الله عز وجل الرسل تذكر العباد بهذا الميثاق إذ جزاء العقاب والثواب إنما هو مرهون ببعثة الرسول.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] وأخطأ من زعم أن هذا الميثاق حجة على كل العباد، ولا يعذر بالجهل بسبب هذا، أن الكل أقر في عالم الغيب أن الله عز وجل هو ربهم لا.
بل العذاب والثواب كله مرهون ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم بوصول البيان والبلاغ، قال تبارك وتعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فمن بلغته النذارة انقطعت حجته، وانقطع عذره، أما إذا بعث الرسول عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل كلامه إلى إنسان معين، فهذا الرجل يعذر بجهله حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها فأجل الأمانة التوحيد لذلك حفاظك على توحيدك أمانة، وتفريط الإنسان في معرفة التوحيد خيانة لهذه الأمانة.(2/8)
من ضياع الأمانة: تصدر أهل الجهل للفتوى والعلم
هل الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا؟! لا.
القرآن عند الصحابة كان غالياً هذه هي الأمانة أن تعظم كلام الله عز وجل الذي أنت تأخذ منه الأحكام والآداب، الذي هو رائدك إلى الجنة، فإذا وجدت مثل هذه الخيانات في شتى المجالات، في الأحكام الشرعية، وفي التوحيد، وفي الآداب، وفي السلوك وفي مثل هذه الأشياء فاعلم أن الساعة قد اقتربت (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة).
فاللفظ مجمل -وأغلب الإشكال يأتي من الإجمال- فلم يقنع هذا الرجل بهذا الإجمال فكرر السؤال مرة أخرى يستفسر، فقال هذا الأعرابي: (كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
إذاً: كل شيء من الخلاف سببه كلام الجاهل في غير فنه، ولله در من قال من علمائنا: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، فمثلاً لو أن شخصاً في زماننا لا نشهد له بالعلم ألف كتاباً، وأتى فيه بأقوال شاذة.
ثم مر عليه خمسمائة عام فعثر على الكتاب شخص وقال لك: وجدنا مخطوطة لأحد أئمة الإسلام، وأخرج المخطوط وحققه، هذا الشخص الذي هو كان عندنا في زماننا لا يساوي فلساً، بعد خمسمائة سنة سيبقى شيخ الإسلام الإمام العالم العلامة، الحبر الفهامة، البحر، قوي العارضة، شديد المعارضة، ألقاب يضعونها لهؤلاء، فيقوم هذا الرجل الذي ما كان يساوي شيئاً فيصير حجة بعد الزمن الطويل، لماذا؟ لأن كل يوم يمر علينا العلم يتناقص، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من أشراط الساعة أن يرفع العلم، وأن يكثر الجهل، ويكون للقيم الواحد خمسون امرأة).
فهناك مناسبة ما بين كثرة الجهل والنساء، لماذا؟ لأن العلم هذا تبع الرجال، والجهل يكثر في أواسط النساء جداً أكثر من الرجال بألف درجة، فمن كثرة الجهل بأحكام الشرع أصبح لهذا الرجل خمسون امرأة، يعني: الحكم الشرعي أن الرجل له أربع حرائر فقط، لكنه من شدة الجهل بالأحكام -فهذا أحد المعاني في الحديث- أن الرجل يتزوج خمسين امرأة بسبب الجهل، لأن الكل جاهل والعلم رفع.
والمعنى الثاني: أن هذا يدل على قلة الرجال حتى أن الرجل الواحد تلوذ به خمسون امرأة، فيطعمهن ويرعاهن لعدم وجود من يقوم بحال النساء في ذلك الزمان.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)، فهذا الزمان عندما ترى مفتياً جاهلاً يتصدر للإفتاء للعوام، كم سيحصل من الشر المستطير بسبب فتوى هذا المفتي، ولا نقصد بهذا المفتي أنه لابد أن يكون له منصباً رسمياً لا.
أي رجل تصدى للإفتاء، والعلماء عندما يقولون: (مذهب العامي مذهب مفتيه) ليس المقصود مفتي البلد، بل مذهب المفتي الذي سأله السائل، فعندما يأتي جاهل يفتي في دين الله عز وجل وهو لم يحط بالمسألة علماً يضل الناس، والسلف كان لهم كلمة تقال: (إذا زل العَالِم زل بزلته عَالَم).
ومن أكبر وسائل الإضلال عدم التمييز ما بين العالم وشبيه العالم، مثل العالم الجاهل كشخص يلبس فروة أسد وهو جبان، فهو أخذ سمت الأسد ورسمه، لكنه ما أخذ قوة قلبه ولا شجاعته، كذلك المدعون للعلم يلبسون العمامة والزي الذي هو زي العلماء، لكن ليس عندهم علم تحت هذا الزي! فهذا يذكرني بقصة لطيفة جداً ذكرها أصحاب الأدب، ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك، لقبه تأبط شراً، هذا لقبه المشهور به، واسمه ثابت بن جابر وهذا الشاعر أحد ثلاثة من أشهر طبقة الشعراء الصعاليك منهم الشنفرا صاحب اللامية الرائقة الجميلة الذي أولها: أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل وفي هذه اللامية بيت جميل آخر يقول: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خالف الخِلى متحول فـ الشنفرا أحد الشعراء الصعاليك، وتأبط شراً أيضاً أحد الشعراء الصعاليك، لقب بهذا اللقب لأنه كان يمشي في طريق فوجد الغول على هيئة خروف، فأخذه ووضعه تحت إبطه، فلما ذهب به إلى أهله، قالوا له: يا ثابت! قد تأبطت شراً، فنفضه فإذا هو الغول، يعني: قصة خرافية، المهم أن تأبط شراً كان قصيراً ونحيفاً وذميماً، ولكنه كان مرعباً مثل الأسد المفترس، الناس كلها تخاف منه، فقابله رجل ثقفي أحمق، فقال: بم ترعب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ قل لي: ما هو السر الذي معك حتى ترعب به الكل؟ قال له: ليس هناك سر أبداً، إنما اسمي هو الذي يرعبهم، عندما ألقى الرجل، أقول له: أنا تأبط شراً؛ فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد قال له: بهذا فقط! قال له: بهذا فقط.
ففكر الثقفي قليلاً ثم قال له: هل تبيعني اسمك؟ فقال تأبط شراً: بكم؟ فقال الثقفي: بهذه الحلة الجديدة -وكان قد اشتراها في ذلك الوقت- وباسمي، وهو كان يكنى بـ أبي وهب قال له: أعطيك القميص هذا الجديد وأعطيك اسمي كذلك، قال له: موافق اخلع، خلع الثقفي القميص الجديد، وتأبط شراً قام فخلع ثيابه وأعطاها للشنفرا، وبعد ذلك تأبط شراً قال له: أنت من اليوم تأبط شراً، وأنا أبو وهب، فبعد هذه المبادلة كتب تأبط شراً ثلاثة أبيات إلى امرأة الثقفي الأحمق يقول فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسم اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبي هو أخذ اسمي، لكن هل أخذ قلبي؟ هل أخذ جرأتي وثباتي على الأحداث؟ لا.
ليس المعنى أني أعطيته اسمي أنه أخذ الشجاعة والقوة التي هي رأس المال.
وهذا الرجل الذي أخذ لقب تأبط شراً، قام وظهر على مجموعة من الناس وأخذ يقول لهم: أنا تأبط شراً، هل يتصور أنه ممكن يقولها كمثل ثابت بن جابر؟ لا.
لأنه يقول لهم: أنا تأبط شراً، وهو في نفسه خائف، لماذا؟ لأن قلبه ضعيف، فالقوة قوة القلب وليست قوة العضلة، ولذلك قوة العضلات تستمد من القلب فأحياناً تجد الرجل الثابت القوي عندما تعطيه خبراً كالصاعقة يسقط على طوله، لماذا خانته رجلاه ولم تحمله عضلاته؟ لأن قلبه ضعيف، فقوة العضلة أصلاً منبعثة من قوة القلب فهذا ثابت بن جابر كانت عنده جرأة وشجاعة يدخل مباشرة على الرجل فيقول: أنا تأبط شراً، فينخلع قلبه.
فمن أكبر الأشياء التي تهدد العلم عدم تمييز العوام بين العالم وشبيه العالم، فيأتي العامي يذهب إلى شبيه العالم يظنه عالماً، فيسأله وقد وسدت الفتوى إلى غير أهلها بسبب ضياع الأمانة.
وهذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، أول ما سأل سأل على أعلم أهل الأرض، قالوا: نعرف فلاناً عمامته كبيرة وكل ما يقف في الصلاة يبكي هذا أحسن واحد عندنا، وهذا الرجل كان عابداً ولم يكن عالماً، فأول ما ذهب إليه سأله، قال له: قتلت تسعة وتسعين نفساً، قال: لا توبة لك.
فقتله فأكمل به المائة، وبعد ذلك دُلَّ على راهب عالم، فقال له: قتلت مائة نفس هل لي من توبة؟ قال: نعم.
ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا وأفتاه بالفتوى الصحيحة.
إذاً: فالعوام الذين دلوه على الراهب لا يعرفون الفرق بين الراهب العالم وبين الراهب العابد، بسبب اشتباه الأزياء واشتباه السمت.
فمن جملة توسيد الأمر إلى غير أهله أن يسأل الناس من له سمت العالم، ولكن ليس بعالم في الحقيقة، فكم من الشر المستطير يكون إذا وجد في بلد من البلدان خمسة عشر واحداً من هؤلاء المتصدرين للإفتاء.
سيضلون الناس، لماذا؟ لأن الأمر وسد إلى غير أهله.
فتوسيد الأمر إلى غير أهله تضييع للأمانة، فإذا كان الأمر كذلك فمن علامات الساعة أن يرفع العلم، وأن يكثر الجهل، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) وفي اللفظ الآخر عند الإمام أحمد قال: (حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله) يصل الجهل بالبشرية أنها ترجع إلى عبادة اللات والعزى كما رواه الإمام مسلم في صحيحه، ولا يعرفون الله.
تقوم الساعة على هؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً من دين الله تبارك وتعالى، بسبب أن الأمر وسد إلى غير أهله على سائر العصور، تراكمت هذه النقائص وهذه المحن شيئاً فشيئاً حتى وصلنا إلى الجهل المطبق نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(2/9)
من ضياع الأمانة: التلاعب بالقرآن وتحريف آياته
كان عمر بن الخطاب يشدد غاية التشديد في الذي يلعب بمعنى آيات القرآن ليس بالقرآن أنت تعرف أن ابن عربي في تفسيره آيات القرآن، ليس المعنى فقط، بل الآيات نفسها، فهو يقول في قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] معناها ليس كما تفهمون ولا تقرءون، هذه فيها إشارة إلى الذل في العبادة، ما هو مفهومها؟ قال: من ذل ذي يشف عِ.
يعني: (من ذل) من الذل (ذي) اسم إشارة إلى النفس، أي: من ذل نفسه يشف من الشفاء (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام ويعتبر هذا تفسيراً.
هذا عمر بن الخطاب كاد أن يقتل صبيغ العراقي ضرباً بسبب مسألة ليست كهذه؛ فإنه كان يسأل عن معنى (الذاريات ذرواً) والذاريات: هي الريح، وصبيغ العراقي ما كان يسأل عن (الذاريات ذروا) لأنه يجهل معنى هذا اللفظ، لا.
العرب كانوا يفهمون القرآن، لكن صبيغاً أراد شيئاً آخر غير المعنى اللغوي، وهذا ما فهمه أبو موسى الأشعري، لذلك أرسل إلى عمر بن الخطاب وقال له: إن هنا رجلاً يسأل عن معنى (الذاريات ذرواً) فقال عمر: ابعثه إلي.
وبعد ذلك قال له: أرسله لي على إكاف بعير، وانتبه أن تبعثه على بردعة لينة طرية، إنني أريدك أن تكسر عظمه في الطريق، والإكاف نوع من الخشب فإذا قفز البعير وهو ماشٍ يكسر عظمه في الطريق، وهذا نوع من العقوبة العاجلة.
فأرسل إليه صبيغ العراقي ومعه رسول، ولما جاء صبيغ العراقي كان عمر بن الخطاب قد جهز الجريد الأخضر فأول ما دخل قال له: صبيغ العراقي!! تعال فسحبه وجعل يضربه بالجريد الرطب الثقيل المؤلم، فظل يضربه إلى أن أدمى ظهره، ثم تركه يومين أو ثلاثة حتى بدأ الجرح يخف ثم جاء به وضربه مرة أخرى حتى أدمى ظهره، ثم تركه، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام جاء به كذلك لكي يضربه قال له: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، يعني: أموت مرة واحدة وانتهى الأمر، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت.
ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل لـ أبي موسى الأشعري وقال له: لا أحد يكلمه، ولا يسلم عليه، فطال عليه ذلك فشكا إلى أبي موسى الأشعري ما يجد من الوحشة -فلا أحد يكلمه، ولا أحد يسامره- فأرسل أبو موسى الأشعري إلى عمر يخبره أن الرجل قد تاب وحسنت توبته، فأذن بالكلام معه.
فانظر إلى الصحابة كيف كانوا يعظمون القرآن؛ ولذلك لم يحدث التفسير الباطني ولا التفسير بالإشارة إطلاقاً على عهدهم أبداً، وهذا اللعب بآيات القرآن والضياع التي الأمة المسلمة تجرعته في القرون التي أتت بعد ذلك سلم منه عصر الصحابة لشدة حرصهم، وفي نفس الوقت حزمهم بالنسبة للقرآن، انظر في صحيح البخاري في كتاب الحدود ستجد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر ورجمت، وأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائلهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله -هذا رواه البخاري وغيره، لفظ البخاري لا أحفظه فربما زدت شيئاً من الروايات الأخرى- لكتبته على حاشية المصحف) انظر التوقي! لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتب حكم الرجم على حاشية المصحف، فحفاظاً على القرآن لم يكتب عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره، وكان حكم الرجم آية تتلى ثم رفعت كلها فكان الصحابة حريصين غاية الحرص فالرجل صبيغ لما قال: (والذاريات ذرواً) قصد نفس المعنى الذي قصده عمر كما رواه البخاري وغيره من حديث أنس (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ مرة (وفاكهة وأباً) ثم قال: الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟! ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر وما عليك أن لا تدريه) نحن نعرف (الأب) وعمر يعرفه قبلنا كذلك، (الأب) هو العشب، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:31 - 32]، فالأب -الذي هو العشب- طعاماً للأنعام، لكن عمر بن الخطاب لم يقصد مطلق اللفظ من أنه لا يدري ما معنى (الأب)، الصحابة كانوا عرباً أقحاحاً، والقرآن نزل بلغتهم لكن عمر قصد شيئاً زائداً على المعنى المعروف لديه يعني: أصله أين؟ وكيف البذرة تلقح؟ والرياح تأخذ ماذا؟ قصد الكلام هذا الذي الآن هم يدرسوه ويسمونه: الإعجاز العلمي للقرآن، ما هو أصل نبات (الأب)، عمر بن الخطاب قصد هذا المعنى، وصبيغ العراقي قصد (والذاريات ذرواً) مثل عمر في تفسير (الأب)، لذلك أنكر عليه عمر بن الخطاب وعاجله بهذه العقوبة.
فالصحابة كانوا يبجلون القرآن ويكبرونه ويحافظون عليه، إنما الذين ورثوا الكتاب بعد ذلك هان عليهم القرآن، يعني: انظر إلى ابن عربي وتفسيره لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، صح عن ابن عباس أنه قال: (إن الله عز وجل أنزل آيتين في المؤمنين، وآيتين في الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين فبعدما ذكر ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، ذكر الكافرين، ابن عربي قال: لا.
الآيتين هذه (إن الذين كفروا) نزلت في أهل الورع الذين هم أفضل المؤمنين، وقال: إن معنى (الذين كفروا) أي: كفروا إيمانهم وغطوه لأن أصل الكفر التغطية، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان، وسمي الزارع كافراً؛ لأنه يغطي البذرة في بطن الأرض ويواريها كقوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] فالكفار هنا هم الزراع، وسميت الكفور كفوراً، لأن الكفور هي البيوت التي كفرتها الأشجار فغطتها عن العيون، أشجار متكاثفة فتغطي البيوت عن السائر، فسميت كفوراً لأجل ذلك.
فقال: (إن الذين كفروا) أي: غطوا إيمانهم حتى لا يحبط بالرياء والسمعة سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون تهددهم بالناس أو لا تهددهم بالناس لا يصدقون هذا التهديد لماذا؟ لأنهم في معية الله ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غيره -بالشمع الأحمر- وعلى سمعهم فلا يسمعون إلا منه وعلى أبصارهم غشاوة يعني: لا يرون غيره، ولهم عذاب عظيم من المخالفين.
انظر! إذا جاز للإنسان أن يفهم الكلام بهذه الصورة لا يبقى حق على وجه الأرض، لماذا؟ لأن كل حق يمكن أنك تقدر محذوفاً وينقلب إلى باطل فمثلاً لو أن شخصاً يقول: لا إله إلا الله فأي إنسان ممكن أن يقدر أي تقدير ويضيع هذه الكلمة، فلو قال: لا إله إلا الله ولم يقدر (لا إله بحق إلا الله عز وجل) وقال: لا إله إلا أن يأذن الله يحط أي تقدير، الكلام كله يضيع الدين كله يضيع عندما نقول: الذين كفروا إيمانهم، ولهم عذاب عظيم من المخالفين، وختم على قلوبهم فلا يدخلها غيره ولذلك تفسير الإشارة كله لعب بهذه الطريقة.
فالقرآن كان عند الصحابة أعز عليهم من أن يفعلوا به هذا الفعل، ولذلك انظر الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] يرتكبون الموبقات ويقولون: سيغفر لنا.
أحد المقرئين الكبار في عام (65) تقريباً زار مصر رئيس يوغسلافيا جوزف تيتو، فشخص من الجماعة القراء يمازحه ويقول له: أنت اسمك ورد في القرآن، تيتو الله أعلم هل يرد على الجنة أو لا.
فيقوم يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
وهذا شخص كان يمتحن طلبة في القرآن قال لأحدهم: أنا سأسألك سؤالاً واحداً في القرآن، اذكر لي الآية التي فيها ثلاث (لمون) -أي: ليمون- في القرآن؟ ولو أجبت عن هذا السؤال سأعطيك الدرجة النهائية طبعاً الطالب حافظ، لكنه عصر دماغه لكي يعثر على الآية فلم يعرف يأتي بها نهائياً، وفشل الآخر أنه يأتي بهذه الآية ويقوم الفالح يقول له: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104].(2/10)
من ضياع الأمانة: ضياع الأحكام والفرائض
كلمة: (إذا ضيعت الأمانة) لفظ عام يشمل دين الله تبارك وتعالى كله، يعني: إذا ضيع دين الله عز وجل فانتظر الساعة، وقد ورد في أحاديث كثيرة أن من علامات الساعة ضياع الصلاة، وضياع الحكم، فأنت ترى أن ثلث الأمة لا يصلي مثلاً وربما أكثر من الثلث، والصلاة فرض عين على كل إنسان ومع ذلك هؤلاء لا يصلون.
حتى أن صلة بن زفر راجع حذيفة بن اليمان في هذا الصنف من الناس يقول حذيفة (إنه في آخر الزمان يكون قوم لا يدرون ما الصلاة ولا الزكاة ولا الحج)، ولا يدرون شيئاً من أوامر الله عز وجل، إنما يقولون: لا إله إلا الله، -هذه الكلمة كما لو كانت كلمة تراثية أو شيء موضوع في متحف- ما معنى لا إله إلا الله؟ قالوا: لا ندري إنما أدركنا آباءنا يقولوها فنحن نقولها يعني: هم ورثوا لا إله إلا الله فهم يقولونها كما قالها أسلافهم، لكن لا يدرون شيئاً عن مقتضياتها.
وبكل أسف فهذا هو الفرق بين الوارث والعامل، الذي ورث الكتاب ليس كالذي تلقى الكتاب وناضل من أجله، هناك فرق {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] هناك فرق بين من قاتل على تنزيل آيات الكتاب، وبين من ورث الكتاب، فرق كبير جداً الذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، فانظر الربا مثلاً المعصية الوحيدة التي ذكر الله عز وجل فيها الحرب: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [البقرة:279]، ومع ذلك فهناك أحد المفتين جاءه رجل فقال: والله أنا مضطر أن أقترض بالربا ولا أجد أحداً يقرضني إلا بالربا، فهل تجد لي مناصاً وخلاصاً من إثم الربا؟ قال: نعم.
هو يعطيك مثلاً المائة بمائة وعشرة، أنت تقول: هذا ربا، لكن تتخلص من الربا، قل: لله علي أن أعطيه عن كل مائة عشرة، فصار نذراً واجب الوفاء -فهذا لعب بالشرع-، يقول له: أنت العب واجعله نذراً، وقل: لله علي أن أعطيه عن كل مائة عشرة، فصار النذر في حقك فرضاً، إذاً: أنت في هذه الحالة تؤدي ما افترضته على نفسك وليس هذا من الربا بسبيل.
لو كان هذا من الصحابة الذين تلقوا الكتاب هل ممكن يهون عليه أن يفعل هذا؟ أبداً.
لا يمكن، وأنت اعتبر بسيرة أبي ذر رضي الله عنه في الصحيحين لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام فأرسل أبو ذر أخاه يسأل عن هذا الرسول وما صفته؟ وماذا يقول؟ وما رسالته؟ ونحو ذلك، فذهب وسمع وبعد ذلك رجع إلى أبي ذر وقال: وجدته يأمر بمكارم الأخلاق، ويدعو لعبادة الله، قال له: ما شفيتني، ثم ركب أبو ذر راحلته ورحل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ودخل مكة وإذا أهلها أشد حرباً على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، فـ أبو ذر رأى الأوضاع سيئة وأنهم يضطهدون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فأحب أن يتخلص من العنت والمشقة، فأراد أن يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام دون مشاكل، قال: فتضعفت رجلاً منهم قال: أسأله لأنه لن يعمل شيئاً حتى لو غضب مني، فهو ضعيف لا يستطيع أن يدخل معي في مبارزة ولا قتال، أتعرفون! هذا الضعيف وضعوه فخاً، أي واحد يدخل مكة ويسأله عن النبي عليه الصلاة والسلام يشير إشارة فقط فيأتي كل كفار قريش فيضربونه.
فـ أبو ذر يقول: فتضعفت رجلاً منهم؛ لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً، قال: فقلت له: أين ذلك الصابئ الذي يدعو إلى كذا وكذا؟ فقال ذلك الرجل: الصابئ الصابئ قال: فانقلب علي القوم بكل مدرة وعظم، هذا جاء بلحي بعير، والثاني جاء بعظمة حمار، قال: وانهالوا علي جميعاً، فما تركوني إلا وقد جعلوني نصباً أحمر، والنصب التمثال إذا سكب عليه دم، أي: أن الدماء سالت منه بسبب الضرب الذي هم ضربوه، قال: فمشيت إلى زمزم، وليس له إلا ماء زمزم يشرب منها، هو طعام وشراب، قال: حتى تكسرت عكن بطني ولم أجد على كبدي سخفة جوع، صار ذو كرش، وزال أثر الجوع تماماً من على كبده.
فالمهم عندما خرج مر عليه علي بن أبي طالب وكل منهم ينظر إلى الآخر ولا يكلم الآخر، ثم في اليوم الثاني جاء علي بن أبي طالب فجعل يقول له: أما آن للغريب أن يعرف مثواه، يعرض عليه الكلام، حتى أمن لـ علي بن أبي طالب فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اتبعني امش خلفي، فإذا خفت عليك جلست كأنني أصلح نعلي.
يعني: إذا قعدت كأني أصلح نعلي فاستمر في المشي كأنك لا تعرفني.
وبعد ذلك أخذه علي بن أبي طالب ومضى خلفه حتى ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأسلم أبو ذر وسمع آيات القرآن، فأخذته الحمية ورجع مرة أخرى إلى المسجد الحرام وقال: والله لأصرخن بها بينهم، وصرخ بها بينهم في المسجد الحرام، فانهالوا عليه مثل المرة الأولى، وما خلصه إلا العباس مثلما خلصه في المرة الأولى، وقال: ويلكم! ألا تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم يمر من غفار فأنتم إذا قتلتموه وقفت لكم غفار بالمرصاد، وقطعوا عليكم الطريق، وأخذوا التجارة منكم.
فلما ذكر لهم ذلك سكتوا وكفوا عنه.
فمثل أبي ذر هل من الممكن أن تهون عليه آية من آيات الكتاب فيحرفها لمأرب شخصي أو لعرض من أعراض الدنيا؟ هذا مستحيل، لذلك الفرق بين الذي أنزل عليه الكتاب والذي تلقاه وورثه كبير جداً، وأنت اعتبر في الدنيا بالرجل المكافح الذي جمع ماله حال شبابه، وكان قبل ليس له مال، بدأ من الصفر وجعل يجتهد في جمع المال، ولا يمكن أن هذا الرجل ينفق المال بسفه، كل مسألة ومشروع يريده يعمل له دراسة جدوى؟ هل هو أفضل أم الفلوس أفضل، ودائماً تجده حكيماً في التصرف والنفقة، حتى جمع ألوفاً وملايين ثم مات، وورث ابنه هذا المال، فلو أنفق المال كله في ضحوة من نهار ما ذرف عليه دمعة واحدة، ولو المال كله احترق لا يبكي عليه لماذا؟ لأنه ما جمع هذا المال، ولا تعب عليه.(2/11)
ففروا إلى الله
إن النفس البشرية جبلت بطبيعتها على الهروب مما تخافه وتخشاه، إلا أن علاقة المسلم بربه نقضت هذه القاعدة الفطرية، فصارت علاقة المسلم بربه قائمة على الخوف والرجاء.
فالمسلم حين يفر من الله تعالى فإنما يفر إليه راجياً استشعار الأمن في كنفه تعالى، طامعاً في رحمته وجوده.
ومن الأسباب المؤدية إلى صدق فرار المسلم إلى ربه تعالى فراره من المعصية إلى الطاعة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الكسل والدعة إلى العمل والسعي لنيل مرضاة الله عز وجل.(3/1)
الفرار من الله لا يكون إلا إليه
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
إن عنوان هذه المحاضرة (ففروا إلى الله).
ولقد بدا لي أن أعطي إطلالة عامة أمهد بها للدعاة الذين يأتون فيما بعد إن شاء الله عز وجل بتبيين معنى الفرار إلى الله، وأيضاً ذكر أقسامه، وكيف نفر إلى الله تبارك وتعالى، فقد رأيت أن هذا أعون على فهم مضمون هذا الأسبوع بما يتفق مع هذا العنوان.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] آية وردت في سورة الذاريات لكنها من أعجب الآيات، إذ إن الفرار لا يكون إلا (من)، ولا يكون (إلى)؛ لأن الذي يفر إنما يفر لأنه خائف هارب، فالمناسب أن يفر (من)، لا يفر (إلى)، وقد عُدي هذا الفعل بحرف الجر (من) في القرآن الكريم في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] وقال موسى لفرعون: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21]، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] فالفرار لا يكون إلا (من)، والعجيب أن الآية السابقة عُدي فيها هذا الفعل بـ (إلى) وهذا غير معهود، فترى ما هي النكتة في تعدية هذا الفعل بحرف الجر (إلى)؟!! إذا استعرضت الآيات التي سبقت هذه الآية، والآيات التي تلت هذه الآية ظهر لك هذا المعنى بجلاء.
إن الله تبارك وتعالى هو الوحيد الذي تفر منه إليه؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] هذا تمام الإحاطة بالعباد، فالله محيط بالسموات والأرض فإذا أردت أن تفر منه فإلى من تذهب وهو محيط بالعالمين؟! تفر منه إليه، ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعلن هذا الفرار إلى الله كل ليلة، الأذكار الموظفة التي علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذكار النوم كما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم نم على شقك الأيمن، وقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) هذا هو الفرار (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت).
لما تقول هذا الذكر في كل ليلة فكأنك تستحضر هذا الفرار إلى الله عز وجل، وسنذكر النكتة بذكر لفظ الفرار (إلى) دون غيره، مع ما في الفرار من إشارات الرعب والهلع.
فأنا عندما أفر فإنما أفر (من)؛ لأن الذي يطلبني يريد إهلاكي؛ فأنا أفر منه، فإذا توجهت إلى الله عز وجل وهو غاية المطلوب فالمفترض أن أستريح، والمفترض أن يطمئن قلبي، فيعبر بلفظ آخر غير لفظ الفرار الذي يقتضي الرعب والهلع والفزع، فلماذا عبر أيضاً بلفظ الفرار وعدي بـ (إلى)؟ أي رجل فار له جهتان: مهرب، ومطلب؛ مهرب يهرب منه، ومطلب يرجوه.
من أول قول الله عز وجل: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:31 - 37] هذه أول واحدة.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38 - 40] وهذه الثانية.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:38 - 42] وهذه الثالثة.
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:43 - 45].
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46].
فما سبق كان هذا كله إهلاك، ثم قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] والله إن ترتيب هذه الآيات عجيب! {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:47 - 50] (ففروا) يعني هناك إهلاك مستمر، فهذا هو مقتضى الفرار.
والعجيب أنه لم يذكر الجهة التي تفر منها، إنما ذكر الجهة المطلوبة، وفي هذا نكتة حدد الجهة المطلوبة، ولم يذكر الجهة التي تهرب منها لماذا؟ لأنها واضحة، من أول قصة قوم لوط عليه السلام بيان من الله بوجود إهلاك فبعدما تقرأ هذه الآيات، وتعلم أنك إن أعرضت مثل هؤلاء حاق بك ما حاق بهم، إذاً قد وضحت الجهة التي منها تهرب وهي العذاب.
لكن تخلل السياق -ما بين (ففروا إلى الله) وإهلاك القوم- آيتان {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] بـ (أيدٍ) أي: بقوة، (وإنا لموسعون) هذا اللفظ إما من التوسعة أو من السعة، واللفظ يحتمل، (وإنا لموسعون) من التوسعة على العباد، ومنه قول الله عز وجل: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236]، أو من السعة التي هي البسط: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].
فإذا استحضرت قول الله عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] ظهر لك عظمة الله عز وجل، وأن إهلاك القوم من أيسر ما يكون، إذ إن السماء -وهي أعظم خلقاً من الأرض ومن الإنسان- الله عز وجل يوسع فيها، يوسِّع أرزاقها، ويوسِّعها هي نفسها، فهذا إظهار لقدرة الله عز وجل وعظمته، وتأكيد بأن إهلاك الخلق من أيسر الأمور عليه عز وجل {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48] فإذا كان الأمر كذلك {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].(3/2)
مراتب الفرار إلى الله
لما ذكر أبو إسماعيل الهروي منزلة الفرار قال: الفرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو على ثلاث مراتب:(3/3)
الفرار من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة
المرتبة الثالثة للفرار: (ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً) وهذا هو نهاية المطاف، (من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ثقة ورجاءً) إذ أنك فررت إلى الله عز وجل، وهذا الفرار إلى الله ترجمه الصحابة -أيضاً-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] تعلموها واستخدموها حتى في كلامهم.
روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمَّر عليهم رجلاً -وفي بعض الروايات: أن هذا الرجل كان فيه دعابة- فضايقوه، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى.
قال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا الحطب.
قال: أججوه ناراً؛ فأججوه ناراً.
قال: ادخلوا فيها.
فلا زال بعضهم يدفع بعضاً -قاموا لكي يرموا أنفسهم في النار- فقال قائلهم: إنما فررنا إلى الله ورسوله من النار! فلا زال يدفع بعضهم بعضاً حتى انطفأت النار وسكن غضب هذا الأمير، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما وقع الطاعون أيام عمر بن الخطاب أراد عمر ألا يدخل الأرض التي هو فيها، فقال له أبو عبيدة: (يا عمر! أفرار من قدر الله؟ قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فهذا هو معنى: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) (نفر من قدر الله إلى قدر الله).
وفي سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث عدي بن حاتم قال: كنت بالعقرب -العقرب هذا اسم مكان متاخم لأرض الروم- وذلك لأنه لما انتشر الإسلام وعم الجزيرة، هرب عدي بن حاتم من الإسلام، وخاف أن يسلم، وهذا كحال بعض الناس فهو يخاف أن يقتنع بما عندك فيتحاشاك.
وأورد هنا قصة رجل كان ابنه يحضر بعض الدروس، وكان هذا الابن يعد من الأوتاد، فصار يحضر معنا دروساً في شرح كتاب رياض الصالحين في منطقة بجانبنا، وبدأ يسمع كلام الوحي، وبدأ يحس بسعادة وعلم لأول مرة يتعلمه، ثم صار يذهب إلى أبيه يجادله في ما كان يعتقد من قبل، فجاء الرجل إلى المسجد وأحدث بعض الفوضى، فلما كلمناه قلنا له: يا فلان! نحن على استعداد أن نجلس معك، فإذا كان الحق عليك تركت ابنك، وإذا كان لك أخذته منا؛ فأبى علينا، فأخبرنا الشاب فيما بعد أن أباه استشار أناساً قبل أن يأتينا فقالوا له: لا تجلس مع هؤلاء فإنهم سيلبسون عليك من حيث لا تشعر ونحو ذلك.
فالرجل لا يجلس معك خشية من أن يقتنع، كما فعل عدي بن حاتم، فلما هرب إلى مكان اسمه العقرب والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل خيله في غزوة، فأخذوا من ضمن السبايا عمة عدي بن حاتم، فأرسلوا إليه في العقرب وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سبى عمتك.
قال: فقلت في نفسي: فلآتينه، فإن عرض علي أمراً والله لا يخدعني، إن وجدت كلامه حسناً قبلته وإلا لم أقبل.
يعني: هو منَّى نفسه وجاء من العقرب.
وقبل أن يجيء اعترضت المرأة العجوز رسول الله، وقالت: (يا رسول الله! والله ما بي من خدمة -يعني: أنها من السبي وستقع في نصيب واحد من الصحابة وستبقى أمة، وهي عجوز لا تقوى على الخدمة- منَّ عليَّ منَّ الله عليك -يعني قل: أنت حرة لوجه الله- قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم.
قال: الذي فر من الله ورسوله؟ فجاء عدي بن حاتم فقال: يا عدي بن حاتم! ما أفرك أن يقال: لا إله إلا الله، وهل من إله إلا الله؟ ما أفرك أن يقال: الله أكبر، وهل شيء أكبر من الله؟ قال: فأسلمت، فاستبشر وسر، واستنار وجهه، وقال: يا عدي بن حاتم! إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون) فانظر إلى قوله: (ما أفرك) ثم إلى قوله: (الذي فر من الله ورسوله).
فالصحابة كانوا يعرفون أنهم إنما يفرون من الله إليه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] فمن هذا نفر نفر من الله عز وجل ومن عذابه، كما قال ابن عباس: (نفر من معصيته إلى طاعته، ومن سخطه إلى رضاه) وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فالمهاجر من السيئة إلى الحسنة فار إلى الله عز وجل.
إذاً المنزلة الأخيرة من منازل الفرار بالنسبة لعوام الخلق هي: الفرار من الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.(3/4)
الفرار من الكسل إلى العلم
المرتبة الثانية للفرار: الفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، وهذه محنة يشتكي منها كثير من إخواننا، ويسأل البعض فيقول: أقرأ في سير السلف فأرى جدهم في العبادة، فأحاول أن أقلدهم لكن سرعان ما تفتر همتي، فما هو السبب؟ أريد كلما قرأت شيئاً عن السلف أن أكون مثلهم في الجد والعبادة، مثلاً أبو مسلم كان يصلي من الليل، فكلما تعبت قدماه كان له عكاز -عصا- يتعكز عليه، وكلما أدركه الفتور والتعب وأحس أن قدميه عجزتا عن حمله، يأخذ العصا ويضرب رجليه، ثم يقول: (والله إنكما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟! والله لأزاحمنهم على الحوض) ثم يقوم يستأنف الصلاة.
فإذا قرأ القارئ منا مثل هذه الحكاية، وقام يريد أن يصلي ويطيل في الصلاة، فبعد نحو نصف ساعة يشعر بالملل ويشعر أن الألم بدأ يدب في ساقيه، ثم سرعان ما يفتر وهو متألم أنه لم يكن كـ أبي مسلم، ثم يسأل: ما هو السبب في هذا الفتور؟ نظهر السبب، ونذكر العلاج في هذه المنزلة من منازل الفرار (والفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً).
إننا أمرنا أن نأخذ أوامر الله ورسوله بقوة وبلا تردد {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:93] لا تتردد {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] بقوة، لا تتردوا في الأخذ {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:145] (أحسنها) هنا على نحو ما شرحناه في قوله عز وجل: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
فإذا صح عن الله عز وجل قول، أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول فلا تتردد في الأخذ به.
العزم ثم الجد، العزم هو: عقد الإرادة، والجد هو: عقد العمل.
إذاً يلزمك عزم وجد.
إن زادك أيها الفار الهارب من النار إلى الله عز وجل هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة والتابعين، ولذلك نحن نوصي إخواننا بقراءة كتب التراجم التي عنيت بذكر سير العلماء، وأخص بالذكر منها الكتاب العظيم كتاب الإمام شمس الدين الذهبي سير أعلام النبلاء.
وكان أخذ الأمر بالقوة والعزم هو ما أمر الله به كل الأنبياء والأمم، وقد جاء هذا الأمر منه عز وجل لبني إسرائيل ولموسى عليه السلام وليحيى عليه السلام أن يأخذ الكتاب بقوة، وهذا يوجهنا إلى ألا نتردد في إظهار القوة في أخذ كلام الله ورسوله؛ لأن هذا له فوائد: الفائدة الأول: أنك تشد من عضد أخيك الذي ينتظر إظهار هذه القوة.
الفائدة الثانية: أن عدوك يخشاك إذا أظهرت القوة في أخذ كلام الله عز وجل.
فهما فائدتان: فائدة لحبيبك، وفائدة لعدوك.
فعدوك يخافك إذا رأى منك القوة، وصاحبك الذي ينتظر من يأخذ بيده يستفيد أيضاً من إظهار هذه القوة، ومن متابعة الأحداث على الساحة نحن نعلم علماً قطعياً لا يشوبه شك أن اليهود هم أجبن خلق الله عز وجل لأن هذا حكم الله عليهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فنحن نعلم أن هؤلاء الناس ضعاف جداً وجبناء، فبينما يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتلويح بالقبضة الحديدية ويصر على دق أجراس الحروب، بينما سائر اليهود يطالبون بمواصلة عملية السلام حتى لا تضيع عليهم المكاسب التي حصلوا عليها من هذه العملية.
فهم بشكل عام يسيرون وفق مخطط مدروس، وبناء على خطة السلام المزعوم فكان من الواجب أن يتفق العرب مع اليهود على مكاسب معينة، ولكن هذا (النتن) جاء وشدهم إلى ما قبل الاتفاق، حتى إذا وصلوا إلى ما اتفقوا عليه أول مرة إذا بالعرب يفرحون به ويعدونه مكسباً؛ لأنهم ضعفاء لا حيلة لهم، فبعد هذا الشد القوي أول ما يبدأ يرخي فإنهم يعتبرون أن الجلوس معه -مجرد الجلوس معه- مكسب؛ وما ذاك إلا لأنه أظهر قوة أمام أناس في غاية الضعف.
ووفق المخططات اليهودية فإن حرباً توشك أن تندلع بيننا وبين اليهود، خلال عشر سنوات، وهذا ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، والتي ترجمت للعربية، إلا أن المسلمين لا يقرءون، فكل الذي جاء في تلك البروتوكولات من سنوات طويلة يحدث الآن بالحرف الواحد، ومن أراد أن يتأكد فليقرأ بروتوكولات حكماء صهيون، فالذي يحدث الآن على الساحة مكتوب، وهم يخططون قبل سنة ألفين أو بعد سنة ألفين بحولي سنتين لانقضاضة قوية على بلاد الإسلام، لكن لا يمكنهم الله عز وجل أمام هذا التنامي للصحوة الإسلامية في ديار المسلمين؛ لأن الدنيا تغيرت، ووجه الساحة تغير بهؤلاء الشباب هذا الجيل الذي استعبده الله عز وجل وخلقه لطاعته، فهذا يظهر القوة؛ فالضعيف يخاف، والقوي يضع يده في يده.
فكذلك أمر الله عز وجل إيانا أن نأخذ أوامره بقوة لا تخف؛ لأن الله عز وجل الذي أنزل هذا الكتاب هو المهيمن على أقدار الناس جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
إذاً المنزلة الثانية من منازل الفرار -بعدما صححت معين الأخذ، ووقفت على أول طريق النجاة-: أن تبدأ في العمل بهذا العلم الذي خرجت به من ظلمات الجهل.
السبب في أن عزمنا ينفسخ، ولا نستطيع أن نقلد أسلافنا: أن الدين على ثلاثة أنحاء: إسلام، وإيمان، وإحسان.
اجتناب للحرمات -المحرمات- وفعل للواجبات والمستحبات.
أبو مسلم -الذي ضرب رجليه بالعصا، وهب منتفضاً كله عزم ونشاط ليواصل الصلاة- تمم الواجبات واجتنب المحرمات؛ فسهل عليه أن يصل إلى درجة الإحسان، لكن بعضنا مقصر في الواجبات، ملابس للمحرمات، لكن يدركه علو الإيمان في فترة من الفترات، فيقرأ مثل هذه الحكايات فيريد أن يرتفع، فإذا بالأغلال تشده.
من أراد أن يكون كهؤلاء السلف فليتمم أبواب الواجبات، وليكف عن أبواب المحرمات؛ ليصل تلقائياً إلى درجة الإحسان.
لذلك يسيخ عزمنا بسرعة؛ للفرق الذي بيننا وبينهم.
ومن الأئمة الكبار، أبو حصين رحمه الله تعالى، وكان رجلاً عالماً، وكان شديد الورع في الفتوى، حتى أنه كان يقول: (إنكم لتفتون الفتوى التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر) يعني: يقول ما أجرأكم! لو عرضت هذه المسألة على عمر لخاف أن يفتي، ولجمع لها أهل بدر يستشيرهم، وكان أبو حصين من أعلم الناس.
وكذلك الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وكان له مذهب مثل مذاهب الأئمة الأربعة، لأن المذاهب الفقهية ليست محصورة في أربعة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي لا، المذاهب الفقهية كانت كثيرة، كان هناك مذهب لـ سفيان الثوري، وكان هناك مذهب لـ سفيان بن عيينة، وكان هناك مذهب لـ إسحاق بن راهويه، وكان هناك مذهب لـ داود بن علي، وكان هناك مذهب للإمام الأوزاعي -الذي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - وكان عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي من أقران الإمام مالك، فـ مالك كان في المدينة والأوزاعي كان في الشام، وكان الأوزاعي جليلاً كبيراً، عظيماً معظماً عند العلماء، لدرجة أن سفيان الثوري -رضي الله عن سفيان كان شامة في جبين الزمان- لما رأى الأوزاعي في السوق يركب دابته أخذ سفيان الثوري بلجام دابة الأوزاعي يسله من الزحام، وهو يقول: أوسعوا لبغلة الشيخ.
وجاء رجل لـ سفيان الثوري وقال: يا أبا محمد! رأيت كأن وردة خرجت من أرض الشام إلى السماء.
قال: ويحك! لو صدق ما تقول فإن الأوزاعي قد مات.
فجاءه نعي الأوزاعي في آخر النهار.
وكان الإمام مالك رحمه الله يقول: لا زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي.
كان هذا الإمام الكبير قواماً بالليل، تالياً لكتاب الله عز وجل، سريع الدمعة، غزير العبرة، حتى قال مترجموه: أن أجفانه ذبلت من البكاء، فكان إذا صلى بالليل وأراد أن يخرج اكتحل، وشد أشفار عينيه حتى لا يظهر هذا الذبول.
وكذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني -وهو من طبقة الإمام مالك أيضاً، وإن كان أكبر منه في السن- كان إذا ذكر بالله عز وجل جرت العبرة من عينه فتخللت أنفه، فكان إذا شعر بذلك قال: سبحان الله! ما أشد الزكام! حتى لا يسأل عن هذا الماء الذي يتساقط من أنفه.
أنت إذا أردت أن تصل إلى مثل هذا كيف تصل وقد لابست بعض المحرمات؟! فهذه الأخبار وردت عن التابعين، والصور في حال الصحابة أجل وأعظم! عبد الله بن عمرو بن العاص لولا صحة الأسانيد إلى حكايته ما كاد المرء أن يصدقها، عبد الله بن عمرو بن العاص كان يختم القرآن كل ليلة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أختمه كل ليلة) وكان رضي الله عنه شديد الاجتهاد في العبادة، وكان يشتاق للصلاة، فلما تزوج ترك امرأته وقام يصف قدميه لله عز وجل، حتى عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجد في العبادة، وهذا الجد في الصيام، فقد كان يصوم كل يوم، ويختم القرآ(3/5)
الفرار من الجهل إلى العلم
المرتبة الأولى: الفرار من الجهل إلى العلم عقداً وانسياقاً، ومن الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.
فالذي يريد أن يفر إلى الله عز وجل يتأكد من تحقق هذه المنازل، فمطلع كلامه: (الفرار مِن من لم يكن) أي: من المخلوق، والمخلوق لم يكن له وجود قبل ذلك، أو الفرار من النار، والنار مخلوقة، فأنت تفر مِن من لم يكن إلى من لم يزل وهو الله عز وجل {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وهو هنا يترجم معنى الآية، فرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو ثلاثة مراتب: الفرار من الجهل إلى العلم، وهذا الذي ذكره أبو إسماعيل مذكور في نفس الآية {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] والنذارة لا تكون إلا بعلم {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] فكيف تفر من شيء لا تعلم أنه يعطبك ويهلكك؟ إذن لابد من العلم للفرار، وشرط النجاة بالفرار العلم.
والملفت للنظر أيضاً: أن هذا المقطع من آخر الآية تكرر بألفاظه في الآية التي بعدها! {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:51] فهذا يدل على أن الفرار أول ما يكون من الشرك إلى التوحيد، إذ إن آية الفرار أعقبت بهذه الآية: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الذاريات:51] إذاً: على هذا كيف نصل إلى التوحيد؟ {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:51]، هذا يقتضي منا أن ندرس الوحي؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] إذاً الفرار من الجهل إلى العلم.
والعلم بالله عز وجل وصفاته أول ما ينبغي على العبد أن يطلبه للفرار إليه، ولذلك يقلب المرء كفيه عجباً لما يقرأ مذاهب أهل البدع في معرفة الله عز وجل، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأنهم ركبوا عقولهم في طلب معرفة الله عز وجل، حتى إن المعتزلة جعلت للعقل منزلة فوق منزلة الوحي، فهم يقولون: إن الله عز وجل تعبدنا بالعقل، وإذا لم يكن عندنا عقل سديد ما انتفعنا بالوحي، فيقولون: العقل ثم النقل.
فقاسوا قياساً من أعجب ما يكون؛ إذ قاسوا الغائب على الشاهد، وهو قياس باطل بإجماع أهل العلم، قياس الغائب على الشاهد هذا قياس باطل؛ لانفكاك الجهة، فإن الله عز وجل ما رآه أحد، فإذا أثبت لنفسه صفة فكيف تنفيها أنت لأن لك نفس الصفة؟! فحادوا بذلك عن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وأنت إذا أردت أن تفر لابد لك من طريق تسير عليه، وهذا الطريق لا يتعدد، بل هو طريق واحد فقط، كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر به في كل خطبة يخطبها أمام الصحابة، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) الطريق الذي يسلكه الفار إلى الله عز وجل طريق وحيد، إذا لم تعرف رسم هذا الطريق ضلت بك السبل.
أيها الهارب الذي طرفك منتبه دائماً، لا تكاد تغمض عينك، إن هناك من يطلبك، والطريق إلى الله عز وجل ليس كما قال المبتدعة بعدد أنفاس البشر، بل الطريق إلى الله عز وجل طريق واحد فقط، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
إذن إذا أردت النجاة لابد أن تعرف ماذا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تكلم هذه الكلمة، ثم ضم إليها قول الإمام مالك لما جاءه رجل فقال: (يا إمام! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة.
قال: إني أريد أن أحرم من عند القبر -قبر النبي صلى الله عليه وسلم- ومن مسجده، فقال مالك له: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة.
فقال: يا إمام! بضعة أميال أزيدها؛ أبتغي الأجر بها أفتتن؟! فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله؟! ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ثم قال قولته اللامعة المضيئة: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً).
فأنت انظر إلى سائر ما تعبد الله عز وجل به، هل كان هذا ديناً في القرون الثلاثة الأُول أم لا؟ فإذا بحثت فوجدت أن هذا الذي يأمرك به أي إنسان -كائناً من كان- ليس له وجود في القرون الثلاثة الأول، فإياك أن تعبد الله به (فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً أبداً).
إن اعتقادك أن هذا الشيء الذي لم يكن في القرون الثلاثة الأول ديناً طعن على كل تلك القرون، أنه فاتهم كل هذا الخير، وهذا فيه غمط لأشرف أمة أمة الوسط الذين مقدمهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعال إلى باب العقيدة الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) هؤلاء الثلاثة والسبعون تركز اختلافهم إلا في تعريف المؤمن والمسلم، والكافر والفاسق، فخلافهم كان في مسائل الإيمان والتوحيد، ولم يتركز على المسائل الفرعية، كالمسح على الخفين، والمسح على الجوربين، ومسح الرأس، وصفة الوضوء والتيمم.
إذاً بمقتضى هذه الكلمة: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) أيها الخوارج! الذين تخرجون الرجل من دائرة الإيمان بالمعصية، من سلفكم في هذا من القرن الأول؟! إن الخوارج -كما تعلمون- ظهروا في آخر القرن الأول.
فمن سلفكم أيها الخوارج من الصحابة؟ ومن منهم قدوتكم؟ وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة من وقع في المعصية، فعلى ذلك فإن الذين رجمهم النبي عليه الصلاة والسلام إذا كنتم تكفرون بالمعصية فيلزمكم أن تستدركوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتقولوا: يا رسول الله! كيف لم تكفر هؤلاء؟ يعني: المرأة التي رجمها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) فهل النبي صلى الله عليه وسلم كفَّرها؟ لم يكفرها.
لما ذهب إليهم ابن عباس وناظرهم وجادلهم، في تلك المناظرة المشهورة رجع منهم أربعة آلاف بعد مناظرة ابن عباس، وقد كانوا ستة آلاف قبل تلك المناظرة.
تصور أن هؤلاء يكفرون علي بن أبي طالب المقطوع له بالجنة، وهذه جرأة متناهية: أن يعرض للنص القطعي برأيه الفاسد! ويقول: هو إمام الكافرين؛ لأن المسألة عندهم إما أبيض أو أسود، قالوا: محا عن نفسه صفة أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
والخوارج أتباعهم هم جماعة التكفير والهجرة، وجماعة التوقف، وقد جربناهم ووجدناهم من أجهل الناس بالاستدلال، وبمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المعتزلة والجهمية الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟! أنا أبين لك لماذا تشعبت السبل بهؤلاء؟ لأنهم تركوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وركبوا عقولهم؛ فضلوا.
وأنا هنا أبين لك طريق الفرار، فأنت تريد لنفسك النجاة، وأمامك ثلاث وسبعون طريقاً، فأي الطرق تسلك لتنجو؟ أنا أضع لك الآن ملامح الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وأنت هارب إلى الله عز وجل، فهذا هو طريق النجاة الوحيد.
هؤلاء الجهمية الذين نفوا صفات الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟ الصحابة الذين نقلوا لنا أحاديث العقائد تكلموا فيهم، فكان عمرو بن عبيد إذا ذكر سمرة بن جندب يقول: وما تفعلوا بـ سمرة، قبح الله سمرة يقول هذا عن صحابي! هذه خطة جهنمية شيطانية، أول معول هدم في العلماء.
وجماعة التكفير أول شيء كانوا يفعلونه هدم العلماء، بحيث أنك لا تجد عالماً معتمداً تستطيع أن تنقل كلامه إليهم، فنقول لمثل هؤلاء: عاملونا بأصولكم لا بأصلونا، أنت يا بني تقرأ عليَّ مذكرة شكري -وهي مذكرة كانوا يحفظونها كالقرآن- وتقيم عليَّ الحجة بعالمك أنت، فلماذا أخذت بقول لعالمك ورميت بعالمي؟! خذ المسألة على أصولك.
وحتى إن منهم من كانوا لا يحسنون القراءة، مرة أحدهم ونحن نتكلم معه، يقرأ أمثلة، ثم قال: وعلى هذا فَقَس.
قلت له: يعني البيض؟! بينما الصحيح هو (على هذا فقِس) فهو رجل لا يحسن حتى القراءة.
فأقول: عاملني بأصولك هذا هو العدل، أنت لك عالم تحتج به وتقيم عليَّ الحجة به، وأنا لي أيضاً عالمي، فيقول: لا، هم رجال ونحن رجال.
فأول لبنة يهدمونها أنهم لا يرفعون الرأس بعالم، بل ينبذونهم نبذ النواة، وهكذا المبتدعة، يأتي عمرو بن عبيد مع ما كان فيه من الزهد، حتى أن المأمون كان إذا رآه تمثل ببعض أبيات يشيد فيها بـ عمرو بن عبيد الزاهد الورع، يقول: كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد كلكم يمشي رويد، اللص لا يسير بسرعة، إنما يسير سيراً هادئاً لماذا؟ لأنه يترقب ويتلفت، ماذا يسرق، ماذا يخطف، فيقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد رجل متجاف عن دار الغرور، ورجل زاهد وعابد وورع؛ ولذلك أهل البدع يخطفون قلوب العوام بهذا الزهد الذي يظهرونه.
فيقول: من سمرة؟ قبح الله سمرة.
والذين تكلموا في أبي هريرة وقالوا: (إنه يكذب) هم الرافضة الذين هم أشر الشيعة وغلاتهم، وقد كذبوا أبا هريرة في حياة أبي هريرة، فقال لهم: (يا أهل العراق! تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لكم المهنأ وعليَّ المغرم!! أشهد عدد هذا الحصى) كان يحدثهم بحديث فردوه عليه، وكانوا يكذبونه.
فأول لبنة: أنهم لا يحترمون الصحابة ولا يوقرونهم.
فنقول: هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا إلينا بيان الوحي، كم من ال(3/6)
عدم ركون العبد إلى عمله الصالح من مقومات الفرار إلى الله
لكن يبقى أن نسأل: لماذا ذكر الفرار في الطلب؟ فالفرار عادة ما يذكر في المهرب، وهو مناسب، لكن هل يذكر في الطلب! نعم، إذا كان الفرار يحمل معنى الخوف والفزع فإن الفار إلى الله عز وجل لا يجب عليه أن يثق بعمله وأنه مقبول، بل يعمل العمل وهو خائف ألا يقبل منه، ففراره إلى الله عز وجل -وهو غاية كل طالب- فيها معنى هذا الخوف، وهو: عدم الوثوق بعمله، ولذلك الصحابة الأكابر كانوا يخافون، فهذا عمر بن الخطاب حين تقرأ سيرته وما قاله عند موته تشعر أن هذا الرجل ما فعل حسنة قط، حتى إن بعض الرافضة نشر كتاباً محققاً اسمه كتاب أسنى المطالب في مناقب الأسد الغالب علي بن أبي طالب، وكتب مقدمة كلها تنضح بالسم الزعاف؛ وهذا المؤلف من مدينة قم في إيران، وهو أحد آيات الله، وطبعاً عند علماء الحديث عندما يقال (فلان آية) يعني: في الكذب، فهذا مصطلح إخواننا المشتغلين بالحديث.
فكل الآيات عندهم تتنزل على مصطلح أهل الحديث، فلما جاء هذا الرافضي يعلق على كلام عمر بن الخطاب لما قال: (ليت أم عمر لم تلد عمر) قال: فانظر إلى هذا الهالك لو كان يعلم أن له عند الله شيئاً ما قال هذا الكلام! يعني: لولا أنه موقن بالهلاك ما قال هذا الكلام؛ لأن عمر بن الخطاب قال: (لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل) في نفس الحديث، فبالتالي يقول: هذا كلام رجل غير موقن بالنجاة فنقول: إنما خرج كلامهم هذا المخرج لشدة خوفهم من الله عز وجل.
ولذلك عائشة رضي الله عنها لما خرجت في الفتنة الكبرى رجعت وندمت ندامة كلية على خروجها في الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، وكانت إذا ذكرت هذه الفتنة بكت حتى تبل خمارها.
وعمرو بن العاص رضي الله عنه كما روى الإمام مسلم في صحيحه -قال- من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فقال عبد الله ولده: يا أبتي! ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فاستدار إلينا وقال: لقد رأيتني على أطباق ثلاثة: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً إليَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إليَّ من أن أكون استمكنت منه فقتلته؛ فلئن مت على هذه الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمت، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، فلما بسط يده قبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله! أردت أن أشترط، قال: وتشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.
قال: يا عمرو! أوما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها؟ قال: فأسلمت، فوالله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، ولئن سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ذلك -لأنني ما كنت أملأ عيني منه؛ إجلالاً له- فلئن مت على هذه الحال -لم يقل: لكنت من أهل الجنة إنما قال:- لرجوت أن أكون من أهل الجنة).
في الأول قال: لكنت من أهل النار، وقطع به؛ لأن الكافر مقطوع له أنه من أهل النار، إنما الرجل المسلم لا يعلم أيقبل عمله أم لا؟ لو وثق بعمله لقطعنا أنه من أهل الجنة، لكنه ما يدري أيقبل عمله أم لا هذا هو الشاهد، ولذلك لما تلت عائشة رضي الله عنها قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون منه؛ لأنهم سيرجعون إلى الله فيحاسبهم، فقالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق -يعني: يفعل الفعل وهو خائف أن الله يحاسبه-؟ قال: لا يا ابنة الصديق! هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وصدقة، ثم يخشون ألا يتقبل منهم).
فإذاً الفار إلى الله عز وجل يخشى عدم قبول عمله، لذلك فهو يعبد الله عز وجل ما بين الخوف والرجاء.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحسن ختامنا وإياكم، ويتقبل منا سائر أعمالنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(3/7)
حكم التشبيه لصفات الله بصفات الخلق لاستحضار المعنى
بقيت بعض الملاحظات على ما سبق: ففي الحديث الذي ذكرته: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله عز وجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وأشار إلى أذنه، وأشار إلى عينه) أنا رددت بهذا الحديث على قول الزمخشري الذي قال: تقطع يد من فعل ذلك؛ لأنه شبه.
فطبعاً يفهم من كلامي أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما خرج مخرج التشبيه؛ لأنني إنما سقته رداً على الزمخشري الذي يقول: تقطع يده؛ لأنه شبه إذ أشار.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما شبه الله بخلقه إذ أشار، فماذا قصد بالإشارة؟ هو لا يقصد التشبيه قطعاً؛ لأن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فماذا قصد بالإشارة عند ذكر السمع والبصر؟ القصد من التشبيه التمثيل واستحضار المعنى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلوبه في عظته لأصحابه أنه كان يستحضر المشهد أمام الصحابة، فمثلاً: يمر مع الصحابة على جدي أسك، مقطوع الأذنين ميت، ملقى على قارعة الطريق، فيقف هو وأصحابه أمام الجدي ثم يقول لهم: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا أحد يشتريه، وهو لا يعرض، إنما أراد أن يجسد المعنى تمهيداً للموعظة (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) فالجدي من أنفس أموال العرب فحين يباع بدرهم فإن هذا الذي يبيعه يكون مغبوناً، غبن الرجل الذي عناه الإمام الشافعي رحمه الله في أبياته الرائقة التي قال فيها: لقلع ضرس وضرب حبس ونزع نفس ورد أمس وقر برد وقود فرد ودبغ جلد بغير شمس ونفخ نار وحمل عار وبيع دار بربع فلس ومن الذي يبيع داره بربع فلس؟! كل هذه الأشياء تعد مما يصعب على النفس تحمله.
(لقلع ضرس وضرب حبس): يعني أن يحبس المرء ويوضع في السجن، و (نزع نفس): أي أن تنزع يطلع روحه من جسده، (ورد أمس): أي أن يلزم بإرجاع يوم فائت، (وقر برد): أي الموت من البرد، (وقود فرد): أي أن يحكم عليه بالقتل قصاصاً، (ودبغ جلد بغير شمس)، (وحمل عار): أي أن يصبح مفضوحاً، يحمل عاراً عظيماً، و (بيع دار بربع فلس) كل هذا أهون على الحر كما يقول الشافعي: أهون من وقفة الحر يرجو نوالاً بباب نحس يعني: أن الإنسان الحر يمكن أن يحتمل كل ذلك ولا يرضى أن يقف على باب لئيم يطلبه نوالاً، فمن الذي يبيع داراً بربع فلس؟! ومن الذي يشتري جدياً أسك بدرهم؟! فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل الصحابة يستحضرون هذا المشهد، فقالوا: (يا رسول الله! لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسك- فكيف وهو ميت؟ قال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله) فوضعه صلى الله عليه وسلم للصحابة في هذا الموقف تكون الموعظة فيه أشد أثراً، ولذلك قيل: ليس المخبر كالمعاين.(3/8)
مكفرات الذنوب
أعظم الآفات التي تصيب الإنسان هي آفة الذنب، يتولى كبر ذلك كله الشيطان، حيث يبدأ عداوته معه منذ نزوله من رحم أمه إلى أن يفارق الحياة، ومع ذلك فإن مكفرات الذنوب كثيرة، دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، والله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدنا كان في صحراء ففقد راحلته عليها طعامه وشرابه ثم وجدها، وما على العبد إلا أن يرحل إلى الله بأعمال صالحة مقرونة بالخوف والرجاء، وليعلم عظم الثمرة والأجر الذي يعطيه الله له مقابل البذل والجهد والعطاء القليل المطلوب منه.(4/1)
فرح الله بتوبة عبده
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال العلماء: لكل شيء آفة تجتثه، ومن أعظم الآفات التي تصيب الإنسان آفة الذنب، كما صح في الحديث: (إن الشيطان ذئب الإنسان) ذئب الإنسان ينتظر منه أي غفلة ليفترسه.
نظرت في الكتاب والسنة فوجدت أن مكفرات الذنوب عشراً، لا تكاد الأدلة تخرج عنها، أربع من الله، وثلاث من العبد، وثلاث من الناس.
أما الأربع التي يبتدئها الله عز وجل: فالمصائب في الدنيا والبرزخ والقيامة، ثم عفو الله عز وجل برحمته بغير كسب من العبد، يعفو عنه هكذا بلا مقابل.
وثلاث من العبد -المكلف-: التوبة، الاستغفار، الحسنات الماحية.
وثلاث من الناس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإهداء العمل الصالح من الناس له -على قول للعلماء-، ثم دعاء المؤمنين له.
وكل الأدلة تقريباً أو غالباً جزماً لا تخرج عن هذه العشر المكفرات.
هذا إنما ابتدأت به لأقول: إن باب الذنب بمقابله عشرات من أبواب التوبة، لاسيما إذا رجعت إلى ربك تبارك وتعالى فإنه يعاملك بمعاملة الأكرمين، لا يعنفك، إنما يعفو، كما في الحديث الصحيح: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به.
ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به.
ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، فليعمل عبدي ما شاء) ليعمل ما شاء ليس إذناً أن يفعل ما يشاء، كما قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] مع أنه لم يرخص في الكفر لأحد، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] لكن هذه صيغة زجر.
كما لو قلت لولدك: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر.
هل قوله: (أنت حر) يعد إذناً منه ألا يذاكر؟ هذا تهديد، لكنه خرج مخرج التخيير، وهذا يكون أبلغ في الزجر كما قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:24] وهل العذاب يبشر به! لا تكون البشرى إلا لشيء حسن، فلما توضع كلمة البشرى في العذاب؛ فيكون هذا تقريعاً أقوى مما لو قرعه بألفاظ التقريع نفسها.
مداخل الذنوب لا حصر لها، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] (بذنوب) ما قال: (بحسنات)، إنما قال: (بذنوب)، إنما خص الذنب هنا بالذكر للدلالة على الإحاطة؛ لأن أغلب الذنوب تكون سراً، هل المؤمن بلا ذنب؟ التقي بلا ذنب؟ لكن لا يستطيع أن يجهر به هكذا أمام الناس، فأغلب الذنوب تكون سراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والإثم: ما حاك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس) كم من الأشياء التي يفعلها الإنسان وهو يخشى أن يعلمها الناس، هي كثيرة لا حصر لها عند الفرد الواحد، انظر كم فرداً من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل واحد لديه صندوق أسرار، يستحي أن يبرز جزئية منه للناس.
فربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} [الفرقان:58] كفى بهذا دلالة على الإحاطة، وهذه الآية تشعرك بأن أغلب الذنوب تكون في الخفاء؛ لأن الله عز وجل ذكر الآية للدلالة على إحاطته بفعل العبد، فهذه الآية آية مدح لإحاطته عز وجل، فلا يمكن أن تكون الذنوب صغيرة أو حقيرة؛ لأن الإحاطة حينئذ تكون ضعيفة.
ثم هناك عدوك الذي لا يغفل عنك، والذي أعلن عداوته لك منذ نزلت من رحم أمك، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند الإمام مسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم يولد؛ لذلك يستهل صارخاً) يبكي الولد الذي نزل من رحم الأم؛ لأن الشيطان نخسه (إلا مريم وابنها)، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:36 - 37] لذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان، وهذا الحديث من الأحاديث القوية؛ لأن فيها لفظة (كل) التي تفيد العموم، ثم ذكر اسم الجنس، الذي يقوي أكثر هذا العموم، ينخسه؛ هو يقول له: من أجلك أنت خلقت أنا ألا ينبهك مثل هذا؟! ما قصر النبي صلى الله عليه سلم في البلاغ أبداً، لقد أوتينا من جهلنا وإهمالنا، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا آخذ بحججكم، وأنتم تتهافتون على النار تتفلتون مني) كأن إنساناً يريد بكل قوته أن يدخل جهنم، وأنت ممسك به بكل قوتك، ومع ذلك غلبك ودخل جهنم.
فإذا كان الشيطان ذئب الإنسان، ونحن نعلم أنه لا يموت إلى يوم القيامة حتى تستريح من شره، ونحن نعلم أنه لا يغفل عنك طرفة عين، وأنه في كل يوم يرسل سراياه تترا إلى بني آدم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء كل صبح، ثم يرسل سراياه تترا -أي: بعضها يتبع بعضاً- كموج البحر إلى بني آدم) ليسوا ذاهبين لشرب الشاي بل لإضلال الناس، فنحن لو نعمل كعمل الشياطين في منتهى الجد لكنا من الأبرار، الشيطان بنفسه يتابع أعوانه الصغار، يجلس على الكرسي كل واحد يعرض تقريره ماذا فعلت؟ ما تركته حتى فعل كذا وكذا، أي: يمثل له بأي معصية.
ما تركته حتى زنى لم تصنع شيئاً، وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى سرق لم تصنع شيئاً.
وأنت؟ ما تركته حتى قتل أخاه وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى ضرب أباه.
وأنت؟ ما تركته كل المعاصي.
حتى يأتي أحدهم، ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله حينئذ يقوم إبليس من على الكرسي، ويأخذ الشيطان هذا بالأحضان، يلتزمه ويعتنقه، ويقول له: نعم أنت، أنت أنت! هذا هو الشغل.
قلنا قبل ذلك: الطلاق مباح، لو أن رجلاً طلق امرأته الصوامة القوامة المخبتة الخاشعة -إلى آخرها من الصفات الحسنة- لا يكون آثماً، لكنه لو زنى؛ لكان آثماً، وإذا كان غير محصن؛ يجلد محصن؛ يرجم قتل؛ يقتل، يقاد منه أو يدفع الدية سرق؛ تقطع يده، هذه كلها ذنوب، ومع ذلك هذه الذنوب لا يكترث بها إبليس، وعند الشيء المباح ينبسط لماذا؟ لأن إبليس يعلم أن العبد لو ظل في المعصية مائة عام وتاب، تاب الله عليه، فذهب كل عمل إبليس أدراج الرياح؛ لأن الذي يسقط الذنب يريد لك المغفرة والنجاة، ولا يعجل كعجلة أحدنا، لذلك كتب ربنا في كتابه الذي عنده: (إن رحمتي تغلب غضبي)، أين تجد هذا الرب؟ لا يسخط، ولا يبادر كمبادرة أحدنا، ولا حتى يجزي السيئة بعشر أمثالها، بينما الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والسيئة مثلها ويمحو، وهذا الرب الجليل لا يستحق أن يعصى، ولو لم يتفضل عليك بكل شيء ما استحق أن يعصى، هو الذي لا يحب إلا لذاته، هو الله عز وجل.
فإبليس -الذي هو ذئب الإنسان- يعلم أن العبد إذا رجع من المعصية رجع إلى رب غفور، فما الذي يجعلك تتوانى؟ ومكفرات الذنب كثيرة، ولو لم يكن من فائدة تعود عليك إلا أن الله يفرح برجوعك لكان الواجب عليك أن ترجع.
أتستقل بفرح الله برجوعك؟! قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال: أشد عليهم من عذاب النار: أن يحرموا رؤية الله.
وإنما أخذ مثل هذا الفهم من بعض الأحاديث التي فيها أن أهل الجنة لم يرزقوا شيئاً في الجنة أجل من رؤية الله عز وجل.
كذلك إذا حُجب العبد عن ربه كان أشد من عذاب النار، وفي صحيح مسلم -والحديث أيضاً في صحيح البخاري لكن سياق مسلم أوسع- قال صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة، معه راحلة عليها طعامه وشرابه) وجد شجرة، وأراد أن يستريح، فنام وترك الراحلة، وعليها أكله وشربه، فلما استيقظ لم يجد الراحلة، والصحراء سيموت إذا لم يتجاوزها، وهذا الطعام الذي أعده يبلغه المنزل، بحث عنها، يئس من وجودها، أيقن بالهلاك، فقال لنفسه: أرجع إلى مكاني وأموت -يموت في الظل- فلما رجع إذا به يجد الراحلة، فقال ممتناً ذاكراً: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح).
الله عز وجل إذا رجعت يكون فرحه برجوعك أشد من فرح هذا الرجل بوجود الراحلة، تضن على نفسك أن يفرح الله برجوعك وهو مستغن عنك، فرح المفاجأة جعله يقسم، بعد أن أيقن بالهلاك، فلما وجد الراحلة لم يتماسك، وكذلك المفاجآت دائماً تفتت عزم القلب أو تشده، ولذلك(4/2)
العبودية بين الطاعة والذل
تنازع العلماء في مسألة قد تبدو عجيبة، قالوا: أيهما أفضل: العبد التائب، أم العبد الذي لم يعص الله قط؟ الذي لم يعص الله أفضل بلا شك، وهذا هو البدهي، لا ننازع ولا نناقش في هذه الجزئية.
لكن نقول: مما يفضل به العبد التائب على العبد الطائع أبداً: أن العبد الذي عصى الله تبارك وتعالى ثم تاب إليه زاد عبودية في نفسه على عبودية الطائع أبداً، وهي عبودية الذل والانكسار، والرجل الذي لم يعص الله قط -على افتراض وجوده- قد يدركه العجب بعمله يوماً ما، يقول: أنا رجل لي سنين أقوم الليل، وما مر علي خميس ولا إثنين أبداً إلا وأنا صائم، وكذلك ثلاثة أيام من كل شهر، وأتصدق والحمد لله، فهذا قد يدركه العجب من هنا.
إنما العبد العاصي إذا تاب توبة نصوحاً يجعل الذنب دائماً أمامه، يخشى ألا يقبل الله عمله لهذا الذنب، كيف لا وأنبياء الله عز وجل أدركهم مثل هذا الشعور، فلفظوا به في عرصات القيامة، كما في حديث الشفاعة المشهور، الناس يبحثون عن أي شفيع، يذهبون إلى آدم عليه السلام: أنت أبونا، صورك الله ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربك.
يقول: نفسي نفسي، أمرني ألا آكل من الشجرة فأكلت.
مع أن آدم عليه السلام تاب الله عليه، بل اجتباه الله بعد الذنب، لكنه تذكر ذنبه وخشي أن يؤخذ به.
إبراهيم عليه السلام نوح عليه السلام موسى عليه السلام، كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي! هذا حال الأنبياء المغفور لهم، يدخلون الجنة قبل أممهم، ولا يدخلون الجنة إلا بعد شهادتهم لهم أنهم آمنوا، ومع ذلك يقولون مثل هذا الكلام.
العبد إذا تاب، ووضع الذنب أمامه، وخشي هذا الذنب كان سبيله إلى الجنة.
ولذلك قال من قال من السلف: رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً.
وقال الآخر: إن العبد ليفعل الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لا يزال ينظر إلى الذنب، ويجّود عمله ويحسنه حتى يلقى الله محسناً.
هذه عبودية الذل والانكسار، العبد التائب من العصيان شارك العبد الطائع دائماً عبودية المحبة، وعبودية التسليم، وعبودية الرضا، وزاد عليه على الأقل عبودية الذل والانكسار وبهذا الأصل ينحل الإشكال.
رأى جماعة رجلاً من الصالحين يوم مات ولده يضحك، فاستشكلوا هذا الأمر لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم مات إبراهيم بكى، وهذا يضحك! فهل هذا راض أكثر من الرسول عليه الصلاة والسلام! إذا راعينا هذا الأصل انحل الإشكال، إذا مات الولد؛ العبد مطالب بأكثر من عبودية: مطالب بعبودية التسليم والرضا، وهو مطالب أيضاً بالرحمة والرأفة، فقلب ذلك العابد لم يتسع إلا لعبودية الرضا، إنما النبي صلى الله عليه وسلم قلبه اتسع، أعطى الرحمة حقها فبكى على الولد، وأعطى التسليم حقه: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب، ولما رأوه يبكي قالوا: تبكي! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)، هذه عبودية التسليم والرضا، اتسع قلبه فأعطى هذا وذاك، وضاق قلب هذا العابد، فلما تزاحمت عليه أكثر من عبودية لم يستطع إلا أن يقدم عبودية الرضا.
عبودية الذل والانكسار من أجلِّ ما يحصله الإنسان، كل شر في الأرض أحد أسبابه ضياع هذه العبودية، هذه العبودية هي المدخل الحقيقي الواضح لصفة العبادة المقبولة؛ لأن العبادة المقبولة هي أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء، كما يقول ابن القيم رحمه الله: الخوف والرجاء بالنسبة للعبادة كجناحي طائر، لا يبلغ الطائر المنزل بجناح واحد، كذلك لا يبلغ العبد الجنة -التي هي المنزل- إلا إذا حقق هذين النوعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(4/3)
غلبة الرجاء على الخوف سبب في التهاون
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أغلب المفرطين في زماننا الآن يعبدون الله بالرجاء، والعجيب أنه يوجد من ينسب إلى هذا الدين من يغذي هذا الشعور، على صفحات الجرائد والمجلات فيقول: الله! انتم تخوفون الناس من النار، ألا يوجد جنة، كله (وبئس المصير).
فهم لا يريدون أن نتكلم عن النار إطلاقاً! هل هذا مجتمع رباني كل أفراده أبرار أخيار، أو هو مجتمع ملآن بالمخالفات، بلا شك أنت محتاج أن تقول له: ستدخل النار.
إذا كان هناك ولد منحل، يخرج مع البنات، ويشرب الحشيش، ويشرب الكوكايين والسجائر، لو أن أباه جاء له بسيارة لخطّأه كل الناس حتى أهله، يقولون: هذا دلع، يجب أن تشد عليه.
كذلك الواعظون عندما يرون هذا الانحلال كله؟ هل تريدهم أن يقولوا له: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] وما الذي عمله؟! أن لكل مقام مقال.
فهناك من يغذي في الناس هذا الشعور، يعبد الله بالرجاء، والطمع في رحمته، ولذلك ستجد إنساناً لا يصلي، ولا يعمل أي شيء، تقول له: يا أخي صل.
يقول لك: يا أخي! إن الله غفور رحيم.
لماذا غفور رحيم فقط والله قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] لما لم تكملها؟ وقد قدم تبارك وتعالى الرحمة على العذاب؛ لأن هذه كما قال في الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي) لكي يكون باب العذر واسعاً بالنسبة للعبد، فعبادته لله بالرجاء، يجعله يقصر أكثر، ولو عبد الله بالخوف فقط يكفر؛ لأن مهما فعلت من حسنات لا تكون ثمناً للجنة أبداً.
الرسول عليه الصلاة والسلام لو لم يقل لنا: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) لظننا أن أعمالنا تبلغنا المنزل؛ لأننا نقرأ في كتاب الله عز وجل ذلك {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] (الباء) هنا (باء) السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، إذاً السبب أدخلك الجنة، إذاً عملك بلغك المنزل، الآية هكذا، والرسول عليه الصلاة والسلام المبين لكلام الله عز وجل صحح لنا هذا المفهوم المغلوط، فقال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا) هذا منتهى اليأس، رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مشى على الأرض بقدميه، ولا يوجد رجل في الدنيا عبد الله مثل عبادته، ولا جوّدها تجويده، يقول: أنا لا أدخل الجنة بعملي! إذاً: أنت مهما فعلت لن تدخل الجنة، وماذا تكون النتيجة؟ لماذا أعمل، لماذا أترك الفراش الوثير وأقوم الليل، لماذا أجوع نفسي وأصوم، لماذا أخرج من مالي الذي هو من كدي وعرقي لفلان، أنا أولى، إذا علم أن كل طاعة مردودة يئس.
هذه القاعدة موجودة في أماكن كثيرة، ومن أبرزها في الجيش: السيئة تعم والحسنة تخص، طيب أنا رجل مستقيم ومنضبط، وأنت تعلم هذا، فلماذا تعاقبني؟ أنا أسأل نفسي: لماذا أنا واقف انتباه وشادد عظمي؟ حتى لا أنام، أي خلاص لا جزاء، فهذا العمل يفقد الانتماء، والمحبة، والولاء، وهذه حقيقة، ولذلك في السابق عندما كان الناس يدخلون الجيش ولا يخرجون منه، فكان الكثير منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب حتى يعفوا من الجيش، وكان الذي يدخل الجيش مفقود، والذي يخرج منه مولود، عندما يكون الواحد هذا شعوره هل يمكن أن تنتصر به؟ تنتصر بواحد يرى أن وجوده في الجهاد أو في هذا الرباط مغرم؟ طبعاً لا يمكن أن تنتصر بهم، شيء طبيعي جداً أن يهزم.
لذلك من يعبد الله بالخوف فقط، فيرى أن كل طاعة لا قيمة لها، لن يضل هكذا على طول، بل سيسأل نفسه: ولماذا أعمل وأنا غير مستفيد من عملي، ثم ستجده يكف عن العمل.
كذلك الذي يقول: إن الله غفور رحيم، يا أخي! مهما تركت؛ ربنا رحمته واسعة، هو غفر لأكثر مني وأشد عتواً وعدواناً على حرماته ويضل هكذا؛ فيضيع.
لكن العبادة الحقة صفتها: أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء معاً، فتلقى الله محسناً.
طيب: أنا أريد أن أبلغ المنزل ماذا أفعل؟ المرة القادمة لن أتصدق علانية، أتصدق في السر، لعل هذا الشعور يزول، هو تصدق أول مرة، حمله هذا الخوف مع مداومته للطلب على أن يتصدق مرة ثانية، فتأتيه نفسه: مالك هذا حلال، لا تنس أنه كان فيه شبهة يوماً ما اقترفتها.
طيب: إذاً ما الحل؟ اتق الشبهات، اجعل مالك حلالاً، فيذهب إذا كان هناك أي مبايعات فيها حرام أو شبهة يتجنبها.
إذاً: كلما قدم طاعة؛ لامته نفسه وشككته فيها، فيقوم يحسن الطاعة أكثر لعلها تقبل، فما إن يفعل حتى يرجع إلى نفسه فيشك أنها قبلت أو حيزت بالقبول، فيجود عمله أكثر لعله يقبل وهكذا يلقى الله تبارك وتعالى دائماً محسناً.
وأريد أن أنبه إلى جزئية مهمة، في قوله تبارك وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] إذا كان (الباء) هنا (باء) السببية، فكيف نوفق بين الآية وبين الحديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)؟
الجواب
أن هذا من تمام تفضل الله عليك، يعطيك الكثير بما تبذله من القليل الذي أمرك به.
نضرب مثالاً: أصعب شيء في الدنيا أنك تجمع ما بين قلبين لماذا؟ لأن القلب ليس في ملكك ولا في ملك أحد، فلما يكون أحدهم رأس ماله العصافير التي في الدنيا؛ إذاً هو فقير؛ لأنها ليست في يمينه، والقلب معروف أنه ملك الرب تبارك وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان أكثر يمينه (لا ومقلب القلوب) إعلاناً عن عجز الإنسان التام إزاء هذا القلب، وهذه حقيقة لا يمكن دفعها، لأنك أنت أحياناً تُغلب على حب إنسان وددت أنك أنت تكرهه، كم من العشاق الذين تلفوا فعلاً أو كاد بعضهم أن يتلف بعدما ذهبت نفسه وراء حبيبه! قيل له: انس.
قال: لا أستطيع.
لو كان قلبه بيده ما عذب إنسان نفسه طرفة عين.
إذاً: أصعب شيء أن تجمع بين قلبين، وقد قال الله تبارك وتعالى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63].
لنفرض إن إنساناً لديه ما في الأرض جميعاً، ولكي يحصل ما في الأرض جميعاً ويصبح ملكه، هو يحتاج جهداً جباراً، ولو أنه تاجر في التراب لربح، وبعد ذلك أتحداه أن يوفق ما بين قلبين، قام وأتى بكل تعبه وقسمه نصفين، وقال: أنت تأخذ النصف والآخر يأخذ النصف الآخر، بشرط أن تحبوا بعضاً هو لا يستطيع أن يفعل هذا؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] إذاً هذه تحتاج معجزة، ليست بملك أحد.
إذاً: ما قولك في أن هناك شيئاً يسيراً جداً يمكنك به أن تجمع بين القلبين وأنت واضع رجلاً على رجل، وأمرت به! قال صلى الله عليه وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية- بين قلوبكم) هل تسوية الصفوف أسهل أو أجمع بين قلبين؟ انظر إلى هذا اليسر! أن تسوي البدن بالبدن فقط.
إذاً: هل بمجرد أننا نسوي الصف تتساوى جميع القلوب؟ لا تتساوى، لكن انظر إلى ما أمرت به وهو في ملكك ويمينك ما أيسره! وانظر إلى ما أعطاك في مقابله لا تستطيعه أبداً مهما فعلت، فقصر في ما في يمينه، وأراد أن يفعل الذي يعجز عنه، كل الذين يوفقون الآن بين القلوب، يقول لك: توفيق بين الجماعات، ونقعد مع بعض، ونعمل اجتماعات، ونعمل أي شيء.
يا أخي! افعل ما أمرت به، نحن نعلم أن ما أمرت به في ملكك ويمينك، فهو ميسور؛ لأنه على قدر قوتك {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] لكن الثمرة التي يعطيكها الله عز وجل في مقابل هذا الذي تبذله أعظم بكثير جداً من بذلك وعطائك.
أنت مطلوب منك سبب لابد أن تفعله؛ حتى يعطيك الثمرة، وإذا لم تفعله لا يمكن يعطيك.
أشياء يسيرة يجب الالتفات لها، بعض المسلمين الآن يقولون عن مثل هذه الجزئيات أنها قشور، تصور: تسوية الصف عند بعض المسلمين قشور! يقول: يا أخي! أي تسوية صف الذي أنت مهتم بها ربع ساعة والمسلمون يذبحون في لبنان، إذاً: نم على ظهرك، حلت مشكلة لبنان، حررت البوسنة والهرسك انظر التهريج! ترك ما أمر به، ولو فعل ما يوعظ به لكان خيراً له {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
أحياناً قد يعمل الإنسان عملاً تراه في منتهى الجمال، مع أنه يسير ولم يقصده، والله تبارك وتعالى، لا يستصغر معصية ولا يستقل بطاعة، وفي الحديث: (إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة) نحن قصرنا فيما أمرنا به فحرمنا الثمرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(4/4)
الأجور الكثيرة المترتبة على الأعمال القليلة
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
قال العلماء: كل ما أوجبه الله تبارك وتعالى على العبد ففي إمكانه أن يفعله؛ لذلك أوجبه عليك، وكل طاعة دخلت في دائرة الاستحباب؛ يبلغه الله عز وجل إياها بجده وحسن قصده وإن كان ضعيفاً.
أقول هذا الكلام؛ لأن هذا ملتصق بما ذكرته آنفاً: أن ما تؤمر به قد يكون شيئاً يسيراً، لكن ما تعطاه بامتثالك بهذا اليسير يكون أعظم بكثير جداً من الذي بذلته.
هذه مسألة أدندن عليها؛ لأن بعض الناس استقلوها، وأراد أن يدخل في المنطقة الصعبة التي ليست له، يرجع دائماً منها بخفي حنين.
إذاً: دائرة المستحبات أوسع جداً من إمكانات العبد؛ لأن الورع ليس له آخر، ولو كنت سيد الورعين في هذا الزمان لما استطعت أن تأتي على كل ما ينبغي أن يتورع منه، نعم أنت بإمكانك هذا النهار ألا تأكل أي فاكهة أو لحماً أو أي شيء فيه شبهة، مثلما حكي عن بعض العلماء أنه لما سرقت شاة في أيامه؛ ذهب إلى قصاب وسأل عن العمر الافتراضي الذي تعيشه الشاة، قال له -مثلاً-: عشر سنين؛ فحرم على نفسه أكل لحوم الشاة عشر سنين، حتى يضمن أنه لن يدخل بطنه شيء من لحم الشاة المسروقة.
إن ديننا وضع هذا الحرج، أنت غير مطالب أن تذهب إلى كل جزار لتنظر إلى كباشه من أين مصدرها، بل لو تحريت ذلك لدخلت في باب التنطع المنهي عنه، فلو تجاوز ذلك الأمر به لدخل باب الحرام مباشرةً، لكن أنت بينك وبين نفسك ترى أن صلاحك في ذلك افعل، لكن لا تأمر أحداً به؛ لأن الورع غير ملزم، بمعنى أنا مأذون لي أن أتمتع بالحلال، فأنت إن شئت تورعت، أنت حر، لكن لو أردت أن تفتح باب الورع في كل جزئية هذا مستحيل؛ إلا أن تكون نبياً.
إذاً: دائرة المستحبات واسعة جداً، وهذه التي نحن نخصها بالذكر الآن، طالما أنها واسعة جداً، ولا تستطيع تحصيلها كلها، فجهدك القليل كيف تأخذ به ثواب كل هذا المستحب الذي لم تفعله؟ هنا تأتي الأمثلة التي سوف نضربها الآن، والبيان الذي ذكره العلماء في كتبهم، أنك تفعل الشيء اليسير الذي أنيط بك فعله، وما عليك من الباقي.
مسألة تسوية الصف هذه السنة صارت غريبة تحتاج إلى تهيئة من الإمام الراتب الذي يصلي دائماً، مع أن الناس الآن كل واحد يسوي نفسه بنفسه، والإمام يقول: (استووا) ووجهه إلى القبلة، لكن لو أن إماماً جعل يسويهم ثلث ساعة، ويمر على الصفوف المتطاولة، ويحاول يعمل مثل ما ورد في بعض الآثار، يأتي بجريدة خضراء، ومن ثم أنت ركبتك بارزة قليلاً، أنت كوعك هل أنت متصور أن المصلين يسلمون له بذلك؟ طبعاً لا يسلمون له بذلك.
بل قد تصير مشكلة كبيرة لو أن هذه الجريدة أوجعت إنساناً.
فمثل هذه السنة تحتاج إلى تهيئة.
كذلك بعض الأئمة مثلاً لما نصلي وراءه الجمعة يطيل في القراءة، ويطيل في الركوع، ويطيل في مواضع لم يتعود العامة أن يطيل فيها، لو كان حافظاً فيها ذكراً واحداً فقط لانتهى في خمس عشرة ثانية، مثلاً الجلسة ما بين السجدتين، كثير من الناس يتصور أن ترفع رأسك فقط، وليس فيها ذكر، بل فيها: (اللهم عافني واجبرني، وارحمني واهدني، وارزقني وتولني).
النبي عليه الصلاة والسلام كانت صلاته واحدة، يقرأ خمسين آية، يركع بمقدار خمسين آية، يرفع (سمع الله لمن حمده) ويقعد يذكر الله بمقدار خمسين آية، يسجد بمقدار خمسين آية، يرفع ما بين السجدتين بمقدار خمسين آية، يسجد سجوداً ثانياً بمقدار خمسين آية كانت صلاته هكذا عليه الصلاة والسلام.
هو يقول لك ماذا؟ ليس خمسين آية، عشر آيات فقط، أحياناً يمد المد المتصل والمنفصل، يأتي لك بأربع حركات في المنفصل وست حركات في المتصل ويشبع، بدل ما تأخذ القراءة عشر دقائق تأخذ لها خمس عشرة دقيقة، بسبب المدود، فهو يقعد ما بين السجدتين خمس دقائق، والخمس الدقائق هذه تفقع مرارة تسعين بالمائة من المصلين، لاسيما إذا أضفت إلى ذلك وجود الأولاد الذين يبكون، أحد المصلين يقول في نفسه: أنا قرأت حديث: (إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي) وهذا هل يسمع أم ماذا؟ فيخرج متغيضاً من الصلاة.
هذا الإمام ينبغي أن يعرف المسجد الذي يصلي فيه، صلاة الإمام الراتب كيف هي؟ ويسأل ويرى، اتركه يصلي كيفما يريد، لكن إذا سمع صوت بكاء يتجوز، الخطأ هنا خطأ الإمام الراتب الذي لم يعلم رواد المسجد هذه السنن، يأخذها شيئاً فشيئاً، بحيث لو جاء رجل فأطال؛ تكون المسألة غير مستغربة.
ولذلك كان من أغرب الغرائب أن مسجداً من المساجد التي تقام بها السنة الناس لا يعرفون أن المسافر يصلي ركعتين، طيب وهذه من أين أتت؟! أنا مرة صليت في مسجد من المساجد التي تقام فيها هذه السنن في محافظة من المحافظات، وبعد أن انتهينا من المحاضرة ذهبت أتوضأ للعشاء، وقد كان المسجد مكتظاً إلى آخره، ثم جئت لأصلي، فلم أجد مكاناً لأصلي فيه، فنظرت فإذا بي أجد فرجة تحت سرير السلم في آخره، فمشيت بين الصفوف، وليس في ذلك قطع لسترة المأمومين.
المهم: وأنا ذاهب وجدت أحدهم يقطع بيده طريقي، فتجاوزته برفق ومررت، أنا قلت في نفسي: بعد أن أكمل الصلاة أذهب وأقول له: يا عم الحاج! وجهك منور، والسنة كذا وكذا.
هو ما أمهلني، انتهينا من الصلاة: ما الذي فعلته؟ كيف تمر من بين المصلين؟ قلت له: هناك حديث في البخاري.
قال: أي بخاري؟!! المفزع إلى الآن أنه ليس هناك أي إثارة، الإثارة ستأتي قريباً، ذهبنا نتعشى، فلقيت الجماعة الذين اعترضوا علي هم الذين يضعون الأكل، طيب: نتعرف فلان رئيس مجلس الإدارة، وفلان عضو مجلس الإدارة، وهم الذين قالوا: أي بخاري؟! وأي كلام تتحدث عنه! فهل يعقل أن رئيس مجلس إدارة مسجد يقيم السنة لا يعرف مثل هذا؟ طيب: هذا خطأ من؟ خطأ الإمام الراتب، الذي لم يبذل جهداً في تعليم رواد المسجد الأصليين مثل هذه الأشياء.
أنا أقول هذا الكلام حتى نعرف أننا سندخل معارك من أجل تسوية الصفوف، فأنا لو أردت أن أسوي الصف ممكن الذي لا يعترض يسكت، لكن بينه وبين نفسه غير راض على هذا الأمر، فما بالك بالعوام، فانظر سنة خفيفة ممكن نفعلها، انظر كيف صارت بإهمالنا صعبة الآن! لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فهذه الجبال التي هي التفات القلوب عن بعضها الآن؛ سببها الحصوة التي تركناها، حصوة مع حصوة وصارت جبلاً، ليس بالسبب تنال، لكن الله عز وجل -كما قلت- يعاملك بالفضل، فقط افعل ما أمرت به وإن كان ضئيلاً.
الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب المواقيت باب وقت صلاة العصر، روى ثلاثة أحاديث في هذا الباب، الحديث الأول عن أبي هريرة: (من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك) وهذا واضح الدلالة، والحديث الثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث الثالث حديث أبي موسى الأشعري.
حديث ابن عمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) عمر هذه الأمة بالنسبة لأعمار الأمم السالفة مثل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، (أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا حتى إذا انتصف النهار -لصلاة العصر يعني- وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتينا القرآن، فعملنا من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ فأعطانا قيراطين قيراطين، اعترض اليهود والنصارى قالوا: أي ربنا! كنا أكثر عملاً منهم وأقل أجراً.
فقال: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا.
قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) فهذه الأمة تعامل بالفضل.
لكن ما علاقة هذا الحديث بتبويب الإمام البخاري (باب من أدرك ركعة من العصر) مع أن الحديث هذا ما فيه لا ظهر ولا عصر، إلا لضرب المثل فقط؟ الإمام البخاري وضع هذا الحديث في هذا الباب برغم خفاء دلالته؛ ليقول: إن الله تبارك وتعالى عاملك بالفضل يوم أن قبل منك ركعة في الوقت وثلاث ركعات في غير الوقت، فعاملك بالفضل؛ لأنك عندما تصلي ركعة واحدة من العصر، ويدخل عليك المغرب، إذاً هناك ثلاثة ركعات من العصر وقعت في وقت المغرب، إذاً أنت ما صليتها في وقتها، إذاً المفروض أن الثلاث الركعات هذه لا تحسب لك لا، تكرماً منه تبارك وتعالى وهب لك الثلاث الركعات في غير الوقت للركعة التي أدركتها في الوقت! البخاري رحمه الله يريد أن يقول هكذا، فكما أننا أقل أعماراً إلا أننا أعظم أجراً، وكما أن الركعة هي أقل القليل في صلاة العصر فقد أعطاك أجر العصر كله بإدراك ركعة واحدة، وما عاملك بالعدل، فقبل منك ركعة وحرمك أجر ثلاث ركعات إذاً نحن نعامل بالفضل.
الله عز وجل يعطيك الشيء الجزيل على الشيء اليسير الذي أمرك أن تفعله، وأنت ترى هذا في أعمارنا من الستين إلى السبعين، وقليل من يصل إلى مائة، ومع ذلك تستطيع أن تلقى الله عز وجل بعبادة أربعة آلاف سنة، قال تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] ألف شهر، أي: ثلاثاً وثمانين سنة وبضعة أشهر، الغ الكسر واجعلها ثلاثاً وثمانين سنة، فأنت مثلاً إذا أعطاك الله من العمر ستين سنة، فُرض عليك رمضان وأنت ابن خمس عشرة سنة، فتكون قد أدركت خمسة وأربعين رمضاناً، ولنفترض أنك صمته، وقمت ليلة القدر في كل رمضان إيماناً و(4/5)
الأسئلة(4/6)
درجة حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)
السؤال
ما صحة حديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هل هو على سبيل الأفضلية؟
الجواب
هذا الحديث اختلف العلماء في رفعه ووصله، والصواب أنه مرفوع، والرواية الموقوفة لا تقدح في الرواية المرفوعة، لكن هذا الحديث على الأفضلية، وليس على نفي الذات، والذي جعلنا لا نقول بذلك: أنه لم يتبن أحد من العلماء -حتى الذين صححوا هذا الحديث- القول بنفي الذات، وصرفوا (لا) -هذه (لا اعتكاف) - على نفي الكمال.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(4/7)
مواطن رفع اليدين في الدعاء
السؤال
ما هي المواطن التي لا يجب رفع اليدين فيها بالدعاء؟
الجواب
أما (المواطن التي لا يجب) فالسؤال هكذا صعب.
لا، مسألة تحريم رفع اليدين في الدعاء هكذا لا، ارفع في الاستسقاء، ربما يكون مقصود السائل في غير المواضع التي ورد فيها الرفع، فنحن نقول: إذا كان هناك موضع مشتهر فيه جمع، وفيه دعاء، ومع ذلك لم ينقل رفع الأيدي فالصواب عدم الرفع لماذا؟ لأنه لو كان لنقل ولتوافرت الهمم والدواعي على النقل، مثل الرفع في خطبة الجمعة.
والجمع التي صلاها الرسول عليه الصلاة والسلام كثيرة ولم ينقل في حدود ما أعلم، وفي حدود علم علماء المدينة الذين أخذت عنهم هذه الفتوى أن الصحابة كانوا يرفعون أيديهم في دعاء الجمعة -مثلاً-، مع أن الجمعة تجمع أكبر عدد من المصلين، أكثر من الصلاة العادية، وتتكرر كل أسبوع، فالصحابة الذين نقلوا أدق صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، مثلاً وهو ساجد عليه الصلاة والسلام يثني أصابع رجليه إلى القبلة، إذاً يرى هذا ولا يرى أحدهم ماذا يعمل كل جمعة.
فلما توافرت الهمم والدواعي أو كان هذا الأمر بمكان تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ومع ذلك لم ينقل، فنقطع بعدم حدوثه، بخلاف ما يكون خفياً عن ذلك، مثلاً: إذا أراد أن يدعو الله عز وجل بدعاء في أي موطن وفي أي وقت فرفع يديه فدعا، فهذا لا نقول له: لا ترفع يديك لماذا؟ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً خائبتين) فهذا رفع اليد، اجعله أيضاً في المواطن العامة، لكن المواطن الخاصة بالذات التي تتوافر الهمم والدواعي على النقل ومع ذلك لم ينقل، فنحن لا نقول برفع اليد فيه والله أعلم.(4/8)
عوامل بناء المجتمع
إن النفاق لا يظهر إلا عندما يكون الإسلام قوياً، أما إذا ضعف الإسلام، فإن الكفر يظهر بصراحة كما هو الحال في وقتنا الحاضر، فقد ضعف الإسلام، وتفرق المسلمون إلى دويلات متناحرة، فاشرأب الكفر بعنقه واضحاً جلياً، فترى من أدعياء الإسلام من يظهر الكفر والسخرية من الإسلام والمسلمين صراحة، كما يحصل في الإذاعات والقنوات، وما يبث فيها من مسلسلات تسعى لهدم الدين وتمكين الكفرة الملحدين من مسخ أجيال المسلمين.(5/1)
سبب انهزام الأمة الإسلامية
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذه خطبة عارضة أسوقها تعليقاً على الأحداث الجارية، وإذا كان تأخير البيان عن وقت الخطاب يجوز، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه لا يجوز.
إن الأحداث الجارية التي تمر بها الأمة المسلمة تستحق وقفة جادة، وكم وقفنا هذه الوقفات، لكن الجماهير العريضة لا تجعل الإسلام قضية حياة.
ولو استطعنا أن نجعل قضية الإسلام كرغيف الخبز لكنا أعز أمة، ورغيف الخبز أهم عند الجماهير من الإسلام، ولو أن رغيف الخبز غداً صار بعشرة قروش، لحصلت المظاهرات، ولصار الحديث في كل بيت عن رغيف الخبز، وقد حدثت مظاهرات في الثامن عشر والتاسع عشر من يناير (77 م) عندما ارتفع كيلو السكر من أربعين قرشاً إلى ستين قرشاً، وقامت مظاهرات، وحرقت قاطرات وسيارات كلفت ملايين، وسبب ذلك زيادة عشرين قرشاً في كيلو سكر.
فلو استطعنا أن نجعل قضية الإسلام كقضية الخبز، ما قتل منا مائة رجل ساجد كالأبقار بل دم الأبقار -الآن- أغلى من دم المسلمين، وأتحدى أي رجل أن يذبح بقرة في الهند، فقد تطير عنقه في مقابل بقرة، لكن ما وصلنا إليه هو بتفريط كثير منا، وكم قام الداعي يحذر هؤلاء العوام من مغبة ذلك، ولكن لا يحبون الناصحين.(5/2)
فضل المداومة على الأعمال الصالحة وإن قلت
رمضان شهر عظيم، لكنه يكشف بسرعة أدعياء الإيمان، يكشف أصحاب العبادة الموسمية، والله عز وجل يكره العبادات الموسمية، إن الله تبارك وتعالى يحب أن يكون العمل دائماً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل)، وقالت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن عمله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (كان عمله ديمة) وكان آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
إن العمل الموسمي يدل على الفتور، والله تبارك وتعالى يحب الطالبين له دائماً، فالذي يداوم على الذكر وإن كان قليلاً يدل ذلك على أنه حسن القصد، أما الذي يعمل بقوة ثم يفتر، يدل دلالة واضحة على أن مطلوبه ليس بذاك، ولذلك فتر عنه، من هنا كان أحب العمل إلى الله أدومه.
فيا تُرَى الذين يصلون في رمضان ويقطعون الصلاة في شوال يعتقدون أن رب رمضان غير رب شوال، أو أن الله عز وجل يسمع ويرى ويحاسب في رمضان فقط؟! عجب والله! العمل الموسمي عمل خطير، يكرهه الله عز وجل، والصحابة رضوان الله عليهم ما جعل الله عز وجل الأرض تحت أقدامهم في عشر سنوات فقط، فعشر سنوات في عمر أمة كطرفة عين، أعمار الأمم لا تقاس بالسنين أعمار الأمم دهور متطاولة فكم يا تُرى تشكل عشر سنوات في حياة أمة وكانوا قلة مستضعفين إلا لأنهم حققوا العبودية لله عز وجل على الدوام.
وما وصل اليهودي إلى هذه الجرأة ودخل بسلاحه، واطمأن أنه سيقتل مائة أو مائتين إلا لأنه يعلم أنه لن يكون هناك رد فعل، لكنه يعلم أن أقصى ما يمكن أن يفعله المسلمون هو الشجب في الجرائد، وأقوى بيان شجب لوزارة الخارجية.
ماذا استفدنا من ذلك الشجب؟! على الأقل لو يطردون السفير، لكنهم لا يستطيعون فهم أجبن من ذلك.(5/3)
دأب الكفر في النكاية بالإسلام وأهله
نحن لا ننسى تصرف إنجلترا في قضية سلمان رشدي لما أهدرت إيران دم سلمان رشدي الذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام، ويتهم أزواجه بالزنا، إذا بريطانيا تسحب سفيرها.
لماذا يسحبون السفير؟ من هو سلمان رشدي؟ كم يساوي سلمان رشدي في الخريطة؟ ما له قيمة إلا أنه مواطن إنجليزي من أصل هندي.
بالرغم من أن إيران قتلت عشرات الإنجليز في قلب لندن ولكن القضية ليست قضية مواطن، بل القضية قضية الإسلام والكفر، فرئيس أمريكا لماذا يستقبل سلمان رشدي؟ نكاية في المسلمين، وهذه تحديات سافرة جداً.
ومع ذلك يتكلم عن الإرهاب الداخلي، فما هي نسبة الإرهاب الداخلي بجانب الإرهاب اليهودي؟!(5/4)
المسلسلات الهابطة وأثرها على الأمة الإسلامية
هناك مسلسل اسمه العائلة، يحرمون فيه الخيار وغير ذلك من الأشياء، ويقولون: إن هذا فكر الجماعات الإسلامية.
هل هذا حق؟ أنا أُسَلِّم أنه يوجد من يحرم الخيار، لكن هل يقال: إن هذا فكر شريحة عريضة من المجتمع.
لا.
هذا تهريج؟! ومع ذلك فهم ينفقون الأموال الطائلة على مقاومة الإرهاب {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، إن الذي يحارب الله لا ينتصر، وهؤلاء الذين يحرمون الخيار مع ما فيهم فهم أجود ممن يحارب الله ورسوله، ويكفيك أنت -يا من تتولى حرب الإرهاب- يكفيك الذي أنت فيه من اختلاسات ولصوصية؛ لكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وإذا غضب الله على العبد حرمه التوفيق.
لو أنهم يريدون الفتوى الشرعية في الخيار، فأنا أفتيهم الآن أن الخيار يمكن أن يكون حراماً، لأن الخيار والموز والفلفل الذي مثل البطيخ محقون بالهرمونات التي تسبب أمراض السرطان، وكل الزراعة الآن تالفة، وهذا ليس كلامي، فأنا لا أفهم في هذا المجال، إنما أنقل كلام المختصين في ذلك، فالموز الإسرائيلي محقون بالهرمونات، والخيار والفلفل كذلك محقون بالهرمونات؛ فلذلك يسبب أمراض السرطان، وعلماء الزراعة يقولون هذا، فإذا كانت المسألة كذلك، كانت الفتوى أن هذا أقرب ما يكون إلى التحريم.
هب أن رجلاً مجنوناً زعم أن الخيار حرام فهل نعمل عليه مسلسلاً كاملاً ونتهم شريحة عريضة من المجتمع أنها تحرم الخيار، وأن هذا فكرها؟ وهل تعالج القضايا بمثل هذه المسلسلات والتهريج؟ أليس هذا من الظلم البين والعدوان الواضح؟ إن هذا المسلسل يتهم العقائد، وينفي عذاب القبر، ويقول: الأزهر لا يراجع؛ لأن هذا مسلسل درامي، والأزهر لا يفهم إلا في مسلسل تاريخي.
إن هذا المسلسل يسب الله فيه ويقول: إن عذاب القبر ليس فيه نص من القرآن.
وهذا جهل؛ لأن عذاب القبر وارد في القرآن الكريم في آية صريحة جداً، ومع ذلك فإجماع علماء المسلمين أن السنة تنفرد بتقرير الأحكام، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، أنه سمع رجلاً يقول: أوجد لي كذا في كتاب الله، قال: يا أحمق! أوتجد الظهر في كتاب الله أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والصبح ثنتين؟! تجد في كتاب الله عز وجل أن هذا يسر به وهذا يجهر به؟! قال تبارك وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، هذه هي آية إثبات عذاب القبر {غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر:46]، غدواً وعشياً قبل قيام الساعة، أين يا ترى؟! في البرزخ، وهو عذاب القبر، مع ثبوت عذاب القبر في الأحاديث المتواترة، والنبي عليه الصلاة والسلام استعاذ من عذاب القبر، وأحاديثه في ذلك مشهورة: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا، وأعوذ بك من فتنة الممات، وأعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر ومن عذاب القبر).
و (سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل).
وحديث البراء بن عازب الطويل في إثبات عذاب القبر وفي إثبات سؤال الملكين.
وقوله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] في عذاب القبر، وفي الثبات على كلمة التوحيد داخل القبر.
فحين يأتي هذا الرجل في مسلسله ويقول: إنه لا يوجد عذاب قبر، ولا يوجد نص من القرآن على ذلك، ويختم الحلقة على هذا، فماذا يعني هذا؟! أهو يخاطب الصم البكم العمي؟! لا.
ومع ذلك تجد الجماهير مستمرة في السماع.
ألا من رجل يغار على أحكام الله! إن جهاز التلفزيون وما يبث فيه سرطان ينخر في جسد الأسرة والمجتمع والأمة، فهو الذي ضيعنا ودمرنا، واقتناؤه حرام، حتى ما يبث فيه من المسلسلات التي يزعمون أنها دينية، من الذي يؤديها؟ أليس ممثلاً داعراً فاجراً كان يمثل عاشقاً في الحلقة الأخرى؟! فهل نرضى أن يمثل دور عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب، أو عمار بن ياسر؟! هذا طعن في هؤلاء السادة العظماء وتحقير لهم، ومع ذلك لم يحرك المسلمون ضد هذا العفن ساكناً.
وقد رفعت الشكوى للوزير شخصياً -وزير الإعلام- فقال: (ما الجهاز ليه زرار، مش عاجبك.
اقفل) فنقول له: أنتم لماذا تقاومون أصحاب المخدرات؟! أليس كل شخص يعرف مصلحة نفسه، ويعرف أن المخدرات حرام؟! إذاً: اتركه يشرب، وكذلك دع السارق يسرق، ودع شارب الخمر يشرب الخمر؟!! لماذا جعل السلطان إذاً؟! هل كل الخلق يعرفون مصلحتهم؟! هل كل الخلق يمكن أن يقفوا على حدود الله عز وجل؟! والجماهير يجب أن تتنبه أن اليهود لا يلعبون، فألف مليون مسلم على وجه الأرض لا يستطيعون أن يقفوا أمام اثني عشر مليون يهودي في العالم كله، لا يستطيعون أن يرفعوا رءوسهم، وتتم المجزرة أمام أعينهم كما حصل في البوسنة والهرسك، وأريقت دماء الآلاف المؤلفة من المسلمين، وحتى الآن لم يستطع المسلمون أن يصدروا قراراً بضرب الصرب، القضية واضحة جداً.
نقول: إن النفاق يوجد في حال قوة الإسلام، أما في حالة الضعف فلا نفاق، وإنما كفر صريح، إذا ضعف الإسلام وجدت الكفر ظاهراً جداً، وصوته عالياً، وحينما يكون الإسلام قوياً جداً يظهر النفاق، والآن الكفر طافح صريح، والأحداث الجارية مؤلمة جداً، صار الإنسان لا يدري من أي سهم يتألم، وأي سهم يرد: تكسرت النصال على النصال ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث فهل نرد سهم المسلسلات الهابطة التي تنخر في جسد الأمة، أم قتل المسلمين وهم سجد ركع، أم سهم البوسنة والهرسك، أم سهم إرتيريا؟! فيا ترى أي السهام أشد إيلاماً من صاحبه؟! سهام كثيرة جداً والمسلمون مع ذلك لا يتنبهون: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في الجحود والنكران، {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في هذا الفتور رغم الحريق المشتعل.
أنا كنت أتصور أن الإنسان يكون فاتر الهمة إذا كانت الأحداث فاترة، لكنها قوية جداً، ورد فعلنا -نحن المسلمون- لا يساوي الأحداث الجارية.
فالواجب أن نربي أولادنا على صد الكفر ومكر اليهود، فأولادنا يقعون ضحية المخدرات، والتطرف الديني أهون ألف مرة من التطرف الدنيوي، وحينما يتطرف المرء في دينه فذلك أفضل من أن يشرب المخدرات -والمخدرات قد طفحت في المدارس، والجامعات، والبعثات التي تذهب إلى إسرائيل- وأفضل من الوقوع في الفاحشة والإصابة بالإيدز؛ كما حصل لسبعين من كفر الشيخ هنا ذهبوا في بعثة ورجعوا يحكون عن الليالي الحمراء، وقد عشعش الإيدز في أجسادهم، وبهذا تقتل الأجيال القادمة.
وقد قرأت في مذكرات أحد الساسة الإسرائيليين أنهم كانوا قد نشروا أسرار حرب سبعة وستين قبل وقوع الحرب بخمسة عشر يوماً في الجرائد الأوروبية، وبعدما حصلت الحرب سألوهم عن ذلك، لأن نشر أسرار الحرب على جريدة يعني أنها مناورة لا أقل ولا أكثر، ولا يمكن أن تكون خطة حرب، فلما وقعت الواقعة سألوهم عن هذه الجرأة، فكان ردهم: (إن العرب لا يقرءون وإذا قرءوا لا يفهمون).
وما صرنا إلى هذا إلا بعد أن تركنا ديننا وخالفنا أمر ربنا، وإلا فالمسلمون هم أهل العقول النيرة، وأذكى الناس هم المسلمون، لكن العرب هم الجنس الوحيد الذين لا يصلحون إلا بدين، فغيرهم يصلح بغير دين، لكن العرب لا يصلحون إلا بدين، ويعرف هذه الحقيقة من قرأ التاريخ.
فقد كانت قبل الإسلام قبائل متناحرة لا قيمة لها، فلما جاء الإسلام فجر طاقاتهم، ولم شملهم، وجعلهم قادة أمم، ولا يمكن أن يعود للإسلام مجده إلا من بلاد العرب، ولا يمكن أن يخرج من بلاد الغرب، بدلالة النصوص الكثيرة، فالعرب هم الشجعان بالإسلام، وبلادهم مهبط الديانات.
فهل يتصور لو قامت حرب أن أي أمة تستطيع أن تقاتل قتال العرب المسلمين؟ أبداً.
لا يمكن ذلك، لذلك في حرب الخليج قدموهم.
إننا نحتاج إلى يقظة، فكل امرئ حجيج نفسه، أنت رب بيتك، فما الذي يمنعك من الإصلاح؟! ما الذي يمنعك؟! فالحكومة ليس لها دخل في بيتك، ما الذي يمنعك أن تصلح بيتك؟! ربِ أولادك، فالجيل القادم سيمكن له إن شاء الله، أما جيل آبائنا فقد شرب كل الهزائم، لذلك هو غير مستعد للتضحية، والتضحية عنده جنون، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن لا ينتصر الإسلام بنا، لكن إذا تربى أبناؤك على التربية الصحيحة، فالوضع يختلف، والمسألة مسألة وقت فقط، وسوف يمكن الله لهم.
الإنسان عندما ينظر للمسلمين في بقاع الأرض يشعر بحسرة، فأين الحرارة التي كانت موجودة -مثلاً- عند الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله؟! فقد كان هذا الرجل مهموماً بالمسلمين دائماً، رأته أمه يوماً مكتئباً في ذات صباح، فقالت له: يا بني! مالك، أمات مسلم في الصين؟! رجل همومه تتجاوز -لا أقول: مصالحه الشخصية- إنما تتجاوز بلده إلى البلاد الأخرى، فقد كان نبيلاً ذا همة.
لو أن فينا ثلة من طراز الصحابة لفتح الله بنا، ولكننا ما عَبَّدنا أنفسنا لله عز وجل كما ينبغي.
واعلم أنك لن تحكم العالم وأنت عاجز أن تقيم أسرتك على طريق الله، خمسة أفراد لا نستطيع أن نضبطهم على أمر الله فكيف سنقود أمة؟! إذا عجزت أن تقول للولد: صل، وللمرأة: البسي الحجاب، فأنت إنسان عاجز، وتعجز بداهة عن الأقوى والأكثر، نحن نحتاج إلى تجديد العهد الذي بلي، وإقامة شرع الله في حياتنا: بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات رئيس تحرير جريدة الوفد يكتب بالخط العريض: القرآن غير صالح لكل زمان ومكان! فهو يطعن في هيمنة الكتاب المجيد، والله عز وجل حكم أنه مهيمن على كل الكتب السابقة، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وهو يقول: غير صالح، فلا نفاق الآن -ك(5/5)
قصة فتح عمورية
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قصة فتح عمورية قصة مشهورة، وكلنا نعرفها، لكن في وقت الضعف يحتاج الإنسان لمن يذكره بانتصارات المسلمين، وقصة فتح عمورية تتلخص في: أن رجلاً يهودياً كشف عورة امرأة مسلمة، فقالت المرأة: وامعتصماه! وبين المرأة وبين المعتصم بحار ومفاوز، لكن النخوة كانت تجري في العروق، فسمعها رجل مسلم فقطع الفيافي وعبر البحار حتى وصل إلى المعتصم، فقال له: إن رجلاً يهودياً كشف عورة امرأة مسلمة فقالت: وا معتصماه! وكان المعتصم رجلاً تدب النخوة في عروقه، وتجري في دمه، فجرد جيشاً كاملاً وفتح البلد -عمورية- لأن يهودياً كشف عورة امرأة مسلمة.
واليوم كل العرايا من نساء المسلمين بسبب اليهود، فهم الذين كشفوا عورات كل نساء المسلمين إلا من عصم الله منهم، وهم قلة، برغم الرجوع الحميم إلى الله عز وجل في السنوات الأخيرة.
فبيوت الأزياء، والموضة كلها يهودية، فهم الذين كشفوا عورات المسلمين، حتى وصل الأمر إلى (الميكروجب والميني جب والميني ميني واللاميني) وصل الأمر إلى هذا.
فيجب الحذر كل الحذر.(5/6)
خطر ذم الصحابة والتنقص منهم
وفي الآونة الأخيرة إتماماً لما بدأه الرافضة والمستشرقون؛ نسمع صيحات ولافتات على صفحات الأهرام لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي؛ لأن المؤرخين المسلمين -حسب زعمهم- خونة، فقد كانوا يرضون الحكام، فإذا كانت الدولة أموية، شتموا في العباسيين، وإذا كانت الدولة عباسية شتموا في الأمويين، وهكذا خرجوا بأن علماء المسلمين خونة.
وأخرجوا كتباً في ذلك، وقالوا: تريدون أن تحكمونا كما حكمنا معاوية؟! إن معاوية بن أبي سفيان، ذاك الرجل الحليم الحكيم الذي حكم المسلمين عشرين سنة وما اشتكى منه أحد، وكان كاتباً لوحي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استخلفه عمر على الشام، وقد كان يضرب به المثل في الحلم والسياسة، وهو داهية من دهاة العرب رضي الله عنه.
فهم يصورون الخلاف الذي حصل بين علي ومعاوية أنه خلاف دنيوي، ويقولون: هؤلاء هم الصحابة الذين أنتم تريدون أن تتأسوا بهم، هم هؤلاء الذين وردت فيهم الأحاديث المكذوبة -حسب زعمهم-.
والمسلسلات الدينية التي ينشرها أصحاب التنوير المزعوم -وفيها بعض الصحابة- يقصد منها تشويه صورهم الجليلة، لأنه حين ينطبع في ذهن المشاهد أن عمار بن ياسر هو فلان الفلاني الذي يمثل في هذا المسلسل، تذهب الأسوة به، فلذلك العلماء يقولون: القضايا العظيمة لا يتكلم فيها إلا بإتقان؛ لأن صورتها تضعف.
مثلاً: في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تكلم فيها أي إنسان لا يفقه شيئاً، فالقضية نفسها تذوب، وقيمتها تقل، إنما حين يتكلم فيها الراسخون تظل قيمتها كما هي.
الصحابة رضوان الله عليهم يعتدى الآن -وبكل وقاحة- على شخصيات منهم كما حصل في جريدة في مصر، بأن كُتِب: أن أبا هريرة كذاب يكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس مقصودهم أبا هريرة، وإنما يقصدون سد باب الإسلام وإبطال نقل الوحيين عن هؤلاء الصحابة الكرام، وقد تسمع في غدٍ أن شخصاً آخر غير أبا هريرة يكذب.
فالكلام عن الصحابة رضوان الله عليهم واتهامهم بالكذب أخطر على الدين من خطر الإيدز على أصحابه.
أمة تهين أسيادها هذه الإهانة تذل والله.
إن المجتمع الغربي يلمع أناساً على أساس أنهم عمالقة، وهم سذج أصحاب شهوات وجنس، وأعظم واحد عندهم لا يساوي شراك نعل واحد عند المسلمين، ومع ذلك لا يسمحون إطلاقاً بتشويه سير العظماء عندهم.
المهم: أن الخرق اتسع على الرَّاقِع، والمسألة تحتاج إلى وقفة جادة، وهاهو رمضان شهر مبارك قد أقبل، وفيه تعرض أكبر نسبة من البرامج والمسلسلات التي تهدم دين الله عز وجل، فأين حرمة رمضان؟! الناس يقبلون على الله عز وجل، وهؤلاء ينفقون الملايين في هذا الشهر ليشغلوهم عن عبادة الله، برغم تحذيرات المفتي وشيخ الأزهر واعتراض العلماء على ذلك، لكن ليس له أكثر من أن يعترض فقط.
وبقي الأمل على الجماهير، فالمسألة بأيديهم، فأنت ابدأ أول خطوة من البيت، رب ولدك على النهوض بالأمة والدعوة، لأن اليهود يربون أولادهم على خدمة المصالح والأهداف والمبادئ، ففي حرب (67م) كانوا لا ينامون وهم يملكون مائة وعشرون رأساً نووياً، ونحن محرومون من أي مفاعل نووي حتى للأغراض السلمية، وتفتيش دوري، وإسرائيل عندها مفاعلات نووية وتنتج القنبلة الذرية، وهم أربعة مليون فقط، ورحمة الله على الشيخ المطيعي فقد كان يقول: (لو كل واحد منا بصق بصقة لأغرقناهم) أي: اليهود، لكنه الخور، خور القلب.
وليس لنا إلا طريق الله عز وجل، وقد جرب زعماؤنا كل الطرق الفاشلة، ونحن نقطع أنها فاشلة، فليس هناك إلا طريق واحد فقط لا غير، خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الطرق إلى الله كعدد أنفاس البشر -كما يقولون- فالطريق واحد فقط، خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم نسأل الله تبارك وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.(5/7)
القلب ملك البدن
لقد بين الله عز وجل أن القلب السليم هو الذي ينفع صاحبه يوم القيامة، فلا ينفعه مال ولا بنون، بل ينفعه القلب السليم من الشهوات والشبهات، فكان لزاماً علينا أن نحافظ على هذه المضغة التي بصلاحها تكون نجاتنا يوم القيامة، وبفسادها يكون هلاكنا يوم القيامة والعياذ بالله.
ومادة حياة القلب في اثنتين، المادة الأولى هي: الوحي، وهو الكتاب والسنة، وذلك باتباعهما والاعتصام بهما، والمادة الثانية هي: المحن والابتلاء، فبالمحن يشتد القلب ويزداد الإيمان.(6/1)
وجوب الاهتمام بالقلب والمحافظة عليه من الأمراض
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام! إن المرء يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، ولذلك دعا إبراهيم الخليل ربه تبارك وتعالى بدعوات، أبان لنا بهذه الدعوات أن الأمر كله معلق بسلامة القلب، فقال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
القلب: هو ملك البدن، وإذا طاب الملك طابت رعيته، وإذا فسد الملك فسدت رعيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأعضاء تكفر اللسان، تقول له: يا لسان! اتق الله فينا فإنما نحن بك، إذا استقمت استقمنا وإذا اعوججت اعوججنا).
واللسان هو آلة التعبير عن القلب، فالقلب هو ملك البدن، فمن العجبٍ أن أكثر الناس لا يهتم بقلبه الاهتمام الروحي، من حيث زيادة الإيمان ونقصانه.
إنما يهتم بجوارحه.
إننا نقرأ في لافتات الأطباء: أن هذا أخصائي أو (دكتور) في أمراض القلب وضغط الدم، وإذا مرض الواحد منا بمرض ظاهري في القلب فإنه يتخذ مستشاراً له، وإذا حدثت أي تغيرات عليه، فإنه سرعان ما يتصل بالطبيب، فيقول له: البصر فيه ضعف، ويوجد أيضاً ضعف في أطرافك، فتراه يتعاهد بدنه غاية التعاهد، هل هذا له علاقة بالقلب، أم لا؟ نحن في أمس الحاجة أن يكون لكل واحد منا مستشار في أمراض القلب وضغط الهم، أمراض القلب التي تتلفه، نحن في أمس الحاجة لهذا المستشار، كلما شعر المرء بقسوة في قلبه، هل فكر أن يتجه إلى عالم من العلماء فيذكر له هذه القسوة مثل ما كان يفعله العلماء الكبار.
روى أبو العلي القشيري محمد بن سعيد الحراني، في تاريخ الرقة، في ترجمة ميمون بن مهران، وميمون هذا كان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
شعر ميمون بن مهران بقسوة في قلبه، وكان قد تقاعد، فقال لابنه عمرو: يا بني! خذ بيدي وانطلق بنا إلى الحسن، قال عمرو: فأخذت بيد أبي أقوده إلى الحسن البصري، قال: فاعترضنا جدول ماء -قناة- فلم يستطع الشيخ أن يعبرها، فجعلت نفسي قنطرة عليها فمر من فوق ظهري، ثم انطلقت به أقوده، فلما وصلنا إلى بيت الحسن، وطرقنا الباب خرجت الجارية، فقالت: من؟ قال لها: ميمون بن مهران، فقالت له الجارية: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء، فبكى ميمون، وعلا نحيبه، فسمع الحسن بكاءه فخرج، فلما رآه اعتنقا فقال ميمون للحسن البصري: يا أبا سعيد: إني آنست من قلبي غلظة، فاستلم لي -استلم لي: يعني: قل لي شيئاً يلينه أو قل لي شيئاً أصمت له وتزول القسوة التي أشعر بها.
فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، فأغشي على ميمون، فجعل الحسن يتفقد رجله كما تتفقد رجل الشاة المذبوحة، يظن أنه مات، وبعد مدةٍ أفاق، فقالت الجارية لهما: اخرجا، لقد أزعجتما الشيخ اليوم.
نفهم من كلام الجارية: أن هذه الآيات فتتت كبد الحسن هو الآخر، وبمجرد ما تلاها انهار هو الآخر، وانخرط في بكاء، حتى قالت الجارية: ازعجتماه، اخرجا.
قال عمرو: فلما خرجت بأبي أقوده، قلت له: يا أبي! هذا هو الحسن، قال: نعم يا بني، قال: قلت: كنت أظنه أكبر من ذلك.
قال عمرو: فضرب أبي بيده في صدري، وقال: يا بني! لقد قرأ عليك آيات لو تدبرتها بقلبك لأرسلت لها، لكنه لؤم فيك؟ هذه الآيات لا تغادر سمعك حتى تجرح قلبك: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
كل حيٍ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها السادر قل لي أين ذاك الجبروت كنت مطبوعاً على النطق فما هذا الصموت ليت شعري أخمود ما أراه أم قنوت أين أملاكٌ لهم في كل أفقٍ ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك البيوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القول ولا حي يصوت عمرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت لم تزد عنهم نحوت الدهر إذ حالت بخوت خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعوت إنما الدنيا خيالٌ باطلٌ سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:206 - 207].
في أمثالنا في الدنيا، يقول بعضنا لبعض: (من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته)؛ لأن الله عز وجل خلق فينا التأسي، وكل إنسان يتأسى بغيره.
قالت الخنساء لما قتل أخوها صخر: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي أي: إنما كانت تسلي النفس عنه بالتأسي، فكلما رأت رجلاً يبكي أو امرأة تبكي على ميت هانت عليها المصيبة.
قال الله عز وجل مخبراً لنا عن هذا الخُلق وأنه لا يكون في الآخرة، فقال تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، لا تتخيل أنك إذا دخلت النار فوجدت رجلاً يعذب بجانبك أن هذا يخفف عنك؟ لا.
هذا كان في الدنيا، إذا رأيت مصيبة غيرك هانت عليك مصيبتك، لكن في الآخرة لا، فإن هذا الخلق يزول، ولا ينفعك أن ترى غيرك يعذب: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]، المتعة: هي جاه أو سلطان أو غير ذلك، فهي لا تنفع المجرم آنذاك: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
الحسن البصري لما ذكر هذه الآيات، فتتت كبد ميمون، والموت ما ذكر في ضيقٍ إلا وسعه، ولا في واسعٍ إلا ضيقه.
جَرِّب: وأنت جالس مع أولادك في جلسة سمر، جرب أن تذكر الموت بينك وبين نفسك، يعكر عليك المتعة.
تذكر الموت وأنت جالس مع أولادك، وأنتم تأكلون وتشربون وتضحكون، أول ما تتذكر أنك تحمل إلى دار البلى وتدفن بجانب ابنك في قبرٍ واحد، وهذا لا يشعر بهذا ولا ذاك يشعر بذاك، وهذا منعم، وهذا معذب، ولا أحد يحمل عن أحد، أول ما تتذكر هذا تنغص عليك الجلسة، ويضيق عليك الواسع، ويحطم عليك الآمال، ذكر الموت في المستقبل، ويتذكر أن غداً سيدفن ويتذكر مصرعه، فعندها يضيق عليه الأمر.
وما ذكر الموت في ضيق إلا وسعه: أي رجل مبتلى بمرض، وصار هذا المرض ملازماً له لسنين طويلة، فهو يعذب ويتألم منه، لكن أول ما يتذكر القبر، ووحدة القبر، وعذاب القبر والسؤال يقول: ما أنا فيه نعمة؛ فيوسع عليه الأمر، ويخفف عليه المرض.
نحن لا نذكر الموت في بيوتنا، فالرجل منا إذا قال لامرأته: إذا أنا مت تقول: لا تكمل الله يطول عمرك، يطول عمره إلى متى؟ دعيه يوصي، أقول: إذا أنا مت، افعلي كذا وكذا ولا تفعلي كذا وكذا.
فقد أصبح ذكر الموت في بيوتنا غريباً، لا نكاد نذكر الموت أبداً، كأننا لا نعد له، وإذا ذكر الرجل الموت، يقولون: يوم نكد، الله المستعان عليه، ضيع علينا المتعة.
قابل رجلٌ الإمام أحمد رحمه الله فقال له: أطال الله في عمرك، فقال له: سألت الله في آجالٍ مضروبة.
أي: سألت الله في أجلٍ مضروب مقسوم.(6/2)
مادة حياة القلب: الوحي والمحن
إن مادة حياة القلب في اثنتين: في الوحي: كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، -فحياتك في الوحي قرآناً وسنة- {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، هذه مادة الحياة الأولى.
ومادة حياته الثانية: المحن: تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف؛ وبهذا يحصل إشكال يواجه كثيراً من الناس وهو: لماذا جعل الله البلاء قرين الأنبياء وأتباع الأنبياء؟ لماذا لا يمكّن الله لأنبيائه، ويترك السوقة والرعاع من الناس يتطاولون عليهم ويعذبونهم؟ لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ موسى عليه السلام أكثر الأنبياء تعرضاً للخوف، من حين ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام.
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، لماذا لا يؤمن الله عز وجل وليه وكليمه.
وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يتطاول عليه أبو جهل وأبو لهب، وسفهاء قريش، لماذا لا يمكن له؟ لأن العبد يوزن عند الله بقلبه، فلأن يبتليك في بدنك حتى يستقيم لك قلبك، أفضل من أن يعافيك في بدنك ويضعف قلبك.
إذاً حياة القلب في المحن، فالإنسان الممتحن المبتلى من أقوى الناس قلباً، وأضعف الناس قلوباً هم أهل الترف.
لماذا صاحب الترف خائف دائماً؟ لأنه سينتقل إلى أقل مما هو فيه، وربنا سبحانه وتعالى: قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، بعض الناس استشكلوا ظاهر الآية، فقالوا: كيف يأمر الله بالفسق حيث قال: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا)؟! فقال العلماء: الآية لها معان: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28].
أول هذه المعاني للآية: أن الآية فيها أمر، أمرنا مترفيها: يعني: بالطاعة: فبدلوا.
المعنى الآخر والأقوى في الآية: أن (أمرنا) بمعنى (كثرنا)، وهذا المعنى وارد في كثير من الأحاديث، مثل الحديث الذي رواه البخاري في مطلع صحيحه، من حديث ابن عباس (لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل، وأراد أن يؤلب هرقل على أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ممن هاجر إلى هرقل.
قال أبو سفيان: فسألني هرقل عدة مسائل: المهم بعدما أجاب أبو سفيان على أسئلة هرقل، وعلت الأصوات في الجلسة، قال أبو سفيان: لقد أَمِر أمرُ ابن أبي كبشة) أمِر: يعني: فشا وذاع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المال تركةٌ مأمورة)، مأمورة: يعني: كثيرة النتاج.
فبالله عليك: تصور منطقة من المناطق كل أهلها أو غالبهم مترفون فسقة -مترف وفاسق في نفس الوقت- ما الذي تتصوره؟ يطلقون العنان لشهواتهم! لذلك العلماء لما تنازعوا: أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ انفصل محققوهم: على أن الغني الشاكر أفضل، قالوا: لأن الصبر في أهل الفقر كثير، والشكر في أهل الغنى قليل، قلّ مَا تجد غنياً شاكراً يقوم بحق الله في المال، والمال وسيلة الطغيان، فقالوا: إن الغني الشاكر أفضل، لا يقوم بشكر المال إلا أفذاذ من الرجال.
حياة القلب في المحن، فإذا أصبت بمصيبة فلا تخف ولا تجزع؛ فإن الله عز وجل أراد سلامة قلبك، وفي نفس الوقت، يجب أن تسد على قلبك باب الهوى، كل منفذٍ إلى القلب سده، منافذ القلب: الحواس: الذوق، والشم، والسمع، والنظر، فالجوارح لها طريق إلى القلب، وهي تتفاوت في ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يدخل الناس النار: الأجوفان: الفم والفرج)، اعلم أن مدة بقاء الطعام في فمك ثلاثون ثانية فقط، وتنتهي لذة الطعام، ولكن تجد كثيراً من الناس يحرص في هذه الدنيا على كثرة الأكل.
والمثل المشهور: (نحن نعيش لنأكل)، فجعل حياته كلها مطعماً، يشتغل فترة، ويشتغل فترتين وثلاثاً لماذا؟ ليوفر المال الذي يشتري به ما يريد من الطعام، فهذا همه.
هذه اللذة والمتعة التي ضيعت عليك قلبك هي لذة نصف دقيقة وهي مدة بقاء الطعام في فمك، فلو أنك ألغيت هذا الباب استرحت ولربما رضيت بالفتات.(6/3)
نماذج من صبر العلماء على المحن وخوفهم من فساد قلوبهم
لما ابتلي الإمام أحمد في المحنة المشهورة، وجلد ثلاثمائة جلدة في يوم الإثنين وهو صائم، دخل عليه عمه، فقال: يا أحمد قلها- أي: أجبهم إلى ما يريدون- يعجبك المكان الذي تنام فيه، وهذا الطعام الدون الذي تأكله.
فقال له يا عم: إنما هو طعامٌ دون طعام، وكساءٌ دون كساء، وإني عرضت نفسي على السيف وعلى النار، فلم أتحمل النار.
وظل الإمام أحمد سنتين والقيد في رجله، إذا أراد أن يصلي خلع القيد وصلى، وبعدما ينتهي يضع القيد في رجله، امتثالاً للأمر.
إنما هو طعام دون طعام وكساءٌ دون كساء، وإنما هو وقت معدود معلوم، فالدنيا خطوة رجل، هذا المسجد الذي نصلي فيه الآن كان مقبرةً للذين سبقونا، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]، (كفاتاً): مأخوذ من الكفت وهو الجمع، وكما تقول العوام: (الكفتة) وهي التي تجمع من أخلاط وتفرم مع بعضها، أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، يعني: جمعناهم على ظهرها، ثم جمعناهم في بطنها.
خفف الوطء، فما أظن أديم هذه الأرض إلا من هذه الأجساد.
ما من مكانٍ في الأرض إلا كان قبراً لرجلٍ سبقنا، إذاً: هي خطوة، ثم تلقى الله عز وجل.
سفيان الثوري مات هارباً: أرادوا أن يولوه القضاء فهرب؛ لأن القضاء تبعاته كبيرة، فخاف أن يأتي الله عز وجل بمظالم العباد، فبحث الخليفة عنه فلم يجده، ومات سفيان الثوري رحمه الله في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي، وكان معه في لحظة الموت تلميذه الآخر: يحيى بن سعيد القطان، كان سفيان الثوري نائماً واضعاً رأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وفجأة انخرط سفيان في بكاءٍ عميق، فقال له: يحيى بن سعيد: ما يبكيك يا أبا عبد الله، ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ الذي أفنيت حياتك فيه ولأجله، فأنت قادم عليه، وتخرج من الضيق إلى السعة، وأنت ممن قضى حياته في عبادة ربه، أتخشى ذنوبك؟ فأخذ سفيان الثوري تبنة -قشة من على الأرض- وقال: لذنوبي أهون عليّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة، ما أخشى ذنبي، إنما أخشى سوء الخاتمة.
سفيان العابد الزاهد الورع الكبير، يقول: أخشى سوء الخاتمة، لا يزال المرء يذكر الموت والبلى فيرق قلبه، فينتفع به، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)، فكل طريق يفيد القلب يفسده سده، حتى تنتفع بالوحي؛ فإن صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، إما وحيٌ وإما هوى، صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، وإذا أردت أن تنتفع فسد كل طريق يفسد القلب، سواء عن طريق الذوق أو طريق الشم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأةٍ خرجت مستعطرة فشموا ريحها فهي زانية، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، كم أردى هذا الشم من رجال، فلو أنه أغلق هذا الباب على نفسه استراح قلبه من عناء التصور، واعلم أن السمع والنظر هما أخطر طريقين إلى القلب قاطبةً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(6/4)
مفسدات القلب وطرق الوقاية منها
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أخطر طريقين إلى القلب يفسدانه هما: السمع، والنظر، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أنجشة، وكان يحدو الإبل، وكان يركب بعض هذه الإبل بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أنجشة حسن الصوت جداً، ومعروف أن الإبل إذا حدوت خلفها جدت في السير، فقال عليه الصلاة والسلام: (رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير)، القوارير في هذا الحديث هن النساء، والقارورة أرق الزجاج وأخفه، وأسرعه كسراً، (رفقاً بالقوارير).
وفي مستدرك الحاكم، بيان لمعنى هذا الأمر: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة هذا أحد المعنيين في الحديث، خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة، وهن زوجاته وأمهات المؤمنين، العفيفات المؤمنات، خاف عليهن، فكيف يترك الرجل امرأته وبناته يستمعن إلى الخنا في ألفاظ الغناء، وهو يأمن عليهن؟! والله لقد رأيت عشرات بل مئات المشاكل كانت سبباً في انهدام بيوت بأكملها، والمشكلة هي الاستماع إلى المحرمات.
رجلٌ له مركز مرموق، جاءني يوماً وقال: إن امرأتي تطلب الطلاق، وأنا متزوجها منذُ خمسة وعشرين سنة، وأولادي في الجامعة، وله منصب عالٍ.
يعني: أن طلبها الطلاق منه يهز منصبه؛ لأنه يعتمد على سمعته في هذا المنصب، وهي مصرة على الطلاق.
لماذا يا أخي؟ قال: بدون أي أسباب.
واستمرت المشاكل بينهم فترة ستة أشهر، والمرأة كل يوم تهينه وتسبه حتى ترغمه على الطلاق، وهو صابر محتمل لأجل الأولاد ولأجل السمعة، ولم يجد بداً في النهاية من تطليقها، وبعد انقضاء العدة بيوم واحد تزوجت المرأة، فجاء الرجل وقد تغير وجهه.
فقال: تصور أن المرأة تزوجت، وهل تدري بمن؟ قال: بأعز أصدقائي، تعرف أن صديقي هذا كنت وأنا غائب آذن له في دخول البيت؛ فخانني، كنت أوصي امرأتي وأقول لها: لو جاء فلان: أدخليه في (الصالون) حتى آتي، فكان يخلو بها الساعة والثنتين والثلاث والأربع والله أعلم ماذا يجري؟! وكما يقولون: يذهب الشوق ويبقى الحب والاحترام.
يعني: أن البعض أول حياته الزوجية يكون مقبلاً على امرأته، يسمعها كلاماً جميلاً، وبعد ذلك يبدأ الكلام الجميل يذهب، والرجل ليس كلما دخل على امرأته قال لها: الدنيا من غيرك لا تساوي شيئاً، كأنه لا يعرف إلا هذا الكلام، لقد كان يقول هذا الكلام في أول شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين وانتهى، ويبقى الاحترام والمودة والمعاملة بالمعروف.
ليعلم أن المرأة محتاجة لهذا الكلام، فبسبب خلو الحياة الزوجية من الثناء المتبادل بينهما تجد الرجل يقول: والله أنا تعبت مع زوجتي، وأبحث عن الراحة والسعادة، وهي تقول: والله وأنا تعبت مع زوجي، ولم يعد يقول لي الكلام الجميل الذي كان يقوله لي وبدأ الرجل بعد خمس وعشرين سنة مع زوجته الأولى يبحث عن أخرى.
يعني: أن المرأة الأولى صار سنها ثلاثة وخمسين سنة، ما بقي من الكرم إلا الحطب.
الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قارورة، يعني: أن المرأة يستطيع أي رجل يحسن الكلام أن يستميلها، ولو كان زوجها من أفضل الأزواج، فهي معرضةً لذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير)، يخشى على قلوب زوجاته العفيفات أمهات المؤمنين، أن تتأثر بهذا الحداء الجميل الذي ليس فيه خناً ولا فجور ولا فيه شرك، لا يحلف بعينيها ولا يحلف بحياتها، وإنما هو كلام جميل موزون، ومع ذلك خشي عليهن، وخشي على قلوبهن بأن تنصدع بهذا الصوت الجميل، فهذا خطير جداً، أغلق هذا الطريق عن القلب تستريح كثيراً.
ثم النظر وهو أخطر الطرق كلها، فكم أردى من قتيل؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الدارمي في سننه، قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأتِ أهله، فإن معها مثل الذي معها)، خَلْقٌ واحد، إنما هو الحلال والحرام، والعلماء لهم قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)، النظر ليس ممنوعاً لذاته، إنما هو ممنوع لما يجلبه من الفاحشة بعد ذلك، فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم حتى لا يقعوا في الزنا.
إذاً: منع النظر إلى النساء سداً لذريعة الزنا.
أما لو وجد في النظر مصلحة راجحة كالنظر إلى المخطوبة، كرجل أراد أن يخطب امرأة أجنبية، فالأصل أنه لا يجوز له النظر إلى المرأة الأجنبية، لكنه يريد أن يحطب ويختار شريكةً لحياته، فيقال له: النظر الذي منعناه سداً لذريعة الزنا أبحناه لك في هذا الموضع؛ تحقيقاً للمصلحة الراجحة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمغيرة بن شعبة لما قال له: (إني خطبت امرأة من الأنصار، قال: هل نظرت إليها؟ قال: لا.
قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)، يؤدم: أي: يدوم الود.
وفي الرواية الأخرى قال: (فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً)، شيئاً: يعني صغراً، كانت عيون نساء الأنصار ضيقة، فلعلها لا تعجب المغيرة، فلماذا يتزوجها بدون نظر وبعد ذلك لا تعجبه فيطلقها، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن ننظر إلى المرأة الأجنبية للمصلحة الراجحة، أما فيما عدا ذلك فسد علينا الباب وحذرنا منه.
قال صلى الله عليه وسلم: (النظرة الأولى لك) أي: النظرة الأولى ليست ربع ساعة، يبقى ينظر ويقول: أنا في النظرة الأولى، لا.
النظرة الأولى ورد تفسيرها في الحديث الآخر، التي هي نظرة الفجأة، رجل يمشي رفع رأسه فوجد امرأة؛ فإنه يغض طرفه، هذه هي النظرة الأولى التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (فإن النظرة الأولى لك والثانية عليك)، فإذا رفع الرجل طرفه مرةً أخرى إلى المرأة كتبت عليه، وكل هذا لسلامة القلب؛ لأن هذا كله يفسد القلب، ويجعل كل جزء منه في كل وادٍ.
فالله اللهَ في قلوبكم؛ فإن العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، وصدق ابن القيم رحمه الله، لما قال: (يأتي الرجل البدين السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ويأت الرجل النحيف تكون ساقاه أثقل في الميزان من أحد؛ لأن الله يزن العباد بقلوبهم).
وأقرب مثال إلينا: ابن مسعود رضي الله عنه: كان من نحافته لو هبت ريح قوية تكفأه على ظهره، ولما صعد على شجرةٍ ذات يومٍ فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضحككم منه؟ قالوا: يا رسول الله! يضحكنا دقة ساقية، -رجلاه نحيفتان جداً- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، إنما هذا لسلامة قلب ابن مسعود.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا قلوبنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.(6/5)
حاجتنا إلى طلب العلم
طلب العلم فريضة على كل مسلم، وبالعلم يعبد الله على بينة وبصيرة ولا يشرك به شيئاً، وفضل طلبه عظيم كما اشتهر في الأحاديث والآثار.
ولكي يؤتي الطلب ثمرته؛ لابد من التزام الطالب آداب المتعلم مع العالم ومع إخوانه المتعلمين كذلك.
ثم لابد له من الإخلاص في الطلب، وعدم التهاون في السؤال عما أشكل عليه، وهناك أمر يعين على التأدب بآداب العلماء وطلاب العلم: ألا وهو قراءة سير العلماء وطلاب العلم من السلف الصالح: كالشافعي وأحمد وغيرهما.(7/1)
شرح حديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
روى الإمام الترمذي في سننه -وصححه- من حديث زر بن حبيش رحمه الله قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه، فلما رآني قال: ما جاء بك يا زر؟ قلت: ابتغاء العلم، فقال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب، فقال له: إنه قد حك في صدري شيءٌُ في المسح على الخفين، وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل عندك عنه شيء؟ قال: نعم، أمرنا إذا كنا سفْراً -أي: مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم، فقلت له: هل تذكر في الهوى شيئاً؟ قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرٍ، إذ ناداه أعرابيٌ بصوتٍ له جهوريٍ: يا محمد، فقلت له: ويحك، اغضض من صوتك، أولم تُنْه عن هذا؟ فقال: والله لا أغضض، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوٍ من صوته: هاؤم، فقال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب، فما زال يحدثنا حتى أخبرنا أن لله تبارك وتعالى باباً لا يغلقُ حتى تطلع الشمس من مغربها، عرضه سبعون -أو قال: أربعون ذراعاً- جعله الله تبارك وتعالى للتوبة).(7/2)
حسن السؤال نصف العلم
فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، فقال له زر: (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين)، وفي هذا دليلٌ على مشروعية أن يسأل المرء إذا حاك في صدره شيء، أن يسأل أهل العلم، ولا يسأل أي إنسان له سمت العالم، إنما يسأل أهل العلم فقصة حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما أراد أن يتوب، قال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب فلما سأله: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً؛ ألي توبة؟ قال له: لا، فقتله، وفي بعض طرق الحديث قال: (فدلوه على راهب عابد) ومن أخطر ما يقع فيه اللبس عدم التفريق بين العالم وشبيه العالم، فكثير من الناس لا يفرقون بين العالم الحق وبين من يتزيا بزي العالم؛ فيحدث الخلط، فهذا شد رحاله إلى الصحابي الجليل وسأله سؤالاً، وهذا السؤال دل على فقه زر بن حبيش حيث قال فيه: (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين) قال له: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟) نِعمَ السؤال! ما قال له: ما رأيك في هذا الموضوع؟ أو أنت ما ترى من فتوى؟ وكما قال القائل: ومن طلب البحر استقل السواقيا.
مباشرةً رفع المسألة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (هل عندك عنه شيءٌ؟) وكما قيل قبل ذلك: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا أحسن الرجل السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، وعادةً تجد أكثر الفتاوى التي تخرج من العلماء الأعلام لا توافق الفتوى الصحيحة، والسبب في ذلك أن السؤال لم يكن صحيحاً.
ونحن نقف على فتاوى لبعض العلماء، فنتعجب كيف أفتوا بذلك، لكننا نقف على جواب العالم، ولا نقف على السؤال الذي وُجِّه إليه، وعادةً يكون في الجواب من الخلل بقدر ما يكون في السؤال من الخلل؛ لأن الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت.
وقديماً ذكروا أن صبياً خرج إلى الغابة يصطاد فبينما هو يصطاد إذ صرخ، فلما صرخ رجع له صدى الصراخ، فظن أن ولداً آخر في الغابة يغيظه، فقال له: من أنت؟ فرجع له الصوت: من أنت؟ قال: قل لي: من أنت؟ فرجع الصدى: قل لي: من أنت؟ فأخذ غصناً وجعل يبحث عن هذا الولد الذي يحاكي صوته ليضربه، فلما تعب فقال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له الصوت: إنك حقاً قبيح، فزاد في غيظه، فجعل يبحث عن هذا الولد، فلما يئس أن يجده رجع إلى أمه كسيف البال حزيناً، فلما رأته حزيناً قالت: ما لك يا بني؟ فحكى لها القصة، فتبسمت الأم، وقالت: يا بني إنه لم يكن شيءٌ مما ذكرت، ذلك صدى صوتك، ولو قلت حسناً لسمعت حسناً! وتعني بذلك حين قال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له صدى الصوت: إنك حقاً قبيح، فهو لو قال كلمة جيدة، لرجعت له الكلمة الجيدة أيضاً.
فكذلك الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت تماماً، فإذا خرج السؤال سيئاً خرج الجواب على مقتضى سوء السؤال.
أما زر بن حبيش فقد سأل سؤالاً يدل على علمه، وهو أنه يرفع السؤال بأن يطلب دليلاً: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟)، وكذلك كان جميع علمائنا بحمد الله تبارك وتعالى، كما أنهم ويتبرءون من مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياءً وأمواتاً.(7/3)
الاهتمام بالنفسيات من سمات العلماء
هذا الحديث يشتمل على جُملٍ من العلم، أول هذه الجمل: أن الصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم من فقه بعلم النفس ما لم يكن عند أي جيلٍ جاء بعدهم، والمقصود بعلم النفس هو تنزيل الكلام على مقتضى حال المخاطب، هذا هو فقه النفس أن تضع الكلمة في مكانها، سواء كانت بشدةٍ أو كانت بلطف، كما قال المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى بمعنى أ، الإنسان الرقيق إذا عاملته بالسيف فهذا مضر، لكن إذا وضعت السيف في مكانه، فحسن وجميل؛ برغم أنه شديد، والشدة في موضعها هي اللطف، كما أن اللطف في موقعه هو كذلك، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقهاء، يظهر ذلك من سؤال صفوان بن عسال المرادي -وهو أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام- لما رأى زر بن حبيش جاء وقد قطع هذه المسافات لأجل أن يسأل مسألةً، قال: ما جاء بك يا زر؟ قال: ابتغاء العلم، قال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب).
فهذا هو فقه النفس، أن بشره بالجائزة، فطالب العلم الذي يقطع المسافات الطويلة في سبيل طلب العلم، حين يعلم أن الملائكة تضع أجنحتها له رضاً بما يطلب؛ يهون عليه كل شيء.
الله تبارك وتعالى جبل الناس على أن يعملوا لأجر، لذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، تصور الحوار الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المعارك وبين رجل كان يأكل تمرات قال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فرمى بالتمرات وقال: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات)؛ لأن الذي يفصل بينه وبين الجنة هو أن يموت، فاستكثر هذه الدقائق التي يكمل فيها التمر، ورمى بها وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم قاتل حتى قتل.
لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سأله هذا الرجل وقال له: مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: ليس لك شيء؛ هل كان يرمي بالتمرات ويستعجل الموت؟
الجواب
لا، إنما لأن هناك نتيجة وجائزة، رمى بهذه التمرات.
كما جاء رجلٌ إلى عبد الله بن الزبير أيام حربه مع الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق، فجاء رجل كان مشهوراً بالقتال، فقال لـ عبد الله بن الزبير: أنا فارسٌ مغوار، وصنعت كذا وكذا، وجعل يعدد له أمجاده، ما تعطيني إذا قاتلت معك الحجاج؟ فقال: أعطيك كذا وكذا من الأموال، قال: أنقدني، فقال له: عندما نرجع، فتولى عنه الرجل وقال: أُراك تأخذ روحي نقداً، وتعطيني دراهمك نسيئة! فالله عز وجل جبل الناس على أن يعملوا لشيءٍ لأجر، ولذلك جعل الجنة وجعل النار، وجعل يبشر المتقين بالجنان، ويبشر الكافرين بالنار، كل هذا لأنه جبل الناس على أن يعملوا لشيء، وهذا البحث يظهر بشيءٍِ من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).
(فسيلة) أي: نخلة.
لماذا قال: (فليغرسها)؟ لأن الإنسان لكونه لا يعمل إلا لأجل هدفٍ، فإنه لا يغرس النخلة عادةً إلا ليأكل منها من يأتي من بعده من أولاده وأحفاده، فلما تقوم الساعة لن يأكل منها أحدٌ، فلربما تجاوب الرجل مع ما هو مجبول عليه، فيرمي هذه الفسيلة، ويقول لنفسه: من الذي ينتفع بها؟ فيرميها، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال له: خالف ما جبلت عليه واغرسها.
وأضرب مثلاً يقرب المقصود من الحديث: أعرف طبيباً غنياً، وكان عنده عيادتان، وعنده عدة عمارات، وتزوج بابنة خالته وكان شديد الحب لها، والله تبارك وتعالى كأنه قضى عليها بالعقم، وهو يريد الولد منها، فدار تقريباً في أكثر دول العالم المتقدمة في الطب، رجاء أن يرزقه الله تبارك وتعالى الولد منها، وفي آخر مرة ذهب بها إلى النمسا، رجع وقد قضي على آخر أملٍ له في الإنجاب، فلما رجع جعل يبيع العمارات، وباع عيادة من عيادتيه فلما سئل: لماذا تفعل ذلك؟ قال: ولمن أترك كل هذا؟ هو لو علم أنه عقيم من أول ما تزوج، أو امرأته عقيم من أول ما تزوج، ما كان عنده ذاك الأمل في هذا البنيان ولا هذه الاستزادة من المال، لكنه كان يؤمِّل يقول: لعل الله تبارك وتعالى يرزقني ويهب لي مولوداً، فلما علم يقيناً أنه لا أمل في ذلك، صار يبيع كل هذا، وصار يستمتع بالمال ويقول: لمن أتركه؟ إذاً: الإنسان مجبول على حب المكافأة، فـ صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه -وهو فقيه عالم بالنفس- بمجرد أن رأى زر بن حبيش قد قطع كل هذه المسافات حتى يسأل عن مسألةٍ، أعطاه الجائزة الذي تهون عليه كل صعبٍ لقيه في سبيل هذه المسألة.(7/4)
تبرؤ الأئمة الأربعة من مخالفة الحديث الشريف
وما أجمل ما ذكره بعض المعاصرين -وقد توفي منذُ نحو أربعين سنة- في أرجوزة له لطيفة اسمها: أرجوزة المهدي، أو أرجوزة الهدى، فذكر الكلام المنقول عن علماء المسلمين الأربعة في تبرئهم من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرضا على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتم قولي مخالفاً لما رويتم من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر مقالات الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم! بل قال في هذه الأرجوزة -برغم أنه حنفي المذهب-: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب يعني: وصلت المسألة لدرجة الاعتقاد أن المسيح عليه السلام حين ينزل سوف يحكم بالمذهب الحنفي، بناءً على خرافة أن المسيح عندما ينزل لا يجد شيئاً من الإسلام إلا فقه أبي حنيفة رحمه الله، وهذا موجود في صندوق في نهر جيحون، ثم يذهب ليبحث عن هذا الصندوق حتى يتسنى له أن يحكم بالإسلام.
كم من سنوات التخلف التي عاناها المسلمون بسبب عدم وقوفهم عند النص الشرعي، لو أننا تبنينا هذا السؤال الذي سأله زر بن حبيش رحمه الله لـ صفوان بن عسال المرادي، لقل الخلل، لو أنا نقول: ماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسألة الفلانية؟ بدلاً من أن نقول: ما فتوى العالم الفلاني في المسألة الفلانية؟ لقل الكلام، ولسقطت كثير من الأقوال التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة.
لقد أحسن زر بن حبيش جد الإحسان بذاك بقوله لما قال في سؤاله: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل عندك عنه شيء؟) أي: في المسح على الخفين، فقال له: (أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم إذا كنا سفْراً -أو مسافرين- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، لكن من غائطٍ أو بولٍ أو نوم) أي: لكن لا ننزع الخف من غائط أو بولٍ أو نوم.(7/5)
طالب العلم يتحمل التعب والهوان في طلب العلم
وطالب العلم إذا ظفر بعالم فليستكثر، طالب العلم الذكي إذا ظفر بعالم يستكثر من السؤال، فما بالك إذا كان هذا العالم هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبة العلم كانوا يتجرعون الهوان أحياناً في استفادة مسألة من المشايخ، فقطعوا مسافات طويلة جداً وقد لا يظفرون.
جاء رجلٌ إلى الأعمش رحمه الله وقال: يا أبا محمد أنا رجلٌ فقير اكتريت حماراً بدينار لأسألك مسألة، فقال له الأعمش: اكترِ حماراً بدينارٍ آخر وارجع، وأبى أن يجيبه.
وجاء رجلٌ إلى يحيى بن معين وقال له: يا أبا زكريا أنا مستعجل، أنا ذاهبٌ إلى بلدي، حدثني حديثاً أذكرك به.
قال: اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل، وأبى أن يعطيه.
بل اشتُهر عن الأعمش رحمه الله أنه كان شديداً جداً على الطلبة، لدرجة أنه كما قال الخطيب البغدادي في "كشف أصحاب الحديث" روي أن الأعمش اشترى له كلباً، مجرد أن يسمع وقع أقدام أصحاب الحديث اقتربوا من الدار يطلق عليهم الكلب، انظر حين يجري أحد كـ شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري، هرباً من الكلب، ثم إذا ما الكلب رجع، رجعوا مرةً أخرى إلى بيت الأعمش، لا يملون أبداً، قال الخطيب في الرواية: حتى ذهبوا إليه ذات يوم فلم يخرج إليهم، فدخلوا الدار فلما رآهم الأعمش بكى، قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! فقال لهم: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (الذي هو الكلب) وجاءه رجل مرة من سفر، وقال له: يا أبا محمد حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه ولصقه في الحائط، وقال: هذا إسناده.
وكان إذا حدّث رحمه الله لا يحب أحداً أن يجلس بجواره، فجاء رجلٌ من الغرباء، ولا يعرف طبع الأعمش، فجلس بجواره، فأحس به الأعمش وكان كفيفاً، فلما أحس به، صار يقول: حدثنا ويبصق عليه، فلان ويبصق عليه، قال: حدثنا ويبصق عليه، وهم جميعاً يحذرونه أن يتكلم؛ لأنه لو تكلم لقطع الأعمش مجلس التحديث، فكان طلاب العلم يلقون الهوان، والمشايخ بطبيعة الحال ما كان قصدهم الإذلال لمجرد الإذلال، بل كانوا يقصدون كسر الكبرياء والشموخ الذي عند التلميذ، لأن التلميذ إذا جاء إلى الأستاذ وهو يستحضر نسبه ويستحضر أسرته فإنه لا يفلِح أبداً، بل يجب أن يتزيا بزي التلميذ طالما أنه تلميذ.(7/6)
تواضع الإمام الشافعي وإجلاله لأهل العلم
الإمام الشافعي رحمه الله، كان بلا شك عند جميع العلماء أفضل من محمد بن الحسن الشيباني، فـ محمد بن الحسن الشيباني ليس مجتهداً مطلقاً، حيث كان ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، أما الشافعي فقد كان مجتهداً مطلقاً، ومع ذلك لمّا أراد الشافعي رحمه الله أن يأخذ فقه أهل العراق ذهب إلى محمد بن الحسن الشيباني، وجلس أمامه بسمت تلميذ، حتى أن الشافعي -وقد كان يخالف كثيراً من فتاوى محمد بن الحسن - من أدبه أنه لم يبادر بالاعتراض على الأستاذ، لكن إذا قام محمد بن الحسن الشيباني ناظر التلاميذ، وأظهر لهم أنه أخطأ في المسألة؛ لأن فتواه مخالفة للحديث، ويسوق الأسانيد المتكاثرة بأن المسألة خطأ ومخالفة للأثر، فكانوا لا يجدون جواباً، وكان الشافعي يظهر عليهم كل مرة، فشكوا ذلك إلى محمد بن الحسن فعندها قال له: محمد بن الحسن: إنه بلغني أنك تعترض، وأنك قلت كذا وكذا، فناظرني، فقال له الإمام الشافعي: إني أجلُّك عن المناظرة! لاحظ الأدب! قد يكون التلميذ في يوم من الأيام أعلم من شيخه أو أستاذه، لكن لا يحمله ذلك على أن يهضم حق شيخه الذي فتح ذهنه على طلب العلم، مهما كان حجم أستاذه ضئيلاً، فالنبلاء يحفظون الجميل، فقال له: لابد لك من ذلك، فناظره الشافعي فظهر عليه؛ لأن الشافعي كان عنده الاهتمام بالحديث والأثر أكثر من أهل العراق.
ثم تناظروا في الماء المطلق، فقال له الشافعي رحمه الله بعد انتهاء البحث: (إنكم لتقولون في الماء قولاً) انظر لكلام الشافعي، والحقيقة أنه قال كلمة شديدة في محمد بن الحسن الشيباني، ولكنه صاغ الكلمة في أسلوب جميل، تسمعونه فلا تشعرون أنه طعن فيه، قال له: (إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: تخاطأ، فقال بقولكم، لكان قد أحسن التخاطؤ).
لاحظ، قد تظن أن الكلمة رقيقة، وهي في منتهى الشدة، ملخصها أنه قال له: إنكم لتقولون في الماء قولاً، لو قيل لعاقلٍ: ادَّعِ الجنون، فمثّل دور المجنون، لما فعل أحسن من قولكم في الماء، لاحظ فإنه كلام شديد جداً.
وكان محمد بن الحسن الشيباني سميناً بديناً، فكان الشافعي يقول: (ما أفلح سمين قط إلا محمد بن الحسن)، وكان يقول: (إن العلم يُزيل الدهن (لأن المعتاد أن طالب العلم الجيد يكثر من السهر، ومن كثرة استغراقه في الطلب باستمرار يضمر، لكنه مازال محتفظاً بهذا السمن، فمعنى ذلك أنه يأكل جيداً وينام جيداً، وهذا ينافي ما كان عليه العلماء، كما روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: (لا يستطاع العلم براحة الجسد)، وطالب العلم يحتاج إلى قوة أكثر للجسد حتى يتحمل روحه الفتية التي تحرمه النوم.(7/7)
شدة حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
وفي غزوة الخندق أصاب الصحابة جوع كما في الحديث، فذبحوا داجناً، وعجنوا كف طحين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باللحم، فجيء به فبصق فيه وبارك ثم قال: أين عجينكم؟ فجيء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه، وكانوا ألف رجل، وإن البرمة لتغط باللحم كما هي، وإن العجين ليخبزُ كما هو.
الشاهد قول جابر: لقد رأيت شيئاً ما لي عليه صبر، مع أنه أيضاً كان جائعاً، لكن من شدة حبه نفى جوع نفسه لما رأى الجوع في وجه الرسول عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله قال: دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فقال ابنه: يا أبت! ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكذا وكذا؟ قال: فالتفت إلينا وقال: (لقد رأيتني على أطباقٍ ثلاث) أي: مررت في حياتي بثلاث مراحل: (لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن متُّ على هذا الحال لكنت من أهل النار، فلما أسلمت جئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ فقلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال: فوالله ما كان أحدٌ أحب إلي قط من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووالله ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له، ولئن سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ذلك، لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فلو متُ على هذا الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة) من كثرة هيبة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله لم يملأ عينيه من النظر إلى وجهه.
فلذلك حين سمع الصحابة رضوان الله عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، طاروا فرحاً، لأنه المحبوب الأعظم في البشر، فما كانوا يحبون أحداً أكثر منه، ولذلك أنس بن مالك قال كما سمعتم: فما فرحنا بعد إسلامنا كفرحنا بهذا؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فآفة الآفات عندنا أننا لا نعظم النبي عليه الصلاة والسلام التعظيم الواجب، دعك من أصحاب الدعاوى، فأسهل شيءٍ أن يدعي المرء أنه يحب الرسول عليه الصلاة والسلام.
مرةً جمعني مجلس برجل كان يدخن، فقلت: يا أخي أما تعلم أن التدخين حرام؟ فأخذ نفساً عميقاً وأخرجه من خياشيمه، ثم قال لي: يعني ليس مكروهاً فقط؟ فقلت له: هب أنه مكروه ما يحملك على أن ترتكب مكروهاً؟ ثم بدأ يناقش وهو يدخن دون احترام، بدلاً من أن يطفئ السيجارة حتى يقتنع أحدنا بكلام الآخر أو على الأقل احتراماً لمن يخاطبه.
وفي الحقيقة فإنا نجد هذه الأفعال كثيراً؛ لأننا لم نوقر النبي عليه الصلاة والسلام ذاك التوقير الواجب الذي كان ظاهرةً ملفتة في جيل الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
نسألُ الله أن يجعلنا وإياكم من محبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يرزقنا حبه، وحب من يحبه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، واعذروني إذا كنت قد أطلت عليكم، فإن الكلام في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ذو شجون.(7/8)
الأسئلة(7/9)
حكم تكفير من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة
السؤال
هل لابد من إقامة الحجة على من أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك الذي يصدر منه كفرٌ بواح؟
الجواب
المعلوم من الدين بالضرورة لا نحتاج إلى إظهار الحجة عليه، لأن معنى (معلوم من الدين بالضرورة) أنه ليس هناك جهلٌ به.
نحن مثلاً في ديار تنتسب إلى الإسلام، ما هناك أحدٌ قط يجهل أن الصلاة من فرائض الإسلام، هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة.
لكن إقامة الحجة واجبة في المسائل التي لا تعلم من الدين بالضرورة، لأنها قد تخفى مثل مسألة التشبه بالمشركين، قد توجد بعض أشياء يُنازع أن فيها تشبهاً بالمشركين، بسبب جهل المتشبه حيث يقول: لا، لا يوجد دليل على أنها من التشبه، فحينئذٍ نثبت أن هذا من التشبه، ونقيم عليه الحجج، لماذا؟ لخفاء معنى التشبه على هذا الإنسان، فإذا أقمنا الحجة التي يكفر تاركها، وتبين لنا أن هذا الإنسان معاند يريد برأيه أن يطعن في نحر النص؛ فلك أن تحكم عليه بما يناسب الحال.
لكن إذا كان الأمر معلوماً من الدين بالضرورة -وأنا أركِّز على هذه الكلمة (معلوماً من الدين بالضرورة) - فإقامة الحجة ليست بواجبة، بخلاف ما إذا كان خفياً أو يحتاج إلى بحث، فهذا يجب فيه إقامة الحجة قبل التكفير والله أعلم.(7/10)
حكم إقامة الحد من آحاد الناس
السؤال
ما حكم المرتد؟ وهل فعلاً يجوز لغير الحاكم إقامة الحدود؟ يرجى توضيح المسألة، وما هو القول المشهور في ذلك؟ وما تقول في من يقول: إذا سب الرجل النبي صلى الله عليه وسلم أمامي أَقتله، أو إذا سجد لغير الله أَقتله؟
الجواب
بالنسبة لإقامة الحد ونحن نتكلم عن الواقع.
إقامة الحد في الأصل إنما تكون للسلطان ولذي الشوكة أو من ينيبه هذا هو المشهور في كتب أهل العلم، والمسألة مرتبطة بالمصالح والمفاسد، فإذا غاب السلطان، فهناك لفيف من أهل العلم يجوِّزون لأحد الرعية أن يقوم بالحد، بشرط أن لا يترتب عليه مفسدة أعظم من المصلحة الناجمة من إقامة الحد.
وأنا أتصور أن مسألة الكلام في جواز إقامة الحد لآحاد الرعية ليست مربط الفرس، إنما مربط الفرس مسألة تقدير المصالح والمفاسد، كثيرٌ من الذين يرون إقامة الحد لآحاد الرعية لا يقدرون المصالح والمكاسب كما ينبغي.
لكن سنفترض مجرد افتراض: لو أن آحاد الرعية أقام الحد على رجلٍ بعد إقامة الحجة عليه، وهذا الرجل أصر على ذلك، فاستطاع أن يقيم عليه الحد بغير حدوث مضرةٍ أعظم من إقامة الحدِ جاز له، لكن الواقع يقول: إن إقامة الحد على أي إنسان في ظل الظروف الحالية التي نحن نمر بها يكون فيه من المفسدة ما هو أعظم من قتل هذا الإنسان، أو من جلده أو نحو ذلك.
لذلك أنا في اعتقادي وقناعتي بما أراه من الواقع الآن أن إقامة الحد لآحاد الرعية فتح باب لشر عظيم، لذلك إذا غلبت المفسدة على المصلحة يجب أن يتوقف.
بالنسبة للسؤال الآخر: إذا سب رجلٌ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الذي عليه جماهير العلماء أنه يقتل ولو تاب، وتفصيل هذه المسألة في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول".
وهذه المسألة تختلف عن مسألة السجود لغير الله، قد يجهل الإنسان أن السجود لغير الله تبارك وتعالى من الكفر، كما حدث لـ معاذ رضي الله عنه، حين جاء فسجد بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: ما هذا؟ قال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن يسجد لك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).
فمسألة السجود لغير الله تختلف عن مسألة سب الرسول عليه الصلاة والسلام.
هناك ثلاثة أشياء يكفر مرتكبها ولا يعذر فيها بالجهل: سب الله تبارك وتعالى، وسب دين الله عز وجل، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن هذه الثلاثة: توقير الله عز وجل، وتوقير الرسول عليه الصلاة والسلام، وتوقير الدين؛ لا تحتاج إلى علم؛ فنقول: إنه جاهل؛ فنحتاج أن نعلمه أن الله عز وجل لا يجوز له سبه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سب رجلٌ النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا يقتل ولو تاب؛ بخلاف الرجل الذي سجد للصنم، أو سجد للقلم فقيل له: إن هذا شركٌ، أو إن هذا كفرٌ فتب منه، فقال: تبت، فلا قتل عليه أبداً؛ لأنه كان يجهل، بخلاف ما إذا سب فقال: تبت، العلماء يقولون: لا تقبل توبته حفاظاً على جناب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إذا فتحنا هذا الباب فيمكن لأي إنسان أن يسب ثم يقول: أنا تُبت، وهو لم يتُب في الحقيقة فيسب، ويقول: أنا تُبت! فحينئذٍ تضيع هيبة الرسول عليه الصلاة والسلام، مع كثرة السب، فحمايةً لجنابه عليه الصلاة والسلام يقتل، فلو تاب حقاً، نفعه ذلك بينه وبين الله، أما إذا لم يتب فقد قتل وسيلقى جزاءه عند ربه، فهناك فرق ما بين المسألتين، والله أعلم.(7/11)
نصيحة للشيخ حول التخصص في طلب العلم
السؤال
أجد في نفسي الميل إلى تعلم علم واحد فقط من علوم الشريعة الإسلامية، أما تعلم العلوم الأخرى، فلا أميل إليها؟
الجواب
العلوم تتبعض وتتجزأ، لكن عادةً علوم الشريعة قنوات بعضها يؤدي إلى بعض، فإذا تعلم الرجل نوعاً واحداً فقط من العلم، وجهل الباقي فأنا أظن أنه سوف يكون عنده شيء من مزلة الأقدام في ذلك العلم، لكن هو يتبحر في ذلك العلم الذي يحبه، ويكون له مشاركات في العلوم الأخرى، يعني لا أتصور مثلاً رجلاً يتعلم الفقه، ويجهل علم المصطلح تصحيحاً وتضعيفاً، وإلا فعلم الفقه كله قائم على افتراض صحة الحديث، فإذا لم يكن عنده خبر بصحة الحديث من ضعفه، فيستطيع المخالف له أن يهدم دليله، وأن يهدم له حكمه بادعاء ضعف دليل المسألة، وحينئذٍ لا يجد بين يديه دليلاً.
ولذلك أنا لا أظن أن هناك رجلاً يستقيم له الأمر في أي علم إلا إذا ضرب بسهم وافر في علم الحديث، لأنه كما يقول أرباب العلوم: علم الحديث علمٌ خادم، والعلوم الأخرى مخدومة، فعلم الحديث ومصطلحه هو مهيمن، فمثلاً: لو أن هناك إنساناً مرفهاً لا يستطيع أن يعيش بغير خادم، فمرض خادمه، فقد يموت من الجوع، فهو لا يستطيع أن يصنع لنفسه طعاماً؛ لأن الخادم هو الذي يفعل له كل شيء، فإذاً حياة هذا الإنسان إنما هي بالخادم، فلو مات الخادم، أو ذهب وتركه؛ فهذا الإنسان لا يساوي شيئاً، كذلك علم الحديث كل علم يحتاج إلى هذا العلم، فأنا أنصحه إذا كان العلم الذي يميل إليه، بخلاف علم الحديث، فله ذلك، لكن لابد من أن يضرب بسهمٍ في علم الحديث حتى يضمن سلامة أدلته، والله أعلم.(7/12)
تقسيم البدعة إلى بدعة مفسقة ومكفرة
السؤال
هل تقسيم البدعة إلى بدعة مفسِّقة وبدعة مكفِّرة تقسيمٌ صحيح؟ وما هو الدليل على هذا التقسيم؟ حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بدعة إلخ)؟
الجواب
بالنسبة لتقسيم البدعة إلى بدعة مفسِّقة وبدعة مكفرة صحيح، فلا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن الفسق والكفر كلاهما من الضلال، فلا تعارض أصلاً، (كل بدعةٍ ضلالة)، فالضلال كلمة جامعة للفسق والكفر، إذاً لا تعارض، إنما الحقيقة الحكم على شخصٍ ما بأن بدعته مفسِّقة أو مكفِّرة، وهذا يكون بالنظر إلى ذات البدعة نفسها، يعني: هل تخرِجه من الملة أم لا؟ فمثلاً قد يبتدع رجلٌ بدعةً، وينسبها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: أنا أعلم أنها ليست من الشرع، لكنني أضيفها مثلاً إلى الشارع أو نحو ذلك، فهذا قد يفسَّق، وقد يئول الأمر به إلى الكفر.
فأنا أعتقد أن واقع كل إنسان هو الذي يفرق ما بين إذا كان كفَر -أي: خرج ببدعته التي ابتدعها من الشرع- أم ما زال ينتسب إلى الشرع ولكنه فسَق؟ أنا أعتقد أنه لا يوجد حد فاصل تستطيع أن تجعله قانوناً ما بين البدعة المفسقة والبدعة المكفرة، بل الملابسات التي تحيط بذات الشخص هي التي تجعله يلتحق بهذا القسم أو ذاك والله أعلم.(7/13)
فقه الواقع
السؤال
هل نحن ملزمون بتعلم فقه الواقع؟
الجواب
فقه الواقع كان يسمى على ألسنة العلماء القدامى بفقه النفس الذي أشرت إليه قبل في الدرس، فهو هنا مجمل، والجواب: ليس الإنسان ملزماً بتعلم فقه الواقع، كما أنه ليس ملزماً بتعلم كل شيءٍ في الشرع، بل هناك أشياء هي فرائض الأعيان التي لا يجوز للمسلم أن يجهلها، فيما يتعلق بالتوحيد، وفي عبادته ونحو ذلك، هناك فرائض الأعيان وهناك فرائض الكفايات، فإذا كان كثير من علوم الشرعية -ومنها فقه الواقع- من فروض الكفايات فمن الذي يقول: نحن ملزمون جميعاً أن نتعلمه؟! لكن هذا إذا تعلمه جماعة سقط عن الباقين، وأنا ما أريد أن أخوض كثيراً في المسألة لاسيما كلمة (في الواقع) الآن إذا أطلقوها، يطلقها الذي سيسأل على معرفة واقع المسلمين الآن بالنسبة لأعدائهم، ولا أظن أحداً من أهل العلم يقول أن هذا الباب ليس مهماً، بل هو بابٌ مهم، لكن الاشتغال به عما هو أولى هو الذي يجعل المسألة فيها نظر، إنما ليس المسلمون جميعاً ملزمين بتعلم فقه الواقع؛ لأنه من فروض الكفايات، إذا علمه جماعة سقط عن الباقي والله أعلم.(7/14)
نبذة عن طلب الحويني للعلم
السؤال
نرجو من فضيلتكم إعطاءنا نبذة مختصرة عن كيفية طلبكم للعلم؟
الجواب
والله لا تؤاخذوني في فتح الجواب عن هذا السؤال، لأن أخاكم ليس بذاك، يعني ما حصّل شيئاً يذكر حتى يمكن أن يقول: أنا! فأنا أعترف بقصوري وقصور باعي وتطفلي علي هذا العلم، وأمثالي لو كان موجوداً في زمن علم لما صلح إلا لأن يحمل إبريق الشيخ، لكن نحن بكل أسف صرنا في زمانٍ نتفاضل فيه بالجهل، بينما كان أسلافنا يتفاضلون بالعلم، فكن يقال: فلان أعلم من فلان، نحن الآن نقول فلان أخف جهلاً من فلان، فأنا أستحيي أن أتكلم لأني ما عندي شيء يستحق الذكر، إنما إذا أردتم أنكم تبحثُوا عن حياة شيخٍ أو رجل يستحق الذكر، فعليكم بالشيخ محمد ناصر الدين الألباني ومن جرى مجراه في هذه الحلبة؛ لأنهم أهلٌ لأن يحتذوا، إنما أنا مثلكم، لا فرق بيني وبينكم إلا أنني أجلس في هذه المنصَّة وأنتم تحتها!.(7/15)
لابد لطلب العلم من الهمة والمثابرة
السؤال
ما رأيكم بمن يقول: لن أطلب العلم حتى ألتحق بالجامعة، وهناك سأتفرغ وأهتم وأجد وأجتهد؟
الجواب
الذي يظن أن الدراسات الجامعية تؤهله لأن يكون عالماً أو طالب علم فهو مخطئ، إن الكتب الجامعية لا يمكن أن تخرِّج نصف طالب علم، ولا ربع طالب علم، إذا رأيتم طالباً على مستوى عال في بعض هذه الجامعات، فاعلموا أن هذا من جهده في المقام الأول، وأنه خرج عن حيز الدراسة.
فالذي يؤجل طلب العلم إلى أن يدخل الجامعة ضيع أحلى سنوات العمر وأفضلها، وكما يقال: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.
وأنت لا تضمن أن تكون بصحتك عند دخولك الجامعة، ولا تضمن أن تكون خالياً من المشاكل والمشاغل إذا وصلت إلى الجامعة، ابدأ الآن في طلب العلم، حيث أن الله تبارك وتعالى أفاء عليك بالوقت، وأفاء عليك بالراحة، ووسائل المواصلات المريحة، وأفاء عليك بالمال، فتستطيع أن تشتري الكتب، وأفاء عليك بالمواصلات الحديثة كالهاتف والفاكس وهذه الأشياء، وبدلاً من الرحيل إلى الشيخ في أقصى بلاد الدنيا، تستطيع أن ترفع الهاتف وتكلِّم الشيخ، أسلافنا ما كانوا كذلك.
دعوني أحكي لكم قصة لـ شعبة بن الحجاج رحمه الله أراد أن يتأكد من حديثٍ واحد.
وهذه القصة مذكورة في مقدمة كتاب المجروحين لـ ابن حبان، ورواها الخطيب البغدادي أيضاً في كتاب الكفاية من طريق نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت لهم: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فما أن انتهيت من الحديث حتى خرج شعبة من الدار فلطمني فدخل، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فقعدتُ أبكي، فخرج شعبة فوجدني أبكي، فقال: هو بعد يبكي؟ فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدِّث به، ثم استقبل شعبة الحديث يسرده -سيحكي قصته مع هذا الحديث- قال: (إني سألت أبا إسحاق: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء)، ولعلكم تعلمون أن أبا إسحاق السبيعي كان يدلِّس، والمدلِّس يعمد إلى شيخه أو إلى شيخ شيخه فيحذفه، وينظم الرواية بالعنعنة، وكان شعبة شديد النكير على هؤلاء المدلسين، وكان يعلم أن أبا إسحاق السبيعي مدلس، وهو القائل كما صح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة، وذكر منهم أبا إسحاق السبيعي.
(فلمّا سمع أبو إسحاق السبيعي كلمة شعبة غضب، وأبى أن يجيب)، فإذاً لابد أنه دلِّس في السند؛ فطالما أنه أبى أن يجيب فيكون قد دلّس؛ لأنه لو كان سمع حقاً لبادر، وقال: سمعت.
فقال مسعر بن كدام -وهو إمامٌ ثقة كبير القدر-: يا شعبة عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -إذا أردت أن تتأكد فاذهب إلى مكة- وشعبة أين؟ شعبة في البصرة، أهي مسافة قصيرة؟!! شعبة في البصرة، وعبد الله بن عطاء في مكة، قال شعبة: (فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث)، قال: (فلما ذهبت إلى مكة دخلت على عبد الله بن عطاء، فإذا رجلٌ شاب فقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا، إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم، وسعد بن إبراهيم هذا مدني يسكن في المدينة، قال: فذهبت إلى مالك -الإمام المشهور- فسألته عن سعد بن إبراهيم فقال لي: ما حج العام -إذاً سيكلِّفه رحلة إلى المدينة- قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فقابلت سعد بن إبراهيم قلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال له: لا، من عندكم خرج -أي: من البصرة-، قلت: من حدثك؟ فقال: زياد بن مخراق، فقال شعبة: حديثٌ مرةً مكي، ومرةً مدني، ومرة بصري، دمِّر عليه لا أصل له.
قال: وانحدرت إلى زياد في البصرة وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: ما هو من بابتك، قلت له: فما من بُد، هذه حاجتي، قال له: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتيني، فذهب واغتسل وغسل ثيابه وجاء، قال: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال له: لا، سمعته من شهر بن حوشب، وشعبة كان سيئ الرأي في شهر بن حوشب، قال: شهر بن حوشب عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر، لاحظ كم رجلاً سقط من الإسناد؟ سقط سعد بن إبراهيم، وسقط زياد بن مخراق، وسقط شهر بن حوشب، وسقط أيضاً أبو ريحانة، أربعة سقطوا، مما يبيِّن لك خطورة التدليس، فقال شعبة رحمه الله: (حديثٌ صعد ثم نزل، دمِّر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي)، وطبعاً هذا الحديث صح، لكن من طريق آخر غير الطريق الذي وقع لـ شعبة.
فهذا مثال رحلة من شعبة بن الحجاج يطوف فيها على بلدان وتعلمون المسافات الشاسعة بين تلك البلدان وبعضها؛ لأجل أن يتأكد من حديثٍ واحد، قد يصيب بعض طلبة العلم المتخصصين الكسل أن يدير قرص الهاتف حتى يتّصِل بالشيخ الفلاني، يسأله مسألة في علم الحديث أو علم الفقه، انظر إلى الهمم!! كان ابن الجوزي يقول: (إنما البكاء على خساسة الهمم) المسألة ليست قلة إمكانات أبداً، أي كتاب مهما كان تستطيع أنك تشتريه، إن لم تستطع أن تشتريه تستطيع أن تصوِّره في الحال، تصور لو أننا في زمن ابن حجر، وأردت أن تنسخ فتح الباري، وكلفت ناسخاً ينسخه لك، تريد أشهراً لنسخه، أما الآن فأنت تستطيع أن تصوِّره في ليلة واحدة، لو وقفت وقفة رجل حازم، وعندنا من الكتب ما لم يكن عند كثير من هؤلاء، ومع ذلك لا نعلم منها شيئاً، هذا بسبب ماذا؟ بسبب التأخر في طلب العلم، تأخر زمان طلب العلم كلما قلت الهمم، والذي يؤجل طلب العلم إلى أن يدخل الجامعة الإسلامية أو غيرها من الجامعات، فليستبشر خيراً أنه لن يكون الذي يحلم، لن يكون ذلك.
لو أنفقت في طلب العلم عمرك كله من وقت أن نطقت إلى أن تموت، ولو عمِّرت عمر نوح عليه السلام لمُتَّ مليئاً بجهلك، تموت وأنت جاهل فهناك مسائل أنت ما عرفتها.
ابن جرير الطبري رحمه الله، دخل عليه بعض أصحابه يعوده في مرض الموت، فتذاكروا مسألة أظنها في الفرائض، فدعا ابن جرير الطبري بقرطاس ودواة وقلم، وأراد أن يكتبها، فقال له صاحبه: أفي هذا الحال؟ أي: رجل يعاني من مرض الموت، قال له: أَخرُج من الدنيا وأنا عالمٌ بها، خيرٌ من أن أخرج منها وأنا جاهل بها، مع أنه لن يكون عنده من الوقت ما يستطيع أن يفيد غيره بذلك، لكن هي محبة لطلب العلم، الذي يحب طلب العلم يُغلب على حبه، فلا يضيع شيئاً من وقته، وأخيار العلماء كانوا حريصين على الوقت وعلى طلب العلم أشد الحرص وأعظمه.
فأنا أنصح هذا السائل إن كان عنده حب للعلم، أن يبدأ من الآن، وكفاه ما ضاع من عمره، فلا ينتظر حتى يضيع سنوات أخرى هو أحوج ما يكون إليها، والله أعلم.
مداخلة: إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة من أعلى الجامعات الإسلامية، تخرج ما يربو على الألف أو الألفين سنوياً، ولكن كأنهم في خبر من يبحث عن الدنيا ويبحث عن المادة، ولا تسمع منهم إلا القليل القليل الذين فادوا وأفادوا واعتمدوا على الله تبارك وتعالى.(7/16)
الإحسان وأثره في التمكين
إن الله عز وجل أمر بالإحسان في كل الأمور، حتى حين يذبح المرء ذبيحته، وأولى الناس بالإحسان هم الدعاة؛ لأن الدعوة إلى الله تعالى شرف للقائم بها، فلابد للداعية من اتخاذ الأسلوب المناسب الذي يمكن له في قلوب الناس، وبالتالي يتمكن من نشر دعوته بين الناس وإيصال الحق إليهم، ولنا في أنبياء الله أسوة حسنة، فقد كانوا يتدرجون في دعوتهم ويتخذون الطرق المناسبة لذلك.(8/1)
التمكين في القلوب بالمحبة قبل التمكين في الأرض
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
القرآن الكريم معين لا ينضب؛ لكنه يحتاج إلى إعمال النظر، إذ إن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن القرآن حمالٌ وجوه)، وقد اخترت أن لا يكون الموضوع مباشر مع العنوان، ولكن جعلت هذا الموضوع تأملات في سورة يوسف عليه السلام، وهذا التأمل خاص بموضوع في غاية الأهمية والحيوية، ألا وهو موضوع الإحسان ومكانه من التمكين للمسلمين في الأرض.
سُئل ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري- عن أجمع آية للخير والشر في القرآن؟ فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، فهذه أجمع آية للخير والشر في القرآن الكريم.(8/2)
تمكين الله لنبيه يوسف في القلوب
وسورة يوسف عليه السلام هي سورة الإحسان، ونحن سننظر كيف مكن ليوسف عليه السلام، يخطئ من يتصور أن التمكين أن تحوز الأرض من تحتك، ونحن نقول: إن التمكين في الأرض يسبقه تمكين آخر في غاية الأهمية هذا التمكين هو الذي أحرزه يوسف عليه السلام.
وانظر معي في قول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] أين هو التمكين؟ قد استخرجوه من غيابة الجب، وبيع بثمن بخس دراهم معدودة، أعني أنه لا يظهر لنا أثر التمكين، ومع ذلك بمجرد أن بيع بهذه الدريهمات، ودخل قصر العزيز، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:21].
أما التمكين فلأنه دخل قلب العزيز، هذا هو التمكين: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، هذا هو التمكين المهم الذي لا يتم التمكين للمسلم في الأرض إلا به.
إذا دخل المرء قلب إنسان استعبده، وصار ولده وماله، وصار هو نفسه مِلكاً لهذا الإنسان، وذلك لأن المرء كلف بمن يحب، ألم تر في سيرة المحبين إلى هذا المعنى الظاهر، وهو أن المرء إذا أحب كلف، وإذا كلف ذل، والمحبة والذل قرينان، كلما كنت في قاع الذل صرت على قمة الحب، فالمسألة لا تنفك، كلما زاد حبك زاد ذُلّك.
والشاعر المشهور في دواوين العاشقين وهو قيس، يقول في الأبيات التي طارت كل مطار لما فقد المرأة -ونسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم من داء العشق؛ لأنه داء قتال- قال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا أحب الرجل حتى وصل إلى درجة الكلف، الرسول عليه الصلاة والسلام أحبه قومه قبل أن يأتي بدعوته، لذلك نحن نقول للدعاة إلى الله عز وجل، الذين أغفلوا هذا الجانب: لماذا تأخر التمكين حتى الآن؟ إذا أردت أن تمكن فأحسن، فإنك بالإحسان تسترق قلوب العباد.
وها هو يوسف عليه السلام يضرب به المثل، الله عز وجل جعل له مكاناً في قلب العزيز فأحبه، فهذا بداية التمكين أن تدخل قلوب الخلق، ونحن نعلم أن بعض الناس كفروا بسبب محبتهم للذين يدعونهم، أي: أنه لا يفكر، فقد وصلت به الثقة العمياء إلى أن يضع حياته بين يدي هذا الإنسان فأضله، فكما قلت: الحب داعية الاتباع، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
دخل يوسف عليه السلام قصر العزيز وبدأت المحن تتوالى عليه، وكانت محنة في غاية القوة تلك التي تعرض لها، ولكنه صبر عليها صبر النبلاء، لأن الصبر عن معصية الله عز وجل هو أرفع أنواع الصبر فيما يتعلق بالمكلف.
ولك أن تتأمل: داعي المعصية موجود، فيوسف عليه السلام كان غريباً، والغريب يفعل في دار الغربة ما يأنف أن يفعله الحاضر بين أهله وخلانه، هذا أول داع لأن يفعل المعصية، لأنه غير معروف.
ثم هو شاب أعزب فتي لم يتزوج ولم يتسر، وهذا أيضاً باعث على أن يقع في المعصية.
ثم هو مملوك، والمملوك لا إرادة له، وهو حريص على إرضاء مالكه، فهذا أيضاً داعي الوقوع في المعصية.
ثم المرأة جميلة، وهي الداعية إلى نفسها، وقد غلقت الأبواب، ومع ذلك يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] وتكرر لفظ الإحسان والمحسنين ومشتقات الإحسان في سورة يوسف كثيراً، بحيث إنك تستطيع أن تسميها (سورة الإحسان) لأنه يطهر فيها الإحسان جلياً.
أول موقف وقف فيه يوسف عليه السلام هو هذه المحنة القوية، ومع ذلك تجاوزها بهذا النبل، فأعلى الله عز وجل كعبه.
ماذا حدث بعد ذلك؟(8/3)
الموقف الثاني ليوسف عليه السلام في التمكين
المرأة اتهمته، ودخل السجن مع ظهور براءته، فهو ظلم أولاً من المرأة، ثم ظلم بالقرار الجائر أن يدخل السجن بعد ظهور الآيات ببراءته، فدخل السجن، ودخل معه فتيان، وبدأ الموقف الثاني الذي يدلك على محبة يوسف عليه السلام لدعوته.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36].
والإحسان ينطبع على الوجه، لا تتصور أن صاحب الغل ينجو، بل يظهر غله على وجهه، وصاحب الإحسان ينطق الإحسان على وجهه، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
أحياناً قد تنظر إلى الرجل الذي تراه لأول مرة فتشعر أنك تحبه، وتريد أن تقترب منه، وأنت مستريح له، ورجل آخر أيضاً لا تعرفه، وما دار بينك وبينه حوار، ولا أساء إليك، ومع ذلك تبغضه، وتشعر بهذا البغض في قلبك، وتود أنه لو لم يتكلم، ولم يكن بينكما حوار، إذاً: ما هو الضابط بين هذا وذاك؟ إنها أسارير الوجه التي تعبر عما يكنه القلب، لذلك قال الرجلان ليوسف عليه السلام: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] نطق الإحسان على وجهه عليه السلام.
لم يبدأ يوسف عليه السلام البداية التي قد يجهلها من يدعو إلى الله عز وجل، بأن يلبي لهم حاجاتهم؛ لأن المرء إذا حصل حاجته ذهب، ولذلك لما تنازع العلماء في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ رجح كثير من المحققين أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغنى داعية الطغيان وداعية الاستغناء، كما قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، ما طغى إلا بعد أن استغني.
انظر إلى حياتنا ترى هذا الشيء موجوداً، فإذا ما الابن ينفق عليه أبوه أو أخوه الكبير فهو لا يكاد يخالفه، وينفذ أحياناً بعض ما يكره إذا أمره أبوه أو أخوه، فإذا استقل براتبه بدأ يستقل بقراره، وبدأ يكون له رأي، وبدأ يعارض.
ولذلك نهى الإسلام المرأة عن العمل، وقال علماء المسلمين: إن الأصل في المرأة أنها لا تعمل، لأن الله عز وجل جعل قوامة الرجل على المرأة بشيئين: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]؛ فإذا عملت المرأة وصار لها راتب، كأنما انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأنها تنفق على نفسها.
وكثيراً من النساء اللواتي يعشن في ذل الرجل العنيف الذي يضرب والذي يسب، لماذا يعشن؟ ولماذا يقبلن الذل؟ لأنهن يخفن على أنفسهن من التشريد، كثير من النساء يقبلن الذل لأجل لقمة العيش، أول ما يكون للمرأة راتب وتستقل براتبها، فكأنها انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، إذاً: بداية استغناء المرأة عن الرجل كان سببه الحصول على الراتب، إذاً: طبيعة الاستغناء أنه يوصل إلى الطغيان.
فهذا الغني الصحيح الذي يجد الأموال الطائلة أمامه، فلا يتعرض لضائقة مالية ولا يتعرض لأزمات، فلذلك يخف ذكر الله من لسانه، قلما يقول: يا رب، قلما ينام وهو يؤمل في الله خيراً؛ لأن دفتر الشيكات موجود، والأموال موجودة في البنوك، وهذه المسألة لا يكاد أحد منا يحتاج إلى كبير بحث فيها.
فالشكر مع هذا الغنى الذي هو داعية الطغيان نادر جداً، أما الصبر فكثيراً ما يلازم الفقر؛ لأن الإنسان إذا افتقر فإنه يوازن بين أن يسخط وبين أن يصبر، فيجد أن الصبر أجود وأفضل، وقد يصبر صبر المضطر؛ لذلك تجد الصبر كثيراً ما يلازم الفقر، ولا تجد الغنى يلازم الشكر إلا نادراً.
لذلك ذهب كثير من العلماء على أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لعدم وجود باعث الشكر عند الغني.
فيوسف عليه السلام يعرف هذه الحقيقة من نفوس بني آدم، لذلك لم يبدأ بتعبير الرؤيا لهم، وقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37]، وياء الإضافة في (ربي) تكررت كثيراً في سورة يوسف، وهي تشعر بالاعتزاز وصحة الانتماء إلى الله عز وجل، قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37]، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:101].
{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37]، فبدأ يعرفهم بإلهه الذي يعبده وبدأ يعرفهم بأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:37 - 40].(8/4)
دروس للدعاة في كيفية الدعوة بالإحسان والتأليف
انظر إلى الترقي في المناظرة، هذا الدرس يحتاج إليه الدعاة إلى الله عز وجل أكثر من غيرهم، انظر إلى يوسف عليه السلام كيف ترقى لم يبدأ مهاجماً؛ لأنه سيقوض دعوته، إنما جعل الهجوم آخر مرحلة، فبدأ يعرف بنفسه، ويعرف بحقيقة الذي يعبده، وأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة، ثم طرح سؤالاً لا يخطئ الإجابة فيه من له عقل مستقيم.
فيوسف ترقى بهم شيئاً فشيئاً، كأنما قال لهم: إن الذي يكلمكم ليس بجاهل، إنه ورث النبوة، وهو سليل بيت العلم، يُعرِّف بقدره، وشتان بين الافتخار بمثل هؤلاء الآباء، وبين الافتخار بالآباء الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الافتخار بهم.
فبعدما عرف بنفسه سأل السؤال المنطقي الطبيعي الذي لا يخطئ في الإجابة عليه إنسان له عقل سوي: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] وتأمل في الخطاب: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب؛ لأن هذا فيه أنس؛ لأنك إذا خاطبت رجلاً وبينك وبينه حواجز فلا يكاد يعي كلامك.(8/5)
تجربة دعوية فيها عبرة
سوف أسوق لكم تجربتي، ولا أسوقها لأنني في موضع الحجة، بل أسوقها لأنني عاينتها، كيف أن الإحسان إلى الخلق يمرر دعوتك بأسرع من حجتك، كم من أناس بلغاء وقف الحاجز في النفس مانعاً دون وصول الدعوة إلى قلوب الخلق.
أول ما بدأنا نتعلم العلم الشرعي وذلك في أوائل السبعينات، كانت هناك عاطفة، ولم نكن نعلم أن هذه العاطفة ينبغي أن يواكبها علم، ولم نكن نعلم أيضاً أن النصوص الشرعية تتفاوت في القوة، فبعض النصوص تكون واجبة، وبعض النصوص تكون مستحبة، وبعض النصوص تكون مباحة.
فكنا إذا علمنا شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام في اعتقادنا أنه يجب فعله، ولو طارت فيه رقاب، لم نكن نعرف أن المستحب يترك، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الذهبية التي ذكرها في مجموع الفتاوى: (إن من المستحب ترك المستحب لتأليف القلوب).
فكنا نقرأ في كتاب شيخنا أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني -حفظه الله وأطال في عمره ومتع به- تحريك الإصبع في الصلاة، وتحريك الإصبع كما علمني شيخنا بأن تجعل يدك على صورة واحد وخمسين، ثم تضعها على ركبتك، ثم ترسل إصبعك هذه إلى القبلة، ولا تحركها هكذا بل حركها هكذا ولا تصرف هذه الإصبع عن القبلة.
نحن قرأنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك إصبعه فكنا نحركها هكذا وكل واحد يحركها على اجتهاده، فأنا كنت أحركها هكذا فوقت الصلاة أنت تفعل هكذا والرجل الذي بجانبك لم يعتد على هذا، بل اعتاد على التحريك في النفي والإثبات.
فبدأنا نحرك الأصبع بهذه الصورة ونحن نصلي، فقال لي الرجل الذي صلى بجانبي: (هُوَّ انته طول الصلاة) وأشار بأصبعه.
فقلت له: أنت تستهزئ بالسنة، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، استغفر الله، وكنت أكلمه بعصبية، كيف تستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وضعته في خندق المستهزئين.
وكنا أيضاً نجلس جلسة الاستراحة، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاة لا يقوم حتى يستوي قاعداً، أي: بعد الركعة الأولى وبعد السجدة الثانية قبل أن يقوم من الركعة الثانية يجلس ثم يقوم، ثم في الركعة الثالثة التي هي الوتر -والوتر في الصلاة هي الركعة الأولى والركعة الثالثة- قبل أن يقوم من الركعة الرابعة يستوي جالساً، ثم يقوم.
وبعد السجدة الثانية سأقوم إلى الركعة الثانية بهدوء، وأعرف أنني سأجلس، وصاحبي بجانبي كان ساهياً فقام للركعة الثانية فرآني قاعداً فقعد ظناً منه أنه سها؛ لكنه سرعان ما رآني قمت فقام، كل هذا بحركة عصبية لم يرتب لها، لكن أنا أعرف أنني سأقعد ثم أقوم بهدوء، لكن كبر عنده هذا الأمر.
فهذه الأشياء كلها تدينه في صلاته أنه ساه، وغير منتبه لصلاته، فبعد الصلاة تقوم معركة بيننا، يقول: هذا دين جديد، وأنتم غيرتم الدين، ويحصل نوع من النفور الشديد، ونحن في غاية الإصرار على هذا الفعل، ولا ندري أن جلسة الاستراحة مستحبة، وتحريك الإصبع مستحب.
وتنفير قلوب هؤلاء لا يجوز، ومحرم أن ننفر قلوب هؤلاء، وظللنا خمس سنوات نحاول عبثاً أن نقنع الناس بسنة واحدة، وهي صلاة سنة المغرب القبلية، والناس في اعتقادهم أن المغرب غريب، فتؤذن للصلاة وتقيم بنفس واحد، ونحن نريد أن ننشر هذه السنة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! ثم قال: لمن شاء) فقوله: (لمن شاء) كانت كفيلة أن تردعنا عن الإصرار على صلاة ركعتين قبل المغرب، لكننا كنا نعتقد أننا نعامل أناساً جهلة، ولابد من تعليم الجهلة ولو بالسلاسل.
فكنت أنا الإمام وكان المؤذن من أصحابنا، فاتفقنا وقلت له: بعد أن تقول: (لا إله إلا الله) سيقولون لك: أقم الصلاة، ونحن لا نريد ضجة، فأنا سوف أكون متوجهاً إلى القبلة، فأول ما تنتهي من قول: (لا إله إلا الله)، فسأقول أنا: (الله أكبر) وأصلي، وأنت أيضاً بعد أن تنتهي من الأذان ارجع إلى الخلف وصل، حتى لا تتيح الفرصة لأي أحد فيقول لك: أقم الصلاة.
وفعلاً نفذنا ما اتفقنا عليه، فكنا أول ما ينتهي صاحبي من الأذان أكبر، ثم يكبر ونصلي، فما الذي كان يحصل؟ كانوا لا يصلون، إنما كانوا يشتموننا حتى نفرغ من الصلاة، وعجزنا أن نقنعهم بصلاة ركعتين سنة قبل المغرب، وظل الوضع هكذا لمدة خمس سنوات، فبدأت أحضر دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وبدأنا لأول مرة نتعلم في أصول الفقه أن مراتب النصوص الشرعية مختلفة، فهناك ما هو واجب قوي، وفيه ما هو مستحب يمكن تركه، وفيه ما هو مباح على استواء طرفيه ونحو ذلك.
وبدأ الإنسان يعرف شيئاً من العلم، فلما رجعت إلى البلدة مرة أخرى، لم تمض ستة أشهر إلا وقد أمضيت دعوتي في وسط هؤلاء الناس، وفي هذه المدة الوجيزة التي عجزت على مدار خمس سنوات أن أفعلها معهم.(8/6)
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس
لقد سلك الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المسلك، فأنت إذا قرأت أن بعض الصحابة أراد أن يقتل عبد الله بن أبي ابن سلول فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)،لم يقل: صاحبه مع أنه رجل واحد؛ لكن قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) هكذا بالجمع، لماذا؟ لأن الناس لا يتحرون النقد، فعندما يصل الخبر إلى آخر رجل واحد في جزيرة العرب يكون الرسول عنده قد قتل مائتين، مع أنه قتل رجلاً واحداً، فإذا نقل الناس فإنهم لا يتحرون النقل.
ولذلك صدق شعبة بن الحجاج لما قيل له: لم لا تحدثون القصاص؟ القصاص هم أصحاب الموالد الذين يخترعون قصصاً كاذبة ليأخذوا ما في جيوب العوام، فمثلاً: كان أحدهم يقول للناس: هل تعرفون لماذا الشفة العليا للجمل مشقوقة؟ قالوا: لا، فقال: سبب ذلك أنه كان هناك جمل حزين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أصحابه يحملونه ما لا يطيق، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشتكي أصحابه، فقال له: خذ، ووضع يده على شفته فانقطعت نصفين، فالعوام يعجبهم مثل هذا.
فـ شعبة بن الحجاج سئل: لماذا لا تحدثون أمثال هؤلاء؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً.
أي: يعمل له سيناريو، فيكون الحدث الحقيقي قد ذهب؛ لأن العوام تستهويهم القصص والحكايات الغريبة الخيالية، فهذه طبيعة الناس.
أحدهم يقول: قُتل عشرون وتصل إلى الثاني يضيف صفراً فتصبح مائتين، والثالث يضيف صفراً فتصبح ألفين، فالرجل الذي هو في آخر الجزيرة، والذي كان يفكر أن يرحل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول: نحن أسلمنا، ونريد أن نرحل لننال شرف الصحبة ونتعلم العلم، فيقوم يسرج اللجام ويستعد بالبعير للسفر، فيأتيه أحد أصحابه ويقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول له: أنا ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له صاحبه: لقد قتل يوم أمس أكثر من خمسمائة من أصحابه، فيقول: الحمد لله أنني لم أذهب.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يعرف أن الناس لا يتحرون النقل، فما هي المفسدة أن يبقى رجل واحد حي ونحن نعرفه، لذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وقال في هذا المنافق المعلوم النفاق: (صاحب).
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أن عبد الله بن أبي ابن سلول خرج من أكمة، فقال: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة.
وأبو كبشة هذا جد أم الرسول عليه الصلاة والسلام، هل منكم أحد يعرف أبا كبشة؟ لا يعرفه أحد، لكن كلنا نعرف عبد المطلب، وكانت العرب إذا انتقصت إنساناً نسبته إلى جد غير مشهور، لذلك قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، لأن النسبة إلى الجد المشهور شرف.
قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرجز: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ولم يقل: أنا ابن عبد الله؛ لأن عبد المطلب كان أنبل وأشرف وأظهر عند العرب من عبد الله.
وجاء في صحيح البخاري: (أن أعرابياً جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس بين أصحابه -لا يميز دونهم قبل أن يتخذ منبراً- فقال: أين ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ها هو الرجل الأبيض، قال: أنت ابن عبد المطلب؟ قال: قد أجبتك) فنسبه إلى جده.
وجرى انتقاص الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة بهذا اللقب، فروى البيهقي في دلائل النبوة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قص على المشركين أنه أسري به إلى بيت المقدس، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى ابن أبي كبشة ماذا يقول!(8/7)
تدرج يوسف عليه السلام في الدعوة وحكمته فيها
وهذا من ذكاء الداعية وفطنته إذا دخل على أناس لا يعرفهم، يهش ويبش لهم، ويمد جسور الود، هكذا كان صنيع الأنبياء، ولكل غريب دهشة، فيكون بينك وبينه حاجز لا يكاد يوصل كلامك، لذلك ناداهما يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] سؤال منطقي جداً، يبدأ يزلزل عقائد هؤلاء بمثل هذا السؤال البدهي، الذي لا يحتاج إلى كبير علم؛ لأننا نعرف هذا من أنفسنا.
لو أن هناك خادماً وله أكثر من سيد، فهو أشقى الناس، هذا يأمره وهذا ينهاه، وإذا تخاصم السادة شقي أكثر؛ لأنه كلما أرضى أحداً غضب عليه غيره، ولكنه إذا كان له سيد واحد استراح.
ثم بدأ يتدرج في الهجوم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40]، وأكثر أهل الأرض أدعياء حتى في الآلهة التي يسمونها، أي: كثيراً ما يذكرون الشيء بلا مضمون، كم من الذين سموا بأمين الصندوق فظهر أنه خائن! والشاعر الأندلسي كان له حق أن يتوجع من كثرة ألقاب ملوك الأندلس، الذين ضيعوا الأندلس، تجد الواحد منهم يشرب خمراً ولقبه محيي الدين، ورجل آخر يتعامل مع الأعداء ويلقب بعضد الدين، وآخر سيف الملة، فقال الشاعر الأندلسي يتوجع من هذه الظاهرة: مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد اسم لكن لا مضمون تحته.
ماذا يعبدون من دون الله؟ يعبدون حجارة، يعبدون موتى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] إذاً: هذه مجرد أسماء، سمه القوي! القادر! العزيز! لكنه مهزوم، ما هو بقوي ولا قادر ولا عزيز، فهي مجرد أسماء وشعارات جوفاء لا مضمون تحتها.
ماذا تعبدون يا أصحاب السجن؟ مجرد أسماء: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].(8/8)
استئناس عمر في دخوله على النبي حين هجر أزواجه
وفي حديث ابن عباس في الصحيحين: (لما طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وكان الصحابة يبكون بجانب المنبر على اهتمامه عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر وتكدر خاطره، ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى باب المشربة، وكان هناك غلام النبي صلى الله عليه وسلم -واسمه رباح - فقال عمر: فجئت الغلام فقلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت، قال: فجلست بجانب المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت إلى جانب المنبر فجلست، ثم غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر! فدخل ثم خرج، فقال: ذكرتك له فصمت، قال عمر: فهممت وانصرفت، فبينما أنا عند الباب إذ الغلام يناديني، فقال: قد أذن لك، قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان الرسول عليه الصلاة والسلام غضبان من نسائه، وأقسم أن لا يدخل عليهن شهراً، فـ عمر عرف الموقف- قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فأردت أن أستأنس قبل أن أجلس -هذا هو الشاهد، ومثل عمر لا يحتاج إلى إحداث أنس بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هناك حاجز وهو أن خاطر الرسول عليه الصلاة والسلام متكدر، وهو يريد أن يستأنس قبل أن يتكلم- قال: فأردت أن أستأنس، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار، فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، قال: فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ -يعني عائشة - أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوضأ منكِ -أي: أجمل- قال: فتبسم أخرى، قال: فجلست).(8/9)
اختيار الزوجة الصالحة
المجتمع أساس قوامه الأسرة الصالحة، ولا تستقيم الأسرة إلا بوجود الأم المستقيمة الصالحة، ومن النماذج التي سجلها التاريخ للمرأة الصالحة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فقد كانت امرأة صالحة بكل ما تعنيه الكلمة.(9/1)
أهمية اختيار المرأة ذات الدين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلا زال حديثنا متواصلاً عن جيل التمكين وكيف السبيل إليه، ولقد ذكرنا أن أهم غراسٍ يغرسه الإنسان هو الولد، وهذا الغراس يحتاج إلى ثلاثة أشياء: إلى أرضٍ خصبة، وعاملٍ جيدٍ، وماءٍ عذب، وقلنا في الأرض -والمقصود بها المرأة-: يشترط فيها أشياء: أولها ومحور ارتكازها هو: الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث على اختيار ذات الدين فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولا مانع أن تضم صفةً أو صفتين أو أكثر مع الدين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فذات دينٍ جميلةٍ أفضل من ذات دينٍ فقط، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دينٍ جميلة فقط، وهكذا(9/2)
حث الشباب على الزواج بامرأة ودود
نذكر اليوم صفتين ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معقل بن يسار، الذي رواه النسائي وأبو داود قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) الودود الولود: انظر إلى هذا الجمع! إن هناك ارتباطاً قوياً جداً بين الود وبين ولادة المرأة، إن الرجل قد يحب المرأة لأجل أولادها، ويحب الأولاد لأجل أمهم، والعلاقة بين الرجل والمرأة إذا أنجب منها الولد أقوى وأمكن من العلاقة بين الرجل والمرأة التي لا ينجب منها؛ ولذلك جمعهما معاً: (الودود الولود) الودود: كثيرة الود، عروب، محبةٌ لزوجها، لا تنغصه ولا تكدره.
وإنه ليطول عجبي أن تدفع المرأةُ زوجها دفعاً إلى العمل لفترة وفترتين وثلاث، ثم يأتي الرجل إليها في آخر اليوم يشتكي ألم مفاصله، وظهره، ويشتكي صداعاً في رأسه، ومع ذلك لا ترضى عنه المرأة!! أي ودٍ هذا؟! وأي وفاء؟! كيف تسعد المرأة بحياتها وهي ترى زوجها يعاني كل هذه المعاناة، ولا تعيش معه على ذات يده؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح نساء قريش، كما روى ذلك الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)؛ لذلك كنَّ خير النساء(9/3)
خديجة نعم المرأة الصالحة
تريد أن تعرف المرأة الودود؟ انظر إلى حال خديجة رضي الله عنها، سيدة النساء، ورد في الصحيحين من حديث عائشة ذكر بدء الوحي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء؛ ولما جاءه الملك وقال له: اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ.
وهزه هزاً عنيفاً، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره يرجف فؤاده، وقال: زملوني زملوني، وقال لـ خديجة: لقد خشيتُ على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً -وفي روايةٍ وقعت في بعض روايات صحيح البخاري، قالت-: كلا.
والله لا يحزنك الله أبداً.
إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلْ، وتقْري الضيف، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق) فانظر إلى كمال عقلها وصدقها وحسن مواساتها لزوجها! أما كمال عقلها: فلأن الإنسان إذا أصابه الروع والفزع احتاج أن يذكره أحد بمآثره وصفاته، ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن كماشة النهري رحمه الله قال: دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فأقبل عليه ابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا أبتِ! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فواساهُ وذكره بالبشارات وهو بين يدي الموت، وهذا أدعى لأن يطمئن قلبه، فلما سمع ذلك أقبل عليهم، فقال: لقد رأيتني على أطباق ثلاث -أي: على ثلاث مراحلٍ في حياتي- رأيتني وما أحدٍ أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن متُ على هذا الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمتُ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله! ابسط يدك لأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو! أو ما علمت أن الإسلام يهدم ما قبلهُ، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، قال: فما كان أحدٌ أحبّ إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، وما كنت أملأُ عيني منه إجلالاً له، ولئن سُئلت أن أصفه لكم ما استطعت ذلك؛ لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فلئن متُ على هذا الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة؛ ثم حدثت أشياء لا أدري ما الله صانعٌ بي).
لما حضرت سفيان الثوري رحمه الله الوفاة انتفض وبكى، فقال له عبد الرحمن بن مهدي -تلميذه الوفي- ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ اسكن، فسكن، ففزع من الموت، فذكره أنه قادمٌ على الذي سجد له وركع، والذي كان يقوم له الليالي، والذي كان يتحمل الهجير في الصيام من أجله، فذكره وما كان سفيان يغفل وقد قضى حياته كلها لله عز وجل، لكنه الفزع الذي ينسي الإنسان حلمه ويزيل عنه عقله.
فإذا وقع المرء في مثل هذا الفزع احتاج إلى حسن المواساة، وقد رجع النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده مما رأى وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي، فقالت -وصدرت ذلك بالقسم من قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) واستدلت بكريم شمائله، وجميل نعوته على أنه لا يخزيه، فقالت: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: العالة يحمله حملاً- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فكيف يخزى من هذه صفاته؟!!(9/4)
خديجة من أكمل النساء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة، ومريم، وفاطمة وامرأة فرعون) إن لـ خديجة رضي الله عنها الشرف في أن تأخذ أجر كل مؤمنة بعدها إلى يوم القيامة؛ لأنها أول من آمنت به مطلقاً، قبل أبي بكر الصديق؛ ولأنها أول من علمت ببعثته صلى الله عليه وسلم، فآمنت به، فلها أجر كل مؤمنٍ إلى يوم القيامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) فـ خديجة هي التي سنت سُنة الإيمان.
وقال صلى الله عليه وسلم مؤكداً لهذه القاعدة: (ما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها)؛ لأنهُ أول من سن القتل، ابن آدم الأول الذي قتل أخاه، يحمل كفلاً وتبعةً من كل رجلٍ قتل ظلماً إلى قيام الساعة.
والذي يسن وينشر الدين والعلم والسنة في بلدٍ ليس فيها شيءٌ من ذلك؛ له أجر الدعاة إلى هذا الدين إلى يوم القيامة.(9/5)
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة
أيها الرجال! أعينوا النساء على البر، إن الصدق هو أقصر طريق للإقناع، كن رجلاً في بيتك واحذر أن تسقط من عين امرأتك بالكذب أو بالخداع أو بالمماراة الصدق أقصر طريق للإقناع، إنك ترفع امرأتك رفعاً إذا كنت على هذا المستوى، واعتبر بما رواهُ البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول من اتخذ المنطق هاجر، ثم ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام من الشام إلى مكة، وقد حمل هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، ولم يكن بها إنسان قط، فحملها وتركها في مكة ورجع إلى الشام، فنادته: يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! فلم يلتفت ولم يرد، ومضى، فتركت ولدها ومضت تعدو خلفه، حتى أدركته في عوالي مكة إلى من تتركنا وليس بمكة إنسي؟ فلم يرد عليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم.
فقالت: رضيت بالله) ورجعت هاجر وبقيت في مكة وحدها، تمضي عليها الليالي والأيام وهي وحدها، قضت فترة طويلة، ليس بمكة إنسان تأنس به لما قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
وفي روايةٍ: (فلم يرد عليها، ولكن أومأ برأسه -أي: نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا) وفي رواية البخاري: (قالت: رضيت بالله)، صدق الرجل له أثرٌ عظيم في استقامة المرأة، ما فسدت نساؤنا إلا بعد أن فسد رجالُنا، وما نشزت امرأةٌ في الغالب إلا كان الرجل سبباً في نشوزها، لأنه لم يقم عليها بحق القوامة.
نظرت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأت فيه رجلاً أميناً صادقاً وفياً، وكان كثير الثناء عليها بعدما ماتت، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما رواه البخاري وغيرهُ- (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي على خديجة).
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء أن تغار من امرأةٍ ميتة، ولا تغار من نسوة يعشن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تغار من أم سلمة، ولا من أم حبيبة، ولا من حفصة، ولا من زينب وتغار من امرأةٍ ميتة! وهذا من لطف الله بنبيه حتى لا يتكدر عيشه.
تقول عائشة: (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي من خديجة لكثرة ما كان يذكرها ويثني عليها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يذبح الذبيحة فيقطع الأعضاء ثم يرسل إلى صديقات خديجة، فقلت له يوماً: كأن ليس في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فقال لي: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد).
وفي إحدى المرات -كما في صحيح البخاري-: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة -وكان صوتها يشبه صوت خديجة، واستئذانها يشبه استئذان خديجة، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بزمان- استأذنت هالة بنت خويلد، فلما سمع صوتها ارتاع لذلك -ارتاع أي: فزع، وهذا فزع الشوق واللهفة، وفي رواية أخرى: ارتاح لذلك- فقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعلها هالة، نفس الاستئذان ونفس الصوت- قالت عائشة: فغرت -مجرد الصوت يذكره بها فقلت له: وما تفعل بعجوزٍ حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها؟) قولها: (حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، وعديم الأسنان لا يبقى في فمه إلا حمرة اللثة وقولها: (أبدلك الله خيراً منها) أي: تقصد نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ليس عند البخاري: (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وأعطتني إذ حرمني الناس، وواستني بمالها عندما منعني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء).(9/6)
المرأة الصالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله
قال الله تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، ثم ذكر صنفي النساء أمام هذه القوامة.
فالصنف الأول: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
والصنف الثاني: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].
فانظر بعدما ذكر القوامة قال: (فَالصَّالِحَاتُ) أي: اللواتي لا يهدرن قوامة الرجل، ويطعن أزواجهن، ووصفهن بذلك، وقد أتى بالفاء العاطفة التي تفيد الترتيب مع سرعة المبادرة.
(فَالصَّالِحَاتُ) أي: يمتثلن مباشرةً إذا أمر الزوج بالمعروف وفي قدر الاستطاعة.
(قَانِتَاتٌ) أي: طائعات لربهن.
والمرأة التي تعصي ربها يسهل عليها أن تعصي زوجها، كيف تطيع زوجها وقد نكثت على ربها؟ لذلك ذكر أول صفةٍ إذا كانت فيها أتت بقية الصفات بعد ذلك.
(حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ): (تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فسُئل: من خير النساء يا رسول الله؟ قال: التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمتَ عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك).
(حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ): أي: لغيبة أزواجهن، إذا غاب الزوج تحفظ ماله وعرضه.
قوله: (إذا نظرت إليها سرتك) ليس المقصود من هذا جمال الوجه؛ إنما المقصود به جمال الروح، فكثير من النساء يعشقن النكد، فلا يرى الرجل من زوجته إلا وجهاً عابساً يوحي عن عدم الرضا.
(إذا نظرت إليها سرتك): دائمة البشر والابتسام، عندما تدخل عليها تشعر أن الدنيا كلها رجعت إليها وحازتها، وتفقد أغلى ما لديها إذا غبت عنها، فإذا ما رجعت ارتاحت وسكنت.
قوله: (وإذا أقسمت عليها أبرتك): لا تحنثك في يمينك أبداً، مهما كان الذي حلفت عليه شاقاً عليها، هذه هي خير النساء، الذي يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود)، كثيرة الود، دائمة البشر.
ويدخل في قوله تعالى: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) أن تحفظ المرأةُ غيب زوجها فلا يطلع عليه أحد، نساءٌ اطلعنَ على بعض عورات أزواجهن من فعل المعاصي، فإذا غضبت تفشي كل ذلك وتفضحه، تقول: إنه يفعل كذا وكذا، وتعدد ما غاب عن الناس، لماذا تفضحين زوجك عند الخلاف؟ هذا لا يجوز أن يقال إلا في حضرة القاضي أو المفتي، بشرط: أن يكون لهذا القول تأثيرٌ في الحكم، وإذا لم يكن له تأثيرٌ في الحكم؛ فلا يجوز للمرأة أن تفشي سر زوجها.(9/7)
وفاء المرأة الصالحة وحسن شمائلها سبب لمحبتها
في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحطم وثناً فوق الكعبة، فانطلق مع وعلي بن أبي طالب، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد فوق أكتاف علي ليكسره، فعجز علي عن حمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، له: اصعد أنت، فصعد علي على أكتاف النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بالوثن فكسره) فقالوا: إن من خصائص علي أن النبي صلى الله عليه وسلم، حمله ولم يحمل أحداً غيره، فرد شيخ الإسلام ابن تيمية -العالم الرباني المفتوح عليه- بقوله: لا شك أن من انتفع به النبي صلى الله عليه وسلم خير ممن انتفع بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان أبو بكر الصديق أفضل من علي بن أبي طالب؛ لأنه نفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وليس لأحدٍ علينا منة ولا يدٌ إلا أبو بكر فله عليّ يدٌ يجزيه الله بها) وكأنه يقول: أنا لا أستطيع أن أجزيه بها، إنما الذي يجازيه هو الله تبارك وتعالى، فانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي بكر أكثر من انتفاعه بأي أحدٍ؛ فلذلك كان هو الأفضل، فـ خديجة كانت أفضل النساء؛ لأنها نفعت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد نصرته في وقت عزَّ فيه النصير، وأنت إذا أردت أن تعرف شمائل الناس ونعوت الخلق فاختبرهم في وقت المحن ووقت الشدائد.
جزى الله الشدائد كل خيرٍ عرفت بها عدوي من صديقي وقال آخر: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عَرْفِ العود فخديجة رضي الله عنها أفضل النساء، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما قالت له: (لقد أبدلك الله خيراً منها، قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها)، وفي صحيح مسلم: (أنها أكثرت على النبي صلى الله عليه وسلم من اللوم في الثناء على خديجة، فقال لها: إني رزقت حبها) فحب الرجل للمرأة رزق كالولد والمال، فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! لا تلوميني، فأنا مغلوبٌ على الثناء عليها؛ لأني رزقت حبها).
وحب الرجل للمرأة هو بسبب شمائلها.
المرأة -أحياناً- تريد أن تسمع الثناء من الرجل بلسانه، مع أن الرجل يعاملها معاملة جيدة، وهي تلمس الحنان في تصرفاته وفي كرمه وعطفه وإغضائه عما يرى منها من المكروه، لكنها تحتاج إلى الكلام الحسن، فإذا الرجل لم يتكلم معها بكلام معسول تبدأ المرأة بلومه ومعاتبته وتقول: لماذا لا تقول لي كذا وكذا، فتلقنه كلاماً تريد أن يقوله لها، فالرجل قد يكون مقراً بفضلها ومعروفها لكنه لا يحسن صناعة الكلام، أو ربما لم يتكلم من علةٍ عنده، فالمرأة العاقلة لا تحمله على الكلام حملاً، وكل إنسان قد لا يعترف بالمعروف علانيةً، ولكنه يعترف بينه وبين نفسه في لحظة الصفاء، عندما يسكن يبدأ يقلب الأحداث، فتمر عليه المواقف، فيعرف الوفي من غير الوفي، ويعترف بذلك بينه وبين نفسه.
إنك قد تخدع كل الناس في بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، كل إنسان له لحظات يصفو فيها، فالمرأة لا تكدر صفو زوجها، لاسيما إذا لمست منه العشرة بالمعروف، وهنا قصة أذكرها لكم، وهي: رجل مرضت امرأته، فبكى عليها بكاءً شديداً، فقال له بعضهم: لِمَ تبكي عليها هذا البكاء؟ فقال: إنني أخشى لو ماتت ألا أجد مثلها، ثم شرع يقص بعض شأنها معه، يقول: لقد كانت ابنة مقاول كبير وشهير وصاحب مال، وكنتُ عاملاً عنده، فلما لمس المقاول مني الإخلاص والأمانة والجد والتفاني جعلني رئيساً للعمال، فمارست عملي الجديد بكل إخلاص وود، فأراد الرجل الذكي أن يحتفظ بماله عند يد أمينة، فقال: أزوج ابنتي من هذا الرجل، فزوجني ابنته، فحفظت هذا المعروف، وكنت فقيراً، لم يكن عندي من المال ما أستطيع أن أجعلها في مستوى معيشة أبيها، فكانت الأيام تمضي علينا لا نأكل لحماً، وكان موعدنا كل يوم جمعة عند أبيها على مائدة الغداء، فيأتي والدها بما لذ وطاب وما تشتهيه الأنفس وتسر به الأعين، قال: فكانت لا تأكل شيئاً من اللحم ولا الدجاج ولا البط، فيقولون لها: لِمَ لا تأكلي؟ فقالت: لقد تعبنا من كثرة أكل هذه الأشياء، نأكل دجاجاً ولحماً وبطاً كل يوم، رغم أنها تأكله ولا تراه، فهذه ليست من النساء اللواتي كلما حصل لهن شيء قدمن الشكاوى إلى أهلهن.
يقول: وظلت على ذلك زمناً وأنا لا أعرف، حتى قالت لي والدتها: لا تجعل ابنتي تأكل لحماً دائماً حتى لا تأتي إلينا ولا تأكل معنا، فذرفت عيني، وصرت آخذ لها جزءاً من اللحم، فقلت له: يحق لك أن تبكي، فالمرأة لا تفضح زوجها ولا تكشف ستره أبداً.
ليت نساءنا يتعلمن من خديجة رضي الله عنها، فقد استدلت على جميل نعوته فقالت: (إن الله لا يخزيك) فقد يبتلي الله عز وجل المؤمن، لكن لا يخزيه.
ولذلك لم تقل: لا والله، لا يبتليك الله أبداً، بل قالت: لا والله، لا يخزيك الله، يبتلى المؤمن لكن يخرج من الدنيا بشرف، يخرج من الدنيا بالثناء الجميل والذكر الحسن بين الناس، مثل: الإمام أحمد بن حنبل.
كان الإمام أحمد بعد المحنة أفضل منه قبل المحنة، وأخذ لقب إمام أهل السنة بجدارة، كما كان داود عليه السلام أفضل بعد المعصية منه قبل المعصية -المعصية التي ذكرها الله عز وجل في سورة ص- كما يقول ذلك ابن تيمية رحمه الله.
فالإمام أحمد زكا ونما وصار اسمه علماً مع كثرة نظرائه في زمانه، كان هناك ألوف العلماء مثل أحمد بن حنبل في الذكر والعلم؛ وصار إماماً يقتدى به في علم الحديث وفي غيره من العلوم؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
استدلت خديجة على قولها: (كلا، لا يخزيك) بقولها بعد ذلك: (إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق) وفي غير صحيح البخاري، قالت: (وتؤدي الأمانة، وتصدق الحديث)، المرأة تعلم كل هذا من زوجها بالعشرة، لأن الرجل قد يخدع الناس في الخارج؛ لكن إلى متى يجامل امرأته؟ فهذه المرأة هي التي تعرف أسرار زوجها، ولذلك عندما يموت أحد الكبراء يذهبون إلى امرأته فيسألونها عنه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته من الذي جلاها لنا إلا أزواجه، إذا كنت تريد أن تعرف صدق الرجل ونبله فاسأل امرأته، بشرط أن تكون امرأة تتقي الله تبارك وتعالى وتخشاه، فلذلك خديجة كانت أفضل من عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سر فضلها على عائشة، نصرته في وقتٍ عزَّ فيه النصير.
يقول صلى الله عليه وسلم: (وواستني بمالها)، وليس على الرجل غضاضة أن يستفيد من مال امرأته؛ لكن الرجل -أحياناً- لا يأخذ المال من امرأته لعلةٍ عنده، لكن إذا انتفت العلل فلا غضاضة عليه أن يستفيد من مال امرأته، كما استفاد ابن مسعود من مال امرأته، ومن قبله سيده وسيدنا صلى الله عليه وسلم عندما استفاد من مال خديجة، إذا كنت لا تخشى من امرأتك المن والأذى فاقبل مالها.(9/8)
معرفة المرأة الودود
إذا كان الود له الثقل الكبير في استقرار الحياة الزوجية، فكيف يعرف ود المرأة؟ أقول: كما أنك تستطيع أن تعرف المرأة ولود، فيمكنك أن تعرف أنها ودود أيضاً، فمن أين علمت أنها ولود؟ لا شك أنه بالنظر إلى أمها وأختها وعمتها وخالتها، فيندر أن تكون الأم ولوداً كذلك الأخت والعمة والخالة وتكون هي عقيماً، هذا شيء قد يحدث لكن نادراً، ومعروف أن الشاذ النادر لا يقاس عليه، إنما يقاس على الأعم الأغلب.
كذلك إذا رأيت أمها تحب أباها وتكرمه وترفعه، فاعلم أن ابنتها تكون مثلها، وهذه مسألة مهمة جداً، أما الأسرة التي فيها مشاكل، الرجل يسب زوجته، والمرأة تسب زوجها، والمرأة تشتكي من زوجها لابنتها؛ فلو كان الزوج رجلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فالأم تحدث ابنتها بما حصل وتسب الرجل وتجترئ عليه، وتقول لابنتها: لولاكِ وإخوتكِ لتركت المنزل، فينطبع في ذهن البنت الخوف من الرجال، وتظن أن كل الرجال كأبيها، فيبقى عندها شهوة الانتقام أو بغض الرجل واستحقاره وعدم الوفاء له، كل هذا بسبب الأم، لكن إذا كان الرجل يتق الله عز وجل والمرأة كذلك، فيندر أن يخرج من هذا الجو الأسري الجميل بنت ناشز، وهذا يؤكد عليك وأنت تبحث عن المرأة أن تبحث عن البيت الذي يظلله الدين.
كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، فيقول: أريد أن أتزوج فلانة، وقد كانت متبرجة ولكني أقنعتها بالحجاب، لكن أباها يتعاطى الحشيش، أو أمها كانت أوجدها كان إلخ، فأنصح هذا الشاب دائماً أن يبحث عن ذات الدين في البيت الذي يظلله الدين، صحيح أن يمكن أن تكون سيئة جداً ومتبرجة وراقصة، ثم قد تصبح من أفضل المؤمنات، وقد تكون امرأة في قعر الفاحشة ثم تصعد إلى قمة العفاف، لكن الشاذ لا يقاس عليه.
أنت -مثلاً- لو جئت إلى امرأة متبرجة تكشف زينتها للأجانب، وقلت: أنا سأكسب فيها أجراً وسأتزوجها وأكون سبباً في هدايتها، فلما تزوجتها ما رأيت منها سعادة قط، فبعد ذلك تأتي وتشتكي، فنقول لك: يا أخي! العينة بينة، أنت تعرف أنها كانت كذا.
وقد يتزوج الرجل امرأةً متحجبة، لكنها تريه النجوم في عز الظهر، فعندما يأتي ويشتكي؛ نقول له: أنت فعلت الذي عليك، وحظك هكذا، انتقيت وأخذت بالأسباب ولكن لم توفق.
فانظر إلى الفرق بين الحالة الأولى وبين الحالة الثانية، الحالة الأولى: يلام؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب الشرعية، والحالة الثانية، يحط عنه اللوم، ويُعزى ذلك إلى الغيب {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81]، فالذي عليك أن تبذل وتذهب إلى بيت يضلله الدين، الأب ملتزم والأم كذلك، فإذا تزوجت منهم ووجدت أن هذه المرأة تشقيك فعلى الأقل تكون مستريحاً بينك وبين نفسك؛ لأنك بذلت ما في وسعك.(9/9)
الأولاد سبب في تقوية العلاقة بين الزوجين
مسألة الود هي مسألة خفية، وكذلك مسألة الولادة مسألةٌ خفية، يستدل عليها بشيء خارج، وهذه القاعدة قلناها في أكثر من مناسبة، لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، هذا السرور عمل قلبي، ونحن لا نستطيع أن ندرك أعمال القلوب، فما الذي يؤكد لي أن هذا الرجل مسرور أو غير مسرور؟ فقال العلماء: ينصب لذلك دلالةٌ وعلامةٌ في الخارج يعلق عليها الحكم، فإذا لم تقم له غضب، فالغضب علامةٌ خارجية أنت تراها، يجدر بك أن تعلق الحكم عليها، فإذا غضب لأنك لم تقم له، دل ذلك على مدلول قلبه وأنه يسر إذا قمت له، فلما كان عمل القلب خفياً لا يعلمه إلا الله، نصب لك دليلاً خارجياً تراه بعينك فتعلق عليه الحكم، كذلك الودود الولود.
الود والولادة نحن نصبنا شيئاً من الخارج مثل: البيت الذي يظلله الدين، والأم الولود، والأخت الولود، والخالة والعمة، فهذه كلها أشياء يصح أن تعلق الحكم عليها: (خير نسائكم من أهل الجنة الودود الولود).
ذكرت كلاماً مجملاً في الخطبة وهو: أن الولد يمثل الأواصر بين الزوج والمرأة، والرجل كلما أحب المرأة فإنه يحب أولاده منها، وإذا كره المرأة قد يكره أولاده منها، والعبارة دقيقة؛ لأن الرجل عادةً لا يكره ولده، لكن قد يكره أولاده منها، وأولاد الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة -ما عدا إبراهيم، فمن جاريته مارية - ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ورزقني الولد منها إذ حرمني أولاد النساء) وأولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها هم: القاسم، وبه تكنى صلى الله عليه وسلم، والطاهر، والطيب -على قول لبعض أهل العلم- وقال بعضهم: بل هو عبد الله وكان يلقب بـ الطاهر والطيب واتفق العلماء جميعاً على أن كل الذكور ماتوا صغاراً، والباقي نساء، وهن: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، كلهن من خديجة رضي الله عنها.
ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاً لثمانٍ وثلاثين سنة، منها: خمس وعشرون سنة مع خديجة، ومن كرامتها عليه أنه لم يتزوج امرأةً معها أبداً، وليس معنى هذا أن الرجل إذا تزوج على امرأته أنه لا يكرمها أو يضيع كرامتها، لم يتزوج عليها وهي حية، وبعد خمس وعشرين سنة تزوج بعدها النساء، أولهن: سودة، ثم عائشة نكحها بعد موت خديجة بثلاث سنوات، رضي الله عنهن جميعاً.
فالولد يمتن الآصرة، والمرأة إذا لم تلد تبحث عن كل سبيل ليرزقها الله الولد حتى تمتن الآصرة بينها وبين زوجها، وتظل خائفة إلى أن تلد.(9/10)
أهمية دور الآباء في الإصلاح بين الزوجين
جاءت عمة شريح القاضي تزوره بعد سنة من زواجه بابنتها، قالت له: كيف وجدت امرأتك؟ قال: على ما يحب الصديق ويكره العدو، قالت له: يا أبا أمية! إن المرأة لا تكسد إلا في حالتين: أن يكون لها حظوةٌ عند زوجها، وأن يأتيها الولد.
تعني بذلك: أن المرأة تتكبر وتكثر من طلباتها عندما يكون لها حظ عند زوجها، أي: يحبها كثيراً -لكن المرأة التي لم يرزقها الله الولد تتودد؛ لأنها تريد أن تعيش، لذلك يقل نشوزها عن المرأة التي لها حظوة ولها ولد، فالمرأة إذا كان لها أولاد، فإنها تعرف أن الرجل يحب الأولاد، فدائماً عندما يدخل الأب ويرى الولد ويقبله ويحاول أن يسمع صوته عبر سماعة الهاتف -إذا كان خارج المنزل- فتقوم وتعزف على وتر الأولاد، فتنشز عن زوجها وتأخذ الأولاد معها؛ لأنها تعرف أن زوجها لا يستطيع أن يعيش بدون أولاده؛ فيضطر أن يذهب إليها ليسترضيها ويخطئ نفسه ويعتذر حتى تعود إلى بيتها مع الأولاد، فهذه المرأة تعين شريح القاضي على ابنتها، وهذه من خير النساء.
إن الأب الجيد عندما تأتي ابنته إليه غاضبة من زوجها فإنه يرجعها إليه مباشرة دون تحقيق ولا انتظار، ولا عقد محاكمة للزوج، ويكون قد أعلم ابنته قبل أن تتزوج أن المرأة إذا تزوجت فليس لها إلا بيت زوجها، ويعظم الزوج عند زوجته، بخلاف الذي يجمع ابنته وزوجها ويقول له: أنت مخطئ لماذا لا تعاملها بالمعروف؛ فيشجع ابنته على زوجها، وهذا خطأ، فهو بهذا الأسلوب يهدر قوامة الرجل، لكن إذا أراد أن يعاتبه فليعاتبه لوحده منفرداً، ويعيد إليه زوجته ويحفظ له كرامته، وقد يكون الزوج معوزاً فقيراً فأعطه بعض النقود أو هدية، وقل له: اعط هذا ابنتي عن طريقك، فأنت بهذا الأسلوب تكسب قلب الزوج، وفي نفس الوقت الهدية ستصل إلى ابنتك.
هكذا كان خلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابنته حفصة، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث ابن عباس عندما قيل: (إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، قد كن هجرنه من الليل حتى الصباح، فجاء عمر بن الخطاب وقال لـ حفصة: أي: حفصة! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره من الليل حتى الصباح؟! قالت: نعم.
قال: ما يؤملك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، ثم أوصاها بوصية -ينبغي لكل والد أن يوصي ابنته بها- فقال لها: لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (نساء قريش خير نساءٌ ركبن الإبل، أحناه على ولدٍ، وأرعاه لزوجٍ في ذات يده).(9/11)
تحديد النسل مخالف للشرع
سئل: الرسول عليه الصلاة والسلام: (عن امرأةٍ جميلةٍ لا تلد، وعن أمةٍ تلد، فنصح بزواج الأمة التي تلد).
لأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم الأمم)، إذاً كثرة النسل مطلوبٌ شرعاً، وتحديد النسل بالطريقة التي يدعو إليها المتهوكون لا تجوز شرعاً باتفاق العلماء، وما يجوز للفرد في ذاته أن يعمم على المجموع، فمثلاً: اتفق العلماء على أن الأذان فرض كفاية، وأنه لا يجب الأذان وجوب عينٍ على كل فرد، واتفقوا على أن رفع الأذان من أي فرد واجب، إذاً رفع الأذان بوقت الصلاة متعينٌ على مجموع الأمة، ساقطٌ عن كل فردٍ فيها إذا قام به أحدهم، فإذا جئت فقلت: إن هذا واجب عليهم جميعاً، فهذا منكر، كما قال العلماء.
فالرجل يجوز له أن يباعد ما بين فترات الحمل بمانعٍ من موانع الحمل، فإذا جئت فقلت: هذا الجواز للفرد واجبٌ على المجموع، قال العلماء: هذا منكر ولا يجوز، إنما المسألة لكل فرد بقدر ظروفه وحالته، فالدعوةُ العامة إلى تحديد النسل من أنكر الدعاوى، وجريمة من أعظم الجرائم، ويتعذر هؤلاء المدعون أنه لا يوجد طعام ولا شراب، كأنهم هم الذين يرزقون الناس، لكن نحن نقول: دع الناس الذين بدون أعمال يعملون.(9/12)
الإصلاح الإداري هو الحل لا تحديد النسل
في كل ميل مربع من الوطن العربي يعيش فيه ثمانية وسبعون فرداً، وفي أوروبا كل ميل مربع يعيش فيه مائة وثمانية وعشرون فرداً، نحن لا نعاني من كثرة الناس، فمثلاً: يبلغ عدد سكان مصر نحو الستين مليوناً، ويعيشون على (4%) من مساحتها، وهو الشريط الأخضر حول النيل وبعض البقاع المتناثرة القليلة.
إذاً: المسألة فساد إداري لا كثرة أنفس، الضربات المستمرة الجائرة الظالمة لتوظيف الأموال كانت سبباً في هروب رأس المال إلى الخارج، فالمصريون كانوا يحولون كل عام أربعة مليار دولار، فتقلص هذا المبلغ كثيراً، وصاروا يودعون أموالهم في البنوك الخارجية.
رجال كانوا من الأغنياء، كان معهم ستمائة ألف مليون، فصاروا يستحقون الآن أموال الزكاة بسبب ضرب شركة توظيف الأموال، وفي خلال ثلاث سنوات كان رأس مال بعض الشركات ثلاثة مليار وواحد من العشرة، أي: أن الناس كانوا يودعون كل سنة ملياراً، أين هذه الأموال؟ وهذه الصحراء ألا تحتاج إلى رأس مال؟ لماذا لا يقال للناس: اخرجوا إلى الصحراء، (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قرأنا في جريدة الأهرام -قبل حوالي ثلاث سنوات- محنة أربعة إخوة جاءوا من سويسرا بعد خمس وعشرين سنة عمل، أول ما أعلنت الثورة الخضراء، وأن الذي يصلح أرضاً يأخذها، فذهبوا واشتروا ألف فدان، وظلوا يعملون أربع سنوات أو خمس، أنفقوا فيها تقريباً جلّ المال الذي جمعوه على مدار خمس وعشرين سنة، وبعد أن اخضرت الأرض، ذهبوا من أجل أخذ عقود التمليك، فأبوا أن يعطوهم عقود التمليك، لماذا؟ قالوا: سنبيع الأرض لكم بمبلغ وقدره كذا وكذا، لماذا تبيعونه، والصحراء مد البصر؟ يريدون أن يبيعوا لهم الأرض بعد أن أصبحت خضراء! ثم عجزوا عن أخذ عقد تمليك الأرض.
أنا عندما أكون رجل أعمال وأقرأ هذا الخبر في الجريدة الرسمية، وأنهم عجزوا عن أخذ عقد تمليك للأرض، فلا أفكر أن أضع مالي أو رأس مالي كله في أرض ثم يأخذونها مني بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له).
إذاً: المسألة فساد إداري فقط، (96%) من أرض مصر صحراء، وهناك رءوس أموال ضخمة جداً، فلماذا لا يطلق للناس العنان؟ نظموها واعملوا لكل رجل ألف فدان، ويدفع رسوماً معينة كنوعٍ من المعونة للصرف على الإداريين والموظفين القائمين على المشروع، ثم تطلق يدك فيها وتدعها للناس، بعدها سنخرج من مشكلتنا، أما أننا نقلص من نسلنا، والنصارى يعطون للرجل الذي يأتي بالولد الرابع علاوة إضافية، فهذا لا يوجد عندنا، بطاقة التموين التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لو أن أحداً لديه خمسة أولاد فإنه لا يكتب في البطاقة إلا اسم ولد واحد مع الأب والأم، مع أنهم قد جعلوا أربعاً وعشرين خانة للأولاد، من أجل تحديد النسل، ولقد صرفوا على تنظيم الأسرة الملايين، لو أحيوا بها أرضاً لأكل كل أولاد الدنيا منها، لكن كل هذا من أجل التنفير من كثرة الولد التي هي نعمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) أفلا تحقق أمنية النبي عليه الصلاة والسلام؟ إذا كان هو يريد أن تكون الأمة كثيرة فمحبة له نتكاثر.(9/13)
الأسئلة(9/14)
حكم إمامة من به مرض سلس البول
السؤال
إمامٌ يصلي بالناس وعنده سلس بولٍ، فماذا يفعل في الوضوء، علماً أنه يتوضأ عند كل صلاة مباشرةً؟
الجواب
هذا لا شيء عليه، إذا كان هو أحفظ الناس لكتاب الله تبارك وتعالى، أو هو الإمام الراتب للناس، فمن صحت صلاته لنفسه، صحت لغيره، بشرط أن يتوضأ لكل صلاة.(9/15)
حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر
السؤال
عندنا شيخٌ يجيز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، ويستدل بأن السيدة عائشة كانت تصلي في الغرفة المدفون بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وسيدنا عمر عندما وجد الرجل يصلي إلى القبر قال له: القبر القبر، فمال يميناً أو يساراً ولم يأمره بإعادة الصلاة، إذاً: صلاته صحيحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد من بعدي) إذاً: القبور التي لا تعبد يجوز أن يصلي المرء بجانبها؟
الجواب
هذا الكلام كله غير صحيح؛ لأننا نقول: هل لدى المدعي دليلٌ على أن عائشة كانت تصلي في الحجرة بعدما دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر؟ وهل كانت تسكن فيها؟ كل هذا كذب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(9/16)
الأعداء الثلاثة
أيها السائر الغريب التائه في دروب الحياة! هل لي بمحنك خطة تواجه بها ما ابتلاك الله به في هذه الحياة؟! إن هناك ثلاثة من الأعداء يتربصون بك.
فهل حصنت جبهاتك النفسية والأسرية والاجتماعية ضد أولئك الأعداء؟! هل تعرف كيف تدافع عن نفسك إذا ما داهمك الشيطان؟ غزا دينك في عقر داره -القلب- مزيناً لك ما فيه هلاكك؟! هل تعرف ما تصنع ضد شياطين الإنس الذين يزينون لك الفواحش والمعاصي؟! ثم ألا تعلم أن نفسك هي ثالث أعدائك؟ وأنك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؟!(10/1)
أهمية التخطيط للعمر
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهل يروم النصرَ رجلٌ يقاتل عدوَّه بلا خطة؟! إن الجيوش إذا دخلت في حرب تضع خطة للنصر وأخرى للهزيمة.
إذا انتصر ماذا يفعل؟ إذا استولى على أرض عدوه ماذا يفعل؟ إذا أخذ نصفها ماذا يفعل؟ كيف يحتفظ بالنصف الذي أحرز؟ وكيف يحرز النصف الذي أخفق في إحرازه أول مرة؟ وكذلك: إذا انهزم وولى وأدبر أينهزم هكذا خَبْطَ عشواء، أم ينهزم بخطة حتى لا يُدَمَّر، حتى يقلل الخسائر؟ أي جيش في الدنيا يدخل معركةً لابد أن يضع خطة يواجه بها كل احتمال.(10/2)
شياطين الإنس
عدو الإنس قد يكون من أقرب الناس إليك {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14]، قد يكون من أقرب الناس إليك من يصدك عن الله، تريد أن تلتزم يصدك، خائن يريد أن يأكل رزقك، يريد أن يعيش عيشة الأنعام فيصدك لتكون مثله.
يقول لك: التزامك يضرني فلا تلتزم.
فإن قلت له: هل ودخولي النار لا يضرك؟! تعرضني لعذاب الله ولا يضرك؟! إن كنت تحبني أجب عن هذا السؤال.
- يقول: إن التزامك يؤثر على منصبي.
وتقول له: وانحرافي أنا يعرضني لعذاب الملك، أهذا يرضيك؟! - يقول: نعم.
بلسان الحال وإن لم ينطق بها.
كذلك قضى الله عز وجل على هؤلاء، على هذا النمط: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11]، أعز ما يملك، يقول: يا رب! أدخلهم النار ونجِّني، فإن لم يكفِ هؤلاء {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12]، خذ امرأتي وأخي ونجَِّني، فإن لم يكف هؤلاء {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13]، خذ الأسرة كلها ونجِّني، فإن لم يكفِ ذلك {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14] اعرف هذا! وبعض هؤلاء الأعداء لهم لسان جميل، ومنطق عذب، وقد يصادف عِيًّا في المريد فيضل ويهلك.
وأنا أعطيك مثلاً لتعتبر به، كعب بن مالك كان أحد الأمراء في الجاهلية، فلما أسلم وتخلف عن غزوة تبوك ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وجاء المنافقون يعتذرون إليه جاء كعب بن مالك من جملة من يعتذر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما خَلَّفك؟ قال: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الأرض لرأيتُ أنني أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -أي: أنا رجل مجادل صاحب لسان لا أُغلب، لكن الشوكة التي في ظهري أنني أمامك، لو كنت عند غيرك لعرفت كيف أخرج، وكيف أعتذر، وكيف أبكيه على حالي بالمنطق المقنع واللسان العذب- لكنني لو حدثتك حديثاً ترضى به عني يوشك الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، والله! ما كان لي من عذر.
-إلى آخر كلامه- ثم خرج من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فقابله بعض أقربائه: ماذا قلت؟ قال: قلت: كذا وكذا وكذا.
فقالوا له: والله! لقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله، ما نعلم أنك أذنبت إلا هذا الذنب- ألم تكن تقدر أن تقول له: اعتذر لي، هو ذنب واحد فقط، لو قال: اللهم اغفر لـ كعب ذهب الذنب، أنت ما الذي ورَّطك هذه الورطة؟ وجعلك تعمل من نفسك صادقاً، فرحت تدين نفسك هنا بلسانك- قال: فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي) هذا نموذج من رجل عنده جدل، فكيف بشخص ضعيف لا يستطيع أن يتكلم ولا يستطيع أن يدلي بحجة؟! ماذا سيفعل فيه مثل هذا الكلام؟ عدو الإنس يزين لك وهو أخطر من عدو الجن من أوجه: أولها: أن عدو الجن إذا استعذت بالله فر، وعدو الإنس ماكث لا يفر.
ثانيها: أن عدو الجن لا تراه؛ لكن عدو الإنس يراك وتراه، وفي المشافهة والمخاطبة إقناع، بعض الناس يقتنع لمجرد أن يرى وجه المتكلم، وانفعاله وأساريره، وهذا له دخل كبير في الإقناع، ولذلك ليس مَن رأى كَمَن سمع، إذا كنت تستمع لخطبة الجمعة فإنك تنفعل بها وتؤثر فيك؛ ولكن خذ الشريط واسمعه بعد شهر، ستجده لا يؤثر فيك مثلما يؤثر فيك، وأنت تسمع الكلام المباشر.
فشيطان الإنس أخطر، ولذلك احذره ألف مرة.
ثم احذر نفسك التي بين جنبيك، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].(10/3)
الأعداء الثلاثة الذين يتربصون بالإنسان
أيها السائر الغريب التائه في دروب الحياة! هل لك خطة، تواجه بها أعداءك التقليد بين الثلاثة؟!! أولهم: شيطان الجن الذي قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، يأتيك من كل جهة ويحاصرك، ليس له هدف إلا أن يدخلك النار، يتربص بك الدوائر ليل نهار، ولا يفتُر عنك طرفة عين.
العدو الثاني: عدو الإنس الذي يزين لك الباطل، ويُضْعِف قلبك ويسرق لبَّك.
العدو الثالث: نفسك التي بين جنبيك تتقلب بها ليل نهار.
هل لك خطة وأنت سائر على الطريق؟ ألك خطة تنجو من هؤلاء الثلاثة، وأنت وحدك لا تقوى على مواجهة واحد منها؟ يُفْجِعُ المرءَ أن يكون جواب أغلب الكافة: أن لا خطة! ثم يروم بعد ذلك أن يصل إلى الله سالماً! كيف الوصول وقد يسترقونك وأنت في الطريق.(10/4)
الشيطان وعداوته للإنسان
شيطان الجن الذي يزين لك كل قبيح، وهو الذي حادّ الملك، حادَّه ورفع عقيرته بخلافه، ولم يأبه به، فمن أنت؟ ما هي قيمتك، وأنت صيده الثمين؟ شيطان الجن، الله عز وجل ملكك أكتافه ونصرك عليه.
إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولى.
مهما كان مارداً عاتياً لا يقف ولا يثبُت.
فأنت بربك، وقوتك به، وإلا غلبت، ولو اجتمعوا عليك غلبوك يقيناً، فأنت عُذْ بالله لتنجو، فهل عرفتَه؟! إن دروب الحياة مهلكات، يتربص بك هذا الذي أظهر لك عداوته قبل أن يكون لك سن تقطع أو يد تبطش، أرأيتَ نذالة في عدو مثلما رأيت في الشيطان!! قال صلى الله عليه وآل وسلم: (ما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً) كل ولد أول ما ينزل من بطن أمه يصرخ، لماذا يصرخ؟ مسه الشيطان، وكزه، طعن في خاصرته، وهو طفل ضعيف، ما له سنه تقطع، ولا يد تبطش، ولا يدري شيئاً.
مهلاً! يا عدو الله: لماذا تظهر عداوتك له من أول لحظة؟! وكزه، فلما وكزه صرخ، لهذا يبكي الولد إذا وُلِد.
(ما من مولود إلا يستهل صارخاً ذلك أن الشيطان مسه إلا مريم وابنها)، ذلك أن امرأة عمران قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35]، خالصاً، محرراً من أية مصلحة، لا أريد الولد ليحمل اسمي، لا أريد الولد ليرث أملاكي، لا أريد الولد ليكون بصري إذا فقدتُ البصر، أو عكازي إذا فقدت قوتي، لا أريد الولد إلا لك، {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] من أية مصلحة، هل فعل نساؤنا ذلك؟ هل خطر على بال الواحدة وهي تنظر إلى بطنها أن تقول ما قالت امرأة عمران، {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
فلما أخلصت نيتها لله عز وجل امتن عليها بأربع نعم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37].
قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض رِيَّا ونظرةٌ بعين رضاك تجعل الكافر ولياً فكيف وقد تقبلها بقبول حسن؟! {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران:37]، تعاهدها منذ الصغر، {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، موت الرجل من أعظم المصائب في حياة المرأة، وطلاق المرأة كسرها كما قال عليه الصلاة والسلام.
لا يحس بما أقول إلا المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة وتنفق على أيتام لها، أو المرأة التي طلقها زوجها وضيَّعها أهلها.
معنى: {كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]: صانها ورفع قدرها وجنبها عناء مصارعة الخلق في الحصول على الرزق.
وهذه نعمة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى امرأة لا تشكر زوجها).
لماذا؟ لأنه يكفلها، ينتزع رزقها ورزق أولادها من مئات الأيدي والأفواه، ثم يأتي براتبه فيضعه بين يديها، فهي لا ترى غيره، وهو يرى ألوفاً، منهم اللئام، ومنهم الكرام، هذا الراتب مجهود فَعَلَه الرجل، لذلك إذا جَحَدَت خير زوجها مقتها الله ولم ينظر إليها.
مريم مات أبوها الكفيل، فلم يُسْلِمْها ربها إلى الخلق، بل رزقها بغير حساب، وصان لها ماء وجهها.
لقد أنعم الله على مريم بهذه النعم الأربع لماذا؟ لأن أمها أحسنت بأن وهبتها لله {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، ولذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان.
إذاً: نأخذ من هذا الحديث أن الشيطان يعلمك بعداوته برغم أنك لا تعقل، يقول لك: تذكر عداوتي، أنا ما نسيتك، ولذلك قال الله عز وجل {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]، أمعقول هذا الكلام؟! تتخذه ولياً وهو عدوك وتترك وليك الله الملك الحق فلا تواليه؟! {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].
فهذا عدو لدود ما هي خطتك في مواجهته؟!(10/5)
زاد على الطريق
ما الذي يخفف عليك جفاف الدروب المهلكة؟ محبة الله عز وجل، إن الحب يطيل النَّفَس فيعطي القلب قوة، ويعطي الجوارح قوة.
فما هي حقيقة الحب الذي نقول: ينبغي أن نعلمه أولادنا ليصدق انتماؤهم إلى الله ورسوله؟ وَقُود الانتماء: الحب، وجناحاه: الولاء والبراء.
فما هو الحب؛ لأن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره؟ قال الناس: الحب إشارة إلى الصفاء والضياء.
والعرب تقول إذا رأت أسناناً بيضاء متلألئة، تقول: حبب الأسنان.
أو هو من الحباب وهو الشيء الذي يطفو على ماء المطر إذا نزل، فكأن الحب هو هيجان القلب وثورته إلى لقاء المحبوب.
أو هو من اللزوم والثبات والاستقرار يقال: (أحبّ البعير) إذا برك ولم يقم؛ فكأن الحب هو لزوم قلب المحبوب، فلا يروم عنه تحولاً.
أو كأنه من الحَب الذي هو أصل الشيء، كما أن الحَب هو أصل الزرع.
فالحب هو إيثار المحبوب على المصحوب.
وهو رعاية الحبيب في المشهد والمغيب.
وهو إيثار الخدمة مع وافر الحرمة.
الحب أن لا يكون لك إرادة مع من تحب، تنفعل له ولو كان بضد رغبتك.
يخط الشوقُ شخصَك في ضميري على بُعد التزاوُر خَطَّ زوري ويُوهم منك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعُد فإنك نورُ عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ إذا ما كنتَ مسروراً بهجري فإني من سرورك في سرور مسرورٌ أنك هجرتني! فأنا راضٍ وأنا مسرور، برغم أن الهجر للحبيب قوي وشديد؛ لكني مغلوب على ما تحب، فلا أرى إلا ما تحب، حتى لو كان بضد رغبتي.
هو هذا معنى أن لا يكون لك إرادة، ولذلك ترى المحبين مهانين ليس لهم كرامة، ولو قال المحب: كرامتي، فليس بمحب، لكنهم مُهْدَرُو الكرامة، يُهان المحبُّ ويَذِل وهو راضٍ مستكين.
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ما مَن يهون عليك ممن يُكْرَمُ شاكلتَ أعدائي فصرتُ أحبهم إذا كان حظي منك حظي منهمُ أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ أهنتني فأهنت نفسي جاهداً؛ لأن إهانتي ترضيك، ماذا يفعل بي عدوي أكثر من أن يهينني، فلما أهنتني وأهانني عدوي صرت مثل عدوي، فأحببت عدوي لأن فيه صفة منك، كما أن حظي منهم الإهانة، وحظي منك الإهانة أحببتهم لذلك.
الحب: أن لا يكون لك إرادة مع من تحب.
كان مالك بن نويرة رجلاً مسلماً، فلما تنبأت سجاح الكاذبة التي ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وفي أول خلافة الصديق، تابعها مالك بن نويرة، فلما أرسل أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد ليؤدب المرتدين، وبلغه أن مالك بن نويرة تابع سجاح الكاذبة، وقال بعض المسلمين لم نسمع منهم أذاناً ولا إقامة، ورأى أنه كفر، أمر به فقُتِل وتزوج امرأته.
أخوه متمم بن نويرة كان شديد الحب له، ما رأيت رجلاً تفجع في رثائه على أحد مثلما تفجع متمم على أخيه، فلما قتله خالد بن الوليد رثاه متمم بن نويرة بأبيات، فكان دائماً يبكي لا يُرى إلا باكياً، فمن شعره: فقال: أتبكي كل قبر رأيتَه لقبر ثَوَى بين اللوى فالدكادك فقلتُ له: إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك لا يرى قبراً على وجه الأرض إلا هو قبر محبوبه الذي دفنه فيه.
دعني لا أرى قبراً على وجه الأرض إلا قبر من مات من أحبتي.
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك هذه طبيعة الحب وطبيعة المحب.
فهل لما أرسل الله عز وجل نبيه بالهدى ودين الحق تأدبتَ بتأديب الله عز وجل إيانا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]؟ هذا هو معنى أن لا يكون لك إرادة مع محبوبك.
إذا أمرك بضد هواك تسارع أكثر مما لو كان وفق هواك.
هذا عنوان الحب؛ ولذلك جعل الله عز وجل الفعل علامة قائمة على ثبوت الحب فقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
تُحب! لابد أن تقيم دليل المحبة وهو الاتباع، وهو أن لا تخالف أمره في دقيق ولا جليل، ذلك عنوان الحب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(10/6)
المحبة في القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قد أكثر الله عز وجل في كتابه من ذكر المحبة: فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4].
وفي المقابل نفى الحب: فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].
{فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32].
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]، ولا المشركين.
{لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
فلما وقفت على الصيغة: (لا يحب)، ففتشت في القرآن عن لفظة (يكره) مسندة إلى الله.
ما وجدتُ إلا مكاناً واحداً {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، وتعلق هذا الكره بالفعل.
فلماذا (لا يحب) بدل (يكره)؟ قضيت ليلتي متفكراً، ما اكتحلتُ بنوم حتى أذن الفجر، وظللت بعد الفجر ساعتين لا أنام، أريد أن أصل إلى هذا المعنى، وفتشتُ في كتب أهل العلم في المظان، فما وجدت، فانقدح في ذهني معنى إن كان صواباً فمن الله عز وجل وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله مما يسبق إلى الخاطر، ووالله! لقد كان أحب إلي أن أقرأه لعالِم فأنسبه إليه ليزداد شرفاً.
(لا يحب) أفضل مِن (يكره) مِن وجه واضح: أن ذكر الحب حتى في طريق نفيه يهيج على الحب، يبعث عليه ويذكر به، والله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء:147].
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كتب في كتابه الذي هو عنده أن رحمته تغلب غضبه).
إذاً: هو يذكرهم بنعمه، فلما يذكر (لا يحب) فهذا يهيج على الحب بخلاف ما إذا قيل: يكره التي ليس فيها تهييج ولا تذكير بالحب؛ لذلك كان عدم الحب أفضل في الذكرى والتذكير لصالح العبد من الكره، مع أن الذي لا يحبه الله عز وجل يكرهه، لذلك قال (لا يحب).(10/7)
اسم الله (الودود)
باب الأسماء والصفات ربما وقفنا عنده طويلاً لنعلم الناس كيف يحبون الله، لنعلم الناس صدق الانتماء إليه.
أرأيت إلى هذه الصفة ما أجملها! وأرقها! وأحنها! الودود، لم تتكرر في القرآن إلا في موضعين اثنين، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90] وفي الآية الأخرى في سورة البروج: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، الصفات حين تقترن ببعضها تؤدي معنى عظيماً.
رحيم من الرحمة؛ لكن صفة الرحمة اقترنت بصفة العزة في مواضع من القرآن، وتستغرب؛ فإن العزة معناها القهر والانتقام والبطش، فكيف اقترنت بالرحمة؟ تأمل في سورة الشعراء بعد ذكر قصة كل نبي، ويذكر الله عز وجل لنا كيف أهْلَكَ المكذبين، يُتْبِع كلَ قصة بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، عزيز لأنه أهلك المجرمين، رحيم لأنه الطائفة المستضعفة، فصفة الرحمة من الممكن أن تقترن بالعزة، وصفة العزة دائماً صفة استعلاء، {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:23]، {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4]، {الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود:66]، {عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42]، صفة العزة صفة هيمنة وجبروت واستعلاء؛ لكن من الممكن أن تقترن بالرحمة.
الغفور من الممكن أن تقترن بالعزة {الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
لكن الود لم يقترن إلا بالرحمة والمغفرة، فإذا ذكر الود فاعلم أن كله رحمة أوله وآخره.
فانظر: ودود (فعول)، كثير الود، والود من المستغني جميل، إذا تودد الضعيف يقال عنه: يتزلف، منافق، له مصلحة، إذا تودد المحتاج لم يكن لِوُدِّه ذلك المعنى الذي يكون للمستغني، ولذلك قال العلماء: الزهد من الأمير حَسَن، رجل فقير وزاهد، أنت تقول: وهل هو لاقٍ شيئاً؟! فبالطبع لابد أن يزهد، ليس عنده شيء؛ لكن إذا رأيت أمير المؤمنين يزهد عَظُم في نظرك الزهد ورأيتَ له طعماً.
والقادر إذا عفا وغفر كان لغفرانه طعم.
فالله عز وجل المستغني العزيز له الأسماء الحسنى والصفات العلا يتودد إليك، وهو لا يحتاجك، فما أجمل هذه الصفة في موضعها! لا سيما إذا سُبِقت بالرحمة وسُبِقت بالمغفرة.
أتفر منه؟! يهون عليك ويقوى قلبك على مشهد العصيان له؟! والله! ما هذا بالنَّصَف، ما هذا بالإنصاف، وهو المتفضل عليك، نعمه عليك من شَعَر رأسك إلى أخمص قدمك.(10/8)
التوكل على الله وحسن الظن به
إن الذين تنفك عزائمهم في المحن لا ينظرون إلى الله حال الابتلاء؛ لكن ينظرون إلى كيد العدو، لذلك تنفسخ العزائم؛ إذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا اخرج، سأل نفسه سؤالاً: أنا لو خرجت فمن أين آكل؟ أين أبيت؟ هذه هي الجهة التي نظر إليها! هل لما ولى وجهه قال: الله يؤويني ويسترني، ولا يضيعني وقد أطعته، وقد حفظني وأنا عاصٍ له.
فلا تظْنُن بربك ظن سَوء فإن الله أولى بالجميل لكن الجهة التي ينبغي أن يَنْظُر إليها ليس فيها أحد؛ لذلك انفسخ عزمه.
التوكل على الله عز وجل أصله اعتماد القلب على الله.
أيها المبتلى! أنت عبده، وأنت من خلقه، وإنما أنزل إليك الكتب وأرسل الرسل ليحمِيَك من عدوك، فاطمئن، لن يُسْلِمَك، وسيذكرك {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
الله حسبك وكافيك، وانظر ما أجمل هذه الصفة! صفة الحَسْب، حَسْب، كل حَسْب ورد في القرآن مَعْزُوٌّ إلى الله عز وجل فهو خالص له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، لم يشركوا مع الله أحداً في الحَسْب.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64].
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62].
ثم انظر إلى هذا الموضع الجميل الجليل الدقيق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، فلما ذَكَر الإيتاءَ ذَكَرَه لله ورسوله، ولما ذكر الحَسْبَ أفْرَدَ نفسَه به، {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله} [التوبة:59] لم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل أفردوا الله بالحَسْب، إذ لا يقدر على رفع الضر إلا الله، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18].
فالحَسْب اعتماد القلب على الله، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، هذا هو الحَسْب، فإذا اعتمدت في وقت المحن بقلبك على الله عز وجل لا يُسْلِمُك إلى عدوك.
إن العرب في الجاهلية وهم جهلاء كفروا بالله ورسوله، كان الرجل الضعيف إذا استجار بواحد قوي، وقال الرجل: هو جار لي، لا يقدر أحد على إيذائه لِمَنَعَتِه وقوته، فإذا دخلت في جوار الله عز وجل تظن أن الله يُسْلِمُك؟! تظن ذلك؟! لله در أبي بكر -رضي الله عن أبي بكر - لما خرج -كما في صحيح البخاري- مهاجراً وولى وجهَه شطر البحر قابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومك، أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.
قال: يا أبا بكر مثلك لا يَخْرُج ولا يُخْرَج، ارجع وأنا جار لك -أنت في حمايتي- ثم ذهب ابن الدغنة إلى الكعبة ونادى في الناس: ألا إني أجرت أبا بكر، فما تعرض أبو بكر بعدها لأذى.
وكان أبو بكر يصلي وقد اتخذ مسجداً في داره، فكان يصلي داخل الدار، فمضى وقتٌ، فبدا له أن يبني بيتاً في فناء الدار -خارج الدار- وكان أبو بكر رجلاً أسيفاً كثير الأسف سريع الدمعة، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، فكان إذا قرأ وبكى اجتمع النساء والولدان عليه يتفرجون -ما هذا الشيء العجيب؟ أول مرة يرون رجلاً يبكي، ويسمعون كلاماً يقطع نياط القلوب- فلما رأى المشركون هذا المنظر، قالوا لـ ابن الدغنة: ما على هذا اتفقنا، مر صاحبك يدخل الدار؛ لأننا نخشى على نسائنا وأبنائنا أن يفتنوا، وإلا فرد جوارك، لن نسكت، لا نرضى أن نخفر جوارك، فجاء ابن الدغنة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقال: يا أبا بكر صل إن شئت في دارك ولا تستعلن وإلا رد علي جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أنني أخْفِرْتُ في جواري، قال أبو بكر: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.
فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل باب الأسماء والصفات باب خطير في زيادة الإيمان، وتأمل الأسماء المقرون بعضها إلى بعض، تزدد بها إيماناً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هَزْلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(10/9)
الغربة والتمكين
الغربة الحقيقية ليست هي الغربة عن الأوطان والأحباب، لأن صاحب هذه الغربة قد يجد من يؤنسه في غربته، وقد يرتاح فيها أكثر مما هو في وطنه، ولكن الغربة الحقيقية هي غربة الدين، فغريب الدين غريب بين أهله وذويه، وبقدر الصبر والاحتساب في هذه الغربة يكون الاستخلاف والتمكين؛ تصديقاً لموعود الله جل وعلا.(11/1)
اقتران الغربة بالاستضعاف
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فسورة القصص سورةٌ مكية، جميعها خلا آيتين تنازع فيها أهل العلم؛ لكن الطابع العام لهذه السورة يدور حول ذكر الله الاستضعاف، وحول أخذ أسباب القوة، ونحن في أشد الحاجة إلى طرح هذا الموضوع، لاسيما وقد صرنا الآن في مفترق الطرق، وكثير من الناس لا يدري أين يقف بعدما حدث تغريب شامل.
وصف الغربة وصف لازم للاستضعاف، فالاستضعاف والغربة قرينان، قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:5 - 7].
التمكين يحتاج إلى التفكير في هذا الموضوع من وقت الرضاعة، هذه الأجيال المنهزمة التي لا تستطيع أن تجد لها الآن موضعاً على وجه الأرض؛ السبب قديم: من أراد أن يمكن له في الأرض فليبدأ بتربية ولده من وقت وضع النطفة.
ذكر الله عز وجل أنه يريد أن يمن على بني إسرائيل، ويرفع هذا الاستضعاف ويمكِّن لهم، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] هذا هو بداية التمكين لبني إسرائيل، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هذا هو الوضع العام، الناس شيع وأحزاب ومستضعفون، لا يملكون لساناً ولا يداً مع فرعون، فالغربة والاستضعاف قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
وإنما ساق الله عز وجل هذه القصة للنبي عليه الصلاة والسلام ليقول له: إننا كما مكنا لموسى ومكنا لبني إسرائيل فإننا سنمكن لك وذكر في آخرها قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85].
سورة القصص هي السورة الوحيدة التي تعرضت لميلاد موسى عليه السلام، وقصة موسى عليه السلام ذكرت كثيراً في القرآن، لكن ما عرفناها إلا من بدء رسالته إلى فرعون، فتطرقت هذه السورة إلى ذكر ميلاد موسى.
ما أحلم الله عز وجل! لو أراد أن يأخذ فرعون لأخذه، لكن ربى له رضيعاً، ما أحلمه عن عباده! ولو كان الله عز وجل يعجل كعجلة أحدنا ما أبقى على ظهرها من دابة.
فقه هذا الأمر ضروري: أن تعرف أنك غريب، يعني: مستضعف، ومستضعف يعني: غريب.
إن رجوع الجيش المنهزم رجوعاً صحيحاً، وانسحابه انسحاباً صحيحاً يُعَدّ باباً من أبواب الانتصار، حتى ولو لم يحرز تقدماً، لكن يكفي أن يرجع بلا هزيمة وبلا خسائر جسيمة، لأن المسألة كلها مناورات، فإذا وجدت الفرصة أمامك فتقدم، ولا تندم ولا تحزن إذا رجعت أضعاف ما تقدمت، المهم: أن تكون كما أمرك الله عز وجل {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] لا يضرك أن ترجع مائة خطوة إلى الوراء طالما أنك مستقيم على الأمر، فإن الله عز وجل إذا أراد أن يمكن للمسلمين مكن لهم في أقل من طرفة العين، لكن لابد من وضع الكلام في مكانه الصحيح، والفعل في مكانه الصحيح، مسألة التقدم والتأخر هذه مسألة ترجع إلى الضغط الذي نعيشه، نحن الآن نعيش في زمان الغربة الثانية، لكنَّ هناك فروقاً جوهرية بين الغربة في الأوائل الغابرين، والغربة في الخالفين.
إن فشل الجماهير الغفيرة في الإجابة على سؤال بدهي هو السبب في هذه المأساة التي نعيشها الآن، سؤالٌ مكوّنٌ من كلمتين اثنتين، إذا سألته لأي رجل كأنما باغته، ويضل فترة يفكر في الجواب.
تعثر الجماهير في الإجابة عن هذا السؤال هو سبب المحنة التي يعيشها المسلمون من قرون، هذا
السؤال
لماذا نتزوج؟ اسأل أي رجلٍ هذا السؤال يشعر بمفاجأة، ويفكر قليلاً، معنى هذا الوقوف: أنه لا يدري لماذا تزوج، كبر وبلغ ويريد أن يتزوج، هذه كل الحكاية؛ لذلك كانت هذه الجماهير الغفيرة هم أولاد الذين تعثروا في هذه الإجابة، فخرجوا للحياة بلا هدف.
اليهود خمسة عشر مليوناً فقط، لو بصق كل رجلٍ مسلم بصقة لأغرقناهم، يملكون المال والسياسة والإعلام والاقتصاد والزراعة كل أسباب الحياة في أيدي اليهود.
لما اطلعت مرة على مذكرات جولدا مائير هذه المرأة التي رأست الحكومة في إسرائيل، قالت: إنها بدأت تفكر في محنة الشعب اليهودي وعمرها أربع عشرة سنة، وبدأت تعد نفسها لتحمل المسئولية وهي في هذا السن ماذا يشغل أحلام نسائنا؟! أنا لا أسوق هذه القصة على أساس أن جولدا مائير في موضع الحجة لا، إذا أردنا الحجة إنما هم الصحابة الأكارم، الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أضرب مثلاً معاصراً.
امرأة كافرة استطاعت أن تصل إلى قمة الهرم -الحكومة- بدأت هذا الشعور وعمرها أربع عشرة سنة! لماذا يحتقر الإنسان نفسه؟ إنك لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، سل أي عظيم: هل كنت تتوقع أن يقال: فلان الفلاني إمام الأئمة؟ يقول لك: أبداً، ما خطر ببال أي إمامٍ تعقد عليه الخناصر أنه سيكون إماماً، فلو كل إنسان احتقر نفسه، واستسلم للفساد الإداري الذي قتل العباقرة ودفن الأذكياء؛ لما ارتقت أمةٌ أبداً.
لذلك قد تجد اختلافاً في تحديد ميلاد العالم، لأنه يوم ولد كان مولوداً مثل مئات المواليد، لا نباهة له ولا ذكر، ولا ندري أيكون عالماً أم قاطع طريق؟ لكنه يوم مات دونوا وفاته بالساعة، بل بالثانية لماذا؟ لأنه ما مات حتى كان علماً كبيراً ملأ الأرض.
فنحن في زمان الغربة، لكن نوعية الغريب اختلفت، الغريب الأول يختلف عن الغريب الذي بعده.(11/2)
حقيقة الغربة
أصل الغربة هو التفرد، ألا يكون لك شكلٌ ولا نظير، هذا هو معنى الغريب، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله يتوجع من هذه الغربة التي شعر بها في بلده وبين أهله لما كان يدعو إلى السنة، وقام له أصحاب التعصب، فأنشد متوجعاً: وما غربة الإنسان إلا في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بدٍ وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي هذا هو معنى الغربة، ليس الغريب هو الذي يترك بلده ويسكن في بلدٍ أخرى، فإن الغريب قد يأنس في دار الغربة، ويتخذ له أصحاباً وأخداناً أفضل من الذين تركهم، وهذه القاهرة أغلب الذين يعيشون فيها ليسوا من أهلها، فكيف استقر بهم المقام حتى أنهم نسوا مسقط رأسهم؟! إن الغريب قد يأنس في دار الغربة، لذلك لما نصح النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر أن يتجافى عن دار الغرور، قال له: (يا ابن عمر! كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) و (أو) ليست تخييراً أن يختار الغربة وأن يكون عابر سبيل لا، إنما ترقى النبي صلى الله عليه وسلم به، (أو) هنا: بمعنى بل، يعني كن في الدنيا كأنك غريب بل عابر سبيل، كقول الله عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77]، يعني: بل هو أقرب من لمح البصر، وكقول الله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] يعني: بل يزيدون، لأن الغريب قد يأنس في دار الغربة بأن يجد له شبيهاً أو نظيراً.
والمقصود من الموعظة أن يتجافى ويشعر بالوحشة الدائمة وهو في الدنيا، فالغريب قد يأنس، فقال له: لا، لا تكن غريباً، بعدما قال له: {كن في الدنيا كأنك غريب} ثم كأنما استدرك فقال له: لا تكن غريباً؛ لأن الغريب قد يأنس، بل عابر سبيل؛ فإن عابر السبيل مستوحشٌ دائماً، لا يكاد يضرب فسطاطه فينام حتى ينقصه ويمضي، ومثل الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، فلو أن صاحب الشقة المفروشة تعطل عليه (صنبور) الماء فإنه لا يصلحه فإذا قلت له: لماذا لا تصلح (الصنبور)؟ يقول لك: أصلاً هي مفروشة، وأنا سأتركها وأمضي.
لا يهيئ فيها شيئاً، لكن إذا رزقه الله عز وجل، واستطاع أن يشتري شقة تمليك فإنه يتصرف تصرف الذين لا يموتون، كل شيء يخطر بباله من أسباب الرفاهية والنعيم يأتي به الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، المفروض أن العبد العاقل يكون مستوحشاً دائماً وهو يمضي إلى الله؛ لذلك ترقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام: لا تكن غريباً بل كن عابر سبيل، فليست الغربة أن تترك بلدك وتترك أهلك وتدخل مع آخرين، ليست هذه هي الغربة، وهذا هو معنى كلام الخطابي رحمه الله: وما غربة الإنسان في شقة النوى أي: في البعد.
ولكنها والله في عدم الشكل ألا يكون لك نظير.(11/3)
غربة أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة في وسط المبتدعة غرباء، فهم يعاملون في وسط المبتدعة معاملة الأقليات المسلمة في بلاد النصارى، فهذا نوعٌ من الغربة، ولذلك عندما تقرأ عقائد أهل السنة تجد أنهم يذكرون من جملة العقائد مسائل فقهية، يعني يقول لك مثلاً: ومن عقائدنا: أن نصلي خلف كل برٍ وفاجر -مع أن هذه ليست عقيدة- ومن عقائدنا: أن نجاهد مع كل برٍ وفاجر، ونرى المسح على الخفين.
متى ذكر المسح على الخفين في العقائد؟! هذه كلها أحكام فقهية.
إذاًَ لماذا ذكروها في العقائد؟ لأنها مباينة لسنن المبتدعة في ذاك الوقت.
لو كتبنا عقائدنا الآن لقلنا: ومن عقائدنا؛ إعفاء اللحية، ومن عقائدنا؛ النقاب فلماذا نذكر هذا؟ لأن هذا هو شعار الغريب وشعار الغريبة، شعار الغريب: أن يعفي لحيته، وشعار الغريبة: أن تلبس نقابها، والحرب الضروس قائمة على الاتجاهين، وقائمة على النساء بصورةٍ أشد، وهذا من جملة الغربة.
إنسان يركب حافلة فيها أكثر من خمسين رجلاً، وعندما تقف الحافلة في أي نقطة تفتيش، ينظر المسئول في وجوه الركاب، فإذا رأى رجلاً أعفى لحيته قال له: تعال وإن عامله بالحسنى نظر في البطاقة وتحقق، هذا إن أحسن إليه، وإلا فإنهم يأخذونه وينزلونه.
ما هي جنايته؟! أنه حمل شعار الغربة، ورفع هذا الشعار، فقط هذه جنايته.
المرأة المنتقبة تحرم من دخول الجامعة، لماذا تحرم من دخول الجامعة، ومحكمة القضاء الإداري العام قبل الماضي أخرجت حكمها، ونشر في جريدة الأهرام -الجريدة الرسمية- أنه لا يوجد قانون يحدد زياً معيناً؟ فمن حق المرأة المنتقبة أن تدخل الجامعة، وصدر القرار، واستحدثوا قرارات جديدة، تمنع المرأة المنتقبة من دخول الجامعة فرفعنا قضية فكسبناها، ثم بعد فترة ينزل قرار جديد فتمنع من دخول الجامعة وهكذا، هو هذا الجديد في الموضوع، فهذه غربة! يسمح للمرأة أن تمشي (بالمايوه) على شاطئ الإسكندرية أو في المصايف، ويقال: هذه حرية شخصية! حرية العري، اجعلوا في مقابلها حرية التستر فهذا أيضاً من العدل.
هذه غربة، بعض الغرباء يفرون منها، فنراه يحلق لحيته ليستريح، وهذه تخلع نقابها لتستريح نقول: لا، إن شعار الغربة شرف، لا تتركه! إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، ويعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) هذا هو الجزاء، وهذا هو الشرف لماذا تتركه؟ (إن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة).
طوبى لهم وحسن مآب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، يمشي الجواد المضمر -المسرع- في ظلها مائة عام لا يقطعها) فهذه شجرة الغرباء.
فنحن عندما نذكر المسح على الخفين في جملة عقائدنا فإننا نذكره كما ذكره العلماء قبل ذلك، وكان من شعار المبتدعة ألا يمسح على الخفين، فاضمحل هذا الخلاف، وصار في الكتب، وقلما يتنازع عليه أحد.
اللحية تصلح أن تكون جزءاً من عقائدنا وإن كانت حكماً فقهياً، لكنها صارت قضيةً، وصار يميز بها الغريب في زمن الغربة.(11/4)
الفرق بين غربتنا وغربة الأوائل وسبب تمكينهم
هناك فرقٌ بين الغرباء الأوائل وسبب تمكينهم، وبين غربتنا نحنُ وعدم تمكيننا.
انظر إلى مؤتمر صانعي السلام والذي كان أحد أعضائه الرئيس الروسي الذي حارب الشيشان ودهسهم بالدبابات، أهذا يوضع في صانعي السلام؟ وشمعون بيريز الذي ما زالت يده تقطر من دماء المسلمين! إنها المأساة، أو قل: هي الملهاة، فأي غربةٍ للإسلام والمسلمين أعظم من ذلك؟! إن هذا المؤتمر كان سرادق عزاء للقتلى في إسرائيل، كأنما يقولون لهم: لا تخافوا حتى وإن قتل منكم مائة رجل؟ قد حشرنا لكم الدنيا كلها لتؤيدكم، وليقولوا لكم: نحن معكم.
لماذا لم يعقد هذا المؤتمر يوم قتل الوغد الكافر - شمعون - مائة مسلم ساجد في المسجد الإبراهيمي؟ وهناك نشروا بعد حرب الخليج أنهم يفكرون في الدولة البترولية الجديدة التي تخضع للنظام العالمي الجديد، وإن لم يستيقظ المسلمون من غفلتهم فإنهم سينفذون هذا المخطط كما نفذوا حرب الخليج -حرب الخليج تطبق من سنة خمس وسبعين- ما عرفنا هذا إلا بعد نشر المذكرات السافرة، والمفروض أن هذه المذكرات تكون سرية؛ حتى ينفذوا الدولة البترولية الجديدة على الأقل، لكنهم يعلمون أننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نفعل، هم متأكدون من ذلك، لذلك ما عندهم سر، السر عندهم علانية، والعلانية سر، إذا كان عدوه بهذا الاستضعاف وهذا الهوان! فالدولة البترولية الجديدة -التي هي المنطقة الشرقية في السعودية مع الخليج- قالوا: ليس معنى أن البترول في أرضكم أنكم ستتحكمون بنا لا، البترول هذا ملك البشرية، وليس من العدل أن توضع مصادر الطاقة في يد جماعة من الأعراب، لابد أن النظام العالمي الجديد والمقصود به هيئة الأمم المتحدة متمثلةً باللجنة الثلاثية والرباعية والخماسية، توزع البترول على العالم، فمثلاً: أمريكا تحتاج الكثير من البترول، فنعطيها، والدول العربية لا تحتاج إلى بترول بالمرة فلا نعطيها، هذا هو النظام العالمي الجديد، وهذه هي الدولة البترولية التي ستكون منزوعة رغم أنف مالكي الأرض، هل توجد غربة أكثر من هذه؟! ويظهرون علينا كل يوم بمثل هذا ونحن نشجب ونستنكر، فلو سمعت عن محجمة دم أريقت في أي مكان في الكرة الأرضية فاعلم أنه دم مسلم، حتى عبّاد البقر الذين هم أذل الخلق أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، وكأنه لا يوجد مليار مسلم على وجه الأرض، كأنهم موتى جميعاً.
هذه غربة طاحنة، أين الغرباء الذين ما عرفوا حقيقة غربتهم؟! اختلف بعضهم مع بعض في قضايا جزئية وسع السلف الخلاف فيها، تعجب لغريب يتشاجر مع غريب وعدوهما ممسك بالسلاح، لابد من دراسة الخلاف، ولابد من معرفة أدب الخلاف، ما وسع السلف الخلاف فيه يسعنا، لسنا أفضل منهم ولا أورع، ولا أفقه في دين الله منهم، ما يسعك فيه الخلاف امض واترك أخاك، وادخر هذا الجهد لعدوك وعدوه أيضاً، نحن غرباء ليست لنا رسالة، وليس لنا هدف واضح.
الصحابة الأوائل كان هدفهم واضحاً كالشمس؛ فانصرفوا بقوة قلبٍ لا يلوون على شيء، إذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض، فاتركها، فأنت ما خلقت لتكون مصرياً ولا لتكون سعودياً ولا فلسطينياً، خلقت لتكون عبداً، فإذا عجزت عن تحقيق العبودية في مكانٍ ما وجبت الهجرة، وهذه الهجرة الواجبة إلى يوم القيامة والتي لا تنقطع؛ هجرة تحقيق العبودية لله، الهجرة من السيئة إلى الحسنة، ومن المعصية إلى الطاعة، هجرةٌ دائمة.
قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن على فتوى لشيخنا الإمام، حسنة الأيام، وعالم بلاد الشام، بل عالم ديار الإسلام، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله ومتع به، لما سأله سائل: قال له: نحن في فلسطين لا نستطيع أن نقيم شعائر ديننا، فماذا نفعل؟ قال: اتركوها.
فقال السائل مستنكراً: نتركها لليهود؟! قال: نعم، اتركوها ثم ادخلوا عليهم الباب.
قامت الدنيا ولم تقعد، وحرفت فتوى الشيخ، فقيل: إن الشيخ يقول هاجروا من فلسطين ودعوها لليهود.
وتعرض للطرد من الأردن بسببها لولا شفاعة الشافعين، أهو قال ذلك أم أن المفتي أسير السؤال؟ صار عندي قناعة: إذا أخطأ عالمٌ في فتوى يكون السؤال خطأً، فنسبة الخطأ للسائل أولى من نسبتها للعالم، فلو لم يكن في المسألة إلا خطأ السائل أو خطأ المجيب لكان إلصاقه بالسائل أولى، السؤال خطأ، فخرج الجواب على مقتضى الخطأ.
لا تستطيع أن تقيم أو تحقق العبودية في أرض ما، لا تكن أسير الأرض، وخذ الأسوة والقدوة من أبي بكر رضي الله عنه، كما رواه البخاري في صحيحه أن زيد بن الدغنة قبل أن يسلم رأى أبا بكر متجهاً إلى ناحية البحر: - فقال له: إلى أين يا أبا بكر؟ - قال: أسيح في الأرض وأعبد ربي.
أخرجني قومك.
- قال: يا أبا بكر! مثلك لا يَخرج ولا يُخرج -خروج مثلك خسارة، سواء خرج من تلقاء نفسه أو أخرج- إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، ارجع وأنا جارٌ لك.
أنت في حمايتي وفي عهدي، لكن لا تخرج، وذاك مسلم وهذا كافر.
فرجع أبو بكر، وذهب زيد إلى الكعبة ونادى: - يا معشر قريش! أبو بكر في جواري.
خلاص كلمة شرف، والعرب كانوا يحترمونها، فابتنى أبو بكر له مسجداً داخل الدار، ثم بدا له أن يبني مسجده في فناء الدار، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً رقيق القلب، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، وكانت هذه صفة عنده رضي الله عنه، حتى لما مرض النبي عليه الصلاة والسلام مرض الموت، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقالت عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -كثير الأسف، كثير الحزن، متصل العبرة- إذا بكى لا يتبين الناس قراءته من البكاء.
فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
(صواحب يوسف): عائشة خشيت أن يتشاءم المسلمون بـ أبي بكر؛ لأنه هو الذي خلف النبي عليه الصلاة والسلام فيتشاءموا به، فأرادت أن تجنب والدها هذا الشعور الذي تشعر به، فقال: إنكن صواحب يوسف: أي تقلن غير الذي في بطونكن، ليست المسألة أن المسألة أنه يبكي أو لا يتبين الناس قراءته من البكاء، فهذه كانت طبيعة الصديق الأكبر رضي الله عنه.
فلما كان يصلي في الفناء كان يبكي، ويتجمع النساء والولدان عليه ليشاهدوه، منظر غريب! أول مرة يرون رجلاً يقرأ ويبكي، فلغرابة المنظر كانوا يتقذفون عليه، فخشي كفار قريش أن يؤمن الناس إذا رأوا هذا المنظر، وسمعوا آيات الذكر تخرج من قلبٍ حار بلسان حار أن يدخل هذا في القلوب، فقالوا لـ زيد: مر أبا بكر فليصل داخل بيته، ولا يستعلم، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال زيد لـ أبي بكر: يا أبا بكر! ما على هذا اتفقنا، صل داخل الدار وإلا فرد علي جواري، فإني لا أريد أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري، أي شخص يضربك، أو يمتهنك فهذا امتهان لـ زيد، إذاً لم يستطع حماية الذي كان في جواره، فيتحدث العرب أن زيداً لا يستطيع أن يحمي أحداً، فتضيع كلمته، ولا يستطيع أن يجير أحداً.
- فقال: إما أن تصلي في الداخل، وإما أن ترد علي جواري.
- قال: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.
ورد عليه جواره.
أهذا الغريب يهزم؟ أهذا الغريب يرجع القهقرى؟ لا والله، لو عندنا مائة رجل كالصحابة لفتحنا العالم.(11/5)
نماذج من أصحاب الغربة الأولى والغربة الثانية وبيان الفرق بينهما
إن القوة قوة القلب، فـ جعفر الطيار تقطع يده وفيها الراية، فيأخذ الراية باليد الأخرى، فتقطع يده الأخرى، فضمها بعضديه أي قوةٍ هذه؟! لا يشعر بهذا الألم ولا بذاك، ويضمها إليه؛ لأنها راية، والراية رمز، فلا يجوز أن تنكس!.
إن القوة قوة القلب، ليست قوة الجوارح، القلب هو ملك البدن، وهذه العضلة تستمد قوتها من القلب، فإذا ضعف القلب لم تنفع العضلة.
ولذلك ترى الرجل البدين القوي مفتول العضلات إذا سمع خبراً شديداً كالصاعقة يقع عليه تجده ينهار لماذا؟ خانته عضلاته؛ لأن عزم قلبه انفسخ، وهذه العضلة جندي مأمورٌ من القلب الذي هو ملك البدن.
الذي كان يميز الجيل الأول من الغرباء عن الأجيال التي جاءت بعد ذلك: قوة القلب، ووضوح الهدف، وصدق الانتماء.
جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع لفيف من الصحابة فيهم خباب بن الأرت، فقال عمر: والله ما أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال.
يعني: أولى رجل أن يكون أمير المؤمنين هو بلال بن رباح لماذا؟ لأنه أوذي في الله، فقال خباب: انظر يا أمير المؤمنين! وكشف خباب عن ظهره ففزع عمر لما رأى هذا المنظر، وقال: ما رأيتك اليوم.
قال: أوقدوا لي ناراً عظيمةً، والله ما أطفأها إلا ودك ظهري ومع ذلك لا يتحولون.
فلماذا أيها الغريب إذا تعرضت لأي بلاء، وخيِّرت بين الدين والدنيا، اخترت الدنيا وضحيت بدينك؟ إن سليمان عليه السلام لما استعرض الخيل، وكان يعدها للجهاد في سبيل الله كما قال الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:30 - 31]، الخيل الممتازة، فظل يتفقد الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فقال: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] (توارت): يعني الشمس، بالحجاب: غربت، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] هذه الخيول التي ألهته عن ذكر الله عز وجل، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33] عقرها جميعاً.
لماذا؟ قال: ((إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)) [ص:32] فالله سبحانه وتعالى زكاه، وقال في أول الكلام: ((نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) [ص:30].
إن العبد الذي يحقق معنى العبودية إذا حصلت مفاضلةٌ بين الله وبين غيره ينحاز إلى جنب الله، هذا هو العبد المزكى، الذي يقال فيه: ((نِعْمَ الْعَبْدُ)) [ص:30].
لو قيل لأحدهم: إما أن تحلق لحيتك أو نفصلك من العمل.
فإنه سيقول: لا.
بل أحلق لحيتي، أليست هذه الصورة منتشرة؟ ويخدع نفسه فيقول -إذا كان مدرساً-: أنا لا أريد أن أترك التدريس، فالتدريس رسالة، ونستطيع أن ننشر الدعوة من خلاله.
أيها المتوهم: الحصة أربعون دقيقة، والمنهج يحتاج إلى الأربعين دقيقة كاملة، فلو كان المدرس ملتزماً ومتمسكاً بدينه، وأراد أن يظهر الشعار يبتدئ الحصة بقوله: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، نستفتح بالذي هو خير، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، فإنك لا تستطيع أن تقول هذا في الحصة؛ لأن في الطلبة جواسيس، ومن الطالبات جواسيس.
الذي يريد أن ينشر الدعوة حقاً ينظر في حاله؛ فإذا كان يسكن في عمارة مؤلفة من خمسة طوابق، في كل طابق شقتان نقول له: - كم عمرك؟ - يقول: اثنان وثلاثون سنة.
- ثلاثون عاماً ولم يلتزم أحد من سكان العمارة على يديك؟! لو كنت حقاً تحمل هم الدعوة حملاً حقيقياً؛ لبدأت تعمل في إطار العمارة؛ لأنهم يعرفونك ويعرفون ابن من أنت، فأنت ستعفي نفسك من تعريف نفسك للناس، بعض الناس لا يلقي بقلبه ولا بسمعه لبعض الدعاة، يقول لك: لا أسمعه، حتى أعرف أهو متطرف أم لا؟ أهو معتدل أم لا؟ فيظل يتردد سنة أو سنتين أو ثلاثاً إلى أن يحبه ويثق في معلوماته فيبدأ يعطيه قلبه.
لا.
أنت رجل تسكن في العمارة وهم يعرفونك، أين جهدك؟ إذا كنت صادقاً في دعوى عدم ترك التدريس لنشر دعوة الله، نقول: الدعوة مجالها واسع جداً، فلماذا تقول: لا، أنا أحلق لحيتي، وأظل مدرساً لمصلحة الدعوة؛ فإنه ليس من مصلحة الدعوة أن تكون من المخالفين لها، فإذا عرِّضت لهذه المفاضلة افعل كما فعل سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:32 - 33]، لذلك زكاه الله عز وجل، ونعتُ العبدِ بالعبودية أشرف نعتٍ، وهو أن يقال له: أنت عبد، أو يقول الله عز وجل: {يَا عِبَادِيَ} [الزمر:53]، {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17]، ولو كان هناك وصفٌ أشرف من العبودية لوصفه الله للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به، قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، فوصفه بهذا الشرف، فتحقيق العبودية يقتضي الانحياز إلى جنب الله عز وجل عند أي مفاضلة، لا تتردد في هذا الانحياز؛ فإن الله ناصرٌ من التجأ إليه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(11/6)
الإرادة الشرعية والكونية والفرق بينهما
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله عز وجل: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ)) [القصص:5]، الإرادة في هذه الآية: هي الإرادة الشرعية، التي باعثها محبة الله عز وجل ورضاه عن العبد، وهذا هو الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية.
الإرادة الكونية: هي إرادة القهر والغلبة، وهي تشمل كل الخلق؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] هذه الإرادة الكونية التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجر، إرادة القهر والغلبة، وأن الله يفعل ما يريد ويحكم ما يريد، لكن الإرادة الشرعية خاصة بالمؤمنين قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، هذه كلها الإرادة الشرعية، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] هذه الإرادة الشرعية، وهي خاصة بالمؤمنين دون غيرهم، فالله عز وجل يقول: ((وَنُرِيدُ)) [القصص:5]-التي هي الإرادة الشرعية- ((أَنْ نَمُنَّ)) [القصص:5].
الذي له حق المن وحده هو الله: {لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]، لذلك كان جرم المنان من أعظم الجرائم عند الله يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليهم: المنان، والذي ينفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره خيلاء).
فهذا المنان لماذا عوقب بكل هذه العقوبات؟ لا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم، لماذا عوقب بهذه العقوبات؟ لأنه نازع الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني فيهما أدخلته النار)، ليس من طبيعة العبد أن يلبس رداء الكبر، هذا اسمه (عبد) ويقال: (طريق معبد): يعني مذلل للأقدام، عبد يلبس رداء الكبر هذا منظر نشاز، إنما المتكبر هو الله، والجبار هو الله، إذاً العبد يلزم موضع قدمه ولا يفارقه، لأن اسمه (عبد) فإذا نازع الله عز وجل في هاتين ألقاه في النار مثل المنان.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ فقالوا: الله ورسوله أمنُّ) فهذا المن من الله عز وجل كائنٌ واقع، وهذه الإرادة وقعت ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)) [القصص:5]، قال تعالى: ((وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) لمن؟ لهؤلاء المستضعفين {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137].
أيها الغريب: عدتك الصبر الجميل، وإياك أن تسوي بين فتنة الله وعذابه وبين فتنة العبد وعذابه، فإنه {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137].(11/7)
الهدف من الزواج
التمكين يبدأ من الرضاعة، أيها العبد! لماذا تتزوج؟ لا تقل لي: ليخلد اسمي عبر القرون، فوالله ما نعرف أولاد ابن حجر العسقلاني، ولا نعرف أولاد سائر العلماء، ما عرفنا العلماء إلا من علمهم، إن فرعون خلد اسمه عبر القرون، وكذلك قارون خلد اسمه عبر القرون، يصير من قرنٍ إلى قرن، لكنه مصحوب باللعنات.
الرجل الذي بال في ماء زمزم زمن الحجيج، فسألوه: لماذا فعلت ذلك؟ فقال: أردت أن أذكر ولو باللعنات.
يريد أن يذكر، ويكون له اسم! وإذا قلت له: ماذا تريد من الولد؟ يقول لك: لكي يرث المصنع، ويرث العقارات، شبابي كله عبارة عن مصانع، أتركها لمن؟ ولذلك تجد الرجل العقيم ليس عنده طموح في ترك أي شيء وراءه، لو علم أنه عقيم يبدأ يبيع ملكه ويتمتع به.
لماذا تتزوج؟ تتزوج لتنجب عباداً لله، عندك من الأولاد خمسة، هل خطر ببالك أن تقول: هذا الولد وقف لله؟ هل خطر في البال ذلك؟ لا.
لكن يخطر بالبال كثيراً أن تقول: هذا الولد -ما شاء الله- عبقري وذكي، هذا يصير طبيباً، وهذا يصير مهندساً، وهذا أعلمه الكمبيوتر؛ لأنني أريده أن يعمل في محطة الفضاء، وكل ولد من أولادك عملت له دراسة جدوى، ورسمت له حياته، ليت على الخريطة أن هذا الولد مكتوب أمام اسمه: (وقفٌ لله تعالى، لا يجوز استخدامه إلا في الدعوة)، كم رجل خطر على باله هذا الأمر؟! حتى أريكم هذه المحنة، وأنها عميقة الجذور، والتمكين إنما يكون من وقت الرضاعة: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7].
رجلٌ ابنه في سنة ثاني ابتدائي، ثم بعد فترة أصابه العمى، فقام أبوه بإخراجه من المدارس الأهلية وأدخله الأزهر لماذا؟ يقول لك: القرآن أولى به! حتى جاءت فترة من الفترات كان علماؤنا وخطباؤنا من أرباب العاهات، فكأنه صدق عليهم قوله عز وجل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62]، لماذا لم يحفظ القرآن قبل ذلك وله عيون البقر؟! لماذا حفظ القرآن لما عمي؟! عرفتم -أيها الكرام- كيف تعثرنا في الإجابة على هذا
السؤال
لماذا نتزوج؟ اعلم أنه لا ينفعك إلا الولد الصالح في الدنيا والآخرة، هذا هو رصيدك، لو كنت عاقلاً: ادرس هذا الموضوع دراسةً صحيحةً؛ تعلم جدواه.
الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -منهم- ولدٌ صالح يدعو له).
العلماء يقولون: إن الكلام إذا قيد بصفة ثبتت الصفة للحكم، وانتفت عما عداه.
قصر استجابة الدعاء على الولد الصالح، إنما الفاسد لا، فصارت الصفة مقصورة على جنس معين من الولد، لو قال: (ولدٌ يدعو له) هكذا مطلقة؛ لدخل فيها الفاسد، فلما حددها وضيقها دل على أن الفاسد لا ينفع أباه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
استدعاني جماعة من أقاربي بعد وفاة والدهم، قالوا: احضر معنا القسمة، الرجل ترك سبعة أولاد: ثلاث بنات وأربعة أولاد، وهذه المهزلة حصلت بعد ثلاثة وعشرين يوماً، يعني كما يقول العوام: أن أربعينه لم تكتمل، ثم قسمنا التركة فكان نصيب البنت من التركة خمسة وسبعين ألف جنيه، ونصيب الولد مائة وخمسين ألف جنيه، لو أن الموظف الحكومي من أول يوم عُيّن أخذ مائتي جنيه، فإنه سيكون مجموع ما استلم خلال ثلاثين سنة هو سبعون ألفاً، وهو لا يبتدئ بمائتين، وإنما يبتدئ بستين، يعني حياته رخيصة جداً.
فقال أحد الأولاد والذي يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة وكان طائشاً: قبل أن تقسموا أخرجوا تكاليف زواجي.
كيف يا بني؟ الوالد وهو حي له أن يعطي ماله لأي أحد، وقد كان يزوج أولاده ولداً ولداً، وقبل أن يزوجك مات! فقال الابن: لا.
أنا أريد مثل إخوتي تماماً.
فكان كلما هدأه إخوته يزداد أكثر، فإنه لم يقتنع بالمائة والخمسين ألف بل يريد أيضاً خمسين ألف جنيه حق الزواج وكان يقول له إخوته: إن أبانا لم يكمل الأربعين يوماً منذ موته فقال: الله يرحمه، افرشوا له طوبة تحت رأسه، دعونا في الموضوع، لا تخرجوا من الموضوع! انظر إلى الولد! انظر كيف يتكلم على أبيه!! لو قدر لأبيه فأحياه الله ورأى هذا الولد يتصرف هكذا لقال: ليته مات وهو صغير؛ لكنت وفرت كثيراً من المال.
أهذا هو الولد الذي أنت تريده أن يكون دكتوراً أو مهندساً وما علمته العبودية لله عز وجل، فإنك ما انتفعت به لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ومن هذا نعرف أن سبب المحنة التي نعيشها فشل الجماهير في الإجابة عن (لماذا نتزوج)؟ ليس عندنا هدف واضح، ولا رؤية جلية، وعندنا ضعف الانتماء.
العلاج: وضوح الهدف، تعامل مع هذا الدين كما لو كان أنزل إليك وحدك، وأنت المسئول عن إقامته وحدك، واجعل هذا فرض عينٍ عليك، وألزم نفسك به.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.(11/8)
أمريكا التي رأيت
إن دين الإسلام دين عزة ونصر.
فحين دان العرب بهذا الدين والتزموا به؛ ارتفعوا وعزوا بين الأمم، بعد أن كانوا أذلة متناحرين.
ونحن نرى أمريكا اليوم التي تزعم أنها راعية السلام، وصاحبة الوصاية على العالم، حرصت على تمييع الدين في قلوب المسلمين، فغرست في قلوب أبناء الأمة الإسلامية الإعجاب برعونتها -التي سموها حضارة- فأهانوا الأمة بذلك؛ وهم أهون وأذل، وحضارتهم في الحقيقة حضارة متهاوية، تقوم على تقديس الملذات، وتعيش سمساراً في سوق الانتفاع والاستغلال.(12/1)
عزة المسلمين في دينهم والتزامهم به
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي -وكان إذ ذاك كافراً- قال لقريش: ألست منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى.
قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى.
قال: فدعوني آته -يقصد النبي عليه الصلاة والسلام- فأعرض عليه.
وقد عرض عليهم خطة رشد، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ بديل بن ورقاء قبل أن يأتي عروة بن مسعود: إننا ما جئنا لقتال، إنما جئنا قاصدين البيت.
وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد أهلوا بالعمرة، فصدتهم قريش عن البيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بديل بن ورقاء: (إننا ما جئنا لقتال، إنما جئنا قاصدين البيت، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فوالله لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي).
فهذا الكلام لم يعجب قريشاً، وظلت القضية في شد وجذب، فلما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا الشد والجذب قال: دعوني آته فربما تكون هناك أمور أخرى في المفاوضات، فيقول قولاً آخر بخلاف ما قال لـ بديل بن ورقاء.
ثم إن عروة بن مسعود قال ذلك القول ليؤكد أمانته في رفع التقرير، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل بن ورقاء.
فجاء عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا محمد! إنها واحدة من ثنتين: إذا قامت الحرب بيننا وبينك، واجتحت قومك وغلبتهم، ووضعت أنوفهم في الرغام، فهل علمت أحداً اجتاح قومه قبلك؟).
كأنه يذكره بأن هذا ليس من مكارم الأخلاق فيقول: إنك إذا ظفرت بقومك وأهلك وعشيرتك كنت تفعل فيهم كل هذا، أو كأنه أراد: وما أخالك تستطيع أن تفعل ذلك.
فلو قامت الحرب -فوالله- ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال أبو بكر رضي الله عنه: (أنحن نفر وندعه؟! امصص بظر اللات).
فقال عروة بن مسعود: من هذا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه ابن أبي قحافة.
فقال: والله! لولا أن لك علي يداً لأجبتك.
وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور في هذا الحديث قال: (ولكن هذه بتلك)، يعني: هذه الإساءة منك أكلت جميلك السابق، وليس لك عندي الآن جميل، ومعنى الكلام: أنك لو تكلمت في حق آلهتنا لرددت عليك؛ لأنك استوفيت جميلك السابق بهذه الكلمة العظيمة (امصص بظر اللات).
ثم حان وقت صلاة الظهر، فجيء للنبي صلى الله عليه وسلم بوضوء، وتركهم النبي عليه الصلاة والسلام يفعلون ما كان ينهاهم عنه قبل ذلك، وهذه سياسة حكيمة! هذه هي السياسة الشرعية: رعاية المصالح، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ينهى الصحابة عن القيام عليه وهو جالس، فقد فعلوا في هذا الموقف ما هو أعظم من القيام، ومع ذلك تركهم، لماذا؟ حتى يرى عدوه أن هؤلاء لا يسلمونه أبداً، وأن هؤلاء لو دخلوا في حرب لا يهزمون.
ثم جيء بوضوء فتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام، فاقتتل الصحابة على وضوءه، كلما سقطت قطرة ماء من أعضائه على الأرض.
أقول: كان ينهى عن أقل من ذلك، مثلاً: عندما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله) فهذا مجرد كلام! وهو كذلك، هو سيدنا لا شك في ذلك، ومع ذلك يقول: (قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله).
تركهم يقتتلون على وضوءه، فما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة -والنخامة عادة يتأفف المرء منها -وهي البلغم- إلا وقعت في يد رجل منهم منهم -الكل يطير على النخامة حتى تكون من نصيبه- فدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له -يعني: لا ينظر أحدهم إليه فيملأ عينيه منه، بل كان يصوب وجهه إلى الأرض- ولا يرفعون أصواتهم عنده.
فلما رأى هذا المنظر رجع إلى قريش ورفع التقرير لهم على الأمانة التي أشار إليها في مطلع كلامه، فقال: يا قوم! لقد وفدت على الملوك -كسرى وقيصر والنجاشي- فوالله! ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة إلا وقعت في يد رجل فدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون أصواتهم عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
يعني بالخطة: الهدنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرض على بديل بن ورقاء حلين: الحل الأول: (إن شاءوا ماددتهم مدة) يعني: هدنة لمدة عشر سنوات، (وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي) والسالفة: صفحة العنق، يعني: كأنه قال: لو مات من حولي جميعاً سأقاتل وحدي، ولا أدع هذا الأمر أبداً، فالمسألة فيها إصرار، وليست هزلاً: (لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي)، فلما رأى حوله مثل هؤلاء الرجال؛ عرف أن المسألة ليس لها حل سوى الهدنة، أما لو دخلت قريش في حرب معه انتهى أمرها.
فرجع عروة بن مسعود يقول: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها -أي: الهدنة- لأنه لا قبل لكم بهؤلاء.
إنما قدمت بهذا الكلام حتى أضع تقريراً لكم عن رحلتي إلى أمريكا؛ لتستفيد منه أمتي، لاسيما ونحن في سنوات الضعف والهزيمة والقزامة، ويظن كثير من الناس أننا لا نستطيع أن نقاوم هؤلاء.(12/2)
حضارة الغرب حضارة عوراء مزيفة
أيها الإخوة الكرام: إن المجتمع الأمريكي مجتمع مهلهل، ممزق ساقط بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولا يحمل عوامل الحضارة أو عوامل القيام.
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أرسل جيشه ليقاتل في جهة ما، كان قلقاً إذ لم تصله تقارير عن حالة الجيش: هل انتصر أم انهزم؟ فجاء البشير ليلاً يبشر أمير المؤمنين بالفتح، فقال له: متى فتح لكم؟ قال: بعد العصر.
فبكى عمر، وقال: (لا يقف كفر أمام إيمان هذه المدة إلا لأمر أحدثتموه)، أي أن هناك أمراً حدث أخر النصر.
وكان يوصي الجيش إذا خرج، فيقول: (اتقوا الله! واجتنبوا معاصيه، فإنكم إذا عصيتم ربكم فاقكم عدوكم بالعدد).
هذا المجتمع الساقط المنحلّ لماذا لم يغزه المسلمون حتى الآن؟! وهو مجتمع منهار فعلاً بطبعه، لماذا لم يمكَّن للمسلمين حتى الآن؟ لأنهم أيضاً مهلهلون، ففاقونا بالعدد، وفاقونا بالعدة، لكن ما قام هذا المجتمع على قدمه؛ لأنه قوي في ذاته، بل لأننا ضعفاء جداً.
هذا المجتمع فيه من يتزوج الحمير، ومن يتزوج الغنم والنعاج والبقر، ويعرض هذا في البرامج التلفزيونية! وهي ليست حالات فردية، إنما هي ظاهرة عامة في المجتمع الأمريكي.
جموع كبيرة في النمسا منذ عدة سنوات قامت بمظاهرات تطالب بإباحة أن يتزوج الولد أمه وأخته وابنته وخالته وعمته وابنة أخيه وابنة أخته، واستطاعوا الحصول على قانون، والآن هذا يغزو أمريكا، فهم أيضاً يطالبون بزواج الأمهات!(12/3)
من مقومات هذه الحضارة الشوهاء
أما حالات الشذوذ فحدث عنها ولا حرج، فالجيش الأمريكي تجتاحه حالات الشذوذ، وما انتخب الأمريكيون كلينتون هذا إلا بعدما وعدهم في البرنامج الانتخابي أن يبيح الشذوذ في الجيش الأمريكي: أن يتزوج الرجل الرجل، وتتزوج المرأة المرأة.
وهذه كما قلت لكم ليست حالات فردية، إنما حالات تجتاح المجتمع الأمريكي، البنية الاجتماعية ممزقة هناك، مهلهلة، وأنا لا أهون من شأن عدوي، فإنه ليس من الأمانة أن نتغافل عن مواضع القوة عنده، طالما أننا نضع تقريراً أميناً لهذه الأمة حتى تستفيد، وحتى لا يدركها روح الهزيمة، كثير منا مهزوم في مكانه قبل أن يتحرك،؛ بسبب الخونة الذين في الإعلام بكل صوره: الإعلام المرئي الإعلام المقروء والمسموع، كل هؤلاء خونة، وسيلقون الله عز وجل خونة، يحاسبهم أشد الحساب عن هذه الصورة المكذوبة التي وضعوها عن هذا المجتمع الأمريكي.
معروف أن الأمم لا تتقدم بناطحات السحاب، ولا تتقدم بالقوة العسكرية المحضة، إنما ترتقي الأمم بالأخلاق، ما قيمة أن تؤسس مصنعاً وتجعل على الآلة رجلاً خائناً أو رجلاً مغفلاً أو رجلاً لا يدري شيئاً، سيفسد الآلة بلا شك.(12/4)
بعض المغترين بتلك الحضارات الزائفة
قال لي صاحبي يوماً -ونحن ذاهبان إلى السوق-: الأسواق هناك ضخمة جداً، فيها كل شيء، تشتري وتنتقي ثم تذهب إلى البوابات، وهناك من يحاسبك ويأخذ الثمن.
مع هذا الترتيب وهذه الضخامة لا تجد أحداً يسرق.
قلت: يا أخي! هذا المجتمع ليس أميناً، هؤلاء هم الذين سنوا طرائق القتل في العالم، وهؤلاء يقابلك الواحد منهم فيقتلك لأجل دولار واحد، هذا الذي يتزوج الحمير والبقر والغنم ما الأمانة التي لديه؟! إنما هناك مراقبة إلتكترونية في كل مكان، فأنت لما تضع شيئاً في جيبك هناك كاميرات تلفزيونية ورجل مراقب ينظر من خلال هذه الدوائر التلفزيونية يراقب اللصوص المنتشرين في كل مكان، وأيضاً على البوابات أجهزة حساسة دقيقة صنعوها أيضاً خصيصاً لأجل السرقة.
أضرب مثالاً: شخص اشترى ساعة، وبعض الأشياء في كيس بلاستيكي، فسُرق الكيس من يده، ثم أراد السارق أن يخرج بما سرق، وهو يجتاز البوابة انطلقت الصفارة، مباشرة جاء شرطي وأمسكه، قال له: أين ورقة الحساب؟ فاعتذر وقال له: الحساب هنا -وهو يتلعثم- وما إلى ذلك.
فيوقفه ويأخذ منه الكيس إلى حين التحقيق.
ثم بعد هذا يأتي أقزام مغفلون يقولون: المجتمع هذا مجتمع أمين، ليس فيه خونة وليس فيه لصوص، بدليل أن الواحد يدخل الأسواق ويشتري ما يريد.
لكن ما يذكر أبداً أن هناك دوائر تلفزيونية، وما يذكر أبداً أنهم احتاطوا ضد هؤلاء اللصوص (100%)، فمجتمعهم مجتمع كله خونة ولصوص.
قلت لكم: قد تذهب روح الإنسان ضحية دولار واحد في ذلك المجتمع.
هذا المجتمع متماسك -كما قلت لكم- ليس لأنه يحمل مقومات الحياة في ذاته؛ لكن لأننا ضعاف -مثل الذي يعيش على سمعته- وهم ملوك دعاية، فقد يصل الأمر بهم إلى أن يقنعوك بأن هذه الأسطوانة من ذهب، وأنت تقتنع برغم أنك رجل عاقل ورشيد، ومتأكد (100%) أن هذه خرسانة وليست ذهباً، بسبب هذه الدعايات التي تضلل مجتمعاتنا.
أذكركم بقانون تحريم الخمر الذي أصدرته الحكومة الأمريكية عام (1930م) وإحصائيات وتبعات هذا القانون، حيث استعانت بكل طاقة وموهبة في المجتمع الأمريكي: بأساتذة الإعلام والاجتماع والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والسياسة ورجال الدين، كل واحد من هؤلاء تكلم من منظور علمه عن مضار الخمر، وأنفقوا أموالاً طائلة: ستين مليون دولار على الدعاية، وعشرة ملايين دولار على مكاتب إدارية لمتابعة العمل، وكتبوا تسعة آلاف مليون ورقة -تسعة مليار ورقة- كل واحد يكتب في مضار الخمر، وسنوا قانون تحريم الخمر سنة (1930م) وفي سنة (1933م) ألغوا قانون تحريم الخمر؛ لأنهم وجدوا أن الناس ازدادوا شراهة في الشرب، وأن هناك خسائر بالجملة: مليار دولار أموال مصادرة، وأربعة ملايين دولار غرامات، ومائتين وخمسين ألف سجين، وأربعمائة أو أربعين ألف قتيل - لا أذكر الرقم الآن- وقاوم الناس أشد المقاومة، وعجزوا في النهاية أن يحرموا الخمر فأباحوه.
نحن الذين نضلل أنفسنا؛ لأننا نرى أننا أقزام! ونتصور أن عدونا لا يهزم.
يا إخوة! انظروا إلى الصومال ما استطاع الجيش الأمريكي أن يفعل شيئاً في الصومال، والصوماليون الواحد منهم جلد على عظم، المجاعة اجتاحت بلادهم، ومع ذلك عجز الأمريكان عن فعل شيء فيه، وانظروا إلى فيتنام! أنا أريد واحداً يدلني على معركة انتصر فيها الأمريكان، الأمريكان لم يحققوا أي انتصار في العالم حتى الآن، في فيتنام انهزموا وخرجوا، وفي الصومال انهزموا وخرجوا، لا تنظروا إلى أنهم يضربون جزيرة أو يمكنون منها حاكماً فهذا ليس انتصاراً.
وما انتصروا في حرب الخليج، وما حاربوا، نحن الذين حاربنا في حرب الخليج، ثم إن العراق ما قاوم أصلاً، ولو دخل العراق المعركة بما عنده من الأسلحة؛ أظن أن الأمريكان كانوا سيصابون بخسائر فادحة، وكانت الصورة ستتغير.
ليس معنى هذا الكلام أن العراق يدخل الحرب، وتكون القضية برمتها صحيحة.
قال الله عز وجل: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، وجاءت (حياة) منكرة للدالة على أنهم يرضون بأي حياة مهما كانت دنيئة، هو يتمنى أن يعيش فقط؛ لأن المترف والغارق في الملذات والشهوات كيف يقاتل وكيف يفقد روحه، وما لديه أية شجاعة، ثم هذه الآلات وهذه الطائرات والصواريخ إنما يطلقها الإنسان، فلو جبن المرء ما استطاع أن ينتفع بنفسه، ولا بالسلاح الذي في يده، فهذا الجيش جيش ضعيف مهما كان يملك من الأسلحة، فكيف تخلف النصر عنا طيلة هذه المدة؟ قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، إذاً هذه هي شروط التمكين.
قبل عشرين سنة كان ستون بالمائة من الأمة لا يصلون، الآن حوالى ثلث الأمة لا يصلون، النسبة انحسرت قليلاً، لكن ثلث الأمة لا يصلي، خذ مثلاً عينة عشوائية، هذا المسجد في هذا المكان في العزبة الجديدة، هذه العزبة يقدر عدد ساكنيها بنحو أربعمائة ألف، لو أنهم جميعاً يصلون، هل ستجد لك مكاناً في المسجد؟ لا.
ولا حتى في الشارع، حتى مع انتشار هذه الزوايا الموجودة تحت البيوت، لو أنهم يصلون على الأقل المغرب والعشاء، لا نقول الظهر والعصر؛ لأن كل واحد يكون في عمله، فيصلي في المسجد المجاور للعمل، لكن في الفجر وفي المغرب والعشاء أن يكون الجميع قد أنهى العمل وجلس في البيت، لو أنهم جميعاً إذا سمعوا صوت المؤذن بادروا إلى المساجد؛ ما وجدنا مكاناً لأحد، بالرغم من أن هذا المسجد يعتبر من أكبر المساجد في البلد، ومع ذلك يمتلئ في صلاة العشاء والمغرب، اذهب إلى مساجد أخرى تجد صفاً أو صفين، وتجد نصف صف في حي مكتظ بالسكان.
فإذا كانت الأمة ضيعت أهم ركن عملي في الإسلام بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهؤلاء ضيعوا الصلاة، وضيعوا الزكاة، ويمرون بالفواحش ولا ينكرونها ولا يجرءون؛ لأن الإنسان قد ينكر المنكر فيدفع ثمن هذا الإنكار، أنا لا أقول: لابد من الإنكار باليد، أو باللسان فقط، بل هناك إنكار بالقلب إذا لم تستطع بيدك أو بلسانك، فهل تمعر وجهك عندما ترى معصية؟ هذا إنكار.
أضرب مثالاً على ذلك: المدخن هل إذا رأيته يدخن كرهته واشمأززت منه؟ الدخان حرام، وهو مبارزة لله بالمعصية، والمصيبة العظمى انتشار الدخان والمجاهرة به.
فلابد من الإنكار ولو بالقلب، أم أن المسألة طبيعية جداً؟(12/5)
حال من يساكن الكفار في بلادهم
إخواننا العرب الذين يعيشون في أمريكا يعانون من هذه الحالة، كنت في مدينة منهاتن، مدينة تتبع نيويورك، بها مجموعة من إخواننا من الإسكندرية، وشباب كانوا هنا على خير عظيم! فلما ذهبت إلى السوق لأشتري جهاز هاتف، وإذا بي أجد طابوراً أمام سينما، بنات مع شباب يتمازحون ويتبادلون القبل، يسلون أنفسهم حتى يصلوا إلى شباك التذاكر.
فعندما رأيت المنظر اقشعر بدني، وأحسست أن قلبي يتمزق، فأول ما رأيت هذا المنظر، حولت بصري فوقع بصري على أصحابنا وهم يضحكون، اشتريت الجهاز ورجعنا إلى السكن، فقلت لهم: ما سبب ضحككم عندما حدث ذلك الموقف؟ قالوا: لاحظنا منك تصرفاً كالذي حدث لنا أول مجيئنا إلى هنا؛ فعرفنا أننا تغيرنا.
إذاً: هو أول ما جاء إلى هذا المجتمع القذر كان يتمعر وجهه، وكان يجد ألماً في قلبه، ما الذي جعله يعتاد مثل هذه المناظر؟ لأنه ساكن في بلاد الكفر، واعتاد على هذه المناظر ولا يستطيع أن ينكر، لا بيده ولا بلسانه لماذا؟ لأن المجتمع هناك منفتح، كل واحد يعمل الذي يريده، واحد يصلي وبجانبه واحد يزني، هو حر وأنت حر!! لكن إياك أن تنكر عليه ممنوع! وهذا طبعاً مجتمع متفلت؛ لأن تربية الأولاد هناك لها شأن غريب جداً، لا يستطيع أب أن يؤدب ابنه بالضرب، وقد سمعت هذه المرة حكايات عجيبة! ضحكت ملء فمي وأنا أسمعها؛ لأنها نكت، حيث لا يستطيع أي أب أن يضرب ولده إذا فعل أي خطأ مهما فعل، فإذا ضرب الوالد ولده؛ سجن قانوناً لأنه تدخل في حريته الشخصية، ولا يخرج إلا بتعهد مكتوب ألا يتعرض للولد مرة أخرى.
فأي شيء يخطر بباله يفعله.(12/6)
مثال يبين حقوق الأفراد في مجتمع الحضارة الأمريكية
من الأشياء التي يضحك لها الإنسان أشد الضحك ما حدث في ولاية تكساس الأمريكية وقد كانت تابعة للمكسيك، هي وكاليفورنيا، فالأمريكان اشتروا كاليفورنيا بالمال، مثل ألاسكا اشتروها بالمال، وتكساس في الجنوب منطقة للصعايدة، حيث كل من يعيش في الجنوب فهو صعيدي، وهذا في العالم كله، تجد أن لهم عادات وتقاليد ظاهرة، فالتمسك بالأخلاق عندهم ظاهر، بخلاف الشمال والوسط.
قال سكان هذه الولاية: لا، أمريكا ليس لها حق أن تأخذ هذه الولاية، فهيا بنا نعمل استقلال، وهذه تصير ولايتنا، وسنحاول أن نعمل حكومة وقضاء ومحاكم مستقلة -مع العلم أن هذه أمة معتادة على التمثيل- تخطر في رأس واحد منهم فكرة فيسعون إلى تنفيذها، والحكومة تسمع هذا الكلام كله ولم تتعرض لهم كل واحد يمارس هوايته.
ومن الأشياء المضحكة والغريبة: أن امرأة دخلت مقهى وطلبت قهوة، فأعطوها قهوة ساخنة في كوب مغطى، فوضعت الكأس بين فخذيها حتى تفتح الغطاء، وهي تفتح الغطاء انسكبت القهوة عليها فسلخ الجلد، فرفعت قضية على صاحب المقهى، فأخذت -تعويضاً- عشرين مليون دولار! هل رأيت في حياتك أعجب من هذا! غير أن القاضي الذي حكم استكثر المبلغ فتم الأمر على مليونين.
ثم يأتي إنسان حقير عندنا في الإعلام يقول: انظر الحقوق بائنة! لا أحد يضيع حقه.
أين حق هذه المرأة؟ من الذي أعطاها هذا الحق حتى بالمفهوم الإنساني؟! دعك من الحكم الشرعي في الدين، وانظر إلى هذه الحادثة بالعقل: امرأة أخذت كأساً من القهوة لكي تشربها فانسكب على فخذيها فانسلخ الجلد ما ذنب الرجل؟! ولو أعطاها إياها باردة ترفع عليه قضية! لماذا؟ كيف يعطيها القهوة باردة؟! وهل هناك شخص يشرب قهوة باردة؟! شيء عادي، ويعرض لك المسائل هذه كأنه مجتمع متماسك، والقضاء فيه على أحسن حال إلخ! وإخواننا المسلمون هناك مظلومون ظلماً فضيعاً، بعضهم في السجون بلا جريمة؛ إلا أنك تعيش في بلده بدينك، وهو لا يريد ذلك.
فهؤلاء الناس عملوا حكومة بينهم وبين بعضهم، واتخذوا لأنفسهم مقراً، وبدءوا يرفعون قضايا على أصحاب البيوت، وفعلاً طردوا أناساً من بيوتهم، ولأنه مجتمع مغرور صار ينضم إليهم أناس من رجال الأعمال حتى صار لهم شوكة، وصار عندهم طائرات (هيلوكبتر) يطيرون بها يتفقدون أمر الجمهورية الجديدة، ولما وجدوا أن العملية صارت حقيقة، حتى الأطفال كبرت المسألة في عقولهم؛ دخلوا عليهم فاجتاحوهم وخلصوهم، ووضعوهم كلهم في السجون، ومازال أصحاب البيوت يرفعون قضايا لكي يثبتوا أنهم مظلومون، ويريدون أن يسترجعوا بيوتهم! فإخواننا هؤلاء عندما يعيشون في وسط أولئك، تنتقل إليهم كل أمراض المجتمع الأمريكي، ويا ليتهم يجلسون لعلم نافع يفيدون به الأمة، وإنما أغلبهم سواقين سيارات أجرة، ولو قلنا أنهم يريدون تحصيل رأس مال ثم يعودون إلى البلد لإقامة عمل تجاري لهان الأمر، ولكن نقول لهم: يا جماعة! عندكم رءوس أموال، يقولون: لا تكاد تكفي للعيش في هذه البلاد.
لماذا؟ لأنه مجتمع مفتوح، لو معك مائة دولار، أو عشرة ألف دولار، أو مائة ألف دولار ستصرفها، مجتمع فيه كل ما تريد.(12/7)
انتشار التعامل بالربا في كل شيء
ثم إنهم سهلوا مسألة الشراء بطريقة اليهود الرهيبة بتسهيل أكل الربا، هناك كرت يحوز عليه الإنسان الأمين من وجهة نظرهم، الكرت هذا تتفاوت أسعاره من مائة ألف دولار إلى مائتين وخمسين ألف دولار إلى خمسمائة ألف دولار إلى مليون دولار، الكرت هذا بمقتضاه تدخل تشتري ما تشاء، ممكن تشتري بمائة ألف وتخرج ولا تدفع قرشاً واحداً، إلا أنك تريهم الكرت فيأخذون رقمه، ويعرفون عنوانك، وتدفع كل شهر قسطاً على حسب المشتريات، فمثلاً لو تأخذ بمائة ألف دولار تدفع مائتين دولار في الشهر، أو ثلاثمائة أو خمسمائة دولار، فمثلاً لو أراد شخص أن يشتري بمائة ألف بضائع، يدفع خمسمائة دولار في الشهر وإلا فلا.
طبعاً لما يأخذ بهذا المبلغ عليه فوائد، فيظل هذا الإنسان يقضي فوائد الديون فقط؛ لأن المائة ألف دولار فوائدها كم؟! فأنت عندما تدفع خمسمائة دولار في الشهر، فهذا جزء من فوائد الديون، والديون على حالها، والجزء الباقي من الأرباح يتراكم على رأس المال على الدين الأصلي، في الأخير تجد نفسك قد أفلست وحجزت أموالك لقضاء دينك، وربما لا تكفي.
فتخيل لما يكون هذا الكرت مع شخص تعرفة، ولما تذهب تزوره إلى أمريكا تجده يركب أفخم سيارة في أمريكا؛ لأنها بدون مقابل!! لديه كرت بمليون دولار مثلاً، يدخل يشتري سيارة -مثلاً- بثلاثمائة ألف دولار، والسيارات هناك رخيصة جداً، فالسيارة الفولفو مثلاً -التي يسمونها عندنا الفلفل- هذه بألفي دولار، سيارة موديل (97) بألفي دولار.
فلما تذهب وترى صاحبك -الذي كان هنا فقيراً- تجده يركب سيارة فخمة جداً، وتدخل مسكنه فتجده ساكناً في شقة فيها كل الكماليات تقول ما هذا؟ هذا يجد المال كالتراب، فكل الناس يأخذون فكرة مغلوطة، يظن أحدهم أنه لو ذهب إلى هناك فسيكون غنياً، لكن هذا الإنسان يعيش بالربا، هذا الإنسان يتمتع بالربا، ووجد نفسه مبسوطاً وميسوراً، وبعضهم قال: هذا شيء عادي جداً جداً، أول ما أحس أني متورط سأركب طائرة وأتوجه إلى مصر، ليست مشكلة، وهم كما قال: (يخرج من المولد بلا حمص)، ونكون هكذا قد ضحكنا عليهم! وأخذنا حقنا، هم يأخذون حقهم من الحكومات، ونحن نأخذه من الحكومات أيضاً، هم لصوص ونحن لصوص، لا أحد أحسن من أحد، هم يسرقون الدول ونحن نسرق أفراد، نحن بهذا أفضل الناس! هذا منطق الأخ الذي كان يكلمني، ما الذي غير هذا المنطق وجعله يستحل الأكل بالربا؟ الفقير ليس محروماً كما يتصور بعض الناس، يمر مثلاً على محلات العصير يشرب عصير قصب، والمانجو معلق لم ينتبه له، ولم يخطر بباله شرب المانجو مثلاً، فهذا هو الغني، لا تقل هو فقير، أنت تدخل تشرب مانجو وتنظر إليه يشرب عصيراً تقول: الحمد لله الذي متعنا، وأعطانا الذي نشتهيه.
وأعطاه الذي يشتهيه أيضاً، فأنت قد استويت معه، لكن أنت دفعت ثمناً غالياً فقط، هكذا تحسب المسألة.
مثلاً: وقع لشخصين حادث، أحدهما يركب سيارة -مرسيدس العيون- والتي يقدر ثمنها بثلاثمائة ألف، طبعاً بثلاثمائة ألف رخيصة رخص التراب؛ لأنها صنعت هنا، لما جيء بها من ألمانيا كانت بخمسمائة وخمسين ألفاً، فلما دخلت فيها إضافات مصرية والعجلات المصرية، نزلت النزلة الكبيرة هذه.
المهم: السيارة اصطدمت بسيارة أجرة (131)، من التي عجلاتها تدق وهي تمشي، طبعاً السيارة الثانية مازالت نظيفة وبعافيتها، والأخرى منتهية، فالذي حدث أن (الفوانيس والشبكة والكبود والرفرف)، وكل مستلزمات السيارة الشبح هذه دمرتها السيارة الأخرى، فنزل صاحب السيارة الأجرة يولول، فقال صاحب (الشبح): أنت تولول لماذا؟ أنت لديك سيارة لا تساوي شيئاً، المفروض أني أنا الذي أحزن! فكان رده عليه أن قال له: أنت بإمكانك أن تشتري غير هذه السيارة، لكن سيارتي هذه هي كل ما أملك، هي لا تساوي عندك ثمن عجلة، ولا تساوي عندك قيمة الباب، لكن هذه كل ما أملك، هذا كل رأس مالي! فمسألة رأس المال والغنى والفقر تؤخذ بهذا الاعتبار، لا يقال: إن الإطار بثمن السيارة، نعم، أنت بإمكانك أن تشتري سيارة كاملة، لديك مال، لكن أنا لا أستطيع، فمسألة الغنى والفقر على غير ما يتصوره الناس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) هذا هو الحساب الصحيح.
سألت إخواننا في المؤتمر -مؤتمر القرآن والسنة- سؤالاً وأنا أتكلم عن الطبقات وبناء المساجد، فقلت لهم: رجل معه عشرة دولارات في جيبه تصدق بدولار، كم بقي؟ قالوا كلهم: تسعة -وأكيد أنتم تعرفون هذا الحساب- قلت لهم: لا، خطأ، وسأعطيكم مهلة لكي تفكروا، فلم يستطع أحد منهم أن يصل إلى الجواب الصحيح.
(ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة)، فأنا عندي عشرة جنيهات تصدقت بجنيه، فلا تقل: معي تسعة، إنما قل: معي تسعة عشر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، تسعة جمع عشرة بكم؟ بتسعة عشر، والحسنة بعشر أمثالها.
الرجل هذا تصدق بجنيه، صار معه عشرة في ميزان حسناته، والتسعة التي في جيبه فتصير تسعة عشر، هذا هو الصحيح.
هناك حساب صحيح وحساب خطأ، الحساب الصحيح أنك تستصحب النصوص الشرعية، أنا رجل معي مائة جنيه وليس عندي أية تطلعات، ما دخلت في بيت تجاري، وما رأيت النجف، وما رأيت السجاد ولا ورق الحائط والأثاث إلخ، ولا تمنيته قط، فأنا غني، حتى إذا تمنيت ما في يد غيري، هنا يبدأ مشوار الفقر، فقر العاجز.
سفيان الثوري كان يقول: (من استطاع أن يصبر على أكل الخبز والملح لم يستعبده أحد) وجرب جرب أن تشبع بالخبز والملح فقط، ستكون أغنى الناس لماذا؟ لأن أول ما تتطلع إلى ما في يد غيرك يبدأ الفقر {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، وانظر كلمة (زهرة) هذه، فالزهرة عمرها قليل ونفسها قصير، أول ما تقطعها من غصنها لا تعيش إلا يسيراً وتذبل، ولن تعود فيها تلك النظارة.
فالناس هناك يعيشون الشهوات وعليها، فأنصح كل مسلم أن يرجع إلى بلاد المسلمين ويترك بلاد الكفر، تجد بعضهم إذا نصحته بهذه النصيحة يقول لك: أول ما يبدأ الولد يميز سأرجع إلى البلاد.
وكل الموجودين الآن في المجتمع الأمريكي صار لهم خمسة وثلاثون أو أربعون أوخمسة وعشرون سنة، كلهم كان يقول هذه المقالة.
فهذا مجتمع خاوٍ على عروشه، الذي يعرض علينا في بلادنا مع حالة القزامة التي نعيشها هو الذي جعل هذا المجتمع يتماسك.
أول ما ظهرت شواطئ أمريكا لنا وأنا على الطائرة ورأيت شواطئ نيويورك؛ لم أتمالك نفسي من البكاء، ودمعت عيني رغماً عني، وقلت في نفسي: بين بلادنا وبين هذه القارة ست ساعات بالطائرة التي تسير بسرعة ألف ومائتين كيلو في الساعة، كيف يحكموننا وهم في بلادهم؟!! والمسافة بيننا وبينهم طويلة! ما قام هذا المجتمع إلا بضعفنا، ليس بقوته، ليس لهذا المجتمع أية قوة اجتماعية يتماسك بها، ولذلك حجم المؤامرات علينا بلغ أشده.
الميزانية الأمريكية ترصد بمليارات الدولارات، الأموال التي تعطيها لبلاد المسلمين كمساعدات تعادل ميزانية التسليح، فالمعونات التي يعطونها لبلاد المسلمين نظير أن يتحكموا في اتخاذ القرار.(12/8)
من أسباب ذل المسلمين المنح المالية المشروطة
مثلاً: إحدى المنح اليابانية المتأخرة لمصر مثلاً، لا يعطيك المنحة ويتركك تتصرف فيها، بل هي منحة مشروطة، يقول لك: تعمل ثلاثمائة دار سينما، وتعمل -مثلاً- مائتي مسرح، وتعمل مستشفى، وتربط مثلاً طريقين أو ثلاثة، وتفتح عدداً من الأندية للتنس والكرة إلخ، فهنا يقول أصحابنا: يا أخي! أحسن من لا شيء، هات هات، دعنا نبني الفلل ونعمر البلاد، فهذا كله مجان، والواقع أنه ليس مجاناً، الواقع أن ثمنه غال، لما أنا آخذ منحة ويُشترط علي أن أعمل مثلاً مائة سينما، وخمسين مسرحاً وعشر مدارس مثلاً، وآخذ القرض أو المنحة متصور أن المانح لا تحكم فيه، وهذا الشرط الذي وضعه للمنحة شرط ليس له قيمة، لكن هؤلاء أنفاسهم طويلة وممتدة، هم لا يستعجلون في إفساد هذا الجيل، فعندهم تحمل وصبر حتى إلى الجيل الثالث؛ لأن عملهم مترابط.
نحن لدينا حاجة ملعونة اسمها الخطة الخمسية -لعنة الله عليها- وهي تُعمل لخمس سنوات، الوزير يجلس في الوزارة أربع سنوات ثم يتركها، ولم يكمل أكثر الأعمال، فيأتي الذي يليه بخطة خمسية، فنظل في خمسية ثم خمسية طوال عمرنا، لا نستطيع أن نخرج منها، كل واحد يأتي يبدأ بالعمل من جديد، ملايين ومليارات الأموال مهدرة، هذا ينجز مشروعاً والآخر يأتي يهدمه.
لكن أولئك عملهم متواصل، هناك خطة معينة، كل واحد يأتي فترة زمنية يؤسس، ثم يأتي الذي بعده يبني على ذلك الأساس وهكذا، أما نحن فكلما جاء مسئول هدم ما قبله، وأسس خططاً يترك الوزارة قبل أن ينجزها، ويأتي التالي ليهدم ما أسسه السابق، ويؤسس من جديد وهكذا دواليك.
والشيء الذي يحترق لأجله القلب أن عندنا وزارة اسمها وزارة التخطيط، وهذه الوزارة مهمتها أن تنسق بين الوزارات، لكي لا يقابل القطار قطاراً آخر، وحتى لا يتكرر العمل، لكن كل وزارة في الحقيقة تعمل على حدة.
يذكرني ذلك بسنة سبعة وسبعين عندما أمر السادات الناس بالتقشف، ولابد أن يعيش الوزراء مشاكل الشعب.
ولأن الرأس قدوة؛ قام مباشرة وركب سيارة (فولتك) وأخذ له المصورون صورة وهو متجه إلى الإسماعيلية على سيارة رخيصة، وأحدهم أوقفه وأخذ وأعطى معه، وهكذا القدوة إلخ.
وفعلاً صرف لكل وزير سيارة (خنفسة) مع الاحتفاظ بالسيارة المتقدمة، وهكذا فليكن التقشف.
فهناك أناس يسيرون على خطط، مثلاً: إسرائيل تجد كل شخص في واد، له طريقته الخاصة في التعامل، لكن لا يترك رئيس الوزراء الوزارة إلا وإسرائيل قد ارتفعت، كل واحد يمسك بما معه، لكن كل واحد حر في تصرفه في طريقة التعامل، مثلاً شامير كان شديد اللهجة متشدداً مثل نتنياهو بالضبط أما رابين فكان خفيف اللهجة، لكن كان الاثنان متفقين بقصد الوصول إلى الهدف، لماذا؟ لأن كل واحد يصل بطريقته الخاصة، وكل شخص حقق مكاسب لإسرائيل بالجملة.
مثلاً شامير بنى مستوطنات وعمل مصالح كثيرة لإسرائيل، ولم نستطع أن نوقفه، نشجب ونستنكر قائلين: نحن نحذركم، أنتم ستضيعون السلام، وأنتم الذين ستدفعون الثمن.
فالعملية ساحت وصارت خطيرة جداً، عملية شجب واستنكار ثم يأتي رابين فيقول: أنا ضد المستوطنات، نريد أن نضع أيدينا في أيدي بعض ونعمل سوقاً نعمل سوق نتعاون مع بعض في الزراعة والاقتصاد والثقافة، وتجري زيارات ومؤتمرات متبادلة، شبابكم يأتي يتفرج علينا، وشبابنا يتفرج عليكم؛ لأن سياسة التعاون والتبادل تريد نوعاً من إذابة الجليد.(12/9)
أثر المنح الدراسية في مسخ الشباب دينياً
ثم تقدم منح دراسية وزيارات لمجموعة من الطلاب المراد إفسادهم، وفعلاً لا يرجعون إلا وقد تغيرت طباعهم وأخلاقهم، هذا إذا لم ينسلخوا عن دينهم.
ثم يأتي أولئك الشباب وهم يمجدون اليهود والنصارى، وهم معجبون بثقافاتهم وحضاراتهم انظر قاسم أمين الذي ذهب إلى باريس وهو شاب غر لا يعرف شيئاً، وكان يعيش في مجتمع متحفظ، فلما ذهب إلى باريس اصطادوه وقربوا له امرأة لعبت بعقله وفكره، وكانت مصدر إلهام له، وهو نفسه قال في مذكراته: إن علاقتي بها كانت بريئة، أي: لم يكن يزني بها؛ لأنه لو زنى بها لاحتقرها، لكن يظل حباً عذرياً، تظل معه حتى تكون مصدر إلهام له، تثمر توجيهاتها، وتؤثر فيه.
رجع قاسم أمين بفكر آخر لكنه متحفظ، قال: المرأة غير متعلمة وينبغي أن ننشئ لها مدارس فلما رأى الناس هاجوا عليه؛ انزوى وانكمش في بيته إلى أن جاء سعد زغلول فأخذ بيده وقال له: اخرج وأنا سأحميك.
فخرج وكتب كتاب (المرأة الجديدة) وهي المرأة التي أريد تحريرها، ولكن أيضاً كان فيه متحفظاً، ومازال يتكلم بالإسلام، وكان يقول: أتمنى قبل أن أموت أن أرى المرأة بجانب الرجل، والمرأة تعمل في المصنع والمتجر وو إلى آخره، وظل يعدد المصالح الحكومية.
ويقول موضحاً: إن هنا مرضاً أريد علاجه، ألا وهو أن الرجل إذا رأى امرأة كان بينهما شيطان فيريد أن يزيله بالاعتياد والاختلاط.
فتصبح النظرة بريئة والاختلاط شيئاً طبيعياً.
ثم جرب من ناحية الثروة السمكية حيث أنهيت بسبب (الاستكوزا) التي ينشرونها في البحر، وكذلك التربة لم تعد صالحة للزراعة بسبب السمادات والهرمونات المصنعة لديهم والمتخصصة في تدمير التربة تماماً.
ظهر لنا نتنياهو وبنفس اللهجة الشديدة يتعامل معنا، ما وجدنا حلاً، نريد (13%) من الأرض، فيقول أتباع اليهود والمصلحون (كذبوا): لا، هذا كثير، فيقول الفلسطينيون: نلتقي في النصف (10%) لكن لكن هذه الـ (10%)، السلطة الحقيقية لها في يد اليهود، وهي مقابل أن تقوم السلطة الفلسطينية بتحجيم حركة حماس، وتطوعت الشرطة الفلسطينية بالقبض على أفراد كثيرين من حركة حماس وأودعتهم السجن.
أناس مع اختلاف مذاهبهم لكن كلهم يمسك بخطة واحدة وطريق واحد، لا تعارض أبداً في الأعمال، نحن نعاني من حالة ضعف رهيبة، لو رجعنا إلى الله -تبارك وتعالى- لغلبناهم في ضحوة من نهار، والله -وأقسم بالله! غير حانث إن شاء الله- أنا لو رجعنا إلى الله -تبارك وتعالى- وعبَّدنا أنفسنا لله في بيوتنا أولاً، ورفعنا تلك المخالفات؛ لمكن لنا سبحانه في أرضه!! فرجوعنا إلى الله تبارك وتعالى، وتعبيدنا أنفسنا لرب العالمين هو أول خطوة حقيقية في طريق الانتصار وهزيمة الأعداء.
أمريكا تنفق على محاربة المسلمين والصحوة الإسلامية في بلاد المسلمين، مثلما تنفق على التسليح؛ لأنها تعرف جيداً أن المسلمين لو خرجوا من هذا الضيق فلا يستطيع أحد أن يقف في مواجهتهم؛ لأنهم أشجع الناس قلوباً، وأعظم الناس فداءً وتضحية بأرواحهم ولا ترى هذا اليأس أبداً في أمة من الأمم، هذا دين عظيم لاسيما إذا كان المرء يتحرك بعقيدة سليمة.
إن خطواتنا متعثرة، ونحتاج إلى تثبيتها، فنريد من كل واحد منا أن يرجع اليوم إلى البيت فينظر إلى المخالفات الموجودة في البيت، ويعيد حساباته من جديد بحزم.
لابد للرجل أن يتخذ القرار ويحزم أهل بيته وأولاده، ويربيهم تربية صحيحة متصلة بالله تعالى، وأن يجعل له هيبة في بيته، حتى يتم تقبل كلامه وإرشاداته.(12/10)
شروط جيل التمكين
كنت -مرة في القاهرة- تكلمت عن جيل التمكين وعلاماته وشروطه وما أشبه ذلك، فكان مما قلت: إنه ينبغي علينا أن نوقف أولادنا لله مثلما نوقف المصاحف وسبيل الماء وغيرها.
امرأة حضرت لأول مرة خطبة جمعة كما حدثني ابنها -وهوأخ ملتزم نحسبه على خير- وأخوه لم يكن ملتزماً بذلك القدر، وحضر معه أيضاً هذه الخطبة، فبعدها تأثرت الأم وجمعت أولادها ووعظتهم وأحسنت القول لهم.
ورجل آخر كان يصلي الجمعة منذ زمن طويل، عندما سمع الخطبة وانفعل لها، قال ولده: توجه إلى البيت ينادي امرأته: أين الأولاد فكلهم جاءوا يظنون أن هناك مسألة خطيرة من وجهة نظرهم، قال لهم: أنتم كلكم وقف لله تعالى، ثم اهتم بتربيتهم وواصل ذلك معهم.
وابنه حتى الآن لما يتصل بي أسأله: ما أخبار أبيك؟ فيقول: ما شاء الله، استقام على شرع الله.
سبحان الله! قد ينفتح القلب أحياناً من كلمة لا تظن أن تؤثر ذلك التأثير، وربما قد سمع هذا الشخص مواعظ تهز القلوب هزاً، وتصعقها صعقاً، لكن ما بلغ القلب لم يكن هو المطلوب.
إنني أنصح الآباء الذين يخوفون أولادهم من المجيء إلى المساجد، ويحذرونهم من السجن والإرهاب وغيرها من هذه الأوهام التي ليس لها حقيقة، ولئن يبتلى المرء في الله خير له من أن يبتلى في الدنيا.
ثم هناك فرق بين المسجون جنائياً والمسجون لله وفي الله، أو المسجون السياسي أو الفكري.
فالمسجون جنائياً ذليل مهان، يلعن نفسه ويلعنه الناس.
بخلاف المسجون في قضايا الفكر مثل الشباب المسلم الملتزم، لما يسجن تجده محترماً عزيزاً يدعو له الجميع بالفرج والعاقبة الحسنة، وهو مع ذلك مأجور بصبره، وقدوته الأنبياء والصالحون والعلماء، فهذه فروق بين من يبتلى في الله ومن يبتلى في الدنيا.
لابد للجميع من أن يبتلوا في هذه الدنيا، ولكن تختلف الابتلاءات، هذا يبتلى بامرأته تؤذيه، وهذا بابنه، وهذا بجاره، وهذا بمديره في العمل إلى آخر ما هنالك.
فكل إنسان مبتلى.
فلما يكون بلاؤك في الله سبحانه وتعالى فهو شرف لك؛ لأن هذا اصطفاء من الله، اصطفاء لا ابتلاء فقط، اصطفاء من الله أن تبتلى فيه تبارك وتعالى.
فالمفروض أن يتشرف الآباء إذا ابتلي أبناؤهم من هذه الابتلاءات في سبيل الله.
ولابد أيضاً أن نكون أذلاء مع إخواننا المؤمنين، لا أن نتخاصم وكل يعرض عن الآخر حتى لو كان الاختلاف سائغاً فلا داعي لأن نحمل على بعض الحملات والتباغض وغير ذلك.
فنحن نحتاج إلى أن نعد نظرة تقييمية لهذا المجتمع: إنه لا يتحمل وكزة واحدة من ساعد شخص قوي؛ لأنه متهالك.
تعرفت على ولد أمريكي سنه اثنين وعشرين سنة، من خيرة الشباب الذين قابلتهم، شاب أمريكي أبيض، مسلم مذ كان عمره خمسة عشر سنة، ويتكلم اللغة العربية جيداً، ولسانه منطلق بالعربية، إذا تحدث معك لا تشعر أبداً أنه أمريكي، ففي الحقيقة أعجبتني طريقته في الكلام فسألته: كيف تمكنت من تعلم العربية؟ قال: أنا أسلمت وسني خمسة عشر سنة، وأحببت هذا الدين حباً لا نهاية له، فوجدت لساني يذل له.
وقال: وجدت نفسي أستوعب العربية بسرعة ملحوظة، في أقل من سنة تمكنت من التحدث بالعربية.
أقول: حينها شعرت بمدى ما نحن فيه من النعمة أننا عرب، ليس بيننا وبين القرآن حاجز، ترغب أن تقرأ القرآن؛ تفتح المصحف وتقرأ، ترغب أن تقرأ في السنة تفتح الكتاب وتقرأ.
كانت محاضرتي لهؤلاء الأمريكان حول صدق الرجاء في الله، وأن من صدق رجاؤه في الله لا يخيبه؛ لأنه أكرم من أن يخيب رجاء من رجاه.
إن الله عز وجل إذا وعد عبداً فإنه منجز له ما وعد، وإذا أوعد فهو له: إن شاء عذب، وإن شاء غفر.
خلف الوعد شين وعار، وخلف الوعيد كرم، إخلاف الوعد لا يليق بالله، فتعالى الله الملك الحق أن يخلف الوعد، لكن يخلف الوعيد، فيلتقي كرمه في إنجاز الوعد، وكرمه في إخلاف الوعيد، بأن لا يعذب، فهو أكرم الأكرمين تبارك وتعالى! وذكرت قصة جريج، وقصة أصحاب الغار، وقصة الساحر والراهب، وأنا أتكلم برغم أن أكثرهم لا يفهم اللغة العربية، لكن كانوا مشدوهين، وكان بعضهم يبكي، فلما ترجم صاحبنا لهم ما قلت صارت مناحة، فأحسست بغربتهم، فهم قلة.
مثل هؤلاء ومثل العرب كمثل البصير والأعمى، الأعمى يريد أن يعبر الشارع ينادي: خذ بيدي.
لا يستطيع أن يعبر الشارع وحده، لا يستطيع أن يخرج من البيت لقضاء حوائجه وحده، دائماً محتاج، وهذا ذل، فكذلك هذا الإنسان الذي يريد أن يفقه كلام الله ورسوله.
هزتني جداً كلمة قالها أحدهم هناك، لما كان آخر يوم في المؤتمر بكى بشدة! وقال: نحن من الآن يتامى!! من بعد ذهابكم وانطلاقكم ونهاية المؤتمر نحن يتامى!! والله -يا إخواننا- إن هذه الكلمة تتردد في جنبات نفسي حتى هذه الساعة، ما استطعت أن أنساها أبداً، ولن أنسى شكله وهو ينتحب، ويقول: نحن يتامى.
فهذا المجتمع الكافر لا يحمل أسباب الحياة في ذاته، وإنما قام على ضعفنا، فإذا تخلصنا من ضعفنا سقط؛ لأننا الذين أعطيناه مقومات البقاء، فالبدار البدار قبل الفوات! وهذا تقرير أمين أضعه بين أيديكم حتى يتصرف كل إنسان بما يليق بدينه، كل إنسان في عنقه أمانة، فلا نلقى الله عز وجل خونة يوم نلقاه، إنما نورث هذه العزة وهذا الدين ونحن أقوياء ومعنا أسباب الحياة، وهم يعلمون هذه الحقيقة جيداً، يعلمون أن هذا القيد لو انكسر، فلن يقف دوننا أبداً وما نريد حاجزاً، وإننا يوم نرجع إلى الله عز وجل سنطأ هذه الأرض بأقدامنا.
أمريكا قارة كاملة، ما بين نيويورك في الشرق وولوس أنجلس في الغرب سبع ساعات طيران، مثل ما تصل من الشرق إلى الغرب.
ونحن نطير فوق الولايات كنت أقول: ما أحلم الله! كل هذه الولايات تعج بالكفر والفسوق والعصيان، والذين يركبون في الطائرة معنا كذلك، ونحن أيضاً مذنبون، وهذا الأسطول الطائر ما بين السماء والأرض سبحان من يمسكه في جو السماوات! ومع ذلك يحلم عنا، ويمسك هذا الأسطول الطائر، وهؤلاء يرتعون في نعمه ويعصونه وهو حليم.
وإذا رجع واحد من هؤلاء قبله وما يعاتبه، وقد يرفعه من مستنقع المعاصي إلى قمة الولاية ويصطفيه.
فما أحلم الله تبارك وتعالى! فلا نريد أن نغتر بالله ولا بحلمه علينا، وأنه لم يعاجلنا بالعقوبة حتى الآن مع كثرة معاصينا، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(12/11)
جيل التمكين
إن التربية الإسلامية هي الطريق الصحيح إلى التمكين، وأما الذين ينشدون التمكين من خلال التغيير من قمة الهرم فلن يصلوا إلى أي نتيجة؛ إذ من السهل عليك أن ترغم الناس على الالتزام بتعاليم الإسلام الظاهرة؛ لكنك لا تستطيع أن تجبرهم على الولاء والمحبة للإسلام.(13/1)
الطريق الصحيح للتمكين
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فحديثنا سيكون عن جيل التمكين؛ مواصفاته، وكيف السبيل إليه.
إن الذين ينشدون التغيير من قمة الهرم لن يصلوا إلى أي نتيجة؛ لأن التغيير لا يكون إلا من قاعدة الهرم وهي كفيلة بأن تخرج لنا القمة التي تحكم شرع الله، ماذا يغني عن رجل وصل إلى قمة الهرم، وهو يتأمر على أناس ليس لهم ولاء للإسلام؟ قد يقهرون، لكنك لا تستطيع أن تجبرهم على الولاء والمحبة للإسلام.
قال رجل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لماذا كثرت الفتن في عهدك ولم تكن كذلك في عهد عمر؟ قال: لأن عمر كان أميراً على مثلي، وأنا أمير على مثلك) فأشار إلى النوعية، وإلى وجود الفرق.
ماذا يغني لو أن رجلاً وصل إلى قمة الهرم وهو لا يستطيع أن يحكم أمثال هؤلاء؟ الذين كتب أحدهم في الشهر الماضي تحت عنوان: (هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟) يعرضون شخص الرسول عليه الصلاة والسلام للتشريح والأخذ والرد، فتزول الهيبة والاحترام مع الأيام.
امرأة تقول لعاشقها: وأنا بين أحضانك كأنني زرت قبر الرسول.
وقد كتب أحدهم مقالاً يستنكر ذلك فقال: كيف يكون هذا الكلام في مسرحية أو في فيلم، ولكن هل تم معاقبة القائل؛ حتى نعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام -صاحب الجناب العالي- له من ينصره، ويغار عليه؟ هؤلاء لم يصلوا إلى ما قالوه طفرة، وإنما وصلوا إلى هذا نتيجة الاعتداءات الآثمة التي تتكرر ولا نكير ولا أحد يعاقب.
إذا وصل الأمر إلى تشريح جثة الرسول عليه الصلاة والسلام على صفحات الجرائد والمجلات، إذاً غداً يعلن الكفر جهاراً نهاراً.
في إحدى المرات تكلموا عن النعجة (دوللي) التي أخذوا منها الخلية الحية بلا رحم وعملوا نعجة، فقالوا في الجرائد والمجلات: هذا أعظم من ولادة المسيح.
تصور (أعظم من ولادة المسيح)! معنى هذا الكلام أن العباد فعلوا ما عجز الله عنه، يعني أن هذا أعظم من ولادة المسيح من غير أب، ومع ذلك لا يلتفت أحد إلى مثل هذه الطوام العظيمة التي تقدح في الله عز وجل، وتقدح في كتابه وفي ديننا كله.
لو جاء رجل وهو في قمة الهرم، وحكم أمثال هؤلاء أينتصر بهم؟ لا ينتصر بهم أبداً، لأن الواحد منهم قد يسكت عندما يرى بارقة السيف، ويعلم أنه إذا تكلم عوقب وقتل، أو عزر وسجن، لكن لا يكون ولاؤه للإسلام.
إننا نريد جيلاً يحب الله ورسوله، بيت يرفرف عليه الإسلام.
إن جيل التمكين يحتاج إعداده إلى وقت، لقد عشنا قروناً متطاولة في الفوضى والبعد عن مصدر عزتنا، فنحتاج إلى قرن على الأقل إن لم نقل قروناً حتى نصل إلى الاستقامة، فالذين يستعجلون ويقولون: لو بدأنا التغيير من قاعدة الهرم لطال الطريق، فهؤلاء لن يصلوا إلى شيء أبداً.
كلمة التوحيد التي ينطقها الناس يغفلون عن أول كلمة فيها، ولو حققوها لحققوا التوحيد، فقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).
ما معنى (أشهد)؟ لو حقق القائل معنى كلمة (أشهد) لاستقامت له الكلمة كلها؛ لأن الشهادة من المشاهدة، وهي الرؤية، (أشهد أن لا إله إلا الله) يعني: أراه، وهي ضد الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، الغيب: ضد الشهادة، فإذا اعتقد القائل في كلمة "أشهد" وحققها فعلاً، وقصدها لما نطق بها -يعني: أرى الله- لاستقامت أحوالنا.
تُرى لو كان يعتقد فعلاً أنه يرى الله تبارك وتعالى، أيقوى قلبه على معصية الله؟ لا يقوى أبداً، وفي الحديث الذي قواه بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل لما قال له: أوصني، قال: (أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك).
لا يستطيع الإنسان أن يقيم على معصية يراه فيها رجل صالح، بل إذا أراد المعصية أغلق الباب، وأغلق النافذة، واطمأن على المداخل والمخارج، وظن ألا أحد يراه أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك؛ لأنك لا تستطيع أن تظهر ما في ضميرك أمامه أبداً.
نقل المعاني المجردة إلى المحسوس يتكرر في القرآن وفي السنة؛ الضلال والهدى معانٍ، والبيع والشراء حس، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، شيء محسوس، فنقل المعنى إلى باب الحس مقصود حتى يتم التصور، قال صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً)، فنقل الرضا الذي هو من المعاني إلى باب الحس الذي هو التذوق.
فأنت عندما تقول: (أشهد) أن لا إله إلا الله يعني: أراه، كان متعذراً عليك أن تراه، انزل درجة، (فهو يراك)، هذه الدرجة التي نزلتها هي قمة الإسلام كله، وهي الإحسان، فبرغم نزولك درجة إلا أنك لما نزلت كنت على قمة الدين (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
هذا إذا نزلت درجة، فكيف إذا بقيت على أصل الكلمة؟ مع أنه عند نزولك كنت على قمة الإسلام، وهو تحقيق باب الإحسان (أن الله يراك)، ولذلك لما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) أضاف الصوم إليه سبحانه وتعالى، مع أن الصوم لابن آدم أيضاً؛ لأن فيه تحقيق مرتبة الإحسان.
قد يرائي المرء في صلاته، يأتي المسجد ليراه الناس، ويخشع في صلاته ليراه الناس، لكن الصائم في رمضان قد يكون الباب مغلق عليه، ويكاد يموت من العطش، والماء البارد أمامه، لكن لا يستطيع أن يشرب، برغم أنه وحده، إذاً لا يستطيع أحد أن يرائي في الصوم أبداً، فلما كان الصوم محققاً لمرتبة الإحسان قال الله عز وجل: (فإنه لي وأنا أجزي به) إذ أن إضافة هذا الجزاء إلى الله سبحانه وتعالى فيه دلالة على التعظيم.
فالصيام تحقيق لمرتبة الإحسان -أن الله يراك- فكيف إذا حققت معنى الكلمة (أشهد)، فإذا كنت تعتقد فعلاً أنك تراه لا تقم على معصيته طرفة عين، هذا هو معنى كلمة (أشهد).
و (أشهد أن محمداً رسول الله) معناها: إذا وصلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فاعتبر نفسك واقفاً أمامه وهو يشافهك؛ هو الذي يأمرك وليس الناقل، أنا إذا نقلت لك حديثاً صحيحاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فبادرت إلى الامتثال، فأنت لا تطيعني، وإنما تطيع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فهل إذا وصلك حديث اعتقدت واستحضرت بقلبك أنك واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما أجمل ما قاله السبكي الكبير علي بن عبد الكافي رحمه الله في جزء له لطيف، اسمه "بيان قول الإمام المطلبي- يعني الإمام الشافعي - إذا صح الحديث فهو مذهبي"! سئل: إذا وقف الإنسان على حديث يخالف مذهبه -هو مذهبه شافعي- فكان المشهور في المذهب: لا تفعل، وجاءه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: افعل، فإذا كانت الصورة هكذا، أيطيع الحديث أو المذهب؟ فقال: ليفرض أحدكم نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تفعل كذا، أو افعل كذا، أيحل له خلافه؟ هذا هو معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) كيف يقوى قلبك على مخالفة أمره إذا وصلك الأمر؟! هب أنك الآن أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وقال لك: طلق امرأتك التي تحبها ولك منها أولاد -كم من الناس الذين يأكلون الربا، ويأخذون الرشاوي بحجة أن لديهم أولاداً، مع وضوح الآيات ووضوح الأحاديث في تحريم ذلك -واترك مالك، وهذا من أعظم المصائب، فهل تقول له: لا؟ إذا كنت واقفاً أمامه ما أظنك تقوى على ذلك أبداً، فما بالك وقد وصلك ما هو أدنى من ذلك الأمر بألف درجة، فإذا قيل لك: لا تلبس خاتم الذهب، وقيل لك: هذا حرام، لا يحل لك لبسه، ومع ذلك بقي الخاتم في يدك، أهذا تحقيق معنى (أشهد أن لا إله إلا الله)؟ هذا تحقيق (أشهد أن محمداً رسول الله)؟ رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في يد رجل خاتماً من الذهب، فنزعه من يده وطرحه على الأرض، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)، ثم فارق النبي صلى الله عليه وسلم المجلس، وقام الصحابة أيضاً من المجلس، فذكّر بعض الحاضرين الرجل أن يأخذ خاتمه، وقالوا له: خذ خاتمك وانتفع به، فقال الرجل: ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله، طالما رماه على الأرض لا تمتد يدي إليه، هذا هو معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) أي أنني إذا وصلني حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أستحضر أنني واقف أمامه، كيف يكون وقع كلامه علي، هذا هو الجيل المنشود الذي نريده، هذا هو جيل التمكين، لو كان هناك مائة رجل أمثال الصحابة لفتحوا القدس، أما الآلاف من المسلمين اليوم الذين ينطقون بالشهادتين دون أن يحققوا معنى الشهادة فإنهم لن يحركوا ساكناً.(13/2)
مواصفات جيل التمكين
البيئة المسلمة تؤثر في الساكنين فيها، حتى لو كانوا من الكفار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل)، يجر أحدهم إلى الجنة وهو مسلسل، فتعجب الصحابة من ذلك: كيف يسلسل ويجر إلى الجنة، والكل يطمع في الجنة، ولو فتحت أبوابها لدخل البطالون قبل المؤمنين، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بالسلاسل هم الأسرى، الذين وقعوا أسرى بعد الحرب، فجيء بهم مسلسلين في العبودية وفي الرق إلى بلاد الإسلام، فلما رأوا الإسلام ورأوا سلوك المسلمين أسلموا، فكان إسلامهم الأول بالسلاسل.
أما اليوم لو نزل رجل كافر في أي مطار من مطارات البلاد الإسلامية لما وجد فرقاً بينها وبين البلاد الكافرة، ولو مشى في شوارع البلاد التي تنتمي إلى الإسلام ما وجد كبير فرق بينها وبين البلاد التي يظللها الكفر، فنريد إرجاع الحياة الإسلامية مرة أخرى.
روى الإمام العجلي رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة الحسن بن صالح بن حي رحمه الله: أنه باع جارية له، فلما ذهبت الجارية إلى البيت الجديد استيقظت في نصف الليل، وصارت تنادي أهل البيت: يا أهل البيت! الصلاة الصلاة! فقاموا فقالوا لها: أُذن للفجر؟ فقالت لهم: ولا تصلون إلا الفجر؟! قالوا: نعم.
فلما أصبحت ذهبت إلى الحسن وقالت له: ردني إليك، لقد بعتني إلى قوم سوء لا يقومون الليل.
هذه جارية، لكن تربت في بيت الحسن.
تأمل معي بيت الحسن بن صالح: كان للحسن بن صالح أخ توأم اسمه: علي بن صالح بن حي، وكان علي أوثق الرجلين وأفضلهما في الحديث والرواية والضبط، فكان الحسن وعلي وأمهما، يقسِّمون الليل ثلاثة أثلاث، فكانت الأم تقوم الثلث الأول، ثم توقظ الحسن فيصلي الثلث الثاني، ثم يوقظ الحسن علياً فيقوم الثلث الأخير.
فلما ماتت الأم صار علي يصلي نصف الليل، والحسن يصلي النصف الآخر، فلما مات الحسن قام علي الليل كله؛ بيت بهذه المثابة تربت فيه تلك الجارية، فكيف لا تقول هذا الكلام؟!(13/3)
المرأة الصالحة وأثرها في إعداد جيل التمكين
جيل التمكين له ثلاثة ركائز: الأب، والأم، والولد -الذي هو الثمرة-.
أي زرع لا يمكن أن يقوم إلا بثلاثة أشياء: خصوبة الأرض، وعذوبة الماء، ومهارة الأيدي العاملة.
وبقدر الخلل في واحد منها يكون الخلل في الزرع، ولا خلاف بين الناس جميعاً أن أجل غراس يغرس هو الإنسان، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]، وأجل ما يغرسه المرء منا هو الإنسان.
إن الأرض البور لا قيمة ولا سعر لها في الواقع، ومع ذلك فأكثر المسلمين تزوج من تلك الأرض، والأرض الخصبة أغلى ثمناً، وأعلى قيمة، فهل لهذه الأرض من مواصفات؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا حديث معروف مشهور، لكنه خرج مخرج الخبر: أي أن الناس إذا أرادوا اختيار المرأة فإنهم يراعون المال والجمال والحسب، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لم يحض إلا على ذات الدين، وترك الباقي، لم يقل فاظفر بها على أي صفة من هذه المواصفات لا، فالمواصفات الواردة في الحديث خرجت مخرج الخبر، أي: من الناس من ينشد جمال المرأة، ومنهم من ينشد مالها، ومنهم من ينشد حسبها، فحض على ذات الدين وحدها، ولكن لم ينكر عليك بعد اختيار ذات الدين أن تأخذ صفة من هذه الصفات الثلاث، فذات دين جميلة أفضل من ذات دين قبيحة، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقيرة، وذات دين جميلة غنية ذات حسب أفضل من ذات دين جميلة وغنية وليس لها حسب، لكنه حض على ذات الدين فقط.
وقوله: (تربت يداك) يعني: تعلقت يداك بالتراب، والتراب هو مصدر الخير والبركة والنماء، وليس المقصود تعلقت يداك بالبركة إذا اخترت ذات الدين، فأول صفة يجب على المرء أن يبحث عنها المرأة ذات الدين.
انظر إلى خديجة رضي الله عنها الكاملة الودود الولود، كيف ثبتت زوجها صلى الله عليه وسلم، وكيف استدلت بكمال عقلها على أن من كان فيه هذه الصفات لا يخزيه الله أبداً، مع أنه لم يكن نزل دين آنذاك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) يعني: لم يكمل من النساء إلى أن تقوم الساعة إلا أربع فقط، منهن خديجة وابنتها فاطمة، فقد أخذتا نصف الكمال في النساء.
لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام يرجف فؤاده قال لـ خديجة: (لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فاستدلت بكمال عقلها أن مثل هذا لا يخزى، لم تقل له: كلا، لا يبتليك الله أبداً؛ لأنه قد يبتلى الأخيار، ولكن لا يخزون (كلا لا يخزيك الله أبداً) فشدت من أزره.
إن أعظم ما يبتلى به الداعية إلى الله أن يتزوج بامرأة غايتها غير غايته؛ غايته الآخرة وغايتها الدنيا.
قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات التي تكتب بالذهب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها كأنها نشيد ينشده، وكان يكثر من الثناء عليها وفاءً لها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على امرأة قط غيرتي من خديجة) لكثرة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها، يقول الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء، أن تغار من امرأة ميتة، ولا تغار من عدة نسوة يشركنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو العجب!! ولقد كان رسول الله يذبح فيرسل اللحم إلى صديقات خديجة، ويقول: (إن حسن العهد من الإيمان) تعلموا الوفاء.
فلما أكثر من الثناء عليها قالت له مرة: (وما يعجبك من امرأة حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، أبدلك الله خيراً منها؟).
(حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، فالمرء الذي ليس في فمه أسنان إذا ضحك فإنه لا يظهر إلا حمرة اللثة، تقول امرأة سقطت أسنانها، ذهب شطر الجمال، مثل العين، والشعر، فالمرء الذي ليس له أسنان يذهب بهاء وجهه.
(ما يعجبك منها؟) أي ما يعجبك من امرأة عجوز، قد سقطت أسنانها، ليس لها جمال، وهلكت في الدهر، (وأبدلك الله خيراً منها) تعني نفسها، شباب وجمال، فيرد عليها قائلاً: (ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها) امرأة ذات دين تعين زوجها على نوائب الحق، والمؤمن مبتلى؛ قد يسجن الزوج؛ فتقوم الزوجة الصالحة بدور الأب في غيابه، وهي لا تتضجر من المعيشة ولا ترسل رسالة تطلب الطلاق هذا هو الوفاء! طالما الرجل صاحب دين، صاحب منهج مستقيم؛ فتصبر المرأة معه، هذا هو مقتضى الوفاء، فهذه المرأة هي ذات الدين، فلا يقوم بهذه الخلال إلا ذات الدين.
ثم عدد النبي صلى الله عليه وسلم الأسباب التي جعلته يكثر من الثناء عليها، وعلى النساء اللواتي يردن الحظوة عند أزواجهن بلا تضحية ولا ثمن أن يتعلمن من هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبدلني الله خيراً منها) قال: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمته من باقي النساء)، كيف لا أحبها، وكيف لا أجلها، وكل شيء يذكرني بها.
في صحيح البخاري ومسلم: (أن هالة بنت خويلد أخت خديجة استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم -كان استئذانها كاستئذان خديجة - فلما استأذنت ارتاع لذلك النبي صلى الله عليه وسلم -شخص يذكرك بحبيبك، نفس الصوت، نفس الاستئذان، فأول ما سمع صوتها ارتاع لذلك، وفي الروايات الأخرى: فارتاح لذلك- وقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعل المستأذن هالة - قالت عائشة: فغرت -حتى هؤلاء يذكرنه بها، فغارت، وقالت له هذه المقالة-: ما يعجبك من امرأة حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، أبدلك الله خيراً منها؟) فهي ذات الدين، ولا تجمل الحياة إلا بها، فكيف قصرت وكيف فرطت في اختيار الأرض التي ستضع فيها بذرتك، ويخرج منها ولدك.
أول شيء في الطريق لإعداد جيل التمكين: المرأة ذات الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود)، فربط بين هاتين الصفتين (الودود الولود)، ولذلك المرأة إذا لم تنجب تشعر في قرارة نفسها أنها ليست امرأة، وتكاد تجن أحياناً سعياً وراء الولد؛ لأن الولد يقوي الود والروابط بين الرجل والمرأة ويمتنها، فإذا أحب الرجل امرأته أحب أولاده منها، وإذا كره امرأته قد يكره أولاده منها.
القصص التي نسمعها كل يوم والد لديه مال وفير، وأولاده من أفقر الناس في البلد -فأغنى الناس وأفقرهم في ذات الوقت هو البخيل- ويذهب الولد يستجدي أباه قائلاً له: لا أجد مسكناً، وعندك بيت، وعندك مال، ابن لي مسكناً.
فيقول الأب: أنا رجل عصامي، وبدأت ثروتي من الصفر، لم لا تبدأ أنت الآخر كذلك؟ هل هناك أب يخاطب ابنه بهذه اللهجة، وبهذه الطريقة؟! فلما بدأت تشتكي وتسرد تاريخها مع زوجها، مشاكل من أول يوم، فكرهها وكره أولاده منها، ومن ثم يولي الدفء من البيوت بسبب عدم الانسجام بين الرجل والمرأة، وبالتالي لا يفرز لنا جيل أبداً.
فـ خديجة رضي الله عنها مثال للمرأة الوفية، فهي صاحبة الدين المتين، فقد وقفت جوار زوجها لما كان وحده، في وقت عز فيه النصير، كان وحده وهي امرأة، وهي التي قوت من عزمه، واعترف لها بالفضل والجميل، ولذلك تنازع العلماء: أيهما أفضل خديجة أم عائشة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع أردف هذا بقوله: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) إنما ذيل بهذا حتى لا يضيع فضل عائشة.
خديجة لها الكمال، وعائشة بالنسبة لسائر النساء ما عدا هؤلاء الأربع الكمّل كفضل الثريد على سائر الطعام، فقطعاً هذا أنزل درجة من الكمال، والتحقيق: أن خديجة رضي الله عنها أفضل للنبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة أفضل لأمته، فقد نقلت الكثير من الأحكام عائشة رضي الله عنها! وكم نقلت من الحديث والعلم! عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة تفتي وتنقل العلم، وتعلم وتهذب وتربي، والذي ينفع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل.
ولذلك استدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يناقش الرافضي ابن المطهر الحلي، حينما قال: إن علياً أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما، واستدل على ذلك بحديث منكر، وهو: (أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يكسر صنماً فوق الكعبة انطلق هو وعلي بن أبي طالب، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فوق أكتاف علي، فعجز علي عن حمله، فصعد علي على أكتاف النبي صلى الله عليه وسلم وتناول الصنم فكسره، فاستدل الرافضي على فضل علي أنه صعد على منكبي النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: ولا يوجد أحد صعد على منكبيه إلا هو).
رد شيخ الإسلام رحمه الله قائلاً: كلا، بل الذي ينفع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الذي ينفعه النبي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر: (ما منكم من أحد له عليَّ يد إلا جزيته بها إلا أبا بكر، فله عليَّ يد يجزيه الله بها) كأنه قال: أنا لا أستطيع أن أجزيه، فالله يتولى جزاءه، فـ أبو بكر نفع النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان شرفاً له أنه الذي ينفع لا الذي ينتفع.
فـ خديجة رضي الله عنها نفعت النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك نال(13/4)
المؤامرة على الحجاب
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
التربية الإسلامية هي الباب الذي نلج منه إلى التمكين، الحروب التي تقوم في أطراف الأرض، وتنشب في كل زمان، المقصود من ورائها التمكين.
لماذا يقوم النظام العالمي الجديد؟ من أجل السيطرة والتمكين، لكنهم تنكبوا الغزو عن طريق السلاح؛ لأنهم علموا أن المسلمين شجعاناً أبطالاً، أصحاب فداء، فنحوا القوة العسكرية جانباً، وبدءوا بالغزو الفكري وزعزعة العقائد، حتى استطاعوا أن يهزوا الثوابت التي يقوم عليها البنيان الإسلامي كله.
لو هدم رجل جداراً من عمارة لا ينزعج أهل العمارة، لكن لو بدأ يهدم عموداً يقف الكل أمامه، وذلك لأنهم يعلمون أن العمارة كلها ستنهار، هذا الذي فعله أعداؤنا، ومكن لفكرهم هذا الطابور الخامس الذي ما نزال نعاني منه حتى الآن، والحملة مسعورة على أشدها، وازدادت على النساء بصفة خاصة، وبالذات على قضية الحجاب، وقد تركوا اللحى؛ لأنها كثرت جداً، فنقول للمنتقبات أيضاً: إذا كثر الحجاب جداً أيضاً كفوا عنه، مثلما كفوا عن اللحية.
لماذا تمنع الفتاة المتحجبة من دخول الجامعة مثلاً أو دخول المدرسة بينما تدخل بنت أخرى بشعرها؟ لو اعترضت على البنت المتبرجة، لقالوا لك: حرية، فلماذا صادرتم حرية المتحجبة مع أن الدستور عندكم يقول: إن الحرية الشخصية مكفولة ما لم تضر بالآخرين؟! وأي ضرر من امرأة متحجبة؟ هي حرة.
لكن هذه الحرب الضروس لا تستهدف الحجاب فقط إنما الحجاب رمز، مثلما حرقوه في ميدان الإسماعيلية الذي سموه الآن: ميدان التحرير، إشارة إلى تحرير المرأة من دينها وحجابها؛ لأنه رمز التخلف عندهم، نساء يخرجن على ثكنات الإنجليز في ميدان الإسماعيلية، ويخرجن يحاربن الإنجليز، نساء يحاربن الإنجليز!! تمثيلية لكن غبية، كاتب السيناريو غبي، ما استطاع أن يأتي بحبكة مقنعة، فقام الإنجليز يرمونهم بالرصاص، فماذا فعلت النساء؟ قمن بخلع الحجاب، وقد جهزن دلو بنزين وأضرمن النار في الحجاب فما دخل الحجاب بضرب الإنجليز إياكم؟ مسرحية غبية جداً، لكن كان المقصود حرق الحجاب كرمز.
لكن هذا دين الله عز وجل، وهو الذي يرعاه ويكفله، فقد عاد الحجاب بسرعة لم يتخيلها أحد قط، والمدة التي غاب فيها الحجاب عن الساحة خمسين سنة فقط تصور، لم يزل الحجاب فجأة، إنما على مدار عشر سنوات، فمن سنة ألف وتسعمائة وثلاثين كان الزوال الحقيقي الواضح للنقاب، ورجع الحجاب سنة ألف وتسعمائة وثمانين، من سنة ثلاثين إلى ثمانين خمسين سنة -نصف قرن- ما قيمة نصف قرن في حياة الأمم؟ فلما رجع الحجاب بسرعة مذهلة فقدوا صوابهم، وصاروا يضربون ضرب عشواء في كل مكان، يريدون إيقاف هذا الزحف، كل يوم تنضم متحجبات إلى القافلة، هذا دين الله عز وجل، فالحجاب رمز، وهذا علامة الديانة.
يجب أن تعتقد المرأة أنها أس البنيان كله، وأن تعرف عظم المسئولية الملقاة على عاتقها، وأنها مقصودة بهذه الحرب، وأنها المستهدفة في المقام الأول مع ضعفها، وقلة تربيتها، وعدم اعتناء أبويها بها.
أيها الإخوة! اهتزت الثوابت حتى صرت تسمع في بلاد المسلمين من إذا أمر بالصلاة قال: حتى أقتنع، ومن إذا أمرت بالحجاب، قالت: حتى أقتنع، ويأتي الوالد فيعزز وجهة النظر، يقول: أنا لا أريد أن أضغط عليها؛ حتى لا تكره الحجاب، افترض أن هذه البنت لم تقتنع أبداً بالحجاب، والولد لم يقتنع بالصلاة، ما هو المآل؟ ترك الصلاة، هل هذه هي الوصية التي أوصانا الله عز وجل حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] وحياتنا في الوحي قرآناً وسنة؟ هل هذه هي الوصية؟ الله يأمر، أقول: لا حتى أقتنع!(13/5)
الآثار السيئة لتقسيم الدين إلى قشور ولباب
تعلمون أن هذا ترك آثاراً سلبية على دعاتنا، الذين واكبوا هذه المحنة وعاشوا أغلب أعمارهم فيها، هل تعرف كيف؟ الدعاة الذين استهانوا أو هونوا من إعفاء اللحية، ومن تطويل الإزار، وقالوا: إن هذه قشور، وكل الأحكام التي على هذا النمط قشور، تعرفون لماذا قالوا هذه الكلمة؟ لأنهم قضوا أكثر أعمارهم يقاتلون هؤلاء العلمانيين على فرضية الصلاة، فعندما يأتي أحدهم ويقول: لا توجد صلاة، فأنت تثبت أن الصلاة ركن، فإذا جاء أحدهم وقال لك: يا مولانا! ما رأيك في اللحية؟ يقول لك: أي لحية؟ الصلاة ضاعت، لا تكلمني عن اللحية، لا تكلمني عن الإزار هذه قشور بالنسبة لما نقاتل من أجله! فتركت هذه الظاهرة آثاراً سلبية حتى على الدعاة، مع أننا لا نقدح في إخلاصهم، وعندهم عاطفة ومحبة لله ورسوله، وقد قضوا أغلب أعمارهم يثبتون أن الصلاة ركن، وقالوا: هذه قشور.
فتركت هذه الظاهرة آثاراً سلبية؛ إحدى هذه السلبيات: أنه لم يراع تغير الجيل، فقد جاء جيل آخر يعتقد فرضية الصلاة، إذاً فلابد أن تغير الأسلوب، أنت لا تكلم الجيل الذي كنت تكلمه في الماضي، هذا جيل جديد، ومع ذلك لا زال يقول حتى للجيل الجديد: أي لحية؟ أي إزار؟ هذه سلبية عانينا منها وما زلنا نعاني.
وصل الحال ببعض المنتسبين إلى العلم أن يهاجم الحجاب أكثر من مهاجمة التبرج والسفور، ويقول: الفرض تغطية البدن كاملاً سوى الوجه والكفين، واتخذت هذه الدعوة سلماً إلى التبرج والسفور، وهذا كله بسبب التهوين، فحتى الذين يدعون إلى الله أصيبوا بسبب هذه المحنة.
الثوابت تهتز ولا زالت تهتز حتى الآن، فالاعتداء على شخص الرسول عليه الصلاة والسلام موجود، والقائل أنه هل مات بالزائدة الدودية أم لا، كان ينبغي أن يعزر بأن يجلد، وقد يصل التعزير إلى القتل، إذا كان يستهزئ بشخص الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إذا قال كلاماً فيه استهزاء وإن لم يقصد، هذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، من استهزأ بالله ورسوله، واستهزأ بدين الإسلام يقتل، حتى لو أظهر الرجوع؛ لأنه لو جاء رجل فسب النبي عليه الصلاة والسلام واستهزأ به، فلما رأى بارقة السيف قال: تبت؛ تركناه، فاستهزأ آخر، فلما أردنا أن نقيم عليه الحد قال: تبت؛ تركناه، فاستهزأ ثالث، فقال: تبت وهكذا تذهب حرمة نبينا صلى الله عليه وسلم، فحفاظاً على مكانة الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل هذا الشخص، وإذا تاب فتوبته بينه وبين الله، لكن يقتل تعزيراً، لأنه قد يصل التعزير في مثل هذه الحالة إلى القتل.
واحتج العلماء لها بأحاديث منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة مقتولة، ولم يعرفوا من الذي قتلها، فقال: (أنشد الله رجلاً لي عليه حق فعل ما فعل إلا قام، فقام رجل أعمى فقال: إني قتلتها، كانت زوجتي، وكانت بي بارة، لكنها كانت تكثر الوقيعة فيك، فكنت أنهاها فلا تنتهي، فقمت إليها فقتلتها، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا اشهدوا أن دمها هدر) دمها هدر، كانت تسب النبي عليه الصلاة والسلام.
فكيف يترك هؤلاء دون أن يعاقبوا؟! ولم يصل هؤلاء إلى هذا طفرة، لكنهم لما رأوا أشياء كثيرة تهتز اهتزازاً عنيفاً ساغ لهم أن يهزوا هذا الأصل أيضاً بأسلوب غير مباشر، تقول له: تتكلم عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يقول لك: يا أخي! هذا كلام علمي، وأنا عندما أذكر النبي أقول: محمد أقول صلى الله عليه وسلم، وعليه الصلاة والسلام، لكن هذا كلام علمي.
حسناً هل الجثة موجودة الآن وبإمكانك أن تشرحها حتى تفيد البشرية من هذا المرض، لو جاز لك أن تقول: أنا أشرح إنساناً، وآخذه من المشرحة وأسرقه من أجل أن أعمل أبحاثاً تفيد البشرية، ونطور من خلالها العلاج، ونعرف طبيعة المرض، لو جاز لك ذلك في إنسان له جثة، فما هي الفائدة العلمية التي تعود على هذا الكاتب حتى يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرناً؟! الفائدة أنك تتكلم عن الرسول فقط، وتتناول شخصه كأنه مثل أي شخص آخر، ممكن فيما بعد أن نشرح مواقفه وأخلاقه، ونعترض عليه، والأمر طبيعي، وهذا كله باسم المنهجية العلمية، وهذا كله علم، ونحن لم نسبه ولم نشتمه، لكن نتكلم كلاماً علمياً.
وتصبح شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام -التي لم تمس- سهلة المسيس، وأي إنسان ممكن أن يتكلم عليها، وأي إنسان ممكن أن يتناول جانباً آخر من حياته، وقد يظهر شخص ويقول لك: هل مات باللثة -مرض في اللثة- ويستدل بحديث في البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما زلت أعرف أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات) ويأتي لك بتشريح للثة وتشريح للأسنان ويتكلم، وكأنه يتكلم عن شخص عادي، فليس هذا من الوقار والهيبة والاحترام للنبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يشرح يتكلمون عليه، حتى الذين لا يصلون يتكلمون عنه.
نحن أمام طوفان هائل، أين هذا الجيل الذي يقف ولاءً لله ورسوله في زمان الغربة، يدافع عن الله ورسوله، وعن دين الله ورسوله في زمان الغربة، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لا يستوي من نصر الله ورسوله في وقت عز فيه النصير مع الذي انضم إلى القافلة بعد رجوع الناس زرافات ووحداناً إلى دين الله تبارك وتعالى.
جيل التمكين صار ضرورة، وبكل أسف بعض الذين ينسبون إلى الالتزام والتدين لم يراعوا هذه المسألة، فعندما تنظر إلى أولادهم لا ترى كبير فرق بينهم وبين أولاد غيرهم، كل هذا بسبب أن الأيدي العاملة القائمة على استصلاح الأرض ليست ماهرة، نحن قلنا: الصلاح له ثلاثة أركان: خصوبة الأرض، ومهارة الأيدي العاملة، مع عذوبة الماء إذا تجمعت هذه الثلاث أخرجت لنا زرعاً قوياً.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(13/6)
خطر اليهود
لقد بين الله عز وجل خطر اليهود على الأمة الإسلامية وذكر في كتابه العزيز أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وعداوتهم لهذه الأمة ليست أمراً جديداً، بل إنها بدأت منذ ظهور الدعوة الإسلامية، فقد كادوا للنبي صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله وألبوا عليه القبائل، وها هم في عصرنا الحاضر يكيدون لنا بشتى الوسائل والأساليب، فتارة بالسلاح كما يحصل في فلسطين، وتارة بالمسخ الأخلاقي والغزو الثقافي كما يحدث في كثير من البلدان، وتارة بالدعوة إلى السلام والحب والوئام، والذي باطنه التربص بالمسلمين وتغريبهم عن دينهم.(14/1)
أعداء المسلمين في المرحلة المدنية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتوطيد العلاقة بين أفراد هذه الأمة وبين الله عز وجل ببناء المسجد، ثم وطد العلاقة بين أفرادها بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم بيَّن علاقة المسلمين بالذين لا يدينون دين الحق من أهل الكتاب ومن أهل الأوثان.
فعندما ظهر الإسلام في مكة لم يكن هناك إلا عدو واحد ظاهر، وهم: أهل الأوثان فقط، وكانت عداوتهم ظاهرة سافرة، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ظهر صنف ثانٍ لم يكن إذ ذاك بمكة وهم: المنافقون.
ولم يكن في مكة نفاق، وإنما ظهر النفاق في المدينة، وكان لظهوره عدة أسباب، وظهر في المدينة المنورة عدو قديم وهم اليهود، فصار الإسلام محاطاً في المدينة المنورة بثلاثة من أعدائه: المشركون الذين كانوا يسكنون أصلاً في مكة ولهم أذيال في المدينة، ثم اليهود، ثم هذا الصنف الجديد وهم المنافقون.
وسورة البقرة سورة مدنية فضحت اليهود والمنافقين، ففي مطلع هذه السورة المباركة تجد أوصاف هؤلاء الثلاثة: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، فوصف الله عز وجل المؤمنين في أربع آيات، ووصف الكافرين في آيتين، ووصف المنافقين في ثلاث عشرة آية؛ لأنه صنف جديد، شديد الدهاء والمكر، واعلم أنك لا تؤتى من عدوك بقدر ما تؤتى ممن يدعي أنه صديقك وهو ليس كذلك.(14/2)
خطر النفاق على الأمم والحضارات
إن النفاق أمرّ وأمضى من السيف على رقاب الأمم، وإذا نظرت إلى هلاك أية أمة تجد أن النفاق لعب دوراً كبيراً في هلاكها، وقد حكم الله عز وجل أن المنافقين ليسوا بمؤمنين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9].
فالعجب أن بعض المسلمين يقول: إن المنافقين مؤمنون، والمنافقون الذين حكم الله عز وجل بكفرهم هم الذين كانوا ينافقون نفاق عقيدة، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء:145].(14/3)
أقسام النفاق
النفاق قسمان: نفاق عمل، ونفاق علم واعتقاد.(14/4)
القسم الثاني: نفاق العمل
نفاق العمل مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) والحديث الآخر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً -وفي رواية: من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها- إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان).
هذا النفاق نفاق العمل دركات، وكما أن الإيمان يزيد وينقص، والكفر أيضاً دركات، فكذلك النفاق دركات؛ فالذي يحدِّث ويكذب مرة أو مرتين لا يعتبر داخلاً تحت هذا الحديث، لأن كلمة (إذا): تدل على الاستمرار، هذا دأبه: وأنه كلما حدث كذب، فإذا هنا بمعنى: كلما، أي أن هذا صار شعاراً له؛ كلما حدث كذب، وكلما وعد أخلف، وكلما اؤتمن خان، وكلما خاصم فجر، وكلما عاهد غدر، هذا هو الذي يطلق عليه اسم المنافق، أما الذي يكذب مرة أو مرتين، أو يخلف مرة أو مرتين، ولم يكن ذلك له بخلق، فهذا لا يدخل تحت الحديث.
ويدل على ذلك أن في بعض طرق الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام علق هذا الوصف بالذي ينوي أن يكذب إذا حدث، وينوي أن يخلف إذا وعد، أما إذا وعد، ثم جاء أمر خارج عن إرادته وقدرته، فهذا لا يدخل تحت نفاق العمل.
فهؤلاء المنافقون الذين ملئوا الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كان لهم شأن عظيم جداً -كما ستعلمون- لاسيما في الغزوات، وقد قال الله عز وجل في بعضهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، في هذه الغزوة الله تبارك وتعالى ثبط أولئك عن الخروج؛ لأن خروجهم كان فيه مضرة عظيمة.
لماذا وصف الله عز وجل الكافرين في آيتين فقط من مطلع سورة البقرة، ووصف المنافقين بثلاث عشرة آية؟ إن الله لما بدأ بالمؤمنين ثنَّى بالكافرين، وإنما يذكر الشيء ثم يذكر ضده، ثم ألحق المنافقين بالكافرين، ولو لاحظت الترتيب في السورة ستراه بدأ بالمؤمنين؛ لأنهم أهل أن يبدأ بهم، ثم ثنى بالكافرين الذين لا اختلاف عند المؤمنين بكفرهم، ثم ثلث بالذين يتصور بعض المسلمين أنهم من المؤمنين، فألحقهم بالكافرين، فهذا الصنف الذي يتردد فيه النظر أهو مسلم أم هو كافر؟ ذكره بعد الكافرين وألحقه بهم ترجيحاً لكفرهم.(14/5)
القسم الأول: نفاق الاعتقاد
فالذي ينافق نفاق اعتقاد كافر، بل هو أشر من الكافر، وهو الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] أي: دون الكفرة بدركة أو بدركتين إلى ما شاء الله عز وجل، والذي ينافق نفاق اعتقاد بخلاف الذي ينافق نفاق العمل، فالذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ينافقون نفاق اعتقاد.
ما سبب هذه الفئة الجديدة؟ معلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل المدينة وادع كل من كان حولها ومن كان فيها -أي: سالمهم- لأنه لا قبل له بهم، وادعهم حتى موقعة بدر، فبدأ النفاق يظهر؛ لأن القوة الإسلامية بدأت تظهر.
فما ظهر النفاق إلا لقوة الدولة الإسلامية بعد موقعة بدر؛ لأن موقعة بدر فصلت الأمور فصلاً تاماً، ورفعت المسلمين رفعاً عظيماً ما كانوا يتوقعونه، فبدأ المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول - يوادعون وينافقون ويظهرون خلاف ما يبطنون، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك منهم، لكنه أعلم الناس أن الحكم إنما يكون بالظاهر، وحتى لا يفتات الناس على الله عز وجل، فيحكموا على العباد بما يظنونه في قلوبهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين، لاسيما بعد غزوة تبوك التي تخلف فيها أكثر من ثمانين من المنافقين وصاروا يعتذرون بشتى الاعتذارات كي لا يخرجوا في هذه الغزوة، بسبب شدة الحر، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاءه المعذرون يعتذرون إليه؛ برغم أنه كان يعلم نفاقهم وكذبهم، إلا أنه قبل منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
ومما يدلنا على معرفته بالمنافقين: أنه لما جاء كعب بن مالك وقال: (يا رسول الله! والله ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين كما جمعتهما في هذه الغزوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أما هذا فصدق) ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن الثمانين الذين اعتذروا قبل ذلك كذبوا عليه، ومع ذلك قبل علانيتهم واستغفر لهم: (وأما هذا فصدق، فقم حتى يحكم الله فيك)، فكان يعرفهم؛ لكنه لا يستطيع أن يقول لرجل جاء وقال: أنا آمنت، أن يقول له: لا أنت كاذب، أنت تضمر خلاف ما تقول، فإن هذا يجرئ العباد بعده على أن يحكموا على ما في قلوب العباد، وهذا خطير جداً، ولو أن هذا الباب فتح، لفتح به شر مستطير لا يعلمه إلا الله.
ولذلك لا يجوز للقاضي أو للحاكم أن يحكم بخلاف ما يسمع من لسان المتهم إلا إن كان عنده قرينة قوية تدل على كذبه، أما أن يحكم على ما في قلبه أو يقول: لا.
أنت تضمر خلاف ما تقول بغير حجة ناهضة؛ فهذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وجميع أنبياء الله عز وجل إنما يحكمون بالظاهر.
ألم تر إلى أسامة بن زيد لما كان في غزوة من الغزوات -كما روى البخاري في صحيحه - إذا به يرى رجلاً من المشركين أمامه، فعلاه بسيفه؛ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فما تركه أسامة حتى قتله، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام مستنكراً عليه: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! قالها تقية، قالها خوفاً من القتل، قال: هلا شققت عن قلبه! أقتلته بعد أن قالها؟! قال أسامة: فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا حين ذاك).
في موقف ترجح لـ أسامة أن هذا الرجل كاذب، وهو في موقف قتال ضد المسلمين، فلما علاه بالسيف قال: لا إله إلا الله، فترجح لدى أسامة أن هذا الرجل كاذب، وأنه يريد أن ينجو من القتل بهذه الكلمة، فلم يعذره، وقد يكون أسامة معذوراً؛ لأن الظروف والملابسات المحيطة بهذا الرجل أدته إلى هذا الفعل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شدد عليه جداً، وهو يقول له: (أقتلته بعد أن قالها؟!) وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحكم بالظاهر، وأننا نقبل علانية الرجل وإن كان كاذباً في الباطن، حتى نعلم علماً يقينياً أنه كاذب، فإن دماء بني آدم معصومة لا تهدر إلا بيقين.
ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرأوا الحدود بالشبهات) كان يرشد إلى أنه لو اشتبهت بأن هذا الرجل لابس الحد أو لم يلابسه، فاعتبر أنه لم يلابس الحد؛ فإذا وقعت للقاضي شبهة، فلا يحل دم المسلم بالشبهة، وإنما يهدر دمه بيقين، فلذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن المنافقين كاذبون، ومع ذلك ما أحل دماءهم؛ حتى لا يتجرأ من يأتي بعده، مع كونه عليه الصلاة والسلام المكلم من السماء.
فهذا الصنف الذي ظهر في المدينة المنورة ظهر بسبب قوة الدولة وشوكتها، ولكم عانى المسلمون الأمرين من جراء هذا الصنف أما الصنف الآخر الذي ينافق نفاق عمل فهو كثير جداً، وهو الذي ابتلي المسلمون به، لاسيما في زماننا هذا ومع ذلك -والله أعلم- قد يكون هناك الذين ينافقون نفاق الكفر، ولكن ما أمرنا أن نشق عن بطن أحد.(14/6)
كيد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته
كان أكثر هؤلاء الذين ينافقون نفاق الاعتقاد من اليهود؛ لأنهم حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبغوا عليه وكذبوا عليه، ولا أدل على ذلك من أول واقعة حدثت قبل أن يبني النبي صلى الله عليه وسلم المسجد.
إن الأنصار كانوا يخرجون كل يوم إلى طرقات المدينة ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة، فكانوا كل يوم ينتظرون حتى الظهيرة ثم ينقلبون إلى بيوتهم، فأول من رأى الرسول عليه الصلاة السلام قادماً رجل من اليهود، حبر من أحبارهم، فلما رآه عليه الصلاة والسلام يزول به السراب؛ لأنه كان يلبس لباساً أبيض؛ صرخ بأعلى صوته وقال: هذا جدكم أيها العرب! فخرج المسلمون إليه بالسلاح.
وأول موقف حدث بعدما وطئت أقدام النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مع هؤلاء اليهود يقصه لنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان حبر اليهود الأكبر، يقول: (إذ سمعت بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: فجئته فأول ما نظرت إلى وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسألته عن مسائل، فأجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، فأسلم عبد الله بن سلام، وقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي يكذبون ويفترون- وإنهم إذا علموا بإسلامي بهتوني ما ليس فيَّ، فادعهم وسلهم عني وأنا مختبئ في هذه الدار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، فلما دخلوا عليه قال: يا معشر يهود! اتقوا الله؛ فإنكم تعلمون أني رسول الله حقاً.
قالوا: ما نعلمك (ثلاثاً).
فقال لهم: ما عبد الله بن سلام فيكم -أي ما منزلته-؟ قالوا: هذا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.
فقال لهم: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله أن يسلم! -وفي رواية قالوا: معاذ الله أن يفعل ذلك!! - فقال: اخرج يا عبد الله، فخرج من وراء الحائط وهو يقول لهم: اتقوا الله! فإنكم تعلمون أنه رسول الله حقاً.
قالوا له: كذبت.
فأنت شرنا وابن شرنا، ثم خرجوا).
كان هذا أول موقف لليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبني المسجد، يكذبون ويفترون (اتقوا الله يا معشر يهود فإنكم تعلمون أني رسول الله حقاً) يقولون: ما نعلمك!! وهم يكذبون؛ لأن الله عز وجل قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] أي: ليس هناك رجل يجهل ولده، فكما أنهم يعرفون أبناءهم، فهم يعرفون صفته عليه الصلاة والسلام، ولكنهم جحدوه، فكان لهم معه أمر عظيمٌ جداً، ونكل بهم بعد ذلك أشد التنكيل، كيف لا ينكل بهم الذين افتروا حتى على رب العزة، وتاريخهم مع نبيهم بل مع أنبيائهم جميعاً تاريخ معروف حافل بالغدر والخديعة؟!(14/7)
صور من محاولات اليهود في إبعاد المسلمين عن دين ربهم
وهنا نتطرق لدراسة نفسية اليهود، وأخلاقهم لتعلموا الخطر المحدق بهذه الأمة بسبب مسالمتها لليهود.(14/8)
الغزو الفكري والثقافي
إن تاريخ الغزو الفكري يدل على دهاء اليهود وغفلة المسلمين، فلقد علم اليهود وكل الذين عادوا المسلمين أنهم في الحرب المباشرة يخسرون، والمسلم من أجسر الناس قلباً في الحرب، لاسيما إن استنفرته باسم الدين، فإنه يتطلع إلى جنة الله عز وجل، يشتاق إليها، لا ينظر إلى روحه، وهذه مسألة معلومة من وقائع السيرة النبوية والغزوات، والله عز وجل قال عن اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14].
لقد دخل اليهود معنا في معركة، ونحن في هذا العصر لم نلتفت إليها بل لم نحسنها، وهي معركة الغزو الفكري.
معركة الغزو الفكري هي أن يدمر دينك وأنت لا تشعر؛ فبدلاً من أن يدخل معك في حرب مباشرة، يحصل مقصوده وهو هناك على مكتبه، وأقرب الأمثلة على ذلك فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وأنتم تعلمون أن القائمين على جائزة نوبل هم اليهود، وقد علم اليهود أن المسلمين يتحرقون شوقاً إلى الفوز بجائزة نوبل، ويرون أنهم على سنار الكرة الأرضية، ولا قيمة لهم إن لم يفوزوا بجائزة نوبل، وعلموا هذا من الترشيحات المستمرة للأدباء المصريين والعرب وأنهم يفشلون في كل مرة، فنظروا وفتشوا، فإذا هذا الرجل نجيب محفوظ له هذه الرواية: (أولاد حارتنا) طبعاً اسم مضلل يضلل العوام؛ لأن هذه الرسالة أو القصة نشرت في جميع بلاد الغرب باسمها الحقيقي: (موت الإله)، واعترض عليها الأزهر سنة (58) وحرم هذه الرواية، وترجمت في جميع بلاد العالم بهذا الاسم: (موت الإله) الذي يصف الله عز وجل فيه بأنه ظالم، وأنه تزوج بامرأتين، وأنه ظلم إبليس؛ لأنه كان يقسو عليه، وكان ظالماً لأمه، وكان يدلل المرأة الأخرى، ومن فجره أنه سمى الأولاد بأسماء قريبة من أسماء الأنبياء.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اسمه في هذه الرواية (قاسم)؛ لأنه أبو القاسم، وصفه في هذه الرواية بأنه طيب وابن حلال، لكنه وإن كان كذلك فإن دعوته بالخير لم تثمر عند أحد؛ لأنه لا أحد يقتنع بدعوته في هذا الزمان مع ظلم هذا الإله الكبير، هذا الرب الذي يقعد في هذا البيت، وقد ظلم المرأة وظلم أولادها، يجعل جميع الأنبياء سفاكين، وإبليس مظلوماً؛ لأن أباه ظلم أمه، فهو مظلوم، فيعتذر عن إبليس ويتهم الأنبياء.
ثم يزعمون أن هذه إشارات للخير والشر وأن هذا فن، فهذا العفن الذي أخذناه من اليهود فن.
وكلية الفنون الجميلة تأتي فيها المرأة عارية كما ولدتها أمها -وحتى الآن- ثم يأتون بالشباب يرسمونها على كل وضع: على ظهرها، وعلى جنبها، واقفة وراقدة، ويزعمون أن هذا فن.
وفي السياحة والفنادق يعلمون الشباب صنع الخمور، وكيفية التمييز بين الخمور المختلفة، وكيفية معرفة الخمور المسمومة أو الزائفة من غيرها، وكيفيه تقديم الخمور بلطافة للذي يشرب، كل هذا أتانا من اليهود.
ولما علم اليهود أننا نتحرق شوقاً لجائزة نوبل، نظروا فوجدوا أولاد حارتنا، ووجدوا أن الأزهر صادر هذه الرواية، فقالوا: كيف ننشر هذه الرواية؟ -هذا سؤال يسأله اليهود لأنفهسم- كيف ننشر هذه الرواية ويعلمها القاصي والداني، ونحلل دينهم من خلالها؟ قالوا: نُعطيه جائزة نوبل! وفعلاً رشحوه لجائزة نوبل، وصفق الشرق العربي كله لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وما هي إلا ثلاثمائة وتسعون ألف دولار قيمة الجائزة؛ يعني: مليون جنيه، ونستطيع بها تحليل عقائد ألف شاب أو مائة شاب.
ونشرت الرواية على رغم أنف الأزهر، وتباع على الأرصفة، وصار لها شأن عظيم، وخرج الأدباء يكفرون المشايخ، ويتهمونهم على صفحات الجرائد بالجمود، ويقولون: هذه حرية رأي، ويأخذون حديثاً من نجيب محفوظ يقول فيه: أنا أرجو من علماء الدين أن يبعدوا الدين عن هذه الأشياء، فمسألة المصادرة والحجر هذه كلمات يجب أن تلغى من القاموس أصلاً، ويتهكمون أن رجال الدين أفقهم ضيق لا يفهمون الفن، ولا البلاغة ولا الإيماءات.
وكذلك هذه الأغنية التي حصل عليها ضجة: أغنية (من غير ليه) ورفع بعض المسلمين دعوة على المغني وعلى الكاتب؛ لأنه يقول: (أنا مش عارف من أين أتيت ولم أتيت وما فائدة هذه الحياة)، فنسمع من الذين يسمون بالمؤرخين المسلمين -وهذه مصيبة كبيرة- يأتي على صفحات الجرائد ويقول: نصيحة إلى علماء الدين: يجب أن يجردوا الفن من الدين، فالفن هذا شيء والدين شيء آخر، لا يجوز أن يكون الدين حاكماً على الفن وإلا حكمنا على كثيرين بالكفر.
فمثلاً: نحكم على الذي قال: (قدر أحمق الخطى) بالكفر، ألا يرى أن هذا كفر؟ وقام الأزهر من عشر سنوات وعمل ضجة حتى تلغى هذه الأغنية، ومع ذلك تذاع ليل نهار.
فهذا الرجل يقول: يجب أن ننحي الدين عن الأغاني فهذا فن! وهذا امتداد لقولهم أن الدين لا يهيمن على الحياة، مع أنهم يعلمون أن كاتب الأغنية نصراني؛ فهو أصلاً كافر، واسمه: مرسي جميل عزيز.
فهذا من مخلفات الغزو الفكري، أن ينشر هذه القضايا التي استدعاها اليهود في هذا البلد الآمن، ولنا مع هؤلاء وقفة ووقفات حتى نظهر كيدهم ونبصر المسلمين بالدور الكبير الذي يقوم به أذنابهم وعملائهم في بلاد الإسلام.
نسأل الله عز وجل الرحمة، ونسأله العافية من كل داء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(14/9)
الدعوة للسلام
إن أعظم كسب لليهود أن توادعهم الأمة المسلمة، ولا يحتجن أحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود؛ كما قال بعضهم واحتجوا بقول الله عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] بل وخرج بعض الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا يطبلون لهذا السلام المزعوم.
ونحن لسنا في شهوة لدماء البشر، ولقد عُرف المسلمون في كل مراحل التاريخ أنهم أقل الناس سفكاً للدماء، وأنهم أقل الناس ولوغاً في دماء الخلق، ولكن اليهود قوم لا خلاق لهم، قال الله عز وجل: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] فنبذ العهد سمة معروفة من سمات اليهود، ثم إن جنحوا هم فسأجنح أنا، والآية لفظها صريح جداً: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] أما هؤلاء فلا يجنحون لسلم أبداً.
أترى رجل يجنح للسلم وعنده سنة (1976م) مائة وعشرون رأساً نووياً.
لماذا يسعى إلى تصنيع السلاح الذري؟! ولماذا يضرب بمنتهى البجاحة كل المفاعلات النووية في بلاد المسلمين؟! حتى البلاد التي لا تظهر عداوتها صراحة كالباكستان مثلاً، ضربوا المفاعل النووي في باكستان، بل وقتلوا علماء الذرة المصريين والمسلمين في باريس كالدكتور: يحيى المذهبي الذي كان يتعاهد المفاعل النووي العراقي، ومعروف أن المفاعل النووي العراقي ضرب سنة (1980م)، وخرجت الطائرات بمنتهى الاطمئنان وضربته ورجعت ولم تعتذر.
إن السلام حقيقة مسلوبة والعدل فلسفة اللهيب الخاب لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهاب بالإرهاب لا يمكن أن يكون هناك سلام وعدوك يتربص بك، فهذه هدنة وليس سلاماً، يهادوننا حتى يسترجعوا أنفاسهم ويصنعوا أسلحتهم.
قرأنا في الجرائد عن القنبلة الخطيرة التي تصنعها إسرائيل اليوم، وهي قنبلة آثارها لا تلحق بإسرائيل وتلحق بمصر مثلاً أو الشام وهذه البلاد، أرأيتم إلى القنبلة الموقوتة التي ضرب بها رشيد كرامي في لبنان، قنبلة موقوتة وضعت تحت الكرسي تنسف الرجل فقط ولا تنسف الطائرة، بالرغم من أن الطائرة حجمها صغير، فقتلت الرجل ولم تصب الطائرة بشيء.
فإذا كانوا سنة (1976م) -أي: منذ أكثر من عشر سنوات- كان لديهم مائة وعشرون رأساً نووياً، وهذا الذي ظهر، والذي لديهم لا شك أنه أكثر من ذلك، ويصنعون القمر الإسرائيلي المعروف، حتى خرج بعض الذين لا يعون في هذا الأسبوع وقال: لا خطر علينا إطلاقاً من القمر الصناعي الإسرائيلي، ما شاء الله!! لا خطر إطلاقاً!! يعني: كأن إسرائيل هذه دولة حميمة صديقة جداً لا تتربص الدوائر بالمسلمين! يعني: اطمأنوا وناموا! والذي يدرس تاريخ هؤلاء يعلم علماً يقينياً أنهم لا يجنحون لسلام أبداً، اقرأوا مذكرات القادة الإسرائيليين عن حرب [73] كانت لحكمة بليغة، وكان نصراً مؤزراً.
فهؤلاء اليهود الذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وعادوا أمته قال الله فيهم مقالة صريحة تصم آذان الجهلة -إن لم يكن المعتدين على حدوده-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إذاً: القضية محسومة، طالما أنك على الإسلام فثق أنك في محل السخط من هؤلاء.
هل نسيتم أيها المسلمون دير ياسين؟ ألم تقرأوا حتى التاريخ المعاصر؟ كان الرجل اليهودي يأتي على امرأة مسلمة حامل في الشهر الأخير، ثم يقول للذي بجانبه: الذي في بطنها ذكر أم أنثى؟ فواحد يقول ذكر والآخر يقول أنثى، فيتراهنون، ثم يبقرون بطنها حتى يعلم الذي في بطنها أهو ذكر أم أنثى!! إن كنتم قد نسيتم دير ياسين فأنا أظنكم لن تنسوا صبرا وشاتيلا، مذابح بالألوف المؤلفة.
لقد رأينا مناظر يندى لها الجبين: طفل بريء وقد غطى الدم وجهه ورمي جيفة للكلاب، وما يحدث الآن في لبنان ليس ببعيد {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] كيف؟ لكننا ننسى بسرعة!(14/10)
من كيد اليهود
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن دور اليهود في حياة المسلمين المعاصرة يكاد يدخل في كل شيء، أرأيتم وأنا أدعو المسلمين أن يقرءوا التاريخ المعاصر قراءة متأنية، أرجو أن تقرأوا التاريخ المعاصر بدءاً من الحملة الفرنسية على الأقل.
إن حرق الحجاب في ميدان الإسماعيلية -الذي هو ميدان التحرير الآن في القاهرة- كان بسبب اليهود أيضاً، فقد كان قبل سنة (1919م) النقاب منتشراً، ولعل الذين هم فوق سن السبعين الآن رأوا هذا النقاب الذي كانت المرأة تغطي به الوجه؛ ففي الريف -على وجه الخصوص- وفي بعض المدن، كان النقاب منتشراً ثم قامت ثورة التاسع عشر، وخرجت النساء وصفية زغلول التي يسمونها أم المصريين في مقدمة الركب، وذهبن ليتظاهرن على الإنجليز، ثم خرجت قوات الاحتلال الإنجليزي لتضرب هؤلاء النسوة، فما كان من النسوة إلا أن فعلن شيئاً في غاية العجب: خلعن جميعاً هذا الحجاب وحرّقنه بالنار.
فما علاقة الحجاب بالاحتجاج على الإنجليز؟! يمثلون ولكن لا يحسنون حتى الكذب، ما علاقة هذا الحجاب بالاحتجاج على الإنجليز؟ فالمقصود من خروجهن حرق الحجاب وليس ضد الإنجليز، وماذا سيفعلن النساء ضد الإنجليز وقد خرجن عزّلاً من السلاح؟! كان المقصود أن يحرق هذا الحجاب، وأن يداس بالأقدام؛ ولذلك غيروا اسمه من ميدان الإسماعيلية إلى ميدان التحرير، إشارة إلى تحرير المرأة، وكأن الإنجليز هم الذين فرضوا عليها هذا الحجاب؛ فنكاية فيهم نحن نحرق هذا الحجاب، وبدأ السفور من أيامها إلى الآن.
هذا أيضاً من صنع اليهود، هؤلاء اليهود الذين عروا يوماً امرأة واحدة، فوضع يهودي ذيل المرأة في طرفها أو في عمود أو خشبة، فلما أرادت المرأة أن تقوم انكشفت عورتها، وهذا بفعل يهودي، صرخت وقالت: (وامعتصماه) ثم فتحت عمورية لأجل هذه المرأة.
رجل عنده نخوة من المسلمين، سمع وامعتصماه فأخذته النخوة والعزة بالإسلام، وذهب إلى المعتصم يمشي على قدميه وهو يقول: رأيت كذا وكذا، وصرخت المرأة وقالت: وامعتصماه! ولأجل هذه المرأة جرد المعتصم جيشاً وفتح عمورية.
ألا ترون أن اليهود هم الذين عروا جميع نساء المسلمين اليوم؟! ثم انظر إلى الفرق، امرأة واحدة فتحت بها عمورية، ونساء المسلمين اليوم عرايا كلهن، إلا من عصم الله، وهذا بسبب فعل اليهود، وما تحرك أولئك، كل شيء يدخلون النساء فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء).
وتجدون في مذكرات الذين حضروا الحرب العالمية الثانية: لماذا هزم هتلر مع أنه كان في أول الحرب قد انتصر انتصاراً عظيماً جداً؟ ستجدون أنه غُلب بالنساء؛ فقد كان هتلر رجلاً عسكرياً صارماً، فمنع الإجازات عن المتزوجين منهم -أي: ليس هناك أي إجازات إطلاقاً- حياة قاسية فعلم اليهود بذلك، فسربوا النساء إلى معسكرات الجنود ليلاً، بعد أن حقنوهن بحقن تجعل الذي يجامع هذه المرأة يفقد أعصابه، فأول ما رأى هؤلاء الجنود النساء كان حالهم كالجائع إذا رأى الطعام، وبعد أن يجامع المرأة يقعد وقد شلّت أعصابه.
فاليهود قوم دهاة يحتاجون إلى ذكاء وحذر في معاملتهم.
الاستراتيجيون العرب أبدوا مخاوفهم من هذا القمر الصناعي الإسرائيلي، وقالوا: إنه على ارتفاع شاهق جداً ويصور أي شيء في بلاد المسلمين، بحيث أنك إن أردت أن تتدرب سراً مثلاً لا تستطيع، لماذا؟ لأنه يكشفك، فبلادك كلها مشكوفة بهذا القمر، ومع ذلك يخرج رجل فيقول: ليس هناك إطلاقاً أي مخاوف من القمر الصناعي الإسرائيلي.
ونحن منذ قبل سنة ثمانين نريد أن نصنع مفاعلات نووية في مصر، ونقول: إنها مفاعلات سلمية، يعني: لإنتاج الطاقة والكهرباء فقط، وإسرائيل معترضة على ذلك، هم يفعلون ما يشاءون ونحن لا نجرؤ حتى على الاعتراض، ولو اعترضنا لا قيمة لهذا الاعتراض، هذا كله بسبب تغلغل اليهود في حياة المسلمين، وبسبب ضعفنا نحن وبعدنا عن ديننا.
فهؤلاء اليهود جندوا المرأة، واستوعبوا كل إمكانياتها في إضلال جميع الخلق، وعلى رأسهم المسلمون.
فمثلاً: في الإعلانات هناك إعلان عن إطار سيارة -عجلة سيارة- فتجد الإطار ثم فخذ امرأة بجانب الإطار، ما علاقة فخذ المرأة بإطار السيارة؟! وهلا وضعتم فخذ رجل! أي شيء يضعون المرأة فيه؛ لعلمهم أن هذا هو الذي يقتل المسلمين فعلاً.
فهؤلاء اليهود دهاة جداً وماكرون جداً، ولو استطعنا أن نأخذ حذرنا منهم، فهذه هي أولى درجات النصر.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن ينصرنا على من بغى علينا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(14/11)
رعاية المصالح
(جلب المصالح ودرء المفاسد) قاعدة شرعية متفق عليها بين علماء الإسلام، بل إنه ما أنزلت الشرائع إلا لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.
لكن بعض الناس يتخذ المصلحة صنماً يعبده، ويفهم هذه القاعدة على هواه، فيرد بها من أحكام الشريعة ما لا يقوم الإسلام إلا به، فيجيز لنفسه ولأتباعه الطواف بالقبور والتمسح بها، ويزعم أن ذلك من المصلحة الشرعية، وهذا الفعل قد علم من دين الإسلام أنه من الأعمال الشركية التي لا مهادنة فيها، ولا مصلحة مع بقائها.(15/1)
حكم المصلحة إذا عارضت النص أو القياس أو الإجماع
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سمعت بعض الذين يجيزون الخروج والاعتكاف في المساجد، سمعت ممن سمع منه هذه الفتوى، قال: يجوز للمسلم أن يخرج في سبيل الله، وأن يعتكف في مسجد فيه قبر.
فإن كانت المصلحة تقتضي ذلك لقال ما هو أبعد من ذلك، وقال لهم أيضاً: إذا رأيتم جماعة يطوفون حول ضريح، فطوفوا معهم بنية الدعوة، طف معه حول القبر، وأنت تمشي في الأشواط كلمه، ادعه، إن كانت المصلحة تقتضي ذلك، ثم احتج بقصة الغرانيق، ولقد طار لبي، وقفَّ شعري، واقشعر جلدي؛ أن يكون هناك مسلم يحتج بقصة الغرانيق، وأنا أعلم أن الجمهور الأعظم من الجالسين لا يعرف قصة الغرانيق.
أولاً: نحن نعلم أن المصلحة المعتبرة شرعاً يشترط فيها ألا تصادم كتاب الله عز وجل، ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تصادم القياس، وتحقق المصالح الخمسة، وهناك شرط أخير: وهو ألا يفوت بفعل هذه المصلحة ما هو أعظم منها.
فمثلاً: لو أن هناك قطعة أرض، ولكنها معبر يمر الناس منها، فاستولى عليها بعض الناس أو أخذها؛ يريد أن يبني عليها بيتاً، لا شك أن هذا يحقق له مصلحة، لكن تحقيق هذه المصلحة ضيع مصلحة أعظم منها، وهو انتفاع الجمهور الأعظم بهذه القطعة، نحن نسلم أن فرداً واحداً أو اثنين أو ثلاثة انتفع بهذا المشروع، لكنه عاد بالضرر على ألف رجل أو مائة رجل أو خمسمائة رجل، فيشترط أيضاً في المصلحة: ألا يفوت بفعلها مصلحة أعظم منها.
ولقد طار هذا الخبر -سجود المشركين في آية النجم- فرجع كثير من المسلمين من أرض الحبشة، وظنوا أن قريشاً أسلمت؛ لأنهم سجدوا، فلما رجعوا وجدوهم أشد أذىً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه؛ فهاجروا الهجرة الثانية.
نخلص من هذا: أن ضابط المصلحة لا يكون بمعارضة الكتاب والسنة، فإن قلت: هذه مصلحة، وكانت في معارضة الكتاب والسنة، فاعلم أنها مصلحة فاسدة، ولا أعلم أحداً من علماء المسلمين أفتى بأنه يجوز العمل بالمصلحة وإن خالفت الكتاب والسنة إلا نجم الدين الطوفي، وقد رد عليه جميع العلماء بحثه هذا، وكان رجلاً مبتدعاً يجمع نحو خمس بدع، فردوا عليه بحثه هذا، والذي يقرأ في باب المصالح المرسلة يجد رد العلماء على نجم الدين الطوفي، فلا يغتر إنسان أو قارئ ببحثه وإن أدلى بشبهه هذه.(15/2)
حكم وجود القبور في المساجد
إن الذي يجيز لمن يخرجون أن يعتكفوا في مسجد فيه قبر، قد خالف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال -فيما صح عنه-: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) قالها ثلاث مرات، وهو آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: (يحذر ما صنعوا) أي: يحذر المسلمين مما صنعه اليهود والنصارى، فإن هذا بضد التوحيد الخالص.
عندما تقول: يا حسين! مدد أو: يا بدوي! مدد أو: يا دسوقي! مدد.
أي: أنك تقول: إنني أريد منك أيها المقبور، أريد مدداً، أريد عوناً.
فما صنعة الله إذاً في الكون؟! إن كان الدسوقي يمدك بمدد أو البدوي أو الحسين، فما صنعة الله في الكون؟! إن هذا بضد التوحيد الخالص، لذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (إن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام).
لا يجتمع مسجد مع قبر في دين الإسلام، وكأنه أخذ هذا من قول عائشة رضي الله عنها: (فلولا ذاك -أي: فلولا نهيه عليه الصلاة والسلام- أبرز قبره) لكنا أبرزنا قبره وأظهرناه، وبنينا عليه قبة، لولا أنه لعن من فعل ذلك، ونهى عنه، فلولا ذاك أبرز قبره، لكنه خشي أن يتخذ مسجداً، خشي أن يبنى عليه، فكيف تطيب نفس امرئ يسمع مثل هذا الحديث ثم يقول لأتباعه: يجوز لكم أن تعتكفوا في مسجد فيه قبر إن ظهرت لكم فيه مصلحة؟! وأي مصلحة في مخالفة الشارع، وفي مخالفة أمره؟! كالذي يقول: يجوز حلق اللحى لمصلحة الدعوة أي مصلحة تعود على الدعوة إن كنت أنت بصنيعك هذا أول المخالفين لها، وهي تنهى عن ذلك؟! فنصوص الدعوة الكثيرة تنهى عن ذلك.
يقول الشيخ محمد قطب: إني أخشى أن تكون مصلحة الدعوة صنماً يعبد.
كلما أراد أن يرتكب مخالفة يزعم أنها لمصلحة الدعوة.
ليس من مصلحة الدعوة أن تكون من المخالفين لها، بل المصلحة أن تثبت عليها حتى يعلم الناس أنها الحق، لا أن تخالفها وتترخص فيما لا رخصة لك فيه.
والأدهى من ذلك والأمر أنه يقول: فإن رأيتهم يطوفون حول ضريح فطف معهم بنية الدعوة! تطوف مع قوم يطوفون حول الضريح طواف المسلمين حول البيت العتيق، حتى إنهم ليوقفون شرطياً، فمن طاف من الشمال إلى اليمين أرجعه حتى يطوف من اليمين إلى الشمال.
وفي عهود الصبا الأولى وقعت في ذلك، فذهبت أمشي كيفما أحب فوجدت رجلاً يجذبني من ذراعي، يقول: امش مع الناس.
وما فطنت إلا بعد سنين أنهم يجعلون هذا الضريح كالكعبة.
وقد صرح بعض غلاة الصوفية بأن الطواف بهذه المقابر كالحج؛ ولذلك بدعة الطواف حول الضريح أخذت من هذا القول؛ أو أن هذا القول وُضع لها حتى تعطي قداسة لهذا الضريح.(15/3)
بطلان قصة الغرانيق
زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)) قال له جبريل: أنا ما أتيتك بهذا، أنا ما أنزلت عليك هذا الذي تقرأ.
فيزعمون أنه صلى الله عليه وسلم قال: قد افتريت على الله.
فأنزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:52 - 53].
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) معنى (تمنى): أي تلا وقرأ، ومنه قول حسان بن ثابت في عثمان: تمنى كتاب الله أول ليلة ……………… أي: قرأ، فمعنى (تمنى) هنا: أي قرأ وتلا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أي: قرأ (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه) أي: بينما هو يقرأ إذ الشيطان يدس شيئاً في قراءته: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) فلا يصير فيها لبساً ولا إدخالاً من الشيطان: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فيقولون: إنه صلى الله عليه وسلم لما أدخل الشيطان على قراءته -وهو يقرأ-: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)) سجد المشركون والمسلمون جميعاً، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا قبل اليوم بخير، ولا نرى إلا أنه داهننا وامتدح آلهتنا؛ فسجدوا لذلك إلا رجلاً واحداً وهو أمية بن خلف، ما رضي أن يسجد، وأنف من ذلك، وأخذ حفنة من تراب ووضعها على جبهته.
هذه القصة ليس لها إسناد صحيح، وهي باطلة.
ولو جاءت بأصح الأسانيد لجزمنا أنها باطلة بغير تردد.
إن في إثبات هذه القصة تضييعاً للعصمة التي يمتاز بها الأنبياء.
أرأيتم إلى نبي يدخل عليه الشيطان شركاً وكفراً صريحاً، ثم لا يعلم أن هذا من الكفر أو الشرك، ثم لا يعلم أن هذا من إدخال الشيطان عليه؟! إن في إثبات هذه القصة تضييعاً للقرآن ذاته، فيأتينا ملحد يقول: لعل هذه الآية من إدخال الشيطان على النبي وهو لا يدري.
(((تلك الغرانيق العلا)))! (غرانيق): جمع غرنيق، أي: تلك الأصنام علية المنزلة.
ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أن بعث؟ ألم يبعث بمحاربة هذه الأصنام وتحطيمها؟! كيف يأتي بعد ذلك فيمدحها بأنها علية، لها شأن علي؟! (تلك) اسم إشارة للبعيد، ويقولون: إن استخدام اسم الإشارة للبعيد يفيد علو المنزلة، كقول الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] بخلاف: (هذا الكتاب لا ريب فيه)، (ذلك): اسم إشارة للبعيد، أي أنه يفيد بعد المنزلة وعلوها، فعندما يقول: ((تلك الغرانيق العلا)) فيشير إليها بهذا التعظيم الذي يحمل في طيات اسم الإشارة، ثم هذا التصريح (العلا) بأنها علية.
((وإن شفاعتهن لترتجى)) أي أنك إذا ذهبت إلى صنم وطلبت منه الشفاعة لكان ذلك مما يرجى منه! لو أن عبداً من عبيد الله من المسلمين صرح بهذه العبارة ثم اعتقدها؛ لكفرناه بلا خلاف.
لو زعم أن هذه الأصنام تنفع وتضر، وأنه لو استشفعها لشفعت له؛ لكفرناه بلا خلاف.
أيمكن أن يصدر هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يعلم أهذا شرك أم توحيد؟!! هل هذا معقول؟!! النبي عليه الصلاة والسلام الذي علم الناس التوحيد لا يعلم إن كان مدح الأصنام من جملة الكفر أو من جملة التوحيد؟!! ثم إن سياق سورة النجم يندد بهذه الأصنام، يندد بها، كيف يستقيم تنديد ومدح في ذات السياق؟! إن هذا لا ينطلي على أضعف الناس نظراً في العربية والسياق، فكيف ينطلي على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! لم يصح سند لهذه القصة، ولو جاءنا (مالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد) لجزمنا ببطلان هذه القصة؛ لما فيها من الجور والحيف على إثبات العصمة له صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من العمد والخطأ والسهو في حال البيان، في حال إبلاغ القرآن: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
ذهب بعض العلماء إلى أن العصمة هنا هي العصمة في البلاغ، وأنه لا يدخل في تبليغه عليه الصلاة والسلام تحريف قط، لا عمداً ولا سهواً.
والتفسير الثاني للعصمة: أن الله يعصمه من الناس، أي: لا يقتل، يضمن له أنه لا يقتله أحد، وهذا لعله التفسير الأرجح، أنه لن يقتله أحد حتى يبلغ ما أمره الله تبارك وتعالى به.
يأتي رجل يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح الأصنام لأجل مصلحة الدعوة؟! ليحتج بهذا على إثبات طواف هؤلاء حول المقابر.
يقول: لماذا تلوموننا وهذا النبي عليه الصلاة والسلام مدح الأصنام حتى يستميل قلوب قريش؟! وقد حدث، فقال: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)).(15/4)
تفسير قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
فإن قلتَ -حيث أنك أثبت بطلان هذه القصة-: فما هو وجه تأويل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، فهذا يبين أن الشيطان يلقي في بعض التلاوة، فهذه الجملة في إثبات القصة؟ سأقول لك: لو سلمت معك جدلاً أن القصة ثابتة؛ فتأويلها على غير ما تقرأ، مع أنها لم تثبت، لكن سلمنا جدلاً أنها ثبتت، فالذي اختاره ابن كثير وغيره كالحافظ ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يقرأ قراءة متأنية يفصل بين الآيات، وهذه طريقته عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله يسرد الحديث كسردكم، إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً تفهمه القلوب) فقرات وجملاً، بحيث أن السامع لها يفطن للمعنى الذي يريد، فإن السرعة في القول تفوت بعض مقصود المتكلم، بحيث أن السامع لا يستطيع متابعة المتكلم لسرعته، لذلك كان الأفضل أن يتكلم الإنسان كلاماً فصلاً بطيئاً؛ حتى يتيح للسامع التأمل.
فكان عليه الصلاة والسلام يقرأ هكذا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] ثم يسكت {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:20] ثم يسكت، ففي هذه السكتة نطق الشيطان وحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى))، فسمع المشركون صوتاً يشبه صوت النبي عليه الصلاة والسلام، فظنوا أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي قرأ، وخرجوا بهذا من المشكل؛ لأن الحافظ ابن حجر في الفتح زعم أن هذه القصة لها قوة، قال: إن مجموع طرق هذه القصة يفيد أن لها أصلاً.
يفيد أنها حدثت، لكن الحافظ ابن حجر أول هذا التأويل الذي ذكرته، وقال: يستحيل أن يجري هذا الكلام على لسان النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذا مناف تماماً للعصمة في البلاغ، لكن الحافظ ابن حجر حمل على أن الشيطان هو الذي تكلم في أثناء هذه السكتات بصوت يشبه صوت النبي عليه الصلاة والسلام؛ فظن المشركون أن هذا من جملة التلاوة.
ولذلك تتمة الآيات: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53] أي أن الذي ألقاه الشيطان بلسانه صار فتنة لهؤلاء، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحابي آلهتهم؛ ففتنوا فتوناً عظيماً لهذا.
لكن العلماء يقولون: (إن التأويل فرع التصحيح).
وهذه القاعدة مهمة، ومعناها: أنك لا تلجأ إلى تأويل رواية أمامك إلا بعد أن تثبت صحتها، وإلا صار التأويل عبثاً.
لماذا تؤول شيئاً ضعيفاً أو مكذوباً أو باطلاً؟ يكفي في رد الباطل أنه باطل؛ لذلك يقولون: إن التأويل فرع التصحيح، أي أنك لا تلجأ لتأويل رواية أمامك إلا بعد أن تثبت أنها صحيحة، فإن ثبت لديك أنها ضعيفة أو مكذوبة أو منكرة فلا تشتغل بتأويلها.
لذلك نحن نضرب صفحاً عن هذه القصة، ونرى أنها باطلة، وقد صرح جمع من العلماء ببطلان هذه القصة، حتى قال القاضي عياض -بعد أن أثبت ضعفها وبطلانها- قال: (وعلى التسليم أنها صحيحة، فتأويلها كذا وكذا، ونعوذ بالله من صحتها).
فإنه ليس لها إسناد يقوم على طريقة أهل الحديث، فكفانا الله مئونتها ومئونة تأويلها.
فما هو التأويل الصحيح للآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: ما يقرأ نبي آية إلا أولها بعض البطلة والمبتدعة تأويلاً يعود على الآية بالإبطال (إذا تمنى): أي إذا الرسول قرأ؛ ألقى الشيطان في أذهان بعض السامعين تأويلاً يعود على الآية بالبطلان مثلاً: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، قال المشركون: انظروا إليه يأكل ما قتل ولا يأكل ما قتل الله، لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3] المنخنقة: أي التي تخنق، والموقوذة: أي التي تضرب بحديدة أو بخشبة على رأسها فتموت، والمتردية: أي التي تتردى من مكان عال إلى مكان منخفض؛ فتموت بأثر الصدمة، والنطيحة: أي: التي نطحتها أختها فماتت بسبب النطحة.
فيقولون: إن هذه الأنواع كلها الله عز وجل هو السبب في قتلها، قدر عليها أن تموت فماتت، فكيف لا تأكلون ما قتل الله، ثم تأكلون ما قتلتم أنتم بالذبح؟! فيعودون لهذا التأويل بالبطلان على الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، أفتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتل الله؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم يتلو، يتمنى في تلاوته فيلقي الشيطان الشُبه التي تعود على هذه التلاوة لإبطال معناها، وهذا في النهاية تكذيب صريح للتلاوة.
وأيضاً لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، قالوا: إذاً عيسى في النار؛ لأن هناك من عبدوه، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، يعني: الذين يعبدون وآلهتهم التي كانوا يعبدونها في جهنم، فعيسى عليه السلام عُبد من دون الله؛ إذاً هو في النار فيعودون بمثل هذه الشبه على الآية بالإبطال.
هذه الآية إنما تقال فيمن عبد وسلم أنه معبود، رجل قيل له: أنت إلهنا، قال: نعم، أنا إلهكم.
فهذا رضي بذلك، فهو ومن عبده في النار، أما عيسى عليه السلام فيبرأ من هذا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، فهناك بيان صريح أن عيسى عليه الصلاة والسلام تبرأ أن يكون إلهاً، لكن هؤلاء يعودون بتأويلهم هذا إلى إبطال هذه الآية، معنى أن تثبت أن عيسى عليه السلام ومن عبده في النار، إذاً أنت تعود بالبطلان على هذه الآيات من سورة المائدة: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116].
فالرسول يقرأ، والشيطان يلقي الشبه في أذهان المستمعين؛ فيعودون على الآية أو بعض الآيات الأخرى بالبطلان هذا هو التفسير الصحيح للآية.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] وهذا يدل على شمول هذا التزيين من الشيطان، سواء كان للرسل أو للأنبياء.
ومعلوم أن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس العكس، ليس كل نبي رسولاً، فهناك بعض الأنبياء إنما آتاهم الله النبوة تشريفاً لهم، لكن ليس لهم رسالة يؤدونها إلى أقوامهم.
فما من رسول أو نبي قرأ شيئاً من الوحي إلا ألقى الشيطان في هذا الوحي بالإيهام، فيعود على التلاوة بالبطلان، لكن أن يكون هذا فيما يتعلق بقصة الغرانيق حاشا لله، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم ومنزه عن أن يقع في هذا الكفر الصريح نعوذ بالله تعالى من اعتناق الباطل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(15/5)
لا مداهنة في العقيدة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه القصة -قصة الغرانيق- وإن كانت غير معروفة للسواد الأعظم، لكنها كانت فرصة حتى نجلي هذا البحث الذي يحتاج إلى نوع تأمل وتدبر وبحث في الكتب؛ لنعلم الوجه الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما فعل أقر التوحيد في نفوس أتباعه.
لا يمكن أن نداهن هؤلاء المشركين على حساب العقيدة، فإن المواقف التي وادع المشركين فيها وسالمهم هي بعيدة تماماً عن حيز العقيدة، هي فيما يتعلق بإرساء دعائم بعض الأحكام الشرعية وليس التوحيد، ليس في التوحيد مداهنة.
ولقد كان من اليوم الأول يبين لهؤلاء المشركين أن هذه الآلهة لا تغني شيئاً، ويجهر بها حتى أنه لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) أبوا أن يقولوها مجرد قولٍ، حتى عمه لما قال له: (قلها أحاج بها بين يدي الله عنك) (قلها أحاج لك بها) فانبرى أبو جهل وقال: يا أبا طالب! أترغب عن ملة آبائك؟ قال: لا أرغب عن ملة آبائي، ومات بغير أن يقولها.
كان عليه الصلاة والسلام أثبت من الجبال الرواسي في تبليغ هذه الكلمة مع تبيين حدودها.
إن المشركين الأول كانوا يفهمون هذه الكلمة أفضل من بعض علماء المسلمين الآن، ولا أقول السواد الأعظم من المسلمين.
لو أن المسلمين الآن فهموا لا إله إلا الله كما فهمها المشركون الأوائل؛ لما وجدت هذه الوثنية عندهم، وليس بالضرورة أن نسوي بين المسلمين وبين المشركين نعوذ بالله من ذلك، إنما نتكلم في فهم الكلمة.
لقد حارب العرب حروباً شديدة ضد المسلمين حتى لا يقولوا هذه الكلمة، ولو مجرد قول يخرج من أفواههم أبداً؛ لأنهم كانوا يفهمونها حق الفهم.
معنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق سوى الله، ولا مشرع بحق سوى الله، و {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، فمعنى الاعتراف بهذه الكلمة: خلع الأنداد، خلع السلطان، خلع الصولجان، خلع هذا المنصب الرفيع الذي كان يتمتع به سادة قريش من أن يحكموا في دماء الناس بغير معقب لهم يعني تسلب كل السلطات من أيديهم إذا قالوا: لا إله إلا الله؛ لذلك كانوا يأبون أشد الإباء أن يقولوها أويعترفوا بها هذا معنى (لا إله إلا الله): أن الله تبارك وتعالى إن حكم فيك بحكم أن تنصاع له، ولا يجوز لك أن تقدم بين يدي الله ورسوله، فهذا كان واضحاً جداً من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه قد ورد في بعض هذه الروايات الباطلة أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى في قلبه، وهذا تفسير آخر لمعنى (إذا تمنى)، قلنا: إن التفسير الأول -وهو المعتمد- (إذا تمنى): أي إذا تلا وقرأ، وهناك تفسير آخر (إذا تمنى): أي من الأمنيات التي تتردد في الصدر.
فبعض هذه الروايات تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام تمنى أن لا يوحى إليه شيء في سب الأصنام حتى يستميل قلوب المشركين وهذا كفر أيضاً: أن تتمنى أن الله تبارك وتعالى لا ينزل قرآناً يسب فيه الأصنام، هذا ميل، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، لو خطر بباله أن يتقول علينا وأن يفتري علينا بعض الآيات {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:45 - 46] أي: لأهلكناه {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]، لا يمكن أن يتقول، حاشا لله أن يتقول من عنده، أو أن يتمنى ألا ينزل الله تبارك وتعالى آيات تندد بالمشركين وبآلهتهم هذا كله ورد في الروايات الباطلة.
أهناك مسلم عنده مثل هذه المقدمات الأساسية الضرورية، يمكن أن يقول: إن هذه القصة صحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام جاهد المشركين وأثنى على أصنامهم لأجل أن يدعوهم، وأنه سلك هذا المسلك لمصلحة الدعوة؟! هذا لا يمكن أن يقوله رجل عنده هذه المقدمات أبداً.(15/6)
سجود المشركين بعد قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم
بقي سؤال أخير -وهو سؤال ضروري-: إذاً لماذا سجد المشركون؟ وسجود المشركين ثابت في صحيح البخاري، من حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم، فبلغ آخرها {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] سجد المشركون والمسلمون إلا رجلاً واحداً أخذ بعض تراب ووضعه على جبهته) هو أمية بن خلف كما ورد في بعض الروايات، وهناك خلاف في تعيين اسم الذي لم يسجد، أنه أخذ بعض تراب ووضعه على جبهته.
لماذا سجدوا إذاً؟ سجد المشركون لأن في آخر السورة ذكر الله تبارك وتعالى إهلاك عاد وثمود وقوم لوط {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى *
الجواب
=6004837> فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:50 - 54]، هذه آيات أرعبت المشركين، وظنوا أنهم لصدق النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يسجدوا سيحيق بهم ما حاق بهؤلاء الأقوام، وظنوا أنهم لو سجدوا -حتى ولو عن غير إيمان بهذه الدعوة- أنهم ينجون من العذاب، وقد كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وأن الإنذار الذي يأتي به لا محالة واقع.
وهذا شبيه بما رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن أبا جهل قال: من يأتي محمداً -صلى الله عليه وسلم- ويكون عالماً بالسحر والكهانة، فيسمع الذي يقول؟ قالوا: إنك لن تجد أفضل من عتبة بن ربيعة -وكان رجلاً عالماً بالسحر والكهانة- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتلا عليه النبي عليه الصلاة والسلام (حم فصلت)، حتى إذا بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، وضع عتبة بن ربيعة يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أمسك لا تكمل؛ لأنه يعلم -وقد صرح كما سيأتي الآن- أنه صادق صلى الله عليه وسلم إذا جاء بالإنذار، قال: أمسك، أي: لا تكمل القراءة، وقعد في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وما استطاع الخروج، ففشا في قريش أنه صبأ وكفر، وأعجبه طعام محمد صلى الله عليه وسلم.
فبعد أيام خرج، قالوا له: أعجبك طعام محمد؟ قال: يا قوم! إنكم لتعلمون أني من أغنى قريش، فما كنت لأقعد لطعام محمد، إنما خفت، فإنه لما قرأ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي: عن هذا البيان وعن هذا القرآن (فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) قال: فأمسكت على فمه وقلت: اذكر بخير، وإنكم يا قوم لتعلمون أنه إن أنذركم بعذاب إنه لصادق.
فكأن المشركين لما قرع أسماعهم هذه الآيات في إهلاك الأقوام السابقين ظنوا أنهم سيحيق بهم هذا العذاب إن لم يسجدوا {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، فظنوا -إن سجدوا ولو عن غير إيمان بهذا الذي سمعوا- أن هذا ينجيهم من العذاب، فهذا هو وجه سجود هؤلاء المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.(15/7)
حبائل الشيطان
إن للشيطان وسائل شتى يسعى من خلالها إلى إغواء ابن آدم، فيجلب عليه خَيْله ورَجْله وعَدَد معاونيه وعُدَدِهم ليغويه ويضله، ولا ييأس؛ فكلما أعياه الدخول على الإنسان من باب بحث عن آخر وهكذا حتى يتمكن منه ويوقعه في حبائله، ويجعله ينحرف عن الصراط المستقيم.(16/1)
بيان أن عداوة الشيطان لبني آدم عداوة ظاهرة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15].
إن موسى عليه السلام ذكر صفتين كاشفتين للشيطان، قال: (إنه عدو مضل مبين)، الصفة الأساسية -وصف الذات- بالنسبة للشيطان أنه عدو، فماذا ينتظر من العدو؟ أينتظر منه إيصال الخير؟! ثم ذكر صفتين كاشفتين لهذه العداوة (مضل، مبين) فأما أنه مضلٌ فواضح أما أنه مبين فهذا من أعجب ما يكون، قد أفهمه ويفهم أولو الألباب أن المرء يزل إذا كانت عداوة العدو خفية، أما إذا كانت العداوة بينة ظاهرة غاية الظهور ومع ذلك يزل المرء! فهذا شيء عجيب.
إن الله عز وجل قال لآدم عليه السلام ولحواء: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] وأظن أن العداوة مادامت بينة فمن السهل أن تكشف، فالشيطان له طريقة الخداع والمكر حتى يخفي هذه العداوة البينة الظاهرة، فهو يجر المرء ويستزله خطوة خطوة، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان في أربعة مواضع من كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168] بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان يذكر العداوة البينة حتى لا يلتبس عليك.
الموضع الثاني: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] السلم هو الإسلام.
الموضع الثالث: قال تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142] في ثلاثة مواضع بعد ذكر الخطوة يذكر العداوة البينة؛ حتى لا يلتبس عليك خطوه وجره.
والموضع الرابع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] إذاً طريقة الشيطان الجر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الشيطان وشَرَكه، من أن ينصب له شَرَكاً -فخاً- وكل شر وضع في الأرض فالشيطان خلف هذا الشر، فعداوته بينة.(16/2)
أجناس الشر التي يدعو إليها الشيطان
إذا حصرنا أجناس الشر التي يدعو إليها الشيطان فهي لا تخرج عن ستة أجناس، قد يندرج تحت كل صنف مئات الجزئيات، لكن كل هذه الجزئيات توصل في آخر الأمر إلى ستة أجناس.(16/3)
الدعوة إلى الشرك بالله
الجنس الأول: الدعوة إلى الإشراك بالله والكفر به، فإذا ظفر الشيطان منه بذلك خف أزيزه، وقل مع المرء عمله، وهذا هو ما يصبو إليه الشيطان، وهي الغاية القصوى لما يريد: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
المعنى: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، لكن حذف حرف الجر (على) أقوى، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف:16] فإن الذي يعلو على الشيء قد يفارقه، إنما هذا معناه أنه لزم القعود على الصراط لزوماً أكيداً لا يفارقه ولا يغادره؛ حتى صار كأنه والصراط شيئاً واحداً: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي وأحمد وابن حبان من حديث سمرة بن أبي الفاكه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه) ما من طريق إلا وعليه شيطان بل شياطين، وقال الله تعالى أنه قال:: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] هي هذه الجهات الأربع التي يتحرك فيها ابن آدم.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان قعد لابن آدم على أطرقه) أي ما من طريق يتوجه ابن آدم إليه إلا كان الشيطان عليه.
فجاءه من باب الإسلام، وقال له: أتسلم وتذر آلهتك وآلهة آبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم، فوقف له على طريق الهجرة قال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الصِول -الصول هو: الحبل الذي تربط به رجل الفرس ثم في نهاية الحبل وتد، فيكون الفرس في حدود طول الحبل، مثل المهاجر كالفرس في الصول، وأي مهاجر في بلاد الغربة مساحة حركته ضيقة، إما أن يكون فر هارباً فهو حريص على ألا يصل إليه أحد، إذاً دائرة معارفه ضيقة وليست كالذي يسكن في بلاده وبين أهله وماله.
أيضاً: مساحة رزقه أقل من مساحة رزق الإنسان المقيم في بلده وبين إخوانه وأهله، فيقول له: إنك إذا هاجرت قيدت حركتك، فعصاه وهاجر.
ثم قعد له في طريق الجهاد فقال له: تقاتل؛ فتقتل، وتنكح المرأة، ويقسم المال، يعني امرأتك التي تغار عليها ولا تتخيل على الإطلاق أن يتزوجها رجل غيرك، فنخوتك تمنع من الذهاب إلى الجهاد؛ لأن هذا معناه أنك ستقتل والمرأة ستنكح بعدك، فكيف تجاهد؟! فعصاه وجاهد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاهد في سبيل الله فقتل فله الجنة، فغرق فله الجنة، فوقصته دابته فله الجنة).
إذاً: الشيطان يقعد على كل طريق لابن آدم، وأعظم ما يصبو الشيطان إليه ويدعو الناس جميعاً إليه: أن يشركوا بالله، ولذلك قدم الله عز وجل بالتنبيه على هذه العظيمة التي لا تبقي حسنة للعبد: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81].
هذه السيئة التي تحيط بالعبد وبحسنات العبد هي الشرك، فذكر ربنا تبارك وتعالى هذه الفاقرة العظيمة بين يدي كيد الشيطان وطرقه وأساليبه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:116 - 120] تلخيص عداوة الشيطان: شباكه التي ينصبها، ومصائده التي يقيمها لأولاد آدم (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ) الذي يعبد الشيطان يأتمر بأمره، فكل من حاد عن حكم الرحمن عز وجل فهو تبع للشيطان، ولذلك أخر الأمر بعد الإضلال والأمنية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) وهذا نوع من التنصيص على جملة من أوامره لا على كلها (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) البتك: القطع، وكانت الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وكان آخر بطن أنثى، كانوا يقطعون أذنها ويتركونها لآلهتهم، وهذه هي البحيرة، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] ما جعل الله شيئاً من ذلك أبداً.
يقول سعيد بن المسيب فيما رواه البخاري في صحيحه ومسلم: البحيرة كانوا يدعون درها للطواغيت -يعني: اللبن- والسائبة أي: التي يسيبونها لآلهتهم، تلد خمسة أبطن آخرها أنثى فيسيبونها لآلهتهم.
الوصيلة: هي الناقة تلد البطن الأول أنثى والبطن الثاني أنثى، فإذا ولدت أنثيين في المرة الأولى والثانية قالوا: قد وصلت الأنثى بأنثى، وهذا من غيظهم على الله، لماذا يعظمون الأنثى وإذا ولدت أنثى يتركونها؟ لأنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً، وجعلوا لله البنات، فالأنثى عندهم نوع من الغيظ.
الحام هو: فحل الإبل الذي يعدونه للضراب، وقد بقي في هذه الأمة شيء من هذا الفعل الجاهلي، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بالنص، ففي الحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) وهذا كثير في بلاد الريف، رجل عنده أنثى فيذهب إلى رجل عنده فحل يضربها لتحمل؛ فالرجل الذي عنده الفحل يتعاطى أجراً على فعل الفحل، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحرم أخذ الأجرة على ذلك، ولا يتعللن أحد بأن الرجل يطعم الفحل؛ لأنه لابد أن يطعمه.
فالحام: فحل الإبل الذي أعدوه للضراب، فإن ضرب عشر مرات تركوه وقالوا: هذا حام، ما جعل الله شيئاً من ذلك، لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، ويقولون: شرع كذا وكذا وكذا.
فربنا تبارك وتعالى ذكر طرق الشيطان لكن نبه على أعظمها (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) وسنرجع إلى بسط هذا المقام فإنه مقام خطير زلت فيه أقدام.(16/4)
الدعوة إلى البدعة
أول جنس من أجناس الشر يسعى الشيطان إليه: أن يشرك العبد ويكفر بربه، فإذا كتب للعبد وهو في بطن أمه أنه سعيد، وأنه لا يكفر، وأيس منه الشيطان انتقل إلى الجنس الثاني: وهو البدعة، فإن المبتدعة أعداء الرسل، وهم الذين غيروا دين الله عز وجل، وأمروا الناس أن يعبدوا الله بشرع لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن به رب العالمين، والبدعة بوابة الكفر، فهذا هو الشَّرَك الثاني.
ومن أقل البدع التي يرتكبها الناس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا وقف أحدهم بين يدي رب العالمين أتى بعشر بدع، يقف فيقول: نويت أن أصلي الظهر -بصوت مسموع- حاضراً، مستقبلاً القبلة، مأموماً، ثم يصرخ بذلك، وتنتفض عروقه، ويكبر بصوت عالٍ كأنه يكبر على عدو، ولو لبث ما لبث نوح -هذا كلام شيخ الإسلام - يبحث في الكتب عن حرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين أنهم فعلوا ذلك لا يجد إلى ذلك سبيلاً.
وهذا من أقل ما يرتكب، وهو من تحصيل الحاصل الذي لو سمعه عربي -ينطق العربية سليقة- لضحك عليه، لأنه تحصيل حاصل.
شخص جاء من بيته ليصلي الجمعة فيقول: نويت أن أصلي الجمعة، مستقبلاً القبلة أو مستدبراً، يعني يشك في نفسه أنه مستقبلاً القبلة أو لا؟! حاضراً! أيظن نفسه غائباً وعفريته يصلي؟! مأموماً! أيظن نفسه إماماً؟! أليس هذا كله من تحصيل الحاصل؟! فلو سمع رجل عربي هذا الكلام لضحك، ولظن السفه من المتكلم، فإن الرجل لو قعد على سفرة طعامه فقال: نويت أن آكل رزاً، نويت أن آكل خبزاً، نويت أن آكل مخللاً، فإن هذا شيء يضحك؛ لأنه إنما هو تحصيل حاصل.
عندما يقف وهو بين يدي رب العالمين في أعظم شعيرة عملية فيرتكب مثل هذه البدع، فلا شك أنه يعبد الله بما لم يأذن به، وبما لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أدنى ما يذكر من البدع.(16/5)
الدعوة إلى الصغائر
إذا سبقت للعبد من الله الحسنى وعصم من الكبائر ساقه إلى الجنس الرابع: وهي الصغائر، شيء يسير، ومكوث العبد على الصغيرة أعظم من إتيانه الكبائر، (فمن القطر تدفق الخلجان): لا تستهن بصغيرة إن الجبال من الحصى وقد اتخذ كما قال: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118]، جماعة يعملون معه، وأناس يتكلمون بالقرآن ويجادلون، وأناس يقفون يأخذون الناس بالقوة، وأناس يهددونهم إذا سلكوا طريق الله (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) أي جرى في قدرك وفي علمك أن هذا لي، فكل هؤلاء يعملون لحسابه.
فيأتي مثلاً رجل يزعم أنه يفسر القرآن، مع أن غالب تفسيره إلحاد في آيات الله، يقول: (إن الله جميل يحب الجمال)، صفة الجمال صفة من صفات الله عز وجل كما في حديث مسلم، ويقول: إن من يرمق الجمال فإنه يبحث عن آية الله في الكون، فهذا مؤمن وتدبر آيات الله عز وجل ليزداد إيماناً، ومن أمثلة ذلك: أن الرجل إذا رأى امرأة جميلة فجعل ينظر إليها ويقول: تبارك الخلاق العظيم! ما هذا الخلق؟! وما هذا الخد؟ وما هذا العضد؟ وما هذا الوجه الجميل؟ وما هذا الأنف الرشيق؟ وما هذه العينان الجميلتان؟ وجعل يتغزل وينظر ويملأ عينه، فهذا الرجل يتأمل!! هذا أحد الذين قال إبليس فيهم (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) ولأضلنهم بمثل هذا القول، قال صلى الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).
ويقول: هل أتيت بشيء من كيسي؟! إنما أقول لك: قال الله قال الرسول يا أخي! اسم الله على لسان كل مؤمن، حتى الكافر مجبر على ذكر اسم الله عند رؤية الشيء الجميل، وقد اتفق أهل الأرض جميعاً على أنهم إذا رأوا شيئاً جميلاً يقولون: (الله الله)، فكل جميل ينسبونه إلى الله، ويذكر مثل هذا القول.
وكثير من بني آدم ضعاف العقول، ضعاف التفكير يدخل عليهم مثل هذا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك، فإن النظرة الأولى لك والأخرى عليك)، إذا مشى المرء فوقعت عينه فجأة على امرأة فلا يؤاخذ به، إنما إذا نظر مرة أخرى بدأ عداد السيئات يرصد له.
والرسول عليه الصلاة والسلام بين لنا خطورة الصغائر قال: (إياكم ومحقرات الأعمال، فإن مثل محقرات الأعمال كمثل قوم كانوا في صحراء، فذبحوا جدياً لهم والتمسوا حطباً لشواء هذا الجدي، فذهب كل رجل إلى وجهة، فأتى هذا بعود وذا بعود وذا بعود، فأشعلوا فيه ناراً فأنضجوه وأكلوه، فمثل محقرات الأعمال كمثل هذا، إذا اجتمعن على العبد أهلكنه).(16/6)
التوسع في باب المباح
إذا سبقت للعبد من الله الحسنى ولم يصرّ على الصغيرة، واستغفر الله وتاب عليه؛ جره إلى الجنس الخامس من الشر وهو: التوسع في باب المباح، مثلاً: رجل تاجر طوال حياته يعمل، ويقول: التجارة حلال، وقد قال الله: (اسعى يا عبدي وأنا أسعى معاك)، ويذكر لك في فضل العمل، وفي فضل النفقة، والغنى أحاديث وآيات، فيوسع له دائرة المباح، لأنه لم يستطع أن يجعله يكفر ولا يبتدع ولا يقع في كبيرة، ولا يصر على صغيرة، إذاًَ: أفضل شيء أنه يجعله يعمل طوال عمره، حسناً: هذا العمل يلهي عن ذكر الله، ويشغله عما ينبغي للعبد أن يجعل له فيه ورداً ثابتاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله فيها إلا ندم عليها يوم القيامة)، والعمل هذا يشغل عن مثل هذا الذكر، ثم يلبس عليه ويقول له: يا أخي! طالما أنك هكذا فستكون غنياً وتملك الأموال، وبالتالي تستطيع أن تخرج الزكاة، وتكفل الفقراء، وتنفق هنا وهنا، وهذا شيء من أبرك الأعمال.
التوسع في الأكل والشرب مباح، ولكن تصور رجلاً ملأ بطنه بأطايب الطعام والشراب، وأراد أن يعبد الله عز وجل، فإنك تجده يشعر بالكسل والخمول، هذا الكلام مجرب في إفطار رمضان، عندما تفطر وتشرب تقف في صلاة العشاء تتثاءب وتريد أن تنام، ويصد مثل هذا الكسل كثيراً من الناس عن مواصلة صلاة القيام، يقول: عندما تخف بطني سوف أصلي لوحدي، فإذا خفت بطنه لم يصل.
وكم ضيع هذا الشبع على أناس العبادة في رمضان، مع أن الأكل مباح، ولكن يا أخي! اعلم أن الجواد الذي تعده للسباق لا يكون ذا بطن كبيرة، إنما هو الجواد المضمر، عنده قدرة على أنه يجري، فيفوز؛ فنحن في سباق إلى الله عز وجل: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وذو الكرش لا يسبق.
إذاً: الأكل والشرب مباح، ولكنه يؤدي إلى الخمول، يقول له: افعل وافعل، وهذا كله حلال، قال تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168]، هذا من الحلال الطيب، فإن الشافعي كان يذهب إلى بيت أحمد بن حنبل ويطعم ويقول: (طعام الكريم دواء)، كل ووسِّع على نفسك.
فإذا اشتغل بالمباح الذي يستوي طرفاه -يستوي فيه المدح والذم- فوت على نفسه من الثواب ما هو أعظم من فعل هذا المباح.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(16/7)
الدعوة إلى الكبائر
لو كان العبد من أهل السنة، ولا يفارق السنة قيد أنملة قاده الشيطان إلى الجنس الثالث من الشر وهو: الكبائر، فيجتهد في إيقاعه في الكبائر، ولا يستطيع أن يلبس على مثل الذي أفلت من الشرك وأفلت من البدعة إلا بالأمانيّ والتزيين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأت أهله، فإن معها مثل الذي معها)، وتخيل هذا الحديث: (المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)، قد تكون هذه المرأة أقبح امرأة على وجه الأرض لكنها صادفت شبقاً وشهوة عالية من الرجل؛ فلم يرها على صفة القبح، بل رآها جميلة، فإذا أقبلت عليه لم ير قبحاً فيها إنما يرى جمالاً وسمتاً، وإذا أدبرت رأى أيضاً رشاقة وجسماً، فلا يزال يشتهيها حتى إذا واقعها ظهر له قبحها، وهذا من التزيين الذي وعد به في قوله: (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) فعمل الشيطان أنه يزين ويمني.
كم تتصوروا زمن وقوع الفاحشة؟ خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ساعة من حياة المرء الطويلة، وقد لا يرتكب في حياته إلا مثل هذا القبح الواحد، ويظل أسيراً له طيلة عمره.
فالشيطان يوقع الذي نجا من الكفر ومن البدعة بتزيين المعاصي له، ثم ينفث في أذنه: إن الله غفور رحيم، وللشيطان أجناس من بني آدم يقومون بنفس الدور بإتقان؛ فيصغر له الكبيرة، كمثل الذي حدث لـ كعب بن مالك كما رواه البخاري ومسلم من حديثه في تخلفه عن غزوة تبوك قال: وجاء المعذرون من الأعراب يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم إن بيوتنا لعورة، وذكروا أعذاراً فقبل النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله، أما كعب بن مالك قال: فجئت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآني تبسم تبسم المغضب وقال: ما خلفك؟ قلت: والله! يا رسول الله! لو كنت عند غيرك من أهل الدنيا لخرجت بعذر فقد أوتيت جدلا.
والله ما كان لي من عذر وما كنت قط أقوى مني كهذه الغزوة، وما جمعت بين راحلتين قط إلا في هذه الغزوة، قال: أما هذا فقد صدق، قم حتى يحكم الله فيك، قال كعب: فخرجت، فتبعني جماعة من أهلي فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً إلا هذا الذنب اليتيم، ولقد كان كافيك استغفار رسول الله لك، لماذا تفضح نفسك؟ يعني لو كنت قلت له: لي عذر، وقلت له: استغفر لي يا رسول الله! لقال: غفر الله لك.
وانتهى الأمر، والرسول مستجاب الدعوة، ولم يكن هناك داعٍ لأن تفضح نفسك! قال: فلا زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع إليه فأكذب نفسي.
هذا من عمل شياطين الإنس، يقولون: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً! وما أدراك؟ إذا خلا العبد بمحارم الله انتهكها، وخرج للناس جميلاً عفيفاً ذا سمت وذا ورع ودمعة، تقوى العبد تعرف بالخلوات.
وكيف استقل نظر الله إليه وهو لا يغيب عن عينه، واستعظم نظر من لا يملك له موتاً ولا حياة ولا نشوراً، هذا بلا شك قدح في دين المرء، ويكون القدح على قدر الذنب، فالكبيرة لا يقع فيها المرء إلا إذا لبس عليه وزين له الأمر.(16/8)
الاشتغال بالمفضول من الأعمال عن الفاضل
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إذا سبقت للعبد من الله الحسنى فلم يشتغل بمثل هذا المباح عن الذكر، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جره إلى الجنس السادس والأخير وهو: الاشتغال بالمفضول عن الفاضل، وأكثر الناس يقع في هذا، ولا يتفطن إليه إلا العلماء.
الأعمال الصالحات درجات، مثلاً: إذا تخيلنا رجلاً تاجراً وعنده عشرة أصناف من ألوان التجارة؛ صنف بألف جنية والربح فيه خمسون جنيهاً، وصنف آخر الربح فيه ثلاثون، وآخر عشرون أو عشرة، فبالله عليكم هل هناك عاقل يترك الصنف الذي يكسب فيه خمسين ويأخذ الذي يكسب فيه عشرة؟ كثر سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم هذا
السؤال
يا رسول الله! ما أحب الأعمال إلى الله؟ وكله خير، فلماذا لم يتوجهوا من تلقاء أنفسهم لأي خير؟ لأنهم يعلمون أن العمر قصير، والاشتغال بالخير الدون لا يكون لائقاً بالعقلاء، لذلك كان من أعظم الخير تعلم العلم وبثه لله عز وجل؛ لأن تعلم العلم توصيل لرسالة الله الذي وقف صناديد أهل الأرض ضدها، أعداء الرسل هم أصحاب الشوكة والمال، وأصحاب الشوكة هم الذين يستطيعون إيصال الضر، وقد قضى الله عز وجل في قدره أن يكون أتباع الرسل من المستضعفين.
إذاً: لحوق الضرر بهؤلاء المستضعفين إذا كانت الشوكة في يد الصناديد أمر متوقع محقق، فمن الذي يبحث عن المتاعب لنفسه، ومن الذي يعرض نفسه لمثل هذا الضيق والإرهاق، لاشك أنه إذا صبر واحتسب وعلم فإن الأجر على قدر المشقة، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فأشار إلى أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لابد أن يلحقه الأذى، فأمره أن يصبر على ما يصيبه.
فهذا أقرب شيء في الدنيا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: -أي أنه إذا جاز أن يحسد أحدٌ أحداً فلا حسد إلا في خصلتين- رجل آتاه الله القرآن -أو (آتاه الله العلم) أو (آتاه الله الحكمة) ثلاث روايات- فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).
وهذا الرجل الثاني صاحب المال مفتقر افتقاراً أكيداً إلى الرجل الأول، فإن المال وحده ليس ممدوحاً، فلا يمدح المال إلا إذا سلطته على ما يهلكه في الحق، ولا يعرف الحق إلا عالم أو من يسأل العالم.
إذاً: هذا الرجل الثاني ليس ممدوحاً؛ حتى يلتصق بواحد من أهل العلم فيسأله عن وجوه إنفاق المال، وما يحل له من ذلك وما يحرم؛ فحينئذٍ يكون من المحسودين؛ لأنه سلطه على هلكته في الحق، أما الجاهل الذي لا يعرف الحق من الباطل؟ فلا يتصور في رجل أن يهلك ماله في الحق إلا إذا كان عالماً أو ملتصقاً بعالم.
فأنت عندما تريد أن تفعل الخير ابحث عن أعلى الخير وأفضله، قالوا: (يا رسول الله! ما أحب الأعمال إلى الله؟) يعني: نريد أعلى الأعمال وأتمها، وهذا أيضاً في العلم كما قال الراجح: العلم إن طلبته كثير والعمر عن تحصيله قصير فقدم الأهم منه فالمهم وكلما اشتغلت بفضول العلم ضاع عليك لب العلم، قليل من الناس من ينتبه إلى هذه المرتبة، قالوا: (يا رسول الله! ما أحب الأعمال إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قالوا: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قالوا: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
فمن أحب الأعمال: (الصلاة على وقتها)، وفي رواية: (الصلاة لأول وقتها) (على) حرف جر يفيد الاستعلاء والتمكن، تقول: ارتقيت على الدابة يعني: تمكنت من ظهرها، فكأن الرجل يأتي إلى الصلاة في أوائل الناس مستمكناً من أول الوقت، لا تفوته تكبيرة الإحرام، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله.
فالشيطان يشغل العبد بالثواب الأقل؛ لأنه إذا لم يستطع أن يوقعه في الشر المحض فعلى الأقل أن يقلل خيره، ومن تقليل الخير أن يرشده إلى الأقل في باب الخيرات.
فهذه يا عباد الله! ستة أجناس من الشر، كل عمل للشيطان مهما كان كثيراً ومهما كان دقيقاً لا يخرج عن واحدٍ من هذه الأجناس، وسنفصل هذه الأجناس كلها؛ لأن معرفة عداوة الشيطان من أفضل ما يحصله الإنسان، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فقدم الكفر على الإيمان، إذ لا إيمان إلا بعد كفر.
ومثل الذي يؤمن بالله عز وجل ويعبد طاغوتاً كمثل رجل معه ماء رقراق ومعه إناء في أسفله طين، فإذا صب الماء الرقراق على الطين تعكر الماء كله، فإذا أردت أن يظل الماء رقراقاً نظف الإناء ثم صب الماء، كذلك التوحيد لابد أن يتطهر المرء من رجس الطواغيت، ولا يعبد شيئاً من دون الله عز وجل، فإذا وُجد التوحيد نفعه أقل العمل.
أخلص دينك لله يكفيك العمل القليل.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول نسأل الله تبارك وتعالى أن يقبضنا وإياكم على التوحيد الخالص، وأن يحسن خاتمتنا وإياكم أجمعين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(16/9)
عصمة الأنبياء
لقد عصم الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله من السهو والنسيان في تبليغ الوحي، فنسيانهم نسيان تشريع لا نسيان غفلة، كما أن الله عصمهم من ارتكاب كبائر الذنوب؛ لأن مقام النبوة لا يليق به ذلك، فهو مقام شرفه الله وكرمه، أما ما يحصل منهم من إتيان بعض الصغائر أو الاجتهادات الخاطئة فإنما هو لإثبات بشريتهم، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعلمهم ويعاتبهم بواسطة الوحي حتى يبلغوا درجة الكمال بين البشر.(17/1)
بلوغ موسى عليه السلام مرحلة الاستواء العقلي والجسمي
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:14 - 17].
الاستواء معناه: اكتمال القوة الجسمية والعقلية، وقد ظهر اكتمال القوة الجسمية في موقفين: الموقف الأول: في وكزة موسى عليه السلام والتي قضى بها على القبطي.
الموقف الثاني: لما سقى لابنتي العبد الصالح الغنم، لما ورد ماء مدين ووجد عليه أمة من الناس يسقون، فوجد امرأتين تذودان الأنعام، ولا تستطيعان السقيا، فسقى لهما.
لما دخل موسى -عليه السلام- المدينة (والمدينة مُحَلاة بالألف واللام إشارة إلى العاصمة آنذاك، وليست أي مدينة) - {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:15].
فقوله تعالى: {وَدَخَلَ} [القصص:15] إشارة إلى أنه خرج منها، فيا ترى كيف خرج؟ ولماذا خرج؟ وهو ربيب فرعون الذي رباه في قصره، فكان المناسب أن يكون من أهل المدينة؛ لكن قوله عز وجل: {وَدَخَلَ} [القصص:15] إشارة إلى أنه فارقها، ويدل على هذا أيضاً قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15].
إذاً: صار موسى معروف المذهب مخالفاً لفرعون، حتى إنه صار له شيعة وأتباع، ولا يقال: شيعة إلا إذا كانوا موافقين له في الدين والمذهب.
ولو كان هذا الرجل يعرف أنه ما يزال ربيب فرعون يدخل معه ويخرج معه، ولا يفترق عن فرعون في شيء ما استغاث به، فهذا يدلنا على أن موسى عليه السلام بدأ يفارق البيئة العفنة: الظلم والقصر، وترك كل ذلك وخرج، وقال بعض أهل التفسير: إنه أظهر مخالفة فرعون فعلاً، فصار يخاف على نفسه فخرج.
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:15] ذهب كثير من أهل التحقيق إلى أن الوقت ذلك كان وقت القيلولة، فدخل المدينة في هذا الوقت: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] بضربة واحدة: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15].(17/2)
الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر
الذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافاً للشيعة الإمامية الإثني عشرية: أن الأنبياء معصومون من الكبائر؛ دون الصغائر ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماعَ أهل السنة على ذلك.
لقد اتفقت الأمة جميعاً لا خلاف بينها أن الأنبياء معصومون في الرسالة والتبليغ، لا يجوز عليهم الخطأ ولا التحريف، وإن كان يجوز عليهم النسيان، وهذا بأمر الله تبارك وتعالى، ليس نسيان غفلة؛ ولكنه نسيان تشريع.
وهذا فيما يتعلق بإبلاغ الوحي والدين؛ إذا نسي شيئاً إنما ينساه لشرع.
كما حدث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة ذي اليدين التي رواها البخاري ومسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوماً العصر فسلم من ركعتين، وخرج الناس وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه -وفي بعض طرق الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان غاضباً- فقام رجل في يديه طول -لذلك قيل له: ذو اليدين لطول يديه- فقال: يا رسول الله! أقَصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيْتَ؟ قال: ما قَصُرَتْ وما نِسِيْتُ.
ثم استقبل الناس، فقال: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: أجل يا رسول الله! فاستقبل القبلة وصلى ركعتين وسجد للسهو).
فالنبي صلى الله عليه وسلم شرَّع لنا في سهوه في الصلاة أن من نسي في صلاته فصلى أقل من العدد المطلوب من الركعات أنه لا يعيد الصلاة مرة أخرى كما يفعل بعض الناس، إنما يتم الناقصَ فقط، ويسجد للسهو، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني).
إذاً: ما يتعلق بإبلاغ الدين وكلام الله عز وجل، لا يجوز عليهم الخطأ ولا التحريف ولا النسيان وهذا بإجماع الأمة.(17/3)
العفو عن الأنبياء في الاجتهاد الخطأ
بعض الأنبياء قد يخطئ في الاجتهاد ولا حرج عليه في ذلك، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (خرجت امرأتان في زمان داوُد عليه السلام، فجاء الذئب فعدى على ولد إحداهن فأكله، فاختصمت المرأتان على الولد الباقي، فرفعتا الأمر إلى داوُد عليه السلام، فقضى به للكبرى، فلما خرجتا قابلتا سليمان عليه السلام، فشكت له الصغرى حكومة أبيه، وقالت: إنه قضى بالولد للكبرى وهو ولدها، فقال سليمان عليه السلام: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين، فصرخت المرأة الصغرى، وقالت: لا أريده، أعطه لها، فحكم به لها) وقد قال تبارك وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:78 - 79] حتى لا يظن الظان أن داوُد عليه السلام لما لم يتفطن للحكم كان نقصاً فيه، قال تبارك وتعالى-: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] إصابة الحق منحة من الله تبارك وتعالى.
فالأنبياء يجوز عليهم مثل هذه الصغائر لكن يتوب الله عز وجل عليهم.(17/4)
محمد صلى الله عليه وسلم ومعاتبة الله له
وكذلك قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1].
وكذلك قال له تبارك وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] إلى آخر الآيات.
ولما قبل النبي صلى الله عليه وسلم الفدية في أسارى بدر قال له الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].(17/5)
نبي من الأنبياء يحرق قرى النمل
وكذلك روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن نبياً من الأنبياء نام تحت شجرة، فقرصته نملة، فأمر بجهازه، فأُخرج من تحت الشجرة، ثم أمر بحرق قرى النمل، فأوحى الله عز وجل إليه: ألا إن قرصتك نملة واحدة تحرق قرية من الموحدين؟! -وفي اللفظ الآخر قال له: فهلا نملة) أي: نملة فهلا عاقبت نملة؟! وعاتبه ربه تبارك وتعالى في ذلك.(17/6)
داود عليه السلام وخطيئته في ميله عن الحق بين الحكمين
وكذلك في قصة داوُد عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:21 - 25].(17/7)
كذب اليهود على داود في تخطئة الله له
داوُد عليه السلام في الآيات السابقة ليس تفسيرها كما يقول اليهود في كتبهم.
إن داوُد عليه السلام أرسل قائد جيشه لما رأى امرأة جميلة فأعجبته فأراد أن يتزوجها، فأحْكَمَ مؤامرةً على قائد الجيش وأرسله ليقاتل قوماً بلا حاجة إلى القتال؛ كل هذا ليُقْتَل هذا القائد، فيتزوج داوُد عليه السلام امرأته، فأرسل القائدَ إلى جهة معينة يقاتل قوماً، فقاتلهم وقتل نفراً كثيراً، ورجع قائد الجيوش، فأرسله إلى جهة أخرى فكان كما حدث، فقتل مئات الألوف ولم يقتل القائد، فلم يجد داوُد عليه السلام بداً من أن يقتله، فقتله وتزوج امرأته.
فأراد الله أن يعلمه خطأه، فأرسل إليه مَلَكين في صورة رجلين يختصمان، وتسورا عليه المحراب يعني: تسلقا جدار المحراب الذي يصلي فيه، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:23] والنعجة: المرأة، فقال: {ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] أنت عندك تسع وتسعون امرأة وأنا لي امرأة واحدة، فأخذتَ مني المرأة الواحدة وغلبتني في الخطاب بالبيان والحجة، فغلَّط داوُد عليه السلام الرجل الذي ضم النعجة إليه، وقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] فغلَّط نفسه، فلما انتهت الحكومة اختفى الرجلان فجأة فعلم داوُد عليه السلام أنهما ملكان؛ فحينئذٍ انكشف له الأمر فاستغفر ربه مما فعل.
هكذا تقول الرواية الإسرائيلية اليهودية، وحاشا لداوُد عليه السلام أن يفعل ذلك.
وكذلك اتهموا لوطاً عليه السلام أنه شرب الخمر وزنا بابنتيه.
واتهموا إبراهيم عليه السلام أنه أعطى امرأته لجبار مصر، مع أن القصة في صحيحي البخاري ومسلم عندنا تخالف اتهام اليهود تمام المخالفة.
الأنبياء معصومون من الكبائر؛ لا يشركون بالله، ولا يقتلون، ولا يزنون، كل الكبائر لا يفعلها الأنبياء، إنما خطيئة داوُد عليه السلام أنه قضى لأحد الخصمين على الآخر بدون أن يسمع الطرف الآخر، هذه هي خطيئة داوُد عليه السلام التي استغفر منها.(17/8)
آدم عليه السلام ومعصيته لربه في أكل الشجرة
اتفقت الأمة على أنه لا يجوز لنبي من الأنبياء أن يرتكب كبيرة، وجوزوا الصغائر عليهم؛ ولكن مع تجويز الصغائر عليهم فإن الله لا يقرهم على ذلك، بل يستغفرون ويغفر لهم، وهذه ميزة لهم ليست لأحد من بني آدم، وفي ذلك آيات وأحاديث، قال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
وقال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121].(17/9)
آدم عليه السلام وجحوده لربه
وكذلك روى الترمذي في سننه وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره بيده، فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: ذريتك، فرأى رجلاً منهم وبيص عينه أظهر من الكل، فقال: من هذا يا رب؟ قال: هذا ولدك داوُد يأتي في آخر الأمم، قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون عاماً، قال: رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما جاء الملك ليقبض آدم عليه السلام، فقال له آدم: قد بقي من عمري أربعون عاماً، قال: أوَلَم تعطها ولدك داوُد؟ قال: لا، فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم، فخطئت ذريته -وفي بعض طرق الحديث-: أن الله عز وجل أتم لداوُد مائة عام، وأتم لآدم عمره).(17/10)
نوح عليه السلام وسؤاله الله ما ليس له به علم
وكذلك في قصة نوح عليه السلام قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:45 - 47].(17/11)
دروس وعبر من قصة قتل موسى عليه السلام للقبطي(17/12)
استغفار موسى عليه السلام من قتل القبطي
فإن قيل: إن كان لا جناح عليه فلم استغفر؟ ولا يكون الاستغفار إلا من ذنب؟ فنقول: إن موسى عليه السلام قتل نفساً خطأً لم يؤمر بقتلها، ولذلك عد هذا ذنباً بالنسبة إلى مقامه ومكانه.
وفي حديث الشفاعة الذي في الصحيحين وغيرهما عندما يذهب الناس يستشفعون بآدم، فيقول: نفسي نفسي، فيحيلهم إلى نوح، ونوح عليه السلام يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم عليه السلام يحيلهم إلى موسى عليه السلام، فيقول موسى: نفسي نفسي! إني قتلتُ نفساً لم أومر بقتلها، فكذلك كل من فعل شيئاً لم يؤمر به فهو مذنب.(17/13)
وقوع القتل من الأنبياء
فإن قلتَ: إن موسى عليه السلام قتل نفساً والقتل من الكبائر، وكبائر الذنوب لا يقع فيها الأنبياء؟ فأقول: نعم، إن موسى عليه السلام لم يعمد إلى قتل هذا القبطي أبداً، إنما أراد أن يكف بأسه عن الإسرائيلي، فلما وكزه ولم يرد قتله، لكن القتل وقع خطأ والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] فأثبت لهم الإيمان برغم الخطأ وهو القتل، ومع ذلك لا يزال مؤمناً ووصف الإيمان وصف له، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فأثبت لهم الأخوة الإيمانية مع وجود القتال.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال: يا أهل العراق! ما أسْأَلَكم عن الصغيرة وأرْكَبَكم للكبيرة -يعني: ما أشد سؤالَكم عن السفاهات وما أشد ركوبَكم للكبائر- أما أني سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الفتنة تجيء من هاهنا، وأشار إلى المشرق، وإن موسى -عليه السلام- إنما قتل القبطي خطأً، وقد قال الله عز وجل له: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]).
فهو قتل هذه النفس خطأً.(17/14)
البدعة تعريفها وضوابطها
نقول هذا الكلام لأهل البدع الذين يفعلون شيئاً لم يؤمروا به، وليس لهم دليل ولا أثارة من علم، لا من كتاب منير ولا من سنة بينة، ويفعلون ذلك يتقربون به إلى الله، هؤلاء عصاة وإن قصدوا الخير، فالخير ما أمر الله به ورسوله، والله عز وجل قد أتم النعمة وأكمل الدين، فكل مفترٍ على الله عز وجل بإثبات أمر لم يأمر به الله عز وجل فهو مذنب: (إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها) لا تقل: هذا عمل خير، لو كان خيراً لدلك النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
إن المبتدع يقول بلسان حاله: أنا أستدرك على النبي صلى الله عليه وسلم ما فاته، كل عمل يبتدعه المرء لا أجر له فيه بل هو مأزور، لا بد أن يسأل عن الهدى والإيمان كما يسأل عن رغيف الخبز.
البدعة: فعل شيءٍ حادثٍ لم يؤمر به المرء بكيفيةٍ مخصوصةٍ في زمان مخصوص يتقرب به إلى الله، وهذا ضابط البدعة المذمومة.
أن يفعل الشيء يتقرب به إلى الله.
أما إذا فعل الشيء لا يقصد به القربى فهذا ليس من البدع المذمومة، مثل: التوسعة في ليلة عاشوراء كتجهيز كعك العيد أو المواسم التي يذبحون فيها ويوسعون على أنفسهم، بعض المتسننين يرفض الأكل والتوسعة في هذه الليلة، يقول: لا.
هذا بدعة، نقول: البدعة لا تكون إلا إذا قصد بالأكل التقرب إلى الله، أما إذا قصد التوسعة على نفسه ويأكل فقط فهذا ليس من البدعة في شيء؛ لأنه يُشترط في البدعة المذمومة المستقبحة شرعاً أن يتقرب المرء بها إلى الله، لكن مثلاً كعك العيد ليست بدعة مذمومة ومحرمة؛ لأنهم لا يتقربون بأكل الكعك إلى الله، ولكن الآفة في هذا أنهم يضيعون على أنفسهم العشر الأواخر، يسهرون الليل في تجهيز العجين في هذه المعجنة وعباد الله المتقون يصفون أقدامهم بين يدي رب العالمين، هذه هي الآفة في هذا الأمر لكنها ليست بدعة، إنما البدعة -كما شاهدت بعض الناس يفعلها- أنه بعد الصلاة إذا أراد أن يدعو الله يسجد ويدعو، لماذا تسجد يا فلان وتدعو هكذا؟ يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فهذا الوضع اقتراب من الله، فأنا أريد أن أكون قريباً من ربي حال دعائي واستغفاري.
فنقول له: لو كان المفهوم من الآية والحديث ما فهمتَ ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم، إنما المقصود بالسجود في الآية والحديث: الصلاة، والتعبير هنا عن الصلاة بجزء من أجزائها: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] أي: صلِّ، وقوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) أي: في صلاته؛ لكن السجود المطلق بعد الصلاة فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، ولا أعلم أحداً من الأئمة المتبوعين أفتى باستحبابه، إذاً: هذه بدعة وإن قصد بها الخير.
فكل فعل لم يؤمر به المرء فيفعله يتقرب به إلى الله عز وجل وليس عليه دليل فهذا مذموم.(17/15)
استعظام الذنب عند موسى عليه السلام
فلذلك استغفر موسى عليه السلام ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] بالنسبة لمقامه.
قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح للتابعين: (إنكم لتفعلون الشيء هو أدق من الشعرة عندكم إن كنا نعده على زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر) لماذا؟ الكبائر معروفة، فهم يفعلون الفعل أدق من الشعرة يقول: هذا كان عندنا -أي: مع معاشر أهل الورع- من الكبائر، وإن كان ليس كبيرة في ذاته، ولكنه كبيرة بالنسبة لمقام الإنسان، كلما شرف صدر الإنسان ونبل استعظم الناس صدور الذنب منه، ولا يستعظمون الكبيرة من أهل الفسق، وهكذا عندما يفعل هذا نبي من الأنبياء -حتى ولو كان مباحاً له أن يفعله- لكن ليس لائقاً من مثله في مقامه ومكانته، فإنه يعتبر هذا ذنباً كبيراً يستغفر منه، وكذلك أهل النبل دائماً يستعظمون الشيء الدقيق، وكذلك أهل الإيمان كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن ليرى ذنبه الدقيق كالجبل العظيم، وإن الفاجر ليرى ذنبه العظيم كمثل الذباب يقع على أنفه فقال به هكذا فطار) الرجل المؤمن يرى الذنب الدقيق كالجبل العظيم، فلو قلت له: ماذا أذنبتَ؟ يقول: هلكت! ارتكبت موبقة من الموبقات، مع أن هذا الشيء في الميزان لا يساوي شيئاً إنما استعظمه بالنسبة لورعه ومقامه.
وفي حديث البخاري في كتاب بدء الوحي من حديث ابن عباس (لما دخل أبو سفيان على هرقل وجعل يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدنى هرقل أصحاب أبي سفيان منه ليقرروه، وقال لهم: إن كذب عليَّ فأعلموني -أنا إنما جعلتكم معه حتى إذا كذب قلتم: كذب- فيقول أبو سفيان وكان كافراً إذ ذاك: ولولا أن يؤثروا عليَّ كذباً لكذبتُ) أي: لولا أن يعيروني يوماً ما بأنني كذبتُ لكذبتُ، مع أنه في أمس الحاجة إلى الكذب، هرقل يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار يعادونه ويقاتلونه ألا يفترون عليه؟ طبعاً سهل جداً أن يفتروا عليه يسألهم -مثلاً-: هل هو أمين؟ يتمنى أن يقول: هو خائن، لكن الذي صده عن ذلك خشية أن يأثر عليه قومه الموالون له الكذب.
إن الإنسان النبيل لا يكذب وإن لم يأتِ نهي شرعي بذلك؛ لأن الكذب معروف أنه من الدناءات، أي إنسان يحترم نفسه لا يسقط في الدناءات ترفعاً لا ديناً، يترفع أن يسقط في المستنقعات، لو كان عنده نبل.
فموسى عليه السلام استعظم من مثله وفي مقامه أن يقتل خطأً؛ لذلك فقد عد هذا ذنباً يجب منه الاستغفار، ولذلك بادر وقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص:16] مع أنه ما قصد: {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَه} [القصص:16].
وهنا شرط: من أراد أن يغفر الله له فلا بد أن يعترف بذنبه وظلمه أولاً؛ لأنه إذا لم يعترف فلن يتب، الاعتراف بالذنب فيه انكسار؛ لكن أن يذهب إلى ربه ويطلب المغفرة منه وهو شامخ رافع الرأس، فمثل هذا لا يُغفر له.
ففي حديث الإفك الذي رواه الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها: (يا عائشة! إن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه).
فإذا أردت أن تخرج من ذنبك، قل: يا رب! إني مذنب، إني ظالم لنفسي، إني جاهل، فاغفر لي، فإذا قدمت بهضم النفس وكسرها ودق عنقها ضَمُن أن يستجاب لك، لذلك قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] فقال الله عز وجل: {فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] بفاء التعقيب، أي: غفر له فوراً بمجرد أن اعترف وخرج من ذنبه: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(17/16)
معاداة موسى عليه السلام للمجرمين
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17].
أيها الإخوة الكرام: ما أجمل الوفاء! لا يضيع الوفاء إلا لئيم، وصدق المتنبي إذ يقول: إن أنت أكرمت الكريم ملكتَه وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا لا تصلح صناعةُ خير مع لئيم: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] هذا هو الوفاء، والاعتراف بالجميل، وبالنعم: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17] إذ قبلت توبتي، وهذه أجل النعم على الإطلاق أن يقبل الله عز وجل توبة التائب، ويمحو حوبته، ويغفر ذنوبه.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17] أقسم على نفسه، وقطع على نفسه عهداً في مقابل هذه النعمة الجسمية، وهي أنك أسقطت عني الذنب وغفرت لي، فلن أكون ظهيراً لمجرم عليك أبداً، لا أتولى الذين ظلموا من المجرمين والكافرين، وأكون على نقيضهم؛ إذ الكافر على ربه ظهير: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].
أيها الكرام! لماذا نهادن أهل المعاصي؟! لماذا نلقي إليهم بأيدي المودة وقد عصوا ربهم تبارك وتعالى، وكانوا عليه ظهرياً؟! فلماذا إذاً نواليهم؟! أليس هذا من كفران النعم؟! هذا من كفران النعم أن توالي أهل البدع، وأن توالي أهل العصيان والظلمة.
قال عبيد الله بن الوليد سألت عطاء بن أبي رباح فقلت له: (إن أخي يأكل بقلمه يكتب ويحسب، قال: من الرأس؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: ألم تسمع قول العبد الصالح: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]) فاستعظم أنه يكتب الخراج، أي: أن هذا الرجل محافظ على بيت المال إذا خَرَجَ مالٌ، كتب: خَرَجَ مالٌ، وإذا دَخَلَ مالٌ، كتب: دَخَلَ مالٌ، الرجل هذا غلطان؟! الرجل هذا يرتكب محرماً؟! وعطاء بن أبي رباح كان عبداً أسود منَّ الله عليه بالعلم، وكم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم، كانوا إذا جاءوا عبد الله بن عمر بن الخطاب الصحابي الجليل الشهير العالم العامل إذا سألوه فيسألهم عن بلدهم، فيقول لهم: (أتستفتوني وعندكم عطاء بن أبي رباح) وهذه تزكية ما بعدها تزكية لمثل هذا العبد الضعيف.
فهذا الكلام نعطيه لكل من ارتكب مظلمة في حق إنسان لإنسان، قال عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
يقول: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29].
ويقول تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أكثر الذين يرتكبون المظالم يقول: أنا ماذا أعمل؟ أنا عبدُ الآمر.
نقول له: أشركت بالله بهذا القول، فهلا قلتَ: أنا عبدٌ مأمورٌ، فحينئذٍ نسأل من الذي يأمرك؟ وبم أمرك؟ ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28].
وهؤلاء الظلمة الذين يدخلون النار أفواجاً وأمماً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38].
وقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64] تصوَّر! يُعذَّبون ويَختَصمون ويسبُّ بعضهم بعضاً، ولو أنهم لا يعذبون لكفى عذاباً أن تكون مع من تكره في مكان واحد لا تستطيع مفارقته، وصدقت العرب عندما كانت تقول: (رب مملول لا يُستطاع فراقه)، أشقى الناس من اقترن بإلف لا يستطيع فراقه، مكتوب عليه.
رجل تجوز امرأةً ناشزاً، كافرةً بالنعم، جاحدةً للفضل، وعنده أولاد منها، أو عليه مائة ألف أو ثلاثون ألفاً، أو أنه إذا طلقها أخذت كل ما جمعه في حياته، فمضطر أن يعيش ذليلاً، مضطراً، يتجرع الذل ليلاً نهاراً، ضاعت بهجة حياته؛ لأنه عاجز عن الطلاق، فكيف إذا كانوا في مكان واحد ويلعن بعضهم بعضاً.
أنا أذكر أنه لم تضق علينا زنزانة قط إلا بعدما جمعوا بيننا وبين جماعة التكفير وبين الفرماوية وبين الجماعات المختلفة، عندما كنا جميعاً أصحاب عقيدةٍ واحدة، ومنهجٍ واحد، وفي مكان واحد، كنا متآلفين متحابين متآخين، وما شعرنا أبداً بالحد على الإطلاق، بدءوا يشكلون الأفراد: (10) تكفير، (5) فرماوية، (4) من الاتجاه الفلاني العلاني، وبدءوا يتناحرون ويتناقشون ويشتم بعضهم بعضاً، هنا شعرنا بالسجن والحبس: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64] يُعذبون ويسب بعضُهم بعضاً ويلعن بعضُهم بعضاً.
فمن تمام اعترافك بنعمة الله عليك أن لا تنحاز إلى من يكفر به سواءً كان كفر جحود أو كفر نعمة.
لا يحل لك أن تعطي لأهل المعاصي الود، ولا أن تستضيف أحداً منهم، ولا تبسط لهم يد المودة؛ لأن الله عز وجل سوى بين الفاعل وبين الراضي، قال عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] فهذا وعد قطعه موسى على نفسه كله وفاء: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17] بقبول توبتي؛ وغسل حوبتي؛ فلن أكون ظهيراً للمجرمين عليك.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يَجْتَبِيَنا إلى طاعته، وأن يغفرَ لنا ما فرطنا فيه، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(17/17)
عبدة الشيطان
إن المتصفح لتاريخ الأمم السابقة مع أنبيائها يجد أن الذين عادوا الرسل وكذبوهم هم عبدة الشيطان وأتباعه شعروا بذلك أم لم يشعروا، وفي زماننا وجد من يصرحون بذلك، فيقولون: نحن نعبد الشيطان اتقاء غضبه وسخطه، ويختلقون له القصص والروايات من أنه مظلوم، وقد أراد أن يتوب فلم يقبل الله توبته، ورغم قلة هؤلاء إلا أنه لا يجوز السكوت عن باطلهم الذي أعلنوه وجاهروا به.(18/1)
مذهب عبادة الشيطان قديم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلا زال حديثنا موصولاً عن جيل التمكين وعن صفات هذا الجيل، ولا زلنا نقول: إن التفريط في إيجاد هذا الجيل لَجُرْمٌ عظيم تحاسب الأمة عليه كلها في الدنيا والآخرة، ما خلق الله عز وجل السماوات والأرض إلا بالحق، وما أنزل كتابه إلا بالحق، فلم هذا التفلت؟ إن هناك آصرة قوية وعلاقة متينة بين الطفولة والتمكين، وكما قلنا مراراً ونقول: إن الله تبارك وتعالى لما ذكر التمكين لبني إسرائيل ذكر رضاع موسى عليه السلام: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:5 - 7].
أولادنا ماذا فعلنا معهم؟ أطعمناهم كسوناهم أدخلناهم أرقى المدارس والجامعات لكنهم صفر! تعرفون جيل آبائنا حلقة مفرغة لا قيمة لها في عمر الزمن، والسبب يطول شرحه لكن سأضع لكم شيئاً تقيسون عليه بقية الأشياء.
عبدة الشيطان الآن هم تفريخ طبيعي لذلك الجيل.
في سنة (1900م) لما بدأت بذور العلمانية تظهر مع ضعف الدولة العثمانية، وبدأت تكون لهم صولة وجولة، وبدأ نور التدين يخفت، ظهرت طائفة من الكتاب يكتبون القصص والمقالات -وهؤلاء هم الذين شكلوا مسار الأمة- وقد كانت كل رواياتهم تنطق بالكفر والجبر -وهو نوع من الكفر- فالجبر: اتهام لله بالظلم، الله خلقني، قدر عليَّ المعصية لِمَ يدخلني النار؟ يعني: هو ظالم؛ لأنه لو كان عادلاً ما أدخلني النار بجرم ليس من يدي.
فمذهب عبادة الشيطان مذهب قديم وليس مذهباً جديداً مستحدثاً، قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] وقال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44] ما غاب هذا المذهب عن الأرض طرفة عين، كل المعاصي التي وقعت في الأرض على مذهب عبادة الشيطان، وكل مخالفة لله ورسوله على مذهب عبادة الشيطان، لكن الجديد أن يقول رجل: أنا أعبد الشيطان، هذا هو الجديد في الموضوع، كان الرجل يفعل المعصية عامداً ويقول: أنا جاهل أنا لا أدري أن الأمر بخلاف ذلك ويقول: أنا غلبني هواي المهم لا بد أن يعتذر، ولا يصرح أنه يعبد الشيطان، الجديد في المسألة التصريح.
الذين يقولون: نعبد العجل العجل عبارة عن لحمة وجلد.
والذين يقولون: نعبد الشمس الشمس منبع الأشعة.
فالذين يعبدون الشيطان أي ميزة فيه؟ وليس معنى الكلام أنني أجوز عبادة البقر أو عبادة الشمس؛ لكن مذهب ليس فيه أي ميزة على الإطلاق، من الذين أشاعوه؟(18/2)
القصص العابثة وعبادة الشيطان
مذهب الشيطان كتبه رجل ليس له من اسمه نصيب (توفيق الحكيم) لا توفيق ولا حكمة، كتبه في رواية، ونشرت وطبعت عشرات المرات عنوانها: (الشهيد) الرواية هذه خلاصتها أن الشيطان أراد أن يتوب فذهب إلى أعلى سلطة دينية شيخ الأزهر، وقال له: أنا مخطئ واعترفت بخطئي، وأريد أن أتوب.
قال له: تريد أن تتوب؟! لا.
كيف تتوب؟! سيبطل القرآن بتوبتك، القرآن يلعن الشيطان، والمؤمنون يستعيذون بالله من الشيطان دائماً، فلو تبت فمن نستعيذ؟! لا.
بقاؤك ضروري.
قال الشيطان: وأنا أكون ضحية من أجل أن يستعيذوا مني فأدخل النار؟ أنا أريد أن أتوب.
قال: فأفحم شيخ الأزهر ولم يجد جواباً، ولما لم يجد جواباً، قال: والله توجد سلطة أعلى مني، وهذا ليس من اختصاصي، أنا اختصاصي إعلاء مجد الأزهر، وأن أنشر الدين بين الناس، إنما مسألة قبول توبتك هذا لا أقبلها، ليس من اختصاصي.
قال: إذن دلني.
قال له: عليك بجبريل.
فيصعد ويجد جبريل فيقول له: أريد أن أتوب! أنا مخطئ.
فيقول له جبريل: كيف تتوب؟ كيف نقبل توبتك؟ إن السماوات والأرض قائمة على لعنتك، لا نقبل منك توبة، على أي حال هذا ليس من اختصاصي.
قال: فلمن أذهب إذن؟! قال: اذهب لربك.
فلما ذهب إلى الله لعنه وطرده.
نزل إبليس من فوق وهو يصرخ بأعلى صوته ويقول: أنا شهيد! أنا شهيد! أنا شهيد! وبعد ذلك يقول الكاتب: وتجاوبت معه السماوات والأرض والأشجار والأحجار والرمال كلها قالت: أنا شهيد! أنا شهيد! معنى هذا الكلام أن السماوات والأرض والجبال تقر أن الشيطان مظلوم.
إذاً: النتيجة أن الله ظلم إبليس.
هذه هي القصة، وهذا رجل فارس من الفرسان الذين شكلوا عقائد وثقافات الجيل المنصرم، أن الشيطان مظلوم!(18/3)
لماذا يعبدون الشيطان؟
ولكن أبين لكم إلى أين تذهب هذه القافلة التي تعبد الشيطان، نعم هم شرذمة قليلون ليسوا شيئاً بجانب سواد الأمة الذي رجع إلى الله؛ لكن معظم النار من مستصغر الشرر، وكان العرب يقولون: (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له) لا تنم لعدوك ولو كان نملة، فما جاءت الطامات الكبيرة إلا بهذا القول: إنهم شرذمة قليلون لا قيمة لهم، لا.
نحن نندد بهذا إعلاءً لكلمة الله عز وجل، وإعذاراًَ إلى الله أننا أنكرنا عليهم وأننا تكلمنا.
شاب من ضمن الشباب الذين يعبدون الشيطان قيل له: لماذا أنت تعبد الشيطان؟ قال: نحن نعبده لنتقي شره وغضبه.
فكيف هان عليهم غضب الله؟! إذا كان الإنسان لا بد أن يعبد شيئاً ليتقي غضبه فلا، يعبد إلا الله؛ فإن الله عز وجل إذا غضب لا يقوم لغضبه شيء، والشيطان برغم قوته ملَّكك الله أكتافه، هو أقوى منك وأنت أضعف؛ لكن ملكك الله أكتافه، ولكن به تبارك وتعالى إذا قلت: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، لا يبقى أمامك أبداً، ولذلك كان شيطان الإنس أعتى من شيطان الجن في هذا الباب، شيطان الجن تتقيه بالاستعاذة، شيطان الإنس لو قرأت عليه القرآن كله ما يتحرك، فملكك الله شيطان الجن بالاستعاذة.
وبعد ذلك يقول شاب منهم: إن الله لم يعطه فرصة للدفاع عن نفسه، لمجرد ما أبى قال له: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18] انظر! يتكلمون عن الله! يقولون: مجرد ما اعترض طرد.
وربنا سبحانه وتعالى ذكر أن جنايات الشيطان ثلاث: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
ولا يقال عن إنسان أبى إلا إذا كان باختيار، فإن الذي يفعل مجبوراً لا يقال أبى، ولذلك تسقط الواجبات كلها بالعجز.
نحن نقاوم مذهب الشيطان بكتاب الله، فهو كله ضد مذهب الشيطان، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ضد مذهب الشيطان.
إن الذي أفزعنا هو هذا السكوت عن هذا المذهب، وأصحابه قد أعلنوه؛ وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: من أعلن عاقبناه، ومن أسر فهو إلى الله.
إذاً: الإنسان العاصي إذا أظهر العصيان ارتكب جريمتين: جريمة المعصية، وجريمة إظهار المعصية.
أما إذا أسر بالمعصية فهذا أمره إلى الله.
الذين يتبعون الشيطان في الدنيا كثير؛ لكنهم يعتذرون ويبررون ويبرئون أنفسهم أن يكونوا تابعين للشيطان.
نحن الآن مقبلون على مرحلة عصيبة بيننا وبين اليهود، كتبهم تنطق أنه قبل عام (2000م) ستكون هناك حرب عظيمة؛ لأن الدجال في اعتقادهم -والدجال هو إمام اليهود- سيظهر عام (2000م)؛ كما في تلمودهم وكتبهم التي كتبوها بهذا الشأن، فهم يسعون أن يجتمع اليهود جميعاً خلف إمامهم -وهو الدجال- وهم لذلك يعدون العدة، وتباشير الحرب قائمة.
والقادة العسكريون في بلادنا كتبوا على صفحات الجرائد أنهم قبل عام (2000م) يتوقعون حرباً، ويقولون: نحن نتوقع بحسنا العسكري أنه ستكون هناك حرب قوية بيننا وبين اليهود قبل عام (2000م).
فأين شبابنا الذين يدافعون عن دينهم؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمننا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(18/4)
المعادون للأنبياء هم الطبقة الذين خرج منهم عبدة الشيطان
الذين عادوا الأنبياء والدعاة إلى الله عز وجل هم الطبقة الذين خرج من صلبهم عبدة الشيطان، المترفون الذين أهلكهم الترف والمال وغرقوا في الجهل إلى الوحل، هذا نسلهم، ما لهم أي ميزة، بل هم وبال على الأرض، هم الذين كذبوا الرسل وهم الذين عادوهم: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون:33] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116] وفي مسند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه وأصل الحديث في الصحيحين لكن اللفظة التي أذكرها في المسند، في حديث الشفاعة: أن الناس يذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم، فلما جاءوا إلى نوح أحالهم إلى إبراهيم عليه السلام قال: عليكم بإبراهيم خليل الرحمن، فجاءوه فذكر كذباته ومن ضمنها أنه أتى على جبار مترف فقال إبراهيم عن امرأته: إنها أختي.
أتى على جبار مترف عاث في الأرض فساداً بسبب طغيان المال مع الجهل، فاستغنوا عن الله وعن رسوله، واستغنوا عن دينه سبحانه وتعالى، وهذا نطق به الوحي المبين؛ قال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] لماذا؟ {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] لا يطغى إنسان إلا مستغنياً، ومصداق ذلك هذه الآية أيضاً: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] لماذا يبغون مع بسط الرزق؟ لأنه لا يحتاج أحد إلى أحد.
تخطئ علي لماذا أداريك؟ تسيء إليَّ لماذا أتحمل إساءتك؟ أنا غير محتاج لك، فبسْطُ الرزق على العباد يودي بهم إلى الطغيان، لذلك جعل الله عز وجل هذا محتاجاً إلى ذاك، فأنا إنما ألاطفك لأنني أحتاج إلى رزقك وعونك؛ لذلك تحملت الإساءة.(18/5)
العلماء جهاز الأمن والمناعة للأمة من الفتن
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
إن جهاز المناعة للأمة المسلمة هم العلماء، وهذا القول مؤيد بالوحي ومؤيد بفتاوى العلماء الكبار؛ أن الأمة لا تصلح إلا إذا صلح علماؤها.
والشاعر يقول في البيت المشهور: يا رجال الدين يا ملح البلد مَن يُصْلِحُ الملحَ إذا الملحُ فَسَدْ(18/6)
أهمية الاعتناء بتراجم العلماء
وهناك محنة أخرى جسيمة بلينا بها؛ لكن الجماهير من الناس لا تشعر بها، هذه المحنة هي ضياع علوم التراجم.
معروف أن العلم لا يؤخذ إلا من العدل، الإنسان العدل التقي لا يؤخذ العلم إلا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] يعني: توقف في قبول خبر الفاسق.
إذا كان العالم الذي يظل يعرف هؤلاء الناس، هل نتوقف في علمه؟ لا.
لأن الأصل في العلماء العدالة؛ لكن إذا قلنا: إن ثمة عالماً فاسقاً إذاً: لا ينتفع الناس بعلمه لماذا؟ لأن الأصل في كلامه أننا نتوقف.
إذاً: الأصل في قبول العلم العدالة، والعدالة هي: مَلَكَة تحمل صاحبها على ملازمة الدين مع البراءة من الفسق وخوارم المروءة، والمروءة ليس لها حد، فهي تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان.
فمثلاً: ذكر أبو الطيب الوشا في كتابه (الظرف والظرفاء) أن من خوارم المروءة: الالتفات في الطريق.
فهذا كان في الزمان القديم، أيام أبي الطيب الوشا في القرن الثالث الهجري، فكيف في هذا الزمان لو كنت في بلد مثل القاهرة إذا لم تلتفت ستروح في شربة ماء، لا بد أن تتلفت مثل السارق، لأنه ربما يعكس قائد السيارة الطريق فينهي حياتك في صدمة واحدة.
لكن لو أكثرت الالتفات على أيام أبي الطيب الوشا يقبضون عليك مباشرة.
لماذا؟ لأن عندهم لا يلتفت إلا السارق.
وهذا شعبة بن الحجاج رحمه الله إمام أهل البصرة ترك الرواية عن أحد العلماء الثقات، لأنه رآه يركب برذوناً يجري بلا سرج.
فالمروءة كانت عندهم هكذا، لكن المروءة عندنا مختلفة، فكلمة خوارم المروءة تختلف من زمان إلى زمان، ومن عصر إلى عصر، فنحن ننظر مثلاً في عصرنا، ما الذي يخرم المروءة؟ نقول: يخرم المروءة مثلاً كذا وكذا إذاً: لا يجوز للعالم أن يرتكب هذه الخوارم.
لماذا؟ حتى تصل كلمته إلى الناس بلا عقبات.
لكن في هذا العصر يوجد كثير من العلماء، ولا أحد يدون تراجم هؤلاء العلماء ولا يذكر أخبارهم، ولا يذكر عنهم أي شيء.
يأتي بعد مائة سنة مثلاً وهناك من له كتب ومؤلفات وهو كان في زمانه لا يسوى شيئاً لكن بعد ستمائة سنة صار شيخ الإسلام، فينقل عنه من بعده ويقول: وقال شيخ الإسلام فلان الفلاني.
ونحن كلما اقتربنا من الساعة يقل العلم ويظهر الجهل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة: أن يُرْفَع العلم، وأن يكثر الجهل، وأن يقل الرجال، وأن تزيد النساء، ويتبع الرجل خمسون امرأة) انظر إلى الفتنة العظيمة المدلهمة هذه! يُرْفَع العلم؟ (إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور الرجال ولكن يقبض العلماء).
ولما دفنوا حماد بن سلمة قال عبيد الله بن أبي عائشة: لقد دفنا اليوم علماً كثيراً، وكم أخذت الأرض من العلوم!.(18/7)
حياة الأمة لا تصلح إلا بالعلماء
العالم هو الذي يصلح حياة العوام، والعوام بغير عالم في محنة عظيمة جسيمة أعظم من عدم وجود طبيب في بلد يفشو فيها الوباء.
العلماء هم البقية الباقية الذين يعرفون الناس برب الناس، لا أحد يعرف الله حق معرفته إلا العلماء كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28].
فهذا العالم هو الذي يعرف العوام بربهم، فعندما يكون هناك طعن في العلماء وإزراء بهم يقل قدر العالم عند الناس.
والعجيب أن هناك رجلاً نشر كتاباً فيه إزراء بالعلماء جمع فيه كل الشواذ والطوام التي وقف عليها في قراءته ضمن هذا الكتاب، فمن الأشياء التي ذكرها أنه: ذَكَر عن الشاطبي رحمه الله -وهذه الواقعة موجودة فعلاً في كتاب الموافقات للشاطبي - يقول: إنه كان هناك مفتٍ كبير في الأندلس، وكان صاحب مال كثير، وكان يحتال حتى لا يخرج الزكاة، وكان له أبناء، فقبل أن يحول الحول بيومين أو ثلاثة يجيء بأولاده ويقول: والله يا أبنائي أنا كبرت سني، والإنسان لا يعرف الحياة من الموت، وأنا قررت أوزع عليكم أموالي.
والله يا أبانا فعلتَ خيراً -والعيال متفقون مع الوالد- عملتَ خيراً والله، وجزاك الله خيراً.
ويأخذون الأموال، وبعد ما يحول الحول بشهر يزورونه ويقولون: يا أبانا! أنت ما زلت لم تمت إلى هذا الوقت، ونحن نؤمِّل طول عمرك، ونأمل سلامتك، ولا نقبل أبداً أن نستمتع بالفلوس وأنت حي، تفضل خذ مالك.
فيرجعون المال إلى أبيهم ثانيةً بعد أن يحول الحول.
الأندلس أو الأمة الإسلامية إذا كان فيها عالم أو اثنان أو ثلاثة يعمل مثل هذا الفعل، فأين بقية العلماء الصالحين الذين ما كانوا يداهنون ولا كانوا يبيعون دينهم أبداً بعرض من الدنيا.
هذا الحسن البصري لما سئل عن قول الله تبارك وتعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:187] قال: الثمن القليل الدنيا بأسرها.
الدنيا بأسرها لا تساوي آية هدى ولا نصف آية هدى ينزلها الله تبارك وتعالى.
فعندما يعرضون هذه النماذج السيئة ليس قصدهم إلا أن تقل مكانة العلماء في نفوس العوام، فإذا صدرت فتوى من عالم لا يعيرها الجماهير التفاتاً.
وهناك مقال كتبه أحدهم يقول فيه: الرسول صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية! أنا أريد أن أعرف ما هو قيمة البحث في هذا؛ والعجيب أنك أول ما تأتي تنظر في الكتاب تجده بحثاً علمياً محضاً، نحن كلما نذكره نقول: عليه الصلاة والسلام، ونحن نوقره ونبجله أكثر منكم؛ لكن نحن ربما نتوصل إلى شيء يفيد العلم، فهؤلاء لم يجدوا إلا جثة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشرحوها؛ وربما غداً يطلع مرض جديد، وبعده يطلع مرض جديد، ومع كل مرض يتكلمون عنه عليه الصلاة والسلام كما لو كان إنساناً عادياً جداً.
لابد من توقير الرسول عليه الصلاة والسلام ومهابته، وإن أحد مس من جنابه الشريف ولم تعترض الأمة على ذلك فإن توقير الرسول صلى الله عليه وسلم يزول شيئاً فشيئاً، فهذه المقالات بعد قرن تجني ثمارها يأتي أناس عندهم نفس طويل جداً.
فيعرضوا حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه السرعة على الجرائد والمجلات، فيبقى عندهم من السهل جداً أن يقولوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام مات بالزائدة الدودية، وقد يستطيل الكلام إلى أكثر من ذلك، فتتكلم الأمة في رسول الله كلاماً لا توقره ولا تبجله فيه.(18/8)
رعاية طلبة العلم
إذاً: فإصابة هذا الكيان الخطير المهم هو إصابة للأمة كلها، لكن نقول: يا جماعة! اهتموا بالعلم وطلبته، يا من تؤدون الزكاة! أنفقوا على طلبة العلم، انظروا إلى أي طالب علم، فهو أفضل من الفقير؛ لأن طالب العلم فقير بطبيعة الحال، إما فقير أو مسكين، والفقير هو الذي لا يجد شيئاً، إذاً: أكثر طلبة العلم مساكين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر المسكين قال: (هو الذي يجد ما لا يكفيه).
والشيخ الألباني حفظه الله أفتى أن كل موظفي الدولة مساكين يستحقون أموال الزكاة، لماذا؟ لأنهم يجدون مالاً ولكن لا يكفيهم، وهذا الكلام نحن نقوله أيضاً، لأنه أحياناً يأتيني رجل يسألني فيقول: جاءني موظف له عشر سنوات وهو موظف هل يجوز أن أعطيه زكاة أم لا؟ ويستكثر عليه لأنه يجده في الصباح وهو لابس ومتأنق، وذاهب إلى الشغل فيقول لك: ها هو حالته ميسورة.
لا، المسكين وصفه هو الذي يجد لكن لا يكفيه، فكل من يجد ما لا يكفيه في حدود المعروف يكون مسكيناً.
إذاً: فطالب العلم الفقير عندما تفرغه وتنفق عليه وتقول له: الوقت الذي تعمل فيه فرغه لهذه الأمة.
فما من رجل يهتدي على يد هذا الرجل إلا أنت قسيمه في الأجر، أفضل من أن تطعم فقيهاً له عمامة فقط، ولست عارفاً ماذا يعمل، فقد يكون هذا الرجل لا يصلي قد يكون عدواً لله ورسوله قد يحاد الله ورسوله!! إذاً: هذه مسئوليتنا جميعاً وليست مسئولية فرد أو اثنين، وهي: إيجاد العلماء.
عندما يقرأ الواحد منا في الأسانيد، ويجد شخصاً يقول: حدثني أبي حدثني جدي، يشعر بغبطة أين هذا النمط الآن؟ هل يوجد شخص ما يقول: حدثني أبي، وينقل شيئاً من العلم الآن في جيلنا؟ هذه الظاهرة كانت منتشرة بكثرة عند السلف، حدثني أبي، حدثني جدي؛ لكن فقدت في هذا الجيل تماماً.
لماذا؟ خلت البيوت من أهل العلم.(18/9)
صلاح الآباء
إن للآباء دوراً هاماً في تنشئة الأجيال، وأثراً عميقاً في نفوسهم، فكان لابد من تبصير الآباء بحقيقة رسالتهم التي ينبغي أن يسيروا عليها ويعلموها أولادهم؛ لأن الولد يتابع والده في حركاته وسكناته، فصلاح الأجيال منوط بصلاح الآباء، وإذا فسد الآباء فسد الأبناء (ولا يستقيم الظل والعود أعوج) وإن الناظر إلى حال البشرية على مر العصور يجد أن الكفر بالله تعالى والصد عن سبيله إنما كان باتباع سنن الآباء واقتفاء أثرهم، فكان من الواجب بيان أهمية صلاح الآباء وأثرهم على أولادهم.(19/1)
أثر الآباء في تربية الأبناء
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:5 - 7].
إن جيل التمكين يبدأ من الرضاعة، وأي أمة تريد أن تنتصر على عدوها ويُمَكَّن لدينها ومذهبها، إنما يبدأ ذلك من الرضاع.
والآباء الذين يتولون تربية الأبناء، إذا لم يعرفوا حقيقة رسالتهم، فلا يمكن أن يخرج جيل التمكين.
فلابد من صلاح الوالد أولاً؛ لأن للوالد أثراً عميقاً في نفس ولده.(19/2)
اتباع سنن الآباء سبب في الصد عن سبيل الله
إن شطر الكفر الموجود في الأرض سببه الآباء.
أرسل الله عز وجل أنبياءه إلى الأرض، فأرسل نوحاً عليه السلام إلى قومه فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء، {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]، فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء.
ثم أرسل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام فصدوا عن سبيل الله أيضاً بسنة الآباء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:51 - 53].
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:69 - 74].
ثم أرسل الله عز وجل موسى إلى قومه فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء، قال موسى لقومه: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:77 - 78].
وأرسل الله عز وجل صالحاً عليه السلام إلى ثمود، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوَّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62].
وأرسل الله عز وجل شعيباً إلى مدين، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87].
وجاء نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قومه فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء أيضاً، {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:21 - 23].
وقال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109].
فسنة الآباء الصد عن سبيل الله عز وجل، اتخذوا سنة الآباء ذريعة؛ وذلك لأن للوالد تأثيراً عميقاً جداً في نفس الولد.
قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200].
فلو كان الواحد منا يذكر الله جل وعلا أكثر من الوالد، فكانوا يأتون في المواسم فيقول القائل: أبي كان على السقاية، وأبي أنفق كذا، وأبي أطعم كذا، ولا يذكرون شيئاً من أمر الآخرة، فقال الله عز وجل لهم ذلك: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200]، (أو) هنا بمعنى (بل)، جاءت لتحقيق الخبر وزيادة، يعني: اذكروا الله أكثر من ذكركم لآبائكم.
وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، يعني: بل هي أشد قسوة.
وكقوله تبارك وتعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يعني: بل يزيدون.
وكقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]، يعني: بل أشد خشية.
وكقول الله تبارك وتعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، يعني: بل أدنى.
وكقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أقرب} [النحل:77]، يعني: بل هو أقرب.
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يعني: بل عابر سبيل.
فـ (أو) هنا جاءت لتحقيق الخبر وزيادة، يعني: اذكر الله عز وجل أكثر من ذكرك لأبيك.
فهذا يدل على أن ذكر الواحد منا لأبيه أمر عظيم، يقضي حياتَه في ذكر الوالد.(19/3)
صلاح الآباء أول طريق إلى جيل التمكين
لما كانت سنة الآباء كذلك، كان واجباً علينا أن نبصر الآباء الذين يبحثون عن جيل التمكين بحقيقة الرسالة التي ينبغي أن يبصِّروا الأولاد بها.
ولا تظن أن ولدك أعمى! ولدُك ينظر إليك مثل الكاميرا المسجلة، قد تفعل الفعل ولا تنظر إليه ولا تأبه له، فيأخذ الولد منه الأسوة والقدوة، كما قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه ما ضيع أبا طالب إلا الآباء، ورفقة السوء، روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعيد بن المسيب بن حزن عن أبيه المسيب، قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أدفع لك بها عند الله -أُحاج لك بها- فقال أبو جهل: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، أترغب عن ملة آبائك، فلا زالا يقولان له ذلك حتى كان آخر قوله: أنا على ملة عبد المطلب).
عبد المطلب كان رجلاً شريفاً في قومه، والفخر بالأنساب أصله الاعتزاز بالآباء، وقد جاء الإسلام فأبطله، وأنت تلحظ في دنيا الناس! يُسَب الله عز وجل بأقذع السباب، فيسمع السامع فيكتفي بأن يقول: أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم فقط، ولو أن هذا الساب سب والد ذلك السامع ما اقتصر على الاستغفار، بل لدخل معه في معركة، ولربما فقد حياته دفاعاً عن والده.
لذلك قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200] لما في نفس الولد من تعظيم الوالد، فـ عبد المطلب كان رجلاً شريفاً في قومه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتسب إليه، بل كان يرتجز ويقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ولما كان يجيء الرجل من البادية مسلماً، فكان يسأل عن محمد بن عبد المطلب، فكان لـ عبد المطلب هذا الشرف، وهذه العراقة عند العرب، وكان العرب إذا احتقروا إنساناً نسبوه إلى جد غامض لا يُعَرف، كما قال أبو سفيان في الحديث الذي رواه البخاري في أوائل صحيحه عن ابن عباس -حديث هرقل - قال أبو سفيان لما دخل على هرقل وجعل يسأله عن الرسول عليه الصلاة والسلام وماذا يقول، كان من جملة ما قال أبو سفيان بعد أن قال هرقل: (فماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا -يعني أوردها على سبيل الاستنكار، أنحن نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد الآباء؟ أوردها أبو سفيان مستنكراً- فقال هرقل: لو كنتُ أعلم أني أخلص إليه -بلا مشاكل من قومي- لأتيته فغسلت موضع نعله، وإن صح ما تقول ليملكن موضع قدمي هاتين، فخرج أبو سفيان وهو يقول: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة)، من يقصد بابن أبي كبشة؟ يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام وأبو كبشة جد أمه الأبعد وهو غير معروف.
فلما أحبَّ أن يسبه لم يقل: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن عبد المطلب؛ لأن النسبة لـ عبد المطلب شرف، وهو لا يريد أن يشرفه، هو يريد أن يسبه، فنسبه إلى جد غامض لا يُعْرَف.
ولذلك الأنساب كانت لها قيمة عند العرب، وهذا كله طَبْعٌ على الافتخار بالآباء وتعظيم الآباء.(19/4)
اتباع سنن الآباء سبب أول كفر على وجه الأرض
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبَدَ اللات والعزى، فقالت عائشة: يا رسول الله! قد كنت أظن أن الله لما أنزل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] قد كنت أظنه تاماً، -يعني لن يعود الكفر مرة أخرى-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله عز وجل ريحاً طيبة فتقبض روح كل مؤمن فيبقى على الأرض من لا خير فيه، ويعودون إلى دين آبائهم).
وأول كفر حدث في الأرض كان سببه الآباء، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، هؤلاء خمسة من صالحي قوم نوح عليه السلام، جاء الشيطان للآباء، فقال: هؤلاء الصالحون إذا ماتوا لم يعلم الأبناء بذلك، فما هو المانع أن تُصور صوراً لهم، فإذا سألك ولدك مَن هذا؟ قل: يا بني! هذا ود، هذا سواع، هذا يغوث.
فيكون وجود الصنم مبرراً ومسوغاً لسؤال الولد إياه؛ فإذا لم يوجد ما يذكره بالماضين نسيهم، ولا تعرف الماضين إلا إذا رأيت أثراً.
ولذلك تجد آثار الفراعنة، تلمح ويسمونهم: أجدادنا.
ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذه النسبة، فليسوا جدودنا، لكن لماذا يلمعون هذه الآثار؟ إحياءً لتراث الفراعنة.
لكن هب أنه لا يوجد هرم، ولا يوجد (أبو الهول)، ولا يوجد رمسيس فيطلع الناشئة من الجيل لا يعرفون من هو أبو الهول، لماذا؟ لأنه لا يوجد مقتضىً ليسأل عنه.
فقال لهم: لما يجد الولد تمثالاً يقوم فيسأل: - ما هذا يا أبي؟ فتقول له: يا بني هذا فلان.
فيقول الولد: من فلان؟ فتقول: فلان يا بني هذا كذا وكذا، وكان رجلاً صالحاً، يقوم الليل ويصوم النهار إلخ.
فأدخل الشيطان عليهم الشبهة من هذا الباب، فصنع الآباء التماثيل وهم آمنون من عبادتها.
فلما مات الآباء الذين كانوا يعرفون ذلك، جاء الأبناء الذين لا يعرفون الحامل للآباء على هذا التصوير، فقالوا: ما صوَّر آباؤنا هؤلاء إلا لأنهم كانوا يعبدونهم؛ فعكفوا على عبادتهم فكان هو أول كفر في الأرض.
ما بين آدم عليه السلام ونوح لا يوجد كفر.
بدأ الكفر في قوم نوح، وهذا كله بسبب تعظيم الآباء.(19/5)
النهي عن الحلف بالآباء
روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، قال: (كانت قريش تعظم الآباء وتحلف بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحلفوا بآبائكم)، ومعلوم أن الحلف تعظيم المحلوف به، ففشت هذه العادة -الحلف بالآباء- لأنه تعظيم لهؤلاء.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يقول: (وأبي، وأبي -يعني يحلف بأبيه، بـ (واو القسم) - قال: يا عمر! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً) انظر إلى عمر! ما حلف بأبيه لا ذاكراً في نفسه ولا ناقلاً عن غيره، كأن يقول: أنا كنت مع فلان فقال: وأبي، يعني: ما قالها من نفسه ولا نقلها عن غيره؛ لأن الله يبغض ذلك: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم).
فهذا هو موقع الوالد وخطورته في حياة ولده.
أنت أيها الوالد! نريد أن يخرج من صلبك جيل التمكين، فهل يستقيم الظل والعود أعوج؟! وهل فاقد الشيء يعطيه؟! فلابد أن تكون -أيها الوالد- عالماً لماذا خُلِقت حتى تورث ولدك هذه المعرفة؛ لذلك كان تبصير الآباء بحقيقة خَلْقهم ضرورة من آكد الضرورات لاستقامة الولد.(19/6)
حديث: (افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
أيها المبتلى الممتحن! -وأنت لا تدري- تعرف ما هي أعظم مصيبة تعترضك في حياتك؟! أعظم مصيبة ليست أن تمرض بمرض عضال، ولا ألاَّ تجد القوت، ولا ألاَّ ترزق الولد، ولا أن تضطهد في الدنيا، ولا أن تسجن، ولا أن تعذب.
لا.
فأعظم مصيبة تعترض الإنسان في حياته قطاع الطرق؛ قطاع الطريق إلى الله.
فالطريق إلى الله فيه لصوص يسرقون قلبك ولبَّك، فلماذا تفرِّط؟ إن الذين ينشرون الشبهات كل يوم يسرقون لبَّك وقلبك.
فهل تحققت وتمسكت بمذهب الصحابة الذي هو الباب الوحيد للنجاة.
أمامك ثلاث وسبعون باباً مفتوحاً، والباب الوحيد الذي ينجيك ويوصلك إلى الله في وسط الثلاثة والسبعين باباً هو باب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهل عرفت علامة الباب؟ إذا لم تعرف علامة الباب ربما دخلت من باب يوصلك إلى النار، وعلى كل باب من هذه الأبواب من يدعو إليه، ويزين مذهبه، ويقول: أنا على الحق، وسائرهم في النار.
فهذه محنة من أعظم المحن.
وإن بعض أهل البدع قد يأتيك من باب الجدل وبسطةٍ اللسان، فما يؤمِّنك أنك إذا أعطيت أذنك لهذا المبتدع شدَّكَ، فإذا دخلت من الباب ضعتَ؟! هذه هي المحنة حقاً؛ لأن أول خطوة لها تبعات فأخطر خطوة هي الأولى.
فهل تحققتَ بمذهب القرن الأول: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنه ليس شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته).
إذاً: علامة الباب الوحيد معروفة، وليست بمجهولة، ودورك أن تبحث عن علامة الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة، والبحث عنه أولى من طلب لقمة الخبز، بل أولى من سفرك إلى الخارج تبتغي العلاج أو الرزق، فحياتك في الدنيا والآخرة مرهونة بالاستقامة على هذا الطريق، ولا تصل ولا تلج الطريق إلا من هذا الباب.(19/7)
التظاهر بالزهد والورع من أساليب المبتدعة في جذب الناس
إن المبتدعة لهم طرائق قدداً في خطف قلبك، منها: الورع وترك الدنيا، فلا يزاحمون أهل الدنيا.
هذه علامة لهم، يقضي النهار في الذكر والليل في القيام، كما هو حال الخوارج، وقال بعض من رآهم: (رأيت في جبهته مثل ركبة العنز) من الصلاة والسجود، فيخطف قلبك، وأنت رجل أول ما ترى هذا الطراز وهذه العبادة تقول: هذا ولي لله؛ لكن لا تتحقق بمذهبه، ولا تعرف منهجه، فيخطف قلبك بهذا السمت، وهذا المنظر.
ففي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، إذ جاء رجل قصير الثياب، عليه علامة الإخبات -والزهد والخشوع-، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحثو المال -كلما يأتيه أحد يعطيه- حثواً بغير عد، -المهم لما جاء الدور على هذا الرجل، كان المال قد انتهى-، واغتاظ وتغيَّر قلبه، وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله؟ يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل، فإنك لم تعطني، وأعطيت الناس حثواً، فلو عددت لكان قد نالني شيء، اعدل فإنك لم تعدل، فقال له: ويحك! ومَن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل، فقال عمر -وفي الرواية الثانية: خالد - يا رسول الله! مرني بضرب عنقه، قال: دعه -هذا الخطاب موجه إلى عمر -، قال دعه، فإن له أصحاباً، وفي الرواية الثانية: فإنه يخرج من ضئضئ هذا -والضئضئ: الخصية كناية عن الأصل، يخرج من أصل هذا الرجل- أقوام يحقر أحدكم -يا عمر - صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) يخرج بمنتهى السرعة، أين الصلاح؟ وأين الصيام؟ وأين قراءة القرآن إذا لم يستخدم المرء هذه العبادات للثبات على الحق؟ ما قيمة الصلاة إذَاً؟ هذا الرجل مع صلاته التي يحتقر عمر بن الخطاب صلاته إذا نظر إليها، ترى كيف يصلي؟ فهذا معناه: أنه لا يأكل ولا يشرب، واقف طول النهار يصلي، فإذا كان مثل عمر يحتقر صلاته مع صلاة هذا الخارجي، ويحتقر صيامه، وعمر بن الخطاب معروف وكذلك عبادته وزهده، وهذا الخِطَاب إذا وجه إلى مثل عمر فهو موجه إلى من دون عمر من باب أولى.(19/8)
أحب الأعمال إلى الله أدومها
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا من العباد قال عبد الله بن عمرو بن العاص -كما روى ابن حبان في صحيحه-: (جمعت القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة).
كل ليلة يقرأ القرآن كله.
يقول رضي الله عنه: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة، فزوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش.
-وعند الإمام أحمد من رواية مجاهد عن عبد الله بن عمرو -: قال: فلما أُدْخَلَتْ علي -العادة أن الرجل يقول فلما دخلت بها، هذه هي العادة؛ لكن انظر إلى هذا التعبير- (فلما دخلت علي) -يعني هو لا يريدها، وما كان يريد أن يتزوج أصلاً، ولكنهم أدخلوها عليه.
هذا كله يبين لك شدة إقباله على العبادة-، فلما أُدخلَت علي جعلت لا أنحاز لها، ولا أنظر إليها -إطلاقاً، وذهب إلى غرفة -مثلاً- مجاورة، وظل يقوم الليل، هذا حبه وهواه، وقد صارت صلاته متعة، كما يستمتع العصاة بالمعاصي يستمتع أهل العبادة بالعبادة، بل هم أشد استمتاعاً بالقرب من الله عز وجل، لأن هذا يورث ذكاء القلب- فكان عمرو بن العاص يعلم أو استشعر أن ابنه سيفعل ذلك- فلما أصبح جاء يسأل زوجة ابنه: كيف الحال؟ قالت: عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله: فجاء أبي فسبني وعزمني -أي لامني- وعضني بلسانه، وقال: أنكحتك امرأةً ذات حسب من قريش فعضلتها، وذهب يشكوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأرسل إليه النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأه كل ليلة.
قال: اقرأ القرآن في أربعين.
قال: أقدر.
قال: في شهر.
قال: أقدر.
قال: في جمعة.
قال: أقدر.
قال: في ثلاثة أيام.
قال: أقدر.
قال له: لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فإنه من قرأه في أقل من ثلاث لم يفقهه.
وقال له: كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم.
-فظل ينزل به- في الرواية: قال: فجعل يرقى بي، فقال: صم ثلاثة أيام.
(فقال: أقدر، فقال له: صم يوماً وأفطر يوماً).
إذاً: الواقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينزل؛ لكن عبد الله بن عمرو قال: (فجعل يرقى بي) أتعرف لماذا (يرقى بي)؟ لأن الله عز وجل لا يمل حتى يمل العبد، فإذا صام كل يوم انقطع عزمه، فيكون قد نزل، تنزل عبادته إذا أدركه الفتور والملل؛ لكن إذا عَبَد الله عبادةً مقتصدة، فيُثْبِت عَمَلَه ويداوم عليه، هذا هو الرقي، فهو إنما ينزل به ليرقى عند الله عز وجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب العمل إلى الله أدومُه وإنْ قَل).
تريد أن تتصدق؟ تصدَّق بجنيه واحد في الشهر؛ لكن ثَبِّتْه.
تريد أن تكون محبوباً؟ صلِّ ركعتين فقط قيام ليل، وثبِّتها، لا تصلِّ (100) ركعة في ليلة وتظل تنزل عن ذلك حتى تترك ليس هذا محبوباً إلى الله تعالى.
المحبوب أن تعمل العملَ ولو كان قليلاً، وتداوم عليه.
ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله -عز وجل- أدومُه وإنْ قَل).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(19/9)
نماذج مشرقة من حياة الصحابة في الزهد والعبادة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم) وقد أريتكم نموذجاً لـ عبد الله بن عمرو.
خذ نموذجاً آخر لـ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: (كنت شاباً عزباً أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يرون رؤىً فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم فيعبرها لهم) وهناك بعض الرؤى كانت بشارات مثل رؤيا عبد الله بن سلام أنه أمسك بحلقة في السماء، فقص على النبي عليه الصلاة والسلام الرؤيا، فقال: (عبد الله مستمسك بالعروة الوثقى).
وفي الرؤيا الأخرى لما رأى نفسه على قمة الفسطاط؛ فقال له: (أنت تموت على الإسلام)، بشارة من أعظم البشارات.
فـ عبد الله بن عمر كان يسمع تعبير الرؤيا وكبده يتفتت، يتمنى أن يرى رؤيا هو أيضاً، حتى يحكيها فيقول له: أنت من أهل الجنة، فيستريح، فتكون بشارة قال: (فقلت لنفسي ليلة: لو كان فيك خيراً لرأيت رؤيا.
قال: فنمت ليلة فرأيت رؤيا، رأيتُ مَلَكين يجراني إلى النار، وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، فلما وقفت على شفيرها، إذا أناس معلقون من أرجلهم عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فجاء ملك فأخذني منهما وقال لي: لم تُرَع -أي: لم تخف- فاستيقظت فاستحيا أن يقصها على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقصها على حفصة أخته -أم المؤمنين رضي الله عنها- فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم -فجاءت البشرى- فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، بشارة مشروطة، قال الراوي: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً.
هذا هو الجيل الفريد: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، هذا هو الجيل الناصع، غُرَّة في جبين الزمان، لا تجد مثلهم من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الزمان، لأنه جيل فريد.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (نظر الله عز وجل في قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحابه له).
اختارهم الله له، لذلك فهو جيل يشرف والأسوة به ممكنة، بل واجبة.
مثال آخر عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا رأى عبداً صالحاً -من عبيده- عليه أمارات الصلاح والنجابة، والإخبات والخشوع، أعتقه.
يقول له: أنت حر، فإذا قال لعبدٍ من العبيد: أنت حر، فكأنه تصدق بثمن العبد، فأعتق عدداً من العبيد، فلما رأى العبيد هذا تظاهروا بالصلاح والزهد والخشوع، فجاء ابنه -ابن عبد الله - قال له: (يا أبتِ! إنهم يخدعونك، وهذا تفريط.
أي: تَحَقَّقْ من المسألة؛ لأن هناك بعض العبيد يخادعون، فقال: يا بني! من خَدَعَنا في الله خُدِعْنا له.
ولم يأسف عبد الله بن عمر على خروج المال حتى وإن كان في غير مظنته.
إنه يعامل ربه، ولا يعامل الخلق.
هذا هو الوجه المشرق الناصع للجيل الفريد الذي مكن الله عز وجل له في عشر سنوات فقط، رأيتم رجالاً كوَّنوا دولة على وجه الأرض في عشر سنوات!! وما تكون السنون العشر في عمر الزمان؟! في عشر سنوات كانت لهم دولة.
إذاً: الباب الوحيد له سمة وله علامة، ونحن نذكر علامات أبواب أصحاب البدع حتى لا تخطف قلبك، وهم على اثنين وسبعين باباً، وتبحث عن الباب الوحيد الذي ينجيك لتكون عارفاً بالعلامة؛ لأن صلاح ولدك لا يكون إلا بصلاحك؛ ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعلماء يقولون في المناظرات لَمَّا يكون الدليل غير مستقيم يكون الاستنباط غير مستقيم.
يقولون: (لا يستقيم الظل والعود أعوج).
العود الذي هو: الوالد؛ لأنه هو الأصل، والظل فرع عن العود، وهو أثر من آثار العود، والعلماء كانوا يقولون: ثبت العرش ثم انقش، تريد نقشاً حسناًَ؟ يعني واحدٌ شَغَّال في الزخرفة، إذا أحب أن يزخرف لوحة لا يضعها على سطح الماء ويزخرف، سطح الماء مُهْتَز، فلا يستطيع الزخرفة.
إذاً: حتى يزخرف لابد أن يثبت العرش.
يعني: يثبت مكان اللوح، فكأنهم يقولون بهذا المثال: إذا أردت أثراً جيداً فثبت الأصل.
إذا: الأصل الوالد، والولد هو الأثر، فلا يكون مستقيماً إلا باستقامة الوالد.(19/10)
الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة
اعلم أن الهدى هو خير ما احتاجه الرجال، وشر البضاعة الضلال، ولمحبة الناس للأشياء المحسوسة جعل الله عز وجل المعاني محسوسة، فقال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، فذكر لفظ الشراء في المسائل المعنوية لمحبة العباد للبيع والشراء، وتكرر هذا المعنى في كتاب الله عز وجل كثيراً: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة:175]، {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16].
إذاً: الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة، فأنت إذا دخلت السوق انظر كيف تختار.
واعلم أن الطريق الحق من (ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
إذاً: دراسة مذهب القرن الأول صار فرضاً وهو العلامة الوحيدة للباب الوحيد: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
وهذا مترجم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وإن كان لفظ: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي) أوسع في الدلالة من حديث الخلفاء الراشدين، لأن حديث (أنا وأصحابي) يشمل التأسي بالصحابة جميعاً.
إذاً: معرفة مذهب القرن الأول صار ضرورة فلننظر: كيف كان اعتقادهم؟ كيف كان سلوكهم؟ كيف كان فقههم؟ هذه مسائل ضرورية إذا كنا نريد النجاة.
يا ليت الأبواب مفتحة بغير دعاة يدعون إليها، لهان الخطب إذَاً؛ لكن في بعض فترات الحياة قد يكون داعي البدعة أشد لساناً وأبسط وأقوى حجة من داعي الحق.
يعني: من عدة سنوات كان صوت العلمانيين قوياً جداً، أما اليوم فرءوس العلمانيين يتساقطون الآن ويموتون، أما في سنة (1960م) وقبلها وبعدها، كان هذا العصر الذهبي لدعاة العلمانية، قمة الذروة بالنسبة لهم، أما الآن فبدءوا يتساقطون.
لكن لماذا برز هؤلاء وظهروا؟ لضعف لسان أهل الحق في ذلك الزمان، مع قوة لسان أهل البدع.
وأعظم بلية تبتلى بها الجماهير، أنه لا يوجد علماء يدلونهم على الطريق، كم من الذين ماتوا وهم يعتقدون أن العلمانية هي الدين الحق، ماتوا قبل أن يصل إليهم -أو يصلوا إلى- دعاة الهدى.
فمحنة عدم وجود العالِم تعم الجماهير، إذ قد يموت الرجل ضالاً لا يعرف الهدى؛ لأنه لم ينتصب له رجل يقول: الطريق من هنا.
إذاً: حاجة الجماهير إلى العالِم أعظم من حاجتهم إلى الطبيب، وأعظم من حاجتهم إلى لقمة الخبز.
هذه الأبواب الثلاثة والسبعون، مرةًَ تجد على باب البدعة شخصاً ضعيفاً لا يستطيع أن يضبط الحجة، ومرةً تجده رجلاً قوياً، وباب الحق عليه رجل ضعيف، لا يضبط الحجة.
فلو أن هذه الأبواب فارغة ليس عليها أحد لهان الخطب، فإذا تزامن أن يكون داعي البدعة في غاية القوة وحجتُه قوية، وقابَلَه ضعف علماء السنة فالخطب حينئذ يكون أشد.
ومن السمت الذي يخطف به المبتدعةُ القلوبَ -كما قلتُ- التجافي عن دار الغرور، والسمت يسبق الكلام -كما قلنا قبل ذلك- سمت الإنسان وشكله يسبق لسانه، أحياناً ترى إنساناً فتعجبك هيئته، وترى عليه أمارات الصلاح ولما تسمع منه شيئاً، وقد يكون كما ظننت وقد يكون على خلاف ما ظنننت.
وأنتم تعرفون طائفة السيخ الذين هم أذل الخلق، عباد العجول، الذين أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، ونحن ألف مليون لم تتقدم دولة باحتجاج رسمي إلى الهند: كيف حولتم المسجد إلى معبد؟ هؤلاء السيخ من علاماتهم طول اللحية وإعفائها، تلقى الواحد منهم لحيته ثلاث أو أربع قبضات، ويلبسون عمامةً، فلو رأيتَه وليس مكتوباً تحت صورته شيئاً ستقول: سبحان الله! كأنه واحد من الصحابة، شكله جميل وفيه رجولة.
وهذا الرجل السيخي -إذا جازت النسبة- لو جاء ووقف أمام المسجد ورأيت عليه عمامة، ولفت نظرك لحية عظيمة، فلو وقف وجعل يفرك في يده، فإنك تظنه يسبح مثلاً، فصورته تخطف القلب، فتأتي فتقول -فأنت تريد أن تتعرف على هذا الإنسان-: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العالِم من أين؟ لكن ما الذي جعلك تقبل عليه؟ شكله وسمته، قبل أن ينطق لسانه وتصور لو أنك ذهبت معه ووجدتما شخصاً يقود عجلاً فأول ما يرى العجل يخر راكعاً! ماذا يكون رد فعلك؟! صدمة لا توصف.
ولذلك التربية تكون قبل التعليم؛ من أجل هذا نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى المتصدرين لتعليم الجماهير أن لا يتدنى ولا يتبسط مع الجماهير، والشيء المباح الذي قد يفعله في خلوته لا يفعله في جلوته، لماذا؟ لأن السمت والشكل يُعلِّم.
قال بعض العلماء لابنه: (يا بني! اذهب إلى جعفر الصادق، وتعلم من سمته وشكله كما تتعلم من علمه)، فكان الواحد إذا ذهب يتعلم من شيخ ينظر إليه كيف يضحك! كيف يبكي! إذا نزل عليه خبر كالصاعقة ماذا يقول! إذا جاءه خبر مفرح، ماذا يقول! ينظر إلى علامات وجهه، ويتعلم منه.
فالسمت سباق، وهذا السمت هو الذي غر الخليفة المنصور في رجل من رءوس البدعة، جمع بين الاعتزال والتجهم، أعوذ بالله من الضلال البعيد، وكان اسمه عمرو بن عبيد، فكان المنصور يخضع لفرط زهده وتجافيه عن الدنيا، فكان إذا رآه يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد فقد كان زاهداً في أموال السلاطين، وزاهداً في القرب من السلاطين، والمنصور يبعث إليه ولا يأتي، يهرب منه، فأعجبه هذا الزهد والسمت، فقد يكون على باب البدعة من هذه الأبواب عمرو بن عبيد، أو خليفة عمرو بن عبيد، رجل قوي اللسان، عنده حسن عرض للشبهات، والشبهة السقيمة في زمان الجهل تكون عملاقة، مثل الإنسان الغير كفء، في غياب الأكابر يصير عملاقاً، فكذلك الشبهة التافهة في زمان الجهل تكون دليلاً.(19/11)
شبهة أبي العلاء المعري في قطع يد السارق
يعني: مثلاً: الشبهة التي قالها الشاعر الزنديق -على رأي كافة الفقهاء ومنهم من يكفره، وهم يخالفون الأدباء في ذلك؛ لأن هذا الرجل عند الأدباء قمة- أبو العلاء المعري في عبارة صريحة، وذكروا له بعض الأشياء التي كفروه بها، فمن ضمنها شبهة ألقاها -ولو أن واحداً من العلمانيين هذه الأيام لقي هذه الشبهة، فسيقول: كفى! هذا الذي سيخدمنا.
رغم أن الفقهاء أجابوا عنها بكلمة ونصف- قال: اليد إذا سرقت ربع دينار تقطع، والمقصود من الدينار دينار الذهب، فدعنا نقول مثلاً: لو افترضنا أن الدينار بعشرة جنيهات.
أي: لو أن شخصاً سرق مائة وخمسين جنيهاً تقطع يده.
إذا دخل الرجل مع آخر في عراك فأخذ أحدهما السكين وقطع يد الآخر، فإنه يغرم الدية، فكل إصبع ديتها عشر جمال، وسيدفع ألوفاً مؤلفة.
أما أبو العلاء المعري فقد اصطاد هذه النقطة، وقال: يد بخمسين مئينٍ عسجد وُديَت ما بالها قطعت في ربع دينار أي: يد غالية.
عندما يعتدي عليها أحدٌ تكون ديتها ألوفاً مؤلفة، وإذا سرقت مائةً وخمسين جنيهاً يقطعونها، ما هذا التناقض؟! يد بخمس مئين عسجدٍ وُدِيَتْ ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوتُ له وأن نعوذ بمولانا من النار أي: يريد أن يقول: هذا تناقض ولكن الله هكذا أنزلها فسلم بذلك، فرد عليه الفقهاء لما بلغتهم المقالة وطلبوه ليقتلوه فهرب، ومن ضمن ما رُد به عليه مقولة جميلة للقاضي عبد الوهاب المالكي، وكان من أعيان المالكية ومن فحول العلماء المحققين، قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
انظر: سطر أو نصف سطر، كلمة ونصف.
وهذه الشبهة لو ألقيت اليوم لكتب عليها مقالات في الجرائد والمجلات، وتصير هذه الشبهة دليلاً من الأدلة وتصير عملاقةً في زمان الجهل.(19/12)
شبهة امرأة تنكر حديث (إني رأيتكن أكثر أهل النار) وتطعن في حكم رجم الزاني
ألقت امرأة شبهة ظلوا يتكلمون عليها ثلاثين يوماً!! انظر! -امرأة وليست رجلاً- والمعروف أن الرجل هو الذي يستطيع الإتيان بالشبه، أما النساء فشبههن على قدرهن، ونزَّلت كتيباً صغيراً: (هل النساء أكثر أهل النار؟) وكأنها تظن أن الجنة والنار داخلة ضمن صلاحيات المرأة، وأنها تتدخل في حرية المرأة.
وهي معترضة على حديث البخاري ومسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي النساء في يوم عيد فوعظهن وقال: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من وسط النساء.
فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) يعني: تظل تلعن في زوجها وتشتم فيه، وتكفر بجميله، يطعمها ويسقيها ويحسن إليها، ومع ذلك أول ما تزعل منه تقول له: ما رأيت منك خيراً قط، وبذلك تدخل جهنم والعياذ بالله.
فالمرأة كَبُر عليها قوله: (رأيتكن أكثر أهل النار) فقامت تعترض، تقول: أكثر أهل النار لماذا؟ هن قاعدات مع البصل والثوم في المطبخ، وتربية الأولاد.
وتقول: من هم الذين صنعوا القنبلة الذرية؟! الرجال أم النساء؟ من هم الذين صنعوا الصواريخ عابرات القارات، يكون أحدهم جالساً يشرب فيضغط على زر، فيدمر مدينةً؟! أهم الرجال أم النساء؟ من هم الذين صنعوا أسلحة الدمار الشامل؟ من هم الذين ظلوا يخططون للحرب الشاملة الضروس في كل مكان في العالم؟ هم الرجال، إذاً: هم الذين يدخلون جهنم وليس نحن.
هذا خلاصة اعتراض تلكم المرأة، وهي لكي تضع الصبغة العلمية على الكلام قالت أيضاً: لكي نبين أننا لا نتكلم من منطلق العاطفة، سنجيء بكلام علماء الحديث، فـ ابن الجوزي يقول: إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن، وهذا ليس معناه أن كل ما في صحيح البخاري يكون صحيحاً، فمن الممكن أن يكون في صحيح البخاري وهو موضوع وكذب، وأمارة الكذب في الحديث -حسب زعمها- أن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحيم الرءوف يجيء إليهن في يوم عيد ويقول لهن: أنتن في جهنم وبئس المصير، بدلاً من أن يفرحهن ينكد عليهن، ويقول لهن: أنتن أكثر أهل النار! فهل هذا يليق بذوقه عليه الصلاة والسلام؟! فتقول: المتن منكر، وإن كان السند من رواية: مالك عن نافع عن ابن عمر، لكن المتن منكر، لا يمكن أن نقبله! أيضاً تقول تلكم المرأة: رجم الزاني المحصن -هو حكم الله عز وجل-.
وتقول: هل الحيوان أغلى على الله من المسلم الموحد؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) أي: لا تجيء بسكين مثلوم وتظل تذبح الخروف، حرام عليك، بل لابد أن يكون السكين حاداً ماضياً لتنتهي من ذبحه بسرعة لماذا؟ لكي لا تعذب الحيوان.
فتأتي هذه المرأة وتقول: هذا في الحيوان فكيف يرجم الزاني، ويظل يعذب ويتألم من الحجارة؟! إذ كان الحيوان يقول الرسول فيه: (فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فلماذا تأخذون في تعذيب ابن آدم هذا؟! أتكون البهيمة العجماء أقرب إلى أن ترحم من الإنسان الموحد؟! ولكنه ورغم أنفها حكم لله عز وجل -ولكن- في زمان الجهل تصير هذه الشبهة عملاقة، وتصير دليلاً.
لماذا؟ لأن أصحاب الحق أضاعوا صوتهم وأقلامهم.
لكن في زمان العلم كل الشبهات تتضاءل، بل الأحكام التي لا تقوم على فهم صحيح تتساقط أيضاً، مهما كان حجم قائلها.
ونحن نجيب على هذا الاعتراض ونقول: إن الله عز وجل شرع الأحكام للمصالح، ولذلك الإنسان إذا عرض له حكم لا يفهم له معنى يقول: الله له حكمة في ذلك، وأفعال الله عز وجل لا تخلو من الحكمة أبداً، فكل فعل له حكمة سواء جلَّت عن أفهام العباد أو عرفوها.
حسناً! الحيوان الأعجم -وربنا سبحانه وتعالى خلق حيواناً أعجم لك لتأكله- ما الحكمة في تعذيبه؟! ما هي الحكمة من تعذيب الحيوان، وأنت ستذبحه لتأكله؟! إذاً: لا حكمة على الإطلاق، فيتنزه حكم الله عز وجل أن يثبت العذاب للحيوان الذي يذبح، إذ أنه يخلو تماماً من الحكمة.
أما الزاني الذي يضرب بالحجارة! وربنا سبحانه وتعالى قال في الحد: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، مع أن الأصل الستر على المسلم، وعلى أصحاب العصيان، هذا هو الأصل في الشريعة: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، قالوا: ومَن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذين عصوا الله عز وجل فسترهم؛ فأصبحوا يهتكون ستر الله)، فيكون بهذا مستحقاً للتعذيب؛ لأنه كشف الستر، والذي كان من المفروض أنه يتركه مُغَطًّى.
الأدلة متكاثرة على أن الأصل أن تستر على أصحاب العصيان، إلا إذا أنضاف إلى ذلك شيءٌ آخر يوجب عليك أن تظهر هذه المعصية.
فإذا كان هذا هو الأصل وهو الستر، فربنا سبحانه وتعالى أمر بالفضيحة التي هي خلاف الأصل! لماذا؟ حتى إذا نظر الرجلُ ورأى الزاني يُجلد أو يرجم فهذه فضيحة ويقول: كنا نظنه مُتَّزِناًَ ومستقيماً، فظهر بخلاف ذلك فيسقط من أعين الناس، والذين يشهدون هذا العذاب يعتبرونه بهذه الفضيحة وهذا العقاب فيكون رادعاً لهم عن اقتراف المحرمات.
قال الله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].(19/13)
الرخص لا تناط بالمعاصي
حكْم علماء المسلمين في المرأة التي تحمل سفاحاً من الزنا أنه لا يحل لطبيب أن يجهضها؛ لأنها إذا حملت من سفاح ثم أجهضت، فإنها ستذهب مرة ثانية وتحمل من سفاح وتجهض؛ لكن إذا علمت المرأة أنها إذا حملت لا تستطيع الإجهاض تفكر ألف مرة قبل أن ترتكب هذا الفعل.
ففضيحة المرأة الزانية جزءٌ أراده الشارع، ولا تقل: أنا أستر عليها، فإنه لا يجوز الستر هنا، كما قال الله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لا تنقل أحاديث الستر إلى أهل العصيان، ثم لا تقل: إن الإجهاض جائز أيضاً.
لماذا؟ لأن العلماء يقولون: إن الرخص لا تُناط بالمعاصي، والأصل بقاء الحمل -الجنين- حتى تلد.
إذاً: المرأة المتزوجة بعقد صحيح إذا حملت فقال أهل الطب: إن في حملها خطراً عليها، وعملوا بذلك تقريراً؛ تقف مقالة أهل الطب عند هذا الحد، ولا يجوز للطبيب أن يقول لها: أسقطي الحمل، فالطبيب يرفع التقرير إلى المفتي فقط، وليس شرطاً أن يكون مفتي الديار، بل إلى من له حق في الإفتاء، فالمفتي يقرأ هذا التقرير، ثم يقول: جائز شرعاً أن تُسْقِط، وإلا فلا يحل للطبيب أن يقول: جائز شرعاً أن تسقط.
إذاً: الطبيب يعمل تقريراً ويرفعه للجهات المختصة صاحبة القرار، وهو الفقيه الذي يقول: جائز شرعاً أن تُسْقِط.
فلما كانت المرأة حملت حملاً حلالاً جاز لها أن تستمتع بالرخصة؛ إذ الرخص لا تناط بالمعاصي؛ لأن الرخصة معناها توسعة وتسهيل، فكيف نسهل على أصحاب العصيان معاصيهم، يعني: لو أن شخصاً مثلاً مسافر لكي يذهب إلى المصيف، فيقول ماذا؟ هيا لنقصر الصلاة.
فنقول له: لا.
يا أخي! قصر الصلاة تكون في سفر المباح أو المشروع، وسفرك سفر معصية، فلا يحل لك أن تستمتع بالرخص، والرخصة هذه لعباد الله الطائعين؛ بينما أهل المعصية لا يستمتعون بالرخص.
فالرخصة تناط بالطاعات ولا تناط بالمعاصي، وقد تفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بهذا القاعدة وهي أنه لا يجوز للمسافر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقصُر الصلاة، وأفتى أن شد الرحل إلى القبر معصية، إنما السنة والمستحب أن تشد الرحل إلى المسجد وليس إلى القبر، كما هو نص الحديث، وقال للذين عارضوه وقاموا عليه: أمهلتُ كلَّ مَن خالَفَني سَنَةً أن يأتيَني بحرف عن الصحابة والتابعين يخالف ما أقول.
وكان رحمه الله إماماً متضلعاً كالبحر الهادر إذا تكلم.
ومعاصرونا من المبتدعة شنعوا وقالوا: السلفيون يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل لهم لماذا؟ قالوا: لأن هؤلاء يقولون: لا تزوروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
لا.
والله، بل هذا كان مذهب القرون الفاضلة، كان الواحد منهم إذا أراد أن يشد الرحل شده إلى المسجد ومِن ثَمَّ يزور، فزيارة القبر متحققة بزيارة المسجد؛ لكن نيتُك الأولى لا تكون إلا لشد الرحل إلى المسجد؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ونفي الاستثناء من أقوى صيغ الحظر.
إذاً: فضيحة المرأة الزانية بجلدها أو رجمها جزءٌ أراده الشارع.
وبهذا ذَهَبَ قولُ تلك المرأة واعتراضُها كضرطة عير في فلاة، لا قيمة لها.(19/14)
غياب العلماء الربانيين عن المجتمع سبب البدع والضلالات
إن غيابَ العلماء الربانيين من أعظم المحن التي تبتلى بها الجماهير؛ لأنه بقدر غياب العالم يكون غياب علوم النبوة، وبقدر غياب علوم النبوة يكون الجهل الفاشي في الناس، فيَلْقَون الله عز وجل لا يعرفون كثيراً مما أمروا به، ولا يعرفون كثيراً مما سن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه المحنة -محنة الأبواب الثلاثة والسبعين باباًَ، والموجودة أمامنا جميعاً- محنة عظيمة جسيمة، والخلاص منها طريق: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
إذاً: لابد من دراسة زمن النبوة، لنعرف كيف كانوا يفقهون ويختلفون؟ وكيف كانوا يتسامرون؟ ونحن نمثل مثالاً لذلك، وربما الكثير يعرفونه: فنقول: إن العلاقة بين الواقع والمثال مثل الهرم أو مثل المثلث حاد الزاوية.
الواقع: الذي هو واقع المسلمين وتطبيقهم لدينهم.
المثال: الذي هو النص: قرآناً وسنةً.
الضلع الأول: الواقع.
والضلع الثاني: المثال.
طيب! النقطة التي هي رأس المثلث لا أبعاد فيها، ليس فيها طول ولا عرض، ولا مسافات، وإذا سلَّمنا أن لها مسافات فهي مسافات لا تكاد تذكر في عالم الأرقام.
نبدأ نلاحظ المسافة بين الضلعين النازلين من النقطة، فنجد أنه كلما تنزل تزداد المسافة بُعداً بين الضلعين.
فما هو المطلوب منك؟ الطلوع أم النزول؟ إذا نزلت سترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وسترى الناس يدورون بين بدعة ورِدَّة.
مثلاً: رجل لا يصلي، فلما تنصحه يقول لك: يا أخي! أنا رضي الله عني! يوجد من الناس من يزني، وفلان يسرق، وفلان يرتشي، وفلان يأكل الربا إلخ.
أو أن تجد شخصاً يسبح -مثلاً- على المسبحة فتقول له: يا أخي! التسبيح بالأنامل أولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (اعقدن التسبيح بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات)، فيقول لك: رضي الله عني، فالناس غافلون عن هذا وهم سادرون في غيهم؛ في الملاهي والمقاهي! مع أن المسبحة كانت منكرة عند السلف رضوان الله عليهم.
كلما نزلت إلى تحت ترى تدنياً، فأصبح من هذا حالهم يتأسون بالشر، مع أنه لا أسوة في الشر، يعني: الموظف الذي اختلس مائة ألف، ومسكوه أمام المحكمة وحاكموه، يقول: وما هي المائة ألف هذه؟ هناك شخص أخذ أربعة ملايين.
فانظر: المقارنة هل تقبل منه؟! لكن الصحابة لم يكونوا هكذا، والصحابة مثالهم عالٍ رفيع، وإنما يحصل نوع من التدني في الأسوة كلما نزلت إلى تحت.
إذاً: حتى تنجو أنتَ وينجو أولادك اطلع إلى فوق، وماذا يعني تطلع إلى فوق؟ فلنضرب لهذا مثلاً: وهو المثلث فهذه النقطة التي في الأعلى هي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أبعاد فيها، ولا اختلافات.(19/15)
فقه الخلاف في حياة الصحابة
ثَمَّة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة، وقد كانت عقول الصحابة كبيرة، وإيمانهم عالٍ، فكانوا يعذرون بعضَهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) جماعة من الصحابة رضي الله عنهم نظروا إلى الخطاب، وقالوا: هناك مفهوم ومنطوق، فالمنطوق وهو ظاهر الكلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) إذاً: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة، حتى ولو لم ندخل إلا بعد العشاء، وجماعة أخرى قالوا: لا.
نحن عندنا الأصل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، فلا يحل إخراج الصلاة عن وقتها، وإلا ضيعنا الآية، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقصد أننا نجد ونجتهد، وليس معناه أننا نؤخر الصلاة، وإنما المقصود المبادرة، وكلا الفَهمين سائغ على المنطوق والمفهوم.
ولكنهم رضي الله عنهم -عندما اختلفوا- لم يتنازعوا ولم يكفر بعضهم بعضاً، ولم يتفرقوا.
ثم مضت الغزوة ودخلوا بني قريظة، والذي صلى في الطريق صلى، والذي أجَّل الصلاة أجَّل.
وبعد ذلك لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَكَوا له الخلاف، قال الراوي: (فلم يعِبْ على أحد).
ورُبَّ شخص يقول: معنى ذلك أن الحق يتعدد، أي: لا يكون طرف منهم قد أخطأ.
ويقول آخر: لا يمكن أن يكون الحق شيئاً وضدَّه أبداً، فالذين صلوا إما محقون أو مخطئون، والذين تركوا الصلاة وأجَّلوها إما مخطئون وإما محقون، والحق لا يكون إلا واحداً، ولا يكون ضدين أبداً.
فنقول: إن كَوْن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعِبْ ليس معناه أن كليهما حق في نفس الأمر؛ لكن معناه أن المخطئ اجتهد، وأفرغ الوُسْع في طلب الحق، فكيف يُلامُ مَن أفرغ الوسع في طلب الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)، أَيُذَمُّ مَن أصاب أجراً؟! لا يَذُمُّ مَن أصاب أجراً واحداً؛ لأن الحق واحد فقط، فالذي أصاب الحق أصابه، والذي لم يصب الحق أصاب أجراً واحداً، فليس من اللائق أن يُعَنَّف مَن أصاب أجراً واحداً.
فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنِّف، وليس معنى هذا أن كلا القولين حق.
وفي الصحيح: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها؛ حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا قريباً منكم لعله أن يكون عندهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط: إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم.
والله! إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال).
وقد ورد الحديث برواية أخرى فيه: (إن سيد الحي سليم)، وسليم بمعنى لديغ، وهي في الأصل لا تعني اللدغ، ولكن العرب يقولون (سليم) تفاؤلاً بالسلامة.
كما أن القافلة هي التي قَفَلَت أي: رجعت؛ أما التي غادرت لا يقال لها: قافلة، إنما يقال: قَفَل إذا رجع، فَهُم يقولون: خَرَجَت القافلة مع أنه في الأصل لا يقال قافلاً إلا لمن كان راجعاً، فسميت قافلة؛ رجاء رجوعها.
والصحراء سميت مفازة تيمناً بالفوز منها؛ لأن الذي يضل فيها يموت.
والرواية التي عند البخاري ومسلم لم توضح مَن الراقي؛ لكن وقع في سنن النسائي وأبي داود أن أبا سعيد قال: (فانطلقت إليه فجعلت أبصق وأقرأ: الحمد لله رب العالمين).
فأخذ الصحابة رضوان الله عليهم القطيع من الغنم وانطلقوا إلى رسول الله ليسألوه أيحل لهم أم لا؟ -هذا هو الجيل الذي نريدكم أن تتأسوا به، فال يحركون ساكناً ولا يسكنون متحركاً إلا إذا كان مأذوناً لهم، هذا هو معنى العبودية: أنك قبل أن تفعل الشيء اسأل فيه؛ ما حكم الله ورسوله؟ هذا هو حق الإسلام عليك، حق الالتزام- قال: لا نفعل حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءوا وجاءوا بالغنم، وحدثوا النبي بما جرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (وما أدراك أنها رُقْية؟ -ما الذي عرَّفك؟ هو لا يعرف شيئاً عنها، وهذه كانت أول مرة له يرقي فيها- قال: يا رسول الله! شيءٌ أُلْقِي في روعي).
من أجل هذا تجد أحياناً شخصاً يدعوك ويقول لك: تعال ارقِ، فتقول له: أنا ما جربت هذه المسألة، وما عملتها قبل هذا! يا أخي! قد يجعل ربُّنا سبحانه وتعالى على يدك الشفاء.
فهذا أبو سعيد الخدري لم يكن يعرف شيئاً، ولم يجربها قبل هذا في عمره، ولما اختار الفاتحة اختارها هكذا من أجل شيء وقع في صدره.
(قال: شيءٌ أُلْقِي في روعي، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى يبين لهم أنها حلال قال: اضربوا لي معكم بسهم)، وما قال له: حلال.
وسكت؛ لأن هذه أقوى من مجرد القول فالرسول عليه الصلاة والسلام قد يتعفف عن الشيء الذي يكون حلالاً لأصحابه، لكن أنه يأكل هذا من أقوى أدلة الجواز والإباحة.
فهذه الخلافات كانت موجودة.
أعني مثلاً: لو أن هذا حصل في زماننا، فمن الممكن أن واحداً منهم يقول: انظروا إلى الأَثَرَة! انظروا إلى الأنانية! أنا كنتُ أظنه (أَخَاً في الله)، فظَهَرَ (فَخَّا ليس في الله)! فهذه أَثَرَةٌ وأنانية، وأخذ الغنم عنده، ولا يريد أن يعطينا منها.
فيحصل الحقد.
لكنهم قالوا: (ليس قبل أن نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفتينا في المسألة).
فهناك خلافات فرقت بين الإخوان أدنى من هذا مائة مرة، وإذا اختلف مع أخيه تجده لا يصلي في المسجد الذي يصلي فيه، ولا يقابله في الشارع وإذا لقيه تجده يجري؛ من أجل خلاف تافه حقير لا قيمة له ولا واقع.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(19/16)
فضل العالم على العابد
إن الإسلام يتعرض لهجمات شرسة من قبل أعداء الله، وذلك لقلة الذابين عنه، والمدافعين عن جنابه من العلماء والدعاة، فالواجب تهيئة الدعاة وكفالتهم حتى يتفرغوا لهذه المواجهة محتسبين هذا العمل لله، لأن العالم هو أقدر الناس على معرفة مكامن الداء، وبالتالي هو أعرف الناس بالحلول الناجعة لمعالجة أي قصور وخلل، فهو لا يكتفي بمعرفة الداء وتقرير الدواء فقط، بل وحتى يعطي لمريضه وسائل الوقاية من هذا المرض حتى لا ينتكس فيه، فالعالم لا يقنط العبد من ربه، بل يقرر له أن باب التوبة مفتوح لجميع العصاة على اختلاف ذنوبهم.(20/1)
حاجة المسلمين إلى الدعوة وأهمية كفالة الدعاة
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن سنة الدفع تستلزم دافعاً، وقلت قبل ذلك مراراً: إننا في أَمَسِّ الحاجة إلى تبني الكوادر العلمية، وإلى النفقة عليها وتفريغها؛ لتذود عن دين الله تبارك وتعالى، وتشبه هذه المسألة دولة مترامية الأطراف، وساحلها البحري أيضاً مترامي الأطراف ولا يوجد حرس حدود، أو بين كل جندي وآخر اثنان أو ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، ألا يسهل اختراق مثل هذه الدولة وإدخال المخدرات فيها ببساطة؟! فلا نستطيع أن نذود عن حدودها إلا إذا كان لدينا حراس حدود.
كذلك يقول العلماء: إن أخطر مرض أصاب الإنسان حتى العام الماضي هو مرض الإيدز، ومرض الإيدز إشكاله أنه يصيب جهاز المناعة، فيمكن أن يموت المرء من أقل ميكروب، وهذا سر خطورة هذا المرض، فجهاز المناعة في الأمة المسلمة هم العلماء، فينبغي تقوية هذا الجهاز وتكثيره، والحمد لله رب العالمين الدعوة انتشرت أكثر من ذي قبل عند جماهير المسلمين، وأنا أتمنى أن يستيقظ كثير من أصحاب الأموال، وأن يتبنوا طلاب العلم، أن يبحثوا عنهم أو يسألوا العلماء: من هم طلاب العلم، فيأخذ كل واحد واحداً أو اثنين أو ثلاثة، وأفضّل لصاحب المال أن يكفل واحداً فقط ويكفيه، أفضل من أن يكفل ثلاثة ولا يكفيهم.
فلو فرضنا أن شخصاً يخرج زكاة ماله ثلاثمائة جنيه في الشهر مثلاً، نقول له: أعطِ هذا المبلغ كله لطالب واحد، واكفه مؤنة حياته، وقل: هذا لك بشرط أن يكون وقتك وقفاً لله، فكل ما تحتاجه في حياتك لا دخل لك فيه، لكن بقية وقتك وقف لله عز وجل، للذود عن دين الله، فنحن نحتاج عشرات الألوف في المساجد يعلمون الناس دينهم، ويتصدون لهذا الغزو الذي يهجم على الإسلام والمسلمين، فصوتي هذا لا يصل إلى أكثر من هذا المسجد أو إلى بضعة أشخاص آخرين عن طريق الأشرطة، أما هذا الجهاز المدمر -التلفاز- فينشر الدمار يومياً خلال الأربع والعشرين ساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).(20/2)
التشكيك في حكم الرجم والرد عليه
وهناك غيره أيضاً، أحدهم تكلم مرة عن حد الرجم ونشر غسيله القذر في جريدة الأخبار، يقول: إن الرجم باطل في دين الله تبارك وتعالى، يقصد رجم الزاني المحصن في دين الله عز وجل، ودلل على ذلك بحديث رواه الشيخان في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتل أحدكم فليحسن القتلة، وإذا ذبح فليحسن الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فمن تمام الإحسان المكتوب على كل شيء أن الله عز وجل أمرك إذا ذبحت حيواناً أو طائراً أن تحد شفرتك، يعني لا تأتِ بسكينة غير حادة فتعذبه؛ لأن تعذيب المذبوح ليس من الإحسان، بل هو من الإساءة، فيقول: إذا كان الإسلام يحض على الإحسان في ذبح الحيوان الأعجم الأبكم أفيسمح بقتل مسلم عصى الله بزنا بالرجم، بأن تظل تضربه بالحجارة في رأسه حتى يموت؟!! فالزاني المحصن المتزوج إذا زنى بعد زواجه أو المرأة التي زنت بعد زواجها حكمهم الشرعي أن يحفر لهم حفرة في الأرض إلى السرة ويردم عليه، ثم يأتي كل مسلم بحجر ويرميه به في رأسه حتى يموت، هذا هو الحكم الشرعي، فهذا يقول: هل هناك دين في الدنيا يكرم الحيوان بأن يقول لك: حد الشفرة واذبح، وفي نفس الوقت يقول لك: عذب المسلم الموحد الذي زنا وعصى الله عز وجل؟ لماذا لا تذبحه بسكين حادة وتعامله معاملة الحيوان الأعجم؟ وهذا الكلام ينطلي على الناس، لكن ما هو وجه القبح فيه طالما أنه زخرفه هكذا من الخارج؟ وجه القبح فيه: أن الشيء إذا فعل لا لحكمة كان قبيحاً، فتخيل مثلاً: أن رجلاً جاء وبنى قصراً منيفاً بملايين الجنيهات، وبعدما بنى القصر قال للناس كلهم: ما رأيكم في هذا القصر الجميل؟ فقالوا له: ما شاء الله، لا نعرف قصراً مثله إلا في الجنة، فأحاطه بحزام ناسف وفجره، فهذا فعله قبيح لأنه خلا من الحكمة.
فنسأل ما هي الحكمة في تعذيب الحيوان؟ هذا حيوان ستذبحه لتأكله فليس هناك حكمة في أن تأتي بسكينة غير حادة لأن الذبح بالسكين غير الحاد إساءة، لكنّ رجم المسلم الموحد الذي عصى الله عز وجل بجريمة الزنا بعد إحصانه فيه حكمة، فربنا سبحانه وتعالى ذكر العقوبة الأخف وهي الجلد، فالشاب الذي لم يتزوج وزنا يجلد مائة جلدة، فقال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، مع أن الله تعالى أمر بالستر، وذم العاصي الذي يعصي الله خلف جداره ثم يخرج يقول: يا فلان ويا علان أنا فعلت كذا وكذا بالأمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل وقد ستره الله ثم يصبح فيكشف ستر الله عليه)، وهناك أحاديث في الستر على المسلم كحديث (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة)، والأصل أن نستر على أصحاب القبائح، وندعوهم إلى الله عز وجل ولكن مع هذا لم يأمر الله سبحانه وتعالى هنا بالستر، ولكن أمر بالتشهير قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لأنه إذا رأى هذا الشخص يرجم بالحجارة يتفكر في حاله إذا كان مكانه، أنه سيفضح ويعذب، فتحصل بهذا العبرة.
وضُعف العذاب على الزاني المحصن والزانية المحصنة، بينما خفف على البكر رغم أن كله زنا؛ لأن مصيبة المحصن والمحصنة كبيرة؛ لأنه من الممكن أن يزني بها وتلد ولا يعرف زوجها أن هذا ليس بابنه، لكن البنت إذا كانت بكراً وكلنا كان يعرف أنها بكر وفجأة انتثر بطنها ستسأل من أين هذا؟ وبالتالي يكتشف الزنا، فلما استطعنا كشف الزنا وكانت المسألة واضحة كانت العقوبة على الدون، لكن إذا كانت امرأة متزوجة وعندها أولاد وزني بها وحملت قيل: إنه من زوجها! فيربي الشخص هذا الولد وهو أجنبي، لذلك ضُعِّفت العقوبة، لأن العقوبات على حسب آثار المعاصي، فكلما كانت المعصية أثرها أكبر كانت العقوبة أشد، وهكذا.
فعندما يكتب هذا الكلام، وحد الرجم مجمع عليه بين علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة، فقد أجمعوا جميعاً على ثبوت الرجم.
وقالوا: إنه كان في كتاب الله عز وجل ثم نُسخ نسخَ تلاوة ورفعت الآية برمتها من كتاب الله عز وجل وبقي الحكم.
فأحد أنواع النسخ الذي يذكره علماء الأصول: هو نسخ التلاوة، وهو أن يرفع لفظ الآية كلها، وفي صحيح البخاري أنه كان هناك آية تقرأ في كتاب الله عز وجل، قرأها عمر بن الخطاب، وقال: كنا نقرأ فيما نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) والبخاري روى هذا الحديث في كتاب الحدود من صحيحه، باب رجم الزاني المحصن، والآية الأخرى موجودة في مستدرك الحاكم (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) كانت آية في كتاب الله ونسخت، فكان قرآناً، ثم رفع القرآن وصار حكماً لازماً بالإجماع.
فعندما يأتي شخص وينفي هذا الحكم الثابت بالإجماع بمثل هذه الترهات، نحتاج إلى جيش من الدعاة يبين للناس حقيقة الأمر.(20/3)
وجوب حمل هم الدعوة على الدعاة
فالحمل ثقيل جداً جداً، بينما تقاعس المسلمون عن هذا الحمل، وكل واحد يبحث عن مصالحه الشخصية، كل واحد أهم شيء عنده أن يأكل ويشرب ويلبس، والأمة هذه من يحمل همها؟ هذه مسألة مهمة لا بد من النظر إليها بعين الاعتبار، فتواجد وانتشار طلاب العلم وإن كان أكثر من الأول، ولكنه لا زال ضعيفاً جداً، لكن أول الغيث قطر، إن الجبال من الحصى.
نحن نعلم أن الدعوة تحتاج إلى أكثر من هذا، وينبغي على أصحاب الأموال أن يحملوا هذا العبء ولا يتضجروا منه؛ لأن الحمل الذي يحمله الدعاة أكثر من حملكم، لا تظن أنك إذا أعطيته مائة جنيه أو مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أن حملك ثقيل بهذا، لا، إن حمله أكثر منك، فهذا الرجل يطوف البلاد ويجوب الطرق، تأتي الساعة الواحدة والثانية ليلاً وهو يمشي في الطرقات من هذه البلد إلى هذه البلد، فلا تمن عليه أبداً في يوم من الأيام بهذا المال الذي تعطيه إياه، فإن الله عز وجل غني حميد، وهو الذي يمن وحده على عباده.
فأمثال هذا الكاتب ليس الخطورة في كذبه، لكن الخطورة في زخرفة الكذب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي ذكرته آنفاً: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)، فعندما يقول لك: قال الله، ماذا ستقول؟ وأنت ليس عندك علم؟ والقرآن له قداسة في النفوس، فأنت لا تستطيع أن ترد الآية، وهناك أرضية في قلب كل إنسان على استعداد لتقبله حتى ولو كان هذا الإنسان مجرماً، وهذا منافق عليم اللسان، يستطيع أن يزخرف القول.(20/4)
الحملة الشرسة على الإسلام
ليست هذه الحملة فقط في هذا الجهاز وإنما في كل مكان، فعندما أمر على مدارس البنات في بلدنا هنا تذرف عيني دمعاً، لم نعد نرى الخمار، والحد الأدنى الذي هو النقاب نجد ثلاثمائة أو أربعمائة فتاة منتقبة من بين خمسمائة أو ستمائة، ثم يصدر قرار بمنع المنتقبات من دخول المدارس، لماذا هذا الحصار على العفة؟ والتبرج والخلاعة على شواطئ البحار مأذون بها، لماذا هكذا؟ متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم إذا دعى شخصاً آخر لوليمة، تجد الأم متبرجة والبنت متبرجة وكلهم يجلسون على نفس الطاولة، والطفل الصغير عندما يرى هذا الشيء وأن هناك مائدة على الطاولة وأمه لا تلبس الخمار، وجاره يعني جار أبيه المعزوم أيضاً يجلس بجانبها أو أمامها، وكلهم يأكلون على طاولة واحدة ينطبع في ذهن الولد الذي لا يعرف شيئاً أن هذا صحيح، بدليل فعل أبيه وأمه.
والصحيح أنه لا يصلح أن يأكل الجيران مع بعضهم، وربما كان قبل ذلك بسنتين كانت هذه المرأة الجالسة على الطاولة محجبة، وبعدها بسنة خلعت الحجاب، وهذا ما حدث عرضاً خاطئاً، فنحن عندنا سرطانات في كل الأجهزة، من الذي يخط هذا الشيء؟ إنهم أناس بيدهم الرسمية، وبيدهم الإمكانات، وهم كثيرون، وعددهم فوق الحصر، فمن الذي يدفع أمثال هؤلاء؟ إنها الكوادر العلمية التي تحتضنها الجماهير، وتذود عن دين الله عز وجل، وأقول: لا تلقَ الله خائناً، أنا دللتك ولا زلت أقول: إن عدم تبني طلاب العلم والذود عن دين الله عز وجل خيانة لهذه الأمة، قتل الخراصون أمثال ذاك الكاتب الكاذب الذي يقول: (رد اعتبار فرعون) هل القرآن يحاكم ويطالب برد اعتبار فرعون؟ كيف يكتب هذا العنوان؟ وكيف لا زال هذا الكاتب يكتب حتى هذه اللحظة في الجرائد، كيف يقول: رد اعتبار فرعون؟ وهل لفرعون اعتبار إذ أهدر الله قدره فلم يعد له قيمة؟ فهذه كلها هجمات على الإسلام، وهناك جرائد متخصصة في الهجوم على الدعاة إلى الله عز وجل.
وهذا عمل اليهود، أكاد أجزم أن الذين يفعلونها هم اليهود، ولا تخرج أبداً عن أيديهم على الإطلاق، وما هو المانع أن يفعل شخص فعلاً ثم يقوم بإرسال رسالة إلى وكالات الأنباء: نحن الموقعون أدناه الجماعة الإسلامية بمصر نعمل كذا وكذا وسنواصل النضال بل أي طفل يمكن أن يعمل هذا وليس من الصعب أن أرسل رسالة فاكس باسم الجماعة الفلانية أو باسم أي إمام، ثم تنزل حملات واعتقالات.(20/5)
الرجل الذي قتل مائة نفس
كنا وصلنا إلى أن الرجل القاتل ذهب إلى عالم، هكذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في الأول: راهب، وفي الثاني قال: عالم، إشارة منه إلى أن الأول لم يكن عالماً، وإلا لو كان الأول عالماً لما كان وصف الآخر بالعلم له معنى، وهذا يشبه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءت غزوة تبوك وجاءه المنافقون والمعذرون من الأعراب يعتذرون عن تخلفهم عن غزوة تبوك وقالوا: استغفر لنا، قال لهم: (غفر الله لكم غفر الله لكم) ثم جاء كعب بن مالك وقال: (لقد أوتيت جدلاً، والله ما كان لي من عذر، ولا كنت أيسر مني في هذه الغزوة، ولم أجمع بين راحلتين إلا في هذه الغزوة)، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما هذا فقد صدق)، وهذا إشارة إلى كذب الأولين، ومع أنه قد فهمها النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنه استغفر لهم؛ لأنه يحكم على الظاهر، ولا يحق لأحد يأتي من بعده أن يتجرأ ويشق عن صدور الناس.
فعندما يقول في الثاني: عالم، وأخلى الأول من صفة العلم دلّ على أن الأول جاهل.(20/6)
باب التوبة مفتوح لجميع العصاة
فلما انعقد قلبه على التوبة ولم يمهل ليعمل بالجوارح، اعتبر عمل القلب وأهدر عمل الجوارح، فهو الملك، (فملائكة الرحمة قالوا: إنه خرج تائباً إلى الله بقلبه، وملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيراً قط) وانتبه لهذا الكلام! من في الناس لم يعمل خيراً قط؟ من الممكن أن يكون فينا ناس -وما أبرئ نفسي- ذنوبهم تصل إلى عنان السماء، ولكنه عمل خيراً، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، وقتل مائة نفس، ومع ذلك تيب عليه، فالحديث يحفز العاصي أن يتوب، ويرجع إلى الله، والمجتمع كله يستفيد من رجوع هذا العاصي.
فملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فقالوا: نحكم هذا الآتي، وقالوا له: الوضع كذا وكذا، والله عز وجل قد علم هذا الملك كيف يقضي، فهذا الرجل خرج من أرضه وليس بينه وبينها سوى مترين وبقي له اثنان من الكيلو مترات حتى يصل إلى الأرض التي سيدخلها، ولمعالجة هذه المسألة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال الله لهذه الأرض أن تقاربي، ولهذه أن تباعدي)، قال: (فوجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة).
نستطيع أن نقول: أيها العاصي أقبل، ونحن الآن في بداية شعبان ورمضان على الأبواب، ورمضان موسم العصاة، فالعصاة يرجعون، فكم من عاص رجع في رمضان، وكم من ولي من أولياء الله كان بدايته في رمضان.
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(20/7)
القلب هو أساس التوبة والعمل
كان الرجل له رغبة في أن يتوب، وأراد أن يتوب، تقول الرواية: (فناء بصدره) وناء يعني: أن صدره تقدم للأمام قليلاً، وهذا دليل على الإقبال والمسارعة والمبادرة، فناء بصدره إلى هذه الأرض، يعني ما خرج إلا خطوات ومات، (فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فملائكة الرحمة تقول: إنه خرج تائباً إلى الله بقلبه) وانتبه إلى هذا الكلام، فهذا يدلنا على أن العبد لو عصى الله بجوارحه ثم عزم عزماً أكيداً على التوبة ولم يمهل حتى يعمل بالجوارح؛ أنه يقبل منه؛ لأن القلب ملك البدن، فكيف يُرَدُّ على الملك عمله وتؤاخذ الجوارح؟ وربنا سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، فأخَّر ذكر الجنود، إذ ليس من المعقول أن أمسك بالجندي فأعاقبه وأعفي الملك وهو الذي أصدر القرار وهو الذي وضع القانون، إذاًَ اعتبار عمل القلب أولاً.(20/8)
لابد للداعية من احتساب الأجر من الله تعالى
أحد الجماعة الخطباء في الأوقاف قابلني مرة وهو غضبان، فقلت له: مالك؟ قال: والله يا أخي الواحد ليس له رغبة أن يتكلم، قلت له: لماذا؟ قال: أصرف نصف الراتب في المواصلات، فبماذا أخرج آخر الشهر؟! بعشرة جنيهات!! لا تستحق أن الواحد يتكلم كلمتين، فعندما يعتقد العالم نفسه موظفاً متى يبلغ الحق؟ فالحق يريد من الإنسان أن يحترق، الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، والآية فيها تقديم وتأخير من جهة المعنى، أي لعلك قاتل نفسك، أي: ستميت نفسك من الأسف عليهم، فنظمها: لعلك باخع نفسك أسفاً على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.
والدعوة لا تصل إلا بأن يكون الإنسان محتسباً، يدعو الناس إلى الله عز وجل، فالعالم ليس مجرد شخص يعطي حكم الله، ويظل واقفاً ويكتفي بأن يقول للناس: الطريق من هنا، لأن هناك أكثر من طريق في الأمام، فمن المحتمل أن يأخذ طريقاً خطأ، فينادي عليه: يمين، شمال، وراء، أمام، فبعد أن يراه سلك الطريق السليم يستريح، ويحس أنه عمل الذي عليه، هكذا فعل الراهب العالم، لم يقل له: نعم لك توبة ومن يحجب عنك باب التوبة فقط، لأن هذا تشخيص للمرض، لكن أين العلاج؟ فإن الطبيب عندما يقول للمريض: عندك المرض الفلاني ثم يصرفه، لا يكون قد عمل شيئاً يستحق أن يأخذ عليه أجرة حتى يعطي الدواء، لأن المريض لم يأت له إلا ليرفع عنه العلة بإذن الله، فكذلك المفتي، عندما يقول: لك توبة، وماذا بعد ذلك:؟ يذهب للنوم، لا، بل بعد تشخيص الداء ومعرفتنا أن له علاجاً، دله عليه، وهو الخروج من أرضه -لأنها أرض سوء- إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فيعبده معهم.(20/9)
أثر البيئة المحيطة على الشخص
فكانت الإشارة إلى أن الجماعة لها تأثير في سلوك الفرد، وأنه ينبغي لنا أن نلتمس المجتمعات التي يكثر فيها الالتزام وتقل فيها المعاصي؛ لأن هذا الرجل الذي قتل مائة نفس، ولم يقل له أحد توقف، من الممكن أن يقتل ثانية إذا استفزه أحد.
عندما كنت آخر مرة في الكويت، قابلني شاب كان في جماعة التكفير، ثم سافر وخرج ليعمل في الخارج، وإخوانه يشتكون منه، فكنت موجوداً في آخر يوم فقال: نعمل جلسة مصرية، لا يحضرها إلا أهل مصر، فأتوا يتكلمون في شأن هذا الرجل الذي كان في جماعة التكفير، ثم ترك التكفير أنه بقيت عنده علة وهي أنه إذا أغضبه أحد يكفره، فهم دائماً يرضونه حتى ولو كان مخطئاً، فلما جاءوا طرحوا هذه المسألة والقضية ويقولون له: ارفق بإخوانك، فقال والله أنا عصبي بطبعي، وأول ما فتحت عيني على الدين فتحتها على التكفير، فترك عندي شيئاً يعسر علي جداً أن أتخلص منه، وبعدما أكفر أخي أدخل في نوبة بكاء، لأنني أعرف الحكم، يعني يعرف أن الذي يكفر مسلماً وهو غير صادق أن التكفير يعود إليه، فيقول: أنا أشعر أني كفرت نفسي، لكن ليس هذا بإرادتي، فانظر كيف أن الجماعة أثرت فيه أول ما بدأ يستقيم، وظل هذا الأثر يلازمه حتى الآن، لذلك هجران أهل المعاصي والبدع واجب، فإنك إذا وجدت شخصاً يلازم المعاصي أو البدع وتساهلت معه، فأقل ما في المسألة أنك لن يتمعّر وجهك ولن يتغير قلبك لله عز وجل، ولا تأمن أن تكون واحداً من هؤلاء المبتدعين فيما بعد.
لذلك كان من الخطر على هذا القاتل أن يظل في أرضه، فهو رجل مجرم وسفاك للدماء فكيف يجلس في بلد لم يقل له فيها أحد: وحد الله، ولم يقل له أحد: قف عند حدك، بل كان حوله البطانة السيئة التي توقعه في الشر، ألا يقول المثل: إذا لم تقدر على عدوك صاحبه، الذي لا يستطيع على عدوه يصاحبه، فهذا الرجل شرير، وأي واحد يقول له كلمة يقتله مباشرة، إذاً: نصاحبه، يعني أول ما يحب أن يقتل، أقول له: وأنا أعرف لك فلان من أين يدخل وأين يخرج، وآتيك بكل تحركاته، وأستغله، وأستغله حتى لا يقتلني، فإذا رأوا أن هذا الرجل قد تاب يذهبون إليه قائلين: مالك مريض، ما لك ما عدت تقتل أحداً؟ أين رجولة الأمس فبعد هذا الكلام يمكن أن يغتاظ ويعود إلى القتل من جديد، وهذا ممكن.(20/10)
وجوب تغيير المنكر على الجميع
إذاً البطانة السيئة التي تريد استغلال هذا الشخص موجودة، وممكن أن تؤلبه، فعلاج هذا الرجل حتى يصل إلى الله بسلام أن يصل إلى أرض بها ناس أول ما يمكث بينهم ينزعون منه روح المعاصي، ولا يمكنونه منها، فالعاصي لا يستطيع أن يرفع رأسه في وسطهم أبداً، لأنهم يقيمون حدود الله عز وجل، ولا يسمحون لأحد أن يعصي الله تبارك وتعالى، ونحن نقول هذا الكلام لأننا مبتلون به في بيوتنا وفي عماراتنا وفي الأحياء، ففي العمارة الواحدة يفتح أحدهم المسجل بأعلى صوت على نغمات ديسكو ورقص وطبل وأنت تقول: أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم، ولو ذهبت إلى الشرطة قالوا لك: هذه حرية شخصية، وهذه هي الأفراح والليالي الملاح، فيوضع المسرح في الشارع إلى أن يؤذن مؤذن الفجر، ومعروف أن الشياطين إذا سمعت الأذان تولت، وهم كذلك إذا سمعوا الأذان ولوا، فطوال الليل وهم بسماعات ومكبرات ومؤثرات صوتية، والمريض لا يستطيع أن ينام، ومع ذلك لو ذهبت لتبلغ عن هؤلاء لا يمكن أن يطيعوك أبداً، لكن لو عملت محاضرة وعملت مكبرات صوت، مباشرة سيقولون: هذا إزعاج وكذا وكذا، ويقولون لك: لماذا نزعج الناس، الذي يريدك سيأتيك إلى المسجد، وتعرضنا لهذا الكلام أكثر من مرة.
فهذا جعل الناس يحجمون عن إنكار تشغيل المسجل بهذا العلو، ولا تجد أن أصحاب العمارة يقفون وقفة رجل واحد ويوقفون هذا العبث الموجود في العمارة، أيظنون أن المصيبة إذا نزلت سينجون منها؟ مع أن الزلزال إذا جاء فإنه سيضرب العمارة كلها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
إذاً: لا بد أن ننقي مجتمعاتنا من المعاصي والبدع، ونتكاتف؛ لأن المجموع له تأثير على الفرد، لهذا قال له: (اخرج من أرضك فإنها أرض سوء إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها قوماً يعملون الصالحات، فاعبد الله معهم).(20/11)
خطر التكفير بغير دليل
فأي واحد يقول لآخر: أنت كافر، بدون أن يكون عنده برهان من الله عز وجل أوضح من الشمس في رابعة النهار عاد عليه الكفر، فلا تكفر إلا إذا أتى بفعل لا يحتمل غيره، والأدلة كلها تتظافر على تكفيره، وإلا فلا تكفر.
مثلاً: شخص قطع المصحف ودعسه برجله، فهذا كافر بدون أي توقف، والذي يتوقف في تكفير هذا وهو يعلم أن له عقلاً، فهو كافر بالله العظيم، بخلاف ما لو كان مجنوناً فهذا لا يكفر، والذي يقول: إنه سيدخل الجنة ولو مات على النصرانية، كافر؛ لأنه عارض حكم الله في الشخص إذا مات على النصرانية، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذه القاعدة تنطبق على من كفره الله ورسوله أو من قام دليل قطعيٌ بكفره.
من قال إن أبا لهب في الجنة، أو شك مقال: هو كافر أم لا؟ فهو كافر؛ لأنه عارض حكم الله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، وما عدا ذلك فالإحجام عن إلقاء كلمة الكفر هو الأسدُّ والأبرأ للذمة، إذاً لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولو كان كثير السيئات، فقد تطاله رحمة الله وعفو الله عز وجل، وقد يكون له حسنات تكفر سيئاته بها، كما لو نطق الشهادتين والروح تخرج فإنه يدخل الجنة وكل هذا وارد.
فلا نقطع لأحد بجنة ولا نار، فهذا العالم بيّن أنه لا يملك هذا الأمر، قال: (نعم).
وهذه الإجابة عن السؤال، ثم قال: (ومن يحجب عنك باب التوبة) يعني: لا أنا ولا أحد، فإن الله فتح باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ ثم نصحه، وهذا شأن المفتي العاقل الذي يعتقد أنه بالنسبة للناس كالأب، وليس اسمه أنه يؤدي وظيفة فقط.(20/12)
عدم جواز الشهادة لأحد بجنة أو نار
قال: (إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: نعم) وهكذا تم الجواب، لكنه بين له الجواب بنصيحة وبراءة، والبراءة أنه بين أنه لا يفتأت على الله عز وجل، أن العالم ليس من حقه أن يقول: فلانٌ مغفورٌ له وفلان في النار؛ لأن من أصول أهل السنة والجماعة كما ذكر الطحاوي في عقيدته، قال: (ولا نحكم على معين بجنة ولا نار) لا أستطيع أن أقول: فلان في الجنة، وفلان في النار؛ لأن هذا حكم الله عز وجل يحكم به، لا دخل لنا فيه، ودخول هذه المنطقة خطير جداً على البشر، كما في حديث جندب بن عبد الله عندما قال رجل: (والله لا يغفر الله لفلان) فقال الله: (من ذا الذي يتألى علي؟ قد غفرت له وأحبطت عملك)(20/13)
يجوز التنقل بين المفتين بشرط عدم الهوى
فنحن عندما نشعر بالغضاضة في صدورنا من الفتوى وليس الهوى هو المحرك، نلتمس مفتياً آخر، فإذا التمست المفتي الثاني والثالث وكانت نفس الفتوى فماذا تفعل؟ قالوا: إذا شعرت بحرج تلتمس مرجحاً، فإذا وافقهم الثالث فهذا هو الحكم ولا عبرة بما يحل في قلبك، لأنه قد يكون وسواساً، وقد يكون هوى، أو إذا لم تعجبك الفتوى وتريد فتوى خطية وأنا قلت: شرط أن تنتقل من هذا إلى هذا البراءة من الهوى.
جاء إلي شخص مرة وقال لي: طلقت امرأتي مرتين، قلت لها في المرة الأولى: أنت طالق، وفي المرة الثانية قلت لها: أنت طالق، وفي المرة الثالثة قالت لي هي وصعدت على الكرسي: إن كنت رجلاً طلقني! فقلت لها: أنت طالق! فما رأيك يا شيخ في هذا؟ فقلت له: بغض النظر عما قالت لك فالمرأة بائنة بينونة كبرى، ولا يحل لك أن تعيش معها، فقال: أنا أحبها! فانظر حتى بعدما قال: صعدت على الكرسي، وقالت لي: لو كنت رجلاً، ومع هذا يقول: أحبها!!! لو كانت هذه آخر امرأة على وجه الأرض، فإن أي رجل تتدفق في عروقه دماء الرجولة لا يمكن أن يبقي هذه المرأة على الإطلاق، فيبكي ويقول: أقبل يدك!! وكأن المسألة في يدي أنا، فأقول: يا بني هذه ليست بيدي، ولكن اذهب إلى لجنة الفتوى، فقلت له: تعال لي بعدما ترجع وأخبرني كيف كانت الفتوى، فطبعاً لم يرجع، ولكن أتاني أخوه وقال: إنه ذهب إلى مسجد بجانبهم إلى شخص مقيم شعائر، وبكى هناك قليلاً وقال: الأولاد سيشردون، ولم أكن أقصد، فقرص أذنه وقال له: هات ثلاثين جنيهاً ولا تكررها، وارجع لها.
فهذا الشخص يريد فتوى خطية، جاءني فلم تعجبه الفتوى، فذهب إلى لجنة الفتوى ولم تعجبه الفتوى، ثم ذهب إلى مفتٍ ثالث ولم تعجبه الفتوى، كل هذا لأن قلبه لم يسترح من الفتوى، فلا يجوز لهذا أن يعدد السؤال فشرط أن ينقل السؤال من مفتٍ إلى مفتٍ آخر أن يحيك في صدره شيء من فتوى الأول، وليس الهوى هو الذي يدفعه، يعني أن يكون خالياً من الهوى، فإن كانت الفتوى الثانية لا يزال يحيك في صدره شيء منها مع البراءة من الهوى يلتمس الثالث، فالثالث إما أن يرجح فتوى الأول أو فتوى الثاني فيصيرون اثنين على واحد، أو إذا وافق الاثنين وصاروا ثلاثة فلا يحل له أن يسأل الرابع.
إذاً عندما قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) وانتقل من مفتٍ إلى مفتٍ آخر، هذا يشرع لنا في ديننا بالشرط الذي ذكرته، فلما ذهب إلى الراهب العالم قال له: (إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: نعم.
ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا).
ففتوى هذا الرجل العالم جميلة فيها بهاء، وكذلك فتاوى الأئمة الكبار، مثل الأئمة الأربعة أو العلماء المجتهدين، وكذلك تعليلهم للفتاوى، تجد جمالاً ليس في مجرد الفتوى، بل هي فتوى وتعليم.(20/14)
فضل الصدقة
إن للصدقة فضلاً عظيماً وأهمية كبيرة في حياة المسلم، فلقد حث الإسلام على الصدقة، ورغب فيها، وذم البخل والشح، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما نقص مال من صدقة، فالصدقة تنمي المال وتباركه وتزكيه.
وللصدقة فوائد عظيمة، وحسبك أنها تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وعندما فرطنا في هذا الأمر العظيم انحرف كثير من الناس عن طريق الإيمان، نتيجة للعوز والفاقة؛ لأنهم لم يجدوا من يعطيهم ويتصدق عليهم.(21/1)
فضل الصدقة والحث عليها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجلٌ يمشي في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان.
فأفرغ السحاب ماءه في شرجة من شراج ذلك الوادي، فذهب ذلك الرجل الذي كان يمشي إلى المكان الذي أفرغ السحاب ماءه فيه، فرأى رجلاً معه مسحاة يُمهد مجرى للماء حتى يذهب إلى بستانه أو إلى أرضه، حتى استوعب الماء كله، فذهب إليه وقال: السلام عليك يا فلان -باسمه الذي سمعه في السحاب- فقال: وعليك السلام، من أين عرفت اسمي؟ قال: إني سمعتُ صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان، فأفرغ السحاب ماءه عندك فماذا تصنع؟ قال: أما قد قلت لي ذلك فإني أنتظر ما يخرج من الأرض فأقسمه إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ أتصدق به، وقسمٌ آكله أنا وعيالي، وقسمٌ أرده في بطنها) -أي: بذراً في باطن الأرض حتى يخرج مرةً أخرى-.
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قصها علينا النبي عليه الصلاة والسلام من قصص الأقدمين، وهو يشتمل على ثلاث فوائد، وكل فائدة تشتمل أيضاً على فوائد: الفائدة الأولى: فضل الصدقة.
الفائدة الثانية: فضل النفقة على العيال.
الفائدة الثالثة: الأخذ بالأسباب وعمارة الأرض.
أما الفائدة الأولى فقد قال الرجل: (فإني أتصدق بثلثها).
وقد وردت في فضل الصدقة أحاديث كثيرة نقتصر على بعضها.
وأصل الصدقة مأخوذة من الصدق، ولهذا يلزم المتصدق أن يكون صادقاً، فإن كان كذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه)، والفلو: هو المهر، فكما أنك تربي فرسك فيكبر على عينك -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للعبد حتى تصير كأمثال الجبال! وهناك كثير من العباد يفاجئون بمثل هذه الحسنات التي ما كانوا يتوقعونها، يتصدق بصدقة وهو مخلص فيها ثم نسيها، فيفاجأ هذا الرجل بجبال من الحسنات من أين هذه الجبال؟! إنها من الصدقة التي وضعها يوماً ما في يد مسكينٍ أو فقيرٍ أو معول ونسيها: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]، في كتابٍ عند الله تبارك وتعالى.(21/2)
لا تحقرن من المعروف شيئاً
(لا تحقرن من المعروف شيئاً)، تصدق وإن كان المال قليلاً وأخرج ما عندك، فالله تبارك وتعالى يربيها لك، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتصدق على من يقابله بالسكر، كان يحمل قطعة سكر في جيبه ويتصدق بها، فسُئِلَ عن ذلك فقال: قال الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وأنا أحب السكر.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتصدق بحبات العنب، فَيُسأل: وما تغني حبة عنب، فإنها لا تشبع ولا تروي ظمأ ظامئ؟ فيقول: (إن فيها مثاقيل كثيرة، قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]) والذرة لا ترى بالعين المجردة، فلو فعلت مثقال ذرة خيراً لوجدته، فما بالك بحبة عنب! فإن فيها مثاقيل كثيرة.
ويروى أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تعطر الدنانير والدراهم قبل أن تتصدق بها، فتسأل عن ذلك؟ فتقول: إنني أضعها في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تصل إلى يد المسكين.(21/3)
لا تنفق إلا مما تحب
لقد أدبنا الله تبارك وتعالى أدباً آخر، فقال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فإذا كان لديك تمر، أو أي شيء تريد أن تتصدق به، فإياك أن تتصدق بالرديء منه، مثلاً: بعض الناس لديه قميص ثمنه تسعون جنيهاً، ثم وهو يكويه كانت المكواة حارة فخرقته، فجاءني وقال: خذ هذا وتصدق به على مسكين، مع أنه لو لم يحرق هذا القميص لما خطر على باله أن يتصدق به، إذاً {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، فإنك لو كنت في مكان ذلك المسكين وجاءك رجلٌ بمثل هذا الرديء لما أخذته إلا على إغماض، لأنه رديء، قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267].
فلا يجوز للمرء أن يعمد إلى الشيء الرديء ثم يتصدق به، إنما يتصدق بأجود ما عنده لماذا؟ لأنه يضع هذه الصدقة في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تصل إلى يد المسكين.(21/4)
فائدة التصدق على أهل المعاصي
وهناك أمر آخر، وهو: أن مهمتك أن تخرج الصدقة من عندك، وليست مهمتك أن تصل الصدقة إلى موضعها المرجو، فأنت مثلاً تنظر إلى بعض الجيران وهم يدخنون مثلاً، أو لا يهتمون بالأحكام الشرعية، وبعضهم يقصر في الصلاة، ولكنه فقير، فتقول: هذا الرجل لا يستحق الصدقة، سوف أعطيها لرجل ملتزم أفضل منه.
قولك هذا صحيح، ونحن لا ننازعك فيه، ولكن نلفت نظرك إلى شيءٍ هام، وهو: أنك إن أعطيت بعض أهل المعاصي مثل هذه الصدقات فقد يرق قلبه، بالذات -مثلاً- الإخوة الملتحين، فإن كثيراً منهم متهم بغير جريرة، فبعض الناس يأخذ عنه فكرة أنه متشدد، ومتزمت، وأنه يكفر المجتمع، وهذا كله كذب؛ بسبب الدعاية المغرضة لأجهزة الإعلام الكاذبة الفاجرة، التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يعامل القائمين عليها بعدله.
فهؤلاء أسهموا بدورٍ فعالٍ جداً في تشويه صورة هؤلاء، وللإنصاف نقول: إن بعض هؤلاء الملتحين يسيئون إلى الإسلام ببعض الأحكام التي يتبنونها بحسن نية ولكن بجهل، وبعضهم يغلظ في النصيحة إغلاظاً شديداً حتى في غير موضعها؛ فيسبب نفرة في القلوب.
وهناك عوارض كثيرة مجتمعة ليس المجال الآن مجال معالجتها وإفرادها بالذكر، ولكن نقول: إن هناك بعض العوام يخافون من الرجل الملتزم، فأنت إذا أعطيت ذلك الرجل هذه الصدقة فلعل قلبه يرق.
وهناك قصة أخرى معروفة في الإسكندرية: فقد كان هناك رجل يؤذي السنيين -أو الانتساب إلى السنة شرف؛ وقد رأيت بعض الناس وشخص يناديه: يا سني، فاعتبرها سبة، والتفت إليه وكاد أن يقتله! فالانتساب إلى السنة شرف عظيم، بغض النظر عن هل يقولها سخريةً أو يقولها بجد- فكان يكرههم كثيراً، وبعد مدة حدث عنده حادث ولادة، فحصل لامرأته نزيف حاد واحتاجوا إلى دم، ولا يوجد دم في المستشفى، وهو قد تعرض لأهل السنة بالأذى كثيراً، حتى صار معروفاً لديهم من شدة ما يؤذيهم بلسانه، فقال له بعض الناس: لن يعطيك الدم إلا السنيون، فأنصحك بالذهاب إلى المسجد.
ونحن لا نرى التبرع بالدم إلا في مساجدهم، ولن تجده في مساجد الأوقاف؛ لأنهم يريدون إذناً رسمياً من وزير الأوقاف حتى يطلبوا التبرع بالدم في مساجدهم.
فقال الرجل: لو تكلمت لسخروا مني؛ لأنني أتعرض لهم بالأذى.
فقال له: اذهب.
فذهب الرجل على استحياء، وكان ذلك في صلاة الفجر، فقام وقال: إن امرأتي جاء لها نزيف حاد، فهل يعطيني أحد دماً لننقذها؟ فقام كل من كان في المسجد وذهبوا يتسابقون فماذا كانت النتيجة؟ لقد أصبح هذا الرجل من أشد المتعصبين الآن لهؤلاء! انظر إلى الإحسان! {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فإياك أن تتصور أنك تقدم معروفاً ولا تلقاه قد تقابل ببعض الجحود، لكن لابد أن ترى هذه الثمرة يوماً ما، ولو أن هذا الرجل ذهب وقال: أريد دماً.
فقالوا له: بعد هذا السب وهذا الأذى تريد دماً؟! فكيف سيكون حال الرجل؟ سيتحول إلى مقاتل شرس ضد هؤلاء.
إننا نفتقر إلى هذه النماذج للدعوة، فانظر إلى الإحسان إلى أهل المعاصي كيف يحول قلوبهم بإذن الله، فلا تقل: لن أعطي لأحد من أهل المعاصي، بل إن المهتدين أولى أنا معك، لكن ألا يسرك أن تضم إلى ركب المؤمنين رجلاً آخر؟! هب أنك أعطيت هذا الرجل وظل على عناده، وأعطيته وظل على عناده، فلا تيأس، وانظر إلى حال نفسك: فقد كنت يوماً ما من المخرفين عن طريق الإيمان، فكم من رجالٍ هم الآن صفوة الرجال كانوا من ألد أعداء هذه الدعوة.
وانظر إلى جيل الصحابة حين كانوا كفرة في الجاهلية كـ عمر بن الخطاب مثلاً، كيف حول الله عز وجل قلوبهم بعد ذلك! ولا تتعجل النتائج، واتل قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، ألم تكن من قبل كهذا الرجل فمن الله عليك وهداك إلى الإيمان؟! روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل يخفي صدقته، فوجد امرأة في الطريق فأعطاها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدِّق الليلة على زانية! فبلغ الرجل هذا القول، فقال: الحمد لله على زانية -كأنه رأى أنه لا أجر له طالما أنها لم تقع في موقعها الصحيح، وكان يريد أن تقع في يد مسكينٍ فقير حتى يؤجر، واستاء الرجل وأحس أن صدقته لم تقبل- لأتصدقن الليلة بصدقة -سأتصدق مرةً أخرى لعلها تقع في يد من يستحقها- فوجد رجلاً في الظلام فوضع الصدقة في يده، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة -فرأى أن الصدقة لم تقبل ولم تقع في موقعها في المرة الثانية، فأراد أن يتصدق في المرة الثالثة عساها أن تقع في يد من يستحقها- فخرج فرأى رجلاً في الظلام فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على غني -ليس محتاجاً للصدقة، إذاً للمرة الثالثة لم تقع الصدقة في موقعها الذي يريده- فجاءه ملكٌ في صورة رجل فقال له: أما صدقتك فقبلت، أما الزانية فلعلها تتوب، وأما السارق فلعله يستعف، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده)، انظر إلى فائدة التصدق على أهل المعاصي! وكم من النساء انحرفت بسبب أنها ذهبت إلى بعض الرجال ليقرضها فلم تجد، فتتاجر بعرضها، ونحن نحفظ عشرات القصص في ذلك، وكثيرٌ منكم عنده في جعبته الكثير! إن بداية الانحراف لكثير من النساء سببه أنها لم تجد أحداً يعطيها، فتاجرت بعرضها، وتمرست على ذلك، ومع ذلك تسمعها تقول: أتمنى أن أتوب.
فالمتاجرة بالعرض شيء سخيف جداً، وبشع للغاية، والمرأة البغي لا تشعر بأي متعة في هذا أي متعة تستمتعها المرأة؟! تتمنى أن تتوب، لكن من يكفلها؟! فالصدقة والزكاة طهرة للعبد، قال تعالى:: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وقد قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة، وسموهم بالمرتدين لأنهم منعوها.
إن ضياع بيت مال المسلمين سبب في وجود كل هؤلاء المجرمين في المجتمع، ولو أن أي رجل عاطل لا يجد عملاً يعطى جزءاً من المال -ولو قرضاً- من بيت المال، ليستعين به في حياته؛ فلن يسلك طريق الإجرام أبداً.
فهذه المرأة أو هذا الرجل الذي يسرق لعله ما بدأ طريق الإجرام إلا بسبب أنه لم يجد يداً حانية تعطيه.
فانظر إلى قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي ابنة عم، وكانت من أحب الناس إليّ، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- فجاءت تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ولكن اشتد عليها الكرب، فرجعت إليه تضحي بعرضها في سبيل أن تؤكل أولادها -هذا مثل واقع، امتنعت في السابق رجاء أن تجد يداً رحيمة، ولكنها لم تجد، فماذا تفعل؟ تموت هي وأولادها؟ لا، فتذهب تضحي بعرضها لهذا الرجل وتأخذ منه مالاً- قال: فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -إلا بالزواج الشرعي- فقمت عنها وهي أحب الناس إلي.
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن كثيراً من أهل المعاصي لم يبدءوا في هذا الإجرام إلا بسبب عدم وجود اليد الحانية.
فإياك أن تحتقر أهل المعاصي، لا تشدد عليهم، وارحمهم، وأنت إنما تفعل ذلك رجاء وجه الله تبارك وتعالى، وهذا الحديث حجة في هذا الباب: فيجوز أن تعطي الزكاة -فضلاً عن الصدقة- لأهل المعاصي، وكم يحصل الإنسان من الأجر إذا سلك طريق الصدقة مع أنها لا تضره! فإذا جاء إليك السائل فلا ترده، وأعطه من مال الله الذي أعطاك، فإن بعض الناس قد يرد السائل وتجده في المقابل قد ينفق (مائة جنيه) في وجبة غداء، ويعزم جماعة ويقول: هذا من كرم الضيافة، وهذا من أدب الإسلام مع أنه بخل أن يخرج عشرة قروش! هذه طبيعة في بني آدم؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
إن استطعت أن تتقي شح نفسك التي بين جنبيك (فأولئك هم المفلحون).(21/5)
ما نقص مال من صدقة
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الشح الذي يحمل بني آدم على منع الصدقة، برغم أنهم لو تصدقوا لكان خيراً لهم، ولذلك أقسم النبي عليه الصلاة والسلام -مع أنه قلما يقسم في الأحاديث- فقال كما رواه الترمذي وغيره: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، فإذا كان معك مائة جنيه، فتصدقت منها بعشرة جنيهات، فلا تظن أنه بقي معك تسعون جنيهاً؛ لأن مالك لم ينقص بل ازداد، ولكن العبد يريد أن يرى كل شيءٍ بعينه، وينسى أن صحته أغلى من ذلك، بدليل أنه لو أصابك مرض لأنفقت أموالك في العلاج.
فكونك صحيحاً هذا مال وكون ولدك صحيحاً مال وكونك في عافية هذا مال تصفو أملاكك كما هي هذا مال بيتك كما هو هذا مال وقس على ذلك، ولكن الناس لا يحسون إلا بالنعمة الظاهرة؛ ولذلك قلما يحمد الله تبارك وتعالى من ينظر هذه النظرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم على هذا ويقول: ما نقص مالٌ من صدقة)، والله عز وجل أقسم كذلك، ومن المعلوم أن العباد في شك من الأشياء المقسم عليها؛ ولذلك فإن الخطاب الشاذ في الشيء يحتاج إلى نوع تأكيد، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ما هو؟ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22 - 23].
لأن كثيراً من العباد لا يتصورون أن رزقهم في السماء، ولماذا جعل الرزق في السماء؟ حتى تطمئن أنه لن يستطيع مخلوقٌ أن يقطع رزقك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فإن كنت لا تصدق أن رزقك في السماء: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي: إن هذا الكلام حق، (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ).
أأنت تتكلم؟! فإن كنت لا تشك في أنك تتكلم الآن فإياك أن تشك أن رزقك في السماء.
وقد كان بعض السلف إذا تلا هذه الآية بكى، وقال: من أغضب الجليل حتى حلف على هذا، ونحن نصدقه بلا حلف.
فالأشياء التي يلتبس على العباد معناها تؤّكد، كقول إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يعدد مناقب إلهه وإلهنا العظيم تبارك وتعالى، في مقابل هؤلاء الكفرة الذين يعظمون الأحجار، قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:77 - 78]، تأمل في النظرة! {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:79 - 81].
وقد جيء في الآيات الثلاث الأول بضمير الرفع المنفصل (هو) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) ولم يقل: (فهو يحيين) إنما قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]، فلماذا جيء بضمير الرفع المنفصل على سبيل التأسيس في الثلاث الأول دون الرابعة؟ لأن الثلاث الأول فيها لبس عند العباد: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}، فكثير من الناس الذين تداركتهم عناية الله تبارك وتعالى، يقول: لقد كنت ضالاً فهداني فلان.
فيخطئ بعض الناس فيجعل ما لله تبارك وتعالى للعبد، مع أن الذي هداه في الحقيقة هو الله عز وجل، وما هذا إلا سبب، فلما التبس على العباد معنى الهداية ومن الذي هدى العبد أم الرب تبارك وتعالى؟ فنحتاج أن نؤكد بضمير الرفع المنفصل أن الذي يهدي هو الله فقط؛ ولذلك أُكّد هذا المعنى بضمير الرفع الذي لا محل له من الإعراب: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78].
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79]، يقول بعض الناس: فلان أطعمني وسقاني.
وهذا منتشر كثيراً، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الذي يطعم ويسقي هو الله تبارك وتعالى لا غيره، وهذا موجود -كما قلت- في كلام العباد، فأكد بضمير الرفع المنفصل: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79].
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] لأن كثيراً من الناس ينسبون الشفاء للطبيب، ولا ينسبونه إلى الله تبارك وتعالى صحيح أنهم يعتقدون أن الله هو الشافي؛ ولكن الكلام الذي يخرج من أفواههم: إن الطبيب هو الذي أزال العلة.
وتأمل الأدب في قوله عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ)، فقد في الأول: (الَّذِي خَلَقَنِي)، (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي)، ولم يقل: والذي أمرضني، أو وإذا أمرضني فهو يشفين وإنما نسب المرض لنفسه، كقول الخضر عليه السلام لما خرق السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أنه قال في نهاية المطاف: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، فأنا مأمورٌ بهذا من قبل رب العالمين، لكن عندما جاء ذكر العيب نسبه إلى نفسه تأدُباً، ولما جاء ذكر الرحمة في قصة الجدار قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، فنسبها إلى الله تبارك وتعالى.
فكل هذه المعاني قد تلتبس على العبد، ولذلك أُكدت بهذا الضمير الذي يفيد أن الفاعل هو الله عز وجل، لكن عندما أتى إلى الصفة الأخيرة لم يحتج إلى هذا الضمير؛ لأنه لا يختلف اثنان في الأرض أن الذي يخلق ويميت هو الله عز وجل، ولذلك قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]، فلا يشك أحد أن الذي يميت ويحيي هو الله تبارك وتعالى؛ ولذلك لم يحتج إلى ضمير الرفع.
إذاً: المسائل التي فيها بعض اللبس تؤكد، لكن لا يلتفت إلى هذه المؤكدات إلا قليل من الناس.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما نقص مالٌ من صدقة)؛ لأنك عندما تتصدق -مثلاً- بجنيه، فالحسنة بعشر أمثالها، ويزيد الله تبارك وتعالى تفضلاً منه إلى سبعمائة ضعف، فكم سيكون لك من جبال الحسنات عند الله عز وجل!! فهل نقص مالك؟ لم ينقص.
وقد ورد في بعض الأحاديث أن الصدقة تدفع الضر عن العبد، وكل هذا مكتوب ومقدر عند الله تبارك وتعالى.(21/6)
وجوب النفقة على الأهل
لقد أرسل الله تبارك وتعالى لهذا الرجل الصالح سحابة أفرغت ماءها في بستانه؛ وما ذلك إلا لأنه قائمٌ بالقسط والعدل، فقد قال: (أما ثلثها فأتصدق به، والثلث الآخر آكله أنا وعيالي)، وفي هذا وجوب النفقة على الأهل، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، وفي رواية: (أن يضيع من يعول)، وفي مسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته) وكلمة (كفى إثماً) تدل على عظم هذا الإثم، أي: يكفيه من الإثم أن يضيع زوجته وأولاده، أن يضيع من يقوت، فلا يجوز أن تحبس النفقة عن الأولاد لأن الأولاد ليست لهم زكاة لماذا منعك الشارع أن تعطي الزكاة لأولادك أو لأبيك وأمك؟ فلا يجوز أن تعطي الزكاة للأصول ولا للفروع، فوالدك لا يجوز لك أن تعطي له الزكاة؛ لأن له نفقةً واجبة عليك، وكذلك أولادك لهم عليك نفقةٌ واجبة، فلا يجوز أن تضيع أولاك، بل إنك تتعبد الله تبارك وتعالى بإطعام أولادك.
إن كثيراً من الناس يبخل على أهله وأولاده، ولا أدري الذي يبخل على أهله وأولاده سيكرم من؟ فإذا كان أخص الناس به يعانون من المجاعة وهو حاتم الطائي خارج بيته!! هناك رجلٌ يدخن أكثر من مائة سيجارة في اليوم الواحد، وكان يأخذ الدقيق من بيته فيبيعه ويشتري به شاياً وسكراً، ويأخذ الرز ويبيعه، والزوجة تخرج وتعمل في البيوت، وتتكفف الناس إن باطن الأرض أولى بهذا الرجل من ظاهرها، وحين مات ولده والله لم يوجد في بيته ثمن الكفن!! فانظر إلى أين وصلت التعاسة؟! فكفى بهذا الرجل إثماً أن يضيع من يعول، فضلاً عن الموبقات التي يرتكبها.
فأنت بإنفاقك على أولادك تتعبد الله تبارك وتعالى بذلك، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بغير إذنه إذا كان بخيلاً، ولا ينفق على البيت.
ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (جاءت هند بنت عتبة -امرأة أبي سفيان - رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل علي جناحٌ أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فانظر إلى هذا الحكم (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح) أي: لا يقوم بالنفقة الواجبة، فهل علي جناحٌ أو إثم أو حرج أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ فلم يقل لها: لا، إن هذه خيانة لأن أبا سفيان قصر في الواجب الذي عليه، بل قال لها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وكلمة (بالمعروف) حتى لا تتمادى الزوجة وتأخذ أكثر من حاجتها، ولو أخذت أكثر من حاجتها فإنها تعتبر خائنة آثمة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، والمرأة ربما تجد لها سبباً فتقول: أنا أتمسك بظاهر الحديث (خذي ما يكفيك)، وأنا لا يكفيني مرتبه ولا مرتب عشرة مثله، أنا محتاجة دائماً، والحديث يقول: (ما يكفيك).
إن بعض الأزواج -هداهم الله- يترك بيته وأهله بدون نفقة ويخرج، فتقول له المرأة: إلى أين أنت ذاهبٌ وتتركنا؟ وماذا أبقيت لنا؟ - فيقول لها: أبقيت لكم الله ورسوله.
- فتقول: نريد مالاً.
- فيقول لها: يا امرأة! هذا قول أبو بكر الصديق حين أعطى كل ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله).
إن هذه كلمة حقٍ لا يراد بها الحق، لا أقول: يراد بها باطل؛ إنما أقول: لا يراد بها الحق، فقد وضعت في غير موضعها.
فإن هذا الرجل لا يذهب بماله إلى شيء واجب ولا مستحب ولا مباح، بل قد يكون شيئاً محرماً، أما أبو بكر الصديق فإلى أين لما أخذ ماله؟ أليس لتأسيس اللبنة الأولى من هذا الدين؟ فأين هذا الإنفاق من ذاك؟ إن الفرق كبير بين إنفاق أبي بكر وإنفاق هذا الرجل.
إن هذا يتركهم ويذهب، يجلس في المسجد يأكل ويشرب ويطبخ ويرجع، مع أن الله تبارك وتعالى قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، فليت هؤلاء أول ما يتجهون بالدعوة يتوجهون إلى بيوتهم، وإلى أولادهم، وإلى زوجاتهم، لكنه يدعو في الخارج ويترك أهل بيته يفعلون ما يشاءون، ويظن أن هذه قربة، إنها ليست قربة (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، ويتركهم أكثر من أربعين يوماً، وقد تكون له رحلة ستة أشهر -مثلاً- إلى بريطانيا أو إلى غيرها، ويدخل البلاد ويدعو إلى الله ادع في بلدك إن كنت من الصادقين، لكنه يقول: انظر إلى الآثار المترتبة على الدعوة هناك، عشرات الذين يؤمنون ويسلمون، فيقال: إن هذا ليس من خصائص المسلمين وحدهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر)، فلا تتصور أن المؤمنين فقط هم الذين يسعون لنصرة هذا الدين، بل إن بعض الفجار مرغمون ومسخرون لنصرته.
فقد يأتي عالم مثلاً ويكتب كتاباً علمياً يهز العالم، ثم تجد له أصلاً في الكتاب والسنة! فكثير من الناس يؤمنون بسبب هذا الحديث أو بسبب تلك الآية، فنصر الله تبارك وتعالى وهذا الدين بهذا الرجل الفاجر.
فالشاهد: أنه لا يجوز للمسلم أن يضيع من يقوت، بل عليه أن يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنفقة على الأولاد والزوجة.
وهذا الرجل الصالح: كان ينفق الثلث الثاني على أولاده.(21/7)
الإسلام يحث على استثمار وزراعة الأرض
بقي الثلث الأخير: قال: (وأرد فيها ثلثه)، أي: في الأرض.
وهذا دليل على أن الإسلام يحث على استثمار الأرض، ويحث على استيعاب الطاقات والاستفادة من الجهود المبعثرة، بخلاف بعض الناس الذي يظنون أن الإسلام دين الكسل والتواكل، وهذه فرية بلا مرية، لكن -بكل أسف! - وجد من بيننا من يلوك هذا الكلام، وهم من العلمانيين ذوي الوجوه القبيحة الذين يحاربون الله ورسوله.
والشيء العجيب: أنهم يحتجون علينا بالأحاديث، وهم لا يحتجون بها، وإنما يرددونها حتى يزعموا أنها مكذوبة، برغم أنها في صحيح البخاري، فماذا يريد هؤلاء؟ يريدون أن يقولوا: إن صحيح البخاري فيه أحاديث موضوعة، لكي يزيل هيبة هذا الكتاب من نفوس المسلمين؛ لأنه يعلم أن المسلمين يبجلون صحيح البخاري، برغم أنهم لا يعرفون من هو البخاري ولا حتى اسم البخاري.
وهذا بسبب كلام العلماء عن ثقة هذا الكتاب وثقله ومكانته ومكانة صاحبه رحمه الله.
فيأتي أحدهم ويقول إن: البخاري ليس معصوماً، وهو بشر، وهذا حديث موضوع في البخاري ثم يذكر حديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل داراً فوجد فيها محراثاً -والمحراث: ما يحرث به الأرض- فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ما دخل هذا بيت رجلٍ إلا أدخل الله الذل عليه)، أي: أن هذا المحراث لا يدخل بيت رجل إلا ودخل الذل معه، فيقول: معنى هذا أن الناس لا يحرثون الأرض، ولكيلا يذلوا لا يقتنون المحراث ويحرثون الأرض، أي: لا يزرعون، فقالوا: إذاً هذا الحديث مكذوب باطل، وهذا البخاري الذي تتشدقون بصحته وو إلخ.
مع أنهم لو ردوه إلى أهل العلم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وهكذا يعمل الجهل في أهله، ولو سكت من لا يعلم لقل الخلاف.
إن هذا الحديث صحيح، ولا مرية في صحته؛ بل نحن نقسم على صحته، قال إمام الحرمين: (لو حلف رجلٌ بالطلاق أن كل ما في البخاري صحيح ما ألزمته الطلاق؛ لصحة كل أحاديث الكتاب).
هذا اعتداد بصحة الكتاب.
إذاً ما وجه هذا الحديث؟ لقد حمله العلماء على وجهين: الوجه الأول: إذا انشغل الرجل بالزرع عن طاعة الله أذله الله؛ لأن المحراث هذا يكون سبب الذل، وهل هناك ذل أشد من أن يدخل الإنسان الأرض؟ إذاً الذي يعمل بهذا المحراث ويزرع وينسى الله تبارك وتعالى وينسى التكاليف الشرعية، فيكون المحراث هذا سبباً لذله.
الوجه الثاني -وهو المشاهد الآن تماماً-: أن هذا المحراث سبب في ذل الفلاحين الآن لماذا؟ لأن عليهم جباية، وضرائب، وتحصيلاً إجبارياً على المحاصيل أليس هذا من الذل؟ إذاً: المحراث هو سبب الذل، بسبب الجبايات التي تثقل كواهل الناس.
فيكون هذا المحراث سبباً للذل الواقع على كاهل هذا الإنسان، إذاً فما يدخل هذا المحراث بيت رجل إلا أدخل الله الذل معه.
فهذا الحديث له وجه جميل ومحمل رائق، فهل يقال: إنه مكذوب؟! وقد علمنا أن هذه الأحاديث لا تحثنا على الكسل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في حديث آخر: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، فلو أن أحداً يزرع نخلة وقامت الساعة فإياه أن يقول: لن أزرعها، ولمن أزرعها؟ فالقيامة قد قامت؟! وهل هناك حث أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم (ما من عبدٍ يزرع زرعاً أو يغرسُ غرساً، فيأكل منه إنسان أو حيوان أو طائرٌ إلا كان له به أجر)، هل هناك أكثر من هذا في الحث على زراعة الأرض واستثمارها؟ إلخ، وهناك أحاديث كثيرة في ذلك.
ولكن الإسلام محاصر من جهتين: الجهة الأولى: جهل أبنائه فيهدمونه من الداخل.
والجهة الثانية: كيد أعدائه من الخارج، فالإسلام ما بين كيد الخارج وعجز الداخل.
فصار المسلمون بذلك من أسوأ الأمم على هذه الحياة الآن!(21/8)
العمل بالأسباب من دين الإسلام
إن بعض المسلمين يتعبد بترك العمل، ويزعمون أن العمل من الشرك، وفيهم من يزعم أن من ذهب إلى الطبيب فهو كافر وهذه كلمة خطيرة جداً أن يكفر أحد المسلمين ما لم يقم دليل قاطع وبرهانٌ ساطع على كُفره وهل الأخذ بالأسباب كفر؟ إن هؤلاء الجهلة يكفرون النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب، وقال: (تداووا عباد الله، فإن الله ما جعل داءً إلا جعل له دواءً).
والنبي صلى الله عليه وسلم أليس هو سيد المتوكلين؟ أليس هو غرة في جبين المؤمنين؟ أليس هو سيد ولد آدم ولا فخر؟ فلم اختبأ في الغار لما أراد أن يهاجر؟ هل كان خائفاً من المشركين؟ إن بعض الناس من قصار النظر يزعمون أن عمر بن الخطاب كان أشجع من النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، يقول: لأن عمر خرج وقال: إني مهاجر، فمن أراد أن ييتم ولده وترمل امرأته فليتبعني خلف هذا الوادي.
فما تبعه أحد؛ لأنهم خائفون منه، فـ عمر رضي الله عنه هاجر علناً والنبي صلى الله عليه وسلم هاجر مستتراً! وأبو بكر لما رأى رجلاً ينظر أسفل الغار قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).
والسبب في أن النبي عليه الصلاة والسلام اختبأ في الغار، بينما هاجر عمر رضي الله عنه علانية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، وفعل عمر ليس تشريعاً.
فالنبي عليه الصلاة والسلام إذاً يقول لك: اختبئ من عدوك إن خفت منه؛ لأن فعله حجة، ونحن نأخذ التشريع من أقواله وأفعاله وتقريره صلى الله عليه وسلم، وقد كان يرسل عبد الله بن أبي بكر الصديق وعامر بن فهيرة إلى المشركين ليأتوهم بالأخبار، وهذا فيه مشروعية التجسس على الأعداء والتخفي منهم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه أنس رضي الله عنه، وورد عن علي بن أبي طالب أيضاً قال: (كنا إذا حمي الوطيس -وكانت الحرب على قدمٍ وساق، والرقاب تطير- احتمينا بالنبي صلى الله عليه وسلم)، يختبئون وراءه وذلك لشجاعته صلى الله عليه وسلم وثباته وثبات جنانه وقلبه.
فهذا ليس خوفاً؛ إنما لأن فعله عليه الصلاة والسلام تشريع.
فكيف يقول بعض الناس: إن موقف عمر أشجع، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين ظهرانيهم وهم وقوف على البيت مدججون بالسلاح، وخرج من بين ظهرانيهم ثابت القلب، رابط الجأش؟! إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب المتاحة.
ويزعم هؤلاء الجهلة -الذين يزعمون أن التوكل شرك- أن النبي عليه الصلاة والسلام وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب بأوصاف تدل على خلع الأسباب، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة).
فهؤلاء الجهلة قالوا: قوله: (يسترقون) هذا ضد التوكل، ولكن هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
إذاً: فمن استرقى أو اكتوى أو تطير فهو غير متوكل.
وهذا الحديث مفهومه بخلاف ذلك، فهو صفة لهؤلاء الناس، وليس معناه: أن من لم يفعل ذلك يكون من السبعين ألفاً، فإنهم سبعون ألفاً قدرهم الله عز وجل، ومن صفاتهم: أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أريت نساءً كاسيات عاريات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يرحن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) ففهم بعض الناس من هذا الحديث: أن المرأة إذا أرادت أن تسرح شعرها وتعمل هكذا مثل سنام الجمل، أنه لا يجوز؛ اعتماداً على هذا الحديث، وهذا خطأ، فإن هذا الحديث وصفٌ لنساءٍ لا يرحن ريح الجنة؛ لا أن من تفعل هكذا لا تجد ريح الجنة، هذا منطق مكذوب، وهذه فتوى خاطئة امرأة مؤمنة رجلت شعرها هكذا إذاً تدخل في هذا الحديث؟ لا، فهن صنف من النساء هذه صفاتهن.
وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يكون أقوامٌ -في آخر الزمان- يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة).
فقوله: (يخضبون بالسواد) ليس معناه: أن الذي يخضب بالسواد لا يجد ريح الجنة، فالحديث واضح، أن هؤلاء أقوام كتب الله عليهم أنهم لا يجدون ريح الجنة، وهذه من صفاتهم، لا أن من وجدت فيه هذه الصفة يكون من هؤلاء الناس، وإلا فـ سعد بن أبي وقاص -وهو من العشرة المبشرين بالجنة- كان يخضب بالسواد، وعقبة بن عامر روي عنه بسند لا بأسه به عند الطبراني في الكبير أنه كان يخضب بالسواد، وكانت لحيته بيضاء، وكان رجلاً شاعراً يقول: أخضب أعلاها وتأبى أصولها فلا يقال: إن هذا لا يشم رائحة الجنة.
إذاً: هذا الحديث -حديث السبعين ألفاً الذي يدخلون الجنة بغير حساب- وإن كان بعض العلماء أخذ منه المعنى المتبادر، ولكن المعنى الذي ذكرته هو أقرب المعاني عندي لهذا الحديث: أنه صفة لهؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
الحاصل: أن الإسلام كره الكسل، وحض أتباعه على استثمار الأرض، وعلى الأخذ بكل جديد جيد فيها، وإلا فمعروف أن الدين لا يرتقي إلا بقبضة قوية من المال والعتاد؛ لأن الحق إذا لم يكن معه قوة يداس بالأقدام، فلا بد أن يكون للحق قوة تدفعه.
فهذا الرجل الصالح الذي ذكر اسمه في هذه السحابة يقول: (وأرد فيها ثلثه) يستثمر الأرض ويزرعها؛ لأنك لا تستطيع أن تتصدق وأنت فقير، وكلما كنت غنياً وتصدقت كان لك فضل، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ونسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في علمنا وأن ينفعنا به، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.(21/9)
الأسئلة(21/10)
معنى قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ
السؤال
بعض الصوفية يقولون أن بعض مشايخهم هو الإمام المجدد، ويستدل بقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، فما المقصود بالإمام الذي ورد في الآية؟ وما الرد عليهم؟
الجواب
المقصود المتبادر من هذه الآية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، أن الإمام هو النبي، أي: نبي هؤلاء الناس.
ولفظ الآية يحتمل أكثر من هذا المعنى، فلو أن رجلاً ضالاً أضل الناس وسن سنةً سيئة، فسوف يدعى هذا الرجل ويدعى الذين أضلهم ويحتجون أمام الله تبارك وتعالى، وهناك عشرات المناظرات في القرآن الكريم بين الكبراء وبين المستضعفين، فإذا كان هؤلاء يحتجون أن شيخهم هو الإمام المجدد، فلكل قوم شيخ، فلماذا حصروا الآية على شيخهم فقط إذا كانت المسألة مجزأة هكذا؟ والحقيقة أن هؤلاء المشايخ ليسوا مجددين، ونسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية من تجديدهم، ويصدق عليهم قول الأديب الراحل سامي الجيلاني -وقد كان متخصصاً في كتب الأطفال-.
فيما نقل عنه الشيخ أحمد شاكر محدث مصر رحمه الله، قال: ونعوذ بالله من هؤلاء (المجددينات)، وهذا ليس بجمع، إنما يقال: (المجددين)، فقال: نعوذ بالله من هؤلاء (المجددينات).
فقال له سائله: وما (المجددينات؟) قال: هذا جمع مخنث سالم! فقال وصدق؛ فإن أغلب الذين يزعمون التجديد من هذا النوع.
وقد التقينا بأحد هؤلاء وهو فرماوي فؤاد المضل، وقد بلغ التسعين سنة، التقينا به في سجن طره، وكان يزعم أنه يوحى إليه، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121].
فهؤلاء (المجددينات) إنما يجددون البدع، فهذا يدعى يوم القيامة وعليه وزر تجديد هذه البدع والخرافات والضلالات المضافة لتوحيد الخالق، إلا من عصمه الله تبارك وتعالى، والسعيد من اتبع الكتاب والسنة.(21/11)
شبهات حول نقاب المرأة
السؤال
بعض الناس يسخرون من المرأة المنتقبة، ويقولون: إن المرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المنتقبة؟
الجواب
لم يقل هذا الرأي إلا رجلٌ مرذول، وهو الدكتور إسماعيل مقطور المبتدع الضال في كتابه (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) يقول: إن المرأة المتبرجة -هكذا يقول- أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة!! لماذا يا دكتور؟ يقول: لأن النقاب حرام، والمرأة تنتقب بدعوى التقرب إلى الله، بينما المتبرجة تعلم أنها على حرام، فيمكن أن تتوب من هذا الحرام يوماً ما، ولكن المرأة التي تعتقد أن النقاب فرض تتقرب إلى الله به فهل هذه ستتوب؟ كيف وهي تظن أنها بالانتقاب هذا تتقرب إلى الله؟! لذلك المرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة!! انظر إلى هذا الضلال المبين! ويطبعون كتبه رغماً عن الأزهر النائم، ونسأل الله عز وجل ألا يكون قد مات؛ وكل الخرافات تنشر، ويسب هذا الدين بدعوى حرية الرأي وإذا تكلمت يقولون: لماذا تحجر على آراء الناس؟ هل تزعم أنك أنت على الإيمان وهم على الكفر؟ لا، أنا لا أزعم هذا.
إذاً: دع الناس يتكلمون، وكل شيءٍ يبيحونه بدعوى حرية الرأي، مع أن شيخ الأزهر اشتكى على صفحات الجرائد الرسمية أنه يرسل للرد على بعض أهل البدع في الجرائد ولا ينشرونه، فانظر كيف يتصرفون مع شيخ الأزهر! فسخرية الفاسق لا تعدل شيئاً: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، فإن كنت تعتقد أنك على الحق فلماذا تكون خفيف الوزن؟ كلما ألصق بعض الناس شبهة ذهبت يميناً وشمالاً، بل كن كالجبل الأشم.
وهذا يذكرني بذبابة نزلت فوق نخلة -انظر: الذبابة لا وزن لها، أما النخلة فإنها راسخة- فقالت الذبابة للنخلة: أيتها النخلة استمسكي، فإني طائرةٌ عنك، فقالت لها النخلة: وهل أحسست بك نازلةً حتى أحس بك طائرة؟! يعني: نزلت وصعدت والنخلة لم تشعر بشيء أبداً، فهؤلاء لا يزنون شيئاً في الحقيقة.
المهم أن تعتقد أنك على الحق المبين، كونك أنت الذي تتأرجح.
انظر في نفسك! ستجد أنك غير متأكد من الحق الذي تحمله؟ بدليل أن أي شبهة تهزك، فاستوثق من الحق الذي معك.(21/12)
مراتب الخوف
إن سؤال الناس منه ما هو مشروع ومنه ما هو ممنوع، فالمشروع هو ما كان فيما يقدر عليه الناس، من إغاثة ملهوف، وقضاء حاجة لمحتاج، والممنوع هو سؤال الناس ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا محرم شرعاً.
وكذلك الخوف فمنه ما هو جائز، ومنه ما هو غير جائز، فالجائز هو الخوف الجِبِلِّي؛ كالخوف من سبع، أو من حاكم ظالم، أو من عدو، فهذا الخوف لا يؤاخذ صاحبه به، أما الخوف غير الجائز فهو الخوف من مخلوق مع اعتقاد أن بيده الضر والنفع، والإحياء والإماتة، وغير ذلك مما لا يكون إلا لله عز وجل.(22/1)
حكم سؤال المخلوقين
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:15 - 16].
اعلم أيها المسترشد أن الأصل في السؤال الحرمة، وإنما أبيح السؤال للحاجة: والاستغاثة من السؤال، ومع ذلك فهي شرعت للحاجة.
في الحديث الصحيح عن ثوبان رضي الله عنه، قال: جئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: (من يتكفل لي بواحدةٍ أتكفل له بالجنة، فبادر وقال: أنا يا رسول الله، قال له: لا تسأل الناس شيئاً، قال الراوي: فكان ثوبان إذا سقط سوطه لا يقول لأحدٍ: ناولنيه).
وفي هذا الحديث نموذج لفهم الصحابة وتلقيهم للكلام: (لا تسأل الناس شيئاً) لم يستفصل ولم يقل له: ما الذي أسأل؟ وما الذي لا أسأل، مع أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض يستغني عن السؤال أياً كان، مثال ذلك: رجلٌ غريب دخل بلداً لا يعرفه، فسأل: أين العنوان؟ فهذا من جملة السؤال، ومع ذلك فالصحابي لم يستفصل، هذا كان شأن الصحابة.
ولذلك يقول الشاطبي رحمهُ الله: إن الأصل في الأدلة العموم، كان الواحد منهم إذا سمع الكلام أخذه على عمومه بلا استفصال: (لا تسأل الناس شيئاً).
فعمم ثوبان رضي الله عنه معنى السؤال؛ حتى إن سوطه إذا سقط من يده وهو على الدابة لا يقول لأحدٍ: ناولنيه، وأئمة الحديث: إنما أوردوا هذا الحديث في أبواب الزكاة: أي لا تسألوا الناس أموالهم؛ لكن ثوبان أجراه على العموم.
فالأصل في السؤال الحرمة؛ إنما شرع السؤال للحاجة.(22/2)
أنواع السؤال وحكم كل نوع
والسؤال على نوعين: النوع الأول: لا يَقْدر على إجابته إلا الله.
والنوع الثاني: ما يقدر عليه العباد.
فالنوع الأول: محرمٌ كله، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في وصيةٍ جامعة: (يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
إذا سألت سؤالاً لا يقدر على كشفه إلا الله فلا تسأل فيه غير الله: وإلا فقد قال ربنا تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
فهناك مواضع يسأل المرء فيها، ويستغيث ويستجير، وهناك مواضع لا يحل له أن يفعل ذلك، قال عز وجل: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]، فهذا النوع محرم لا يحل لأحدٍ أن يدعو غير الله.
أما الاستغاثة فيما يقدر عليه الناس فهذه جائزة، ومنها: حديث أنس الذي رواه الشيخان في صحيحيهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب فقال: يا رسول الله: هلك الزرع والضرع ونفقت الماشية فادعُ الله أن يسقينا، قال: أنس وكانت السماء مثل الزجاجة ما فيها قزعة -أي ليس فيها سحابةٌ واحدة- فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء) ولا يجوز للخطيب أن يرفع كلتا يديه على المنبر إذا دعا لحديث مسلم الذي رواه عن عمارة بن رويبة رضي الله عنه: أنه رأى أحد خلفاء بني أمية يرفع كلتا يديه على المنبر: فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، إنما كان يشير بالسبابة)، هذه السبابة، إنما قيل لها سبابة؛ لأنهم إذا سبوا الرجلَ كانوا يشيرون إليه بها؛ لذلك سميت سبابة، وكانت العرب إذا شتم الواحد منهم الآخر كان يشير إليه بأصبعه وهو يسب، فهذه الإصبع سميت سبابة لذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفعها إشارةً إلى التوحيد، (فرفع إصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا).
وفي رواية أخرى قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
قال أنس: فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمطر يتحدر من على لحيته، قال: وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة أو قال: سبتاً) أي: أسبوعاً.
فسؤال المطر -إنزال المطر- لا يقدر عليه إلا الله، فلا يحل لأحدٍ أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا هو.
والنوع الثاني منه مثلاً: حديث أبي هريرة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره فرسٌ له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره شاةٌ لها ثغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئاً).
ففي هذه الآية: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، دليل على وجوب نصرة المظلوم، وأن من ظُلم فطلب الإغاثة، فيجب على الإنسان أن يغيثه بقدر استطاعته؛ لأن هذا أيضاً خاضع للاستطاعة والقدرة.
فلما وكزه موسى عليه السلام فقضى عليه: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]، وليس في هذا دليلٌ على تبرؤ العبد من الفعل، ليس في هذا نفيٌ للأسباب، كما ذهب إليه بعض المبتدعة، قال: هذا من عمل الشيطان، فنفى كسب العبد وهذا لا يجوز.
فمثلاً: لو أن رجلاً زرع (حشيشاً) مثلاً أو (أفيون) فقُبض عليه، فقال: أنا ما زرعت، إن الله قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64]، إن الله هو الذي زرع.
فلا يُقبل منه هذا القول أبداً! لماذا؟ لأنه نفى كسب نفسه.
إنما قال موسى عليه السلام: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]: إشارة إلى أنه الذي يأمر بالفحشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28].
ومثله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من نفسٍ تُقْتَل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا حمل ابن آدم الأول جزءاًَ من هذه التبعة، مع أنه لم يباشر القتل بنفسه، لكنه هو الذي سن القتل.
ومثله وأوضح منه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنةً حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
ومثله أيضاً: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يوشك أن يأتي على الناس زمان فيقول أحدهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضل بترك فريضةٍ أنزلها الله: ألا -وهذا هو الشاهد- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم، ورجم أبو بكر ورجمتُ) مع أننا لا نعلم في خبرٍ من الأخبار قط: أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الرجم بنفسه، لم يباشر الرجم بنفسه ولا أبو بكر ولا عمر، ومع ذلك يقول: رجم رسول الله، ورجم أبو بكر، كما لو قال الرئيس مثلاً: أنا الذي قاتلتُ وأنا الذي انتصرتُ، مع أنه ما باشر القتال بنفسه؛ لكن أمر بذلك، فيُعْزى ذلك للرأس الآمر الحاض على ذلك، ولذلك: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]؛ لا أنه نفى كسب نفسه في المسألة، وإلا لِمَ استغفر إذَنْ؟! إذا كان هذا من عمل الشيطان وهو لم يعمل شيئاً فلِمَ استغفر؟! ولِمَ {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]؟ ما قال ذلك إلا لأنه باشر، فليس في قوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15] نفيٌ للأسباب.
ثم وصف الشيطان بوصفين يتكرران في سائر القرآن: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15] أي: عمله الإضلال، وعداوته بينة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:16 - 17].
وهذا من حق المنعم، أن لا تكون ظهيراً للمجرمين عليك.
يا لَضيعة الوفاء عند اللئام! يأكلون من خيره وينيبون إلى غيره! وهذا ليس من الوفاء.
فهذا موسى عليه السلام يحكي الله عنه: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، أي: بسبب نعمتك عليّ لا أتولى الذين ظلموا.(22/3)
إثبات وقوع الخوف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام(22/4)
خوف داود عليه السلام
كذلك داوُد عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ} [ص:21 - 22] داوُد عليه السلام في محرابه وحده، الباب مغلق، والنافذة مغلقة، فجأة يجد واحداً يقفز عليه من السقف، من الذي لا يخاف! هذا خوف جبلي وطبيعي لا يؤاخذ المرء به ولا يقدح في إيمانه.(22/5)
الخوف يحمل صاحبه على التصرف بعنف
وقد يحمل هذا الخوفُ المرءَ على أن يتصرف بعنف، كما حدث لموسى عليه السلام أيضاً كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بينما موسى عليه السلام جالسٌ في داره إذ قال له ملك الموت: أجب ربك، ففقأ عينه، فصعد ملك الموت إلى الله، وقال: يا رب: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره؛ ثم قال له: اذهب إلى عبدي فقل له: ضع يدك على متن ثورٍ فلك بكل شعرةٍ مستها يداك سنة، فقال موسى: أي رب ثم ماذا؟ قال: الموت.
قال: فالآن).
فموسى عليه السلام في دارهِ الباب مغلق والنافذة مغلقة، فجأة وجد رجلاً في البيت، من أين دخل هذا الرجل، وهذا الرجل دخل صائلاً، والصائل هو الذي يهجم على الناس في البيوت أو يهجم على الناس عموماً، فموسى وجد رجلاً يصول عليه، ويقول له: أجب ربك، أجب ربك، معناها: سلم روحك: يعني يريد أن يقتله: فما كان من موسى عليه السلام إلا أن دفع هذا الصائل، ودفع الصائل مشروع حتى لو أدى الأمر إلى قتل الصائل، فهو جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون أهله وماله فهو شهيد).
فما كان من موسى عليه السلام إلا أن فقأ عينه، وهذا حد الذي ينظر في بيوت الناس بغير إذن فضلاً عن أن يدخل بقدميه، للحديث الذي رواه الشيخان: (أن النبي صلى عليه وسلم رأى رجلاً ينظر إليه وهو في بعض حجر نسائه وبيده مشقص -المقص أو آلة حادة-، فقال عليه الصلاة والسلام: لو أدركتك لطعنتُ بها في عينيك ولا دية لك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) فإذا دخل البصر فلا إذن، إذا جاء رجل ونظر إليك من النافذة وبعد ذ لك طرق النافذة ما معنى هذا الكلام؟! إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فموسى عليه السلام فعل مع هذا الرجل الحد الشرعي أنه فقأ عينه.
وكان ملك الموت عليه السلام نزل بصورةٍ لم يعهدها موسى قبل ذلك ولم يعرفها، لذلك فقأ عينه، فلما رد الله بصره إليه، ونزل إلى موسى في الصورة التي يعرفها موسى لم يفقأ عينه هذه المرة، ولكن قال: (ربّ، ثم ماذا؟ قال: الموت.
قال: فالآن).
فشيء طبيعي أن يفزع داود عليه السلام لما تسور عليه رجلان المحراب فزع منهما، قالا: لا تخف، فهذا خوفٌ جِبِلي لا إشكال فيه، وهكذا.
إنما قلت هذا وأطلت فيه قليلاً لأن من الناس من ظن أن مطلق الخوف يقدح في التوحيد، واحتج بآيات منها قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، قال: فالخوف من غير الله يقدح في التوحيد، فنقول: هذا الإطلاق خطأ، بل الخوف الجبلي الذي يلازم المرء، كالخوف من المرض، والخوف من القتل، والخوف من الأذى، والخوف من الحاكم الظالم فهذا شيء جبلي لا يؤاخذ المرء به، لا سيما إذا كان هذا الذي يخاف منه هو في العادة قبيح، فخاف المرء أن يلابسه فهذا أيضاً لا شيء فيه.(22/6)
خوف النبي صلى الله عليه وسلم
والنبي عليه الصلاة والسلام قال له ربنا تبارك وتعالى كما في قصةِ زيد بن حارثة {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
فهل يُقدح في النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك؟ هذا خوفٌ طبيعي: رجلٌ تطلق زوجة ابنه بالتبني ويتزوجها: هذا لم يفعله أحدٌ من العرب، ولا في أيام الجاهلية، فكيف يفعله النبيل الذي يقبس الناس النبل منه، فاستعظم هذا بينه وبين نفسه، وقال في نفسه: ماذا يقول الناس إذا طُلِّقتْ زوجة ابنه فتزوجها، فيقول له ربه تبارك وتعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
فالخوف من الله عز وجل له رسم، والخوف الجبلي لا يدخل فيه بحال كما سنذكر شيئاً من ذلك إن شاء الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(22/7)
خوف زكريا عليه السلام
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناءُ الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقبل أن أتكلم عن هذه الجزئية الأخيرة: أنبه أيضاً على نموذج آخر من الخوف وقع بعض المفسرين في خطأ تأويله، وهو خوف زكريا عليه السلام، قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:2 - 6].
فهذا نوعٌ من الخوف، وهو خوفٌ على الديانة وليس خوفاً على المال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأن هذا يضل العالمين، فخوف زكريا عليه السلام خوفٌ على الدِّين.
قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] كان زكريا عليه السلام يقوم على خدمة الهيكل، ولم يكن له عقب، فخاف إذا مات ألا يكون من نسله من يقوم على عبادة الله وخدمة الهيكل؛ لذلك تمنى على الله عز وجل أن يرزقه ولداً ليرث هذه المهنة.
: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5]، لم يخف على المال؛ لأن الميت إذا مات وخلف الدنيا وراءه يستوي عنده كل شيء، احذر أن تكون متصوراً أنك إذا مت وأكل الناس حقوق الورثة أنك تشعر بذلك أو تتألم؟ لا.
لا سيما إذا علمت قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) وكانت الحكمة أن أهل أي نبي لا يرثون النبي حتى لا يشغب أهل الدنيا، ويقولون: ورَّثوا الدنيا لأبنائهم فقطع الله عز وجل هذه العلاقة، وهذا يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر) رجل أبوه نصراني معه ملايين: أسلم الولد ومات أبوه في الغد يحرم الله عز وجل عليه أن يرث (مِلِّيماً) من هذه التركة، حتى يكون إسلامه لله خالصاً؛ لذلك قطع العلائق بين أهل الشرك وأهل التوحيد حتى يخلص جناب التوحيد من هذه الشوائب.
فلما قال زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي} [مريم:6]، والأنبياء لم يورثوا مالاً، إنما ورثوا العلم.
قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، هذا الذي يورثه الأنبياء، كلمة التوحيد.
فالذي قال من أهل العلم: إن زكريا عليه السلام قصد المال، وقال: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث)، عام يراد الخصوص هذا خطأ في التأويل؛ إنما خاف زكريا عليه السلام أن لا يقوم أحد بخدمة الهيكل.(22/8)
خوف موسى عليه السلام
اعلم أنه لما قتل موسى عليه السلام الرجل القبطي وصفه ربنا تبارك وتعالى فقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18].
قلت قبل ذلك مجمَلاً: إن موسى عليه السلام هو أكثر الأنبياء ترَدَّد على لسانه ذِكرُ الخوف، ولقد استمر هذا الخوف معه في مراحل حياته، فتأمل: - لما قَتَل: أصبح خائفاً يترقب.
- فلما علموا أنه القاتل وأتمروا على قتله: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21].
- ومضى خائفاً طيلة الطريق إلى أن ورد مدين، فلما نزل على العبد الصالح وقص عليه القصص قال له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
- فلما قضى الحجج التي هي أبعد الأجلين ورجع، فبينما هو راجع مع امرأته إذ رأى ناراً، فذهب ليقبس من النار شعلةً يستدفئ بها، حينئذٍ ناداه ربه تبارك وتعالى وقال له: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]، {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31].
فباشر الخوف أيضاً.
- ولما أمره ربه تبارك وتعالى أن يذهب إلى فرعون وأمره هو وأخاه، وإنما طلب موسى النصرة من الله بأخيه فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34].
- فأمره الله عز وجل وأخاه أن يذهبا إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:44 - 46].
- ولما جاء إلى فرعون وحصلت بينهم مناظرة وجاء وقت المعجزة، وألقي السحرة حبالهم وعصيهم، فلما رأى موسى من شدة سحرهم أن الحبال تسعى قال عز وجل يصف حال موسى عليه السلام: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:67 - 68].(22/9)
خوف إبراهيم عليه السلام
وقد وقع هذا الخوف من جماعة من الأنبياء، منهم مثلاً إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:69 - 70] لما رأى أيدهم لا تصل إليه نكرهم، لماذا؟ لأنه خاف منهم.
أيُّ رجل كريم: إذا نزل عليه ضيفٌ فلم يأكل طعامه اغتم، وهذا يكون في العادة، كما لو ألقيت السلام على رجل فأبى أن يرد عليك السلام فلك الحق أن تخاف؛ لأن رد السلام معناه إعطاء الأمان، فإذا لم يرد عليك السلام فاعلم أنه قد نوى غدراً، فإذا أبى الضيف أن يأكل فكأنما خاف من طعامك، ولذلك كان من شعار الكرماء: أنهم يبادرون إلى الأكل من الطعام قبل أن يأكل الضيف، فإذا رأى الضيفُ صاحبَ الطعام أكل فإنه يطمئن ويعلم أنه ليس فيه سم وليس فيه غدر إلخ.
فلما رأى أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] ثم يستمر سياق الآيات: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:71 - 74] تأمل هنا! {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74]، {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] هذا سبب له خوفاً ورعباً.
فلما علم أنهم ملائكة الله، وأنهم جاءوا إلى قوم لوط قال: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71]، قال بعض المفسرين: إن معنى ضحكت: أي حاضت، وهذا صحيح من جهة اللغة في كلام العرب يقال: ضحكت الأرنب: أي حاضت، وهذا له وجهٌ، حاضت لأنها كانت امرأة آيسة من الحمل، والحيضُ علامة الحمل، وعلامة أن المرأة لا تزال صالحةً للحمل، فإذا انقطع حيضها يئست: وامرأته قائمةٌ فحاضت: وهذا الحيض يدل على أنها لا تزال صالحة للحمل أصلحها الله.
لكن أقول: إن السياق يأباها لقوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:73]، فهو ضحك تعجب، وينبغي أن يُحمل اللفظ على معناه الذي وضع له، ولا ينقل إلا بقرينة صارفة، ولا قرينة هنا، فيحمل الضحك عل حقيقته في الآية.
قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:74] هذا الخوف الذي تقدم بعد ذلك يقول تعالى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} [هود:74].
اعلم أن المرء لا يجادل في الخير إلا إذا كان ذا نفسٍ طيبة، وكان عنده من الهدوء والسلام النفسي ما يحمله على تطويل النفَس في الجدال، وجرِّب لو أن رجلاً نشزت عليه امرأته وعذبته العذاب الأليم، وفضحته وهو لا يستطيع أن يتركها لعلةٍ من العلل: رضي بالذل المقيم لعلةٍِ؛ إما لأن عليه مؤخر صداق عالٍ ولا يستطيع أن يدفعه، وإما لأن أهل المرأة أقوياء فسيناله الأذى، وإما لأن له منها أولاداً فلا يستطيع أن يتركها، لأي علة من العلل أقام على الذل، فإذا جاءه جاءٍ يشتكي إليه امرأته قائلاً: يا فلان إني جئت أستشيرك في امرأتي هي كذا وكذا وكذا وكذا، وأريد أن أطلق، يقول: له: يا أخي! فلتطلق، لماذا ساكت وصابر حتى الآن؟ لماذا لا تطلق؟ طلق، لماذا أرشده إلى الطلاق؛ لأنه اكتوى بهذا الذل الذي يكتوي به من جاء يستشيره، تأمل في الآية: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:74] انتهى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} [هود:74] لم يجادل قبل ذلك وهو في الروع، لماذا؟ لأنه ليس لديه الاستعداد لمثل هذا الجدال بسبب الخوف، لكن بعد ذهاب الخوف فإنك ترى المرء يأمر بالبر والإحسان إذا كان عنده من السلام النفسي ما يجعله يتحمل هذه التوسعة.
فهذا الخوف من إبراهيم عليه السلام خوفٌ جبلي لا شيء فيه على الإطلاق.(22/10)
خوف يعقوب عليه السلام
كذلك خاف يعقوب: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13].
في بعض الإسرائيليات التي في كتب التفسير: إن الله عز وجل قال ليعقوب: (خفت الذئب على ابنك ولم تنظر إلي لأحرمنك منه أربعين سنة)!! هذه الإسرائيليات كلها لا خطام لها ولا زمام، إذاً الخوف الطبيعي الجبلي لا يؤاخذ المرء به: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13].(22/11)
الخوف من الله عز وجل مكانته وثمرته
ثم نرجع إلى ما كنا فيه: اعلم أن الخوف من الله من المقامات العلية التي لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال؛ أما الفجرة، فلا يخافون، قال تعالى عن بعض هؤلاء الفجرة: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]؛ لأن المفروض إذا كان الخوف واقعاً ممن يقدر على إيقاع العقوبة به فينبغي أن يخاف وإلا فهو جريء: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}، وهذا أدعى لإيقاع العقوبة بهم، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43].
يعني لو أنه عند نزول المصيبة ونزول العقوبة تضرع وتذلل وكف عن المعاصي لكان خيراً له، ويقول: أنا تبت وأنبت، ارفع عني! لا.
بل إن العقوبة تنزل وهو فاتح لصدره.
فلذلك حقت عليه العقوبة وألا يرفعها الله عنه، قال تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] وكان ينبغي أن يستكين ويتضرع في موضع البلاء.
فالخوف من الله من المقامات العلية، وهو سببٌ لدخول الجنة، كما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (كان رجلٌ ممن كان قبلكم) وقد ورد في حديث عقبة بن عامر وأظن أيضاً في حديث ابن مسعود: (أن الرجل كان يعمل نباشاً للقبور)، تُدفن الجثة، فينبش القبر ويأخذ الكفن، ويترك الميت عارياً، (كان رجلٌ ممن كان قبلكم أسرف على نفسه -والإسراف هو الإكثار من الذنوب- فلما أدركته الوفاة جمع أولاده فقال: أي بني كيف كنت لكم؟ قالوا: كنت خير أبٍ قال -وهذا في بعض الروايات-: فلا أعطيكم شيئاً من مالي إلا إذا نفذتم وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم دقوني ثم ذروني في يومٍ شديد الريح، -وفي رواية قال:- اجعلوا نصفاً في البحر ونصفاً في البر، قالوا: لم يا أبانا؟ قال: إن الله لو قدر عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات ونفذوا وصيته، أمر الله عز وجل البحر أن يرد ما أخذ وأمر البر أن يرد ما أخذ، ثم قال له: كن، فاستوى بشراً، قال: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: رب مخافتك، قال الله: أما وقد خفتني فقد غفرت لك).
مع أنه لما فعل ذلك أراد أن يعجِّز الله! وبالغ في التعجيز بأن قال: (أحرقوني ثم اسحقوني ثم دقوني ثم ذروني في يومٍ عاصف) كل هذا يظن أن الله لا يقدر على جمع جزئياته إذا تناثرت، فظن أنه يريد أن يعجز القدرة، إلا أنه في حال غلبة الخوف فقد اتزانه وتفكيره، فظن أنه بذلك يفر من ربه، فعلم الله صدق خوفه وإن كان أحمقاً في تصرفه، فلما علم صدق مخافته منه قال: (أما وقد خفتني فقد غفرت لك)(22/12)
مقام الله عز وجل معناه وخصائصه
وقد تكرر ذكر مقام الله في القرآن ثلاث مرات: قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14].
وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
فمقام الله: يعني قيامه ومراقبته للناس، كقوله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، أي يراقبها: و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]، أي خاف قيامي عليه ومراقبتي له: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14].
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، إذاً: هذه مراقبة.
ثم اعلم أن هناك خصيصة في الخوف وهي الخشية.
والخشية أخف من الخوف؛ لأن الخشية عبارة عن خوف بعلم، هذه هي الخشية، ولذلك فهي أخف من مجرد الخوف؛ لذلك اختصت الخشية بالعلماء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
فالخشية: إنما هي خوف بعلم، بخلاف مطلق الخوف، فإن مطلق الخوف قد يحمل المرءَ على أن يرتكب الخطأ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.(22/13)
حديث عمر بن الخطاب في مراتب الدين
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر، وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاستلقفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب).(22/14)
ترجمة ليحيى بن يعمر
وقبل أن أشرح الحديث أذكر ترجمة عن يحيى بن يعمر لأنني ما عرفت به، يحيى بن يعمر تابعي أدرك ابن عمر وابن عباس -والرواية هنا عن ابن عمر - وهو أول من نقط المصحف، وكان المصحف قبل ذلك يكتب بدون نقط، فهو الذي وضع النقاط على المصحف بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان رجلاً فصيحاً يستظهر كتاب الله عز وجل.
ويذكر أبو سعيد الشيرازي في كتاب أخبار النحويين البصريين أن الحجاج بن يوسف -وأنتم تعرفون أن الحجاج بن يوسف كان رجلاً غاية في البلاغة ووحشي الألفاظ وغريبها- مرة قال لـ يحيى بن يعمر: (هل وقفت لي على لحنٍ قط؟ فقال له: إن الأمير لا يلحن)، وهي إجابة لطيفة ذكية، فلم يقل له: أنت لا تلحن، ولكن قال له: إن الأمير لا يلحن، أمير الأمراء المحترم المؤدب لا يلحن، لماذا؟ لأنه كان من العيب أن يخطئ الأمير في الكلام.
وليس كأمراء آخر الزمان لا يقيمون لفظاً، لماذا؟ لأنهم لم يتأدبوا، ولكن وصلوا إلى الكراسي قفزة، بينما في القديم كان يربى الولد على سياسة الملك، فأولاد عبد الملك بن مروان كلهم: الوليد وهشام وسليمان كان يأتي لهم بكبار علماء اللغة ليعلموهم اللغة، وعلماء الحديث ليعلموهم الحديث، وعلماء الفقه ليعلموهم الفقه، ويشب الولد من صغره على الآداب، فإذا جلس في مجلس لا يجلس (كالأطرش في الزفة).
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان هو الذي يقضي بين أهل العلم إذا اختلفوا، وكان الأمراء قديماً علماء وأدباء، وكان عندهم دراسة وفطنة، ففي إحدى المرات قال المأمون لشخص: (ما تأمر من السواك؟ -يعني: إذا أحببت أن تقول لرجل أن يستاك فما تقول له؟ - قال: استك يا أمير المؤمنين! قال: بئس ما قلت! فقال لآخر: وأنت ما تقول؟ قال: سُك يا أمير المؤمنين! قال: أحسنت) مع أن قول الأول غير مدفوع عن الصواب من جهة في اللغة، لكن هذا الرجل عنده ذوق، فكانوا يورثون الأدب والفطنة والكلام للأولاد.
ومرة دخل غلام على هارون الرشيد -وكان هارون يلبس خاتماً جميلاً- فقال للولد الصغير: (هل رأيت أجمل من هذا الخاتم؟ قال: نعم الإصبع التي فيه)، ولم يكن متوقعاً أن يجيب بهذه الإجابة الخطيرة، لأنه لو قال له: نعم هناك أحسن منه، فهذا غلط وعيب، وهذا الكلام لا يقال لأمير المؤمنين لأنه أحسن من يلبس، فلو قال له: نعم، الرجل الفلاني أو غيره، فهذا خطأ، ويكون هذا الولد ما تربى، وإنما قال له على البداهة: الإصبع التي فيه!! فكانوا يربونهم على الأدب وإقامة الكلام.
فقال الحجاج لـ يحيى بن يعمر: (هل لحنت قط؟ قال إن الأمير لا يلحن، قال: عزمت عليك -وكانوا يعظمون عزائم الأمراء، فإذا قال الأمير: عزمت عليك فكأنه حلف بالله- فقال له: نعم، غلطة! قال: في أي؟ قال: في كتاب الله، فقال الحجاج: ذلك أشنع، وأين في كتاب الله؟ فقال: أنت تقرأ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة:24] بضم الباء في كلمة (أحبُ) والصواب (أحب)، فكان الحجاج يقرؤها هكذا، فقال له الحجاج: لا جرم! لا تسمعني ألحن أبداً، ونفاه إلى خراسان، حتى يلحن الحجاج براحته، لأنه قال له: لن تسمعني ألحن أبداً، يعني: في عمرك لن تسمع مني كلمة خطأ بعد هذا اليوم، فكونه ينفيه أسهل من أن يصلح من نفسه.
فـ يحيى بن يعمر كان رجلاً يستظهر كتاب الله، وكان رجلاً عربياً سليقة، وهو أول من نقط المصاحف، فلما نفاه إلى خراسان وقعت معركة بين يزيد بن المهلب قائد الحجاج بن يوسف الثقفي وبين مجموعة، فبعث يزيد بن المهلب للحجاج تقريراً من أرض المعركة فقال له: فعلنا بعدونا كذا وكذا وظفرنا عليهم، وانتصرنا عليهم، ونحن في عرعرة الجبل وهم في حضيضه، فقال الحجاج: ما هي عرعرة؟! ما بال ابن المهلب وهذا الكلام؟ فقالو له: إن يحيى بن يعمر هناك، قال: إذاً، يعني: لا يأتي بهذا الكلام الخطير إلا رجل مثل يحيى بن يعمر، لكن يزيد بن المهلب من أين له عرعرة هذه.
وهذا يذكرني بـ أبي زيد الأنصاري أحد علماء النحو الكبار، وكان أنحى هؤلاء الثلاثة، فكان أنحى من الأصمعي وأنحى من أبي عبيدة، وهذا حكم أبي سعيد الشيرازي، يقول: إن أبا زيد الأنصاري لقي أعرابياً يوماً فقال له: ما المتكفف؟ قال: المتأدب.
قال: وما المتأدب؟ فغضب الأعرابي غضباً شديداً وقال: المحنبطي يا أحمق! و (المحنبطي) واضحة المعنى مثل الشمس، ولذلك قال له: يا أحمق! لأنه من المستحيل ألا تفهم (المحنبطبي) فهذه مصيبة، مع أنه كان فيه ذكاء بالنسبة لصغره، والمحنبطي: هو المنتفخ البطن، ويوصف الرجل القصير عالي البطن بأنه محنبطي.
فـ يحيى بن يعمر رحمه الله كان أول من نقط المصاحف، ثم كان ممن شارك في تقسيم المصحف إلى أرباع وأحزاب وأجزاء وكان ذلك بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي.(22/15)
من فوائد حديث عمر بن الخطاب(22/16)
لزوم لطالب لهيئة المتعلم بين يدي شيخه
فهذا الرجل جاء وارتكب مخالفات: أول مخالفة: أنه ألصق ركبتيه بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية: أنه وضع يده على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام، وورد في بعض الروايات: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذي نفسه)، ولو عمل هكذا لتأدب بآداب أهل العلم، فلو أعملنا الرواية الأولى يكون قد بالغ في تعمية أمر نفسه على الصحابة، لأنه جعل نفسه أعرابياً ويريد أن يفهمهم كلهم أنه أعرابي، وأنى له أن يكون أعرابياً وهو شديد بياض الثياب وشديد سواد الشعر؟ المسألة واضحة تماماً، لكن أحب أن يعمل نفسه أعرابياً حتى يعمي أمره على الصحابة، وهذا على الرواية الأولى.
وعلى الرواية الثانية: أنه وضع يديه على ركبتي نفسه وهذه هيئة المتعلم، إذاً هو لزم أدب طلاب العلم، ونحن نقول لإخواننا الطلبة ونحن منهم: لا يجوز لك أن تخلع (زي) التلميذ ما دمت تطلب العلم، ولا تزال تطلب العلم إن كان فيك خير إلى أن تموت، فإذا اقتنع المرء بالذي طلبه فقد بدأ في النقصان، إذاً مسألة أن تتأدب مع من تأخذ عنه العلم هذا يفيدك أكثر مما يفيد شيخك، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل.
والإمام أحمد بن حنبل مع جلالته كان يجلس تحت قدمي عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ولا شك أن الإمام أحمد أجل وأحفظ وأفضل من عبد الرزاق، فـ عبد الرزاق بن همام الصنعاني إمام أهل اليمن، وهو الذي أعطى اليمن الحظوة هو ومعمر بن راشد أبو عروة رحمة الله على الجميع، فكان الإمام عبد الرزاق وابن معين يجلان الإمام أحمد، وكان ابن معين من أصحابه، فكان عبد الرزاق بن همام الصنعاني يميزهما، وفي المجلس كان عبد الرزاق يقول لـ أحمد: اجلس بجانبي، فيأبى ويجلس تحت قدميه ويقول: (هكذا أمرنا أن نفعل مع شيوخنا)، ولم ينزل مقدار أحمد ولا قدره لما تواضع لشيخه، برغم أنه أفضل من شيخه: قد يبلغ الضالع شأو الضليع ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع وهذا كلام الشوكاني عندما قال له مشايخه: اشرح منتقى الأخبار لـ أبي البركات ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية ذرية بعضها من بعض، كان أبو البركات شيخ الحنابلة، وابنه عبد الحليم كان شيخ الحنابلة، وابنه أحمد الذي هو ابن تيمية الإمام الكبير كان شيخاً للإسلام، فـ أبو البركات له كتاب اسمه منتقى الأخبار من كلام سيد الأخيار عليه الصلاة والسلام، فشرحه الشوكاني في كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، فيقول الشوكاني: إن مشايخه ألحوا عليه -ويغيظني كثيراً أن واحداً ما زال قزماً يأخذ هذه الكلمة الكبيرة ويقول: فلما كثر إلحاح إخواني عليَّ وبرغم كثرة مشاغلي، حتى أني لا أجد الوقت الذي أحك فيه رأسي، لكن قلت: أمري إلى الله وشرحت الكتاب الفلاني، ويكون الحديث غير ذلك، لكن الكتاب ينبي عن صاحبه-، فعندما تقرأ نيل الأوطار ستعرف أن مشايخه قالوا له افعل كذا وكذا وجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ثم تمثلت قول الشاعر: قد يبلغ الضالع شأو الضليع ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع يعني: أنا وإن كنت ذا عرج أمشي خلف الصف، فإن سبقت فكم لرب الورى من فرج، وإن تخلفت فما على أعرج من حرج، فأنا فعلاً أعرج وأمشي خلفهم، فإذا سبقتهم فكم لرب الورى من فرج، وإن تخلفت عنهم فليس على الأعرج حرج، وهذا معنى كلام الشوكاني، فيقول: قد يبلغ الضالع شأو الضليع يعني: إن كنت ضالعاً وما زلت تلميذاً فقد يمن الله عز وجل علي فأبلغ شأو الضليع والكبير، فإن لم يكن كذلك فلتكن الأخرى.
ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع.
مع أنه ليس بعاقل، يعني: هو متعاقل ورفيع أيضاً، فإذا قلنا: يا جماعة من العقلاء؟! قالوا: فلان، فيعدون في جملة العقلاء، فهو يقول: أنا وإن لم أصب الأولى فدخولي في جملة أهل العلم يجعلني منهم، ولو على سبيل المجاز.
فلو أعملنا هذه الرواية: (وضع يديه على فخذي نفسه) فيكون قد تأدب بأدب طلاب العلم، إذاً يجب أن يلزم الطالب الأدب إلى أن يرفعه شيخه، فإذا رفعه شيخه فلا بأس أن يطيع من باب الأدب أيضاً، مثل ما كان يفعله الفضل بن دكين أبو نعيم رحمه الله مع الإمام أحمد بن حنبل ومع الإمام يحيى بن معين، فذكر ابن حبان وغيره: أن الفضل بن دكين كان إذا جلس للتحديث يجلس على دكاة -والدكاة المكان المرتفع- ويجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن شماله، فذات مرة أراد يحيى بن معين أن يختبر حفظ شيخه الفضل بن دكين، فكتب أحاديث في ورقة وخلطها بأحاديث غير الفضل، وهو يعرف أحاديث كل راوٍ، فأتى بعدد من الأحاديث في ورقة وخلط أحاديث الفضل بأحاديث رواة آخرين، ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي: إذا خف المجلس فناول أبا نعيم هذه الورقة وسله: هل هذا من حديثك؟ فقال أحمد بن حنبل لـ يحيى بن معين: يا أبا زكريا! الرجل حافظ لا تفعل! فقال: لابد، يعني: لازم أعمل فيه هذا المقلب، وكان يحيى بن معين جريئاً، ولذلك كانوا يخافون منه، ولما مات تقدم رجل جنازته وقال: هذه جنازة الذاب الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عنده جرأة، فقال: لابد، فبعد أن خف المجلس قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطاه الورقة، فنظر فيها الفضل وارتفعت عينه، ودارت حدقته، إذاً كشف الملعوب، ما دام عمل هكذا فقد اكتشف الملعوب، ثم سكت ساعة -ولست أعني بالساعة ستين دقيقة، وإنما فترة زمنية- ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا -يعني ابن حبنل - فآكد من أن يفعل هذا، وليس هذا إلا من عمل هذا -يعني ابن معين -، قال: ثم أخرج رجله ورفسه فألقاه من على الدرج، وقال: عليَّ تعمد!! فقام يحيى بن معين وقبل جبهته وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فانصرف أبو نعيم مغضباً فقال له أحمد: قلت لك!! فقال يحيى: والله لرفسته أحب إليَّ من رحلتي.
وهذا هو ضرب الشيوخ الذي هو مثل أكل الزبيب، لماذا؟ لأنه ظفر بحفظ الفضل، وخرج من هذه العملية كلها بمكسب كبير، وهو أن يسجل شهادته للفضل بن دكين بأنه حافظ ضابط.(22/17)
غالب الأوصاف المذكورة في الأحاديث تعطي حكماً شرعياً
قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر) والعلماء يقولون: إن الأوصاف المذكورة في الكلام يتعلق بها حكم، يعني مثلاً لو أن شخصاً أحب أن يتزوج امرأة فيسمع الذي يعقد يقول لوليها: قل: زوجتك ابنتي البكر البالغة العاقلة الرشيدة فلانة الفلانية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصداق المسمى بيننا، فبعض الناس يتصور أنها مجرد ديباجة محسوبة هكذا وانتهى الأمر، فنقول له: لا.
هذه الديباجة كلها أوصاف لو اختل واحد منها فسد العقد، يعني: (زوجتك ابنتي) فلو زوجه ابنة أخيه فسد العقد، ولو زوجه ابنة جاره فسد العقد، و (ابنتي فلانة)، فلو زوجه أختها فسد العقد، ولهذا يجب تعيين اسم البنت التي ستتزوجها، فلا يصح أن تقول له: زوجتك ابنتي.
وعندك عشر بنات مثلاً فتعطيه بنتاً عرجاء أو عوراء ثم يقول لك: أنت لم تعين!! لكن لو قلت: زوجتك إحدى ابنتي مثلما قال الرجل الصالح: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] لم يتم التعيين، فمن الممكن أن يزوجه أي واحدة منهما، فكذلك إذا أنت قلت: زوجتك ابنتي ولم تعين اسماً، فمن الممكن أن تعطيه أي واحدة، لكن لو قلت: فلانة وأعطيته أختها انفسخ العقد مباشرة ويأخذ المهر كله، حتى ولو دخل بها.
(زوجتك ابنتي فلانة البكر) فلو كانت ثيباً انفسخ العقد، (البالغة): فإذا كانت لم تحض انفسخ العقد، (العاقلة) فإذا كانت مجنونة انفسخ العقد، (الرشيدة) كل هذه أوصاف، (على كتاب الله وسنة رسوله) فلو عقدوا على ملة وسنة موسى مثلاً أو على مذهب أي أحد انفسخ العقد أيضاً، فهذه كلها عبارة عن أوصاف، وليست ديباجة محسوبة لتزيين الكلام.(22/18)
أهمية التأدب والوقار بين يدي العلماء وأهل الفضل
وهنا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) الوصف الذي هنا كلمة (شديد) كررها عمر بن الخطاب مرتين، وهناك وصف آخر أيضاً وهو: (بياض، وسواد) فعندما يقول لك: (شديد بياض، شديد سواد) إذاً لفت نظر عمر بن الخطاب شيء مهم جداً، وهو الذي دعاهم جميعاً إلى استغراب الموقف كله، وهو أن هذا الرجل آتٍ من بيته، وإلا لو جاء من مسافة بعيدة لاتسخت ثيابه، ولتغير لون شعره، فبدلاً من أن يكون شديد السواد صار رمادياً مثلاً من التراب، وهذا يعني: أن الرجل اغتسل وخرج من بيته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فلا يوجد بينه وبين الرسول سوى مسافة قصيرة، هذا معنى: شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فمن أين أتى هذا؟!! فلو كان رجلاً مدنياً من أهل الحضر لعرفناه، وانظر إلى كلمة: (لا يعرفه منا أحد) وطأ لها بذكر النكرة في مطلع الكلام، وذكر النكرة في الإثبات تفيد الإطلاق.
(إذ طلع علينا رجل) فهو يوطد بكلمة (رجل) التي هي نكرة بقوله: لا يعرفه منا أحد؛ لأنهم كلهم كانوا يعرفون بعضهم في المدينة، وسمعت بعض أهل العلم من علماء المملكة يقول: إن المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي التي تحت المسجد النبوي الآن، ما عدا أهل العوالي، هذه هي المدينة كلها: عبارة عن أبيات محصورة معروفة، كل الصحابة يعرف بعضهم البعض، فعندما يأتي رجل لا يظهر عليه أثر السفر، ونظيف، ولا نعرفه، فهذا مما يدعو للعجب، والغريب أنه جاء في سمت جفاة الأعراب، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يوقرون النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغاية القصوى، وإذا رأوا رجلاً يخالف مقتضى الأدب في حضرته عليه الصلاة والسلام كانوا يزجرونه ويؤدبونه، والصحابة الذين عاشوا معه عليه الصلاة والسلام تأدبوا بأدب القرآن: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] قال أنس: (فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأل)، وإنما ذكر العاقل، لأن الأحمق أو المجنون سوف يتكلم بأي كلام فيضيع عليهم الأسئلة، ويضيع عليهم الإجابة، فلا يستفيدون شيئاً، لكن لو كان رجلاً عاقلاً رزيناً أسئلته تمس الحاجة فإنهم يستفيدون منه.
فهذا الرجل جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وهذا أيضاً من الملفت للنظر؛ لأن الآتي من البادية ما كان يميز النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وإنما كان يسأل عنه، لماذا؟ لأنه كان يجلس وسط أصحابه، كما في حديث عند البخاري وغيره أن رجلاً وهو ضمام بن ثعلبة جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيكم محمد؟ -لا يعرفه- فقالوا: هو ذلك الرجل الأبيض المتكئ)، فلم يكن يعرفه، فلما رأى الصحابة ذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (هلّا صنعنا لك منبراً؟!) حتى يجلس عليه إذا جاءته الوفود، بدلاً من أن يسألوا عنه، فيعرفوا أنه هو الجالس على المنبر، قال: (إن شئتم، فصنعوا له منبراً من يومه) فهذا جاء غريباً عن الناس وعرف النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل مباشرة وقال: (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه وقال: يا محمد) وهذه ليست طريقة أناس تأدبوا بأدب القرآن، فدخل مباشرة ووضع ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع يده على فخذيه، يعني: على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وإن كان يجوز بين الأقران لكن لا يليق ولا يجوز مع أهل الفضل.
وحديث المسور بن مخرمة في الصحيحين فيه أن عروة بن مسعود الثقفي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية قال: فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلما علم المغيرة بن شعبة أن عمه عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذهب -وهذه الرواية خارج الصحيحين- فتلثم وأتى بسيفه ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فكلما تكلم عروة بن مسعود -مس لحية النبي صلى الله عليه وسلم بيديه- فيضربه المغيرة على يده بنعل سيفه ويقول له: أخر يدك!! فينظر ولا يعرف من الواقف، لماذا؟ لأنه ملثم، فينسى نفسه مرة أخرى ويتكلم كلمتين أو ثلاثة ويمس لحية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يضربه على يده ويقول له: أخر يدك! فينظر إليه فلا يعرفه حتى إذا كررها أكثر من مرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من هذا الذي أزعجني سائر اليوم؟ وقال له: سائر اليوم يعني: لم يقل هذا الوقت، فما كانوا يحتملون المكروه، أو كقول أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك سائر اليوم!! يعني: يدعو عليه من أول اليوم إلى آخره، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة) فقال: (أي غُدَر! -أي: أيها الغادر- لا زلت أسعى في غدرتك، وهل غسلت سوأتك إلا أنا بالأمس؟!!) وكان المغيرة قد صحب ثلاثة عشر رجلاً من أهل الجاهلية، فشربوا الخمر فسكروا، فقام عليهم فذبحهم جميعاً وأخذ أموالهم، وهرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، وأعطاه المال بعدما حكى له الحكاية: أنهم سكروا وذبحتهم، وجئتك مباشرة أعلن إسلامي، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء إنه أخذ غدراً) فهو سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيح أن حذيفة بن اليمان لم يشهد بدراً، لأنه كان قد خرج مع أبيه فراراً من قريش إلى المدينة، فأمسكهم كفار قريش، وسألوهم عن وجهتهم؟ فقالوا: متوجهون إلى المدينة! فقالوا: لا ندعكم حتى تعطونا الميثاق أنكم لا تقاتلونا معهم، فأعطوهم ميثاقاً، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: عملوا فينا كذا وكذا وقالوا لنا: العهد والميثاق ألا تقاتلونا، وانظر هنا إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم لهم: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، فلذلك لم يقاتل حذيفة بن اليمان في بدر، ليس لأنه لم يكن موجوداً، ولكن لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) وهذه هي السياسة، وليس معناها أن تكون كل يوم بوجه، فالسياسة التي لا دين لها لا يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلّمها أصحابه؛ لأنها ليست هي السياسية الشرعية: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).
فالقصد أن عروة بن مسعود الثقفي لما كان يضع يده على لحية النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وإن جاز أن يكون بين الأقران لكن لا يجوز أن يكون مع أهل الوقار، ويستقبح معهم، ويستقبح مع كبار السن، يعني مثلاً: رجل مثلي إذا أراد أن يدعو شيخاً كبيراً فلا يعامله معاملة المثل حتى وإن كان فوقه في العلم، لابد أن يحترم سنه وشيبته، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحكي لي أخونا الشيخ الحبيب أبو الفرج محمد بن إسماعيل حفظه الله يقول: مرة دخلت مع شاب عمره (17) عاماً لا يزال حديث عهد بالتزام، وكان يصحبه يتعلم منه، فدخلوا بقالة، فوجد الشاب رجلاً بلغ الستين من عمره يدخن (سيجارة)، فمباشرة ذهب هذا الشاب إلى هذا الرجل ووضع يده على كتفه، وقال له: ما اسمك؟ فأخبره باسمه، ثم قال له: ما هذا الذي في يدك يا فلان؟ ألم تعلم أنها حرام؟! ارمها تحت رجلك! يقول الشيخ محمد: فاستحييت، ليس لأنه أدركه الحياء لأن الولد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، لكن طريقة الأمر والنهي نفسها كانت طريقة سيئة، فمثل هذا الولد عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن منكم منفرين).
فإذا وجدت رجلاً كبيراً على معصية فتلطف به أولاً ولا تزجره ولا تجترئ، فإذا رآك تحترم سنه استحى أكثر، فمسألة التوقير مسألة مطلوبة، وهناك حديث تكلم فيه بعض أهل العلم وحسنه آخرون، وهو حديث: (أنزلوا الناس منازلهم)، فالراجح ضعف هذا الحديث، لكن معناه صحيح حتى وإن لم ننسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.(22/19)
الأفضل للمفتي أن يجيب على المسألة مع ذكر الدليل
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (حدثني أبي عمر بن الخطاب) وفي هذا دليل على أن المرء من أهل العلم لو سئل في مسألة فالأفضل والأوقع أن يذكر دليل المسألة؛ لأن عبد الله بن عمر كان من الممكن أن يكتفي بالمسألة، فيقول له: لا.
هذا القول خطأ، أو غير ذلك، لكن بادر عبد الله بن عمر إلى ذكر الدليل بغير شرح منه؛ لأن الدليل واضح، وهذا من محاسن الفتيا، على خلاف من قال: إن ذكر الدليل فيه تشويش على العامة، وهذا ما عظم الدليل حق تعظيمه، ولا قدر الدليل حق قدره، فذكر الدليل من محاسن الفتيا، حتى وإن كان العامي يسأل عن موقع الحجة من الدليل، لكن ذكر الدليل يعطي قناعة للمستمع.
إذا سئلت عن مسألة فقلت: قال الله عز وجل فيها كذا وكذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا استعظم المستفتي أن يخالف هذه الأدلة إلى رأيه، بخلاف ما إذا قلت له رأيك المجرد حتى وإن كان مدعوماً بالدليل، فإن قال قائل: فلماذا نرى الأئمة المجتهدين لا يذكرون دليلاً في الفتوى؟! يعني: الأئمة المجتهدون في الفقه كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسفيان الثوري والأوزاعي وهؤلاء العلماء، فعادة عندما نقرأ كلامهم في الكتب لا نراهم يعنون كثيراً بذكر الأدلة؟ فنقول: إن المسألة تخرج على حسب حاجة المستفتي، ونحن لم نشترط كلما سئلت عن مسألة أن تعدد عليها الأدلة، لكن كلما أتيح لك أن تذكر الدليل فبادر، فإن الأئمة كانوا يصدرون الفتاوى المجملة تبعاً لحاجة السائل، فالسائل عادة لا يريد دليلاً بل يريد الحكم في المسألة، فإذا اعترض عليه معترض بدليل يأتي له بأدلة، أو يؤول له دليله، ونحن لا يرد علينا هذا الكلام لأننا ما اشترطنا على المفتي أن يذكر دليل المسألة لكل سائل، ولكن كلما أمكنه أن يأتي بالدليل كان أوقع في نفس المستفتي، والغالب على فتاوى الصحابة أنهم كانوا يذكرون الأدلة، كما في حديث ابن عمر، لما قالوا له الشبهة رد عليهم بحديث.(22/20)
العواصم من القواصم
لقد كان الله سبحانه وتعالى يعلم نبيه عليه الصلاة والسلام كل يوم ويأمره أن يعلم أصحابه مما علمه، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني يومي هذا) وفي قوله: (مما علمني يومي هذا) إشارة وتنبيه للمرء إذا أراد أن يستوفي حكماً ما أن يأخذ بجميع النصوص ليدرأ التعارض الظاهر.(23/1)
شرح حديث عياض بن حمار: (خطبنا رسول الله)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
درسنا بعنوان: (العواصم من القواصم).
وسنتعرض فيه لشرح حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، وأحمد في المسند من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فكان مما قال فيها: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، قلت: رب! إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة.
قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك.
قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال.
قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبَرَ له الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل والشنظير: هو الفحاش).(23/2)
القرآن سلاح ضد الشيطان
وبهذه النكتة ننهي الكلام عن هذا الجزء من الحديث، وهو قوله: (تقرؤه نائماً ويقظاناً): ورد في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر الصدقة -جعله حارساً على تمر الصدقة- فبينما أنا جالس في هجيع من الليل، إذ رأيت رجلاً يحمل تمراً في حجره، فأمسكته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فشكا حاجة عياله، وأقسم أنه لن يعود، فتركته، فلما أصبحت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل صاحبك البارحة يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! شكا حاجة عياله وأقسم أنه لن يعود.
قال: كذبك وسيعود.
فلما كانت الليلة الثانية جاء يحثو التمر، فأمسكته -وتكرر نفس الفعل، فلما أصبحت سألني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: شكا حاجة عياله وأقسم أنه لن يعود.
قال: كذبك وسيعود.
وفي الليلة الثالثة جاء ليحثو التمر، فأمسكته وقلت: أما هذه المرة فلن أدعك، ولأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ألا أعلمك شيئاً ينفعك وتتركني.
قلت: وما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك إذا قرأتها لم يزل عليك من الله حافظاً حتى تصبح).
أي: وأنت مستيقظ تذكر الله سبحانه وتعالى، وهو سلاحك ضد الشيطان، كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي أوله: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات إلى أن قال: قال يحيى لبني إسرائيل: وآمركم بذكر الله، وإن مثل ذلك -أي: مثل من يذكر الله- كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى مغارة حصينة فاحترز بها منهم، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)، فمعك سلاح، وأنت قادر على أن تهزم شيطان الجن في أول جولة، فإنه أول ما تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يولي الأدبار، أما شيطان الإنس فلو قرأت عليه القرآن كله يقول لك: إنا هاهنا قاعدون، فأنت تغلب شيطان الجن من أول جولة، وهو مهزوم دائماً؛ لأنك إذا استعذت بالله منه، فر وهرب.
فإذا كنت مستيقظاً تذكر ربك سبحانه وتعالى وتستغفره، وكلما رأيت شيئاً في هذا الكون ذكرت الله، فلن يقترب منك الشيطان، لكن حين تنام وتلقي سلاحك، فإن عدوك سوف يغتالك؛ لأنك قد ألقيت سلاحك؛ ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا عندما نأتي لننام أن نقول: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك)، ما أجمل هذه الجملة! لا يمكن أن تعطي ظهرك لإنسان خائن أبداً، وحين تقول: وألجأت ظهري إليك، كأنك تقول: يا رب! لن أوتى وقد ألجأت ظهري إليك أبداً.
يا رب! أنا سأنام، وقد ألقيت سلاحي، فأنت الذي ستتولى حفظي، وأنا حينما كنت مستيقظاً فإنني أذكرك ولا أفتر عن ذكرك، فقد ألجأت ظهري إليك فاحمني.
وقبلها يقول: (وجهت وجهي إليك)؛ لأنه قد ينام ولن يقوم، فقد يموت، فوجهه ذاهب إلى الآخرة: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30]، وهذا ترجمة للحديث الآخر: (اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، إن أمسكت روحي فهي إليك، وإن أرسلت روحي مرة أخرى فاحمني حتى لا يغتالني عدوي.
فأنت ستقرأ القرآن قبل أن تنام؛ فيكون من عاقبة القراءة أن الله تبارك وتعالى يوقف ملكاً يحرسك إلى أن تستيقظ فتقرؤه نائماً؛ أي: حال نومك، وأنت عندما تنام وتقرأ القرآن تكون قد احترزت من عدوك من الجن.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء همنا وغمنا وحزننا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(23/3)
القرآنيون وبيان انحرافهم
نحن -أهل السنة- نفهم القرآن ليس كما يزعم المنتسبون إليه ممن يسمون الأشياء بغير مسمياتها.
يقولون: نحن القرآنيون.
وهم ينكرون السنة! يسمون الأشياء بغير اسمها، ومن المعلوم -مثلاً- أن أكثر الناس خيانة هو أمين الصندوق، ومع ذلك فإنه يسمى أمين الصندوق، والمثل يقول: (حاميها حراميها)، فقد تجد رجلاً -مثلاً- مبتدعا، ً وبدعته كفرية، ومع ذلك لقبه (محيي الدين)!! ومثل هذه يوضحه أحد الشعراء وهو يتوجع على ذهاب بلاد الأندلس، وقد ذهبت منا بإهمال الولاة والانغماس في الملذات والشهوات، وكان كل واحد من هؤلاء الأمراء يسمى (عضد الدين، ركن الدين، محيي الدين، ناصر الدين) وهم الذين ضيعوا الدين، فهذا الشاعر لما رأى هذه الألقاب الكبيرة ليست في مكانها أنشد قائلاً: ومما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يأتي انتفاخاً صورة الأسد فهؤلاء القرآنيون يقولون: نعمل بالقرآن فقط.
فإذا سألتهم عن السنة قالوا: ليست من القرآن.
وكذبوا؛ فإن فالذكر قرآن وسنة بإجماع أهل العلم، والمرء إذا أهمل السنة فلا بد أن يكذب على الله، ولو أخذ بالقرآن وحده فهو كاذب على الله ولا بد؛ لأننا إذا تركنا السنة جانباً سنحل ما حرم الله.
فمثلاً: مسألة: هل يجوز لأحد أن يتزوج خالة امرأته أو عمة امرأته ويجمع بينهن؟ بالنص والإجماع: لا يجوز.
فهل وردت هذه المسألة في آية المحرمات؟ لم ترد أليس ربنا سبحانه وتعالى بعدما ذكر المحرمات قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] وهذا كلام صريح.
إذاً: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها بالنص والإجماع، فأين هي في القرآن؟ قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119] (فصل) أي: ذكر كل الجزئيات، فهل تجدون في القرآن تحريم لحوم الحمر الإنسية؟ الذين يقولون: نحن قرآنيون، وتركوا السنة بحجة أن الرواة غير معصومين، نقول لهم: هل يجوز أكل لحم الحمار؟ سيقولون: لا يجوز.
فأين تحريمه من القرآن؟ مع أن الآية واضحة {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119]، وهذا التفصيل غير وارد في القرآن، فأين هو؟ إذاً: هو في السنة، ولذلك قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، قالوا: الذكر: قرآن وسنة.
وأما حديث: (يا معاذ! بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد.
قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي ولا آلو)، فإنه حديث منكر عند أهل العلم بالحديث، البخاري، والترمذي والعقيلي وعند الدارقطني، وطائفة يصل عددهم إلى العشرة ذكرهم الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة.
وحتى لو صح هذا الحديث فلابد من فهم القرآن فهماً مستقيماً، فالقرآن مع السنة على مراتب: المرتبة الأولى: القرآن والسنة مع بعض.
المرتبة الثانية: ما انفردت به السنة من تأسيس الأحكام.
المرتبة الثالثة: ما لم يرد في السنة وثبت بالاجتهاد.
إذاً: هناك نص من القرآن يؤخذ مع السنة، فلا يصح أن ينفصل أحدهما عن الآخر؛ لأن السنة من تمام القرآن، وهي المبينة للقرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، مثل الآية التي نتكلم فيها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، إلا أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها، هذا تخصيص، فإذاً جاء القرآن مبيناً، والتخصيص من جملة البيان، وكقوله تعالى:: {إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة:173]، (الميتة) اسم جنس محلى بالألف واللام يفيد العموم، و (الدم) اسم جنس محلى بالألف واللام يفيد العموم، ولنفترض أنك لا تعرف شيئاً عن هذا الاشتمال أبداً، وقرأت هذه الآية: {إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173]، فستفهم أن كل أجناس الميتة يدخل ضمن هذه الآية.
لأن: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي شيء يموت.
إذاً: أنت لا تستطيع أن تأخذ بالقرآن فقط هنا، ولابد أن تأخذ معه بالحديث؛ لأن الحديث بيان للقرآن؛ فصار الحديث من تمام القرآن وهذا هو النوع الأول، الذي هو النوع المبيِّن لكلام الله الذي لا يستطيع أن ينتفع به المرء إلا ببيان السنة.
النوع الثاني: الذي يمكن أن يتنزل عليه الكلام، أي: لم تجده في القرآن، فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالأحكام التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم ولا توجد بلفظها في القرآن، وإن كانت بفحواها في القرآن، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (ما من حُكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في القرآن) لابد، وليس لازماً أن يكون بنص، أو أن تأتي آية مخصوصة في هذه االمسألة.
ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه البخاري وغيره: أن امرأة سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يذكر حديث: (لعن الله الواشمة والمستوشمة، والفالجة والمتفلجة، والواصلة والمستوصلة).
فقالت: يا ابن مسعود! أتقول: لعن الله؟ قال: وما لي ألا ألعن من لعن الله، وهو في كتاب الله؟! فذهبت تلك المرأة إلى البيت وأخذت المصحف وقرأته من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، حتى تقف على آية لعن الله الواصلة والمستوصلة، فما وجدته، فذهبت إلى ابن مسعود وقالت: (يا ابن مسعود! لقد قرأت القرآن ما بين دفتيه -من الجلدة للجلدة- ولم أجد فيه ما تقول.
فقال: لئن قرأتيه لقد وجدتيه.
قالت: قرأته.
قال: أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فهذا مما آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
إذاً: الإمام الشافعي أثبت هذا الكلام على مثل هذه الأحاديث، فما من حكم للنبي صلى الله عليه وسلم إلا ويرجع للقرآن نصاً، أو لآيات إيجاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن حين نأتي لنفهم قوله: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، لا نتصور أن الكتاب مقصود به القرآن فقط، بل القرآن وبيانه؛ إذ لا يُنتفع بالمجمل عادةً إلا إذا جاء البيان، ولأن الإشكال إنما يقع في باب الإجمال، فإذا كان النص مجملاً بلا بيان فقد تفهم شيئاً والآخر يفهم شيئاً آخر، فإذا بين زال الاختلاف.
((23/4)
قوله: (وأنزلت عليك كتاباً)
إذا كان الله سبحانه وتعالى وضعك في هذا البلاء وهذه المعركة، فقد جعل لك سلاحاً فقال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، هو هذا سلاحه: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً) (، فهو منهج حياة، وما معنى قوله: (لا يغسله الماء)؟ فلو كتب القرآن وغسل بماء فإن الحبر يذهب، فما معنى (لا يغسله الماء؟) إن إزالة النجاسات تكون بالماء خصوصاً دون سائر المائعات شرعاً وعرفاً.
فلو وقعت النجاسة في ثوب وتريد أن تزيلها، فلو غسلتها بحليب أو بزيت أو بسمن فإنها لا تذهب، فالنجاسة لا تذهب إلا بالماء شرعاً وعرفاً.
وكذلك القرآن، فمعنى: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، أي: مثلما أن الماء يغسل النجاسات فالقرآن كذلك، لكن النجاسة التي يغسلها القرآن نجاسة الشرك ونجاسة الذنب، وكلمة (لا يغسله الماء) أي: لا يستطيع أحد أن يزيد فيه حرفاً ولا كلمة، ولو فعل ذلك فسترى آلاف الصبية من سائر الدنيا يردون عليه.
يذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان: أن رجلاً نصرانياً ورد على أمير المؤمنين المأمون، فلما علم أنه نصراني دعاه إلى الإسلام، فقال له: أسلم وسأعطيك كذا وكذا فقال: هو ديني ودين آبائي، لا أتركه أبداً.
وانفض المجلس، فلما كانت السنة التي بعدها جاء هذا الرجل مسلماً فقيهاً، ودخل وعليه ملابس العلماء، فلما رآه المأمون شبه عليه، فقال: ألست فلاناً؟! قال: بلى.
فقال له: ما خبرك؟ قال: بعدما فارقت مجلسك عمدت إلى التوراة وكتبت ثلاث نسخ فأخرت وقدمت، وزدت فيها وأنقصت، وأعطيتها للأحبار فقبلوها وأجزلوا لي العطاء، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ بخط جميل، وزدت فيه وأنقصت، وأعطيتها للرهبان، فقبلوها وأجزلوا لي العطاء، قال: وكتبت ثلاث نسخ من المصحف -القرآن- وزدت فيه وأنقصت فردوه علي؛ فعلمت أن هذا الدين حق، فأسلمت.
فلا يستطيع أحد أن يغير فيه ولو حرفاً واحداً، وهذا مسيلمة الكذاب -حتى كلمة (الكذاب) صارت مرتبطة باسمه دائماً، لما أراد أن يؤلف قرآناً ضحك منه الناس، ويقال: أن عنده سورة الضفدعة، والتي قال فيها: (نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون) انظر إلى هذا الكلام! وعلى شبكة الإنترنت تجد الكثير من هذا، فهل يظن هؤلاء الأوغاد أنهم يستطيعون أن يمسوا جناب القرآن؟! خابوا وخسروا فربنا سبحانه وتعالى يقول:: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، (عزيز) أي: منيع، والإنسان العزيز هو الذي لا يستطيع أن يقرب منه؛ لأنه عزيز، كما قال قريط بن أنيف أبياته في قبيلة مازن، وأنهم قوم لا يستطيع أحد قط أن يعتدي على رجل ينتسب إليهم أبداً، فهذا الرجل كان معه جملان أو ثلاثة، فمر شخص قاطع طريق فأخذها وذهب، فحزن لهذا جداً، فذهب يستنفر جماعته وقبيلته فلم يقم معه أحد، فكلهم جبناء؛ فأنشد أبياتاً في غاية الروعة، وهذه الأبيات هي التي افتتح بها أبو تمام ديوان الحماسة، يقول: لَوْ كُنْتِ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا أي: لا يهربون، بل يفرحون باللقاء.
لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لا يطلبون دليلاً على دعواه.
ولَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا إذاً: قبيلة مازن متصفة بالعزة، ولا أحد يستطيع أنه يصل إليها هذا هو معنى العزة.
فالقرآن منيع {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، بل بلغ من عزة هذا الكتاب أن يفارق صدر من أهمله، فالذي يتركه ولا يقرؤه لا يظل في صدره أبداً؛ لأنه عزيز.
فمثلاً: شخص يزورك وأنت تقطب في وجه، وتؤخر عنه الغداء، وتغضب عليه.
فلا يمكن -إن كان عزيزاً- أن يزورك مرة أخرى، بل لو أحس أن شيئاً من الإهمال -ولو كان يسيراً- يصدر منك، فلن يدخل بيتك أبداً، وأي إنسان عزيز فإن هذا هو تصرفه.
والقرآن هكذا، إذا ما قمت وقعدت، وسهرت، وسألت الناس: كيف أحفظ القرآن وأحافظ عليه؟ فإنه يتركك ويذهب؛ لأنه عزيز الجانب.
ولقد جعل الله عز وجل القرآن مهيمناً، كما قال سفيان بن عيينة: (عهد الله عز وجل إلى اليهود بحفظ التوراة فحرفوها، وعهد للنصارى بحفظ الإنجيل فحرفوه، فلم يعهد بالقرآن للمسلمين، إنما تولى تبارك وتعالى حفظه بنفسه).
فالسلاح الشديد القوي، النفيس الماضي في معركتك مع كل الفئات هو القرآن.(23/5)
قوله: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال)
ثم قال: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال)، هذا واضح أنه من كلام رب العالمين؛ لأن الحديث فيه كلام ينسب إلى الله تبارك وتعالى، وكلام ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويفهم من هذا أن الأصل الإباحة؛ لأنه قال: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال).(23/6)
قوله: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم)
ثم قال: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم)؛ لأن لفظة (كلهم) هنا للعموم؛ لأن لفظة (الكل) من أقوى صيغ العموم، وقوله: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) وهذا واضح في آية الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، وكما في الأحاديث الصحيحة: أن الله عز وجل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره بيده، فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وأودع فيهم عقولاً، وخاطبهم في عالم الغيب: ألست بربكم؟ فقالوا جميعاً: بلى.
شهدنا، فقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172]-أي: لئلا تقولوا، كي لا تقولوا- {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]) أي: أنا أشهدك الآن حتى لا تدعي أنك كنت غافلاً عن هذا يوم القيامة.
ولأن العباد لا يذكرون هذا الميثاق أرسل الله عز وجل الرسل تذكر بهذا الميثاق، وجعل الثواب والعقاب منوطاً بوصول البلاغ رحمة من الله تبارك وتعالى بعباده.
فيقول ربنا عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) مع أن (كل مال نحلته عبداً حلال)، فلماذا يحرمونه؟ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] لكنهم حرموا ما أحل الله لهم، مع أن الأصل: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال)، فبين لنا ربنا تبارك وتعالى أن الشياطين اجتالت هؤلاء الناس عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحل الله، وأحلت لهم ما حرم الله عليهم، وبدءوا يضعون قوانين لهذا الباطل.
ولن أنسى أبداً الواقعة التي نشرت منذ سنوات: أن مستشاراً في آخر عمره أراد أن يتوب من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها في حياته، وأنه كان يحكم بغير ما أنزل الله، وأنه لابد أن يحكم بما أنزل الله، فجاءت له حالة زنا، فالمحامي ظل يؤخر في القضية حتى تقع في دائرة هذا المستشار؛ لأن هذا المستشار إذا جاءه إنسان محصن -متزوج- وزنى، فسيحكم عليه بالرجم، ويقول: حكمت المحكمة برجم فلان وفلانة.
ومن المعلوم في هذه الأيام أنه لا يوجد جهة تنفيذ، فلا أحد يرجم، فالرجم -عندهم- معناه: البراءة، فلو حكم عليه بالسجن أو أي حكم آخر فسيقع عليه الحكم، لكن أن يحكم عليه بالرجم فلا يوجد من ينفذ الرجم، فستكون براءة مباشرة، ولذلك فالمحامي ظل يؤخر القضية لكي تقع في دائرة هذا المستشار حتى يقول: حكمت المحكمة عليه بالرجم، ووقع ما تمناه المحامي، ووقعت المسألة في دائرة هذا المستشار، وحكمت المحكمة عليه قتلاً بالرجم، فضجت القاعة بالتصفيق، وخرج الزاني براءة.
فكيف يمحى مثل هذا الحكم ويحل محله حكم آخر: وهو أن البنت حرة التصرف في عرضها، وأن المسألة هذه مسألة مزاج، فلو أن الزوج دخل فوجد امرأته مع رجل أجنبي، وتصافوا مع بعض، تسقط الدعوى! مع أن إقامة الحد حق لله تعالى لا لأحد سواه، حتى لو تنازل الزوج، فإذا وصلت للحاكم صار إقامة الحد حق لله عز وجل، كما في حديث صفوان بن أمية في سنن النسائي وغيره.
: (أنه كان نائماً ووضع عباءته تحت رأسه، فجاء سارق واستلها من تحت رأسه من غير أن يدري، وأوشك أن يفر بها، فقام صفوان وراءه فأمسكه وقبض عليه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذا الرجل استل هذه البردة من تحت رأسي، وأنا نائم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده فتفاجأ صفوان رضي الله عنه بالحكم، أتقطع يده لأجل ثلاثين درهم؟! فقال صفوان: يا رسول الله! وهبتها له.
-لكي لا تقطع يده- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هلا قبل أن تأتيني) أي: لِمَ لم تقل هذا الكلام بينك وبينه؟! أما وقد طالما جئت فقد انتهى الأمر، ولم يعد إقامة الحد حقاً لأحد، وإنما صار حقاً لله عز وجل، فلا يجوز إسقاطه أبداً.
فعندما يأتي الزوج ويقول: أنا راضٍ عن امرأتي، وقد عفوت عنها.
ويسقط الحد، مع أن الله عز وجل لم يسقطه.
يقول النبي صلى الله في هذا الحديث:: (فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)، قوله تبارك وتعالى في هذا الحديث الإلهي (وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً) إشارة إلى كل حكم وضعي يخالف الشريعة، فما أنزل الله سلطاناً بهذه الأحكام أبداً.(23/7)
قوله: (وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)
ثم قال في الحديث: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).
ذهب طائفة من علماء العربية وطائفة من علماء الأصول إلى أن (إنما) من صيغ الحصر، وهي تساوي (لا) و (إلا) في الاستثناء، مثل: لا إله إلا الله، فهنا نفيت كل الآلهة عدا الله تبارك وتعالى، فصارت الإلهية محصورة برب العالمين تبارك وتعالى، هذا هو معنى نفي الاستثناء.
نقول: (إنما) تفيد الحصر على رأي طائفة كما ذكرت فقوله: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) فكأن غاية البعثة -بعثة النبي صلى الله عليه وسلم- وقوع هذا الابتلاء وهذا الاصطدام بين أهل الحق وأهل الباطل، ولو تأملت حكمة الله الباهرة في وضع هذا الابتلاء لعلمت أن الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا، وهو ناصرهم وإن كانوا قلة ما داموا معتصمين بأمره.
وسنة الدفع جاءت في القرآن في موضعين، وفي الموضعين جميعاً قتال: الموضع الأول: في سورة البقرة في قصة طالوت وجالوت، وفي آخرها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، إذاً: بقاء الأصل أننا في عداء مستمر، وهذه سنة كونية لا بد أن تقع، ولو كان هناك أناس في الدنيا أهل لأن يزيلوا الخلاف لكان الصحابة أولى بذلك لكنهم ما استطاعوا، فظهرت الخوارج والشيعة، وبدعة القدر ظهرت في آخر عهد الصحابة، ومع ذلك عجز الصحابة عن أن يجعلوا الشيعة يتركون آراءهم، وهم الصحابة، الذين لديهم الحجة، ومعهم الأدلة، ومعهم الصحبة أيضاً، ومع ذلك عجزوا عن أن يزيلوا الخلاف.
فهذا الاختلاف مهم جداً حتى تبقى الأرض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].
والموضع الثاني: في سورة الحج بعد قوله تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، فتأمل هذه السنة! إن الذين ينكرون أشياء من السنة، ويطعنون في صحيح البخاري في الجرائد والمجلات، ويرمون الصحابة بالكذب نقول لهم: تعالوا نأخذ جزئية إنكار الشفاعة، والتي تورط فيها الدكتور مصطفى محمود، فإنه أولاً أنكر الشفاعة العظمى، وبعد ذلك أنكر حجية السنة، ومن حكمة الله أنها تمت هكذا؛ لأنه لو أنكر السنة أولاً لما أنك عليه، لكنه فضح نفسه بإنكار الشفاعة العظمى، ثم لما جاء ينكر السنة انكشف، ومثله كمثل الذي سرق كشافاً واختبأ في حارة مظلمة! إن الذي يتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم لا يسلم أبداً؛ لأن الله عز وجل هو الذي يدافع عن رسوله، ففي سورة التحريم لم يسلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم لملعقة عسل، قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] سيحال بينكم وبين ما تريدون: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فالذين يسبونه صلى الله عليه وسلم ويتعرضون له، سيحال بينهم وبين ما يريدون؛ لأن الله عز وجل هو الذي يدافع عن نبيه.
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) وهو يتكلم عن حرمة الرسول وارتفاع جنابه عليه الصلاة والسلام، قال: حدثني كثير من الفقهاء الذين كانوا يغزون الروم بأنهم كانوا يحاصرون الحصن شهراً وشهرين أو ثلاثة أشهر، والروم في الداخل معتصمين ومعهم الزاد، فنكاد نيأس من فتح هذا الحصن، فيقعون في عرض النبي عليه الصلاة والسلام فيسبونه؛ فيفتح الحصن بعد يوم أو يومين، فقال هؤلاء العلماء: فكنا نتباشر بسب النبي عليه الصلاة والسلام مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما نسمع.
فأول ما يقعون في الرسول صلى الله عليه وسلم ويسبونه، نعرف أن الفتح قادم مباشرة، فالله عز وجل هو الذي يدفع عن نبيه، فتعالوا نرى سنة الدفع: من قديم الزمان ونحن نقول للناس: الأحاديث الموضوعة والمكذوبة وعلة الحديث إلخ، وما أحد يستمع، بل يقولون: هذا كله كلام أكاذيب، وكلام مصطلح حديث إلخ، فكان من لطف الله عز وجل -وهذه سنة الدفع- أن قيض الدكتور لينكر المقام المحمود -الشفاعة العظمة- حتى تصير السنة قضية، وهذا هو الذي نريده، نحن نريد أن يكون الكلام في السنة كلام كتب، نحن نريد أن تكون السنة قضية تشغل الناس كلهم، ويفكرون كيف ننصر الدين؟ وكيف ننصر رسوله؟ وهذا -بحمد الله عز وجل- أصبح جلياً واضحاً بعد هذه المحنة، فكثير من الناس رجعوا إلى دين الله عز وجل، واستجابوا -مثلاً- لتفريغ طلاب العلم، وأناس تبرعوا في منتهى الحمية، وما كنا نتصور أن يكون رد فعل الجماهير مشرفاً إلى هذا الحد!! فكان من تمام سنة الدفع أن يشتموا الصحابة حتى نذكر فضائل الصحابة، والناس يعرفون من هؤلاء الصحابة وأن ينكروا السنة حتى نعرِّف الناس كيف صنف البخاري كتابه، وأن الجماعة الذين يتكلمون في البخاري لا يصلحون أبداً لأن يزيلوا الأذى عن البخاري، لا ينفع، لكي يكف عن البخاري الذي يقول لك: إن في البخاري أحاديث مكذوبة والبخاري عبارة عن أحاديث موضوعة والبخاري أحاديثه إسرائيليات، وأضف إلى ذلك قوله: وسيحاسب الله البخاري أشد الحساب! فهذا من جملة البلاء ولكنها نعمة من الله، فإذا نظرت إلى أثرها علمت أن الله تبارك وتعالى لطيف، وأنه أرجع بهذه المحنة فئات من الشاردين عن هذا الدين أرجعهم إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وصار لهم انتماء، فالمسألة (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) هذه مسألة أصلية؛ ولذلك أناط الله عز وجل البلاء بأوليائه، فلماذا جعل أولياءه هم الذين يبتلون ويشردون لماذا؟ أليس الله تبارك وتعالى قادراً على أن ينصرهم بـ (كن)، وأن يمكن لهم؟ أليسو هم أولى الناس أن يسعدوا في الدنيا؛ لأنهم عباد الله المتقين الأخيار؟!! إن هذه الدنيا يتمتع بها الخواجة، ويتمتع بها الكافر والفاجر، وأما أهل الإيمان وأهل الدين فهم الذين يحرمون الدنيا فما هي حكمة الله في ذلك؟ حكمة الله في ذلك: أن القلب لا يحيا إلا في المحن، فهو يستمد مادة حياته من المحن، هكذا خلقه الله عز وجل، فالجوارح تستمد مادة حياتها من الراحة والدعة، أما القلب فيستمد حياته من العوارض والمحن، ولأجل هذا جعل الله تعالى البلاء من نصيب أوليائه ليلقوه عز وجل بقلوب ثابتة.
وأنت في البلاء كالسابح ضد التيار، والذي يسبح ضد التيار معنى ذلك: أنه سيخرج بشيئين: قوة القلب، وقوة العضلة.
ولذلك فما من محنة تمر على المرء إلا ويخرج منها أزكى، وأقوى مما كان، والمسألة تشبَّه بالكرة المطاطة، فكلما ضربت الكرة المطاطة في الأرض بعنف كلما صعدت إلى الأعلى أكثر.
فجعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه لأجل هذا؛ لأن العبد في الآخرة إنما يوزن بقلبه، كما يقول ابن القيم رحمه الله: (يأتي الرجل السمين البدين ولا يزن عند الله جناح بعوضة)، برغم أنه بدين الجسم، لكن الله عز وجل لا يزن الناس بالأجسام، إنما يزن الناس بالقلوب، كما في حديث ابن مسعود أنه كان ضعيفاً نحيلاً فصعد يوماً على شجرة، فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه، قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)؛ لأنه لا يوزن بجسمه عند الله تبارك وتعالى.
إذاً: البلاء قرين الدعوة وقرين الالتزام، فإذا سعيت إلى ربك فأنت مبتلى ولا بد، فلا بد أن تهيئ نفسك للبلاء والحديث واضح: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).(23/8)
الجهل هو سبب الهجوم على السنة النبوية
إن سبب هذه الهجمة التترية الخطيرة على السنة هو أن الناس جهال؛ فلم يجثوا بركبهم يوماً ما بين أيدي العلماء، ولم يقرءوا كتاباً من أوله إلى آخره قط، ولذلك يهاجمون السنة هذه الهجمة التترية، ولابد أن يقف المسلمون لها، ولكن كيف يقف المسلمون لها؟ أن يفرغوا طلاب العلم، لطلب العلم والمنافحة عن الكتاب والسنة، فإذا كنت تاجراً -والله عز وجل لم يوفقك لطلب العلم- فأنت تخرج من مالك الزكاة، وأغلب طلاب العلم فقراء يستحقون الزكاة، وحتى لو كان مستوراً في الأكل والشرب، فالمراجع التي يحتاج إليها للتحضير والقراءة بالألوف المؤلفة، فهو محتاج على أي حال، فأد الزكاة إليهم.
وإذا كنت تحب دينك ولا تريد أن تلقى الله خائناً، فانشغل بأمر دينك، والدفاع عنه، لا سيما في زمان الغربة.
وقد يقول قائل: ماذا نعمل؟ نقول: انظر إلى طالب علم وأنت تخرج الزكاة، وقل له: أنا سأكفلك -ولا تقل له: سأعطيك زكاة مالي، فإنه لا داعي أن تخوض في هذه المسألة- وفرغ وقتك للذب عن دين الله عز وجل.
فتصير بمالك فارساً من الفرسان؛ لأن أزمتنا أن الحدود مفتوحة، وأي دولة حدودها مفتوحة من السهل جداً أن تدخل إليها كل المحرمات، ولن يرد ذلك إلا حراس الحدود، ولكن أين هم؟! فالنبي عليه الصلاة والسلام حين يقول: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا)، ثم ذكر أن أهل الجنة ثلاثة وأهل النار خمسة، حتى لا يأتي شخص يحصر أهل الجنة في ثلاثة وأهل النار في خمسة فإن هذا مما علم رب العالمين رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، وكان كل يوم يعلمه، وفي هذا اليوم علمه رب العالمين تبارك وتعالى طائفة من أهل الجنة وطائفة من أهل النار.(23/9)
عدالة الصحابة والرد على من طعن فيهم بحجة أنهم غير معصومين
والجهلة الذين تسوروا منابر الكلام، والكتابة في الصحف، دخلوا في هذا الباب الواسع الذي آخره الكفر، وعارضوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما جعل هذا الرجل اليمين جنة جعلوا الرواة جنة؛ لأنه لا يستطيع أن يُكذِّب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يستطيع أن يرد كلامه، فيكذب الصحابي.
بل يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم حاشا لله أن يكذب لكن الصحابة بشر غير معصومين.
وإذا كان مؤدباً فإنه يكذب الرواة، وإذا كان حقيراً ليس عنده حياء ولا أدب اتهم الصحابة كـ أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، واتهام أبي هريرة رضي الله عنه أمر قديم يقول لك: إن أبا هريرة أسلم في عام خيبر، وهو يروي ألاف الأحاديث، وأبو بكر الصديق أول من أسلم، ومسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يعتبر أوسع مسند في الإسلام ليس فيه لـ أبي بكر إلا قرابة اثنين وثمانين حديثاً، و: أبو بكر الصديق ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أسلم في ليل أو نهار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر)، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يفارقه إلا إذا دخل غرفة نومه، فكيف يروي هذا اثنين وثمانين حديثاً وأبو هريرة الذي أسلم متأخراً يروي آلاف الأحاديث؟! فإن عدد أحاديث أبي هريرة تقارب خمسة آلاف حديث.
فبدءوا يطعنون في أبي هريرة، وكل حديث يرويه راو لا يتفق مع أصولهم يقولون: الرواة غير معصومين.
أي: أنه من الممكن أن يخطئوا.
وهل الصحابي معصوم أم لا؟ الصحابي غير معصوم.
إذاً: غير المعصوم يغلط.
هذه كلها مقدمات بدهية لا يعارضها عاقل.
فإذا كان غير معصوم، فما هو الغريب في أنه يغلط؟! نحن نقول: ليس غريباً أن يغلط، لكن لابد أن يثبت غلطه، فنحن لا نناقش العصمة، ولا نقول بعصمتهم أبداً، فهم قد يخطئون، لكن لابد أن تحقق أنه غلط في هذه المسألة بعينها وتحرر موضع الغلط وتبينه.(23/10)
الرد العقلي على من طعن في الصحابة بحجة أنهم غير معصومين
وهذا كقولنا: - أليس الله عز وجل على كل شيء قدير؟ - نعم.
الله على كل شيءٍ قدير.
- وهل هو قادر -مثلاً- على أن يخلق رجلاً بمائة ألف رأس أم غير قادر؟ - نعم.
هو قادر.
- وهل هو قادر على أن يجعل في كل رأس مائة ألف فم؟ - نعم.
قادر.
- وهل هو قادر على أن يجعل في كل فم مائة ألف لسان؟ - نعم.
قادر.
- وهل هو قادر على أن يجعل كل لسان يتكلم بمائة ألف لغة؟ - نعم.
قادر.
- لكن هل حصل هذا؟! - لم يحصل.
فهو قادر على كل شيء، لكن مثل هذا لم يحصل، وهذا هو الموضوع.
فنحن لا ننازع الآن في مسألة: أن الصحابي يغلط أو لا يغلط، فهو ليس بمعصوم، لكن نحن نناقش ونقول: هل أخطأ الصحابي في هذا الموضع أم لا؟ هذه هي المسألة.
إن العقل خياله واسع، ويتخيل كل شيء، لكن هل ما يتخيله العقل موجود في الواقع أم لا؟ لو فتحنا باب التجويزات العقلية لضاعت الدنيا قبل الدين، ودائماً تضرب الأمثال بمثل هذا.
مثلاً: نحن نقول: هل هناك امرأة في الدنيا الآن -في دنيا الناس الآن- معصومة من الزنا، مهما كانت عفيفة وشريفة؟ توجد امرأة معصومة، لأنك لو قلت: بل هناك امرأة معصومة، فنقول لك: هات دليل العصمة، ودليل العصمة لابد أن يكون شيئاً مقطوعاً به: أن المرأة الفلانية معصومة من الزنا، أي: أنه مستحيل أن تزني.
إذاً: نقول: لا يوجد امرأة معصومة من الزنا.
افترض أنت -يا أيها المعترض، الذي تزعم أنك تفكر بعقلك- أن لديك خمسة أولاد، فهل تستطيع أن تثبت لي أن هذا الولد هو ابنك؟ ألا يمكن أن تكون هذه المرأة أخطأت مرة وأتت بهذا الولد من شخص آخر أم أن هذا مستحيل؟ عقلاً: ممكن، فأنا أقول: إنه لا يوجد امرأة معصومة من الزنا، فمن الجائز أن المرأة تغلط غلطة فتكون غلطة العمر، وما غلطت غيرها، ولكن هذه الغلطة أتت بولد.
فأنت الآن تنسب الأولاد بمنتهى التبجح وراحة القلب لماذا وامرأتك ليست معصومة من الزنا؟! امرأة ولدت ولداً لثمانية أشهر، فقالوا: لابد أن تضعه شهراً في الحضانة، فأدخلته المستشفى، وهناك في المستشفى مائة ولد، ولم تعرف شكله ولا أي صفة له.
وبعد شهر جاءت لتأخذ ولدها، فذهبت الممرضة وأتت بولد غير ابنك، فهل من الممكن أن تغلط أم لا يمكن؟ أم أنها معصومة من الغلط؟ قد تغلط؛ بدليل أنها إذا أحضرت لك ولداً ليس ولدك، وقالت: خذ ابنك.
فإنك تأخذه منها ولا تشك إطلاقاً أن الولد هذا ربما لا يكون ابنك أبداً، بل بالعكس؛ لو جاء إنسان فيما بعد وقال لك: إن هذا الولد ليس ابنك؛ لربما قتلته مباشرة، فكيف يتكلم هذا الكلام ويطعن في الأنساب إلخ؟ مع أن العقل يجوز أن هذه المسائل كلها تقع.
ومع ذلك تقف سداً منيعاً دون هذه المسائل بالذات! وأحدهم ينكر أحاديث الشفاعة، وكتب مقالاً بعنوان (وما هم بخارجين من النار)، وبعدما كتبه دخل المستشفى ليعمل العملية، وكان قد كتب في المقال أنه ذاهب ليعمل عملية، وقال له الدكتور: كذا، وكذا، إلخ، أليس الدكتور هذا ربما يغلط؟ فقد يقول: لابد من عملية جراحية.
ثم يظهر أنه غلطان، والمسألة بسيطة جداً.
فهل قال للدكتور: إنك لست معصوماً وقد تغلط، فاجمع لي دكاترة المستشفى كلهم حتى يتخذوا قراراً بأنني أحتاج إلى عملية أم لا؟! لماذا لم يفعل هذا؟! ونحن لو اعترضناه وقلنا له: كيف تسلم أعضاء جسمك للدكتور الذي ربما يغلط؟!! إنهم ينسون أحياناً الفوط وغيرها في بطن المريض، فكيف تسلم نفسك لواحد قد يغلط ويفتح بطنك، لماذا سلمت له بمنتهى الطمأنينة؟ لأنه من وجهة نظرك رجل متخصص ومحترم، له ثلاثون سنة في المهنة، ولا يخطئ إلخ، فلماذا رواة الحديث فقط هم الذين تخونهم وكلما سمعت شيئاً عنهم تقول: إنهم غير معصومين، بينما تأتي إلى كل شخص في مجاله وتعتبر كلمته نهائية؟! وقد قرأت ملخصاً لكتاب نشر باللغة الإنجليزية بعنوان: (غزو الفضاء أكذوبة) مؤلفه رائد فضاء مكسيكي يعمل في محطة الفضاء الأمريكية يقول: إن حكاية وصولنا إلى القمر أكذوبة كبرى، وخدعة أمريكية مثل السينما بالضبط، ولقد آن لي أن أعترف بهذا.
وذكر حقائق خطيرة.
فنحن لو تكلمنا ستجد من يقول: هل تفهم شيئاً في الفضاء؟ افترض أن هذا عميل للموساد أو لغيره وكتب هذا الكتاب، وأنت لا تعرفه، وقد أكون أنا وأنت لا نعرف شيئاً عن الفضاء، ومع ذلك تجد الواحد منا ينافح أشد المنافحة أنهم صعدوا إلى الفضاء.
والرجل قد ذكر حقائق الله أعلم بها، ويقول: إن الوصول إلى القمر من المستحيل، فإن هناك مساحة بيننا وبين القمر درجة الحرارة فيها تبلغ أربعة ألف درجة مئوية، ومن المستحيل أن إنساناً يستطيع أن يقترب منها؛ لأنه يذوب ويصير ماء مباشرة، ومما قال: ولم أنس أنهم لما دعوا الجمهور لكي يروا الصاروخ وهو يدفع مركبة الفضاء، فصعدنا وموهنا لهم كما في السينما، ونزلنا من الباب الثاني على الاستراحة، والجماهير لا تعلم أن هذه المركبة سقطت في المحيط.
فلما يظهر شخص مثل هذا ويتكلم، فقد يقول البعض: هذا الكلام صحيح؛ لأن هذا الرجل متخصص، وله أكثر من أربعين أو خمسين سنة يعمل معهم.
إذاً: مسألة القول بأن الصحابي معصوم أو غير معصوم، هذه مسألة خارجة عن النقاش، ومن المسلم به أنه غير معصوم، لكن لابد أن نأتي على الجزئيات: فهل هو أخطأ في هذا أم لا؟ فلا بد من تحقق أنه أخطأ أو لم يخطئ، ولا بد من الرجوع إلى القواعد التي وضعها أهل كل علم.
فيأتي الواحد منهم فيأخذ حديثاً واحداً ولا ينظر إلى الأحاديث الأخرى في الباب، ويخرج لنا برأي عجيب لم يقل به أحد من العلماء؛ بسبب أنه أخذ حديثاً واحداً وترك بقية الأحاديث في الباب، فإن العلماء أكثروا من قول: (مطلق، ومقيد)، و (خاص وعام)، و (مجمل ومبين)، و (ناسخ ومنسوخ)، فالإنسان لابد أن يراعي هذه الأشياء، وإلا وقع عنده تناقض بين الأدلة.
والرجل الذي كتب قديماً أن القرآن لم يحدد يوم عرفة، أخطأ؛ لأنه لم يأخذ بجميع الأحاديث، فقال: لماذا نضيق على المسلمين ونجعل يوم عرفة يوم التاسع من ذي الحجة؟ إن ربنا سبحانه وتعالى يقول في القرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، والله سبحانه وتعالى يقول:: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فإذا كان الله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأكد أن هذه هي أشهر الحج، فبدلاً من أن نذهب عند الجمرات ونزدحم ونقتل بعضنا، وكذا في طواف الإفاضة، لماذا لا نبسط المسألة: فنجعل جنوب شرق آسيا يحجون من واحد إلى عشرة شوال، وبعد ذلك أصحاب حوض البحر المتوسط مثلاً من اليوم الثالث عشر إلى الثامن عشر، وهكذا قسم الأيام والشهور، -شهور الحج- على المناطق، وجاء بهذا القول.
فجاء آخر ونسج على منواله، وقال: ما المانع أن نعمل سكة متحركة حول الكعبة بدلاً من أن يتزاحم الناس، فيركب الذي يريد الطواف على السكة وخلال دقيقة ونصف تنهي سبعة أشواط ما المانع من ذلك؟ هل هناك دليل يقول بعدم جواز ذلك؟ وقد كُتبت مقالة في الأسبوع الماضي مفادها: أن في البخاري حديثاً مكذوباً بل أحاديث كثيرة، ولابد للناس الذين يفهمون أن ينقحوها حتى يحفظوا للناس العقائد!! وما هو الحديث المكذوب؟ قال: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في حجر أم حرام)، وقال: كيف يكون هذا الكلام؟ وكيف يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأة أجنبية؟ وكيف يضع رأسه في حجرها؟ وهذا كله بناء على سؤال امرأة من الزوار -السواح- عن هذا الحديث، وأن فيه مشكلة، وكيف يضع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في حجر امرأة؟ فقال لها هذا العالم: أم حرام كانت خالته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وحل الإشكال.
لكن صاحب المقال أبى أن يسلم أنها خالته من الرضاعة، والمفروض أن يحضر نسب المرأة ونسب النبي صلى الله عليه وسلم وينظر أكانت أختها هي التي أرضعته أم لا؟ ويبحث في المسألة.
لكنه يقول: إن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن المحرمات في سورة النساء، وبعد أن عدد المحرمات، قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، ولم يذكر في المحرمات: (وخالاتكم من الرضاعة)، فقالوا: ماذا كان سيحصل لو أن الله زاد هاتين الكلمتين؟! فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
ثم من أين يتطرق إلى الحديث وهو بأصح الأسانيد؟ وعندما نقول: إن الحديث موضوع.
لابد أن نذكر جهة وضعه.
ومن قال: أنه موضوع.
فمن وضعه وكذبه؟ لابد أن يجتهد ويقول: فلان هو السبب، أما أن يقال: حديث موضوع، وأي إنسان في الدنيا يستطيع أن يدعي هذه الدعوى بلا برهان.
وابن عبد البر -الإمام العلم المفرد- لما ذكر هذا الحديث تكلم بكلام أهل العلم، وقال: (إن بعض الناس قال: إن هذه خالته من الرضاعة، وبعض الناس قال بغير ذلك، ثم قال: وسواء كان هذا أو هذا فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل ما حرم الله)، وذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري إلى أن دعوى الخصوصية في الحديث قوية، وأن هذا الحديث يحمل على أنه من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه كان يملك إربه صلى الله عليه وسلم، ثم إنه لا تعرف الخيانة إليه سبيلاً.
وسأذكر موقفاً حتى نعلم خلق الرسول عليه الصلاة والسلام: ورد في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدَّث وهو جالس مع بعض أصحابه وفيهم عمر فقال: (دخلت الجنة البارحة -يعني في المنام- فرأيت قصراً وعليه جارية تتوضأ، فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر.
قال: فلما ذكرت غيرتك يا عمر وليت مدبراً، فبكى عمر وقال: يا رسول الله! أعليك أغار؟!).
فانظر إليه وإلى وفائه لأصحابه، حتى وهو نائم! دخل الجنة فلما رأى جارية عمر، وهو يعرف أن عمر بن الخطاب يغار؛ أعرض، وقال: (وليت مدبراً) فبكى عمر(23/11)
قوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم)
هذا جزء من خطبته صلى الله عليه وسلم التي حفظها لنا الإمام مسلم في صحيحه وبقية من ذكرتهم، وابتدأها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا)، هذه التوطئة لها دلالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث: (وأهل الجنة ثلاثة وأهل النار خمسة).
فهل أهل الجنة محصورون في هؤلاء الثلاثة، أو أهل النار محصورون في هؤلاء الخمسة؟ لا.
لكن هذه الأصناف علمها رب العالمين لنبيه في يومه هذا، وليس المقصود أنهم هؤلاء بالحرف بطبيعة الحال، فإن الذين يدخلون الجنة كثيرون جداً، وكذلك الذين يدخلون النار أيضاً هم أصناف كثيرة جداً.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (مما علمني في يومي هذا): يبين لنا أن المرء إذا أراد أن يستوفي حكماً ما؛ فلا بد عليه أن ينظر إلى أطراف الموضوع كله، مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) وكل الناس يقولونها، فمن أخذ بهذا الحديث وحده حكم على الله عز وجل بأنه قال شيئاً لم يقله رب العزة تبارك وتعالى؛ لأن القول في ذاته لا قيمة له ما لم يصحبه عمل، إلا أن يكون هناك نص يبين أن مجرد القول له فائدة، فلا بد أن نرجع في النهاية إلى النصوص.
وفي خصوص هذه الكلمة (من قال: لا إله إلا الله)، هذه تنفعه يوماً من الدهر، كما في الأحاديث الصحيحة: (من قال: لا إله إلا الله؛ نفعته يوماً من دهره)، حتى لو دخل النار وعذِّب وقضى فيها أحقاباً، فإنه ينتفع بها، لكن الإيمان المنجي لا يكفي فيه النطق بالكلمة.
لأجل هذا لا بد -لكي نفهم هذا الحديث- أن نأخذ الأحاديث الأخرى حتى نخرج بالحكم الشرعي الصحيح، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء.
وكذلك في باب الوعيد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة الذي أخرجه مسلم، قال: (من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان) وفي رواية: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: يا رسول الله! وإن شيئاً يسيراً -حلف على شيء تافه-؟ قال: وإن قضيباً من أراك)، يعني: ولو عود سواك، فلو سرق هذا السواك أو ما يشابهه في القيمة فحلف عليه أنه لم يأخذه؛ أدخله الله النار وحرم عليه الجنة.
إذاً: لو أن رجلاً أخذ قضيباً من أراك وحلف عليه فإن عمله هذا ذنب؛ لكن الخوارج يكفرون الناس بالمعاصي ويحكمون عليهم بدخول النار والخلود فيها بهذا الحديث؛ لأن الحديث صريح بعدم خروجه من النار -حسب زعمهم- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)، فإذا أخذ هذا الحديث وحده دخل في دائرة تكفير الناس وانضم لقول الخوارج، مع أن هذه معصية، ومعروف أن المعاصي يتاب منها، والكفر أعظم من المعصية، ولو تاب المرء من الكفر تاب الله عليه.
فلا يصح أن نأخذ الحكم النهائي من نص واحد.
وهذا الحديث عظّم أكل حقوق الناس، ومن يتخذ اليمين جنة يتحصن بها ليأكل حقوق الناس فإنه ينتظره هذا الجزاء، فأنت حين تأخذ هذا الحديث مع بقية الأحاديث والآيات، وأن كل وعيد في القرآن يقع ما لم يتب المرء، وكل وعيد في القرآن يتخلف بالتوبة، كما وعد الله تبارك وتعالى في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وعد الله عبداً فإنه منجزٌ له ما وعد، وإذا أوعد فهو بالخيار: إما أن يعذبه، وإما أن يغفر له) وهذا هو مقتضى الكرم، ففي الوعد لا يخلف أبداً، وفي الوعيد قد يخلف؛ لأن الخلف في الوعيد كرم، والخلف في الوعد لؤم.
فربنا تبارك وتعالى أوفى الأوفياء، إذا أراد فإنه يوفي، وإذا أوعد -أي: هدد- فقد يتخلف وعيده تبارك وتعالى.
فالقصد: أن الإنسان إذا أراد أن يحيط بقضية فلا بد أن يجمع لها أطراف النصوص.(23/12)
قصة كعب بن مالك
الهجر من الأحكام المشروعة في هذا الدين، ففيه تطبيق لمبدأ الولاء والبراء، وفي مشروعيته ردع للعاصي والمبتدع، ومن شرع لنا هجرهم حتى يعودوا إلى جادة الصواب ويتركوا ما بسببه هجروا.
وفي قصة كعب بن مالك وصاحبيه الدروس الكافية التي نعرف منها صور هذا الهجر وكيفيته وبعض أحكامه، وكيف امتثل الصحابة رضي الله عنهم أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم.(24/1)
الهجر بين المشروع والممنوع
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فهذا الحديث صحيح الدلالة في عدم جواز هجر المسلم أخاه فوق ثلاث.
وقد جاء في حديث كعب بن مالك: (أن المسلمين هجروهم خمسين ليلة) والتوفيق بين حديث كعب وبين هذا الحديث: أن الهجر إذا كان لسبب شرعي يجوز أن يستمر إلى مدة طويلة أما إذا كان الخصام على شيء دنيوي فلا يجوز أن يتجاوز ثلاثة أيام.
هذا هو التوفيق بين الحديثين، والتفصيل القادم سيوضح المسألة أكثر.
قلنا: إن الهجر إذا كان لسبب شرعي فيجوز أن يطول، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب ورفيقيه؛ لأنهم تخلفوا عن الجهاد، والجهاد آنذاك كان فرض عين لا يحل لمسلم أن يتخلف عنه، ولا يسقط إلا بعذر، كما هو شأن سائر الواجبات، فلا تسقط الواجبات إلا بعذر مانع.
ويجب على كل من يستطيع الجهاد أن ينفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ارتكبوا شيئاً محرماً، والرسول صلى الله عليه وسلم إمعاناً منه في تأديبهم هجرهم خمسين ليلة.
وأيضاً السيدة زينب رضي الله عنها كان معها أكثر من راحلة فعطب بعير صفية رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زينب: (أعطيها بعيراً من عندك تركبه، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية! فهجرها أربعين ليلة) وهذا هجر فوق ثلاثة أيام.
فالهجر للدين يستمر إلى أن يقلع المهجور عن الشيء الذي من أجله هجرته.
فلا يلتبس في الأمر، والهجر بسبب الدنيا ثلاثة أيام فقط.
ويحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (من هجر أخاه سنة فكأنما سفك دمه) على الهجر الدنيوي، وليس الهجر الشرعي، أي: إذا كان لا يحل له أن يزيد عن ثلاثة أيام فزاد إلى سنة على شيء دنيوي تافه اختلف مع أخيه فيه، فكأنما سفك دمه، وهذا تعظيم للهجر بغير مسوغ.(24/2)
الفرق بين هجر أهل البدع وهجر أهل المعاصي
إذاً: هجر أهل المعاصي مشروع، وهجر أهل البدع آكد في الشرع من هجر أهل المعاصي؛ لأن المبتدع شر من العاصي، وأهل المعاصي أفضل من المبتدعة، والأفضلية هذه لا يتصور منها مشروعية الفعل، لا.
وهذا يشبه قول الدارقطني في أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، لما سئل عنه وعن بقية أصحابه قال: (أعور بين عميان) فهذا ذم، ولكن عن طريق المدح، فالمقصود: إن كلاهما شر ولكن هذا أخف في الشر، وهذا هو المقصود.
لماذا؟ لأن أي إنسان يرتكب المعصية يعلم أنها معصية، ومهما كابر وأظهر أن هذه ليست معصية، فهو من قرارة نفسه يعلم أنها معصية، كيف لا، وقد فطر على التمييز بين الحلال والحرام! وقد ذكر بعض العلماء -وهو يتكلم عن هذه المسألة ويشرح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) - أنه مهما ادعى إنسان أنه لا يدري فهو كاذب؛ لأن الرسول قال: (بين) ومتى يعذر الإنسان؟ إذا دخلت المسألة في الشبهات، والتبست عليه ولا يدرى أهي حلال أم حرام، كما في المثل المشهور الذي تعرفونه: وهو أنك إذا وضعت للقط قطعة لحم أكلها بجوارك، أما إذا خطفها فإنه يفر.
فلماذا يفر إذا خطفها؟ لأنه يعلم أنه خاطف سارق، إذاً: أي إنسان مهما كابر فهو يعلم أنه على معصية، بخلاف المبتدع، فإنه يرى أنه على صواب، ويرى أن البدعة هذه هي من الدين، وأنه يتقرب إلى الله بها، فعندما تقول له: اترك ما أنت عليه من البدعة، يقول لك: لن أترك ديني، ويأبى.
لذلك قال علماؤنا كـ سفيان الثوري وغيره: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها.
كان هناك ولد حاضراً في درس فسمع الفتوى ما هو حكم الشرع فيما يفعله بعض المسلمين بين التراويح من قراءة (قل هو الله أحد) ثلاث مرات؟ فقلت: هذه بدعة، وأتيت بالأدلة على أنها بدعة، فهو ذهب وبلغ ذلك لأبيه -والرجل رأس البدعة في بلده، وهو الذي يتزعم هذا- فلم يتمالك نفسه وجاء في موعد الدرس القادم، وقال: أنت أفتيت ابني بكذا وكذا؟ قلت: نعم، قال: قراءة القرآن بدعة؟ ما الذي جرى؟ هل: ارتكبت حراماً؟ فقلت له: وهذا الكلام الذي سأقوله، لو أنك حفظته وألقيته على أي مبتدع لألزمته الحجة بكلامه هو، إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم فاته شيء من الخير، وإما أنه صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، هذا بعد أن تستنطقه على ما يفعل، وتقول له: أعندك دليل صحيح يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؟ إما أن يقول: نعم، وحينئذ يقال له: إن كنت مدعياً فالدليل، أو ناقلاً فالصحة.
نريد دليلاً صحيحاً، وهو: لا يستطيع أن يأتي به أبداً، وإما أن يقول: لا، فلو قال: لا فحينئذ تقول له: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك الشيء فإما من اثنتين: إما أن يكون خيراً فات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لك: حاشا رسول الله من ذلك! أو أنه قصر في البلاغ، وهذه لا يقولها أبداً.
ثم بعد ذلك تسأله هل الذي أنت تفعله الآن خير أم شر؟ فإذا قال: خير، فقد أقر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاته هذا الخير، وإذا قال: شر فحسبه شهادة على نفسه أنه يفعل الشر، وإذا قال: لا أدري، فهناك جواب آخر، تقريعي وهو: كيف تفعل شيئاً وتتقرب به إلى الله، وليس عندك عن صاحب الشرع منه برهان؟!! فلن يستطيع حينئذ الرد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نعبد الله إلا ببرهان، ولذلك قال العلماء في القاعدة المتفق عليها بينهم: (الأصل في العبادات المنع حتى يرد دليل بالإذن، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل في التحريم)؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] والعبادات على العكس؛ لأنك لا تدري مالذي يحب الله وما الذي يكرهه، وربما تتقرب إلى الله بما يبغضه وأنت لا تدري، وقد قال الله تبارك وتعالى لطائفة من الصحابة: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] فأنت لا تدري ما الذي يحبه ربك أو الذي يبغضه، ونافذتك على معرفة هذا هو الوحي.
فلا تتقدم بين يدي الله ورسوله بفعل شيء أو بقول شيء إلا ببرهان.
فلما جاء هذا الرجل فقال: لماذا قراءة (قل هو الله أحد) بدعة؟ وهي تعدل ثلث القرآن، فكيف آثم بقراءتها ثلث القرآن؟! فقلت له: ما رأيك إذا عطست أنت الآن فقلت: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟ ما رأيك؟ قال: لا.
قلت: لماذا؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله)، أو (الحمد لله على كل حال)، فقلت: والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مستحبة؟ وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فما المانع أن تفعل شيئاً مستحباً؟ فقال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقلها، قلت: هذا عين الجواب، وأنا أمهلك شهرين حتى تأتيني بدليل ولو ضعيف في هذه الجزئية، فقال الرجل، وهنا الشاهد: (أنا لي ستون سنة مغفلاً)، وهذه هي المشكلة، فاستصعب أن يسلِّم بأنه مغفل، ولو أنه سلم أنه جاهل لأجر؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب تاب الله عليه) لا بد أن تعترف، وما المانع؟ فكل إنسان فينا جاهل في جزئية أو أكثر، ونحن جميعاً نموت ونحن مدينون بالجهل، وما هناك إنسان قط مات وقد عرف كل شيء في الشرع، فضلاً عن الدنيا، فلماذا الحرج؟!! إن الصحابة كانوا يعترفون ويقولون: (كنا ضلالاً فما عرفنا الهدى من الضلالة حتى جاءنا الرسول صلى الله عليه وسلم)، فالرجل لم يسلم بذلك وهذه هي مشكلة المبتدع، لا يسلِّم لظهور الحق بجلاء، لذلك قتل الجعد بن درهم على بدعته الشنعاء وصبر على القتل ولم يرجع، لما قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وهذا مضاد لصريح القرآن، وقد جيء به واستتيب، فلم يرجع، فحبسوه حتى جاء عيد الأضحى، وخطب الوالي آنذاك خالد بن عبد الله القسري وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، وشكر علماء المسلمين ذلك له، أنه ذبح هذا الضال.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى رخص للإنسان أن يقول كلمة الكفر لينجو بحياته، فقال تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] فالذي عليه اللعنة والغضب، هو الذي شرح صدره بالكفر، ولكن إذا رأيت أنك ستقتل فتكلم بكلمة الكفر طالما أن قلبك مستقر ومطمئن بالإيمان، فإذا كان الإنسان رخص له أن يستنقذ حياته من القتل بأن يتكلم بكلمة الكفر، فكيف بهذا المبتدع لم ينقذ حياته، وكان يمكن أن يقول: أنا تبت إلى الله؟ وربما من الداخل يبطن الكفر الصريح، ويستنقذ حياته بإظهار الإسلام، فيصير دمه وماله وعرضه مصوناً بإظهار كلمة الإسلام، والجعد لما رأى أنه سيقتل يقيناً، لماذا لم يقل أنا تبت؟ لأنه يعتقد أن البدعة دينه، وقد ناظره علماء المسلمين الثقات الجهابذة الكبار، ومع ذلك لم يرجع، بينما العاصي يمكن أن يرجع ويتوب.
مرة كنت أخطب الجمعة في القاهرة، وتكلمت عن الرجم، وأن الرجم ورد في السنة، وهناك آية في نزلت القرآن قبل ذلك ثم نسخت ورفعت، كما هو معروف من الأحاديث الصحيحة، وذكرت أن حد الزاني المحصن أنه يرجم بالحجارة، ويحفر له حفرة في الأرض حتى لا يفر ثم يرجم حتى الموت، فهذا هو حد الزاني المحصن الذي تزوج ثم زنى بعدما تزوج.
وبعد الخطبة والدرس بينما أنا خارج من المسجد وجدت رجلاً كبير السن عمره يقارب السبعين عاماً وكان يرتعد، فقلت: هذا الرجل كبير وأعصابه تعبانة فبالتالي هو يرتعد، وكان كذلك، فانتحى بي جانباً وسألني، قال: أنا رجل عشت عمري وأنا أزني، وأول مرة أسمع هذا الكلام، وعندما سمعته كنت أريد أن أخرج من المسجد، لأنك تقول بأنه يرجم، قال: فذهبت إلى البيت، ولكني لم أستطع الجلوس، ولا الأكل ولا الشرب، فرجعت مرة أخرى ماشياً، فقال: هل لي من توبة؟ فالمعصية معروفة لأي عبد في الدنيا أنها معصية، لذا يستحيل أن تكون حلالاً عنده، ولا يستطيع أن يكابر بخلاف البدعة.(24/3)
من أنواع الهجر
فإذا كان أهل المعاصي يشرع لك أن تهجرهم فمن باب أولى أهل البدع، لكن الهجر تكتنفه الأحكام الشرعية الخمسة، الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، التحريم.(24/4)
الهجر المحرم
نقول: إن كل نصوص الشرع جاءت بتحصيل أكبر قدر من المصالح، وتقليل المفاسد ما أمكن، فإذا افترضنا أن هناك رجلاً مبتدعاً في بلد ما، وهذا الرجل له سلطان ومسموع الكلمة، وأنت مع عدد قليل من أهل السنة في هذا البلد، فإذا جهرت بتبديعه نفاكم أو أعدمكم أو أنزل بكم سوء العذاب إلى آخره، حينئذ لا تتكلم عليه، ولا تنبه علناً على سوء بدعته، وحصل مقصودك من جانب آخر.
إذاً الهجر الذي قد يحرم هو الهجر الذي يترتب عليه ضرر جسيم أو ضرر على غالب الظن يكون أعظم بكثير من المصلحة اللازمة للتحذير من بدعة هذا المبتدع.(24/5)
الهجر القلبي
لكن أدلك على نوع من الهجر لا يكون فيه ذلك الضرر، وتحصَّل مقصود الشارع بالهجر، وهو هجر القلب، فلا تتولاه، ولا تنبسط له، ولا تعنه على شيء واعتزله، فهذا الهجر لا يكلفك شيئاً، ويكون واجباً، ولو أننا هجرنا أهل البدع هجراً قلبياً وكذلك أهل المعاصي لقلَّ العصاة وقلَّ المبتدعة وذلوا.
ونحن بكل أسف لا نهجرهم هجر القلب، مع أنه لا خطورة من هجر القلب، وإبراهيم عليه السلام هجر قومه وهو يمشي بين ظهرانيهم قال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4] فتبرأ منهم وهو بين ظهرانيهم، وليس بالضرورة أن تخرج منهم، وإن خرجت فنعمَّا فعلت، ولكن إن لم تستطع أن تخرج يبقى هجر القلب، الذي هو الولاء والبراء، فتتولى المؤمنين وتتبرأ من الفاجرين الكافرين المبتدعين الظالمين.(24/6)
الإشارة والهجر
الصحابة رضوان الله عليهم عندما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكلام مع كعب وصاحبيه انتهوا جميعاً، فإن قال قائل: في نفس حديث كعب بن مالك، لما جاء نبطي من أهل الشام يقول: (أين كعب بن مالك؟ قال: فطفقوا يشيرون إليَّ) والإشارة هنا بمنزلة الكلام، فكيف ساغ لهم أن يشيروا إليه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم؟! فيقال: نعم إن الإشارة بمنزلة الكلام لكنها ليست كلاماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخالة بمنزلة الأم) فهل يستوي عقوقك لأمك مع عقوقك لخالتك؟ لا يستويان.
وأنا أريد أن أجلي هذه الشبهة؛ لأنه قد يخطر ببال إنسان أن يقول: إذا كانت الإشارة بمنزلة الكلام، فكيف أشاروا إليه؟ وقد تقول: الإشارة يتحصل منها ما يتحصل من الكلام، وهو الإفهام، لأن المطلوب من الكلام هو الإفهام.
فأقول: يوضح ما ذكرته أنها وإن كانت بمنزلة الكلام لكنها ليست كلاماً، أنك لو دخلت المسجد فوجدت رجلاً يصلي، فيستحب لك -إذا كانت هذه السنة معروفة في البلد، ولن تقابل بالإنكار- أن تسلم على المصلي، وتقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهو يرد السلام عليك إشارة بصفحة اليد.
فهل يستويان؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان الصحابة يسلمون عليه بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] منع من الكلام في الصلاة، وكان يرفع يده ويشير إشارة، وقد كان الصحابة يتكلمون في الصلاة، قبل أن ينزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ومشهور حديث ابن مسعود عندما هاجر إلى الحبشة، وقبل أن يهاجر كانوا يتكلمون في الصلاة، فبعدما هاجر نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فلما رجع سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلم يرد عليه، قال ابن مسعود: (فركبني غم! فلما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته قال: يا ابن مسعود! إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة)، فالكلام الممنوع هو الذي يكون بحرف وصوت، ولا يسمى كلاماً إلا إذا كان بحرف وصوت؛ لأنه قد يكون بصوت دون حرف، فكيف إذا لم يكن بحرف ولا بصوت الذي هو الإشارة؟! فلو كانت الإشارة كلاماً لبطلت صلاة الذي يشير في أثناء الصلاة إذاً: فالصحابة لما أشاروا على كعب بن مالك، لم يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض أيضاً لقول أبي قتادة عندما قال لـ كعب: (الله ورسوله أعلم) حين نأتي على موضعه.
الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أسرع الناس مبادرة إلى تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نهى عن كلام هؤلاء الثلاثة امتثل الكل ولم يخالف أحد، ولا يتصور أحدكم أن انتهاء الصحابة كان بسبب خوفهم أن ينزل وحي فقط، حاشاهم! أن يكون الوحي أحد الأسباب الحاملة لهم على أن يلتزموا بشدة، ولكنهم كانوا إذا سمعوا قول قول النبي صلى الله عليه وسلم يتبادرونه جميعاً.(24/7)
كعب بن مالك وما لاقى في أيام هجره
قال كعب بن مالك: (أما صاحباي وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي - فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، فكنت أمشي في الأسواق، وأخالط المسلمين، فلا يكلمني أحد) فلو قال لمسلم: السلام عليكم، فهل يجوز له أن يرد السلام، ورد السلام واجب؟
الجواب
لا.
لأن كل حقوق كعب بن مالك سقطت بالهجر، فعلى المسلم الذي يهجر العاصي أو المبتدع أنه إذا سلَّم عليه أن لا يرد السلام عليه؛ لأن حقوق العاصي أو المبتدع تسقط حتى يفيء إلى الله تبارك وتعالى من العصيان أو البدعة، على الشروط التي ذكرناها قبل ذلك.
قال: (فكنت أمشي في الأسواق، ولا يكلمني أحد، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين أتيت حائط أبي قتادة؛ وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ، فتسورته -أي: تسلقته- فرأيته، فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام) فـ كعب يؤكد ذلك بالقسم؛ لأن الحادثة لم يشهدها أحد، فيقول: (فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ تأكيداً لالتزام أبي قتادة، فلما لم يرد عليه السلام قال: (يا أبا قتادة! ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت -فنشده الله تبارك وتعالى- أنشدك بالله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت، فرجع في الثالثة فنشده الله تبارك وتعالى فقال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم) حسناً، هل هذا كلام؟ أم لا؟ نعم هذا كلام، هل خالف أبو قتادة؟ الجواب: لا.
متى يكون الكلام معتبراً في الشرع وعليه الإثم؟! وأنا لا أنازع الآن أنه من جهة اللغة والاصطلاح؛ ولكن هل هو الكلام الذي منع منه المسلمون؟ لا، فالكلام الذي منعوا منه هو أن يتم تبادل ما بين أبي قتادة وما بين كعب في الحديث وأبو قتادة لما قال: (الله ورسوله أعلم) لم يقصد الرد عليه، ولا التكلم معه، وإنما علَّق محبة كعب بن مالك على علم الله ورسوله، بالرغم من أن أبا قتادة قد يكون يعلم في قرارة نفسه ومن تصرفات كعب أنه محب لله ورسوله، ولكن بعد الموقف الذي حدث لا يدري ما يحكم الله تبارك وتعالى في شأن كعب! لذلك لا يكون ذلك بمنزلة الكلام الذي نهي المسلمون عنه.
قال كعب: (ففاضت عيناي -أي: بكى، عندما سمع هذا الجواب- وتوليت حتى تسورت الجدار).
(قال: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ -النبطي هو الفلاح، وسمي نبطي؛ لأنه يستنبط الماء من باطن الأرض- قال: فطفق المسلمون يشيرون إليّ، فجاء بكتاب من ملك غسان -ملك غسان هو جبلة بن الأيهم - قال: ففتحته فإذا فيه، أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال كعب: فقلت: وهذا أيضاً من البلاء! فتيممت بها التنور فسجرته بها) وهذا يدل على صلابة إيمان كعب، وأنه هو لما عرض عليه أن يكفر بالله ورسوله نظير أن يتوج مرة أخرى في الدنيا أبى.
حسناً: ما رأيك أنه يوجد الآن من ينتسبون إلى الإسلام يكفرون بغير عرض؟! أي: يكفر ويترك دينه ولم يحصل شيئاً من الدنيا يساوي عند أهل الدنيا ما فقده هذا الإنسان! كمن يذهبون إلى بلاد الكفر ويقدمون الخمور ولحم الخنزير في المطاعم بدعوى أنهم محتاجون إلى المال، مع أن العمل موجود هنا، ولكنه يأنف أن يعملها في بلده، ثم يعملها خارج بلده، ولو ذهب الرجل ليعمل عملاً مباحاً خارج بلده فلن نحول بينه وبين المباح، ولكن أن يقدم دينه قرباناً من أجل أن يحصل على المال، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم المثل لذلك، نحن نقول: (من أراد البحر استقل السواقي)، فانظر إلى الصحابة وإلى جلدهم وصبرهم في ذات الله تبارك وتعالى، وتركهم لحظوظ أنفسهم.
فكانت هذه النقطة المشرفة في حياة كعب، فهو لما عرض عليه الكفر أبى وصبر في ذات الله تبارك وتعالى، وقال: (هذا أيضاً من البلاء)، ثم إنه لم يمزق الرسالة، وكان تمزيقها يكفي، لكنه أحرقها: (فتيممت بها التنور فسجرته بها).
: (حتى إذا مرت أربعون ليلة) وقبل أن أصل لهذه النقطة قال كعب: (وكنت أدخل المسجد فأصلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكنت أُسارقه النظر) أي: وهو يصلي والرسول صلى الله عليه وسلم جالس فينظر إليه بطرف عينه نظرة خفيفة.
يقول كعب: (فكنت إذا نظرت إليه أعرض عني، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ)، لاحظ رأفة الرسول عليه الصلاة والسلام وشفقته بـ كعب.
بعض الناس فهم خطأً من قول كعب: (أسارقه النظر) وأن كعباً التفت في الصلاة، فأقول: ليس معنى مسارقة النظر أنك تلتفت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الالتفات في الصلاة، وقال: (إن الله تبارك وتعالى ينصب وجهه في وجه العبد، فإذا التفت العبد التفت الله عنه، وإذا أقبل على الله تبارك وتعالى أقبل الله عليه) ومعنى مسارقة النظر أي: خطف النظر، ليس معناها أنه يلتفت فهذا لا يقتضي.
قال: (حتى إذا مرت أربعون ليلة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ أن اعتزل امرأتك، قلت: أطلِّقها؟) فهل فهم كعب أن كلمة (اعتزل) تعني أنه يطلق؟ لا، ليس بالضرورة أن كلمة اعتزل تعني ذلك، فكيف فهم كعب منها الطلاق؟ لأنها كانت قديماً تعتبر طلاقاً، ولذلك في حديث ابن عباس في الصحيحين، وفي أوله: (حججت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما قضى حاجته أتيته بماء فتوضأ، فقلت له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]) الحديث) فيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب النزول على الرسول صلى الله عليه وسلم هو وجار له من الأنصار، فإذا نزل عمر بن الخطاب يأتي صاحبه بخبر الوحي وغيره، وإذا نزل صاحبه فعل مثل ذلك.
ففي يوم من الأيام كان الدور على الأنصاري، فجاء الأنصاري إلى بيت عمر عشاءً وطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: (أثم هو؟ -أي: أهو موجود؟ - قال عمر: فخرجت إليه فزعاً، قلت: أجاء غسان)؟ وملك غسان كان يريد أن يغزو المدينة، فالصحابة كانوا مستعدين للدفاع عن المدينة، فالطرق الشديد هذا معناه أن مصيبة كبيرة حدثت، فقال له: (أجاء غسان؟ قال: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه) والرسول عليه الصلاة والسلام لم يطلق، بل اعتزل فقط، ودخل في المشربة واعتزلهن تسعة وعشرين يوماً، فكلمة (اعتزل) كانت تعتبر طلاقاً في عرفهم، ككلمة: (الحقي بأهلك) فتبادر إلى كعب أن الاعتزال يساوي الطلاق، لذلك قال: (أفأطلقها؟) ولو قيل له: نعم لطلقها، ولما تردد لحظة في طلاقها.
قال له: (لا، ولكن لا تقربها).(24/8)
هلال بن أمية واستئذان امرأته النبي صلى الله عليه وسلم في خدمته
وقد جاءت امرأة هلال بن أمية -وهلال رجل عجوز شيخ كبير- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن هلالاً شيخ ضائع -ضائع أي: وهى عظمه- فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم، ولكن لا يقربك، قالت: والله يا رسول الله! ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا).
هنا يظهر أنموذج المرأة الصالحة، تقول: (هل تأذن لي أن أخدمه)؛ لأن العشرة الطويلة التي كانت بين هذا الرجل وهذه المرأة لا بد أن يكون لها رصيد، وقصص الغدر التي تحدث الآن بين الناس، عندما تقابلها بقصص الوفاء التي كانت في جيل الصحابة تندهش! ولكن يزول عجبك إذا عرفت الفرق.
فالمرأة لما كانت تذل لزوجها وتصبر على الإهانة، كانت محتسبة، وتعلم أنها تؤجر، وأنا أرجو أن نقف قليلاً عند هذه المسألة لنبصِّر إخواننا وأخواتنا المتزوجين، حتى يقفوا عند حدود الشرع، فما يحدث الآن بين كثير من المسلمين والمسلمات في بيوتهم يدل على أن هؤلاء لا يعرفون شيئاً من الشرع يقفون عند حدوده، وليس المقصود جهل النص بل إنهم يعرفون النص لكنهم ليسوا وقافين عند حدوده.
فامرأة هلال بن أمية عندما قالت هذا دل على أنها وفية مع زوجها مع أن هناك قصة ولا أدري هل هي المرأة المقصودة بها، أم لا؟ فإن كانت هي المقصودة بها يكون تم الذي أريد.
وهي: أن هلال بن أمية الواقفي رضي الله عنه جاء مرة وقال: (يا رسول الله! رأيت رجلاً مع امرأتي، فقال: يا هلال! أربعة شهود وإلا حد في ظهرك)، وذلك قبل أن تنزل آيات الملاعنة بين الرجل والمرأة وهلال ليس عنده أربعة شهود، وإنما رأى ذلك فأتى فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: (أربعة شهود أو حد في ظهرك، فلما سمع سعد بن عبادة هذا قال: أدعه معها وألتمس أربعة شهداء، والله لا أعطيه إلا السيف غير مصفِح، فقال عليه الصلاة والسلام: انظروا ما يقول سيدكم)؛ فنزلت الآيات في الملاعنة، فلو ثبت أن هذه المرأة ظلت مع هلال بن أمية الواقفي، رغم الذي حدث فانظر إلى وفائها، فكيف إذا كانت المرأة عفيفة طاهرة تحفظ زوجها، لكن يدركها ما يدرك بنات آدم من الاعوجاج والنشوز، قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء جميعاً: (يا معشر النساء! تصدّقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن، فقالت امرأة: نكفر بالله؟ قال: لا، تكفرن العشير والإحسان -العشير: أي الزوج- ولو أحسن الرجل إلى إحداكن الدهر، ثم رأت منه شيئاً لقالت: ما رأيت منك خيراً قط) فالمرأة هكذا، في لحظات الغضب تنسى الإحسان كله، فإذا كنت تعرف أن هذا من الاعوجاج الذي جبلت عليه بنات آدم فأحسن إلى المرأة لأنها خلقت من ضلع أعوج، وأعوج ما في الضلع أعلاه، فأنت إذا علمت هذه الحقيقة واحتسبت ما يحدث من المرأة من نشوز فإن ذلك لن يضيع عند الله تبارك وتعالى، فالمرأة كذلك يجب أن تتقي الله في زوجها.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهن: (لعل إحداكن تطول أيمتها في بيت أبيها، فإذا رزقها الله بزوج صالح يتقي الله فيه) أي: يطول انتظارها للزوج الصالح في بيت أبيها، فإذا رزقها الله الزوج الصالح بعد ذلك تبدأ تنشز عليه وتعصه.
فامرأة هلال بن أمية الواقفي أرادت أن تخدم زوجها ولا تعتزله وتتركه، فاشترط عليها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يقربها، فقالت: (والله ما به من حاجة إلى شيء) فهو يبكي أربعين يوماً لغضب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخشى أن يحبط عمله.
قال: (فقال لي بعض من أهلي: ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه أيضاً) لاحظ الذين لا يتركون الناس في حالهم، فعندما قال الصدق ظلوا وراءه حتى قال: (هممت أن أرجع فأكذب نفسي)، وهم نفس الجماعة الذين قالوا له: (ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك أيضاً).
مداخلة: ألا يكون هلال بن أمية من المعذورين لكبر سنه؟
الجواب
لا؛ لأن الجهاد كان فرض عين ولا يعذر من يتخلف عن الجهاد إلا من لا يستطيع أن يجاهد، وليس بالضرورة أن كل المجاهدين يقاتلون لا، فقد يكون في الساقة، يسقي ويخدم ويداوي الجريح، والمهم أنه لم يكن به مرض أو علة تمنعه من الخروج والنفير في سبيل الله عز وجل، لذلك لم يكن ممن عذر الله، وإلا لو كان ممن عذر الله لما حصل له ما حصل، وسياق الحديث يدل على أنه خرج من هؤلاء الذين عذرهم الله تبارك وتعالى.
مداخلة: هل معنى ذلك أنه كان مريضاً؟ الجواب: لا، ونحن ما نقول إنه مريض وعندما قالت امرأته: (شيخ ضائع) فلا تعني أنه مريض، لا، ومعنى ضائع: رجل كبير، وقد يكون الرجل كبير السن ولكنه صحيح، فقال كعب لما قيل له: (ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه؟ فقال والله لا أستأذنه، وماذا أقول له وأنا رجل شاب) يعني: لا يملك إربه كما يملك الشيخ الكبير إربه، قال كعب: (فمرت علينا خمسون ليلة، وبينا أنا أصلي على ظهر بيت من بيوتنا) واستدل بهذا بعض الناس على عدم وجوب صلاة الجماعة، بدليل: أن كعب بن مالك لم يشهد الجماعة في المسجد، وكان يصلي على ظهر بيته، ولا حجة لهم في هذا، والمسألة أمرها يطول.(24/9)
كعب وفرحته بتوبة الله عليه
قال: (فبينا أنا أصلي الفجر على ظهر بيت من بيوتنا؛ إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته) أوفى أي: اقترب من جبل سلع، (يا كعب بن مالك! أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعلمت أنه جاء فرج) في هذا دليل على مشروعية سجود الشكر، وأن الإنسان إذا جاءه خبر سار، أو رأى ما يسره أن يخر ساجداً لله تبارك وتعالى، وهذا الموضع دليل على هذا الحكم.
وأيضاً في واقعة أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قتل ذا الثدية، فلما قتل قال علي بن أبي طالب: (التمسوه فوالله ما كذبت ولا كُذِّبت، فالتمسوه فوجدوه مقتولاً بين القتلى، فخر ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى).
قال: (فعلمت أنه جاء فرج) وفي بعض الروايات الأخرى قال: (فأرسلت لي أم سلمة من يهنئني، وكانت بي بارة) أي: أن أم سلمة كانت تبر كعب بن مالك، فأول ما عرفت بنزول الوحي أرسلت رجلاً إلى كعب بن مالك يبشره، ولكن هذا الصارخ على جبل سلع كان أول من وصل إلى كعب، وفي هذا دليل على استحباب المبادرة والمسارعة إلى تبشير المسلم فهذا يدل على الحب، كوننا نتسابق أن نبشره، هذا يدل على أن هناك نوعاً من المحبة والمودة بيننا.
(قال: فجاءني الرجل، وكان الصوت أسرع من الفرس) فهذا الرجل لشدة فرحته صوته كان أسرع من الفرس، وهذا يدل على مدى شفقة المسلمين وحبهم لبعضهم، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] أي: لا يتتبعون عثرات بعض، ويعذروا بعضهم، ويلتمسون لإخوانهم العذر، كما قال الحسن البصري رحمه الله: (إذا جاءك عن أخيك ما تكرهه فقل: له عذر) جزماً وقطعاً معه عذر، (فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً) وأجل محاكمة أخيك إلى أن تلتقي به، ولكن مجرد أن تلقاه لا تتهمه أيضاً، ولا تبادر بالاتهام، لكن قل: بلغني عنك كذا وكذا وأنا استبعدته، فهل ذلك صحيح؟ فقد يقول لك: نعم هذا صحيح، وأنا تورطت فسامحني، أو يقول لك: أنا لم أقل.
المهم أنه سيجلِّي لك الأمر فأنت بعد أن يحصل عندك نوع من المواجهة بينك وبينه تقيِّم خطأه، وتقول بينك وبين نفسك: كلامه مقنع أو غير مقنع، ثم تبدأ تقيِّم جرمه، ولكن أذكرك دائماً بقول من قال من سلفنا: (إن من النبل أن يكون عفوك أوسع من ذنب أخيك)، وهذا النبل إنما يحرزه كرام الناس، يقول: الشاعر: والعذر عند كرام الناس مقبول.
سوء الظن تكسب به سيئات، وحسن الظن تكسب به حسنات، وسوء الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، وحسن الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، فإن أسأت الظن فكان في محله لم يكن لك ولا عليك، فإن لم يكن في محله أثمت، حسن الظن إن كان في محله أُجرت، وإن لم يكن في محله ازددت أجراً، فسوء الظن يدور ما بين عدم الأجر والإثم، وحسن الظن يدور ما بين الأجر وزيادته، فتعبّد الله بحسن ظنك بأخيك؛ لأن هذا نابع من المحبة الصادقة، وأولى الناس أن تجد له عذراً أخوك الذي تحبه ويحبك، وقد كان بين الصحابة قصص كثيرة جداً في هذا الباب، بعضها يستجلب دمعك ولو لم يكن في محجريك قطرة من الدمع، للصورة الباهرة التي كانت بين الصحابة رضوان الله عليهم.
قال كعب: (فجاءني الرجل فهنأني، فخلعت عليه ثوبيَّ، والله ما أملك غيرهما يومئذ) وفي هذا دليل على استحباب إعطاء البشير، عندما يأتي يبشرك ببشرى شيئاً لهذه البشرى، وكعب بن مالك أعطاه كل ما يملك من الثياب آنذاك، وكانوا يلبسون إزاراً ورداءً، وهذا معنى ثوبيه، وليس معناه أنه خلع الذي عليه ودخل وأحضر الذي في الداخل، لا، فالصحابة كانوا فقراء، وكان الواحد منهم يلبس إزاراً وقد لا يكون عنده رداء، قال: (واستعرت ثوبين).
وهذا يدل على أنه ليس في البيت أي ثياب أخرى.(24/10)
النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بتوبة كعب
قال كعب: (ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حوله، فقال لي: وهو يبرق وجهه من السرور) هنا أيضاً يلتحق بنفس المعنى الأول، وكعب عبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بتعبيرين، قال: (يبرق وجهه من السرور) فشعر كعب أنه مسرورٌ له أكثر منه، فازداد له حباً، وفي الوصف الثاني في نفس الحديث قال كعب: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر) وهذا شيء يُحسد عليه الصحابة كونهم عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه بالأعين، وفي الأدب المفرد قال رجل للمقداد بن الأسود: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأحد الصحابة -وأظنه جابر بن سمرة - قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان) أي: القمر كان بدراً ليلة أربعة عشر أو خمسة عشر من الليالي القمرية قال: (فجعلت أنظر إلى البدر تارة وإلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم تارة، والله! لكان في عيني أجمل من البدر) المحب هكذا يرى كل شيء فيمن يحب جميلاً، ولا يرى في المحبوب سيئة أبداً.
جاء رجل إلى الحسن البصري وكلمه بكلام لم يتوقعه الحسن، كأنه طعن في الحسن - الحسن كلامه يشبه كلام الأنبياء، ويقال في بعض الأخبار: أنه رضع من أم سلمة رضي الله عنها- فعاتب الناس الرجل، فقال الحسن (لله دره إنه أحسن إليَّ إذ لم يذكر أكثر من ذلك).
فقال له: أنت لم تقل شيئاً، والذي تركت ذكره تفضلاً أعظم من الذي ذكرته، فأرجع المسألة إلى إحسان، لذلك إذا أردت أن تأسر إنساناً أحسن إليه، ولا تبادله السيئة بالسيئة أبداً، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
قال كعب: (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله، أم من عندك؟ قال: بل من عند الله)، وقد يستشكل هنا ويقال ما الفرق؟ وهل الرسول عليه الصلاة والسلام يأتي بشيءٍ من عنده؟ وهو لا ينطق عن الهوى، فما الداعي للسؤال؟ ولماذا فرّق؟ قبل أن أجيب أذكر واقعة شبيهة بهذا ففي حادثة الإفك لما تكلم المرجفون في المدينة على عائشة رضي الله عنها واتهموها أنها أتت الفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي، وخاضوا في عرضها، والنبي عليه الصلاة والسلام جفاها قليلاً، وهي كانت مستشعرة بجفاء الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنها لا تدري ما السبب، بالذات وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يزداد حنانه لها عندما تكون مريضة، فهي مرضت في حادثة الإفك، والناس كلهم يعرفون الخبر وهي لا تعرف شيئاً، حتى علمت عائشة رضي الله عنها بعد مضي فترة من الزمن من أم مسطح، قالت: (فازددت مرضاً على مرضي) وبعد أن علمت فهمت لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن بذاك كما عهدته، فكان يدخل عليها وأمها عندها وأبوها أبو بكر الصديق عندها ويسلم ويقول: (كيف تيكم؟) تيكم: اسم إشارة، أي كيف حال هذه؟ وعائشة لم تعتد على هذا الكلام، وقبل أن تنزل براءتها مباشرة جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إليها وهذه أول مرة يجلس عندها من حين خاض الناس في حديث الإفك، جلس على طرف السرير وأبو بكر جالس وأم رومان أمها زوجة أبي بكر الصديق جالسة، فتشهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: (أما بعد -وأما بعد هذه فصل الخطاب كما يقال- يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه) ما معنى هذه الكلمة؟ فيها كأنه اتهام ضمني لـ عائشة أنها فعلت الذنب، لما يقول لها: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري) بمجرد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال هذه الكلمة، قالت: (فقلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة -جفت الدموع تماماً- ثم قالت: وكنت جارية لا أقرأ كثيراً من القرآن -لا تحفظ كثيراً- والله لو قلت لكم: إني فعلت والله يعلم أني ما فعلت لتصدقنني، ولو قلت لكم: إنني ما فعلت والله يعلم أنني ما فعلت لا تصدقونني، والله ما أجد لي معكم مثلاً إلا قول أبي يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، قالت عائشة: وتاه عني اسم يعقوب -من الحزن، ولم أستطع استحضاره، قالت: ثم تحوّلت فنزلت البراءة من السماء مباشرة -فـ أم رومان أول ما نزلت البراءة ذهبت إلى عائشة وقالت لها: قومي إليه فاحمديه) وفي بعض الروايات قالت: (يا رسول الله! أمنك، أم من الله؟ قال: بل من الله -نفس كلام كعب - فقامت أم رومان فقالت لها: قومي إليه فاحمديه، قالت: والله لا أحمده ولا أحمد إلا الله عز وجل) إلى آخر الحديث، وهو حديث طويل وجيد.
فهنا كعب بن مالك يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (أمن الله، أم من عندك؟) مع أنه يستوي عند كعب وعند غير كعب أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو القائل حتى يكون من عند الله، لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا} [النجم:3 - 4] إن: نافية {إِنْ هُوَ إِلَّا} [النجم:4] أي: ما هو إلا {وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فالصحابي حين يقول هذا فهو نوع من تأكيد القول وليس للشك أو التفريق، ونوع من تأكيد البشارة، ولو قال النبي عليه الصلاة والسلام له: أبشر وعفا عنه، لعلم كعب بن مالك أنه معفو عنه، فما كانوا يرتابون في ذلك، ولكن إذا قال: مني مثلاً، فقد يردفه كعب بسؤالٍ آخر، وهل الله راض؟ إذاً فهو لما قال: (أمن عند الله أم من عندك؟) ليس شكاً أبداً، إنما يقصد لكي يستقر قلبه تماماً، ويعلم أن الله تبارك وتعالى راضٍ عنه.
فلما سمع كعب بن مالك هذا (قال: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله) انظر الاستعداد الموجود عند الصحابة، فهو يريد أن ينخلع من ماله كله، شكراً لله تبارك وتعالى؛ لأنه تفضل عليه بالتوبة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك) يوضح هذا قوله عليه الصلاة والسلام لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
والحديث فيه فوائد أخرى، لكن الوقت ذهب.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم، وأن يوفقنا إلى العمل بما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(24/11)
حكم التهنئة وفضل المبادرة إليها
الثالثة قوله: (فقام إلي فصافحني وهنأني) كلمة (وهنأني) دليل على مشروعية التهنئة بما يسر المسلم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، ولهم في ذلك آثار معروفة ذكرها السيوطي في رسالة له لطيفة اسمها (بلوغ الأماني بوصول التهاني)، ذكر فيها الآثار التي فيها صحيح وضعيف -ولا أصل له عن الصحابة رضي الله عنهم- يوم كانوا يهنئون بعضهم في الأعياد وفي المناسبات التي تسر المسلم.
مداخلة: هل هناك صيغة معينة للتهنئة؟ الشيخ: ليس هناك صيغة معينة في التهنئة، بل ما تعارف عليه أهل البلد، إلا أن يكون هناك في الكلمة معنى غير مشروع، وفي هذه المسألة تذكرت سؤالاً وجه لبعض علمائنا في الحجاز، فقد سئل شيخنا هذا: هل يجوز أن يقول الرجل لأخيه عندما يذهب لتعزيته: البقية في حياتك؟ قال: نعم، لا أرى من ذلك مانعاً.
ويبدو أن الشيخ لم يتصور المعنى، فمعنى البقية في حياتك، ماذا؟ أي: أنه مات ناقص العمر، فالذي ذهب من عمره ينضم إلى عمرك إن شاء الله.
هذا معناها أي: هو يسأل الله تبارك وتعالى أن يضم إلى عمر هذا الإنسان ما فات من عمر الميت، وهذا معنى لا يجوز وهو مضاد لصريح الكتاب والسنة، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
مداخلة: هل يجوز تهنئة غير المسلم في العيد؟ الشيخ: لا، لا يجوز تهنئة غير المسلم في العيد، ولا يجوز تعزية غير المسلم في الحزن.
قال: (ولست أنساها لـ طلحة) وهذا يدل على أن القلوب جبلت على حب الإحسان، وكون كعب بن مالك يحمل هذا الجميل لـ طلحة بن عبيد الله، يدلك على أن المسارعة في التهنئة تحفر في القلب أثراً، والله تبارك وتعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] إشارة إلى أن الإحسان يأسر العبد الذي حسنت إليه، ولذلك قال من قال: (ليس هناك حِملٌ أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك)، كلام كالذهب.
(ليس هناك حملٌ أثقل من البر) فالإنسان عندما يكون فضل له عليك فأحياناً يخطئ عليك وأنت تقول: لولا أنه عمل معي كذا وكذا لكنت رددت عليه، فلذلك أنت تحفظ الجميل، فلا تستطيع أن ترد عليه؛ لأن الرجل أسرك بالجميل، وهذا شيء فطر عليه الإنسان.
ففي حديث المسور بن مخرمة الحديث الطويل في صلح الحديبية الذي أخرجه الشيخان: أن عروة بن مسعود الثقفي وكان كافراً فذهب إلى قريش وقال لهم: دعوني آت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأعرض عليه ما تقولون، فجاء عروة بن مسعود الثقفي والصحابة حول النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! إنها واحدة من اثنتين، إما أن تغلبهم -أي: إذا دخلت في حرب بينك وبين قريش وغلبتهم- فهل سمعت رجلاً اجتاح قومه قبلك -يعني أسمعت أن أحداً فعل في قومه ذلك؟ - وإن كانت الأخرى -أي: أنهم يغلبوك- فوالله ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك).
فعندما قال هذه الكلمة: (سمع من يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص ببظر اللات) فهذه كلمة شديدة جداً، فعاب آلهتهم أنها أنثى، ثم طعن في موضع العورة أيضاً، فقال عروة بن مسعود: (من هذا الذي يتكلم؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنه ابن أبي قحافة) يعني: أبا بكر الصديق، واسمه عبد الله بن أبي قحافة، فقال له عروة بن مسعود لـ أبي بكر: (لولا أن لك عليَّ يد لأجبتك) فهذا يدل على أن كل الناس مسلمهم وكافرهم فطروا على محبة الإحسان، حتى الكلاب، كما قال الشاعر: يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنَّت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً نبحت عليه وكشرت أنيابها فالكلب إذا رأى المحسن إليه تراه يهز ذيله، وهذا شيء كما قلت يفطر عليه المخلوق.
(من برك فقد أوثقك) طالما أنه دائماً يحسن إليك، ولم يصلك منه إساءة (ومن جفاك فقد أطلقك)، أي: لو أن شخصاً يشتمك دائماً، فافعل فيه ما تريد، فلن يلومك أحد، لماذا؟ لأنه ليس له عليك يد.
فلذلك التهنئة في الأعياد، والتعزية في الأحزان، مهمة جداً، ولها وقع السحر في النفس، فالشخص عندما يرى أنك مسرور له أكثر منه لا ينساها لك، وحين يرى أنك حزين أكثر منه أيضاً لا ينساها لك، لذلك لما قام طلحة مسروراً وصافح كعب بن مالك قال كعب: (لست أنساها لـ طلحة).(24/12)
حكم المصافحة والمعانقة
المسألة الثانية: المصافحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا التقى المسلمان فتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر) فالمصافحة لها فضيلة، وأول من أتى بالمصافحة هم الأشعريون وهم أبو موسى الأشعري وقومه الذين جاءوا من اليمن.
ولكن العناق لا يشرع، هذا الذي كنت سأتكلم عليه والحقيقة هذا البحث قد تكلمت عليه كثيراً، أن الذي يشرع إذا التقيت بأخيك أن تصافحه فقط، إنما الضم بالأحضان والحاجات هذه كل هذا لا يكون إلا في موضع سنذكره.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: (إذا لقي المسلم أخاه أيقبله؟ قال: لا، أيلتزمه؟ قال: لا، أينحني له؟ قال: لا، أيصافحه؟ قال: نعم)، فلمّا يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيلتزمه؟ ويقول: لا)، فكيف بالمسلم بعد هذا أن يخالف فمن يقابله يأخذه بالأحضان والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك!! ولكن إذا قابلت أخاك بعد سفر يمكن لك أن تلتزمه، وقد ورد في ذلك قصة رواها الإمام البخاري في صحيحه معلقة، لكنه وصلها في الأدب المفرد، وهي في مسند الإمام أحمد وغيره أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (بلغني أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي، قال: فابتعت بعيراً -اشترى جملاً- وركبته شهراً) حتى دخل البلد ووصل إلى بيت هذا الصحابي، وهذا الصحابي هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه.
قال: (فلما ذهبت إلى داره خرج لي الخادم، قلت: عبد الله بن أنيس -في البيت- قال: من أنت؟) وفي بعض الروايات: قال: (فدخل ثم خرج، قال له: من أنت؟ قال: فقلت له: جابر، فقال: ابن عبد الله؟) وقد افترقوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمصار يعلمون الناس العلم والقرآن، (قال: فخرج إليَّ فالتزمني واعتنقني، قال: ما جاء بك؟) ثم ذكر بقية الحديث إذاً: يشرع للإنسان إذا قابل أخاه بعد سفر أنه يأخذه ويلتزمه، وإذا لم يكن هناك سفر ولا غياب طويل فالأصل أن المسلم إذا قابل أخاه يصافحه فقط.
فلذلك اقتصر طلحة بن عبيد الله على المصافحة، مع أن الموضع هذا من المواضع التي يحصل فيها العناق، بمفهومنا نحن، فهذا رجل تاب الله عليه.
والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) أي: أفضل حتى من يوم الإسلام، فهذا إذا كانت المسألة بالعقل والاستحسان لكان أولى المواضع أنه يقبله.
مداخلة: هل الالتزام يختص بالرجل والمرأة سواء؟
الجواب
نعم، الأحكام الشرعية يستوي فيها الكل، يعني: فإذا ذكرنا حكماً شرعياً فيستوي فيه الكل، يعني والأصل في أحكام الشرع كذلك، إلا أن يقوم دليل يبين أن النساء لهن كذا والرجال لهم كذا، أما إذا لم يكن هناك دليل فالأصل أن الحكم يشمل كل مسلم، وكلمة (مسلم) اسم جنس، أي: يدخل تحته مسلمة أيضاً.(24/13)
حكم القيام للداخل
(قال: وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس أفواجاً أفواجاً يهنئونني بتوبة الله عليَّ، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله فصافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولست أنساها لـ طلحة) ثلاث مسائل في قوله: (فقام إلي طلحة فصافحني وهنأني): الأولى: قوله (فقام إليَّ) فهل يشرع القيام للداخل؟ القيام للداخل منه ما هو مشروع ومنه ما هو محرم، فالمحرم هو الذي يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً)، وفي الرواية الأخرى: (من سرّه أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالرسول عليه الصلاة والسلام علّق عقاب هذا الرجل على محبته وسروره لقيام القادم له وهذا الحكم فيه مشكل؛ لأن المحبة والسرور مسألة قلبية، فمن أين لي أن أعلم أن هذا الإنسان يحب أو يسر بذلك؟ فهذا الحب والسرور محجوبٌ عني، وإذا علِّق الحكم بمثل هذا لا تستطيع أن تصل فيه إلى نتيجة.
فيقال: الجواب عن ذلك: أن الشارع إذا علّق العقوبة على أمرٍ قلبي، فمثل هذا ينصب عليه قرينة في الخارج تدلل على ذلك الذي حُجب في القلب، فأنت حينئذٍ تبني الحكم على القرينة التي في الخارج، وليس على قلب هذا الإنسان، والتفصيل الذي يوضح ذلك: (من سرّه) فلو أن شخصاً دخل وأنت لم تقم له فغضب فغضبه هذا ظاهر أم خفي؟ ظاهر فهذه هي القرينة التي بينت، وهذا الرجل لو كان القيام وعدمه يستوي عنده، أكان يغضب إذا لم تقم؟ لا، إذاً غضب هذا الإنسان لأنني لم أقم دلني على أنه ممن يحب أن يتمثل الناس له قياماً، فإذا نُصِب غضبه كقرينة خارجية حينئذ أستطيع أن أحكم عليه بهذا الذي ظهر منه على ما بطن من أمره، لذلك نحن ننصح إخواننا من المدرسين أن يمنعوا التلاميذ من القيام لهم إذا دخلوا الفصول، فهذه عادة جاهلية ليس فيها أي احترام، فالذي يقول: إن قيام التلميذ هذا دليل الاحترام ليس عنده فقه عن الشرع، ولا وسائل الاحترام، فالاحترام ما كان يوماً في القيام، ولما يعاقب الأستاذ التلميذ الذي لم يقم؛ فهذا ممن ينطبق عليهم الحديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فلولا أن جلوس هذا التلميذ ساء هذا الأستاذ لم يعاقبه، وفي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري، وصححه الإمام الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إلى الصحابة رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له، لما كانوا يعرفونه من الكراهة في وجهه).
بعض الناس احتج بالحديث الذي في الصحيح: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ويرويه بعضهم بالمعنى رواية ليس لها أصل: (قوموا لسيدكم).
ويستدل على جواز القيام!! فنقول: إن هذه الرواية لا أصل لها لا في الصحيح ولا في غير الصحيح، إنما الرواية الصحيحة: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه).
وهذا الحديث له قصة، وهي: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه جُرح في غزوة الأحزاب وكان جرحه ينزف دماً، فحملوه على الناقة، فلما وصلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال للأوس: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)؛ لأنه لا يستطيع النزول، فقد أصيب في أكحله، فهم يعينونه على النزول، إذاً الحديث ليس فيه دليل على جواز القيام، وقد يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قام لـ زيد بن حارثة كما عند الترمذي وحسّنه: (أن زيد بن حارثة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقام إليه يجر إزاره) نقول: إن القيام للداخل القادم من سفرٍ يشرع، وقد يكون القيام أيضاً لحالة أخرى، وهو أن تستقبل ضيفك فتجلسه، كما صح أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها فأجلسها مكانه).
إذاً: القيام المنهي عنه هو القيام على سبيل الإعظام والتكريم، ومما أذكره في هذا المقام ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة الإمام العلم المفرد علي بن الجعد، قال علي أرسل المأمون إلى تجار الجوهر في بغداد) المأمون هو أمير المؤمنين ويريد أن يشتري ذهباً، بمعنى أنه لن يشتري له شيئاً هيناً، (فأرسل للتجار وناظرهم) أي: على السعر، وبعد أن ناظرهم قام وقضى حاجته، ورجع فدخل المجلس فقاموا جميعاً إلا علي بن الجعد -وعلي بن الجعد إمام كبير من تلاميذ شعبة بن الحجاج، ومن مشايخ البخاري وغيره- لم يقم؛ لأنه من أهل العلم، ويعرف أن القيام لا يجوز، فلما قاموا جميعاً وهو لم يقم، غضب المأمون وناداه فقال: ما حمل الشيخ على ألا يقوم كما قام الناس؟ قال: أجللت أمير المؤمنين لحديث عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: حدثني المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن -أي: البصري - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) قال: فأطرق المأمون ساعة في الأرض ثم قال: ما ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار، فصدق في علي بن الجعد قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فتعظيمك لأمر النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لك الهيبة في قلب مخالفك فضلاً عن موافقك، فلا تتصور أنك إذا عظّمت الله ورسوله أنك تُحتقر، أبداً والله، فالمخالف يعظِّمك، ولكنه لا يظهر هذا التعظيم، لماذا؟ لأنه يريد أن يعاندك نكاية فيك، الذي يقول الحق له وعليه يجعل الله تبارك وتعالى له من المهابة في قلوب الناس ما لا يجعله للذي يرضي الناس بسخط الله.(24/14)
كيف تصلي
إن الصلاة هي عماد الدين، أمر الله جل وعلا عباده بإقامة الصلاة، ومفهوم الإقامة في الشرع هو أن يؤدي العبد الصلاة كما أمر الله سبحانه وتعالى في أوقاتها مع الجماعة، وأن يخلص فيها لله عز وجل، وأن يصلي بالهيئات والكيفيات التي كان يصلي بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز للعبد أن يقلد في صلاته أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/1)
معنى إقامة الصلاة في الشرع
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر (ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه، حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه؛ ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه).
نتكلم اليوم مع أعظم الأركان العملية وهي الصلاة، والأمر بالصلاة في كتاب الله عز وجل، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمراً مجرداً، بل هو أمر له وصف، فإن الله عز وجل إذا أمرنا في القرآن بأن نصلي قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الحج:78] فكلمة (أن تقيم الصلاة) ليس معناها أن تصلي، بل إقامة الصلاة قدر زائد على مجرد الصلاة، وهي الصلاة التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث لما قيل له: (إن فلاناً يصلي ويسرق! قال: ستنهاه صلاته يوماً) أي: إن العبد إذا أقام الصلاة نهته، وهذه الإقامة هي المعنية بقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فالصلاة المحلاة بالألف واللام تفيد العهد أنها صلاة بعينها، أمر الله عز وجل بها، والتي لو أقمتها كما أمر الله بها؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليس مجرد أي صلاة، فإننا نرى رجالاً يصلون ويرابون ويسرقون ويزنون، فهؤلاء ما أقاموا الصلاة.
وإذا أردت أن تقيم الصلاة فامتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ مالك بن الحويرث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإذاً نحن ملتزمون بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام، إذا أردنا أن نقيم الصلاة يجب أن نلتزم بها، فهل جماهير المسلمين اليوم يعرفون كيف كان يصلي النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لا؛ لأننا ورثنا الصلاة، وما تعلمناها.
سل الذين يرسلون أيديهم في الصلاة ولا يضعونها على صدورهم كما هي السنة: آلنبي صلى الله عليه وسلم أرسل يديه ولو مرة في حياته وهو القائل: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ومثل: (خذوا عني مناسككم) سواء بسواء؟ ما حجة أولئك في ترك أيديهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نعجل فطرنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) فكأنها سنة الأنبياء أن تضع اليمنى على اليسرى، لكن لما غلب التقليد على المتأخرين صاروا يتعاملون مع المذاهب الفقهية كأنها أديان متباينة، فعلامة المالكي أن يرسل يديه، وعلامة الشافعي أن يضع يديه على صدره، وجهل بعضهم فقال: إن ركعتي الشفع في المذهب الشافعي فقط؛ لأنها تواطئ اسمه.
وهذا شخص من جماعة الخروج -الذين يخرجون في سبيل الله- سألته مرة فقلت له: ما دليل الخروج؟ قال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] يعني فالذين لم يخرجوا جميعاً كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل: اقعدوا مع القاعدين، أي: لم ينج من هذا الذنب إلا هؤلاء الثلة الذين خرجوا، والباقون غضب الله عليهم وثبطهم؟! وهذا يذكرني عندما جاءت معاهدة السلام قيل لهم: ما الدليل؟ قالوا: (إن الله هو السلام)، (ادخلوها بسلام)، (تحية الإسلام السلام)، كلما وجدوا لفظاً يواطئ المعنى الذي يريدون استشهدوا به، بغض النظر عن السياق الذي ورد فيه اللفظ؛ حتى صاروا أضحوكة للعقلاء: أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب فهؤلاء يقولون: ركعتي الشفع خاصة بـ الشافعي! ونقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] إذاً هذه قراءة مالك، فـ مالك يقرأ بها؛ لأن (مالك) وافقت اسم مالك! هذا كله بسبب أن الذين قلدوا المذاهب الفقهية اعتبروها كأنها دين مستقل، فالذين يرسلون أيديهم في الصلاة ما صلوا كما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام، فلو قلت لواحد: اركع، وأرني كيف يكون ظهرك إذا ركعت؟ لو قلت له: اسجد، وأرني أنفك هل يمس الأرض أم لا؟ ربما تجده يرفع أنفه من على الأرض وهكذا، فإذا سمعت قول الله عز وجل: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الحج:78] لا بد أن ترجع إلى السنة لتعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي.
والأصل في تعليم النبي عليه الصلاة والسلام أنه يشمل الرجال والنساء معاً، فإن هذا النداء في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:153] يشمل الرجال والنساء معاً، وهذا الأمر (صلوا كما رأيتموني أصلي) يشمل الرجال والنساء معاً، فمن العجب أن بعض المذاهب الفقهية تقول: إذا سجد الرجل فليجاف يديه عن جنبيه وليبالغ، إلا المرأة فإنها تنجمع لأنها عورة! فنسألهم: هذا القول من أن المرأة يدخل بعضها في بعض إذا أرادت أن تسجد، ما دليله؟ وهل النبي عليه الصلاة والسلام فرق فأمر النساء أن ينجمعن، وأمر الرجال أن يجافوا أيديهم عن جنوبهم؟ الجواب: لا، لا تجد على هذا أثارة من علم، بل الرجال والنساء معاً على السواء في المجافاة.(25/2)
هيئات الصلاة الصحيحة
إذا أردنا أن نذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على التفصيل كما صلاها عليه الصلاة والسلام، فلم أجد كتاباً أفضل ولا أجود من كتاب شيخنا الإمام المحدث الكبير أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها) وهذا الكتاب من الكتب المباركة -وهذا الحقيقة- الكتاب له عندي معزة خاصة جداً؛ لأن هذا الكتاب هو الذي فتح عيني على علم الحديث، وعلى مذهب أهل السنة والجماعة.
في عام (1395هـ) تقريباً مررت بعدما انتهيت من صلاة الجمعة في مسجد الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله -مسجد عين الحياة- فمضيت أتجول عند باعة الكتب، وأنظر إلى ما يعرضونه من الكتب، فوقعت عيني على هذا الكتاب، فتناولته وقلبت صفحاته، وأعجبني طريقة تصنيفه، وأحسست بجزالة لم أعهدها في كل ما قرأت، ولفت انتباهي حاشية الكتاب -الحاشية التي خرج فيها الشيخ الألباني القسم الأعلى من الكتاب- فمثلاً يقول: (ويجافي يديه عن جنبيه) ثم يقول: أخرجه السراج، والبغدادي، وابن بشران أسماء لم تكن معهودة؛ فانبهرت بهذا الكتاب ولكن لم أستطع شراءه آنذاك لأنه كان باهض الثمن، كان بثلاثين قرشاً، فتركته وواصلت البحث، فوجدت جزءاً لطيفاً بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني) أيضاً، فاشتريته وكان إذ ذاك بخمسة قروش، ومن إعجابي بالكتاب وانبهاري به قرأته وأنا ماشٍ من المسجد إلى مسكني في الطريق، مع خطورة هذا المسلك على من يمشي في شوارع القاهرة.
فلما قرأت الكتاب وجدته يدق بقوة ما ورثته من الصلاة عن آبائي، إذ وجدت أن كثيراً من هيئتها لا يمت إلى السنة بصلة؛ فندمت ندامة الكسعي حيث أنني لم أشتر الأصل، والكسعي رجل عربي يضرب به المثل في الندامة، وحكوا من خبره: أنه كان رجلاً رامياً ماهراً، فمرت به ظباء بالليل، وكان له قوس وكان شديد الاعتداد بها، فرمى الظباء بهذا القوس في الليل، فظن أنه أخطأ الظباء؛ فكسر قوسه، فلما أصبح وجد سهمه أصاب الظباء؛ فندم على كسر القوس، ويقال: إنه قطع إصبعه من الندم.
حسناً: كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أسهل الكتب، ويجب على المسلمين أن يقرءوا هذا الكتاب حتى يقيموا الصلاة، فالإنسان عندما يقف بين يدي الله تبارك وتعالى يقبح به أن يصلي على غير ما أُمر، وقد قصد القربى والزلفى إلى الله عز وجل، وإن مثل الذي يعبد الله تبارك وتعالى بما لم يشرعه ولا رسوله عليه الصلاة والسلام كمثل الذي عبد الله تبارك وتعالى بلا شيء، مثل المخترع.(25/3)
الإشارة بالسبابة أثناء التشهد
وفي التشهد الأوسط يفترش فيجلس على رجله اليسرى، وينصب قدمه اليمنى، وينظر إلى موضع سجوده، ويحرك السبابة في أثناء قراءته للتشهد حتى ينتهي أو حتى يقوم، وقد ورد في هذا حديث زائدة بن قدامة، وهذه الزيادة ليست شاذة بل هي زيادة صحيحة -زيادة التحريك- والتحريك: أن تجعل يدك بشكل واحد وخمسين، وتضعها على ركبتك، وتنصب هذا الإصبع إلى القبلة وتحرك.
والبعض الآخر -بالرغم أننا نبهنا كثيراً على هذا- يحرك إصبعه بمزاجه لا، التحريك هذا غير صحيح؛ لأن هذا فيه صرف الإصبع عن القبلة، والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك، لكن في نفس الوقت لم يلفت إصبعه عن القبلة، وبعضهم يقول لك: يعمل حلقة طوال الصلاة في التحريك، وهذا هو الذي فهمه، والتحليق إنما هو خاص بالأصبع الوسطى والإبهام والسبابة التحريك فقط، فالواحد لو حرك إصبعه يحركه هكذا باتجاه القبلة.
أما الذين يقولون: إن التحريك يكون في النفي والإثبات فهذا لا أصل له، يعني: يظل واضعاً يده على ركبته، أول ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، يرفع إصبعه في الإثبات ثم يضعها ثانية هذا لا أصل له، بعض الناس يحرك يديه الاثنتين، وكان سعد بن أبي وقاص يفعلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد أحد!) لأنك توحد فلا تحرك بالثنتين، إنما حرك بواحدة.
وبعض الناس إذا أراد أن يسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويشير بيديه هكذا، يحرك يديه كأنه يقول: تم لا، الإنسان إذا أراد أن يسلم لا يحرك يديه، إنما تكون يداه ثابتتين على رجليه ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده، تلتفت لفتة حتى تحس أن بياض خدك يراه الذي خلفك، وتقول: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.(25/4)
الخروج من الصلاة بتسليمة أو تسليمتين
يجوز الخروج من الصلاة بتسليمة واحدة، بعض العلماء يقول: بتسليمة واحدة، يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويخرج، فيكون خرج من الصلاة، والتي هي التسليمة اليمنى وهي فرض، والأعمش رحمه الله عندما كان يحدث بهذا الحديث فسأله رجل: أرأيت لو كان عن يساري رجل ثقيل؟ قال: يكفيك تسليمة واحدة، فبعض الناس ظن أن الأعمش قالها على سبيل المزاح لا، الأحكام الشرعية ما فيها مزاح، إنما ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسلم تسليمة واحدة ويخرج من الصلاة بها.
وبعض العلماء قال: يلتفت إلى اليمين وإلى اليسار أيضاً لكن بتسليمة واحدة، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هكذا، لكن يلتفت إلى الجهتين، والظاهر أن الوضع الأول هو الأساس؛ لأن كلمة يسلم تسليمة واحدة لا يفهم منها أنه كان يوجه ناظريه إلى الجهتين، إنما يسلم على اليمين ويسلم على اليسار، ثم قال: وربما اقتصر على واحدة، فلا يتصور حينئذ بعد قوله: (يقتصر على واحدة) أنه التفت اللفتتين.(25/5)
صفة القيام إلى الركعة الثالثة
القيام من السجود إلى الركعة الثانية كيف يكون؟ هل على قبضة اليد أو على راحتها؟ فنقول: كافة العلماء يرون أنه على راحة اليد، والشيخ الألباني رحمه الله يرى أن الاعتماد يكون أيضاً على قبضة اليد كما لو كنت تعجن، وذكر في ذلك حديثاً وصححه -وأصاب في تصحيحه- في كتاب: تمام المنة في التعليق على فقه السنة، فمن فعل اقتداءً بهذا الإمام فنحن لا ننكر عليه، وإن كنت أقول دائماً: في مواطن الخلاف خذ بالأحوط، يعني: أنت إذا قمت على راحة اليد لا تلام لا من قبل الشيخ الألباني، ولا من قبل المخالفين له؛ لأنك إذا قمت على راحة اليد فعلت المتفق عليه بين الكل.
والحمد لله رب العالمين.(25/6)
جلسة الاستراحة
فإذا أراد أن يقوم جلس جلسة الاستراحة إذا كان في وتر من صلاته، وذلك بعد الركعة الأولى والثالثة؛ لأن بعد الركعة الثانية والرابعة تشهد وهو جالس، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا كان في وتر من صلاته لا يقوم حتى يستوي قاعداً، أي: لا يقوم مباشرةً، إنما يقوم فيقعد لحظة صغيرة جداً ثم يقوم، هذه اسمها جلسة الاستراحة عند العلماء، واستحبها مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
هذا إذا أراد أن يقوم، فإذا كان جالساً جلسة استراحة يفترش ولا يقعي، الإقعاء خاص بين السجدتين فقط، فإذا أراد أن يجلس جلسة الاستراحة يفترش ويقوم للركعة الثانية وهو مفترش، ويفعل في كل صلاة مثلما فعل في الركعة الأولى.
وإذا قام من التشهد الأوسط يرفع يديه، وموضع الرفع في ثلاثة مواضع: إما أن ترفع وأنت جالس قبل أن تقوم، وإما أن ترفع بعدما تقوم، وإما أن ترفع حال القيام، وأنا رأيت الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله يرفع يديه بعد التشهد الأوسط إذا أراد أن يقوم وهو جالس.(25/7)
ضم العقبين حال السجود
إذا أردت أن تسجد مرة أخرى يمكن أن ترفع يدك أحياناً وليس دائماً، وتسجد مثلما سجدت في السجدة الأولى.
كذلك على الإنسان أن يضم عقبيه حال السجود؛ لأن بعض الناس يفرج بين رجليه أثناء السجود لا، هو إذا أراد أن يسجد يضم عقبيه هكذا، وأصابع رجليه تكون متجهة للقبلة في حال السجود كذلك، لكن يرص عقبيه كما جاء في الحديث بيان ذلك.(25/8)
صفة السجود وهيئته
ثم في أثناء السجود ينصب فخذه، ولا يلصق حتى يجعل موضع السجود قريب جداً من موضع ركبتيه، كذلك ولا يجعل موضع السجود بعيد جداً بحيث يفرد جسمه، إنما ينصب فخذيه.
وقلنا: يضم أصابعه ويوجهها إلى القبلة، ويمكن في السجود جبهته وأنفه، ولا بد أن يمس الأنف الأرض، وفي الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يمس أنفه الأرض) فالأنف والجبهة يسجدان ولابد من تمكينهما.
ثم يرفع فيطمئن حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، وله أن يرفع يديه إلى حذو منكبيه لكن ليس دائماً.(25/9)
كيفية الجلسة ما بين السجدتين
في حالة الجلوس بين السجدتين هناك جلستان: جلسة الإقعاء، وجلسة الافتراش، الإقعاء: أن يقعد على أمشاط رجليه، بشرط أن يضم رجليه، ولا يباعد بينهما ويجعل إليته فوق القدمين والاقعاء المنهي عنه: أن يقعد الإنسان على أمشاط قدميه ويباعد بين رجليه، ويجعل إليته بين الرجلين هذا اسمه إقعاء الكلب، وهذا هو المنهي عنه، لكن الإقعاء المرخص به بين السجدتين أنك تضم قدميك وتقعد على أمشاط رجليك، وتجعل إليتك على قدميك.
ابن القيم رحمه الله كأنه لم يقف على هذا الحديث فأنكر هذا الإقعاء بين السجدتين، والحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث طاوس قال: قلت لـ ابن عباس: (الإقعاء بين السجدتين إنا لنراه جفاء بالرجل -أي: لا يليق بالرجل أن يفعل هكذا- فقال له ابن عباس: سنة نبيك صلى الله عليه وسلم).
فإما أن تقعي وإما أن تفترش، الافتراش: أن تفترش رجلك اليسرى، وتجعل إليتك عليها، وتنصب اليمنى.(25/10)
كيفية النزول إلى السجود
ثم يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، ثم يكبر، ولا يرفع يديه بالتكبير إذا أراد أن يسجد، فإذا سجد نصب قدميه.
هناك بعض الإخوة يكاد أن ينام على بطنه وهو يسجد، وهذا غير صحيح، والصواب أن تنصب قدمك اليمنى، وأن تنصب فخذك على الأرض، وتجافي في السجود بين يديك، الإنسان وهو يسجد يجتهد في أن يباعد ما بين يديه عن كتفيه وعن رأسه، والكلام هذا إذا كان هناك مجال كأن يصلي ولديه فراغ، أما أن يكونوا كلهم ملتصقين ببعض ويضايق الناس فغير لائق؛ وفي أول ما كنا قرأنا صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني كان بعض إخواننا يحاول أن يطبق هذا في صلاة الجمعة، فكانت هذه مشكلة كبيرة جداً، هذا الكلام على حسب المتاح، أحياناً أنت ما تستطيع أن تأخذ راحتك في السجود، وربما ضممت أطرافك على بطنك، وهذا منهي عنه، هناك بعض الناس عندما يسجد يسجد وهو واضع يديه هكذا، وهذا خطأ، إنما الصواب التفريج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في هذا التفريج، حتى لو أرادت عنزة صغيرة أن تمر من تحت يده لمرت، ويقول أنس رضي الله عنه: (كنا نأوي -أي نشفق- على النبي عليه الصلاة والسلام من كثرة ما كان يجافي بين جنبيه) عليه الصلاة والسلام.
الأصابع هذه تضم وتوجه إلى القبلة في أثناء السجود.
أما نزولك من الوقوف إلى السجود فيكون على اليدين وليس على الركبتين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) نص صريح جداً، ولو لم يرد هذا التفصيل لعلمنا من طريقة بروك الجمل أن وضع اليد أولاً يكون هو المخالف لوضع الجمل، لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير)، كما ورد في بعض ألفاظ الحديث: (يعمد أحدكم فيبرك كما يبرك الجمل الشارد) وهذا أظنه موقوف على أبي هريرة، فلم يذكر كيف يبرك الجمل الشارد.
لكن نحن المفترض فينا كعرب أهل بادية وإبل أن نعرف كيف يبرك البعير، فالبعير إذا برك إنما يبرك على ركبتيه، وأنتم تعلمون أن كل ذي أربع: الطرفان الأماميان يسميان يدان، والخلفيان رجلان.
فهو يمشي على أربعة، فعندما يأتي إنسان يقول: إن البعير أول ما يضع من جسده يضع يديه على الأرض فهو مخطئ، لماذا؟ لأن وضع يديه -يمشي عليهما- موضوعتان خلقةً، لكن إنما أول شيء يصل منه إلى الأرض ركبتاه؛ لذلك لا يكون أول شيءٍ يصل إلى الأرض من المصلي ركبتيه، فلو نزل الإنسان بركبتيه فهذا هو الذي يشبه به البعير، وليس الذي ينزل بيديه.
ولعل ابن القيم رحمه الله هو الذي بسط المسألة بسطاً وافياً للمخالفين الذين يقولون: إنه ينبغي أن تكون الركبة أول ما يصل من المصلي إلى الأرض؛ لأن ابن القيم رحمه الله لما استشعر ذلك نسى أن تكون ركبة البعير في يده؛ لأن التسليم أن ركبة البعير في يده يفصل المسألة، فقال ابن القيم رحمه الله: وقولكم ركبة البعير في يديه قول لا يعرفه أهل اللغة.
فحينئذ الفصل إنما يتم بالرجوع إلى أهل اللغة، فلما رجعنا إلى معاجم أهل اللغة وجدناهم يجمعون في مادة (ركب) على أن ركبة كل ذي أربع في يديه، وعرقوباه في رجليه، إذاً الذي في الرجلين الخلفيتين اسمه (عرقوب) والذي في الأماميتان اسمه (ركبة) ومما يدل على ذلك حديثان: الحديث الأول: في صحيح مسلم رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما نزل قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] فجاء الصحابة (فبركوا على الركب)، وقالوا: هذه التي لا نستطيع) هذا نص صريح واضح أن البروك لا يكون إلا على الركبة.
الحديث الآخر -وهو أصرح من هذا- وهو في صحيح البخاري ومسند أحمد حديث سراقة بن مالك الذي تبع النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج إلى المدينة مهاجراً، فلما أبصره أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله! هذا سراقة بن مالك يتبعنا.
قال سراقة: فدعا علي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين).
كلام صريح جداً (فساخت) -أي: غطست في الأرض (يدا فرسي) هما الرجلين الأماميتين لمقدمة فرسه- (حتى بلغتا الركبتين) فإذاً الركبة إنما تكون في اليد، فإذا أراد البعير أن يبرك برك على يديه.
فالصواب: هو النزول على اليدين؛ لأن لدينا نص صريح يقول: (وليضع يديه قبل ركبتيه) وعلى التسليم أن هذا النص لم يرد فمعرفة كيف يبرك البعير يرشح أن الصواب النزول على اليدين؛ لأن النزول على الركبتين هو هذا المشابهة للبعير.(25/11)
رفع اليدين عند الركوع
بعد دعاء الاستفتاح يبدأ الإنسان يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم.
بعد ذلك إذا أراد أن يركع يرفع يديه، وقد ورد هذا في حديث ابن عمر في الصحيحين (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع في أول الصلاة، ويرفع إذا أراد أن يركع، ويرفع إذا قام من الركوع، ويرفع بعد الركعتين) والتكبيرات التي تأتي بعد ذلك يسميها العلماء التكبيرات الانتقالية، أي: أنك تنتقل من ركن إلى آخر، وهذا الرفع سنة، وعليه جماهير العلماء ما عدا الأحناف فيقولون: إن الرفع إنما يكون في أول موضع فقط، أما في بقية الصلاة لا يكون فيها رفع -أقصد الرفع للتكبير- وحديث ابن عمر حجة عليهم، وهم احتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود) رواه أبو داود وغيره، (ثم لا يعود): أي إلى الرفع.
ولكن العلماء أجابوا على هذا بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث منكر كما قاله أحمد وابن معين وغيرهما من العلماء، فإذا هذا لا حجة فيه.
الجواب الثاني: على التسليم أن الحديث صحيح فهو ناف، وحديث ابن عمر مثبِت، والمثبِت مقدم على النافي عند التعارض، فالعلماء قالوا: إذا ورد حديثان أحدهما نفى شيئاً والآخر أثبته، ولم نستطع الجمع بين الحديثين، وكان لا بد من ترجيح أحدهما على الآخر؛ ففي هذه الحالة نرجح الذي أثبت على الذي نفى لماذا؟ لأن مع المثبِت زيادة علم، أي إنسان في الدنيا ممكن يقول: لا أعلم؛ لأن نفي العلم أيسر ما يكون، ولذلك ليس بعالم الذي إذا سئل عن مسألة يقول: لا أعلم فيها دليلاً، فكلمة (لا أعلم) هذه ما المشكل فيها؟ ما هو الجهد الذي أنت بذلته عندما قلت: لا أعلم؟ إنما الذي يقول: أنا أعلم كذا وكذا، إذاً هذا قطعاً هو اطلع ووقف على ما لم يقف عليه النافي.
لذلك نحن نقول: إن المثبِت مقدم على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم، كما لو سئلت: ما تقول في فلان، أهو مماطل -يعني إذا أخذ المال لا يرده-؟ تقول: لا أعلم عن ذلك شيئاً.
فقال لك رجل: نعم، هو مماطل.
إذاً أيهما اطلع على هذا الرجل؟ الذي أثبت عليه المماطلة.
إذاً الصواب: الرفع في التكبيرات الانتقالية، فإذا أردت أن تركع ترفع يديك مثلما رفعتهما في تكبيرة الإحرام، ترفع اليد وتنشر الأصابع، وتكون بحذاء الأذن إما من فوق وإما من تحت.(25/12)
صفة الركوع
أثناء الركوع يكون جسمك مع رجليك بزاوية قائمة، بعض الناس يبالغ في انخفاض رأسه، وبعض الناس لا يكاد يركع، تجده وهو راكع يكون شبه القائم، وآخر يبالغ حتى يكاد يكون رأسه بين رجليه لا، لا هذا ولا ذاك، بل الأوضاع الصحيحة للركوع أن جسمك يكون مع القدمين كزاوية قائمة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع لو وضعت على ظهره قطرة ماء ما تحركت، ولا يتم هذا الوضع إلا إذا نشرت ساعدك وقبضت على ركبتيك، تعرف أن الذي ينحني أكثر من اللازم تجد أن يديه مكسورة أثناء الركوع، لكن هو إذا أراد أن يركع ركوعاً صحيحاً، فإذا قبض على الركبتين لابد أن يكون الساعد مفروداً، والسنة أن يقبض الإنسان هكذا على ركبتيه وينشر ساعده.(25/13)
صفة القيام من الركوع ورفع اليدين
بعدما يركع ويقوم قائلاً: (سمع الله لمن حمده) ثم يقيم صلبه حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، ويرفع يديه أيضاً إلى جهة القبلة.(25/14)
حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع
هل بعد رفع اليد يقبض باليمنى على اليسرى أيضاً أو يرسلها؟ الذي نعرفه أن أكثر العلماء على الإرسال، وقال بالقبض قلة منهم، وهو القول السائد الآن عند مشايخنا في السعودية، مثل الشيخ ابن باز والشيخ محمد الصالح وسائر علماء السعودية -حفظهم الله تبارك وتعالى- يقولون بالقبض.
والحقيقة: أن هذا القبض فيه إثبات هيئة؛ لأن كونك تقبض باليمنى على اليسرى هذا إثبات لهيئة، وإثبات الهيئة يحتاج إلى دليل مستقل، ولا يصح في إثبات الهيئة دليل عام يتطرقه الاحتمال، وهو حديث وائل بن حجر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قام في الصلاة وضع اليمنى على اليسرى) فيقال: إن القيام الأول قيام، والقيام من الركوع قيام، فالحديث يشمل عموم القيامين، فلذلك نحن نقبض في القيامين.
فنقول: إن هذا عموم صرفه الاحتمال؛ لأن كلمة (القيام) إذا وردت في الأحاديث فالمقصود بها القيام الأول؛ لأن القيام الثاني جزء من الركوع، وليس قياماً مستقلاً كالقيام الأول، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه (أنه كان يركع ثم يرفع من الركوع حتى يرجع كل عظم إلى مكانه) الهاء هنا إنما تعود على العظم وليس على الوضع، أي مكانه الطبيعي الذي خلقه الله عليه.
فإذا تأملنا كل أحاديث صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام نجد أن الصحابة ذكروا ما هو أخفى من القبض وأدق، فكيف يغفلون جملة واحدة عن ذكر هذا القبض بعد الركوع ولو مرة واحدة؟! وأنت عندما تقرأ صفة الصلاة تجد فيها تفصيلاً دقيقاً جداً لكل حركة، كانوا ينقلون كل شيء، حتى أنه مرة عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في سورة المؤمنون، فجاء ذكر موسى وهارون فسعل سعلة فركع، فنقلوا أنه سعل فركع، وفي السجود ينقل لك أن أطراف الأصابع تكون تجاه القبلة، وفي تكبيرة الإحرام يقول لك: نشر أصابعه، وفي السجود يقول لك: ضم أصابعه، كل هذا التفصيل الدقيق لانفراج الأصابع وضم الأصابع ينقل في أكثر من حديث، ولا يقال في حديث من الأحاديث أبداً فقال: سمع الله لمن حمده ثم وضع اليمنى على اليسرى! فهذا دليل على أن هذا الوضع ليس وضعاً صحيحاً ولم يثبت، والهيئة لا يدخل فيها الاجتهاد، فلا بد فيها من ذكر دليل مستقل؛ نحن فصلنا هذا الكلام مرة أخرى بأبسط من ذلك.
فالصواب: أن الإنسان لو قال: (سمع الله لمن حمده) ورفع يديه أن يرسل يديه ولا يقبض بهما.
فإن رأيت أحداً يقبض لا تشتد عليه؛ لأن هناك بعض الناس كانوا يشددون في هذه المسألة من الجانبين، لكن العلماء -كالشيخ ابن باز رحمه الله- يقولون: لا ينبغي الإنكار في هذه المسألة، طالما أنه متبن لهذه المسألة، لأنها ليست ركناً في الصلاة ولا شرطاً لهذا فيترفق، لكن الراجح في المسألة -كما قلنا- هو الإرسال.(25/15)
دعاء الاستفتاح وموضعه الصحيح
بعد أن يستقبل العبد القبلة ويكبر ويقبض يبدأ بذكر دعاء الاستفتاح، وموضعه يكون بعد التكبير وقبل قراءة الفاتحة، يقول: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين) بعض العلماء يقول: لا تقل: (وأنا أول) وإنما قل: و (أنا من المسلمين)، وهذا القول غير صحيح؛ لأن الرواية وردت بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأنا أول المسلمين)، وإنما يشتبه على القائل أن كلمة (وأنا أول المسلمين) أن القائل ليس أول المسلمين بطبيعة الحال، بل سبقه مسلمون.
فيقال: نفس الكلام بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: (وأنا أول المسلمين) لم يكن هو أول مسلم، إنما سبقه كل الأنبياء وكانوا مسلمين، المقصود بقوله: (وأنا أول المسلمين) المبادرة إلى أن تكون في أوائل الذين يسلمون لله تبارك وتعالى، فلا منافاة، (وأنا أول المسلمين) ليس معناه أنه ليس هناك مسلم قبلك.
أو تقول الدعاء الآخر وهو: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم غسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد.(25/16)
كيفية رفع اليدين عند الشروع في الصلاة
عندما يقف العبد بين يدي الله عز وجل ينشر راحتيه في اتجاه القبلة -والنشر: أي تفريج الأصابع- ويجعل أصابعه بحذاء أذنيه: إما بحذاء الأذن من أسفل أو بحذاء الأذن من أعلى، فإما أن ترفعها قليلاً، وإما أن تنزلها قليلاً، لكن تجعل الراحة في اتجاه القبلة، وكذلك تجعل أصابع قدميك باتجاه القبلة أيضاً.(25/17)
وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة
بعد أن ينشر العبد راحتيه باتجاه القبلة يقبض أو يضع؟ وضعان فقط لليد.
العبد إذا قبض فالقبض صفته: أن الإنسان يقبض على الرّسْغ -والرسغ: هو المفصل الذي بين الراحة وبين الساعد- ثم يضعهما على صدره، ولم يثبت أي وضع إلا على الصدر.
أما حديث علي بن أبي طالب (أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يضع يده اليمنى على اليسرى تحت السرة) فإنه ضعيف، ومعلوم عند العلماء أنه لا يعمل بالحديث الضعيف في الأحكام الشرعية، فلم يثبت إلا الوضع على الصدر، يعني: بمثابة شبر، إذا وضعت هكذا أو وضعت هكذا أو وضعت هكذا كله جائز طالما أنه على الصدر.
لكن العادة أن الإنسان لا يتكلف في الوضع، فالوضع الطبيعي الذي ليس فيه تكلف أن الإنسان يضع يده في الوسط، وبالتالي يكون وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، إما أن يقبض على الرسغ وإما أن يبسط يده اليمنى على اليسرى الرسغ والساعد، وبعض المسلمين قد يسيء فيضع يديه وضعاً غير صحيح، فيمسك يده، فهذا نوع من الزيادة، وهذا الوضع لم يرد فيه حديث أبداً.
وأنا رأيت بعض الناس كان يصلي هكذا هذا خطأ، فيكون الفهم الصحيح للحديث: أن يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرُّسْغ والساعد، هذا هو الوضع.(25/18)
أهمية الإخلاص لله تعالى في الصلاة
أول شيء يفعله العبد في إقامة الصلاة: الإخلاص، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول دعاء الاستفتاح ويذكر أكثر من دعاء؛ لأن الاستفتاح في بداية الصلاة معناه أن يعلن استسلامه لله تبارك وتعالى وخضوعه، وعبوديته لله عز وجل، فيا عجباً لعبد يعلن أنه عبد لله تبارك وتعالى خمس مرات في اليوم وهو ليس كذلك في حياته في كلامه في مطعمه في مشربه.
{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام:79] انظر كلمة: (وجهت وجهي)! إذا وجه العبد وجهه؛ نصب الله وجهه في وجه العبد -كما في الحديث الصحيح- لذلك يمنع المصلي أن يلتفت، فإذا التفت العبد التفت الله عنه، ولا يزال الله تبارك وتعالى مقبلاً على العبد ما كان مقبلاً عليه في صلاته، وذلك بألا يزوي وجهه عن القبلة، وقد ورد في بعض الآثار المتكلم فيها أن العبد إذا صرف وجهه يقول الله تبارك وتعالى له: (إلى خير مني؟!) فالتفات العبد يدل على عدم الصدق في توجيه الوجه لله عز وجل.
وهناك معنى آخر في الآية: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي} أي: جعلت حياتي ووجهي، كما يقال: الوجه كذا: أي الطريق، ما وجهتك؟ يقول: في المكان الفلاني أو إلى الجهة الفلانية، إذاً (وجهت وجهي): أي جعلت حياتي ومسلكي وطريقي ووجهتي لله تبارك وتعالى، توضحه الآية التي بعدها والتي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] هذه الآية توضح هذا التفسير: أن الوجه الذي هو الوجهة، أي: كل ما يصدر عني فهو لله رب العالمين؛ لأنني وجهت وجهي إليه، نصبت نفسي على الطريق إليه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي}.
نحن ذكرنا قبل ذلك أنه قدم الخاص، ثم ذكر العام بعد الخاص؛ لأن (محياي) داخل فيها كل شيء حتى الصلاة، والذبح الذي هو النسك، وبعض العلماء يقول: إن النسك هنا معناه الحج، وقالوا: إن الذبح المقصود بالآية هو ذبح الحج الذي هو الهدي، فذكر الصلاة والحج خصوصاً؛ لأن الصلاة هي الفارقة بين المسلم وبين الكافر، كما في حديث جابر وحديث بريدة وحديث ثوبان (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وكذلك الحج كما قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] ولأن الحج له خاصية وردت في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن العاص عندما أسلم وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك.
قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: مالك يا عمرو؟ فقال: أردت أن أشترط.
فقال: تشترط بماذا؟ فقال: أشترط أن يغفر لي.
قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها؟) فهذه خاصية عظيمة جداً في الحج، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يفسق ولم يرفث؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وهذا لا يعلم إلا للحج.
مسألة أن العبد يرجع من الحج ليس عليه ذنب ألبتة لا يعلم إلا في الحج، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام جعل الحج مقابل الإسلام في هدم ما كان من العبد من ذنوب قبل ذلك ما لم يتعلق به حقوق العباد، فلذلك الله تبارك وتعالى قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] يقبح بالعبد أن يقول هذا ثم يخرج فيشرك بالله تبارك وتعالى، وأفظع من هذا أن يشرك بالله تبارك وتعالى في ذات الصلاة، كأن يصلي للناس، أي: ما جاء ليصلي إلا ليقال: مصل.
وهذه قصة ذكرت في مذكرات أحد السفراء يقول: إن رئيس بلده ذهب يزور البلد التي كان هو سفيراً فيها، ثم بعد ذلك ذهب الرئيس إلى كنيسة هذا البلد ومعه رئيسها -وهي بلد نصرانية- ليتفرج، فيقول: إن رئيس هذا البلد النصراني دخل الكنيسة، وقام يكلم الناس أنني مثل عمر، وأن عمر دخل الكنيسة إلخ، وتماماً يريد أن يصير كعمر وأنه سيصلي، فوجد هذا السفير أن الرئيس سيصلي، فظن أنه سيتوضأ ثم يصلي، ولكنه مباشرة دخل في الصلاة وصلى بغير وضوء! العجيب أنه لم يستح من ذكر هذه المسألة، وهذا الشخص له كتاب نشره في الأسواق يتبجح فيه يقول: إنه ذهب إلى ولاية من الولايات الأمريكية، وبدعوة من عالم للكتب، فيقول: إني ذهبت لحضور الجلسة هذه، فوجدت السفير واقفاً على الباب ومضطرباً فقلت له: ما لك؟ قال: النجدة! قلت: لماذا؟ قال: فتنة طائفية! المسلمون يجلسون على كراسي لوحدهم، والنصارى يجلسون على كراسي لوحدهم.
فقلت له: لا عليك لا عليك قال له: بلباقتك وبذكائك حل لي المشكلة هذه، أتينا لنجلس جلسة محبة ووئام إلخ.
قال: فقمت مباشرة ذاهباً إلى صفوف النصارى -وهذا شيء طبيعي جداً عند رجل لا يصلي ولا يفعل شيئاً- فما أكاد أن أمر على إنسان إلا يقول لي: يا فلان! تعال بجانبي، هذا كرسي خال! ويجلسه على الكرسي، ويقول: ما مضت إلا لحظات حتى راعني أن قام رجل يؤذن للمغرب.
يقول: راعني! أي: أفزعني أن قام رجل يؤذن للمغرب، الكلام هذا منشور في كتابه، ولم يستح أنه ينشر هذا في كتابه! يقول: فانتظرنا حتى أنهى الأذان، وقال: وإذا بهم جميعاً يقومون إلى الصلاة، قال: فشعرت باستحياء وخجل قال: فجاءني رجل فقال لي: ألا تصلي؟ قلت له: ليس الآن.
فقال لي: يعني ماذا؟ قلت له: ليس الآن، نحن في مجلس محبة ووئام ومجلس أخوة.
فقال لي: يعني: ما أنت فيه أهم من الصلاة؟ قلت له: نعم، ما نحن فيه أهم من الصلاة.
لا يستحي أن ينشر هذا، عندما يقوم رجل يصلي لغير الله تبارك وتعالى -فلو قام هكذا كما قام ذلك السفير- هذا أشرك حتى في الصلاة؛ لأنه ما صلى لله تبارك وتعالى، إنما صلى لذاك الرئيس، حتى لا يقال: هذا مخالف للأوامر، المفروض الرئيس يجعله يصلي، فكل شيء بالأمر.
فأفضع شيء أن تشرك بالله وأنت تصلي، وأنت تعبده، كل هذه الأعمال إنما يجب فيها الإخلاص لله تبارك وتعالى {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، و (ما) و (إلا) قلنا قبل ذلك: إن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر، فإذاً لا يجوز إلا أن تخلص العبادة لله تبارك وتعالى.(25/19)
الأسئلة(25/20)
حكم الالتفات بالصدر عند التسليم
السؤال
هل يصح الالتفات بالصدر حال السلام من الصلاة؟
الجواب
لا، الصدر يبقى ثابتاً، الإنسان لا يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت بصدره لا، إنما الالتفات يكون بالرأس فقط وليس بكل الجسد.(25/21)
الحركة تابعة للكلام عند التسليم
السؤال
إذا التفت جهة اليمين قبل السلام ثم سلم؟
الجواب
لا، هذا فيه تكلف، الإنسان إذا قال: (السلام عليكم ورحمة الله) الحركة تكون تابعة للكلام، يعني قل: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
لكن هو يقول: السلام عليكم ورحمة الله ويفعل هكذا هل تنفع هذه؟! وما الذي جبره على هذا!(25/22)
المرأة والرجل سواء في هيئات الصلاة
السؤال
هل المرأة مثل الرجل في هيئات الصلاة؟
الجواب
الرجل والمرأة على السواء، طبعاً هناك بعض الناس يقول: إن المرأة إذا سجدت تضم أطرافها بعضها البعض لأن المرأة عورة، وهذا لا أصل له؛ لأن كل أحاديث صفة الصلاة المرأة والرجل فيها على السواء، لا خلاف إطلاقاً بين الرجل والمرأة في هيئة الصلاة أبداً، إنما الخلاف بين الرجل والمرأة في مسألة اللباس، وأنها عندما تصلي لابد أن تلبس جوارب أو ستاراً لقدميها، لابد من ذلك، لا يجوز للمرأة أن تصلي وهي كاشفة لقدميها.(25/23)
حكم صلاة المرأة بدون خمار
السؤال
هل إذا صلت المرأة لابد لها من خمار؟
الجواب
نعم، تصلي بخمار، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة كلها عورة) هذا حديث في الترمذي وهو صحيح، والعلماء الذين استثنوا، إنما استثنوا الوجه والكفين، إذاً القدمان ليستا داخلتين في الموضوع، فالقدمان تبقى على عموم الحديث الأول.
إذاً قدم المرأة عورة، وليس عورة في الصلاة فقط بل عورة دائمة، لا يجوز للمرأة أبداً أن تخرج وقدمها مكشوف أبداً، ولا فرق بين أن يظهر قدم المرأة وبين أن يظهر شعرها أو نحرها أو صدرها أو أي شيء، كله داخل في حدود العورة.
مداخلة: وهل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بخمار) نفي لصحة الصلاة أم أنه نفي لكمالها؟ الجواب: نعم، (لا صلاة) فمعروف أن النفي إن انصب على الجنس ينفيه كلية، فيكون لا صلاة صحيحة، ما نستطيع أن نقول: لا صلاة كاملة إلا إذا وجد صارف يصرف مثل هذا النفي.
مداخلة: وإذا كانت المرأة جاهلة؟ الجواب: لا، إلا إذا كان عمداً.(25/24)
حكم صلاة المرأة بلباس غير الخمار
السؤال
لو صلت المرأة بأي شيء غير الخمار؟
الجواب
لا يجوز أن تصلي المرأة بخمار، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لحائض إلا بخمار) (لا) و (إلا) نحن قلنا: إن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر، إذاً لا يجوز للمرأة أن تصلي إلا بخمار، أن تدلي بفوطة على رأسها فهذا لا ينفع، كل هذه الأشياء لا تصلح.(25/25)
حكم السترة في الصلاة
السؤال
ما حكم السترة في الصلاة؟
الجواب
بالنسبة للسترة في الصلاة مما فاتني -فأنا أرجو أن أستدرك ما فاتني- فينبغي للإنسان أن يتخذ السترة في الصلاة حتى لا تقطع صلاته إما من الإنس أو من الجن؛ لأن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمره باتخاذ السترة (قال: إنني أصلي وحدي.
قال: إنك لا تدري من يمر أمامك).
فيكون مسافة ما بين قدم الرجل وما بين موضع السترة ثلاثة أذرع -في حدود متر وربع- أي: يكون بين موضع قدمك وبين موضع سجودك نحو ثلاثة أذرع، ويكون بين موضع سجودك والسترة مثل مؤْخِرة الرحل، وأنتم تعلمون أن الجمل عندما تحمل عليه العدة التي مثل (البردعة) الخاصة بالحمار، أليس هناك أربع خشبات: اثنتان في الخلف، واثنتان في المقدمة يعلق عليها أشياءه، الخشبة هذه طولها حوالي (20سم)، هذا هو مؤخرة الرحل، فيكون ما بين سجودك وما بين السترة حوالي (20سم) مثل مؤخرة الرحل، وما بين موضع قدمك وما بين السترة ثلاثة أذرع -التي هي تقريباً- مكان سجودك، يعني: مكان جسمك.(25/26)
مقدار السترة في الصلاة
السؤال
ما هو مقدار السترة؟
الجواب
بالنسبة للسترة يكون شيئاً مرتفعاً عن الأرض، أما حديث الخط فهو ضعيف، والصواب أن السترة تكون شيئاً مرتفعاً أمامك، وفي بعض الأحاديث أن مقدارها مثل مؤخرة الرحل أيضاً، فتكون السترة مرتفعة بنحو حوالي (20سم) على الأرض، أو يكون شيئاً بارزاً على الأرض.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(25/27)
تمام القدوة بحسن الأسوة
التأسي فطرة من فطر الله تعالى التي فطر عليها الناس، ولهذا تجد أكثر الناس يتأسون ببعضهم ويحاولون تقليد غيرهم، وخير من يُتأسى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس، وفي كرمه ووفائه، وسعة صدره، وقد قسم العلماء أعمال النبي إلى جبلِّية وشرعية، واختلفوا في حكم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعمال الجبلية هل هو واجب أم مستحب؟(26/1)
بيان أن التأسي فطرة من فطر الله تعالى
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
إن الله تبارك وتعالى لما خلق الناس ركز في فطرهم التأسي، وقد ذكر ربنا تبارك وتعالى في أكثر من آية في كتابه هذا المعنى، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر ثمانية عشر نبياً في سياق واحد، قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال تبارك وتعالى لما ذكر القصص: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَاب} [يوسف:111]؛ وإنما ذلك لما ركزه الله تبارك وتعالى في فطر الناس من التأسي.
وقد ورد مثل هذا المعنى في كثير من الأحاديث الصحيحة؛ منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، فساق خبره في تخلفه عن غزوة تبوك، فكان مما ذكره في مسألة الأسوة، ذكر موضعين: الموضع الأول: أنه ذكر تخلفه عن الناس، وأنه في كل مرة يعزم على أن يلحق بهم فيصده النظر في أرضه وفي ثماره عن مواصلة السير خلف الغزاة، قال: (فياليتني فعلت -أي: يا ليتني لما عزمت على أن ألحق بهم فعلت- قال: وكان يحزنني أني لا أجد لي أسوة إلا منافقاً مغموصاً عليه، أو رجل ممن عذر الله عز وجل) الذي كان يحزنه بعدما خرج الناس إلى الغزوة أنه لا يجد في المدينة إلا مغموصاً عليه في النفاق ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو رجلاً ممن عذر الله عز وجل.
ثم ذكر خبره وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قدم من تبوك، وجاءه المعذرون من الأعراب، والمنافقون يعتذرون عن تخلفهم عنه في غزوة تبوك، قال: (فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
قال: فلما رآني تبسَّم تبسم المغضب وقال لي: ما خلفك؟ فقلت: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الدنيا لخرجت من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً، ولكنني إذا حدثتك حديثاً تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين إلا في هذه الغزوة.
فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق.
قال: فتبعني رجال من بني سلمة، وجعلوا يؤنبونني، وقالوا: والله ما نعلم أنك أذنبت ذنباً قبل ذلك، ولقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
قال: فما زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي أحد غيري هذا الذي لقيت؟ قالوا: نعم.
فقال: من هم؟ قالوا: هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع.
قال: فذكروا لي رجلين صالحين ممن شهدا بدراً لي فيهم أسوة).
فانظر إلى الموضع الأول الذي أحزنه: أن يكون أسوته منافقاً.
وانظر إلى الموضع الثاني بعدما هم أن يكذب نفسه، ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله أنا مخطئ! بعدما هم أن يكذب نفسه الذي ثبته وجعله رابط الجأش؛ أن رجلين فاضلين ممن شهد بدراً لقيا ما لقيه، فقوى ذلك قلبه.(26/2)
التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن دينار قال: (سألنا ابن عمر عن رجل طاف في عمرته ولم يسع بين الصفا والمروة، ما يحل له من امرأته؟ فقال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، ثم صلى ركعتين خلف المقام، ثم طاف بالصفا والمروة، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فأعطى الحكم بذكر الآية.
قال عمرو بن دينار: فسألنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقال: (لا تحل له امرأته حتى يسعى بين الصفا والمروة).
فـ جابر ذكر الحكم مباشرة، أما ابن عمر فذكر الآية لأنها أعم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما طاف فقط، إنما طاف وسعى، فرأيه يلتقي مع فتوى جابر رضي الله عنهما، لكنه ألمح إلى عموم الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وأيضاً في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر مناظرة هرقل مع أبي سفيان في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما سأله هرقل لـ أبي سفيان عن النبي عليه الصلاة والسلام: - قال: هل قال أحد منكم هذا القول قط قبل ذلك؟ - فقال: لا.
- قال: فهل من آبائه من ملَك أو مِن ملِك؟ - قال: لا.
- فقال هرقل مجيباً: لقد سألتك: هل قال أحد هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قال: فلو كان أحد قاله قبله لقلت: رجل يتأسى بمن قبله.
ثم سألتك: هل من آبائه من ملَك أو مِن ملِك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملِك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
فاستدل أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في خبره الذي نقله عن الله عز وجل، واستدل على أنه لم يسبقه أحد إلى هذا القول قبله لعلة التأسي، وأن الناس يتأسى بعضهم ببعض.
وسئل سفيان الثوري والإمام أحمد رحمهما الله عن التأسي فقالا: (عليك بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).
كل هذا يدلنا على أن التأسي خلُق خلَق الله عز وجل الناس عليه، فانظر بمن تتأسى، أبالذي استخرج الله عز وجل من قلبه مضغة الشيطان فليس للشيطان في قلبه حظ؛ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أم بمن دونه؟! ولقد صدق الشاعر وهو يذكر همم الناس، فقال: تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة سائر الشركاء فيه ولا ترد الأسود حياض ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه من شرف الأسد وشرف همته: أنه إذا وجد الكلب يشرب من بئر فإنه يعافه، ولا يشرب منه.
همة المرء على قدر همه، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن من الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يتأسى به إلا رجلان، {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] والصنف الثاني {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
لماذا جعل أكثر الناس هدي النبي صلى الله عليه وسلم خلفهم ظهرياً؟ لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حياً بيننا اليوم، فقابل في الطريق رجلاً يحلق لحيته، أو رجلاً مسبلاً إزاره، أو رجلاً يلبس الذهب فقال له: اعف لحيتك، أو قال له: ارفع إزارك، أو قال له: اطرح عنك هذا الذهب ماذا كان يفعل؟ الذي أعتقده أن كل سامع لهذا الكلام سيقول: لا شك أنه سيعفي لحيته، ولا شك أنه سيرفع إزاره، ولا شك أنه سيخلع الذهب فهذا كلام جميل! لكن هل له واقع؟ إن الذين جعلوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهورهم لا يرجون الله ولا اليوم الآخر، ولو عشت معهم لرأيتهم من أقل الناس ذكراً لله عز وجل، تجلس في مجلس أحدهم ثلاث ساعات أو أربع لا يذكر الله مرة، إنما يذكر الدولار مائة مرة، ويذكر العقار، ويذكر الأرض، وتُذكر الآمال العراض والدنيا، فإذا نبه منبه على أي أمر تنبيهاً شرعياً تكلموا جميعاً في دين الله عز وجل بلا هدْي ولا كتاب منير، أطول الناس ألسنة في الكلام في دين الله أجهلهم بهذه الشريعة وأبعدهم من الذكر، لا يقوي القلب على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترجو الله واليوم الآخر، كما كان الصحابة يفعلون.
روى أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بسند حسن، عن بريدة رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً فغاص بالناس -امتلأ- فجاء جرير بن عبد الله فلم يجد مكاناً فجلس خارج الدار، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم، فلف ثيابه وقذف بها إليه أن اجلس عليها، فأخذها جرير فوضعها على وجهه وقبلها).
نظرة الحب والتأسي عند هذا الجيل كانت عالية، وكانوا يجعلون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، وفي سويداء القلب؛ لذلك هان عليهم اتباعه والتأسي به، حتى إنهم كانوا يتبعونه فيما يستطيعونه، وكان الواحد منهم يخرج من بيته يقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سائر اليوم.
ويجلس يومه كله ينظر إليه وهو يصلي، وينقل حركاته كلها، حتى إنهم لما كانوا يصلون خلفه في صلاة الظهر كانوا يعلمون قراءته باضطراب لحيته! بل وأبعد من ذلك: كانوا يسمعون للقراءة في صدره أزيزاً كأزيز المرجل، أي أن صدره له صوت وهو يقرأ؛ من شدة ما يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاني التي في كتاب الله عز وجل، ثم ينقلون هذا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء بهم مرة، فجاء ذكر موسى وهارون فسعل سعلة ثم ركع فسجلوها ودونوها أنه سعل عند ذكر موسى وهارون وركع.
فنقلوا لنا كل شيء في حياته صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأنهم كانوا يرجون الله واليوم الآخر، وكانوا أكثر الناس ذكراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(26/3)
وفاؤه عليه الصلاة والسلام
إذا نظرت إلى وفائه عليه الصلاة والسلام ما رأيته غدر قط، وما ينبغي له عليه الصلاة والسلام، حتى مع أعدائه إذا قال وفّى، في صحيح مسلم أن حذيفة بن اليمان قال: (ما شهدت أنا وأبي وقعة بدر -مع أنهم كانوا حاضرين، لكن ما قاتلوا- قال: لقينا كفار قريش فقالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة.
قالوا: إنكم ستقاتلوننا -أي مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأعطونا العهد والميثاق ألا تقاتلونا ونحن نخلي بينكم وبين وجهتكم، فأعطوهم العهد والميثاق، ثم جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقصا عليه ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: نوفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) هو أوفى الناس، لا يغدر وما ينبغي له! وكما روى النسائي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأذن للناس في البيعة العامة، أمَّن الناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين، فقال: اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)، وكان الخائف إذا أراد أن يفر من مَن يريد أن يقتص منه أو يقتله ذهب إلى الكعبة فتعلق بأستارها، فحينئذ يأمن؛ لأن العرب كانوا يعظمون البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجروا على سالف ما كنتم ترون أو تفعلون، إذا جاء الجاني فتعلق بأستار الكعبة لا تتركوه (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) وهؤلاء هم: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن أبي سرح، فلقي الناس مقيس بن صبابة في السوق فقتلوه، ووجدوا عبد الله بن خطل معلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، فأما عكرمة بن أبي جهل ففر راكباً البحر هارباً، فهبت ريح عاصف كادت الأمواج أن تحطم السفينة، فقال صاحب السفينة: أخلصوا الدعاء؛ فإن آلهتكم لن تنفعكم هنا.
فقال عكرمة: (لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله علي إن أنجاني لآتين محمداً صلى الله عليه وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فقبل منه، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة جاء عثمان بن عفان بـ عبد الله بن أبي سرح فقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، حتى قالها ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى كل ذلك أن يبايعه، ثم بايعه بعد ذلك، والتفت إلى أصحابه فقال: أليس منكم رجل رشيد! إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه.
فقالوا: يا رسول الله! هلا أعلمتنا بما في نفسك -وفي اللفظ الآخر قالوا: هلا أومأت إلينا بعينك- فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) وسماها خائنة؛ لأنها إنما تكون من خلف ظهر صاحبها، لذلك سماها خائنة، فكل رجل يغمز لآخر في غفلة صاحبه فهو خائن، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فما غدر قط صلى الله عليه وسلم لكنه قد ينتقم بعدما يعذر مرة ومرة ومرة، ثم بعد ذلك إذا استيقن من لؤم الرجل أو الخصم أخذه على حين غرة؛ لأن الحرب خدعة، وهذا لا ينافي ما قلت من أنه صلى الله عليه وسلم ما غدر قط، فلو أخذ رجلاً غيلة أو أمر أن يؤخذ غيلة فقد أفضى إليه مراراً، كـ عمر بن أبي عزة مثلاً، كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشبب بنساء المسلمين، فظفر به فهم أن يقتله، فطلب العفو وقال: يا محمد! كن خير آخذ ولا أعود، فتركه فعاد، فظفر صلى الله عليه وسلم به فقال له: هذه لا أعود، فتركه، فأغراه المشركون فشبب بنساء المسلمين، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب العفو منه فقال: (لا، والله لا أدعك تمشي في طرقات مكة تقول: ضحكت على محمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وأمر به فقتل).
صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَذَا وَالزِّقُّ مَلآنُ وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ من أعذب ما قالته الشعراء هذا الذي قاله قريط بن أنيف، أبيات نحتاج إليها اليوم لاسيما في هذا الضعف الذي يعيشه المسلمون وهم يتكايسون، ليس عندهم فطنة، لكنهم يتكايسون، يرون عدوهم يلعب بهم، ومع ذلك يطلبون وده، وكلما زاد في إهانتهم زادوا طلباً لوده ولرضاه وصفحه، وما كان هكذا السلف الأول قوله: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ شخص يجهل عليك، كل يوم يضربك فتقول له: الله يسامحك، يضربك مرة أخرى.
فتقول: الله يسامحك، يعتدي على عرضك فتقول: الله يسامحك لا.
(وَبَعْضُ الْحِلْمِ عند الجهل): يعني هذا ليس أوان الحلم ولا مكانه عندما يجهل عليك شخص ويشتمك ويضربك (لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ): هذا إذعان واستسلام، ليس حلماً ولا له علاقة بالحلم.
وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ أعطيته الإحسان مرة واثنتين وثلاثاً، ولم تجد إلا الغدر ما بقي إلا الانتقام.
وعلى هذا تحمل كل الأحاديث التي وردت في هذا المعنى، كمقتل كعب بن الأشرف، فقد كان رجلاً شاعراً وكان يهودياً، وكان يؤذي الله ورسوله، فلما فاض الكيل وبلغ السيل الزبا، وتجاوز الرجل كل الحدود، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله)، وهذه كانت كافية ليعلن المسلمون النفير العام (إنه آذى الله ورسوله).
في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف، وهذا الحديث أذكره ليبكي الحر على نفسه، الحر الذي لا يجد طريقاً إلى إعادة شرفه مرة أخرى، أقل ما يفعله أن يبكي على نفسه.
روى الشيخان من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ جاءني غلامان: واحد عن يميني، والآخر عن شمالي، فقال لي أحدهما -وأسر لي حتى لا يسمع صاحبه-: أي عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا بن أخي؟ فقال: بلغني أنه يسب رسول الله.
والله! لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
قال: فعجبت من مقالته، ثم أسر لي صاحبه فقال لي مثل مقالته، قال: فبينا أنا كذلك إذ رأيت أبا جهل يزول في الناس - يعني: يذهب ويأتي مضطرباً- فقلت: هذا صاحبكما، قال: فانقضا عليه ضرباً بالسيف فقتلاه، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته، وتنازعا -كل واحد يقول: أنا الذي قتلته، لأن قتل عدو رسول الله شرف، فكل منهما يريد أن يسبق إلى هذا الشرف- حتى جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتكمان إليه فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فقال: أرني، ثم قال تطييباً لخاطرهما: كلاكما قتله) غلامان! حتى أن عبد الرحمن بن عوف قال: (وجدت نفسي بين غلامين تمنيت لو كنت بين أضلع منهما) كأنه يقول: كنت أتمنى أن يكون على يميني شخص ضليع وعلى يساري كذلك، لكن على يميني غلام صغير وعلى شمالي غلام صغير.
قال: (بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيته لا يفارق سوادي سواده -يعني: لا يفارق شخصي شخصه، حتى يموت الأعجل منا).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله) انتدب له محمد بن مسلمة وأبو نائلة - محمد بن مسلمة ابن أخته، وأبو نائلة أخوه من الرضاعة- فقالا: (يا رسول الله! هل تأذن أن نقول له شيئاً -يعني أن نخدعه بالكلام-؟ فأذن صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه محمد بن مسلمة فقال: جئتك أستلف منك وسقاً أو وسقين من شعير، فإن هذا الرجل قد عنانا، فقال كعب مبتسماً: وأيضاً والله لتملنه -يعني: أنتم لم تروا شيئاً بعد- فقالا: إننا لا نريد أن نتركه حتى نرى عاقبة أمره، وجئنا نستسلف منك.
قال: ارهنوني نساءكم فقالا له: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!) (فقال: ارهنوني أبناءكم.
فقالوا: هذا عار علينا، يسب الولد يوماً فيقال: رهن بوسق من شعير! ولم يتركوا له خياراً يعرضه، بل هم من عرضوا عليه قالوا: ولكن نعطيك اللأمة).
اللأمة: هي درع الحديد الذي يلبسه المقاتل ليقي نفسه ضربات السيف، وهذا عرض ذكي، لأنهم أجمعوا قتله، لكن عندما يأتون بالأسلحة والرجل لم يتفق معهم على الأسلحة، سيشعر أنهم يريدون أن يغدروا به.
(قالوا: بل نأتيك باللأمة، فاتفقوا، حتى كان اليوم المعلوم بينهم، فجاءا في نصف الليل فناداه أبو نائلة فقال: يا كعب! انزل، وكان كعب حديث عهد بعرس، فقالت له امرأته: إلى أين في هذه الساعة؟ قال: إنما هو رضيعي أبو نائلة، وابن أختي محمد بن مسلمة.
فقالت المرأة له: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم.
قال: إنما هو أخي أبو نائلة، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب -عار عليّ أن يناديني أحد ولا أنزل، ولو أن اثنين تعاركا وقال أحدهما: أغيثوني، وأنا لا أعرفهما لكان ينبغي علي أن أنزل لنجدته نخوة العرب! - فنزل وهو ينفح عطراً، فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم عطراً، أتأذن لي أن أشم رأسك، فشم رأسه(26/4)
هديه عليه الصلاة والسلام في الأكل
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
مثلاً: في مأكله عليه الصلاة والسلام، فإنه ما عاب طعاماً قط، يا لحلمه وصفحه! ولا يخلو طعام من عيب، فما عاب طعاماً قرب له قط، إن اشتهاه أكله، وإن عافته نفسه تركه، وهذا من فقهه عليه الصلاة والسلام، فإن الناس تتفاوت أذواقهم، رب طعام تعافه نفسك يكون مشتهى عند رجل آخر، فلماذا تعكر على هذا الآخر؟ ربما يخطئ في هذا بعض الآباء، فعندما يقدم له الطعام يبدأ في إعابته فيقول: الأرز فيه كذا، والطبيخ بائت أهذا أكل؟ أهذا شرب؟ لا، أنا لا آكل طبيخاً بائتاً.
مع أن أولاده كانوا سيأكلونه، وليس لهم هذه الملاحظة التي له، فهلا كتمها؟ لماذا يعكر على هذا الذي كان سيقبل على الطعام بشهية، لماذا يعكر عليه شهيته ويعكر عليه مراده؟ وهذا من فقهه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرء لا يجري على وتيرة واحدة في حياته، يعني قد يغتني في بعض دهره ويفتقر في البعض الآخر، ولا يكون سواء، يومه ليس كغده، وأمسه ليس كغده، والأيام دول، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يعيب طعاماً قط.
فأنت حين تدخل البيت ولم يعجبك الطعام اطلب طعاماً آخر، لكن لا تعب هذا الطعام، ولو أن بعض أولادك جهر بعيب الطعام أظهر له مزاياه، حتى وإن كنت لا ترى ميزة، حتى تعين ولدك على بطنه.
كثير من الناس تركوا الالتزام وأكلوا الحرام بسبب البطن، وبعض الناس يخرج من وردية ويدخل وردية، عندما تسأله يقول لك: آكل عيشاً، وكثير من الناس أنفق عمره على تحصيل شهواته، فأعن ابنك على بطنه، وعلمه ألا يعيب شيئاً، فربما كان حظه أقل من حظك في الدنيا، فإذا عاش في هذا المستوى ربما ارتشى، وربما أكل الحرام حتى لا يهبط عن المستوى الذي عاش فيه مع أبيه.
فإذاً: ترك النبي صلى الله عليه وسلم العيب في الطعام له أكثر من فائدة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للطعام جلس جلسة العبد، ما ترك العبودية في موضع ولا مكان حتى وهو يأكل، فكان يقول وهو جالس القرفصاء يأكل: (أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد) ويصرح بهذا ويجهر به، لكن جلسة البطر والكبر ما فعلها قط صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي له عليه الصلاة والسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي الرجل إذا جاءه خادمه بطعام أن يجلسه ليأكل معه، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك قائلاً: (إنه كفاك حره وناره) يعني هو الذي وقف يطبخ لك، وهو الذي أصابه لفح النار، وهو الذي تصبب عرقاً، وأنت جالس دائماً، وجالس في التكييف، فأشركه معك في الأكل اذكر جميله حيث تلقى هو لفح النار، أنت تفعل هذا مع امرأتك التي كفتك حر النار، وكفتك هذا التعب، وجئت فوجدت الطعام معداً مهيئاً فتشكرها عليه، وتثني عليها، لاسيما إذا رأيت أو آنست منها إخلاصاً في العمل وفي بذل الجهد، فكما أنها كفتك هذا الحر وهذه النار، فأنت بدورك تسدي لها الشكر، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفاناً لهذا الخادم أنه يجلس فيأكل، وقد علل ذلك بما سمعتم.(26/5)
حلمه عليه الصلاة والسلام وسعة صدره
نوصي المسلمين بقراءة الكتب التي صنفت في شمائله صلى الله عليه وسلم؛ ككتاب: أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وكتاب: الشمائل للإمام الترمذي صاحب السنن، فإنهم ذكروا طرفاً من حياته صلى الله عليه وسلم، فيذكرون مثلاً من حلمه وسعة صدره عليه الصلاة والسلام، ما أخرجه مسلم في صحيحه: (أن امرأة في المدينة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة.
فقال لها: نعم، وانتحى بها ووقف معها حتى قضت حاجتها)، وفي الحديث الآخر (أن امرأة -كهذه أو هي- كانت تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتطوف به المدينة فلا يمتنع عليها)، وكان إذا صافح رجلاً لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، وكان إذا أعطى أذنه رجلاً لا ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، يعني: إذا أعطاه أذنه يسمع له فإنه صلى الله عليه وسلم لا يبتعد حتى ينهي الرجل مقالته.
وهناك شيء شبيه بهذا، وهو الهاتف، مثلاً: رجل طلب آخر، وبعد أن انتهت المكالمة قال الرجل المطلوب للذي اتصل به: السلام عليكم، وهذا ليس على الهدي، إنما ينبغي أن يسلم الذي طلب، لماذا؟ لأنه قد يكون له حاجة، فاتركه حتى يبلغ حاجته، وإذا أردت أنت أن تنهي المكالمة فاسأله: هل لك حاجة أم لا؟ لاسيما أن الطالب هو الذي يدفع أجرة الاتصال؛ فلماذا أنت مستعجل؟ لا تنه المكالمة حتى ينهيها هو، فإن هذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا صافح رجلاً لا ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع، أو حتى يكون هو الذي يتنحى.
وفي كرمه صلى الله عليه وسلم كانوا يروون حديث جابر -وهو في الصحيحين- (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سُئل شيئاً قط فقال: لا) أبداً.
وأنت تنظر أيضاً إلى سعة صدره وحلمه عليه الصلاة والسلام في حديث أنس المتفق عليه، قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيءٍ فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي قط لشيء تركته: لم تركته؟) عشر سنين من حياته عليه الصلاة والسلام، لا يعاتبه، لأن كثرة العتاب تفسد الود، فلا تكثر من معاتبة صاحبك؛ فتقل حشمتك وتهون عليه، ولا تكاد تجد صاحباً يصافيك مائة بالمائة أبداً.
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه انظر إلى هذا الكلام كأنه مشتق من مشكاة النبوة! إذا كنت تريد ماء سلسبيلاً ليس فيه تراب ولا غبار ولا رمل إذاً مت من العطش، بل لابد أن تشرب الماء بالقذى؛ لأن الماء الذي ليس فيه شيء من ذلك لا تشربه إلا في الجنة، والذي هو السلسبيل، كذلك صاحبك إذا أردت صاحباً يوافقك مائة بالمائة إذاً عِش بلا صاحب، وإذا أردت زوجة لا تخالفك في قليل ولا كثير؛ إذاً الق الله عزباً ولا تتزوج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة) يعني: مستحيل، لو أن الرجل له مائة طريقة فالمرأة لها ألفان وهكذا، فيكون بينك وبينها بون شاسع في التقلب، وفي تعدد الطرق والمذاهب.
إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة، يعني: لا بد أن تغضب منها يوماً حتى وإن كانت أوفى الناس، وإن كانت أفضل الناس.
إذاً ليس هناك إنسان يصافيك مائة بالمائة إلا أن يكون كمثل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي صافاه مائة بالمائة، وهو الذي وافقه مائة بالمائة، وهو الذي كان يحبه مائة بالمائة، ولا أعلم قط لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقفاً واحداً خالف فيه النبي صلى الله عليه وسلم أو اعترض عليه، بخلاف من جاء بعد أبي بكر بدءاً من عمر رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه كان يبدي رأيه بصراحة، أما أبو بكر فما كان كذلك؛ لشدة تعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
إن عمر جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية معترضاً فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى.
قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: ألم تخبرنا أنا نأتي البيت؟ قال: فهل قلت لك إنك تطوف به العام؟ قال: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به)، ولم يرفع هذا الكلام الحرج من صدر عمر، فانطلق إلى أبي بكر رضي الله عنه يعدد له نفس هذه الاعتراضات، (قال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى.
أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى.
قال: ألم يخبرنا أنا نأتي البيت؟ قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به) فشابه قول أبي بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف؟ وقال له: (يا أيها الرجل! الزم غرزه، فإنه رسول الله وليس يخالفه).
وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمر قبل أبي بكر: (إني رسول الله ولست أعصيه) هذا هو الصاحب الذي وافق صاحبه مائة بالمائة، ولا أعلم أحداً وافق الرسول صلى الله عليه وسلم مائة بالمائة حتى في المستحبات وفي رأيه، إلا أبا بكر الصديق.
إن أبا بكر وافق النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده في أسرى بدر، ولم يعترض ولم يعارضه بخلاف عمر، وإن كان نزل القرآن موافقاً لرأي عمر، لكن أبا بكر وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لما وقعت حادثة الإفك وجاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبويها، وظلت شهراً تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد شهر كامل لا يتكلم، ولا يبرئ عائشة فجلس، فحمد الله وأثنى عليه، قالت عائشة: وكانت أول مرة يجلس فيها منذ كان ما كان، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه)، فشعرت عائشة أن في هذا الكلام اتهاماً لها، فقالت لأبيها: (أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: والله يا ابنتي ما أدري ما أقول.
فقالت لأمها: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: والله يا بنتي ما أدري ما أقول.
قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن، لا أحفظ كثيراً من القرآن: إنني لو قلت: إنني فعلت والله يعلم أنني ما فعلت لتصدقنني، ولو قلت: إنني لم أفعل، والله يعلم أني لم أفعل لا تصدقوني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] قالت: ثم تحولت، فوالله ما خرج أحد من البيت حتى أنزل الله براءتي).
فها هو أبو بكر رضي الله عنه لما وجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ولم يتكلم، ولم يفصل مع حاجته إلى الفصل في هذا، ومع حاجته أن يبرئ امرأته مما رماها به الواشون، وقف حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصاحبك مقارف ذنباً ومجانبه؛ فأقل من العتاب، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أقل الناس معاتبة، ولو عاتب لشعرت بقطرات الحنو والدفء في كلامه! روى البخاري في كتاب المرضى، وكذلك مسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه على حمار، وذهبنا نعود سعد بن عبادة -وذلك قبل وقعة بدر- فلما مررنا على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم، فقال عبد الله بن أبي -إشارة إلى التراب الذي أثارته رجل البغلة- قال: لقد غبر علينا، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الرجل! إن الذي تقول لحسن إن كان صدقاً، فلا تأت مجالسنا، فمن أراد أن يسمع كلامك فليذهب إليك، لكن لا تأتنا فإنا لا نحب ذلك.
فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! والله إننا لنحب أن تأتي مجالسنا، وقال آخر لـ عبد الله بن أبي ابن سلول: والله لرائحة بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب منك، وثاروا جميعاً حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكب البغلة يسكنهم حتى سكنوا، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة فدخل عليه وهو مريض، فقال لـ سعد: يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو الحباب؟! - أبو الحباب هو: عبد الله بن أبي ابن سلول، فانظر إليه كيف كناه، والكنية إنما تكون للتشريف، مع أن عبد الله بن أبي ابن سلول سبه منذ قليل- فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله! اعف عنه واصفح، فإن كان يطمع أن يكون رأساً على أهل هذه البحيرة، فلما آتاك الله ما آتاك من النبوة شرق لذلك -وفي رواية: فأنزل الله عز وجل قوله {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]).
فانظر إليه صلى الله عليه وسلم ما أحلمه! لذلك خطف قلوب الناس، وأذعن له الكبير والصغير، والموافق والمخالف، إذ لم يأخذوا عليه شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، حتى إن هذا الذي شرق بما آتاه الله رسوله، يقول: إن الذي تقول لحسن لو كان صدقاً.
فأذعن لحسن كلامه عليه الصلاة والسلام، فيا ليتنا ونحن نبلغ دعوة الله عز وجل إلى الناس أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم فنتأسى به.
إن الله عز وجل قال له مع شرف منصبه، وأن لا شرف في الدنيا أعلى من منصبه عليه الصلاة والسلام، قال له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، مع حاجتهم إليك وإلى الإيمان بك، وأن المرء منهم لو كفر بك لا يلج الجنة أبداً، فإنك لو كنت فظاً غليظ القلب(26/6)
حكم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة: أدب منامه، ومأكله ومشربه، وأدب تعامله مع جيرانه ومع أزواجه وأعدائه، لم يترك العلماء باباً من هذه الأبواب إلا ووضعوا فيه حديثاً أو حديثين، أو واقعة أو أكثر تدلل على خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو أردت أن تتأسى بأي صفة تخطر لك على بال وجدت رسول الله إماماً فيها، فأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصل الائتمام به واجب، لقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، فالأصل في طاعة أي رسول أنها واجبة على قومه، ولا تصرف الأدلة الجزئية أو الوقائع التفصيلية من الوجوب إلى الاستحباب إلا بدليل، وإلا فأصل التأسي واجب.
والعلماء لما ذكروا التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام اختلفوا: هل التأسي به واجب على الإطلاق، أم مستحب على الإطلاق؟ والصواب أن المسألة فيها تفصيل: بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها فعلاً جبلياً، كطريقة مشيه عليه الصلاة والسلام، فكان إذا مشى كأنما تحدر من صبب، يمشي بقوة وفتوة عليه الصلاة والسلام، وكان يمشي محلول الأزرار، وكان يمشي وفي يده عصا كل هذه تدل على المشروعية أو على الجواز أو على الاستحباب؛ لأن مثلها ارتفع إلى درجة الاستحباب والمشروعية بدليل من خارج، ولذلك العلماء يفرقون بين الأفعال الجبلية والأفعال التي قصد بها المشروعية.
فالشعر مثلاً أوصى به النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يعامل الشعر معاملة حمل العصا ولا فك الأزرار، لا، الشعر أعلى، يعني استحبابه أوضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع تركه لشعره حتى كان يضرب إلى منكبيه، كان يقول: (من كان له شعر فليكرمه) هذا حض منه على إكرام الشعر، ولم يكتف بمجرد الإطلاق لشعره فقط، حتى حض على إكرامه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أخذت فخذ منه كله أو دعه كله).
ولكن العلماء يقولون: حتى الأفعال الجبلية التي كان يفعلها صلى الله عليه وسلم بغير قصد أن يُتأسى به يأخذ المسلم عليها أجراً إن قصد الموافقة؛ لأن الموافقة هي دليل الحب، فمثلاً شخص يمشي حاملاً في يديه عصى، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحمل العصا، لكن بشرط ألا تكون عصا المارشال، التي كان يأخذها شخص ويذهب عند الهرم، وأراد أن يكون الهرم الرابع، العصا هذه تدخل النار، لأن الذي يحملها كله كبر، لكن أن تحمل العصا بقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكتب لك بها الأجر.
فالأفعال الجبلية كلها إذا قصدت بها مطلق التأسي انتقلت من المباح إلى المستحب مباشرة، ولا يفعل هذا إلا محب، لا يبلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ إلا وينبغي أن تبادر إلى إثباته ولو مرة في حياتك، وهذا هو عنوان الحب.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل رسول الله لنا إماماً، اللهم اجعل رسول الله لنا إماماً، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(26/7)
الطريق إلى الجنة
الطرق الموصلة إلى الجنة كثيرة ومتنوعة؛ وهذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، فقد يسر الله لعباده هذه الطرق وعددها لهم لأن النفوس تختلف، والأبدان تتفاوت في القوة والضعف، فكل يطرق الباب الذي يستطيع طرقه، ويعلم أن هذه الطريق صحيحة وموصلة إلى الجنة بإذن الله سبحانه وتعالى، وإن الطريق الجامعة لكل شعب الإيمان هي أن يشهد العبد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه، وهذه الشهادة لابد للعبد من الإتيان بها حتى ينجو من عذاب الله، ويصل إلى جنته.(27/1)
فوائد من حديث: (من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا أبو بكر وعمر، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقتُطع دوننا، وخشينا أن يصيبه أذى، ففزعنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبحث عنه حتى أتيت على حائط للأنصار فوجدت في أسفل الحائط ربيعاً -أي: جدولاً- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب ودخلت، فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسند ظهره للحائط، قال: أبو هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله! اقتُطعت دوننا، وخشينا أن يصيبك أذى، قال: اذهب بنعليَّ هاتين فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، قال: فلقيت عمر قال: ما هذا يا أبا هريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال لي: من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، قال أبو هريرة: فضربني عمر بين ثديي فوقعت لاستي -أي: وقع على استه- قال: فأجهشت بكاءً، ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وركبني عمر -أي: انطلق على أثره بلا مهلة- فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مالك يا أبا هريرة؟ قلت: هذا عمر قلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: من لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة؛ فضربني فوقعت لاستي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم يا عمر؟ قال: يا رسول الله! خلِّ الناس يعملوا، قال: خلّهم يا عمر).(27/2)
جواز نزول رأي الفاضل إلى رأي المفضول
قال أبو هريرة: (وركبني عمر -يعني: انطلق وراءه بلا مهلة- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام قال: مالك يا أبا هريرة؟ قلت هذا عمر قلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة؛ فضربني فوقعت لاستي -وكان عمر قد دخل- قال: لم يا عمر؟ قال: يا رسول الله! خل الناس يعملون)؛ لأنهم إن سمعوا هذه الكلمة تكاسلوا في العبادة، وظن بعضهم أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وأغنته عن كثير العمل، فخل الناس يعملون واكتم عنهم هذه البشارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلهم يا عمر).
وهنا فائدتان: الفائدة الأولى: جواز نزول رأي الفاضل على رأي المفضول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى رأي عمر، وقد نزل النبي عليه الصلاة والسلام إلى رأي عمر كثيراً، إن عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين قال على المنبر يوماً: (وقد كنت أجرؤكم على النبي صلى الله عليه وسلم)، وتعجب عمر من جرأته، وكيف كان يتجرأ؛ حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ابن سلول صلاة الجنازة وقف عمر أمام الجنازة وأراد أن يمنع النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه، حتى قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (خلِّ عني يا عمر) فكان رضي الله عنه جريئاً عليه صلى الله عليه وسلم.
فكان عمر يتعجب من هذه الجرأة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في غزوة تبوك أنه قلت أزواد القوم، فهموا أن ينحروا بعض الإبل، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بنحر بعض الإبل يأكلونها ويشربون الماء الذي في أجوافها ويدهنون بها، فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إننا إن ذبحنا الإبل قل الظهر، ولكن اجمع ما في أزواد القوم ثم سم الله عليها)، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي عمر فجاء صاحب البر ببره، وصاحب التمر بتمره، وجاء هذا بكف من ذرة وهذا بكف من شعير، وهذا بكسرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى عليه، فحملوا كثيراً في أزوادهم وفضلت فضلة.(27/3)
جواز كتم العلم عمن يظن ضرره إذا بلغه
الفائدة الثانية: جواز كتم العلم عن من يظن ضرره إذا بلغه هذا العلم؛ لأنه قال: (خلِّ الناس يعملون) لئلا يغتر رجل بظاهر هذا الحديث فيترك العمل اتكالاً على القول، فيجوز أن تكتم مثل هذه البشارات عمن تظن أنه إذا علم بها اغتر وقل عمله وجده، فـ معاذ بن جبل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! قال: لبيك رسول الله وسعديك! قال له: يا معاذ! -وهو رديفه على الحمار يعني: يركب خلفه- يا معاذ! قال: لبيك رسول الله وسعديك، ثلاثاً -كل هذا ليستجلب انتباه معاذ - قال: لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه الله على النار، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً)، لما جاءت المنية معاذاً أخبر بهذا الحديث خشية أن يقع في إثم كتمان العلم، وإلا فـ معاذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا أبشر الناس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً يتكلوا) أي: يتكلوا على مجرد القول فيتركون العمل.
فهذه من الفوائد المنثورة في حديث أبي هريرة ونسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما قلناه وما سمعناه بقبول حسن، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(27/4)
جواز الدخول إلى بيت الغير أو ملكه للضرورة
قال أبو هريرة: (فكنت أول من فزع فرأيت حائطاً لبني النجار) والحائط هو البستان الذي عليه سور- فبحث أبو هريرة عن مدخل لهذا لحائط، فلم يجد غير ربيع في أصل الجدار، والربيع هو الجدول، كأنها كانت قناة ماء تمر بأسفل الجدار على هيئة القبو، لذلك قال أبو هريرة: (فاحتفزت كما يحتفز الثعلب)، أي: أنه ضم أطرافه بعضها ببعض حتى يتمكن من الدخول من هذا الجدول، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلم أن يدخل بيت غيره أو ملك غيره بغير إذنه لضرورة؛ لأن الأصل أنه لا يجوز لك أن تدخل بيت غيرك أو ملك غيرك إلا بإذن، وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً ينظر من نافذة حجرته وكان بيده آلة حادة، فقال له: (لو رأيتك وأنت تنظر لطعنت بها في عينك ولا دية لك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فإذا دخل البصر فلا أذن) لم جعل الاستئذان؟ حتى لا يقع بصرك على عورات الناس، فإذا دخل البصر فما قيمة الإذن، ما قيمة أن تنظر وتتسمع كلام الناس ثم تدق الباب؟! إنما جعل الاستئذان من أجل ألا يسبق بصرك إلى عورات الناس، ولذلك قال: (لو رأيتك لطعنت بها في عينك ولا دية لك) أي: لو رأيت رجلاً ينظر في بيتك بغير إذنك فطعنته في عينه فذهبت فلا دية له، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، هذا هو الأصل، لكن هب أنك سمعت صراخاً في بيت الجار واستغاثة، أو رأيت حريقاً أو أي شيء ضار، فالاستئذان لا يسع في هذا، ولكن ادخل، وهذا خروج عن الأصل للضرورة ودليله هذا الحديث، أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على أبي هريرة، فلم يقل له: كيف تدخل ملك الناس بغير إذن، هل استأذنت؟! فلما لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك دل على جوازه، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن الخطأ: (قال: أبو هريرة؟ -على سبيل الاستفهام وتقديره: أنت أبو هريرة - قال: نعم يا رسول الله! قال: ما جاء بك؟ قال: اقتُطعت دوننا وخشينا أن تصاب بأذى، وهؤلاء أصحابي على أثري -أي: يبحثون عنك معي- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(27/5)
جواز إعطاء الأمارة للغير
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) وفي هذا دليل على جواز إعطاء الأمارة، فلو قلت لفلان: اذهب إلى فلان فقل له بأمارة كذا وكذا أعطني كذا جاز، ونعل النبي صلى الله عليه وسلم كانت معروفة للصحابة جميعاً؛ لذلك أراد أن يهدئ من روع هؤلاء، فقال: (خذ نعلي هاتين -كدليل على أنك قابلتني (أمارة) - فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).(27/6)
لزوم التكنية عن الأسماء القبيحة
فأخذ أبو هريرة النعل وانطلق فكان أول من قابل عمر قال: ما هذا يا أبا هريرة؟ قال: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي: (من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فضربه عمر قال: فضربني بين ثديي فوقعت لاستي) والاست اسم من أسماء الدبر، وفي هذا دليل على التكنية عن الأسماء القبيحة، وأن التصريح بها لا ينبغي، وقد أدبنا الله تبارك وتعالى هذا الأدب، قال تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] والرفث: الجماع، لكنه عبر بالكناية أو بكلمة تومي إلى هذا المعنى بغير تصريح، وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] وإفضاء الرجل إلى المرأة كناية أيضاً عن الجماع، لكن يُلجأ إلى هذا التصريح لمصلحة راجحة كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2] لأنه لا يجمل أن تعبر بالكناية في موضع الحد بل لا بد من التصريح.(27/7)
جواز التغليظ في نصيحة من لا يجد عليك في قلبه
قال: (فضربني فوقعت لاستي، فأجهشت بكاءً) وأخذ بعض العلماء جواز التغليظ في النصيحة لمن يظن به ألا يتغير، أي: يجوز لك أن تغلظ في النصيحة لبعض من تظن أنهم لا يتغيرون عليك ولا يجدون عليك إذا أغلظت عليهم في النصيحة، فهذا عمر ضربه بمجامع يده، حتى قال أبو هريرة: (فأجهشت بكاءً)، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم دامع العينين.(27/8)
خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإعظامهم له
خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وإعظامهم له، وإشفاقهم أن يصاب بمكروه؛ لأن أبا هريرة قال: (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر) وذكر أبا بكر وعمر بالذات تنويهاً لشأنهما قال: (فقام عنا النبي صلى الله عليه وسلم فاقتُطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، وفزعنا فكنت أول من فزع) وإذا تأملت حياة هؤلاء الصحابة وجدتهم يعظمون النبي عليه الصلاة والسلام غاية الإعظام، ولا يقدمون عليه أحداً كائناً من كان، حتى إن أبا سفيان قال لبعض المسلمين -وقد أسره في غزوه أحد-: (أتحب أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ قال: والله ما أحب أني بين أهلي ومحمداً صلى الله عليه وسلم في مكانه يصاب بشوكة)، فضلاً عن أن يأتي إلى هنا.
فكانوا يعظمونه غاية التعظيم، حتى إن عمرو بن العاص لما أدركه الموت وحكى لابنه عبد الله مراحله في الإيمان والكفر قال من جملة ما قال وهو يحكي عن حال كفره: (ولم يك شيء أحب إليَّ من أن أكون استمكنت من النبي صلى الله عليه وسلم فقتلته، وإنني إن قتلته دخلت النار) فلما آمن قال: (ولو طلب مني أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فإنني ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له) أي: من الحياء وشدة الإجلال ما كان يطيق أن يطيل النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه.
فهذه كانت سمة عامة، وهذه السمة هي أهم ما يفتقده المسلمون الآن، فمشكلتهم الآن أنهم لا يجلون النبي عليه الصلاة والسلام الجلالة الواجبة، ولا يعظمونه الإعظام الواجب، إنما يردون أحاديثه، ولا يتأدبون في الخطاب معه.
والله إن بعض الناس قال اليوم مقالة لو قالها في زمان الصحابة لقتل ردة، لا أقول: يقتل حداً، بل ردة، وهو الذي يسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) وهذا حديث رواه مسلم قال أبو ذر: يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؛ لماذا الكلب الأسود بالذات؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان) من الواضح هنا أن النبي عليه الصلاة والسلام فرق ولم يسو بين الكلاب كلها، فيأتي هذا الراد غير المتأدب فيقول: (الكلاب كلها سواء لا فرق بين أصفر ولا أسود ولا أحمر)، والنبي عليه الصلاة والسلام يفرق، وقد سأله أبو ذر: ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟! فقال له إجابة واضحة في التفرقة: (الكلب الأسود شيطان)، ويأتيك هذا فيقول: بل الكلاب كلها سواء! أهذا من إعظام قول النبي عليه الصلاة والسلام؟ ويسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، وهذا حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم، والحبة السوداء هي حبة البركة، فيأتي ويقول: كيف يقال: إن الحبة السوداء شفاء من كل داء؟ هل الرجل الذي عنده الكلى يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي عنده برودة يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي يعاني من القولون يأخذ الحبة السوداء؟ ويعترض على الحديث.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (شفاء من كل داء) وهو يقول: ليست شفاء من كل داء!! وبلاؤنا فيه أنه له عمامة كبيرة، ورجل له قدم، هذه هي مصيبتنا، فما يأتيك من عدوك لا يضيرك، إنما ما يأتيك من أهل جلدتك ومن يتكلمون بلغتك هذه هي المصيبة.
ولو كان سهماً واحداً لتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث هذه هي المشكلة أنه لا يعظم قول النبي عليه الصلاة والسلام، ويزعم أن الأحاديث على غير ظاهرها، وأن الذين أخذوا بظاهرها جهلة، ولم يعلم أن الذين أخذوا بظاهرها هم الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين.
هذا هو الفرق بيننا وبينهم، فكان شدة الحب الذي كان في قلوبهم للنبي عليه الصلاة والسلام يدفعهم على اتباعه في كل شيء، حتى وصل الأمر بـ عبد الله بن عمر أنه كان يمشي مع أصحابه من التابعين يوماً، فرأى قبواً فدخل فيه، فقال التابعون لـ نافع وكان مولى لـ ابن عمر: أهو داخل يستريح؟ قال لا: وإنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتبول في هذا المكان فهو يحب أن يتبول فيه.
ولما قال عبد الله بن عمر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال ولده: (والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً)، فرماه عبد الله بن عمر بحصيات كن معه ومنعه من الدخول عليه، فمات ابن عمر ولم يدخل ولده عليه؛ لأنه عارض الحديث برأيه، وإن كان ولده وحاشاه أن يعارض الحديث جحوداً وضرباً في نحر النص، لكنه تأول الحديث، فقال: إن كانت المرأة تدعي أو تريد أن تخرج إلى المسجد لتقضي أشياء أخرى تحت ستار الذهاب إليه لنمنعهن، فاستعظم عبد الله بن عمر أن يرد ولده كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فحصبه ومنعه من الدخول عليه فشفقتهم وحبهم للنبي عليه الصلاة والسلام كان أعظم ما يميزهم.(27/9)
الإيمان قول وعمل واعتقاد
هذا الحديث من حجج أهل الحق والسنة في الرد على الخوارج والمعتزلة والمرجئة، فالمرجئة هم الذين يقولون: إن الإيمان قول فقط، فلو قال رجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يعمل شيئاً من مقتضيات الإيمان كان مؤمناً، ويحتجون بالأحاديث الكثيرة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) قالوا: فهذه الأحاديث إنما علقت دخول الجنة على قول من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فلم يذكر عملاً، فهؤلاء يدخلون الرجل الجنة بالقول فقط، وإن عمل جميع المعاصي!! وعلى النقيض من ذلك فإن الخوارج يخرجون الرجل من الجنة إلى النار إن فعل أية معصية.
وأهل السنة وسط دائماً، فيستحيل أن يكون الإيمان المنجي صاحبة قول دون عمل، وإذا كان الأمر كذلك فالزاني يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآكل الربا يقول ذلك، بل وقاتل النفس يقول ذلك، إذاً إن كان القول فقط هو الذي يدخل الجنة فلم يدخل بعض أهل التوحيد النار بالذنوب والمعاصي التي يرتكبونها؟! بل بلغ القول ببعض هؤلاء المرجئة وبكل أسف نشر هذا الكتاب حديثاً وهو كتاب جزء صغيراً سماه مؤلفه (دش الأفكار على المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) وتستغرب منه أنه جعل فرعون من المقطوع لهم بالجنة، والقرآن الكريم في آياته الكثيرة يذم فرعون، هل يمكن أن يكون هناك رجل ينتسب إلى العلم من المسلمين يقول: إن فرعون في الجنة؟! قال: نعم.
والقرآن دل على ذلك!! قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] يقول: ففرعون قال الكلمة: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] قالوا: فقد صرح بالكلمة والنبي صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة على من تلفظ بالكلمة وإن لم يعمل عملاً، وانظر إلى هذا الفهم المعكوس، مع أن الله تبارك وتعالى عقب على مقالة فرعون، قال له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] والآية واضحة جداً وصريحة، بل إن هذه الكلمة التي خرجت من فرعون فيها علو وكبر، فلم يقل: آمنت أنه لا إله إلا الله، وإنما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، أي: يأبى أيضاً أن يصرح بها حتى أثناء الغرق، فما قال: لا إله إلا الله، وإنما: {لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].
فالله عز وجل يقول له: {آلآنَ} [يونس:91] أي: الآن وقد أدركك الغرق تشهد أن لا إله إلا الله؟! إن توبة اليائس لا قيمة لها، ولذلك جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تخرج نفسه وهو يعاني سكرات الموت، إذا آمن وروحه تخرج فلا قيمة لهذا الإيمان، بل هذا إيمان اليائس، إنما إن كان الرجل يؤمل أن يرجع إلى الدنيا أو يؤمل أن يبرأ من مرضه ولم تظهر عليه علامات الموت التي لا يحس بها إلا المحتضر وحده، فإذا آمن ورجع وتاب تقبل توبته؛ لأنه يؤمل أن يرجع، أما اليائس الذي لا يؤمل في الرجوع فما قيمة توبته.
عندما فتشت في ترجمة هذا المؤلف وجدته صوفياً، فهذا ليس بغريب عليه، فقد وجد في هؤلاء الصوفية من قال مقولات أبشع من ذلك، كالقول بوحدة الوجود: وهي أن كل شيء تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وقائل هذا محيي الدين ابن عربي الذي كفره جماهير علماء المسلمين، وقد ساق الحافظ ابن حجر واقعة له في كتابه الفريد (إنباء الغمر بأنباء العمر) وهو كتاب سرد فيه حياة الأمة المسلمة في أيامه يوماً بيوم، حتى دون فيه غلاء الكتان والشعير والقمح، واحتجاج التجار وملاقاتهم مع الوالي، فسرد الشيء الكثير في هذا الكتاب، ويقول في هذا الكتاب: اختصمت أنا ورجل في شأن ابن عربي فقال لي: إنه ولي من أولياء الله، وقلت: إنه كافر! فقال الرجل: بل إنه ولي، قلت له: نتباهل، والمباهلة: أن يلعن الرجل نفسه إن كان من الكاذبين، قال الحافظ ابن حجر: فتباهلنا، فقلت: اللهم إن كان ابن عربي مؤمناً فالعني بلعنتك، وقال الرجل: اللهم إن كان ابن عربي كافراً فالعني بلعنتك، قال الحافظ ابن حجر: فما مرت عليه ثلاث ليال وكان قاعداً في ليلة مظلمة فمر شيء أملس من على قدمه فمات لوقته.
فهذا الرجل الذي يقول: إن فرعون من المقطوع لهم بالجنة أداه إلى هذا القول القبيح المخالف للقرآن الكريم أنه يزعم أن الإيمان قول فقط، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل البدع، يقولون: إن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، ولذلك فهذا القيد الذي ورد في حديث أبي هريرة: (من قابلته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)، ما قيمة هذا القيد: (مستيقناً بها قلبه)؟ يستحيل لرجل يستيقن أن الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له ثم يشرك به، ويستحيل على رجل يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله تبارك وتعالى هو المشرّع وله الحكم والأمر ثم يحتكم إلى غيره، ويستحيل على رجل مس الإيمان قلبه أن يعصي الله تبارك وتعالى مستمرئاً للمعصية، هذا كله مستحيل؛ لذلك هذا الحديث رد على هؤلاء، وعلى أولئك الذين يكفرون جماهير المسلمين بالمعاصي.
وفي هذا الحديث من الفوائد الشيء الكثير، فمنها أيضاً:(27/10)
تزوجوا الودود الولود
الأسرة هي اللبنة الأولى التي يتكون منها المجتمع، فإن صلحت صلح المجتمع، وإن فسدت فسد المجتمع، وقد وضع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أسساً وضوابط لرعاية هذه الأسرة التي تبدأ تكوينها بالزواج، فحث الرجل على اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين والخلق، ولا عليه أن يراعي بعد ذلك الجمال والحسب والمال فهو مباح وحث الإسلام ولي المرأة أن يتحرى في الخاطب: الدين والخلق.
وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، وحين تكون المرأة الصالحة ودوداً ولوداً فيكون قد اجتمع للزوج سعادة الدنيا، واستعان بها على نيل سعادة الآخرة.(28/1)
أسس اختيار الزوجة الصالحة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن أجل غراس هو غراس الإنسان، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]، فهذا هو أجل غراس يغرسه الإنسان في حياته، ومعلوم أن الزرع لا يستغني عنه الإنسان في حياته، والزرع لا يطيب إلا بثلاثة أشياء: بخصوبة الأرض، وعذوبة الماء، ومهارة الأيدي العاملة، فخصوبة الأرض بالنسبة للإنسان هو أن يختار الرجل أم ولده، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تخيروا لنطفكم)، لا تضع نطفتك إلا في أرض صالحة، فإذا ضممنا هذا مع الثنتين الأخريين؛ فهذا هو الطريق إلى جيل التمكين.
إن أجل غراس هو الإنسان، ولذلك قرن الله عز وجل بين مراحل خلق الإنسان وبين الزرع؛ لتعتبر بما شاهدته على ما لم تشاهده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5]، هذا هو غراس الإنسان {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
فهذا قران ما بين خلق الإنسان وما بين الزرع، فأنت أيها الرجل زرعت الزرع ولاحظت نموه، واشتريت الأرض الخصبة بأغلى الأثمان، ورغبت عن الأرض التي لا تخرج الزرع، هذا كله مشاهد، وأنت ترتكبه، فكيف عندما جاء أجل الغراس أهملت خصوبة الأرض؟! إن المقصود الأعظم من الزواج هو: الذرية، وكل شيءٍ يأتي بعد ذلك.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده)، فهذا هو المقصود الأعظم: بقاء النسل لاستمرار العبودية.
تقوم البيوت في الأصل على عبودية الله عز وجل، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] المرأة التي طُلّقت طلاقاً بائناً لا تحل لزوجها حتى تنكح رجلاً آخر، فإذا نكحت رجلاً آخر نكاحاً شرعياً كاملاً، ثم طلقها الرجل الآخر، وأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، قال تبارك وتعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] فهذا أولى من أن تقول المرأة: أرجع إلى زوجي الأول رعاية للأولاد لا، إذا كانت سترجع إلى زوجها الأول رعاية للأولاد ولا ترعى حدود الله فلا ترجع، فمراعاة حدود الله عز وجل أولى وأهم من رعاية حقوق الأولاد.
فأنت أيها الرجل: إذا رغبت في النساء فارغب بهذه النية، لأن النية تسبق الذرية، ولذلك وضع الله عز وجل أصولاً لطلب المرأة.(28/2)
أهمية اختيار زوجة ذات دين
النبي صلى الله عليه وسلم حث على اختيار ذات الدين، فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، ولا مانع أن تضم صفة أو صفتين أو أكثر إلى الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فذات دين جميلة أفضل من ذات دين فقط، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقط وهكذا.
ثم نحن نذكر صفتين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معقل بن يسار، الذي رواه النسائي وأبو داود، قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)، (الودود الولود) وانظر إلى هذا الجمع! إن هناك ارتباطاً قوياً جداً بين الود وبين ولادة المرأة، إن الرجل قد يحب المرأة لأجل أولادها، ويحب الأولاد لأجل أمهم، والعلاقة بين الرجل والمرأة إذا أنجب منها الولد أقوى وأمتن من العلاقة بين رجل وامرأة لا ينجب منها، ولذلك جمعهما معاً (الودود الولود) الودود: كثيرة الود، محبة لزوجها، لا تنغصه ولا تكدره.
وإنه ليطول عجبي أن تدفع المرأة زوجها دفعاً إلى العمل فترة وفترتين وثلاثاً، ويأتي الرجل في آخر اليوم يشتكي من مفاصله ظهره وصداعاً في رأسه، ومع ذلك لا ترضى المرأة! أي ود هذا، وأي وفاء؟! كيف تسعد المرأة بحياتها وهي ترى زوجها يعاني هذه المعاناة، ولا تعيش معه على ذات يده؟!!(28/3)
الأخلاق المثالية للزوجة
إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح نساء قريش -كما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- قال: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده) لذلك كن خير النساء.
تريد أن تعرف المرأة الودود؛ اعتبر بحال خديجة رضي الله عنها، سيدة النساء، فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة، وذكرت بدء الوحي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء، ولما جاءه الملك وقال له: اقرأ؟ قال: ما أنا بقارئ، وهزه هزاً عنيفاً، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره يرجف فؤاده، وقال: زملوني زملوني، وقال لـ خديجة: لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، وفي رواية وقعت في بعض روايات صحيح البخاري قالت: كلا، والله لا يحزُنك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق، فانظر إلى كمال عقلها ولطفها، وحسن مواساتها لزوجها! أما كمال عقلها: فلأن الإنسان إذا أصابه الروع والفزع احتاج أن يذكره أحد بمآثره وصفاته.
رجع النبي صلى الله عليه وسلم وفؤاده يرجف مما رأى، وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة -وأكدت ذلك بالقسم-: (كلا -والله- لا يخزيك الله أبداً) واستدلت على كريم شمائله وجميل نعوته أنه لا يُخزى: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: العالة يحمله حملاً- وتساعد الضعيف، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فكيف تُخزى.
أيها الرجال! أعينوا النساء على البر، إن الصدق هو أقصر طريق للإقناع، كن رجلاً في بيتك، لا تسقط من عين امرأتك بالكذب ولا بالخداع ولا بالمماراة، الصدق أقصر طريق للإقناع، إنك ترفع امرأتك رفعاً إذا كنت على هذا المستوى، إن صدق الرجل له أثر عظيم في استقامة المرأة، ما فسدت نساؤنا إلا بعد أن فسد رجالنا، ما نشزت امرأة في الغالب إلا كان الرجل سبباً في نشوزها؛ لم يقم عليها بحق القوامة.
نظرت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأته رجلاً أميناً صادقاً وفياً، كان كثير الثناء عليها بعدما ماتت، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما رواه البخاري وغيره-: (ما غرت على امرأة قط غيرتي على خديجة) يقول الإمام الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء: أن تغار من امرأة ميتة، ولا تغار من نسوة يشركنها فيه صلى الله عليه وسلم! لا تغار من أم سلمة، ولا تغار من أم حبيبة ولا من حفصة ولا من زينب، وهذا من لطف الله بنبيه؛ حتى لا يتكدر عيشه، لا تغار من نظيرتها وتغار من خديجة؛ لكثرة ما كان يذكرها ويثني عليها، (كان يذبح الذبيحة فيقطعها أعضاء، ثم يرسل إلى صدائق خديجة -أي: صديقاتها- فقلت له يوماً: كأنه ليس في الدنيا امرأة إلا خديجة.
فقال لي: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد) أي: جعل يثني عليها ويذكر شمائلها.
وذات مرة كما في صحيح البخاري استأذنت هالة بنت خويلد -أخت خديجة - وكان صوتها يشبه صوت خديجة، واستئذانها يشبه استئذان خديجة، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بزمان، فلما سمع صوتها ارتاع لذلك -أي: يعني فزع، وهذا هو فزع الشوق واللهفة- وفي الرواية الأخرى: (قال: اللهم هالة!) أي: اللهم اجعلها هالة، قالت عائشة: فغرت، فمجرد الصوت يذكره بها، وطريقة الاستئذان تذكره بها، فقلت له: وما تفعل بعجوز حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها، تستنكر وكأنها تقول: ما هذا الكلام؟! وما هذا الثناء؟! وما هذا الذكر المستمر؟! أتذكر امرأة عجوزاً، وقولها: (حمراء الشدقين): كناية عن سقوط أسنانها، حيث لم يبق في فيها إلا حمرة اللثة، فهي تقول: فما تفعل بامرأة سقطت أسنانها عجوز (هلكت في الدهر، أبدلك الله خيراً منها؟!) تقصد نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خارج البخاري، قال: (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وأعطتني إذ حرمني الناس، وواستني بمالها إذ منعني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء).
فانظر إلى هذا الوفاء! كثير الثناء والذكر لها، وهي تستحق ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة ومريم وفاطمة وامرأة فرعون) أربع نساء في ملايين النساء منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لها الشرف أنها تأخذ أجر كل مؤمنة بعدها إلى يوم القيامة، لها الشرف في ذلك؛ لأنها أول من آمنت مطلقاً قبل أبي بكر الصديق؛ لأنها أول من علمت ببعثته صلى الله عليه وسلم، وبأنه نُبئ فآمنت به، فلها أجر كل مؤمن يأتي إلى يوم القيامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهذه سنت سنة الإيمان، وقال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذه القاعدة: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، ابن آدم الأول الذي قتل أخاه يحمل كفلاً وتبعة كل رجل قتل ظلماً إلى قيام الساعة؛ لأنه أول من قتل واستن القاتلون به؛ فيحمل هذه التبعة.
كذلك الذي يسن الخير، وينشر الدين والعلم والسنة في بلد ليس فيها شيءٌ من ذلك، له أجر الدعاة إلى هذا الدين إلى يوم القيامة، كذلك خديجة: آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ كذبه الناس.
هي هذه الودود، صاحبة الدين المتين.(28/4)
المرأة الودود جوهرة الحياة
الودود: المحبة لزوجها، قال الله تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ثم ذكر، أمام هذه القوامة صنفي النساء: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] هذا هو الصنف الأول، أما الصنف الثاني فهن: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]، فانظر بعدما ذكر القوامة قال: ((فَالصَّالِحَاتُ)): أي اللواتي لا يهدرن قوامة الرجل، ويطعن أزواجهن، ووصفهن بذلك، وقرن وصفهن بالفاء العاطفة التي تفيد الترتيب مع سرعة المبادرة، ((فَالصَّالِحَاتُ)) أي: اللاتي يمتثلن مباشرة إذا أمر الزوج بالمعروف وفي قدر الاستطاعة.
((فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ)) أي: طائعات لربهن، والمرأة التي تعصي ربها، يسهل عليها أن تعصي زوجها، كيف تطيع زوجها وقد نشزت على ربها؟ لذلك ذكر أول صفة فيها تستقيم بقية الصفات فيها بعد ذلك: ((قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)).
تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فسئل: من خير النساء يا رسول الله؟ قال: (التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك).
قال تعالى: ((حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ)) أي: لغيبة أزواجهن، إذا غاب الزوج تحفظ ماله وتحفظ عرضه.
وقوله: (إذا نظرت إليها سرتك) وليس المقصود به جمال الوجه، إنما المقصود به جمال الروح؛ لأن هناك نساء طبعهن التنكيد، لا يرى الرجل منهن إلا تكشيرة الوجه، الدائمة التي تنبي عن عدم الرضا.
وقوله: (وإذا أقسمت عليها أبرتك) أي: لا تحنثك في يمينك أبداً، مهما كان الذي حلفت عليه شاقاً عليها هذه هي خير النساء التي يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود) كثيرة الود، دائمة البٍشْر.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عن المرأة التي ينبغي أن يبحث عنها من هي؟ قال: (وامرأة تعين زوجها على أمر الآخرة)، هذه هي المرأة التي ينبغي أن يبحث الرجل عنها.
وهناك من النساء من هي كالعدو اللدود، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] (عدواً لكم) المرأة التي ترهق زوجها وتتعبه، وتضطره أن يعمل وردية واثنتين وثلاثاً ليقضي حاجتها وحاجة الأولاد عدوة لزوجها، لأنها ضيعت عمر زوجها في طلب المال، ويمتحن الرجل أشد الامتحان، ويذل أعظم الذل، ويصيبه الكمد أنه بعد هذا المجهود الهائل لا تشكر المرأة سعيه وجهده، ولا ترى أن الرجل فعل لها شيئاً، وتجدها دائماً متذمرة شاكية، يموت الرجل من الكمد أمام هذا الصنف من النساء، ضيع عمره في طلب المال ثم هي لا تشكر.
ليس معنى العداوة أن تحمل المرأة سلاحاً وتحارب، العداوة: أن تصدك عن الذكر والعبادة، وعن طلب الآخرة هذه هي العداوة الحقيقية.
وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ} [التغابن:14] إذ قدّم الزوجة على الولد؛ لأن الزوجة التي يكون هذا شأنها ترضع أولادها هذه الخصلة الذميمة، فتكون دائمة التشكي، والولد كثير الحنين والتأثر بدموع أمه، الرجل يعمل في الخارج مثل الطاحونة، وهي تظل طوال النهار والليل تبكي وتشكو للولد من أبيه، وتقول له: أنا لم أر معه يوماً راحة، ما رأيت معه إلا الذل.
ولولاك لطلبت الطلاق، أنا أعيش معه لأجلك أنت فقط.
فالولد يرى أن الأم مضحية لأجله والرجل دوماً يذل الأم ويرعرع ويشب على ذلك، مثل هذه الأم لا تنجب ذرية صالحة، الذرية منها تكون في الكفران وجحود الجميل مثلها تماماً، إذ هي الأصل والولد الفرع، و (الحية لا تلد إلا حية).
إذاً: أول شيء يحرص عليه المرء في المرأة أن تكون ذات دين، وهذه الخصلة هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ورعايتها لزوجها ودوام إرضائه والتودد له هو من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود).
وخصلة أخرى تدخل تحت هذا النعت الجميل (الودود: كثيرة الود) ما رواه الإمام النسائي رحمه الله من حديث ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم: (خير نسائكم من أهل الجنة الودود الولود العئود -وهذه خصلة أخرى- التي إذا غضب منها زوجها أخذت بيده، وقالت له: لا أذوق غُمضاً حتى ترضى) ولك أن تقف متأملاً قوله عليه الصلاة والسلام: (لا أذوق غمضاً) والغمض: هو النوم، أي: لا أنام، ولا ألتذ بمنام إلا أن ترضى، هذه هي خير نسائنا من أهل الجنة جعلنا الله وإياكم وأزواجنا من أهلها ونفهم من كلمة (من أهل الجنة) أن المرأة إذا أحبها زوجها في الدنيا كانت زوجته في الآخرة.
(العئود): أي التي يعود نفعها على زوجها، فإذا كانت غنية أنفقت على زوجها وعلى عيالها.
ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (العئود) المرأة المدبرة، التي لا تتلف متاع زوجها وماله، لأنها إذا أتلفت متاعه استبدله الزوج بمتاع آخر وبمال جديد؛ مما يزيد من معاناته ويعقبه الفقر، فهي إذا وفرت له ذلك كأنما أعطته مالاً، و (العئود) فرع من (الودود) فهذه الصفة من أجمل الصفات (الودود)! فالمرأة الودود تتودد إلى زوجها؛ لأنها تبتغي رضا ربها برضاه، حتى إن الزوج قد يظلمها وقد يضربها وقد يهينها، فتذهب إليه وهو المخطئ فتأخذ بيده وترضيه، وتقول له: لا أكتحل بغُمض حتى ترضى، فهي تتودد إليه وهي المظلومة فهذا الود له طعم ومذاق وجمال! مع أن هذا الود ممن يحتاج إلى رزقك، فكيف لو كان هذا المتودد إليك لا يحتاج إليك في قليل ولا كثير، ويظهر الفرق في مثل الصورتين التاليتين: رجل فقير يتودد لغني، الغني لا يكاد يقدر هذا الود، لماذا؟ يقول: هو يحتاجني، كأن يريد مالاً أو مساعدة.
إما إذا جاء الغني وتودد إلى الفقير، فالفقير يسأل نفسه: هذا الرجل لِمَ يتودد إلي وهو لا يحتاجني؟! لا دافع لذلك إلا أنه إنسان نبيل، شريف، حسن الخلق هذا هو الفرق بين ود المستغني وود المحتاج.
ولله المثل الأعلى، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، لماذا يتودد إليك بنعمه ومغفرته زلاتك ومضاعفته لأجرك وحسناتك، وهو مستغن عنك، ولا يحتاج إليك، وأنت المحتاج إليه، ولفظ (ودود) على وزن (فعول) -صيغة مبالغة- أي: كثير الود؟! لأنه الرب الغفور الرحيم المتفضل، فهو يتودد إليك برغم معاصيك، وبرغم أنه لا يحتاج إليك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(28/5)
الخصال التي تراعى في الزوجة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فأول شرط في البحث عن خصوبة الأرض: أن تكون الأرض صالحة لوضع النطفة، والصلاح للأرض (المرأة) هنا إنما يقصد به صلاح الدين، فإذا صلح دين المرأة زكت كل خصالها، وأما الصفات الأخرى التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام لو بحثت عنها لم تكن آثماً: المال والجمال والحسب.
وهناك حديث ضعيف جداً أورده الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب الموضوعات -وبعض الناس يحتج بهذا الحديث- ويقول: (من تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا ذلاً، ومن تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقراً) إلخ، فهذا الحديث من جهة السند لا يصح، إذ سنده ساقط، ومن جهة المتن يعارض حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الصحيح: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها) وهذا الحديث في الصحيحين، فهنا مباينة ومعارضة صريحة بين هذا الحديث الصحيح وبين ذاك الحديث الذي ذكرنا أن سنده ساقط.
لكن الدين اجعله محور الارتكاز، ثم إن شئت أن تبحث عن المرأة اختر هذه الصفة الأخرى، وهي: أن تكون بكراً؛ لأن للبكارة تأثيراً عجيباً في استقرار الحياة، والمرأة عندما تتزوج تكون شديدة الوفاء لأول إنسان يدخل في حياتها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر ذات الدين: (تربت يداك) و (تربت يداك): معناها تعلقت يداك بالتراب، وهذا كناية عن البركة، فكل خير من التراب والطين.
عبدة الشيطان لا يعرفون هذه الحقيقة، إبليس -عليه من الله اللعنة المتلاحقة إلى يوم القيامة- قاس قياساً منكوساً معكوساً وهو يحاج الله تبارك وتعالى {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فالطين مصدر كل خير، والنار مصدر الدمار والخراب، فانظر إلى هذا الجاهل كيف قاس الشيء على نقيضه! إنما يقبل القياس إذا كان قياس النظير على النظير، لكن قياس الشيء على نقيضه لا يقبل أبداً إذ هو معكوس منكوس، والطين مصدر الخير والنماء والبركة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (فاظفر بذات الدين بورك لك) ولا مانع أن يراعي الرجل الثلاث الصفات الأخرى، لكن يجعل الدين محور الارتكاز، فذات دين جميلة أفضل، فإن الجمال يرد ما في نفس الرجل، وعند أن تكون ذات دين وحسب، فالحسب يدل على كرم المحفد، والحسب مطلوب، فعراقة الحسب لها أصل وتأثير في الفرع!(28/6)
(إياكم وخضراء الدمن)
هناك حديث موضوع كذب على النبي عليه الصلاة والسلام وهو: (إياكم وخضراء الدمن، قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) وهذا الحديث كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لو أجرينا هذا الكلام كحكمة وجدناه سديداً، (خضراء الدمن: المرأة الحسناء في المنبت السوء) كما لو كنت: تمشي على مستنقع، مغطياً أنفك من نتن هذا المستنقع، ومع ذلك يلفت نظرك زهرة جميلة اللون خرجت في هذا المستنقع، لا تراها في الأرض الخصبة الجيدة التي تسقى بالماء العذب، فهذه المرأة الحسناء في المنبت السوء؛ احذرها! وإن كان ظاهرها الالتزام؛ لأن طفولة هذه المرأة ضاعت، فيوم فتحت عينيها على الحياة وجدت أباها لا يصلي، ووجدت أمها لا تلتزم الحجاب، وربما وجدت أباها يشرب الخمر أو يعاقر النساء، وربما وجدت نتن الخيانة ينبعث من أمها، كل هذا انطبع في قلبها ورأته، وأشربت به في أهم فترات العمر وهي الطفولة، ثم تداركها الله بلطفه، فلما اختلطت بالفاضلات العفيفات بدأت تقلدهن، لكن على إثر، فعندما تتزوج فإنه يحصل في بيتها ما يحصل في البيوت عادة من الشجار والنزاع؛ فترجع المرأة إلى أصلها في الشجار، وقد تغضب وتترك بيت الزوجية إلى بيت أبيها، وأبوها لا يعين على البر والتقوى، وأمها كذلك، فتنشز عليه، وهم يزيدون من نشوزها، فلا تغتر -إذاً- بخضراء الدمن! وقد يعترض معترض فيقول: ما ذنب المرأة؟ ألا ننقذها مما هي فيه؟ فمثلاً: امرأة واحدة ملتزمة تراعي الله عز وجل وفي بيت غير ملتزم، وهي ملتزمة في وسط هذا المجتمع ألا ننقذها؟ فنجيب عليه: نحن ابتداءً لم نقل بتحريم الزواج من هذا النوع من النساء لأنك إذا تزوجتها وصلحت هذه المرأة فذلك أمر نادر، والنادر لا يقاس عليه، وكلامنا هنا أغلبي، فلا يعترض على هذه القاعدة الأغلبية بمثال أو اثنين أو ثلاثة أنه كانت امرأة منبتها سوء ثم أصبحت من خير خلق الله، هذا استثناء، والشاذ لا يقاس عليه، إنما نقيس على الأعم الأغلب، فكذلك الأعم الأغلب بالنسبة للأبكار الاستقرار، فالمرأة الوفية البكر إذا صادفت رجلاً نبيلاً تأثرت به غاية التأثر، يحفر سيرته في مجرى حياتها.
فراع الحسب، وراع أصالة المنبع وكرم المحفد؛ لأن هذا يعينك على الاستمرار في الحياة، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الحسب وأقر، ولكنه حث على ذات الدين: (تنكح المرأة لجمالها ولحسبها ولمالها) لا مانع أن يتزوج الرجل المرأة لمالها، وليس على الرجل غضاضة أن يستفيد من مال امرأته، لكن أحياناً الرجل لا يأخذ المال من امرأته لعلة عنده، لكن إذا انتفت العلل لا غضاضة عليه أن يستفيد من مال امرأته كما استفاد ابن مسعود من مال امرأته، ومن قبله سيده وسيدنا صلى الله عليه وسلم لما استفاد من مال خديجة.
وعليه: فأنت إذا كنت لا تخشى من امرأتك المن والأذى اقبل رفدها.(28/7)
التعرف على صفات الزوجة قبل الاختيار
حسناً إذا كان الود بهذه المثابة، وله كل هذا الثقل في استقرار الحياة الزوجية، فكيف لي أن أعرف أن المرأة ودود، ولا يكتشف الود وجميل الخصال إلا بالعشرة؟ أقول لك: كما تعرف أن المرأة ولود تعرف أنها ودود من أين علمت أنها ولود؟ بالنظر إلى أمها وأختها وعمتها وخالتها، فيندر أن تكون الأم ولوداً والأخت والعمة والخالة وهي تكون عقيمة، يندر، قد تقع هذه الحالات لكن نادراً، ومعروف أن الشاذ النادر لا يقاس عليه، إنما يقاس على الأعم الأغلب، فأنت إذا أردت أن تتزوج فانظر، إذا وجدت أمها وأختها وخالتها وعمتها كذلك فإنك تستنتج أنها ولود.
كذلك إذا رأيت أمها تحب أباها وتكرمه وترفعه؛ فاعلم أن ابنتها تكون مثلها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(28/8)
المقصود الأعظم من العشرة الزوجية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين: أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فإن زواج الرجل من المرأة المقصود منه: هو إقامة العبودية لله تبارك وتعالى، وقد ذكر ربنا عز وجل طلاق المرأة طلاقاً بائناً، فقال تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] إذا طلقت المرأة طلاقاً بائناً، ثم رزقها الله زوجاً آخر، قال عز وجل: ((فَإِنْ طَلَّقَهَا)) أي: الزوج الآخر، فأرادت أن تعود إلى زوجها الأول؛ فثمة شروط، قال تبارك وتعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230] أما أن يكون الأولاد فقط فليس لهم دخل في الموضوع، حتى لو قلت: أنا أرجع للمرأة الأولى لأجل أنني خلفت منها خمسة أو ستة أولاد، ولأجل أن يتربى الأولاد بيننا! أولاد يتربون بين رجل وامرأة لا يتقيان الله عز وجل ما قيمة هؤلاء الأولاد؟ لم يذكر الله تعالى في الآية من شرط إلا شيء واحد فقط وهو {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230] فإذا كان هذا في المرأة التي طلقت طلاقاً بائناً، فتزوجت ثم طلقت، ثم تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فمن باب أولى أن يقيما حدود الله قبل أن تطلق، هذا هو المقصود الأعظم من الزواج: (أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
إذاً: الحياة الزوجية قائمة على هذا الشعار: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]، فالرجل عندما يتقدم لابنتك أو لأختك أو لموليتك -من لك عليها ولاية- لا تقل له: أشترط أن تعمل المرأة؛ لأن عمل المرأة جناية من أعظم الجنايات في حق الأسرة والأولاد، إذ أي قضية لابد من النظر إلى حكم الله عز وجل فيها، لم أر أحداً حتى الآن -على مدار (20) سنة- امرأته تعمل ناقشته في هذا الحكم وأتى لي بحجة، إلا أن تكون ضرورة كأن يكون الرجل مرض وأقعد ولا أحد يعينه ولا يعاونه؛ فتعمل المرأة.
لكن ينبغي في هذه الظروف أن ننظر إلى عمل المرأة وطبيعة عملها.
لذلك كله كان النظر إلى الكفاءة في الديانة مسألة في غاية الأهمية، وليس معنى ذلك أنك لا تنظر إلا إلى الدين فقط، راعِ الدين أولاً، ثم لك أن تراعي أي صفة من الصفات الأخرى، واجعل الدين مناط الأمر، فالمرأة التي لا تطيع ربها لا ينتظر منها أن ترضي زوجها.
فإذا كان الدين هو الركن المشترك بين الرجل والمرأة؛ فإنه لا يجوز لولي المرأة إذا تقدم إليه رجل ليخطب ابنته أو أخته أن يتهاون في هذا الشرط، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الترمذي وغيره: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وقال الحسن رحمه الله: (من زوج ابنته إلى فاسق فقد قطع رحمها).
فالرجل الصالح ملاك خصاله في خصلتين.(28/9)
نصيحة لولي المرأة لاختيار الخاطب لابنته
يا ولي الأمر! أرعني سمعك وقلبك: إذا تقدم رجل لابنتك فراعِ شيئين، ولا عليك أن تهمل باقي الصفات؛ فإنها فرع على هاتين، قالت المرأة لأبيها {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، القوة والأمانة، وكل صفة تأتي بعد ذلك فهي فرع على هاتين.
القوي: أي الرجل الذي يقوم بما يجب عليه تجاه المرأة من النفقة عليها، ومن الدفاع عنها، ومن إعفافها، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة) (الباءة): هي قوة الرجل، ويلتحق بذلك قوة العقل والتفكير السوي، فإن المرأة إذا تزوجت الأحمق فكأنه لا زوج لها، وأحمق الرجال من يعرض امرأته للنار، لا يصونها، يأخذها لحفلات الاختلاط، ويسمح لها بالعمل في وسط الرجال، ويعرضها للنار، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، فالذي يعرض امرأته للنار أحمق، ليس أميناً.
لا يكون الزوج وفياً إلا إذا كان قوياً وأميناً، (قوياً) يقوم بكفايتها ولا يلجئها للعمل.
لماذا تعمل المرأة؟ وتشارك زوجها في الحياة؟ قلنا: إن الله تبارك وتعالى جعل القوامة للرجل على المرأة لشيئين: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] وهذا داخل فيه القوة {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فحق على المرأة أن تعيش مع زوجها في رخائه وفي شدته، مرتبه (100) جنيه تعيش معه على الكفاف، ولا تطالبه فوق ذلك أبداً، الإطعام بالمعروف والعشرة بالمعروف، فهذه قوته وطاقته فتعيش معه على ذلك صابرة راضية طيبة النفس، إن انفرد عنها بطعام وشراب وكساء ومتعة؛ لها أن تعترض.(28/10)
من الحقوق الزوجية
جاء الصحابي معاوية بن حيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) فإذا انفرد الرجل عنها بشيءٍ من ذلك فلها الحق أن تعترض، أما إذا قام بما يجب عليه في حدود طاقته فلا يحل لها أن تعترض، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم الباءة -هي النفقة والقيام بحق الزوجة- فليتزوج، ومن لم يستطع -أي: لا أحل له أن يتزوج- فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)، فالمرأة عرفت أنه قوي لما سقى لهما، وقوته التي فاقت كل الحاضرين، فكيف عرفت أنه أمين؟! ذكر المفسرون أنه كان يمشي أمامها وهي توجهه بالحصى.
ولكن هناك معنى أشمل من هذا، وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما سقى لهما تولى إلى الظل، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، أنا فقير، وأحتاج أن تنزل إلي أي شيء، فما سألهما أجراً، هذه أمانته، الذي يعمل العمل لله لا ينتظر عليه أجراً من الخلق، أما ما نراه من التفاني في طلب الأجر من بعض الناس فهو مضاد للإخلاص، فأنت -يا أخي الكريم- انظر في هذه المشكلة، والمرأة عليها أن تتقي الله عز وجل، وتعيش مع زوجها حسب استطاعته، لا تكلفه فوق طاقته، وإذا علم الله منها صدقاً وصبراً ورضاءً بمقدور الله أبدلها حالاً خيراً من حالها دنيا وأخرى.
أحدهم يقول: اشترط عليّ ولي المرأة أن تعمل، وأنا لا أريد، فما هو الحكم؟ أقول له: هذا شرط فاسد، لا قيمة له، ولا يجب عليك أن تنفذه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(28/11)
فضل الصدقة وأثرها في الدعوة
جاء في صحيح البخاري ومسلم قصة الرجل الذي سقت أرضه السحابة بأمر من الله عز وجل، وكان سبب هذه الكرامة أنه كان يعطي الفقراء والمساكين ثلث ما يخرج من هذه الأرض.
فبذل الصدقات للمساكين لها أثر كبير في كسب قلوب الناس، وبهذا فهي تعد وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، وجاء في فضل الصدقة الكثير من الأحاديث الدالة على ذلك.(29/1)
قصة صاحب الأرض التي أمرت السحابة أن تسقي أرضه
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (بينما رجل يسير في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان.
فتنحى ذلك السحاب في شرجة من شراج الحرة، فاستوعبت الماء كله، فذهب، فإذا رجل يساعد هذا الماء بمسحاة له حتى يأخذ طريقه إلى بستانه، فقال له: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان باسمك.
قال له: أما قد قلت ذلك فإني أنظر ما يخرج منها فأقسمه ثلاثة أثلاث، فآكل أنا وعيالي ثلثه، وأتصدق بثلثه، وأرد فيها ثلثه).
هذه القصة -كما وردت في بعض الروايات- حدثت في بني إسرائيل، والإسرائيليات يقسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم يحتج به، وتؤخذ منه الأحكام الشرعية، وهذا القسم هو الذي صح سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقصة أصحاب الغار، وقصة الغلام مع الملك، وقصة الرجل الذي تسلف ألف دينار إلى آخر هذه القصص، فكلها صحيحة في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيأخذ منها العلماء الأحكام الشرعية والآداب المرعية، وهذا القسم يحتج به كله.
القسم الثاني: ما صح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، وهذا النوع هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) وهذا النوع يستشهد به العلماء من باب الاعتضاد، لا يحتجون به منفرداً، وإنما إذا كان موافقاً للأصول العامة احتجوا به، كالقصة التي رواها ابن الأعرابي في معجمه: أن عيسى عليه السلام خرج مع رجلٍ، وكان معه ثلاثة أرغفة، فقال: رغيف لي، ورغيف لك.
ثم أن عيسى عليه السلام نام، فاستيقظ فلم يجد الرغيف الثالث - فقال لصاحبه: أين الرغيف الثالث؟ - قال: لا أدري.
- فدعا غزالاً فذبحه وشواه وأكلاه، ولم يبقيا منه إلا العظام، فدعاه عيسى عليه السلام فقام غزالاً بإذن الله، قال: سألتك بالذي أحيا هذا الغزال من الذي أكل الرغيف؟ - قال: لا أدري.
فانطلق، فوجدا ثلاثة أجبل -جبال كبيرة- فحولها إلى ذهب - وقال: هذا لي، وهذا لك، والثالث لمن أكل الرغيف.
- قال: أنا أكلته.
- قال: لا خير في صحبتك وتركه.
وعيسى عليه السلام يضرب المثل للحواريين بتفاهة الدنيا، فهذا الرجل أراد أن ينقل هذه الجبال الثلاثة إلى بلده فوجد اثنين، فأراد أن يستعين بهما على نقل هذا الذهب الكثير، قال الرجلان: ولم نقسم هذه الأجبل على ثلاثة أسلاف؟! نحن نقتل هذا الرجل ونأخذ هذا الذهب كله، وأضمرا في نفسيهما أن يقتلاه، فأرسلاه إلى السوق ليأتي بطعام، فبينما هو يمشي إلى السوق قال: ولم نقسمه إلى ثلاثة أجزاء؟! أنا أضع لهم سماً في الطعام وأنفرد بالذهب، فجاء بالأكل وفيه السم، فما إن تلقياه حتى انهالا عليه ضرباً فقتلاه، ثم جلسا يأكلان فأكلا الطعام المحشو بالسم، فماتوا جمعياً وتركوا جبال الذهب.
يضرب عيسى عليه السلام المثل للحواريين بحقارة الدنيا أننا جميعاً نتقاتل من أجلها ثم نتركها كلها للذي يرث الأرض ومن عليها تبارك وتعالى، وكل يخرج منها كما ولدته أمه.
قال الله عز وجل {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ضربت الدنيا لابن آدم مثلاً بطعامه، وإن قدحه وملحه فلينظر كيف يخرج).
وهناك عشرات النصوص تدل على حقارة الدنيا، فلا مانع أن تحتج بمثل هذا النوع من الإسرائيليات لتعضد المعنى الصحيح في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة.
وكذلك ما رواه أبو الشيخ وغيره (أن ملك الموت عليه السلام كان يجالس سليمان) هذا القدر ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ قوي (أن ملك الموت كان يجلس مع الأنبياء بصورة آدمية، وكان يجلس مع سليمان عليه السلام جليس له وصفي له، فدخل ملك الموت وما يعرفه الجليس، لكن لاحظ الجليس أن هذا الرجل الثالث يتفرس فيه وفي وجهه، لم يلبث كثيراً وانصرف، فقال الجليس لسليمان: من هذا الذي يتفرس في وجهي؟ قال: ذاك ملك الموت، فارتعب الرجل، وقال: لا أكون في أرض بها ملك الموت أين تريد؟ قال: مر الريح أن تأخذني إلى الهند.
وأخذته الريح فعلاً إلى الهند.
بعد قليل جاء ملك الموت ودخل على سليمان عليه السلام، قال له سليمان: لم كنت تتفرس في وجه جليسي؟ - قال: ذاك رجل أمرني الله أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته عندك تعجبت، لكني لما ذهبت إلى الموعد المعلوم والمكان المعلوم وجدته هناك).
هذه القصة يمكن أن تذكر -مثلاً- في مثل قوله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] فنحن نستخدم هذا القسم من الإسرائيليات لتدعيم المعنى الذي نريد أن ننقله للعوام.
القسم الثالث: وهو الذي لم يصح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، فهذا النوع لا عليك أن تذكره.
وهذا التقسيم مهم؛ لأنه قد انطبع في أذهان كثير من الناس أن معنى إسرائيليات أي: مكذوبات، وليس كذلك؛ للتقسيم الذي ذكرناه.(29/2)
استحباب إخفاء الورع
بقيت فائدة أخيرة، وهي فائدة طارئة، قوله: (أما قد قلت ذلك؛ فإني أنظر ما يخرج منها) فيفهم من هذا أنه يستحب أن تخفي ورعك؛ لأن هذا الرجل لولا أن ذاك سماه باسمه وهو لا يعرفه لما قال له ما الذي يصنعه، (ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي.
قال: إني سمعت صوتاً في السحابة الحديث، قال: أما قد قلت ذلك -أي: أما قد انكشف الأمر- فإني أنظر إليها وأفعل كذا وكذا) وهذا كان هدياً يتتبعه أسلافنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
كان محمد بن واسع -رحمه الله، وهو من أجل التابعين، صاحب القولة المعروفة: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحدٌ أن يجالسني.
يبكي طوال الليل، فإذا أصبح الصباح اكتحل حتى لا يظهر ذبول عينيه من البكاء، يخفي طاعته! وهذا الورع كان ملكة عند أولئك، ما كان تصنعاً، كما أنك تتمسك تلقائياً كانوا يتورعون أيضاً، كثير من الإخوة يقول: نحن نقرأ في كتب السلف وفي تراجمهم عن ورعهم الشديد، فأريد أن أصنع مثلهم فأعجز وأفشل، وأرجع بخفي حنين، فكيف السبيل إلى ذلك؟ فيقال: إن هؤلاء ما وصلوا إلى قمة الهرم إلا بعد أن اجتازوا مراحل: فعل الواجبات، ثم عرج على المستحبات، وانتهى عن المحرمات، وتجنب المكروهات.
إذا فعل هذا وصل إلى الورع، كيف يتورع من يترك الواجبات؟ كيف يتورع من هو مصرّ على فعل المحرمات ومكثر من فعل المكروهات؟ لا يصبر، إن أراد أن يتورع يعلم من نفسه أنه كاذب؛ لذلك لا يستمر.
يعزى لبعض العلماء -ويقولون أنه الإمام أبو حنيفة رحمه الله- سرقت شاة في زمانه، فأتى قصاباً أو رجلاً راعياً وقال: كم عمر الشاة -أقصى شيء تعيشه الشاة- قال له: خمس سنوات، فامتنع من أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات مخافة أن يشتري من نفس الشاة المسروقة.
يأتي بعض أولئك المقصرين فيقولون: هذا تنطع، نحن لم نؤمر بذلك! نقول: أنت في واد وهو في واد آخر، هو في قمة الهرم، وأنت أسفله، نحن نعلم أن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لو صحت هذه النسبة للإمام أبي حنيفة لا نستطيع أن نأخذ منها فتوى؛ لأن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لكن نحن الآن لسنا بصدد إصدار الأحكام الشرعية، نحن -كما قلنا- على قمة الهرم، فهذا الورع ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه ويصير ملكة لديه إلا إن قطع هذه الوديان والمفاوز حتى يصل إلى هناك.
في سير أعلام النبلاء: أن رجلاً سب وكيعاً - وكيع بن الجراح، الإمام العلم، شيخ الإمام أحمد - فماذا فعل وكيع؟ تركه، ودخل داره وعفّر وجهه بالتراب، ثم خرج إليه وقال: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه.
من يستطيع أن يفعل هذا؟ لا يرد عليه، لكن يرجع اللوم على نفسه: (زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه)! وكذلك في ترجمة الإمام العلم المصري عبد الله بن وهب رحمه الله أنه قال: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يؤدب نفسه، فانظر إلى هذا الورع، فقال: نذرت، حتى يجد الوفاء بالصوم، يعني نفسه لا تسول له أن يترك فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم -لأنه يغتاب- نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة) مشقة أنه في كل يوم يتصدق بعشرة دراهم أو عشرين درهماً.
ما يضره أن يتعب نفسه الآثمة؛ لأن هذا يحمل على مزيد من الورع.
ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جمع أصحابه وصعد المنبر، وسكت ملياً ثم قال: (أما إني كنت أرعى غنم بني فلان على لقيمات، وبكى ونزل.
قالوا: يا أمير المؤمنين! ما قلت شيئاً -يعني: الذي قلته نحن نعرفه، ما زدت شيئاً- ماذا أردت؟ قال: حدثتني نفسي أنني أمير المؤمنين، فأردت أن أذلها)! يذلها بأن يذكرها أدنى أحواله: أنه كان يرعى غنم بني فلان على لقيمات أو على دريهمات.
لما جاء الطيب -صدقات أو زكوات- إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه الخليفة الخامس الراشد- ودخل، وطبيعة الحال أنه إذا كان هناك مكان به طيب أن تنتشر رائحة الطيب في المكان، فماذا فعل عمر؟ أول ما دخل أمسك بأنفه، قيل: يا أمير المؤمنين! هذه مجرد رائحة أنت ما أخذت منه شيئاً! فقال لهم: وهل ينتفع إلا بريحه؟! الطيب لا ينتفع إلا بريحه، فكأنه لم ير لنفسه حقاً أن يشم هذا الريح برغم أنه منتشر في المكان.
أهل التقصير يرون أن هذا من التنطع، لكن هذا ملكة عند أولئك؛ لأنهم أهل الورع.
كانوا يخفون ورعهم ويظهرون آثامهم، قال ابن جريج رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له.
لو سألت أي طالب علم: لمن طلبت العلم؟ سيقول: لله، والله أعلم بحقيقة نيته.
الإمام الذهبي يقول كلاماً معناه: ولو سألت أي فقيه: لمن تعلمت العلم؟ لبادر وقال: لله، ويبرر نفسه الحمقاء.
وابن جريج رحمه الله يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له.
أي أنه عندما طلب العلم طلبه ليقال: محدث أو فقيه، لكن كان عنده إخلاص في الجملة، وعلم الله عز وجل إخلاصه ذلك، فلما حصّل الأدلة الشرعية انتفع بها، فعاد العلم لله، مع كونه لما بدأ كان يريد أن يشار إليه بالبنان، فيقال: هذا فقيه أو هذا محدث، لكن مع تحصيل العلم، وتصحيح النية؛ أصبح مخلصاً لله تبارك وتعالى.
فهذه الجزئية في هذا الحديث: (أما قد قلت ذلك) فيها إشارة إلى أن هذا الرجل لو لم يقل له هذا الأمر لما صرح له بهذه القسمة العادلة التي نال بها مطراً أو ماءً خاصاً من السماء، ينادى فيها باسمه.
وهذا أيضاً داخل في فائدة عظيمة جليلة، لكن الأمر يطول بها، وهي: كرامات الأولياء، ولعلنا نتعرض لمثل هذا المبحث في مرة أخرى إن شاء الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
نسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.(29/3)
زراعة الأرض واستثمارها
القسم الثالث: وهو زراعة الأرض واستثمارها.
قرأت مقالاً لبعض المستشرقين يحتج فيه بحديث في البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام (رأى محراثاً في بيت فقال: ما دخل هذا بيت قومٍ إلا أدخله الله الذل) فقال: إن هذا يدل على أن الإسلام لا يحث على زراعة الأرض واستثمارها، هذا مع كون النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، لا يقولن أحدكم: إن الساعة تقوم، اغرسها.
وإنما كان هذا التنبيه؛ لأن ابن آدم مجبول على ألا يفعل شيئاً إلا بفائدة من ورائه، إذا رأى شيئاً لا يعود عليه بفائدة تركه.
كان عندنا طبيب مشهور، لكنه ظل أكثر من ثلاثين عاماً يتمنى أن يرزق بولد أو بنت، وجاب الأرض شرقاً وغرباً، وأخفق في ذلك، وهو طبيب، وليس هناك أحد سيرث هذه الأموال، فكان قد اشترى عمارات وعقارات وبنى أكثر من عيادة، ولكن لما أيس من أن ينجب ولداً فجأة وجدوه يبيع كل ما يملك، وباع كل العيادات واقتصر على عيادة واحدة، فسألوه عن ذلك، قال: لمن أدع هذه الأموال؟! أنا أشقى وأتعب وأجمع ثم أتركها لمن؟ ليس لي ولد.
لو كان رجلاً يحكمه الشرع لأنفق أمواله كلها على الفقراء والمساكين، هذه الأموال وهذه العقارات التي باعها أين تذهب الأموال الزائدة النقدية؟ وضعها في البنك، إذاً كان وجود هذه العقارات أرحم له، هذا الرجل كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن شعر بأن الجو حار فدخل في فرن، مع أن العاقل لا يفعل ذلك، لكن هذا الرجل لا يحكمه الشرع، لذلك أخذ كل هذه الأموال ووضعها في البنك، وصار يأكل منها شيئاً فشيئاً حتى بددها، وما استفاد منها شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
الشاهد من هذا: أن الإنسان مجبول على أنه لا يصنع الشيء ويمضي فيه إلا إن حصلت له من ورائه فائدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كأنه ينبه على هذا، فيقول: لا يقع في روعك أن الساعة تقوم ولا أحد يستفيد من هذا الغرس؛ فيحملك ذلك على ألا تغرسه لا، اغرسه (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).
وفي الحديث الصحيح الآخر: (ما من رجل يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طائرٌ أو إنسان أو حيوان إلا كان له به أجر) هل هناك حض أكثر من هذا على استثمار الأرض؟ نحن بطبيعة الحال لا نقول هذا الكلام لنقنع هذا المستشرق لا، فهؤلاء هويتهم معروفة، إنما هذا الكلام قد يجلي الغموض على بعض أبناء أولئك المستشرقين، الذين يأكلون ويشربون ويتغوطون عندنا، فيكتبون على صفحات الجرائد والكتب والمجلات أشياء تزكم الأنوف.
أخرج أحدهم كتاباً مسلسلاً على مدار سنة أو أكثر، وسماه: (تبشير الأصحاب بتحريم النقاب) وكتب مؤهلاته العلمية على جلدة الكتاب من الخلف، فحل لنا لغزاً عظيماً إذ علمنا أنه طبيب بيطري متخصص في السموم، فعلمنا أن هذا من السم الذي نفثه.
يقول في آخر الكتاب: (والمرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة، وإننا إذا استغفرنا للمتبرجة مرة، سنستغفر للمنتقبة مرتين؛ لأن المتبرجة تعلم أنها عاصية بتبرجها، أما المنتقبة فتظن أنها مطيعة بنقابها، والنقاب حرام، فهذه أبعد عن الصراط المستقيم من المرأة المتبرجة!) فهل يصح في عقل عاقل أن تستوي في الإثم امرأة تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه وامرأة منتقبة؟! فلما قيل لهم: كيف تنشرون مثل هذا؟ قالوا: حرية رأي.
إذاً اسمحوا لنا بالرد عليه.
قالوا: اكتبوا.
فكتب العشرات وأرسلوا إلى الجريدة، ولكنهم لم ينشروا شيئاً؛ وقالوا: ليست هناك مساحات خالية.
وقد اشتكى شيخ الأزهر من الجرائد الرسمية بأنه يرسل الرد على بعض الناس فلا ينشر؛ لأن القائمين على أجهزة الإعلام معروف أن هويتهم علمانية، فيسمحون للمرأة على شواطئ الإسكندرية أن تخرج بالمايوه، وفي الجامعات أن تذهب متبرجة، ورغم ذلك يمنعون المنتقبات من دخول الجامعات؟ لماذا لم يعاملوهن معاملة أولئك؟ أنتم تقولون: إن المرأة عندما تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه أو عارية أن هذه حرية أليس لأولئك حرية أيضاً؟!! الحرية إذن في الطعن على الإسلام والمسلمين فقط، هذه هي الحرية.
فهؤلاء إذا ترجموا لنا كتب المستشرقين قالوا: هذه آداب، وهذه فنون، ننقل ما عند الناس؛ لأنهم ينقلون ما عندنا، تريدون منا أن نتحجر، ثم يقذفوننا بما في جعبتهم من الرجعية والتخلف والانحطاط، والرجوع إلى القرون الوسطى، والله يعلم أن هذا المتكلم لعله لا يعلم شيئاً عن القرون الوسطى، لكن هذه الكلمة إنما تقال في معرض التحجر.
وهذا أحمد بهاء الدين يذهب إلى أمريكا للعلاج، ويرسل من هناك مقالاً يقول: (بينما العالم يتابع سفينة الفضاء الأمريكية التي أطلقت من أكثر من عشرة أعوام، وترسل الصور من على القمر، نجد عندنا من يتكلم عن فوائد البنوك هل هي حلال أم حرام؟ وهل النقاب واجب أم مستحب؟ وهل تغطية الوجه كذا! أفيقوا يا قوم!).
حسناً ما علاقة العلماء بسفينة الفضاء؟! كان من الأحرى والأجدى أن يوجه مثل هذا التقريع إلى رجال الفضاء بمصر لماذا؟ لأن هذا تخصصهم، فيقول لهم: أنتم لا تعرفون إلا الهلال، وظهور الشمس، اخرجوا من هذا القمقم وتحركوا وانظروا، وخذوا تكنولوجيا العالم لكن -كما قلنا- الشيخ دائماً مهضوم، وكل بلية تنسب إليه، وكل حسنة وإن جاءت منه تنسب إلى غيره؛ لأنه -كما قلنا- ليست الدولة لهم.
هناك مسرحية مشهورة وهي مسرحية: مدرسة المشاغبين، وفي هذه المسرحية في البداية أتوا بهيئة التدريس ينشدون النشيد الوطني للمدرسة، وكان من ضمن هيئة التدريس: مدرس الدين، وأتوا بهم وهم يغنون ويرقصون، وكان أفضل رجل رقص فيهم وحاز على قصب السبق مدرس الدين.
لا يستطيعون أن يجعلوا قسيساً مكان هذا الرجل، لكن لأن الشيخ ممتهن، إذا تكلم الشيخ -مثلاً- في الإعجاز الفضائي، يقولون له: وما أدراك بالفضاء؟! ابق في الحلال والحرام، لا تتكلم في الفضاء.
والمهندس أو الفلكي عندما يتكلم في الدين لا أحد يقول له: لماذا تتكلم في غير تخصصك؟ وإذا قيل له ذلك قال: الدين لله، وليس ملكاً لك.
وهذه كلمة حق أريد بها باطل؛ لأن الدين لله عز وجل من ناحية الاعتقاد، وليس من ناحية التصدر للفتيا، لم يقل أحد من أهل العلم قط أنه يباح لكل أحد أن يفتي، ما قالها أحد قط، فمسألة (الدين لله) أي: اعتقاداً لا يجبرك أحد، لكن (الدين لله) أي: الفتيا، يتجرأ عليها كل أحد، ما قال أحد من أهل العلم بهذا قط، ولا أنصاف المتعلمين يجرءون على قولها، إنما هو -كما قلنا- الجور على أهل الدين، فهم لا يعاملوننا بالعدل حتى ذراً للرماد في العيون.
فيأتي هذا فيترجم هذه الأشياء التي فيها فظاعة وطعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجرؤ أحد على منع هذا من النشر -كما قلنا- لأنهم يقولون: حرية رأي.
توفيق الحكيم روائي معروف، قال هذا القول عندما بلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: إذا بلغت عبدي ستين سنة فقد أعذرته)، وقد زار فرنسا ورجع، فاستضافوه في صحيفة الأهرام وسألوه: ما أفضل شيء أعجبك في فرنسا؟ فقال: الزواج الجماعي.
في الأشهر الماضية يسألون وزير الثقافة على صفحات (جريدة الأهالي) لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ يقول: حباً في النساء؛ لأن الرجل الذي يتزوج يقتصر على امرأة واحدة.
ما معنى هذا الكلام؟ أي أن الذي لا يتزوج له النساء جميعاً، والذي يتزوج كصاحب المحل، له محل واحد، أما العامل فله ألف محل، يستطيع أن يترك هذا المحل ويذهب إلى ذاك.
فقام الناس وقالوا له: إن هذا فسق وفجور، وإعلان للخنى، ولا يجرؤ أحد أن يمنعه أو يتكلم لماذا؟ يقولون: هذه حرية.
فهذه المقالات التي يترجمونها فيها السم الزعاف الذي يقتل به أبناء المسلمين في بلادهم، مثل هذا المقال -كما قلنا- دخل من باب حرية الرأي، وفيه طعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
فيقول هذا: إن الإسلام يدعو إلى الخمول والكسل، بدليل أن هذا الحديث يقول: إن الرجل الذي يمتلك آلة الحرث في بيته يذل، مع أنه عمي أو تعامى عن تبويب الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث، وقال: باب ما يخشى من الاشتغال بآلة الزرع -أي: عن ذكر الله تبارك وتعالى- فيقول: إن هذا الرجل إذا استخدم المحراث في زراعة الأرض وتفانى فيها بحيث ألهته عن ذكر الله، فليس بعد دخول النار ذل، هذا يقضي عليه بالذل إن اشتغل به عن ذكر الله تبارك وتعالى هذا وجه من وجوه الحديث.
الوجه الآخر: وهو أن الذي يعمل بآلة الزرع يتعرض للذل بسبب الجباية التي تفرض عليه، وعلى المحصول الذي يخرج من الأرض؛ فيتعرض للذل، وهذا كائن، فمثلاً يقولون: الفدان يُخرِج مثلاً طنين من الأرز -ألفي كيلو- ويجب أن يورد إجباراً إلى الجمعية الزراعية طناً ونصف، بسعر -مثلاً- مائتي جنيه، في حين أن هذا الطن في السوق السوداء بستمائة، إذاً: الفرق أربعمائة في الطن الواحد، هب أن الله منع الثمرة وغارت الأرض، ماذا يفعل هذا الرجل؟ يجب عليه أن يشتري طناً ونصف بسعر ستمائة حتى يوردها بسعر مائتين، إذاً يخسر، وإن تخلف عن السداد سجن أليس هذا من الذل؟ فكأن في هذا الحديث إشارة إلى ما يفرض على ذاك المزارع من الجبايات الظالمة التي تعرضه للذل: إما بتعريضه للسجن إذا لم يوف ما عليه، وإما بتعريضه للجوع هو وعياله.
فهذا الذي يفهم عليه الحديث، ليس أن الإسلام يمنع من استثمار الأرض، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)؟ لذلك هذا الرجل يقول: (وأرد فيها ثلثه)؛ لأنه إن لم يرد ثلثه لا يتمكن من أداء الأمرين الأولين: الأمر الأول: وهو الإنفاق على الأولاد.
والأمر الثاني: وهو أن يتصدق، وأن يحظى عند الله تبارك وتعالى بالخير العظيم.
فهذا الثلث الذي يرده في باطن الأرض يعينه على إنجاز الأولين.(29/4)
فضل الصدقة
الفائدة الثانية: وهي الصدقة، وفيها أدلة كثيرة جداً على فضلها.
من الأشياء التي افتقدها المسلمون اليوم: وجود بيت مال للمسلمين، أو على الأقل وجود بيوت تجمع هذا المال يكون عليها فقير، حتى يعرف كيف يصرف هذا المال، فتعجب عندنا في الجرائد عندما تقرأ أن فاعل خير تبرع بمائة ألف دولار لـ مصطفى أمين، هذا العلماني من الذي أدخله في الزكاة ومصارف الزكاة أو الصدقات؟! هؤلاء ينفقون على الفنانين والفنانات المتقاعدات، يقول: أدوا الرسالة على أتم وجه، ثم يضيعها هو، فينفقون من هذا المال على الفنانات، لا يصل هذا المال إلى مستحقيه، فهذا الرجل الذي أعطى هذا المال جاهل بمادته، والذي يتصرف بهذا المال أجهل منه.
والسبب في حدوث مثل هذه الفوضى: أن المسلمين تخلفوا عن القيام بأدوارهم، والزجاجة الفارغة إذا لم يملأها شيء ملأها الهواء، فأنت إذا لم تشغل هذا الحيز شغله غيرك.
كم خسر المسلمون بسبب الفوضى؛ لأن أموالهم ذهبت إلى غير مستحقيها، وكم من أصحاب المعاصي بدأ المعصية بسبب الحاجة، هناك بعض النساء الزانيات اللاتي تبن، لكن إحداهن تحكي أن سبب وقوعها في هذه الخطيئة ذهبت تطلب شيئاً فلم تجده، وسدت أبواب الخير في وجهها، فاضطرت -نحن لا نبرر شرعاً هذا الاضطرار- أن تسلك هذا الطريق، ووجدته طريقاً مليئاً بالأموال فسلكته.
وهذا يدل عليه قصة أصحاب الغار: الرجل الذي جاءته ابنة عمه تطلب منه مالاً، فراودها عن نفسها فأبت، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- ثم إنها رجعت إليه مرة أخرى فمكنته من نفسها رجاء أن تأخذ المال، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
ما الذي جعلها تأبى أولاً، وما الذي جعلها توافق ثانياً؟ نستطيع أن نستشف أن هذه المرأة أبت أن تفرط في عرضها؛ لأنها ظنت أنها إن يممت وجهها شطر أي رجل آخر فإنه يمكن أن يسد حاجتها، فكأنها مرت على الرجال تلتمس منهم هذا العون فلم تجد، وألمت بها سنة -أي: مجاعة شديدة- فاضطرت أن ترجع.
لو أن هذه المرأة وجدت أول مرة من يسد حاجتها لم تكن لتفرط في عرضها؛ لذلك نحن نقول: نحتاج إلى فقيه يقوم على هذا المال؛ لأن بعض الناس يشحون بصدقاتهم وزكواتهم على بعض أصحاب المعاصي، يقول: أنا لا أعطي إلا الملتزم أفلا يسرك أن ينضم رجلٌُ جديد إلى ركب المؤمنين؟ في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج-يعني بالليل- فوجد امرأة فوضع في يديها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على زانية.
فقال الرجل: الحمد لله على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة -كأنما شعر أن صدقته لم تقع في الموضع الذي أراد، أنا أريد أن أتصدق على المستحق، فتقع صدقتي في يدي زانية! كأنه رأى أنها ما أجزأته؛ لذلك عاود الأمر مرة أخرى وقال: لأتصدقن الليلة بصدقة- فخرج فوجد رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق.
فقال: الحمد الله على سارق! لأتصدقن الليلة بصدقة -لأنها وقعت من وجهة نظره في غير الموقع الذي أراد- فخرج فرأى رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على غني -أي: غير محتاج- فجاءه من يقول له: أما صدقتك فقبلت، وأما الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده) فهذا فضل الصدقة على أهل المعاصي: أما الزانية: فلعها تستعف وتحفظ فرجها إن وجدت من يكفلها.
وأما السارق: فلعله يتوب عن هذه السرقة، بأن وجد من يعطيه هذا المال.
وأما الغني: فلعله يغار ويخرج الذي عنده.
لذلك يجب علينا أن نعامل أصحاب المعاصي كأنهم مرضى، وبذلك فهم يحتاجون إلى نوع خاص من المعاملة، فلا تشح بمالك على بعض أهل المعاصي، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ فمن أملت فيه بإحسانك إليه أن يرجع وأن يتوب لا تتردد في ذلك، وإذا ظهر لك بعشرتك معه، وكثرة دعوتك له أن يراجع ربه تبارك وتعالى ويقلع عن هذا الإثم، أنه سيظل ماكثاً على ما هو عليه؛ حينئذٍ تتركه وتهجره.
فالصدقة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة)، وفي الحديث الصحيح: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) وهناك بعض الناس يجدون جبالاً من الحسنات ما توقعوها قط؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف.
يقول بعض الناس: أنا لا أخرج الصدقة حتى أرى من يستحقها.
لا يا أخي! أخرجها، المهم أن تخرج منك، وسواء وقعت في موقعها الذي أردت، أو وقعت في غير موقعها هذا ليس من شأنك، وهذا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للرجل في الحديث السابق: (أما صدقتك فقبلت)، المهم أن تخرج منك، لأن النفس مجبولة على الشح والمنع، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
هذه كلها عبارة عن ذرائع يخفي بها المرء شحه، أن يقول: أنا أريد أن أضع الصدقة في مكانها.
هذا في الحقيقة لو أنه ترك نفسه لعلم أن هذا جاء من جراء الشح.
الصورة التي يفكر بها المرء لاسيما في باب الإنفاق مهمة جداً في دعوة العوام إلى الرجوع إلى حظيرة الإسلام، ولقد والله رأينا أناساً كثيرين يبذلون هذا لله تبارك وتعالى في الصدقة؛ فيعوضهم الله عز وجل أفضل منه.
قصة الطالب المشهور الذي كان يعمل مهندساً لصيانة المكائن في شركة الدخان، وما كان يعرف حكم الدخان، وكان هذا الرجل كثير الصدقة، ويتصدق من كسب يده، فكأنما خاف على هذه الصدقات أن تذهب وتبدد؛ لأنها لم تأت من كسب طيب، فأراد أن يستبدل مصدر كسبه بمصدر طيب، لكن ماذا يعمل وهو مهندس ولا يجيد إطلاقاً إلا هذه الصناعة، أول ما علم أن العمل في هذه الشركة لا يجوز ما ترك مباشرة، لأنه لابد أن ينفق على أولاده، فانتظر حتى اشترى له عربية -هذه التي يدفعها الرجل بيده- واشترى بعض الطماطم والبطاطس وكل هذه الأشياء، واقترض هذا المبلغ، وهو رجل مهندس -هذه القصة حدثت في أواخر الستينات، طبعاً في أواخر الستينات كانت الشهادة مهمة جداً، والآن ليس لها قيمة، وإن كانت شهادة جامعية عالية فإنها ليس لها قيمة، إنما كان لها قيمة عظيمة جداً في أواخر الستينات وأوائل السبعينات- وصار يدفعها في شوارع الجيزة، هذا الرجل الآن يعد من أكبر الأغنياء الموجودين بمصر.
ويحكون عنه أشياء كثيرة في التصدق والبذل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته يوماً: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فكان أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يقسن أيديهن، وكن يعتقدن أن التي يدها أطول هي التي تلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وتكون أول من يموت بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ماتت زينب رضي الله عنها، وهي أول زوجاته لحوقاً به، وكانت قصيرة، وقصر الطول يتبعه قصر الأعضاء، فعلمن حقيقة الحديث، وأن الأمر ليس المقصود طول اليد، إنما طول اليد بالصدقة؛ لأن زينب رضي الله عنها كانت كثيرة الصدقات، فكأن لها اليد الطولى، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).
فمن ترك شيئاً لله تبارك وتعالى عوضه الله عز وجل خيراً منه.
فذلك الرجل تصدق بثلث ماله على الفقراء والمساكين الذين لهم حق في هذا المال.(29/5)
فضل النفقة على العيال
هذه القصة حدثت في زمن بني إسرائيل، ونخرج منها بثلاث فوائد عظام: الفائدة الأولى: فضل النفقة على العيال، والإثم في تضييعه.
الفائدة الثانية: فضل الصدقة.
والفائدة الثالثة: فضل عمارة الأرض كزراعتها.
أما الفائدة الأولى: وهي فضل النفقة على العيال وإثم تضييعه.
في الحديث القدسي الذي رواه البخاري مرفوعاً: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وقال الحديث: (وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه) إذاً فعلك لهذا الواجب هو أحبُّ شيءٍ تتقرب به إلى الله عز وجل، إن أردت أن تتقرب تقرب بما افترض عليك، أما النافلة فتقتضي زيادة الحب، (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه).
لو أردنا أن نقرب هذا المعنى نذكر مثالاً -ولله المثل الأعلى- فنقول: لو كان لك خادم كلما أمرته بشيء امتثل، ولا يقول: لا، ولا يشكو عجزاً هذا -بلا شك- يكون محبوباً لديك، فإن علم هذا الخادم -بذكائه ومعاشرته لك- أنك تحب النظافة اليومية، وأنك تحب أن تقص الشجر، أو تقطف الورود ففعل هذا بغير أن تأمره، ألا تزداد له حباً؟ تزداد له حباً بطبيعة الحال.
وكذلك الله تبارك وتعالى عندما تتقرب إليه بما فرضه عليك فهذا أحبُّ شيء إليه عزوجل، فإن زدت ذلك نافلة من عندك زاد حبه لك، صح عند النسائي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليضحك إلى العبد يكون النوم أحب شيء إليه، ثم يقوم يتملق ربه بركعتين) كل أمنيته أن يصل إلى فراشه من شدة التعب، ولكن توضأ ووقف بين يدي الله عز وجل يتملق -تأمل هذا اللفظ- يتملق ربه بركعتين، فالله تبارك وتعالى يضحك لمثل هذا العبد.
النفقة على العيال واجبة، لذلك لا يجوز أن تخرج الزكاة للأصول أو للفروع، لا يجوز أن تعطي زكاة مالك لأبيك وأمك ولا لأولادك لماذا؟ لأن لهم نفقة واجبة عليك، وإذا قصر الرجل في هذا الواجب فقد أباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ هند بنت عتبة كما في حديث عائشة في الصحيحين، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ قال لها: خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف)، لو قصر رجل في هذا الواجب يؤخذ منه عنوة؛ لأنه واجب عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أباح لها أن تأخذ حقها المفروض على زوجها أن يؤديه إليها، قال لها: (بالمعروف) هذه الكلمة مهمة جداً؛ لأنه لا يجوز للزوجة أن تتوسع في الأخذ من مال زوجها لتنفق على شهواتها، هذا ليس من المعروف، وهناك من يفسر كلمة (المعروف) بالعُرف، أي ما يتعارف الناس عليه في البيوت، وصار شيئاً ضرورياً في البيت، حتى وإن كانت الحاجة إليه ليست ماسة، قال: يجوز للزوجة أن تأخذ حتى تحقق هذا، أي العرف، وهو ما تعارفوا عليه، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه قد يتعارف الناس في بيئة من البيئات على شيء من الترف تمضي حياة المرء بدونه، فلا يجوز إذن للزوجة أن تتوسع وأن تأخذ ما تشتهي، إنما (خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف) فيفهم من هذا: ما يقيم صلبها وصلب أولادها.
أغرب شيء صادفته في رمضان الماضي: رجل لا يملك الكثير من المال، ويعمل في صنعة ما، فجمع أجره كله وذهب ليعتمر، وترك أهله دون أن يعطيهم شيئاً، وكان هذا في العشر الأواخر من رمضان، والعيد اقترب، والنفقات في رمضان بوجه عام تزداد، فهذا الرجل ما ترك شيئاً لأهله ولا لأولاده وذهب ليعتمر! فأخبروني -بالله عليكم- أهذا تصرف يرضاه الشارع الحكيم؟!
الجواب
لا؛ لأنه ذهب إلى سنة مستحبة له، وقد سبق له أن اعتمر، وسبق له أن حج، وضيع واجباً وراءه.
كذلك حدث عندنا في أسوان أن رجلاً خرج أربعين يوماً وترك أهله؛ وهو صاحب محل، فمعنى أن يخرج أربعين يوماً أي أنه أغلق المحل، وأثناء ذلك مرض ولده فأرسلوا إليه: إن ولدك مريض.
فقال الأب: أنا آسف! لن أقطع هذا الخروج.
قاد ولده السيارة من بيته إلى المستشفى وهو مريض، ودخل المستشفى، وكانت أمه ترافقه، ومات بالمستشفى، فأرسلوا إليه إن ولدك مات، فقال: لا أقطع الخروج! ضيع أولاده وراءه، ما ترك لهم شيئاً من المال ينفقونه، لو سلمنا أن هذا الخروج مستحب -مع كونه بدعة كما صرح بذلك أهل العلم- وتعارض مع فرض، فلا شك عند المبتدئين من طلبة العلم أنه يقدم أقواهما عند التعارض، فيقدم هذا الفرض وهو الإنفاق على العيال، لكن كثيراً من أولئك يقودهم الجهل بالنصوص الشرعية إلى مثل هذه التصرفات.
النفقة على العيال واجبة، وذلك الرجل صاحب البستان إنما نال كرامة السحاب المليء بالماء، ويقيض من ينادي في هذا السحاب أن اسق أرض فلان، فيسميه باسمه، لأنه عادل؛ فقد قسم ماله إلى ثلاثة أجزاء بالعدل: ثلث لأولاده، وثلث يتصدق به، وثلث يرده في باطن الأرض، حتى ينبت هذا الحب مرة أخرى فيتمكن من القيام بهذا الواجب، والقيام بحق الفقراء والمساكين من الصدقة.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وفي لفظ أبي داود (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) أي: حسبه هذا الإثم، إن كان يريد أن يستزيد من الآثام حسبه أن يضيع من يعول، فهذا مما يدل على إثم تضييع الأولاد، والفضل في النفقة عليهم، وأن هذا من أفضل القربات عند الله عز وجل أن ينفذ الإنسان ما أمر به، ويكون واجباً عليه، أي فرضاً.(29/6)
الأسئلة(29/7)
حكم دفع الزكاة الواجبة دون النظر في حال من يأخذها
السؤال
هل بذل الصدقة دون النظر إلى من يأخذها ينطبق على الزكاة الواجبة، كزكاة الفطر أو زكاة المال؟
الجواب
نعم، هذه الجزئية التي أنا ذكرتها في العصاة ألا يجوز أن يكون العاصي فقيراً أو مسكيناً، أو أحد الأصناف الثمانية الذين تجب لهم الزكاة؟ طبعاً، لكن نحن تحدثنا على هذه الجزئية فقط، وهي جزئية إعطاء العاصي؛ لأن هذا العاصي إذا أعطيته -كما قلنا- من الجائز أن ينضم إلى ركب المؤمنين، وهذه المسألة -كما قلنا- تحتاج إلى رجل فقيه يقدر الحال والله أعلم.(29/8)
حكم الصدقة على قاطع الصلاة
السؤال
هل إذا غلب على ظن مخرج الصدقة أو الزكاة أن الفقير أو المسكين الذي يريد أن يعطيه الزكاة لا يصلي، فهل يجوز أن يدفع إليه الصدقة أو الزكاة؟
الجواب
هنا يعمل بغلبة الظن، ومعروف أن الأحكام الشرعية يكفي فيها الظن الراجح، فإذا غلب على ظنك أن هذا الرجل إن أعطيته من زكاة مالك أو من صدقتك مالاً -وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن تكون على دراية به، كأن يكون من أهل البلد- أنه لا يرجع ولا يرعوي؛ فلا تعطه، إنما إذا غلب على ظنك أن هذا الرجل أسير الإحسان، وأنه يطيع، فهذا من الأفضل بلا شك أن تعطيه الصدقة.
وقد جربنا -وهذه التجربة عشتها بنفسي- أنك عندما تحسن إلى الفقراء والمساكين، فإنك تستحوذ على قلوبهم، وهذا أفضل من مائة محاضرة، فالجائع لا يستفيد من الكلام لأنه يريد أن يأكل، ويفكر كيف يحصل على العشاء لأولاده، وعلى الغداء، وكيف يحصل على الكسوة لأولاده؟ فالإحسان تستطيع أن تدخل به العشرات في حظيرة الإيمان، ولو كان الكلام الكثير يهدي الناس، ما ظننا أن يكون على الأرض عاص، لأن المتكلمين كثيرون جداً جداً، والكلام كثير جداً جداً، لكن الفعل قليل، هذه مشكلة كبيرة، يعني مثلاً: الذين يذهبون إلى الحج كل عام، تكفيهم حجة واحدة وهي حجة الإسلام، وإن كان المال زائداً فزوج به شاباً، أو ابن به بيتاً لأحد الفقراء الذين تسقط بيوتهم، فقد جاء رجل يشتكي ويبكي أنه بعد ما سقط بيته وعد بشقة -طبعاً هذا كله خيال- وهو الآن يسكن في عشة من الصفيح مع ثلاث بنات أكبرهن تخطت العشرين من عمرها، وأصغرهن تخطت الخامسة عشرة، ينامون فيها جميعاً، والحمام مشترك مع عشرين عشة، منْ مِنَ الناس يرضى أن تقف ابنته على باب الحمام وهناك رجل أجنبي خارج من الحمام؟! يأتي هذا الرجل يبكي ويقول: هجم علينا بعض الشباب الوضيع ليلة أمس، وساوموني على أخذ ابنتي وإلا هدموا علي هذه العشة من الصفيح، أريد أن أحافظ على عرضي، ماذا أفعل؟ يأتي يشكي لعاجز عجزه، فيلتقي العاجزان يبكيان، ليس هناك حل.
إذا كنت تبغي -أيها الرجل- الثواب لا مجرد أن تذهب إلى الأرض المقدسة تحج وترجع، تريد الثواب فانظر إلى هذه الأسرة المشردة وأعطها المال، أو أعن شاباً على الزواج.
فلو أن هناك رجلاً مريضاً، وكان هو رب الأسرة الذي ينفق عليها، وأصيب -نسأل الله عز وجل لنا ولكم العافية- بفشل كلوي، فمن الذي سينفق على زوجته وأولاده بعد أن أصيب بهذا المرض؟ وبعض الناس يذهب إلى المصيف شهراً، ينفق فيه عدة ألوف وجاره جائع بجانبه لا يعطيه شيئاً، لقد عجز المسلمون أن يأخذوا حكمة الصلوات الخمس، أنت الآن تصلي بجانب أخيك خمس مرات في اليوم، فتظل عدة سنوات لا تعرف اسمه ولا بيته، وإذا غاب لا تسأل عنه.
بعض الناس عندنا صلى في المسجد نحو سبع سنوات، ثم انقطع فترة طويلة، فسأل الناس عنه فقيل: مات منذ ثلاث سنوات.
قالوا: سبحان الله! كنا نظنه مسافراً.
اعتاد أن يغيب أخوه ولا يسأل عنه، فإذا أطال في الغياب قال: لعله مسافر.
لا تعامل صاحب المعصية بجفاء، بل تودد إليه وتحنن؛ لأن الإنسان يكون أسير الإحسان، فقد جربنا أن نعطي بعض الأموال البسيطة لهؤلاء الفقراء، فنادينا على المنابر: من كان عنده قميص، أو جلباب، أو أي ثياب يستغني عنها لصغرها عليه، أو لأنها قديمة فليأت بها، وجمعنا أطناناً فوزعناها على الفقراء، فأخذوها بعظيم البشاشة، ونادينا على المنابر: من كان عنده دواء -شفاه الله عز وجل وبقي شيء من الدواء- فليأت به، فجمعنا كمية كبيرة، وتطوع بعض الإخوة الصيادلة لعمل جناح خاص ورتبت هذه الأدوية، فإذا مرض إنسان أتى فأخذ مثلاً ورقة مختومة فيعطى الدواء بالمجان.
تصور أن الدعوة السلفية لها مائة عام، وكان بعض الآباء يصدون أولادهم عنا ويقولون: هذا سني، وهو معرض للاعتقال، ويقول لابنه: لا تذهب ولا تصل في المساجد السنية.
ويأتي الولد يشتكي ويقول: ماذا أفعل؟ المساجد الأخرى ينقرون الصلاة، فماذا أفعل؟! فاستطعنا أن نكسب قلوب أولئك الآباء، وأصبح الأب يستحي على الأقل أن يمنع ولده أن يرافقك وأنت المحسن عليه المتصدق، حتى وإن لم يقتنع بذلك على الأقل تجعله على الحياد إن عجزت أن تضمه إلى صفك.
ما علمنا هذه الحقيقة إلا بعد أن مارسناها، كنا نتأفف جداً من أي رجل يشرب السيجارة، وقد نخوض في طريق آخر، لكن تجمعنا الجلسات بأولئك، فكنا نترفق بهم غاية الترفق، فأحياناً يصرحون بألفاظ عجيبة، ومع ذلك نخفض لهم جناح الذل من الرحمة، حتى يصير في قلبه محبة لك، وقد انضم عشرات من العصاة لركب المؤمنين.
هذه الدعوة المباركة لا تحتاج إلى جهد؛ لأنها تغزو القلوب، لكن تحتاج إلى حسن عرض.
مررت مع أحدهم على رجل يتسول، وقد كشف عن ساقه المقطوعة، فقال رفيقي أول ما رآه: أعوذ بالله، أعوذ بالله، تتكسب بالحرام؟! الركبة عورة! طبعاً الرجل لأنه لا يريد أن يقع في مشاكل غطى ركبته، ثم مشينا قليلاً فنظرت خلفي فإذا به قد كشفها، إذاً ما الفائدة؟! تستطيع أن تنكر المنكر بأسلوب أفضل من هذا.
فالحاصل: أن الظن الغالب يُعمل به، وإذا غلب على ظنك -بخبرتك- أن الرجل صاحب عناد وجدل ولا يرجع فتجنبه، وهناك عشرات في مقابله يتقبلون النصح ويظهر ذلك عليهم.
لذلك نقول: إن الزكاة والصدقة تحتاج إلى رجل فقيه حتى يضعها في موضعها والله أعلم.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(29/9)
عقبات في طريق التمكين
هناك الكثير من العقبات المانعة من التمكين لأهل الإسلام، من أعظمها: سوء إعداد جيل التمكين من قبل دعاة هذه الأمة وعلمائها وعدم اختيار الزوجة الصالحة عدم معرفة منهج النجاة في تربية الأبناء.(30/1)
سوء اختيار الزوجة (المربية للأولاد)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام! لماذا يتقاتل الناس، ولماذا تنشب الحروب في كل مكان؟ إن هذا القتال الدائر بين الناس اليوم قديم وليس في هذا العصر فحسب وإنما هو قديم من لدن آدم عليه السلام، والمقصود منه هو السعي إلى التمكين.
إن هذا النظام العالمي الجديد، وهذه التكتلات الاقتصادية بين الدول، المقصود منها التمكين؛ فالتمكين هو الغاية المنشودة خلف كل صراع، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن أولى الناس بالتمكين هم المسلمون.
إن الله تبارك وتعالى لما ذكر التمكين في سورة القصص ذكر ميلاد موسى عليه السلام.
إذاً: هناك رابطة قوية بين التمكين وبين صلاح الأولاد، بل لا يكون تمكين إلا بصلاح الأولاد؛ لكن قبل أن نتكلم على الولد نتكلم عن أصل الولد، نتكلم عن أمه وأبيه.
الأم هي قاعدة البناء العريض؛ ولذلك كل المؤتمرات التي تعقد باسم البيئة والتنمية المقصود منها: إفساد المرأة، وقد اشتدت الضراوة على النقاب؛ لأن النقاب عاد بعد غياب استمر لخمسين عاماً فقط، فأصابهم بالدوار وخلط أوراقهم.
إن المسرحية الغربية التي ألفوها سنة (1919) وحرقوا فيها النقاب احتجاجاً على وجود الإنجليز في مصر، وكان هذا في ميدان الإسماعيلية المتمثل في ميدان التحرير ويشير اسمه إلى تحرير المرأة وحرق النقاب، والذي ينبغي أن يعلم أن النقاب لم يختف بمجرد أن حرق في الميدان؛ لكنه ظل نحو عشر سنوات أو خمس عشرة سنة حتى تحلل الناس منه.
أي أن غياب النقاب عن الساحة كان في حدود سنة (1935) ثم رجع سنة (1980) أي في حدود خمسين سنة؛ فهم لم يتصوروا أن تنهار مكاسبهم بهذه السرعة، وخمسين عاماً في أعمار الأمم لا تشكل شيئاً.
فلما رجع الحجاب مرة أخرى ورأوا أن مكاسبهم بدأت تضيع اشتدت الحملة والضراوة، حتى أن المؤتمرات صارت تعقد بسفور، ولم يلجئوا إلى التلميح كما كانوا من قبل.
إن وراء كل رجل عظيم أم -ولا أقول امرأة- بل خلف كل رجل عظيم أم.
أيها المقحم عن الزواج! إن غاية المنى في الدنيا أن تظفر بالمرأة الصالحة، واسألوا الذين لم يوفقوا في حياتهم الزوجية هل تشعرون بنعيم؟ فكلمة إجماع عندهم (لا).
لا يشعر بنعيم الولد ولا الصحة ولا الجاه ولا المال، بسبب فساد المرأة، والرجل التعيس في حياته يحسد كل الناس، ويظن أنهم سعداء وهو الوحيد الشقي، فالمرأة الفاسدة لا تشعر معها بطعم الحياة؛ وهذه المرأة لا يرجى من ورائها خير؟ إن الجيل التمكين، لابد أن يتلاءم فيه الرجل مع المرأة، وأن تعرف المرأة الغاية في خلقها وما هو دورها، وأن تقوم بواجبها حق القيام، وكذلك الأب، فهما أساس صلاح الأجيال.
وإن الإسلام حفظ للمرأة كرامتها، فجعلها مطلوبة لا طالبة؛ فالرجل هو الذي يدخل ويتقدم ويخطب وليس المرأة، حفاظاً عليها وعلى كرامتها؛ فالمرأة لها قيمة ما دامت مطلوبة؛ فإذا صارت المرأة طالبة قلت قيمتها.
ومع ذلك فقد أباح لها الإسلام أن تعرض نفسها على الرجل الصالح؛ لأنه غاية المنى بالنسبة لها -مع أن هذا في عرف الناس قبيح- الرجل الصالح، فيجوز للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح إذا ترجحت المصلحة وأمن الضرر، أما لو تزاحمت المضار فنختار أخف الضررين، وأخف الضررين هنا أن المرأة تتنازل وتبدو أنها هي التي تخطب الرجل، وصحيح أن قليلاً من كرامتها سيذهب لكن لا مانع؛ لأن تحصيل الرجل الصالح فيه من الفوائد ما لا يوازيه مثل هذا التمايز، مع أن هذا قبيح في عرف الحرائر.
روى ثابت البناني رحمه الله حديثاً عن أنس رواه البخاري في صحيحه يقول: (كنت جالساً عند أنس؛ فقال أنس رضي الله عنه: جاءت امرأة فعرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! وهبت نفسي لك، فقالت ابنة أنس: واسوأتاه! ما أقل حياءها، أتعرض الحرة نفسها؟! فقال أنس: هي خير منك، عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم).
لقد استنبط الإمام البخاري رحمه الله من هذا الحديث جواز أن تعرض أي امرأة نفسها، مع أن هذه المرأة وهبت نفسها، وهذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
إذاً: للنساء جميعاً أن يعرضنَ -لا يهبن- أنفسهن، لدلالة الآية، وامرأة العزيز عيرها نسوة مصر بسبب مراودتها ليوسف عليه السلام: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف:30] يا للعار ما أقل حياءها، هي التي تراود، الذي يراود هو الطالب لا المطلوب {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر:37] هم الذين يطلبون.
فلا بأس أن تعرض المرأة نفسها على الرجل الصالح فقد أُبيح لها ذلك، ثم على الصالحين أن يعرضوا بناتهم، والمثل عندنا يقول: (اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك).
كذلك قال الرجل الصالح صاحب مدين: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] وبعض العلماء يقول: أنه شعيب عليه السلام، لكن الظاهر أنه ليس شعيباً عليه السلام؛ لأن شعيباً كان بين موسى وإبراهيم عليهما السلام، وشعيب قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] ولوط كان في زمان إبراهيم، وبين موسى وإبراهيم عليهما السلام مدة طويلة؛ فالراجح أنه ليس شعيب عليه السلام، لكنه رجل صالح، فهذا الرجل عرض ابنته على موسى عليه السلام {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27].
وانظر إلى قول الله عز وجل: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] فلو بدأت القراءة من قوله تبارك وتعالى: {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] لأعطاك معنى جميلاً {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] إذا كانت جاءت تمشي على استحياء؛ فلا شك أن القول يكون على استحياء أكثر، فعرضت البنت العاقلة على أبيها أن يستأجره، قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
هي هذه مقومات الزوج الصالح، القوي الذي يستر امرأته، ولا يعرضها للعمل، ولا يضيرها، ولا تبتذل بين الرجال، وهو الذي، يدافع عن عرضه، ثم هو أمين عليها، لما ذهب إلى أبيها تزوجها بكلمة الله، واستحلها بعناية الله؛ فهو أمين عليها، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لا يظلمها، فتفرست فيه المرأة ذلك؛ لأنها رأت منه خصلتين كما يقول أهل التفسير: الخصلة الأولى: قوة جسدية لما سقى لهما، وكفاهما هذا الزحام فهذا دلالة قوته.
والخصلة الثانية: أمانته حيث أنه مشى أمامها ولم يمش خلفها حتى لا يرمقها.
وقد ذكر أهل التفسير أنها كانت تشير له عن طريق الحصى، إذا رمت الحصى يميناً انحرف يميناً، وأذا رمت شمالاً انحرف شمالاً؛ فعلمت أن هذا رجل نبيل؛ فتفرست فيه هاتين الصفتين؛ فقالت لأبيها ذلك: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
فهذا الرجل الصالح عرض ابنته ولم يكن هذا إغراءً عليه ولا على ابنته، بل كان شرفاً له، لأن الذي تزوج ابنته نبي الله موسى عليه السلام.
وقد سنها لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففي صحيح البخاري وغيره: (لما تأيّمت حفصة بنت عمر بسبب موت زوجها، طفق عمر يعرضها، فعرضها على عثمان قال: هل لك في حفصة بنت عمر؟ قال: أنظرني ثلاثاً، فبعد ثلاث قال: قد بدا لي أن لا أتزوج في يومي هذا.
قال: فقابلت أبا بكر رضي الله عنه، فقلت له: هل لك في حفصة بنت عمر؟ فلم يرجع إلي بشيء فكنت عليه أوجد مني على عثمان، ثم لبثت ليالي فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فقابلني أبو بكر: فقال لي: لعلك وجدت علي إذ لم أرجع إليك بشيء! قلت: نعم.
قال: والله إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، وما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها).
ولم يكن إبراءً بـ عمر لو تزوجها عثمان نعم الزوج، لو تزوجها أبو بكر نعم الزوج، ثم كل هذا في سبيل البحث عن الرجل الصالح.
روى أبو نعيم في كتاب ال(30/2)
الإسلام دار والصحابة الباب
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام! ليس ما ذكرته هو أول عقبة، فحياتك كلها عقبات، ألم نسمي مجموعة الأحكام الشرعية تكاليف؟ وأنت اسمك المكلف، ومعنى مكلف أي: يفعل الشيء بكلفة.
والتكليف كله مشقة، فأمامك عقبات عظيمة، وأول العقبات أن تختار المرأة الصالحة؛ فالمرأة الصالحة رزق، مثل المال والولد، ثم حبك للمرأة رزق آخر لا دخل لك فيه وكما قلت لك: إن قلبك ليس بيدك.
ولما أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر خديجة رضي الله عنها غارت عائشة؛ فتكلمت بما تكلمت، فقال لها: (إني رزقت حبها).
فحب الرجل للمرأة رزق، وحب المرأة للرجل رزق، وهو يستحق شكراً مستقلاً، فإذا رزقك الله عز وجل زوجة صالحة فاسجد لله شكراً.
وفي هذا الزمان حصلت فجوة في تاريخنا، ذهبت فيها الخلافة، وإن مغبة ضياع الخلافة فيه فساد جيل بأكمله، هذه الأمة جيلاً فاسداً، عاش تحت وطأت العلمانيين، والمتحللين من دينهم، ولا زلنا نعاني من هذه المحنة؛ وأصبح اختيار المرأة الصالحة يكلف الرجل بحثاً كثيراً؛ لكن ابحث عن صلاح بيئتها قبل صلاحها.
هناك حديث موضوع لا يجوز أن ننسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن نحن نقوله ليس لأنه حديث؛ لكن لأنه كلام جميل: (إن أنضر الأزهار ينبت في الدمم).
الدمم: المستنقعات، والوردة جميلة، تنبت في وسط المستنقع.
المرأة التي ظاهرها الالتزام، وقد تربت في بيئة سيئة، لو تزوجها قد تنجيها من البيئة التي تعيش فيها، ولكن بعدما تتزوج قد تحصل مشاكل عادية بين الرجل والمرأة فتذهب المرأة إلى بيت أبيها، وهم لا يعينونها لصلاح بيتك، بل يفسدونها، ونحن عندنا نماذج من ذلك، إلا أن يتفضل الله عز وجل على هذه المرأة فتكون أصيلة وأنت لا تدري؛ فإذا أردت أن تختار انظر إلى صلاح الأهل والبيئة، فلو اخترت امرأة يظهر عليها كل مظاهر الالتزام وأهلها صالحون فإنهم يصلحونها لك، وإذا غضبت أرجعوها.
رضي الله عن أبي بكر، فقد كان نعم الحمو للزبير بن العوام، وكان الزبير رجلاً غليظاً وضراباً، إذا ضرب يضرب بقسوة، وكان متزوجاً بامرأتين؛ فكانت أسماء رضي الله عنها تذهب وتشتكي لأبيها؛ فكان يرجعها ويقول لها: يا ابنتي! إن الزبير رجل صالح، صحيح أنه يضرب لكن أين بقية شمائله: دينه وأخلاقه ورعايته، ثم هو من المبشرين بالجنة، رجل من الصالحين، فترجع أسماء المرأة الصالحة البارة الوفية إلى زوجها، وقد تجد المرأة في زوجها خلقاً سيئاً لكن قد ترضى منه أخلاقاً كثيرة كذلك المرأة فقد تجد فيها خلقاً سيئاً، وترضى منها أخلاقاً أخرى جميلة وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).
هذه كلها عوامل تساعدك على اختيار المرأة الصالحة، وليست هذه كما قلت أول العقبات، بل هناك عقبة كؤود، هي من أعظم العقبات التي تواجهك أيها الرجل الآن، وهي معرفة المنهج الذي تربي عليه أبناءك.
ونحن أمامنا مناهج كثيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) فأنت أمامك ثلاثة وسبعون باباً مفتوحاً كل باب يمثل منهجاً مستقلاً.
إذاً: قبل أن تخطو لابد أن تعلم إلى أين الطريق؟ إلى أين يؤدي؟ ولقد كفانا النبي عليه الصلاة والسلام مئونة تحديد الطريق والمنهج فقال: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
فهل التزمنا بمذهب القرن الأول؟ هل نعرف كيف عاش الصحابة فعلاً؟ كيف كانوا يعتقدون العقيدة؟ كيف كانوا يتعاملون؟ كيف كانوا يتفاوتون في فهم الأدلة والنصوص؟ إذاً: إذا أردت أن تبقي لهذه الأمة من نفسك ولداً صالحاً، يكون نواة لجيل التمكين، لابد أن تعلم ولدك الباب الوحيد الذي يدخل منه.
هي هذه العقبة الكئود التي يجب أن تبحث عنها أكثر من بحثك عن عمل إضافي لتأكل وتشرب.
هو معرفة منهج النجاة، هذا العلم فرض عين عليك، خاصة أننا في هذا العصر عصر تشويه جيل الصحابة، هذا التشويه قائم على قدم وساق، يكذبون أبا هريرة وينشرون كتباً لتكذيبه، في أكبر دار نشر رسمية، فقد ظهر كتاب أضواء على السنة المحمدية للهالك محمود أبو رية يكذب فيه أبا هريرة ويقول: إنه كان يفتري الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويخرج رجل آخر جاهل يصدر كتاباً الأضواء القرآنية لاكتساح ما في البخاري من الإسرائيليات، يلعبون بالكتب ويعبثون بهذا التاريخ المجيد، الذي إذا انهار لا تقوم لنا قائمة.
الآن المد الشيعي بدأت تظهر بوادره، والذي يعتمد أساساً على تحقير الصحابة، لماذا؟ لأن الصحابة هم الباب إلى الإسلام، هم الذين نقلوا لنا الدين كله أصولاً وفروعاً، فإذا جاز لك أن تكذب أبا هريرة! فهذا يعني أن كل حديث نقله أبو هريرة كذب، وكم من العلم سيضيع إذا كذبنا الناقل، والطعن في الصحابة المقصود به الطعن في الإسلام كله.
كان الإمام النسائي رجلاً مجاهداً، فلما دخل دمشق كان المحبون لـ معاوية كثراً والمبغضون لـ علي كثراً، فالإمام النسائي قال: أحسن شيء أن أؤلف كتاباً في فضائل علي، فصنف كتاباً أسماه خصائص علي بن أبي طالب، أي: مناقبه، فصنفه قبل أن يصنف رسائل الشيخين في فضائل أبي بكر وعمر، فنسب إلى التشيع بسبب هذا الكتاب، مع أنه سني خالص؛ لكنه رأى من السياسة الشرعية أن نبدأ بتصنيف كتاب خصائص علي لكي يقرأه في وسط النواصب.
فبعد أن قرأ الكتاب قام شخص وقال له: لم لا تحدثنا بفضائل معاوية؟ فقال: جاء حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناد لي معاوية) وقد كان معاوية رضي الله عنه كاتباً للوحي، ولا يكتب الوحي إلا أمين، فذهب ابن عباس فوجده يأكل، فقال له: حتى أكمل الأكل، وقعد ابن عباس يلعب مع الصبيان، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ناد لي معاوية.
فقال له ابن عباس: إنه قال: سيأكل ويأتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أشبع الله بطنه).
والعلماء قد حملوا هذا على المدح، بدلالة حديث أم سليم عند مسلم أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سليم: أو ما تدرين ما شارطت عليه ربي.
قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة وأجراً) ولا أشبع الله بطنك زكاة وأجر.
قال: فسكت وسكت السائل؛ ولكن العوام قاموا عليه يضربونه فقتلوه، فمات الإمام النسائي شهيداً بسبب هذا الكتاب، فأراد أحدهم أن يستغل هذه المسألة فقال له: إن بعض الناس يتكلم في معاوية.
فقال له الإمام: إن الإسلام دار والصحابة الباب فمن نقر على الباب أراد الدخول ومن أراد الصحابة الإسلام.
هي دعوة ظاهرة ولا نجاة لك إلا من هذا الباب الذي هم الصحابة، فعليك بالتزام مذهب القرن الأول الذي صار فرض عين علينا جميعاً إذا كنا نريد النجاة.(30/3)
النقاب آلام وآمال
قد يشعر الإنسان -أحياناً- بإحباط شديد لما تتكاثر الأخبار السيئة في يوم واحد، ويظن أن ليس في الدنيا خير، مثل علماء الحديث كانوا أحياناً يجمعون غرائب الراوي ومناكيره في موضع واحد، فربما نظر الناظر ولا يدري بذلك إلى أحاديث هذا الراوي، فضعفه ظناً منه أن ذلك هو الغالب على حديثه.
ومن المشاكل التي تعرض عليّ يومياً مشكلة واجهتها ولم أستطع لها حلاً، وانعقد الكلام على لساني، أخت اتصلت بي وتريد حلاً لمشكلتها، تقول: إنها انتقبت هي وأختها الصغرى، فما كان من الوالد إلا أن طرد الأم إلى بيت أبيها، وجعل رجوعها مرهوناً بخلع البنات للنقاب؛ فقالت الأم لأبنائها تحملوا قليلاً، فالمسألة كلها مناورات، ومع الأيام ستعود المياه إلى مجاريها، وفي فترة غياب الأم حدث للبنات أشياء شنيعة جداً.
أولاً: أمرهن أبوهن بخلع النقاب.
ثانياً: كان يأمرهن إذا جاء ضيف أن يظهرن شعورهن ويدخلن عليه.
وقالت: لا أستطع أن أصف لك حجم الضرب الذي تحملناه، فما نزعنا النقاب إلا بعد ضرب شديد.
وليس هذا فقط بل يأمرهن أن يجلسن بجانب الضيف، وإذا لم يمتثلن ينهال عليهن ضرباً ولو كان الضيف موجوداً تصور أن هناك آباء بهذا الحمق والحقد على الدين؟! وكنت لا أملك لها إلا أن ألقي على مسامعها نماذج من تضحيات الفاضلات من الصحابيات ومن الأمهات والمؤمنات، ومع ذلك كنت أحس أن الكلام يتعثر على لساني، فالمسألة أكبر من الكلام.
إن الأمة مهزومة بأمثال هؤلاء، نحن عندنا من هذا الصنف الكثير، وأنا لا أبالغ، لكن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
مثلاً: لو ذهبت إلى صديق، وقلت له: هل الوباء الفلاني منتشر؟ يقول: نعم، منتشر كما ترى.
لا.
اسأل أهل التخصص هم الذين يخبرونك هل المرض منتشر أم لا.
لعلكم لا تشعرون بهذه المحن، فالناس كل يوم يعيشون محناً ويريدون لها حلاً، ونحن لا نملك لهم أكثر من النصيحة، كل مشكلة لابد أن تترك على القلب ظلاً، وكثير من الملتزمين الذين مكن الله لهم قد دب اليأس إليهم من كثرة الفساد.
والذي يجعلنا نستبشر هو رجوع النقاب، النقاب وقد صار علامة للالتزام، كذلك اللحيةلم يعد عليها ذلك الضغط القديم، وأصبح أصحاب اللحى يدخلون الجامعات والمؤسسات المرموقة والمواقع الحساسة، بل عشنا حتى رأينا اللحية في أمان، لقد كان الذي يريد أن يشتري شيئاً ليأكله يحلق لحيته، ويلبس البنطال، ويلبس (الحلق) ويلبس سلسلة! كنوع من التمويه، وأصبحنا نعرف حجم الدعوة في أي بلد بالنقاب فإذا دخلت أي بلد فاسأل عن النقاب، فإذا كان منتشراً جداً فاعلم أن الدعوة منتشرة، وإذا كان النقاب في أهل بيت، فاعلم أن في البيت أكثر من ملتزم، أبوها أو أخوها يأمرها، لكن قد يعفي الرجل لحيته والبيت كله لا يصلي، فرجوع هذا النقاب بهذه الكثرة الكاثرة، إنما الفضل فيه لله عز وجل.
وأما جهد الدعاة فهو قليل ولا يساوي كل هذا الخير الموجود، وما من يوم ينشق فجره إلا ونجد عدداً من الفتيات يلبسن النقاب.
ونحن نقول للآباء الذين يرفضون أن تلبس بناتهم النقاب: إن الانحراف ثمنه غال جداً، والآن الخمار لم يعد علامة الحجاب، فقد تبلغ الفتاة سن الخامسة عشرة فتعلن الحجاب، لكن بعدما وضع النقاب ترى الخمار أدنى، وقد يخطب المرأة المختمرة الذي لا يصلي والذي يدخن، لكن المرأة المنتقبة لا يدخل عليها إلا شخص واحد فقط، يريدها من أهل الدين.
إذاً: النقاب باب، والمرأة عندما تنتقب تتزوج بسرعة، ليس مثلما يفهم الناس، في عقلية الستينات كانت المرأة لازم أن يكون لديها دبلوم عالٍ أو (بكالريوس أو ليسانس)، لكن الدنيا تغيرت، والمفروض أن المعايير تتغير أيضاً.
فلم يعد النقاب وسيلة من وسائل عرقلة مسيرة المرأة نحو الزواج.
إذاً: النقاب سياج أمان، والمرأة المنتقبة تبقى ضامنة أن الذي يتقدم لها إنسان متدين، يريد هذا السمت، يريد امرأة منتقبة، وبالتالي صار النقاب عنوان لمجموعة من الفضائل، وليس مجرد قماش تستر المرأة به وجهها، لكنه عنوان امرأة ملتزمة، تصوم وتصلي، وتقوم على تربية أولادها.
إذاً: النقاب سياج أمان للاختيار، فإذا خيرت بين امرأة ملتزمة بأمر الله ورسوله وبين امرأة تحمل الشهادة، فإياك أن تنحاز إلى صاحبة الشهادة، فإن أكثر النساء نعاسة ذوات الشهادات الجامعية، و (90%) من المشاكل التي أراها يومياً هي في بيوت النساء العاملات.(30/4)
عمل المرأة من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء
إن المرأة عندما يكون معها شهادة أهلها يقولون: نحن لماذا حصلت على هذه الشهادات؟ لكي تقعد في البيت؟ لا.
يقولون: يا أخي! الأعمار بيد الله، وافترض إن مت فمن أين تأكل هي؟ سبحان الله! لماذا أدخلته بين الأموات، لو أن كل رجل زوج ابنته لرجل هل سيبقى مخلداً؟ معروف أن الكل سيذهب، لكن هو يتخذ هذه ذريعة حتى أن المرأة تعمل.
وإن سفر الأب إلى الخارج من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء، وكذلك عمل المرأة من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء، فالمرأة تذهب إلى العمل وتترك الولد في حضانة، والحضانة هذه لا تعطيه الدفء، ولا تعطيه حب الأم، مع أن الحضانة مكلفة.
فلا بد من وجود الأم في بيتها لتربي أولادها تربية صالحة وتساهم في إعداد جيل التمكين، والوالد يجب عليه أن يقدم عذره لله عز وجل، إذا كان قد فرط هو بسبب تفريط أبيه -هذه فرضية- فلا يفرط في ولده، فيجب على الأب تربية أولاده.
إن محن الأبناء ما بين الأب والأم تتلخص في سفر الوالد، أو كثرة عمله وانشغاله عن ولده، وفي عمل المرأة وتركها لمنزلها، ونحن نقول: أدخلوا النساء البيوت مرة أخرى وأعطوهن الراتب وهن في البيوت، أو أعطوهن نصف الراتب، وخذوا النصف الآخر وأعطوه للشباب ليقوموا مقامهن.
إن الرجل هو المسئول عن الإنفاق على البيت، فكيف توفر الفرصة لامرأة وتأخذ وظيفة رجل، إذاً: الرجل يعمل ماذا؟ ويصرف من أين؟ هو الذي في يده القوامة، وشطر القوامة أن ينفق على المرأة، والمرأة ليس عليها ذلك.
وإذا كان العمل موفراً للمرأة ويحرم منه الرجل، فما هي النتيجة؟ تجد الرجل يدور، يريد أن ينفق فيبدأ بالانحراف فينضم لأي عصابة من العصابات، فهذا كله فيه فساد في المجتمع، لكن واقع المرأة يظهر أنها لا تؤدي ربع ما يؤديه الرجل، ما هو الشيء عند المرأة وليس عند الرجل، ما هو العمل المميز؟ حتى في مهنة الطباخة الرجال هم المتفوقون فيها، هل قد رأيت امرأة تطبخ في فندق، الذي يطبخ هو الرجل، وهو متفوق على المرأة، وما هو الشيء الذي عند المرأة ولا يحسنه الرجل؟ المرأة تحسن شيئاً واحداً لا يحسنه الرجل هو تربية الولد وتعظيم الوالد عند الولد، فالأب طوال النهار في العمل والولد يخاف من والده بسبب الأم المخلصة التي تعظم الوالد، سأقول لأبيك، سيضربك أبوك.
أم مخلصة أمينة، كل يوم تنمي في نفسية الولد تعظيم الوالد ومحبته، لكن عندما تكون المرأة في العمل ولاؤها يقل لزوجها، لأنها تقضي مع زميلات العمل أكثر مما تقضي مع زوجها في البيت تقريباً ثمان ساعات وهي تقضي مع زوجها ربع هذه المدة، والرجل طوال النهار في العمل، وعندما يرجع يكون مرهقاً، ومتعباً، يريد أن يأكل وينام، فتقول له: هل هذه لوكندة؟ على الأقل قل كلمتين جميلتين.
لا تحسبوا أني أخترع هذه الأشياء، هذه مشاكل تأتيني مكتوبة، ومصائب كبيرة.
فما هو دور وعمل المرأة بعدما ضيعت رأس المال الحقيقي الذي هو الولد؟ فإذا كبر الولد يأتي الوالد ويشتكي ويقول: إن ولدي لا يزورني ولا يأتيني ويعقني، وأكبر مشكلة تعترض الرجل أن النتائج مؤجلة، فعندما يفقد قدرته على الحياة ويحتاج إلى أولاده يبدأ يرى العقوق.
فأي مهمة يريدها الإنسان هي مثل البرج، لا يمكن أن يصل إلى أعلاه إلا إذا أتى من أسفل، لكل شيء أساس، فإذا أحسن التربية فلن يجد العقوق، وهكذا بنيان أي أمة في الدنيا، فمن كان عمره ستين سنة فإن ربع حياته قد ذهبت في الطفولة، ولكن لماذا طالت طفولة الإنسان؟ لأن الحمل الموضوع على كتفه جسيم وكبير، ونحن نحتاج إلى أساس قوي؛ لكي يتحمل كل هذا الضغط.
إذاً: الطفولة التي ضيعناها بسبب فساد البيت لا ينبني عليها أبداً بناء، وبداية مرحلة التأسيس: اختيار الرجل واختيار المرأة، فهي الأساس في صلاح الولد.
وإذا أتينا لعمل دراسة سهلة عن راتب المرأة العاملة، فإن متوسط راتب أغلب النساء العاملات مائة وخمسين (جنيه) أو مائتين (جنيه) ولنقل أنها ستصرف نصف مرتبها والنصف الباقي تدخره، إذاً: الباقي سيكون خمسة وسبعين (جنيه)، أي: لا يصل في السنة إلى ألف (جنيه).
انظر إلى الألف جنيه هذه في مقابلها اثنا عشر شهراً خسارة محققة، قد يكون في حياة المرأة رجل آخر، هي عفيفة وتغض طرفها، لكن قلبها قد يبتلي ويتعلق بشخص آخر غير زوجها، ويكفي أنها قد رأت رجالاً غير زوجها.(30/5)
التبرج والاختلاط واقع مر
وصف ربنا سبحانه وتعالى نساء أهل الجنة فقال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] لا في الجنة فتنة ولا نظر، كل الجنة متعة، ومع ذلك لا تخرج، لماذا تخرج؟ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] مقصورات على أزواجهن، إذاً المرأة الجالسة في البيت تتشبه بنساء أهل الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر صنفاً من الناس لم يرهم قال: (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) (أسنمة البخت المائلة) تأتي مسرحة شعرها، ومصففة شعرها فوق رأسها وعلى ناحية، فالعلماء منعوا من أن تصفف المرأة شعرها بهذه الصورة وقالوا: لأن هذا فيه تشبه بالمغضوب عليهم، وتشبه بأهل النار.
والإسلام أعزنا وكل أمر يتشبه المسلم فيه مع ما هو أدنى منه يمنع منه، يقول لك لا تفترش كافتراش الكلب، ولا تنقر كنقر الديك، ولا تبرك كبروك البعير، ولا تحتفز احتفاز الثعلب، كل هذا لأنك كريم، فلا تتشبه بالدنايا،، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نائماً على بطنه، فقال له: قم إنها ضجعة أهل النار.
أي: لا تتشبه بأهل النار.
فالمرأة التي تصفف شعرها على رأي القائلين بالتحريم تتشبه بأهل النار.
إذاً التشبه بأهل الجنة شرف، فالمرأة التي تجلس في بيتها شبيهة بأهل الجنة، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وقال: (((وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [الصافات:48]، أي: طرفها مقصور على زوجها لا ترى غيره.
والاختلاط مشكلة من أكبر المشاكل، وللمحافظة على القلب وسلامته لا بد من إغلاق الحواس الخطيرة التي يدخل علينا منها الشيطان.
انظر إلى المعاكسات التليفونية، هناك رجال ونساء اغتالهم الشيطان بالمكالمات، فبعض إخواننا الدعاة لا يردون على النساء أصلاً لهذا السبب، لأن هذا قد يؤلم القلب ويشغله، إنها مجرد فتوى أو حل مشكلة، لكن أنت لا تدري من على الطرف الآخر، كذلك في العمل تجد دائماً مديراً وسكرتيرة مثلاً، ولابد من عرض الشغل وتتأخر لكي تأخذ الشغل، وتبلغ الدياثة ببعض الناس أن الرجل الكوافير يدخل البيت مع المرأة إلى غرفة النوم وحدهم ليصفف شعرها، ووالله إن هذا موجود في بلادنا، وأن هذا الأمر عند بعض الناس شيء عادي، ولو كان الذي دخل رجل كريم كيوسف عليه السلام لخفنا منه، أليس هو الذي قال لربنا: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33]، هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم.
إذاً: استقرار المرأة استقرار للبيت أجمع، واستقرار المرأة لا يكون إلا برجوعها إلى بيتها وأولادها.
ونحن نقول للنساء: اتقين الله عز وجل ولا تكلفن الرجل أكثر مما يطيق، فالمرأة الوفية تجوع مع زوجها إذا جاع، والرسول عليه الصلاة والسلام لما سئل: ما حق زوج أحدنا علينا؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت).
وأول خطوة في صلاح جيل التمكين صلاح الأولاد، لكي يختصر جيل التمكين المسافة، وحتى نكون أوفياء في حق أمتنا، علينا أن نبدأ بإصلاح البيوت، ولابد للنساء أن يقمن بدورهن في ذلك، وبعض الناس لا يذهب إلى البيت بل يظل قاعداً على المقهى طوال النهار، لأنه لا يوجد ترابط بين الرجل والمرأة.
هل ممكن أن يخرج جيل التمكين من هذا الرجل والمرأة؟(30/6)
جهل بعض الدعاة والعلماء في فتاويهم بواقع الأمة
بعض الدعاة الذين يقولون: إن الوجه يجوز كشفه -بغض النظر عن الحكم والفقه في هذه المسألة- لم يفطنوا إلى مقصد هؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يصلوا إلى هدفهم، يقول لك: العالم الفلاني قال: إن وجه المرأة ليس بعورة، هم كانوا يسمعونه بالأمس ولا يستدلون به، لكن هذا العالم له صيت عند الجماهير فيخدعون الناس بالمكانة هذه، وبغض النظر عن الحكم الفقهي في المسألة، فإن هذه معركة كيان أمة، يريدون أن يذوبوه مرة أخرى، فلكي يستغلوا هذا، يحتجون بهؤلاء العلماء.
ونحن نقول للدعاة وللعلماء لابد من معرفة واقع الأمة في هذه الفترة، كذلك أنا متعجب من الذين يتكلمون عن الغناء أن له ضوابط، فيا ترى أي ضوابط يقصدون؟ إذا كنت تعلم أن المستفتي لا يراعي الضوابط؛ فأغلق عليه الباب، هل معنى إذا كان الغناء عفيفاً وشريفاً أنه يجوز، هل هذا اليوم موجود؟ غير موجود، هل الجماهير تلتزم بهذه الضوابط؟ لا تلتزم بالضوابط؛ لذلك كان ابن الجوزي معذوراً لما حذر على أبي نعيم عندما ألف كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.
لقد كتب حلية الأولياء عند شخص صوفي، فإذا بالصوفي يظن أن من المتصوفة: أبو بكر وعمر وأحمد بن حنبل وسعيد بن المسيب، فلا يجوز أن تقول: أحمد بن حنبل صوفي، إنما قل: أحمد زاهد، لو قلت صوفياً، أقول لك: ليس صوفياً، لماذا؟ مراعاة للاصطلاح.
وهذه الأيام عندما يأتي شخص -بعدما تفشى الغناء بمذاهب شتى- يقول لك: الغناء جائز بضوابط، لو أنك تعلم أن الجماهير لا تلتزم بالشرع؛ إذاً: هل يجوز لك أن تذكر الفتوى بهذه الضوابط التي لا تلتزم بها الجماهير.
فقه المفتي يقتضي عكس ذلك، أغلق عليه الباب، قال العلماء: لا تعطي الرخصة لرجل مستهين؛ لأنه سيتخذ الرخصة في غير مكانها، مثلاً: رجل جاء وقال: أنا أعمل في طلاء البيوت، ويدي تمتلئ بالطلاء، فيأتي يسألك هل يجوز أن أجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو تأخير، فأنت عندما تسمع في أثناء كلامه بعض الكلمات تجعلك تحجم عن إعطاء الفتوى والرخصة، وإذا جاء شخص وقال: أنا في العمل ولا أستطيع أن أصلي كل صلاة في وقتها فهل لي أن أجمع؟ فقال له المفتي: اجمع بين الصلاتين، إذاً: هذا أعطاه رخصة، فهو إذا كان صاحب فوضى لا يلتزم لا يلتزم بهذه الفتوى ولا بالرخصة.
ولا تقل: النقاب مستحب وإلا واجب -الآن- لأننا أصبحنا في مرحلة غريبة جداً، ولم يعد الكلام على الحكم هل واجب أم مستحب، الكلام أصبح على أصل النقاب، فعندما يأتي رجل ويقول: النقاب مستحب وصوت المرأة ليس بعورة، قد يأتي لك شخص ويقول لك: الشيخ فلان والشيخ علان قال: إن النقاب مستحب، وصوت المرأة ليس بعورة، ومما يؤكد أن القضية ليست مسألة حكم فقهي، وإنما يراد به إفساد المجتمع، تراه اليوم من حملات شرسة على الحجاب، وقضية تحرير المرأة.
ويروون قصة أن شخصاً يستدرج النساء ويقطع أيدهن ويأخذ الذهب، فلماذا يقطع أيديهن؟! لماذا لا يأخذ الذهب دون أن ينشغل بقطع اليد؟! فهذا كذب، والكاذب لا بد أن يترك أثراً تستدل به على كذبه؛ ولو وقع ما يدعونه، لبلغنا بالتواتر، وأنا أؤكد لكم أنكم تتعاملون مع أهل مكر وخديعة {يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19].
والرسول عليه الصلاة والسلام قال (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ اليهودي خلف الحجر فينادي الحجر يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله) وهم يختفون خلف شجر الغرقد لأنه من شجر يهود إذا اختبأ خلفه لا ينادي.
إذاً: لابد أن نرجع إلى ربنا؛ ليسخر الله عز وجل لنا من يعيننا على مهمة إعداد جيل التمكين، ولا يكون هذا الجيل إلا من الرضاع ولا يكون ذلك، إلا إذا كانت الأم نبيلة وكان الرجل نبيلاً، فلا بد لكل رجل أن يرجع إلى بيته، ويعلم الغاية من خلقه، ويسأل نفسه ماذا قدم لأمته؟ هل ربى أولاده التربية الحسنة؟ أخي الحبيب: إنك لا تدري متى يأتيك الموت فالموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل، فأعد للقاء ربك عز وجل، انصح الناس وإن كنت تعلم أنه لا فائدة، قلها كما قال القائلون من بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.(30/7)
علموا أولادكم حب الصحابة
إن الحديث عن أفضل أصحاب لأفضل نبي عرفته البشرية لأمر عظيم ومهم جداً؛ وما ذلك إلا لأن هؤلاء الأصحاب قد اختارهم الله عز وجل واصطفاهم لأن يكونوا أنصاراً لدينه، وأصحاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله عز وجل عليهم في غير ما آية، وبشرهم بالجنة، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عن سبهم وانتقاصهم.
وإن الواجب علينا نحوهم أن نقوم بنشر محاسنهم، وتبصير الناس بالدور الذي قاموا به في سبيل نشر دين الله، وإيصاله إلينا، والتضحيات العظيمة التي بذلوها من أجل إعزاز هذا الدين.
ومن الحقوق التي لهم علينا الدفاع عنهم، ودحض الشبهات التي يلقيها المبطلون للنيل منهم، فهم عدولنا وهم شهودنا، والطعن فيهم طعن في ديننا؛ لأنهم نقلة هذا الدين وحملته.(31/1)
منزلة الصحابة وخطر الطعن فيهم
الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن حديثنا عن جيل التمكين حديث طويل، ولا تتم النصيحة إلا إذا جلينا أمر العقبات التي تعترض هذا الجيل.
من أعظم العقبات التي ابتدعها أول طائفة مبتدعة في الإسلام وهم الخوارج، هي عقبة تحطيم الرأس، أناس بلا رأس لا قيمة لهم، ورأس المسلمين هم الصحابة، وأول بدعة في الإسلام -وهي بدعة الخوارج- قامت على تشويه سمعة الصحابة وتضليلهم، بل وتكفيرهم، وعدم الاكتراث بهم، هذه هي أول بدعة في الإسلام.
وهذه البدعة تطل برأسها منذ عدة سنوات، لكنها اشتدت ضراوة وخسة ونذالة في هذه الأيام.
في هذه الأيام وعلى صفحات الجرائد يتهمون الصحابة مثل عمر وعثمان وبقية الصحابة بأنهم كانوا مهتمين بالجنس، وأن مجالسهم كانت عن النساء! ثم يذكر هؤلاء الأنذال أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يتعمدون مخالفة الأوامر الشرعية، ويقولون: إن الله عز وجل حرم على الرجل أن يأتي امرأته في الحيض أو أن يأتي امرأته في دبرها، فيقول هؤلاء: إن عمر بعد هذا النهي فعل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر، وقال: حولت رحلي هذه الليلة.
قلت لكم: إنها زادت خسة هؤلاء، الصحابة يتكلم عنهم بهذا الكلام الفاسد على صفحات الجرائد؟! والمجرم الآثم الذي كتب هذا بيده يعود إلى بيته آمناً مطمئناً، غير مبال بشيء، أرأيت إلى الأغمار كيف يمزقون نسيج الأحرار؟! يُتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا هم لهم إلا النساء، أليس هذا من القذف الذي ينبغي أن يعاقب عليه فاعله؟! إذا حطمنا هذا الجيل فمن يبقى لنا؟ 1 نحن الآن نعيش على ذكرى هذا الجيل، وإذا استلهمنا الانتصارات واستلهمنا القوة فممن سنأخذها؟ سنأخذها من هذا الجيل، وليس هناك نقطة مضيئة في حياتنا إلا هذا الجيل.
هذا جيل ليس له نظير أبداً من حين خلق الله عز وجل آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نحن نقطع أنه لم يأت مثل هذا الجيل أبداً، ولم يرزق نبي أبداً بصحابة أوفياء أبرار أطهار مثل نبينا عليه الصلاة والسلام.
فهم الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وبذلوا الغالي والنفيس، وبذلوا المهج لله ورسوله، يكون من عاقبتهم أن يذكروا بهذا الإفساد؟!!(31/2)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سب أصحابه
إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه- بلغه أن خالد بن الوليد تشاجر مع عبد الرحمن بن عوف فسبه خالد، فقال عليه الصلاة لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما بلغت ملء كف أحد الصحابة ولا نصفه هذا الكلام موجه لمن؟ ليس لنا، هذا موجه لـ خالد، وخالد صحابي، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لـ خالد الصحابي: (لا تسبوا أصحابي).
خالد ما صفته؟ هو صحابي أيضاً، لكن الصحابة درجات، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لأن عبد الرحمن بن عوف من طلائع المهاجرين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل، ونصر دين الله في وقت عز فيه النصير؛ في حين كان خالد كافراً، وكان يحارب الله ورسوله، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى خالداً عن سب عبد الرحمن بن عوف، فمن باب أولى الذين أتوا من بعدهم فلا يجوز لهم أن يسبوا الصحابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي).
وهذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي! لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فيه نهي عام للكل.(31/3)
مقارنة بين جيل الصحابة وبين جيلنا في الثبات على الدين
تلقيت نبأً مفزعاً مروعاً، هذا النبأ عن سجين مصري، وأنا لن أتكلم هل هو ظالم أم مظلوم، جان أم مجني عليه؛ فهذا لا يهمنا.
هذا السجين أرسل رسالة إلى سعادة السفير الأمريكي، وذكر فيها أنه متخصص في فن نادر وفي علم نادر، وأن أمه مريضة تحتاج إلى كلية، وليس معه ثمن الكلية، فجاء إلى هذا البلد ليحصل على الثمن، قال: وبينما أنا في الطريق، اعتقلوني وأودعوني السجن بلا تحقيق.
ثم قال هذا السجين المصري: سعادة السفير! أريد أن أتنصر لكي يخلصني يسوع الرب مما أنا فيه، ولكي أشرح للعالم الأكذوبة العظيمة التي هي الإسلام! مدة سجنه إلى تاريخ كتابة الرسالة: خمسة وثلاثون يوماً فقط، لم يمض على سجنه إلا خمسة وثلاثون يوماً فقط، ويريد أن يتنصر، وهذا الرجل -كما يقول عن نفسه- متخصص في فن نادر، لكنه جاهل بجزئيات الإسلام، الأمية الدينية منتشرة في صفوف الدكاترة والأساتذة الكبار فضلاً عمن دونهم، خمسة وثلاثون يوماً فقط في السجن، ومن أجل أن يخرج منه يعرض عليهم الدخول في النصرانية مقابل الخروج.
لو أن هذا الرجل لبث خمسة وثلاثين ثانية في سجِّين لم يتحمل، إنه يريد بتنصره أن يسجن نفسه سجناً مؤبداً، ويظن أنه بكفره وتنصره يستطيع أن يتحمل النار، هو بذلك يريد أن يفر من سجن في الدنيا، مع أنه يأكل فيه ويشرب وينام، هذا النمط له نظائر كثيرة.
إذاً: من أولى بالذم؟ من أولى أن يتكلم عليه؟ أهؤلاء الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل؟ أم الصحابة الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله سبحانه وتعالى، وضحوا من أجل إعزاز دين الله عز وجل؟! فهذا كعب بن مالك من أشراف الصحابة، ولكن هناك من هو أشرف وأعظم منه: كـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وتمام العشرة، فهذا موقف كعب بن مالك من رسالة ملك غسان، لقد قام بإحراقها، وهذا يرضى بالكفر! إن أخطر شيءٍ يهدد العبد المعصية، وعلى رأس المعاصي جميعاً الكفر، قال الله عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، لكن هناك سيئة واحدة تذهب كل الحسنات وهي الشرك.
دخل إبليس النار لأنه خالف أمراً واحداً، وخرج آدم من الجنة لأنه عصى وخالف أمراً واحداً، وتقطع يد السارق في ثلاثة دراهم، ويرجم الرجل المحصن إذا توارت حشفته في فرج امرأة لا تحل له، فما يؤمنك أن تدخل النار بذنب واحد؟! ما يؤمنك لاسيما إن كان على رأس هذه الذنوب الشرك؟! هذا نمط ونموذج.
وفي الجامعة مدرس يسب أبا هريرة، ويكتب على صفحات المجلات تكذيباً لـ أبي هريرة وطعناً عليه، وهذا الرجل، زال في منصبه، ويدرس الطلبة! تُكَذِّبُ الصحابة ونحن أحياء، وفينا عين تطرف! كل رجل يرجع إلى أهله وإلى أولاده، يغرس فيهم حب الصحابة، وأن الدفاع عن هذا الجيل فريضة؛ لأن حب الصحابه فريضة، واعلم أنك لست في مأمن، لست في مأمن.
لقد قرأت في مذكرات الشيخ علي الطنطاوي أحد مشايخ سوريا: يقول في سنة ثمانية وأربعين حين دخلت إسرائيل القدس، ومررنا على التجار نجمع الأموال لشراء السلاح، قال: فذهبت إلى تاجر كبير، وعرضت عليه القضية، قلت له: نحتاج إلى مال فأبى، وقال: أنا مديون، أنا ما لي وما للسياسة، ما لي وما للسلاح.
بعد سنتين أو ثلاث، قال الشيخ الطنطاوي: فكنت أوزع على اللاجئين في الخيام، فوقعت عيني على رجل لما رآني توارى، فلمحت وجهه، فكأني رأيته قبل ذلك، فذهبت خلفه، فلما رأيته عرفته، إنه ذلك التاجر الذي أبى أن يدفع المال لشراء السلاح، فلما واجهته بكى وقال لي: يا ليتني أعطيتك كل مالي، لقد صار هذا التاجر لاجئاً، خسر تجارته وصار لاجئاً، ماذا فعل بها؟ ماذا عمل؟ لا تتصوروا أنه إذا طعن في الصحابة وامتُهنوا، ومزقت أعراضهم؛ أنكم في مأمن، أليس هؤلاء هم الذين أثنى الله عليهم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه؟ أليس هؤلاء الذين قال الله فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]؟! وكل نداء في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) هم المخاطبون به أولاً، لأن الخطاب وجه إليهم ابتداءً.(31/4)
نماذج من ثبات الصحابة على الدين
إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه- بلغه أن خالد بن الوليد تشاجر مع عبد الرحمن بن عوف فسبه خالد، فقال عليه الصلاة لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما بلغت ملء كف أحد الصحابة ولا نصفه هذا الكلام موجه لمن؟ ليس لنا، هذا موجه لـ خالد، وخالد صحابي، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لـ خالد الصحابي: (لا تسبوا أصحابي).
خالد ما صفته؟ هو صحابي أيضاً، لكن الصحابة درجات، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لأن عبد الرحمن بن عوف من طلائع المهاجرين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل، ونصر دين الله في وقت عز فيه النصير؛ في حين كان خالد كافراً، وكان يحارب الله ورسوله، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى خالداً عن سب عبد الرحمن بن عوف، فمن باب أولى الذين أتوا من بعدهم فلا يجوز لهم أن يسبوا الصحابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي).
وهذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي! لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فيه نهي عام للكل.
عندما أطالع هذه المحن يحز في نفسي أن جيل الصحابة لا يجد من ينتصر له، مع أنهم نقطة الشرف الوحيدة في حياتنا، فتوليهم واجب، ونصرتهم ومحبتهم واجبة، ومع أنه يحز في نفس كل حر، لكن من المحن تأتي المنح، إن الله تبارك وتعالى ذكر في آيتين من كتابه المجيد معنى هذه المقولة: (من المحن تأتي المنح)، وكلتا الآيتين جاءتا في سياق الجهاد والحرب، وهي قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، هاتان الآيتان جاءتا في سياق الجهاد والدفع.
ومعنى الآيتين: أنه إذا ظهر صاحب الباطل وأظهر باطله، فإن على أهل الحق أن يتصدوا لهذا المبطل وباطله ويدفعوه بالحق.
ولولا طعن هؤلاء في الصحابة ما نشرنا فضائل الصحابة، ولا بالغنا في الدفاع عنهم، واستفرغنا كل جهد في تبرئة ساحتهم، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى ليكون ذلك سبباً في الدفاع عنهم، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، فهذا من الأسباب.(31/5)
غرس حب الصحابة ونشر محاسنهم واجب شرعي
عندما أطالع هذه المحن يحز في نفسي أن جيل الصحابة لا يجد من ينتصر له، مع أنهم نقطة الشرف الوحيدة في حياتنا، فتوليهم واجب، ونصرتهم ومحبتهم واجبة، ومع أنه يحز في نفس كل حر، لكن من المحن تأتي المنح، إن الله تبارك وتعالى ذكر في آيتين من كتابه المجيد معنى هذه المقولة: (من المحن تأتي المنح)، وكلتا الآيتين جاءتا في سياق الجهاد والحرب، وهي قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، هاتان الآيتان جاءتا في سياق الجهاد والدفع.
ومعنى الآيتين: أنه إذا ظهر صاحب الباطل وأظهر باطله، فإن على أهل الحق أن يتصدوا لهذا المبطل وباطله ويدفعوه بالحق.
ولولا طعن هؤلاء في الصحابة ما نشرنا فضائل الصحابة، ولا بالغنا في الدفاع عنهم، واستفرغنا كل جهد في تبرئة ساحتهم، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى ليكون ذلك سبباً في الدفاع عنهم، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، فهذا من الأسباب.
يجب أن نقرأ فضائل الصحابة من كتب السنة، ونعلم أولادنا حب الصحابة، فحبهم واجب وفريضة أكيدة.(31/6)
الذين يطعنون في الصحابة وما يرمون إليه
والله الذي لا إله غيره! أحلف بالله -وأنا بار راشد إن شاء الله- أن هؤلاء الذين يطعنون على الصحابة لو وجدوا سبيلاً إلى الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم لم يترددوا.
لقد طعنوا على الله عز وجل، وسبوه على صفحات الجرائد.
لما تكلموا عن النعجة (دوللي)، وكيف تم استخراج النعجة من الخلية الحية، قالوا بالنص -وناقل الكفر ليس بكافر ونعوذ بالله من الكفر-: هذا حدث أعظم من ميلاد المسيح!! أي أن العباد استطاعوا أن يفعلوا ما لم يفعله الله، فالله عز وجل خلق المسيح بغير أب، هذه نعجة بلا أب ولا أم، وإنما هي من خلية هذا كفر أم لا؟! وهو موجود، ثم شنوا حملة على رجال الدين قبل أن يتكلموا فقالوا: وبعد عدة أيام سنسمع المتحجرين الذين يقولون: هذا حرام، ويحرمون الإبداع!! انظر كيف يُسب الله سبحانه وتعالى على صفحات الجرائد! فلو وجد هؤلاء الذين يطعنون في الصحابة سبيلاً إلى الطعن على النبي عليه الصلاة والسلام صراحة ما ترددوا، ولقد غمزوه على صفحات الجرائد أيضاً، فقد كتبوا على صفحات الجرائد صفحة كاملة بعنوان: (هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟!) أهذا كلام يكتب عن النبي عليه الصلاة والسلام؟!! ونحن نعتذِر إلى الله حتى لا تلحق بنا المصائب ونُهلك جميعاً، معذرةً إلى الله عز وجل فهاهو طوفان من الكفر موجود على صفحات الجرائد يا جماعة! علموا أولادكم الولاء لله ولرسوله وللصحابة أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(31/7)
تولي الصحابة والتأسي بهم واجب شرعي
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام: هذا شأن المحب: إذا وجد من يفتري على حبيبه، وكان عاجزاً عن القصاص، فلا أقل من أن يجود بالدمع، هذا أقل برهان على الحب في حال العجز.
نحن نبرأ إلى الله عز وجل من الطعن في أوليائه الذين زكاهم ورفع منارهم، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتأسى بهم وأن نتولاهم.
والله الذي لا إله غيره! أن أبا بكر وتمام العشرة أحب إلي من أبي ومن أمي ومن ولدي، وهكذا يجب أن يكون هؤلاء بالنسبة لنا جميعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت).
؛ فمكة هي أحب أرض الله إلينا وإن لم نكن من أهلها، لأنها أحب الأرض إلى الله، وما كان حبيباً إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون حبيباً إليك أيضاً، إذا كنت تحب الله عز وجل وتعظمه، فقاعدة الولاء والبراء تقول: حبيب حبيبي حبيبي، وعدو حبيبي عدوي، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، هذه قاعدة الولاء والبراء، علموا أولادكم حب الصحابة.(31/8)
من مستلزمات حب النبي صلى الله عليه وسلم حب الصحابة
روى الإمام الترمذي في سننه -وحسنه- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الله الله في أصحابي! -أي: اتقوا الله في أصحابي- لاتتخذوهم غرضاً) والغرض: هو مرمى السهام، أي لا تجعلوهم مرمى لسهامكم وطعونكم، فانظر إلى هؤلاء وإلى مخالفتهم للنبي عليه الصلاة والسلام! وكيف أنهم جعلوا الصحابة غرضاً وهو يقول لهم: اتقوا الله -أو نشدتكم الله عز وجل- في أصحابي (لا تتخذوهم غرضاً من أحبهم فبحبي أحبهم) هذا هو الشاهد (من أحبهم فبحبي أحبهم) أي: لا يحبهم إلا إذا كان محباً لي، وصدق الإمام مالك رحمة الله عليه لما قال: إن الذين يشتمون الصحابة إنما أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يقولوا: هو رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لقُيّضَ له أصحاب صالحون!(31/9)
مقارنة بين موقف اليهود والنصارى وبين موقف الروافض تجاه أصحاب أنبيائهم
إن النصارى واليهود أفضل من الروافض بخصلة، اليهودي والنصراني أفضل من الرافضي بخصلة، الروافض الشيعة -غلاة الشيعة والذين هم شيعة إيران- يستفتحون نهارهم بسب أبي بكر وعمر وابنتيهما، والخميني له دعاء في سب أبي بكر وعمر في الصلاة! فماذا يقول الذين باركوا ثورته، والذين نشروا فضائله ولا فضل له، وتجدهم يقولون: التقريب بين الشيعة والسنة؟! هؤلاء الروافض كما قال الشعبي عامر بن شراحيل رحمه الله: (اليهود والنصارى -وهذا كلام الشعبي - أفضل من الروافض بخصلة، قيل لليهود: من أفضل الناس؟ قالوا: أصحاب موسى.
وقيل للنصارى: من أفضل الناس؟ قالوا: أصحاب عيسى.
وقيل للروافض: من شر الناس؟ قالوا: أصحاب محمد)!.
رجل في مدينة قم -الشخصية الثانية أو الثالثة في الثورة الإيرانية- كتب تعليقاً على كتاب ابن الجزري الذي هو بعنوان: أسمى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب، كتب في حواشي الكتاب أن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق ما عدا ستة، وأول المنافقين حسب زعمه - أبو بكر وعمر، ثم جاء بالحديث الذي في البخاري ومسلم حديث مقتل عمر، وأن الناس دخلوا عليه يهنئونه بالشهادة، ويبشرونه برضا النبي عليه الصلاة والسلام، ورضا أصحابه، وأدائه للأمانة، فقال عمر من جملة ما قال: ليتني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي، والله لو كان عندي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله يوم ألقاه.
عمر يقول هذا الكلام مع عدله وقوته وحزمه في الدين، فهذا الكلام يجلله الورع، وإن المرء يستصغر نفسه حين يقرأه إذا علم سيرة عمر فيقوم هذا المخذول الخاسر الضال ويعلق على هذا الكلام ويقول: هذا كلام رجل يائس من النجاة، يعلم أنه من حطب النار! انظر إلى قول هذا الضال العاصي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم! إن الروافض شر من وطئ الحصا من كل طائفة ومن إنسان مدحوا النبي وخونوا أصحابه جدلان عند الله منتقضان (فمن أحبهم فبحبي أحبهم)، انشروا محاسن الصحابة في بيوتكم، وعلموا أولادكم أسماءهم، وتحدثوا عن بطولاتهم وتضحياتهم، ليس لكم مثلٌ إلا هؤلاء، وهم أحد ركائز الإيمان المنجي من الضلال، فالمنهج الحق في قوله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
لذلك كانت ركائز منهج أهل السنة والجماعة: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وهذا القيد الأخير هو الذي يميز منهج أهل السنة عن كل المناهج المبتدعة، كلهم يقولون: الكتاب والسنة ويقفون، ولذلك ضلوا لما أخذوا الكتاب والسنة بأفهامهم، إنما هذا القيد الثالث هو الذي يميز منهج أهل السنة والجماعة عن مناهج المبتدعة، وهو الأخذ بفهم السلف الصالح.(31/10)
خطر القدح في رموز الإسلام
قد ذكرت في مرة سابقة أن هناك حرباً سافرة فاجرة تبغي تحطيم الرءوس والرموز والعناوين، وأقول: سافرة؛ لأنها ظهرت بلا حياء على صفحات الجرائد والمجلات، وتنال من أعز جيل شهدته الدنيا وهم الصحابة، إنهم لم يصلوا إلى الصحابة دفعة واحدة، إنما غمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا أن الجماهير غافلة ولم تتحرك، وغبية لم تفهم؛ تطاولوا على الصحابة.
فهذا يكتب كما ذكرت قبل قليل تحت عنوان: (هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟!) لا زال هذا العنوان كلما تذكرته كأن أحداً يذبحني، مات بالزائدة الدودية؟! ينالون منه صلى الله عليه وسلم ويغمزونه.
وفاجرة أخرى تنال منه صراحة، وتقول لمعشوقها: وأنا بين أحضانك كأنني زرت قبر النبي عليه الصلاة السلام! تقول هذا القول ولا تحاكم، ولا يحاكم أحد، ولا يُسأل أحد! لقد أصبح النيل من الصحابة مسألة هينة، ثم إن هؤلاء ينالون من العلماء، فهذا كتاب منشور اسمه (علماء الإسلام والجنس) هكذا! لا حرمة لأحد عندهم؛ فقد تجرءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فمن عداهم من باب أولى، ويأتي الساقط مؤلف الكتاب برواية مكذوبة وراويها فاجر كذاب هو أبو الفرج الأصفهاني في كتاب: الأغاني، هذا رجل فاجر كذاب شعوبي يكره العرب، والذي يكره العرب يكره الإسلام؛ لأنهم حملته؛ وهم الذين بلغوه إلى الدنيا، ولقد أجمع كل من ترجم له أنه كان قذراً في شكله لا يغتسل، وكان بذيء اللسان، هتك عرض المحصنات المؤمنات الغافلات في هذا الكتاب، وأجرى على ألسنتهن من الكفر والعهر ما تتنزه عنه أحط امرأة على وجه الأرض.
وهاهو ينقل أن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله - طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة- يجري على لسانها من الكلام الساقط البذيء ما لا تستطيع أي زوجة أن تقوله لزوجها في السر ما المقصود من هذا الكلام؟! ويذكر أبيات العشق الكاذبة على لسان سعيد بن المسيب، والشافعي، ومالك، وأن هؤلاء العلماء كانوا يتغزلون بالنساء! ويأتي هذا الكاتب بكل هذا الخبث ويجمعنه في كتاب بعنوان: (علماء الإسلام والجنس)!! يعني: أن هؤلاء لا حرمة لأحد عندهم، إذا جاز أن يتكلم عن العلماء بهذه الصورة فلا حرمة لأحد، أين علماؤنا يردون عنا هذا الخبث، ويرحمون الجماهير، ويبينون الكذب؟! إن جمعية الرفق بالحيوان لها كلمة، وتستطيع أن تمضي كلامها ورأيها، فأين هيئة كبار العلماء؟! صرنا كالأيتام على موائد اللئام، ونحن في وضعنا هذا حقيقون فعلاً بالأبيات التي قالها أحد شعراء بلعنبر، وافتتح بها أبو تمام ديوان: الحماسة، وهذا الشاعر كان له إبل فسُرقت وسطا عليها لص، فاستنهض قومه ليردوا عليه الإبل، لكن قومه ضعاف، فتوجع الرجل وقال: لو كنت من قبيلة مازن لردوا علي إبلي، وقال: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لانا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زرافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا ورع في غير محله، لو أنني كنت من هذه القبيلة القوية لانتقموا لي ولردوا علي إبلي! صرنا كالأيتام على موائد اللئام، وكل يوم نطالع هذا الطفح.(31/11)
مكانة العلماء في الإسلام
إن العلماء هم خط الدفاع الأول عن هذه الأمة، لو أصيب هذا الجهاز المناعي للأمة المسلمة لفتك بها أقل مرض، إن مريض (الإيدز) لو أصيب (بالأنفلونزا) يموت بسبب ضعف أو موت الجهاز المناعي، فإذا نحن قبضنا أيدينا وسكتنا والسهام توجه إلى هذا الجهاز المناعي، ونقف موقف المتفرج؛ فإن هذه الأمة ستضيع.
لكن المحنة مؤجلة عند الجماهير الغافلة، لا تحس بحجم المحنة إلا إذا فقدت العالم، إذا فقدته أحست بالمحنة، لكنهم لا يشعرون به وهو بينهم، ولا يدفعون عنه وهو سر حياتهم! فهذا ابن حزم أحد العلماء المشهورين، وكان من أذكياء العالم، واستطاع أن ينشر مذهبه وحده في الأندلس، وكان عامة أهل الأندلس مالكية، وابن حزم ظاهري المذهب، فاستطاع -وهو بمفرده- أن يجعل الأندلس ظاهرية، فقامت عليه الحرب، وشُرد وأحرقت كتبه، فكان له أبيات يتوجع فيها، أن الناس لا تقدره حق قدره، وأنه لو ترك الأندلس وخرج إلى المشرق، لتوجع الناس وأحسوا بفقده، فقال في أبيات طويلة: أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب ولو أنني من جانب الشرق طالع لجد على ما ضاع من ذكري النحب ولي نحو أكناف العراق صبابة ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم فحينئذ يبدو التأسف والكرب هنالك يدروا أن للبعد قصة وأن كساد العلم آفته القرب يقول: لو أنني تحولت إلى المشرق حينئذ لتأسفوا وأحسوا بفقدي، ويقول: وما فساد العلم وكساده وآفته إلا بسبب قربه منهم.(31/12)
الرد على تكفير الخوارج للصحابة (مسألة التحكيم)
إن أول من ابتدع حرب تحطيم الرموز في هذه الأمة هم الخوارج، فهم الذين كفروا الصحابة وضللوهم، وقالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فقال علي بن أبي طالب: كلمة حق يراد بها باطل.
إن أولى الناس بإقامة حكم الله عز وجل هم الذين شاهدوا نزول القرآن، وهم الذين قاتلوا على تنزيله وتأويله، وهم الذين فارقوا الأهل والأولاد والأموال في سبيله، هؤلاء هم أولى الناس بالحفاظ على القرآن وفهم القرآن، أما قولهم: إن الحكم إلا لله، فهذه دعوى كاذبة ظاهرها حق وباطنها الضلال المبين.
لا حياة للناس بلا رأس، كالجسد لا يحيا بلا رأس، ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله! حيث قال: ستون سنة بإمام جائر أفضل من سنة بلا إمام، أي: لو أن إماماً ظالما جائراً فاجراً حكم الناس ستين سنة، كان أفضل من أن يظل الناس سنة واحدة بلا إمام؛ لأن هذا الرجل وإن كان فيه فساد، لكنه في النهاية رأس واحد، وسيمضي طغيانه وبغيه على الناس، وستستكين الجماهير الغفيرة له، ويخشون بأسه وسطوته وسلطانه، فلا يظلم بعضهم بعضاً لئلا يدخلوا تحت قانونه، إذا بقي الناس بلا رأس كل واحد رأساً.
إلى هذا الحد يكون الرأس ضرورة، وإذا غاب هذا الرأس غاب الجسد، وكما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً -وفي الرواية الأخرى: حتى إذا لم يبقَ عالمٌ- اتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا).(31/13)
مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانة أصحابه
رأس المسلمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان الاختلاف في عصره قليلاً جداً، وكان هذا الاختلاف ينتهي بمجرد العرض على النبي عليه الصلاة والسلام.
لذلك قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه -كما رواه الإمام مسلم وأحمد في مسنده: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فقلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أجلسكم؟ قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، فقلنا: لو صلينا معك العشاء! قال: أصبتم -أو قال: أحسنتم- ثم نظر إلى السماء -وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء- ثم قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
هذه حقيقة الرءوس، يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أمنة لأصحابي) فكل خلاف إليه يرد، والكل يسلِّم إذا جاء الخبر من النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يخالفونه في دقيق ولا جليل، وكانوا يخافون مخالفته في أدنى شيء، فهم معظمون لأمره، مجتنبون لنهيه؛ لأنه لا أعز منه عندهم، ونحن يجب علينا أن نوالي ونعادي على حبه واتباعه.(31/14)
نماذج من تعظيم الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
مر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه بقريب له يخذف بالحصى، فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: (إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) حين ترمي حصاة أنت لا تكيد بها عدواً ولا تصيد صيداً، لكن إذا وقعت في عين رجل فقأتها، وإذا وقعت على سن رجل كسرتها، قال: فعاد فقال: (أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف لا أكملك أبداً).
بيوتنا مليئة بالمخالفات، أركان الإسلام في بعض بيوتنا غير موجودة، الولد لا يصلي، ومع ذلك الوالد لا يمكن أن يأكل حتى ينادي الولد ليأكل معه، مع أنه لا يصلي، ولا يسأله: لمَ لم تصل؟ فتراه يؤاكله ويشاربه كأن لم يكن هناك شيء.
الصحابة لا نظير لهم في الاتباع، كما قال الشاطبي رحمه الله: كانوا إذا تلقوا الأوامر سارعوا إلى تنفيذها، ولا يسأل أحدهم: أهذا واجب أم مستحب؟ إنما إذا سمع الأمر بادر إلى الامتثال؛ لأنهم فقهوا القرآن، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فنفى ربنا تبارك وتعالى الإيمان عن الذي يبلغه كلام النبي عليه الصلاة والسلام ولا يحكِّمه، فهذا ليس بمؤمن، نفى الله عنه الإيمان.
ونزلت هذه الآية في واقعة حدثت بين اثنين من المحبين للنبي عليه الصلاة والسلام، بين الزبير بن العوام ورجل من الأنصار، وكان لهما أرض، وكانت أرض الزبير أعلى من أرض الأنصاري، فأراد الزبير أن يسقي أرضه، فقال له الأنصاري: لا، حتى أسقي أرضي.
قال له: أرضك في الأسفل، وأرضي في الأعلى، وأنا أولى بأن أسقي قبلك.
فأبى، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للزبير بن العوام: (اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك) هذا هو مقتضى العدل: أن يسقي الرجل التي أرضه في العالي؛ حتى يضمن وصول الماء إليها، (اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: أن كان ابن عمتك! -أنت حكمت له لأنه ابن عمتك- فتلون وجه النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء -لا ترسله إليه- قال الزبير: فأحسب أن هذه الآية نزلت فينا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]).
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا أمنة لأصحابي) فإنه في حال وجوده عليه الصلاة والسلام لم تظهر البدع ولم يظهر الكفر بعد الإسلام، فبمجرد أن مات أتى أصحابه ما يوعدون، وارتدت العرب، ودخل الصحابة بهذا الدين البكر في قتال عنيف، وقتل خلق من الصحابة في القتال مع مسيلمة الكذاب، ثم استتب الأمر، وما زال الصحابة يموتون والفتن تطل برأسها حتى قتل عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب الذي لم يغلق حتى قيام الساعة، وقتل عثمان، وقتل علي بن أبي طالب، ثلاثة من الراشدين يقتلون! وادلهمت الخطوب والفتن، وأطلت الفتن برءوسها، وظهرت بدعة القدر في آخر عهد الصحابة، وما زالت البدع تأتي كالسيل المنهمر، فأتى الأمة ما يوعدون، أتى الأمة ما يوعدون بموت الصحابة رضي الله عنهم، وكان البلاء -على الرغم من عظمه- خفيفاً، تعرفون لماذا؟ لكثرة العلماء الذين ردوا على هؤلاء المبتدعة، وكان لهم في نفوس العوام جلالة وكان لهم قدر، فإذا تكلم العالم الرباني استمعت له العوام، وأعطت قلبها له، لكن اشتدت علينا المحن حين جاءت جيوش المبتدعة ولم يكن عندنا فرسان يقاومون هؤلاء؛ فعظمت علينا المحنة من الجهتين: كثرة البدع، وقلة العلماء الرادين عليها.
لذلك موت العالم ثلمة في جدار الإسلام، ووجود العالم ضرورة، لو أن طاعوناً فشا في بلد لا يوجد فيه طبيب لأحس الناس بفقد الطبيب، فنحن نهيب بالجماهير أن تجعل الإسلام قضية، ألا يجعلوا الإسلام وظيفة، شيء ورثوه عن آبائهم، ينبغي أن يكون الإسلام قضية يطرح في البيوت، وأن يناقش بين الرجل وامرأته وأولاده مثلما يناقش رغيف الخبز، فإن دين الله أعز.
الحرب على الإسلام ورموزه في الجرائد على أشدها، وقلت لكم: إنهم طعنوا على الله عز وجل في الشهر الماضي لما قالوا: إن آلة الاستنساخ أعظم من ميلاد المسيح، أي أن ما فعله البشر أعظم مما فعله الله عز وجل! وصار خلق الله عند هؤلاء الزنادقة المارقة أمراً عادياً جداً.
فنقول لهم: قد أخذتم خلية صنعها الله عز وجل، فهل تقدرون على خلق الخلية؟! سلمنا أنكم فعلتم ذلك فمن أين أخذتم الخلية الحية؟! ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو نعمة باهرة وقدرة مقتدرة أيها الإخوة الكرام: معرفة حياة الصحابة صارت ضرورة، ومن نعمة الله تبارك وتعالى أن جاء بجهاد الدفع، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه.
قيل لـ عائشة رضي الله عنها: ألا تنظرين إلى الذين يسبون أبا بكر وعمر؟ قالت: وما يعجبكم من ذلك؟! قطع الله عنهم العمل فأحب أن لا يقطع عنهم الأجر، وما يعجبكم من ذلك؟! المواقف الجسام التي مرت على هؤلاء الصحابة تدلك على مدى عقلهم وحلمهم وعلمهم بالله تبارك وتعالى، هل في هذه الأمة رجل يزن سعد بن معاذ؟! وسعد ليس بأفضل الصحابة، إنما هو من أفضلهم، رجل يوم مات اهتز له عرش الرحمن، فما قدر هذا الرجل؟! عبد لله عز وجل يهتز العرش له يوم يموت!! السماوات والأرض بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يهتز هذا العرش لموت عبد! سبحان من لا يعلم مقدار خلقه إلا هو! إن هذه الأمة مليئة بالعظماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب) المسلمون نجوا من هذا المقت، أما الصحابة فتفردوا بالرضوان، وكان لهم من المناقب ما لم يكن لصحابة نبي أبداً، فيأتي هؤلاء الأنذال ويتكلمون عليهم ويلمزونهم.(31/15)
مكانة الأمة أيام الصحابة ومكانتها الآن
الصحابة فتحوا الدنيا وصارت لهم دولة في عشر سنوات، وأنتم قد صار لكم قرن من الزمان لم تستطيعوا إرجاع قلامة ظفر من الخلافة الضائعة، المسلمون الآن مستضعفون، ولا قيمة لهم في ميزان الدنيا، بينما الرجل الأمريكي إذا جرح سهواً في أي زاوية في العالم تهتز له الدنيا.
في بعض البلاد العربية حدثت واقعة وأنا هناك: رجل يمني معه جنسية أمريكية، وهذا الرجل اليمني خالف إشارة المرور، وكان هناك دورية شرطة فتتبعوه وقبضوا عليه، فقالوا له: من أين أنت؟ فكلمهم بالعربي: أنا من اليمن من حضرموت.
فقالوا: هات الرخصة، وبدءوا يعاملونه بوقاحة وشدة، عندما عاملوه بوقاحة قام وتكلم معهم بالإنجليزية مباشرةً، وأخذ منهم الجواز الأول، وأعطاهم الجواز الأمريكي، واستمر يخاطبهم بالإنجليزية، وطلبوا منه أن يتكلم بالعربية كما كان، لكنه رفض.
قام استدعى السفير الأمريكي بتلفونه السيار، وجاء السفير، واعتذر ضابط الدورية، مع أن هذا الرجل اليمني ينبغي أن يعاقب، وهم يعرفون أنه عربي يمني، لكن عندما أخرج الجنسية الأمريكية صار صاحب منعة وقوة.
والمسلمون بالمئات يموتون في كل بلاد العالم، حتى إن أحط فرقة وهم عبدة البقر، قاموا وانتزعوا من المسلمين في الهند المسجد وحولوه إلى معبد، ولا صريخ ولا مغيث؛ لأنهم لا يزنون شيئاً على وجه الأرض في ميزان الدنيا، لذلك الرجل المسلم صاحب المهارات والقدرات العالية تراه يذهب إلى بلادهم، ويتمنى أن يصادقه أمريكي أو إنجليزي أو فرنسي أو ياباني، ويفتخر ويقول: أنا صديقي فلان، برغم أنه قد يكون أعلم من هؤلاء، لكنه رأى أنه ينتمي إلى أمة ضعيفة مما جعله لا يفتخر بها، والسبب الرئيس الدافع له على ذلك هو ضعف الإيمان بالله عز وجل.
لكن انظر إلى التاريخ البعيد إلى أيام المعتصم تلك الواقعة المشهورة وهي: أن رجلاً نصرانياً لطم امرأة مسلمة فقالت: وامعتصماه!! ورجل لا يربطه بالمرأة نسب، وإنما الرابط بينهما الدين، تأخذه النخوة التي استمدها من دينه ومن العز الذي كان المسلمون يعيشون فيه، فيقول: لأبلغن المعتصم، ويرحل إليه ليل نهار، حتى دخل على المعتصم وكوب الماء في يد المعتصم فقال: ما حاجتك؟ فحكى له ما حدث لتلك المرأة المسلمة من ذلك العلج النصراني، فوضع المعتصم كوب الماء على المنضدة ولم يشربه، وقال للساعي: احتفظ بهذا الماء حتى آتيك، كأنه ذاهب إلى مكان قريب.
وجرد الجيش العرمرم، وغزا تلك البلدة وفتحها، وأوسعهم قتلاً وتشريداً من أجل امرأة مسلمة لطمها علج نصراني، والرجل الذي ذهب إلى المعتصم، رجل مجهول لا نعرف اسمه ولا نسبه، وكذلك لا نعرف المرأة التي قالت: وامعتصماه! لكنهما كانا ينتسبان إلى أمة قوية، إلى أمة عزيزة؛ لذلك عز جانبها؛ فعز أفرادها.
إذاً ما هذا العقوق لجيل الصحابة؟! وكيف لا يكون للجماهير ردة فعل بأن تشجب وتستنكر تلك المطاعن؟! ففي سنة (1977م) عندما ارتفع سعر الخبز من نصف قرش إلى قرش، والكيلو السكر من ستة عشر قرشاً إلى أربعين قرشاً اشتعلت القاهرة، وقاموا بتحريق المرافق العامة التي ينتفعون بها، حرقوها وفعلوا كل شيء من أجل رغيف خبز، بينما يطعن في صحابة رسول الله ولا نحرك ساكناً!! نحن نقول لكم: ينبغي أن يكون هناك ردة فعل عاجلة، اكتبوا واستنكروا هذا أقل ما للصحابة في أعناقنا، فهذا الدين لم يصل إلينا إلا على دمائهم وأشلائهم، فقد ضحوا بكل غال ونفيس حتى وصل إلينا هذا الدين.(31/16)
دفع الأبناء لتعلم العلم الشرعي
ينبغي أن يكون في كل بيت ولد ينذره أبوه لتعلم العلم الشرعي؛ فلو أن كل بيت أخرج لنا رجلاً واحداً لتغير حالنا إلى الأفضل، ولصارت لنا مكانة وهيبة.
ربوا أولادكم لدحر أهل الباطل كما ربى الله تبارك وتعالى موسى لفرعون، وكان الله عز وجل قادراً على أن يأخذ فرعون، لكن ليعلمنا الصبر، وهذه سنة الدفع، فقد صبر بنو إسرائيل على العذاب الأليم من فرعون حتى كبر موسى عليه السلام، ثم أغرق الله عز وجل فرعون.(31/17)
ذكرى للمؤمنين
أيها الإخوة الكرام: جلس عون بن عبد الله بن عتبة مع عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقص عليه حكاية، قال فيها: بنى ملك مدينة، وصنع طعاماً ودعا الناس إليه، ثم بث في الناس عيونه وأوقفهم على الأبواب، فكلما دخل رجل ونظر إلى المدينة سألوه وهو خارج: هل رأيت عيباً؟ فيقول: لا، حتى جاء في أخريات الناس قوم أصحاب أكسية -أي: قوم من الزهاد، ومعنى أكسية: ملابس مرقعة- فطعموا، فلما خرجوا سألوهم: هل وجدتم عيباً؟ قالوا: وجدنا عيبين، فأخذوهم إلى الملك، فقال لهم الملك: هل وجدتم في مدينتي عيباً؟ قالوا: وجدنا عيبين: أما العيب الأول: فإنها تخرب، والعيب الثاني: أن بانيها يموت.
فقال لهم الملك: وهل هناك دار لا تخرب ولا يموت بانيها؟ قالوا: نعم، الجنة، فقال: خذوني معكم، وانخلع من ملكه وسار معهم.
فلما سمع عمر بن عبد العزيز ذلك، ارتعدت أركانه، ووقع الكلام منه موقعاً عظيماً، وهم أن يخلع نفسه من الخلافة، فعلم ابن عمه مسلمة أنه يريد أن يترك الخلافة، فجاء فناشده الله، قال: لو تركت الخلافة لاقتتلوا عليها ولوقع شر في الأمة.
قال: ماذا أفعل حمِّلت ما لا أطيق؟ فجعل مسلمة يراجعه حتى سكن.
إنها الجنة التي ينبغي أن يعمل لها العاملون، ينبغي أن نضحي في سبيل الله، حتى تكون من أهلها، إنها أنفاس معدودة، إنك يا عبد الله لا تدري أين ستكون غداً؛ ستكون غداً في عداد الموتى، ويجري على لسان الناس: فلان رحمه الله.
هذه الجنة -أيها الكرام- ينبغي أن نعمل لها، فإن العبد لا يتحمل لفحة من عذاب الله، ماذا تقولون لربكم إن قال لكم: استأمنتكم على ديني، فماذا فعلتم؟ شيدتم مجدكم، وبنيتم لأنفسكم، وأسكنتم أحفادكم؟ فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، وأقرب مني عبادي.
الجنة لا عدل لها، فلأي شيء تعمل أيها الأخ الكريم؟ إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد أعطاك المصباح، كن وفياً مع الصحابة، فالوفاء للصحابة ضرورة، وحبهم فريضة، إنه فرض عين على المسلم أن يحب هؤلاء الصحابة، وأن ينقل هذا الحب إلى أبنائه، هذا واجبنا.(31/18)
فضح الله عز وجل للمنافقين ولليهود
إن الله تبارك وتعالى افتتح سورة البقرة بذكر أصناف الناس، فأطنب في ذكر المنافقين، وفضحهم في غير ما سورة من القرآن، فضحهم في سورة النساء، وسورة التوبة، وفضحهم في سورة محمد، وأنزل سورة باسمهم.
فالمنافق خلقه وطبعه إثارة الشبهات، وقد أخذوا هذا من أعداء الإسلام كاليهود وغيرهم، ففي القديم جاء المشركون فنشروا الشبه وقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] وبعض المسلمين اليوم يقول هذه المقالة!! يقول: رجل معه مائة (جنيه) فاقترضها رجل بمائة وعشرة، فتقولون: هذا ربا ولو أن رجلاً اشترى بالمائة (جنيه) (فداناً) مثلاً، وباع (الفدان) بمائة وعشرة، ما الفرق؟! حصل على العشرة في كلا الحالين، عن طريق البيع والربا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] فهذه شبهتهم.
حرم الله عز وجل الموقوذة والمتردية والنطيحة، الموقوذة: المضروبة على رأسها حتى ماتت، النطيحة: المنطوحة من غيرها حتى ماتت، المتردية: هي التي تردت من على قمة جبل فماتت، أما إذا ذبح المسلمون بهيمة فهي حلال.
فجاء هؤلاء الملبسون فقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! هذا الذي ذبحتموه حلال، وهذا الذي قتله الله حرام؟! ثم قالوا: فما قتل الله أولى أن يؤكل، فقال الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
في غزوة بني النضير عندما حاصر الرسول عليه الصلاة والسلام اليهود، وأبوا أن يستسلموا، أمر بإحراق النخل، وأنت تعلم قدر النخل عند العرب، وأن النخلة لا تثمر إلا بعد سنين عدداً، ففقد نخلة يعتبر كفقد إنسان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرق النخل المثمر، فجاء اليهود بشبهة، وقالوا: أولم تقولوا: إنكم تصلحون في الأرض؟! ألم يندد الله عز وجل بالفساد وقال: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وهل حرق النخل المثمر من الصلاح أم من الفساد؟! فكان لهذه الشبهة في نفوس المسلمين وقع، فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] إن قامت فبإذن الله، وإن حرقناها فبإذن الله أيضاً، ما خرجنا عن إذنه ولا خالفنا أمره في الفعل والترك، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} فرد الشبهة عليهم.
لكن من الذي يقوم بذلك؟ من الذي يبدد ظلمة الشبهات والريبة؟ إنهم العلماء، فعندما يعتدى على أعراض العلماء ويقال: (علماء الإسلام والجنس) بهذا العنوان القذر، والجماهير لا تتكلم، بل وتشتري الكتاب، وتنفد الطبعة الأولى، ويعدون أنفسهم لنشر طبعة ثانية، فستظهر بعد ذلك مصائب أكثر من ذلك، ويتسع الخرق على الراقع!(31/19)
سكوتنا عن سب الصحابة غير جائز
إن سكوتنا عن الباطل غير جائز، فهذا إنذار! هذا إنذار! نحن نعلم يقيناً أن النصر لنا، لا نمتري في ذلك طرفة عين ولا نستريب، لكن هذا جرس إنذار! قال تعالى حاكياً عن الساكتين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164]، ينبغي أن نكون أوفياء لديننا، محبين لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولصحابته الكرام رضوان الله عليهم.
فهذا الحسن البصري رحمه الله لما روى الحديث الذي فيه: (أن الجذع حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام)، قال: يا معشر المسلمين! خشبة تحن إلى النبي صلى الله عليه وسلم! فأنتم أولى بالحنين إليه من الخشبة؛ لأنه أرسله الله إليكم واحتفى بكم، وأنزل إليكم كتاباً فيه ذكركم، وفضلكم على العالمين، قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنكم إن توليتم استبدل الله عز وجل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم في الجحود والنكران وترك الأمانة.(31/20)
حقيقة الاتباع لا تتم إلا بموالاة الصحابة ومحبة العلماء
مذهب أهل السنة ومنهجهم في الإيمان بالله ورسوله هو اتباع السلف الصالح، والسلف الصالح هم الصحابة وتابعوهم بإحسان، هذا القيد ذكره الله تبارك وتعالى للاتِّباع، بدونه لا يكون المرء متبعاً، فلذلك أفتى الإمام مالك بأن من سب الصحابة ليس له في الفيء شيء، وقد أخذ هذه الفتوى من هذا القيد: (بإحسان) والذي يسبهم لم يتبعهم بإحسان، فالاتباع يشترط أن يكون بالإحسان، وإلا فليس هو من أتباعهم.
روى ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه بلغه أن رجلاً سب عثمان رضي الله عنه، فقرأ عليهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر:8]، قال له: أنت منهم؟ قال له: لا، فقرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، قال له: أنت منهم؟ قال له: لا، فقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، قال: أنت منهم؟ قال: أرجو! قال: هيهات! أترجو أن تكون منهم وأنت تقول: اللهم العنهم، اللهم أدخلهم النار، اللهم اخذلهم؟! لن تكون منهم حتى تقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، فالذي لا يتبعهم بإحسان لا يترضى عنهم ولا يستغفر لهم؛ فليس من أتباعهم، الذين يطعنون في الصحابة لا تشملهم هذه الآيات حتى يحققوا هذا القيد، فإذا حققوا هذا القيد، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، ودخلوا في جملة المرضي عنهم.
إن أول بدعة في الإسلام هي تحطيم الرءوس، ولا يزال هذا المعول يفعل فعله حتى بين شباب الصحوة، إن جريمة تحطيم الرأس من أعظم الجرائم! فإنك إذا تكلمت عن الأئمة المشهود لهم بالعدالة والصدق والعلم؛ كالشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ التويجري، وهؤلاء العلماء -ومن جرى مجراهم من أهل العلم- إذا جاز للواحد أن يطعن على واحد من هؤلاء، فليت شعري من يبقى لنا؟! سنصبح أمة بلا رءوس! نحن نعاني من قلة الرءوس الصالحة المحسنة، فهي أندر من الكبريت الأحمر، والله لو يُشترى العلم والفضل بالمال لبعنا كل غال ونفيس لشراء هذه الرءوس التي تحمل العلم والفضل؛ لأنه شرف لنا، يزيننا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.(31/21)
والله غالب على أمره
أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنه غالب على أمره، وهذا شامل لكل قضية، فأمر الله سبحانه يغلب كل أمر؛ فيغلب دين الله عز وجل على سائر الأديان، وينتصر عباد الله المتقون على من خالف أمر الله وعصاه، فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وله عز وجل جنود السماوات والأرض.(32/1)
غلبة أمر الله في قضية يوسف
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] الله غالبٌ على أمره، يعني: إرادته تغلب إرادة غيره، ومشيئته تغلب مشيئة غيره؛ لأن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل صفة في العبيد حاشا الأنبياء فهي صفة نقص، فإذا كان هناك رجلٌ ذكي ففي الكون من هو أذكى منه، وهو ناقص بالنسبة لغيره، فإرادته تناسب نقص صفته، وإرادة الله عز وجل تناسب كمال صفته، فالله غالب على أمره، وهذا الذي حدث في حياة يوسف، كيف غلب أمره في قصة يوسف كلها؟ قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] رؤياه وقد منعه أبوه، لكن غلب أمر الله فقص على إخوته فكادوا له، فرموه في الجب بقصد إقصائه عن وجه والده، وأرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، فما تم لهم ما أرادوا؟ غلب أمر الله عز وجل وضاق عليهم قلب أبيهم، ونحن نعلم أن حسن المعاملة، هذا معتمد على عمل القلب، فإذا دخل البغض على قلب رجل، لا يستطيع أن يتبسم في وجه من يبغضه، فكل الجوارح تخضع لعمل القلب، ثم دخل قصر العزيز وراودته المرأة، فلما رأت العزيز بادرت بالهجوم والاتهام، وأرادت أن تبرئ نفسها: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] بقصد أن تبرأ من هذا الذنب، فغلب أمر الله عز وجل وشهد شاهد من أهلها فاتهمت، ثم دخل السجن، وذَكَّر الساقي، فقال له: اذكرني عند ربك، فغلب أمر الله عز وجل ونسي الساقي هذا ولم يذكر إلا بعد أمة من الزمان، ثم بعد مرة من الزمان تذكر يعقوب عليه السلام يوسف، لما أبى أن يعطيهم المتاع إلا أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم، فلما ذكروا أخا يوسف هاجت الذكرى عند يعقوب عليه السلام، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84]، وهذا بعد مدة من الزمان، وأصروا على الذنب، لكن كان مبدؤهم أن يفعلوا الفعلة ثم يتوبوا، لكنهم فعلوا الفعل ولم يتوبوا، بل أصروا على الذنب، ونفوا عن أنفسهم الجناية، لكنهم عادوا فاعترفوا لما غلب أمر الله، {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] فهذا اعتراف بالذنب بعد الإصرار على عدم الاعتراف.(32/2)
غلبة أمر الله في شأن الحياة والموت
قد يتمنى أحياناً ما فيه تلفه وهو لا يدري، ويغلب أمر الله عز وجل على تدبير المدبرين، وعلى هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جعل الله منية عبد بأرض جعل له إليها حاجة) أي: جعل له حاجة في هذه الأرض.
وإذا علم العبد أنه يموت هناك ما ذهب، لكن الله غالب على أمره، كما روى أبو الشيخ في كتاب العظمة أن داود عليه السلام قرَّب رجلاً من أهل مملكته، فلما مات داود عليه السلام اصطفاه وسليمان وقربه إليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الأنبياء عياناً، ودخل ذات مرة على سليمان عليه السلام فنظر إلى الرجل ولحظه بطرف عينه، وانتبه الرجل لنظره إليه، وذهب ملك الموت، فسأل الرجل جليس سليمان عليه السلام من هذا، فقال: ملك الموت، فقال: لا أجلس في أرض فيها ملك الموت، فقال: وماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتذهب بي إلى أرض الهند، وكانت الريح مسخرة له كما قال الله عز وجل: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] رخاء يعني: لا شديدة ولا رخوة، وبعد قليل جاء ملك الموت إلى سليمان عليه السلام فقال له: لم لحظت الرجل، ولم نظرت إليه؟ قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما ذهبت إلى هناك وجدته هناك يرتعد في مكانه فاستلبت روحه.
لو علم الرجل أنه يقبض هناك ما طلب هذا الطلب، لكن الله غالب على أمره، وتدبيره محكم وسابق على تدبير عباده، وإذا قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل) تبين لك هذا المعنى أيضاً، فالقاتل يقتل أخاه أو أباه أو عمه من أجل أن يرث، فلو علم أنه سيحرم الميراث ما قتل، فالله غالب على أمره، إشارة إلى القدر الأعلى المهيمن المسيطر على مصائر العباد.(32/3)
غلبة أمر الله في قصة أصحاب الأخدود
وهذا المعنى أيضاً يظهر بجلاء في قصة أصحاب الأخدود، وهي قصة رائعة، وفيها معان دفاقة كثيرة، إن الرجل لا يسود إلا إذا احترم رعيته، ومن عوامل الخذلان لأي حاكم في الدنيا أنه يحاصر الرعية، ولا يقيم لهم وزناً، ويجعلهم من الهمل، هذه من علامات الخذلان، لكن إذا عظمهم عظم في قلوبهم، وصاروا يحترمونه ولا يقدمون أحداً عليه، وانظر إلى عمر، ملك الدنيا، وما امتعض صحابي قط من تصرفاته، فتجده يضرب أبا هريرة ولا يغضب، ويضرب سعداً ولا يغضب، ويضرب أبا ذر ولا يغضب؛ لأنه كان يفعل ذلك لله ليس لحظ النفس، حتى لما عزل سعد بن أبي وقاص لم يغضب سعد؛ لأنه كان يعلم مقصد عمر.
فبقدر ما يكون في قلبك من الإخلاص بقدر ما يميزك الله عز وجل بين الناس.
وقصة أصحاب الأخدود هي كما في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلام نجيب أعلمه السحر، فإني أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلمه، فجيء له بغلام نجيب).
قارن هذه القصة واربطها بقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] لتعلم ونحن في مرحلة الاستضعاف أن النصر قريب لكن بشرط، (فكان هذا الغلام يخرج من بيته إلى بيت الساحر، وكان إذا مر مر بصومعة راهب، فعرج الغلام يوماً على صومعة الراهب فدخل، وسمع كلامه فأعجبه)، فعندما يسمع كلام الساحر، ثم يسمع كلام الله لا بد أن يجد فرقاً، (فصار يتأخر عند الراهب، فيتأخر في الرجوع إلى بيته إذا كان راجعاً، أو يتأخر في الذهاب إلى الساحر إذا كان ذاهباً، فكان هؤلاء يضربونه على التأخير، وهذا يضربه أيضاً على التأخير، فشكى ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر، ومضى زمن، حتى جاء يوم واعترض طريق الناس دابة، فقال الغلام: اليوم أعلم أأمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر، فأمسك حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فاقتل هذه الدابة، ثم رماها بالحجر فقتلها.
تحدث الناس عن الغلام وذاع صيته، فدخل على الراهب، فقال: أي بني إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ) هذا ما أراده الراهب، ولكن حدث ما أراده الله، (وكان الغلام يشفي من سائر الأمراض، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكان يجالس الملك رجل، كان قد عمي، فلما سمع بمهارة الغلام، جمع له هدايا عظيمة، وذهب وقال له: ما هناك لك أجمع -أي: كل هذه الهدايا لك- إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته وشفاك، فآمن به جليس الملك فرد الله عليه بصره، فدخل الجليس على الملك بلا عكاز وبلا مرشد، فقال الملك: بلغ من سحر الغلام أنه شفاك؟ قال: إنما شفاني الله تعالى، فقال له الملك: أولك رب غيري؟ فقال له الجليس: الله ربي وربك ورب العالمين، فما زال يعذبه حتى دل على الغلام.
وجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني بلغ من سحرك ما أرى؟ تبرئ الأكمه والأبرص وتداوي الناس من سائر الأدواء، فقال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فلا زال يعذبه حتى دل على الراهب) مع أن الراهب أوصى الغلام: إن ابتليت فلا تدل عليَّ، لكن غلب أمر الله عز وجل، ودل الغلام على الراهب (فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، قال: لا.
فشقه بالمنشار نصفين، قال صلى الله عليه وسلم: حتى سقط شقاه وهو صابر، وجيء بالجليس وقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا.
فقتله).(32/4)
غلبة أمر الله على أمريكا في قضية الرهائن
كانت أمريكا تعلم كل ثقب إبرة في إيران، واحتجزت إيران الرهائن، ووضعت كرامة أمريكا في الأرض من مجموعة من الشباب، فماذا فعلت أمريكا في صحراء من الصحاري البعيدة؟ بَنت فيلاً مثل السفارة بكامل مواصفاتها، ووضعت أناساً في داخل هذا المبنى، ودربوا (الكوماندوز) على أن يدخلوا من النوافذ فيخطفوا الرهائن، مرة واثنين وثلاثة وأربعة وعشرة وعشرين، إلى أن أتقنوا هذه اللعبة تماماً، وتبجحت أمريكا بقولها، وأنها لا تغلب، وتستطيع أنها تخرج الكحل من العين لو أرادت، ودخلت الطائرات صحراء إيران على ارتفاع منخفض لئلا تكشفها (الرادارات) في إيران وهم يعرفون كيف تعمل وكيف يكتشفون الطائرات، فدخلت الطائرات، والإيرانيون كلهم غافلون، ودخلت طائرات أمريكا وربضت في صحراء إيران في غفلة عنهم، وجاءت ساعة الصفر لتطير الطائرات وينفذوا العملية ويأخذوا الرهائن، وتعود سمعة أمريكا الفتية العتية في العالم، وإذا بالطائرات وهي تطير يصطدم بعضها ببعض ويحصل انفجار عنيف، وعلى ضوء هذا الانفجار علم المسؤولون في إيران أن هناك طائرات أمريكية في الصحراء، وكان هذا أيضاً المسمار الذي دق في نعش الرئيس جيمي كارتر فشل في الانتخابات بسبب هذه العملية.
أرادوا شيئاً لكن الله غالب على أمره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(32/5)
الغدر من صفات الملوك
وهكذا ليس لهؤلاء وفاء.
إن الملوك بلاء حيثما حلوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تأمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا فإن نصحتهم خالوك تخدعهم وإن استصغروك كما يستصغر القل استغن بالله عن أبوابهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذل إذا غضب ثار عليك، لا يرقب فيك إلا ولا ذمة، وإذا أعطاك مَنَّ، وكلمات الوفاء والإخلاص لا توجد في قواميس هؤلاء أبداً، بل إن الملك يفرق بين الولد ووالده، كما حدث في قطر، كان الملك سيعود إلى الولد، لكنه أخذه من أبيه بالقوة.
كان هناك رجل يعمل مع المشير عبد الحكيم عامر، وكان هذا رجلاً منحرفاً، وكان رجل نساء، فكان إذا أراد أن يقضي ليلاً أو شهراً مع امرأة يذهب إلى باريس، وكان صلاح نصر رئيس المخابرات صديقاً حميماً للمشير، وكان يصوره وهو في هذه الأوضاع المشينة ويحتفظ بالصور حتى يستخدمها وقت الحاجة، وفي يوم من الأيام فقد صورة من الصور فخاف أن تصل إلى المشير فيكون فيها هلاكه، فبدأ يعمل تمشيطاً لكل الرجال الذين يعملون مع المشير، يقول الرجل: فدخلت في بيته يوماً من الأيام فأخذوه، وقالوا له: أين الصور؟ قال: والله ما أعرف شيئاً، فقالوا: أنت كذاب، وعلقوه وساموه سوء العذاب.
وبعدما جلس في السجن أياماً طويلة إذا بالصور موجودة عند صلاح نصر، فأخرجوه وعفوا عنه ولم يعتذروا له، وهناك بعض العصاة لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، قال صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من أقوام يدخلون الجنة بالسلاسل) وهذا كالأسرى الذين إذا غلب المسلمون على ديار الكفر استرقوهم وأتوا بهم إلى ديار المسلمين فيرون الإسلام فيسلمون، فهؤلاء لم يسلموا إلا بسبب الحرب، فيدخلون الجنة بالسلاسل.(32/6)
قصة سنمار وغدر الملك به
وللعرب مثل كبير يقول: (نال جزاء سنمار) ويضربون به المثل في الرجل الذي يفعل الإحسان ثم يلقى الإساءة، وقصة سنمار أن مهندساً كان اسمه سنمار، بنى قصراً مشيداً رائعاً لملك في ذاك الزمن، وبينما سنمار جالس في ليلة مقمرة مع الملك قال للملك مفتخراً بصنعته وبنائه: إن في قصرك لبنة لو جذبها رجل انهدم القصر كله، قال -أي: الملك- يعلم هذا أحد غيرك؟ قال له: لا.
فقتله؛ ليموت السر الذي يحمله، وهو من صمم له القصر الذي يجلس فيه.
فجليس الملك وصفي الملك وخليل الملك لم يتورع الملك عن قتله يوم خالفه، وكذلك الراهب، لكنه لم يقل للغلام: ارجع عن دينك حتى إذا قال: لا، قتله؛ لأنه بإمكانه أن يضع يده في يد عدوه لتحقيق مصلحته، فهؤلاء لا مبدأ عندهم إلا هواهم، فالغلام أثبت جدارة ومهارة، وهو صغير السن وأمامه المستقبل، والملك محتاج إلى مثله، (فأتى به وقال له: ارجع عن دينك، فقال له: لا، فدعا جنوده وقال: خذوه على قمة الجبل الفلاني فإن رجع وإلا فألقوه) ولم يقل: خذوه على قمة الجبل واقتلوه، لا، ولكن هناك مراجعات؛ لأنه يحتاج إليه، (فأخذوه على قمة الجبل وقالوا: ترجع؟ قال: رب اكفنيهم بما شئت، فارتجف بهم الجبل فسقطوا، ورجع هو إلى الملك) فغلب أمر الله، (فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء، فأمر جنوده، قال: خذوه في قرقور -وهو القارب- وامضوا به في البحر، فإن رجع وإلا لججوا به -أي: اقذفوه في لجة البحر في وسط الماء- فلما كانوا في البحر قالوا له: ترجع؟! فقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء)، هذه الآيات البينات كان من شأنها أن تجعل ذاك الجبار العنيد يتوب ويرعوي، ولكن (على قلوب أقفالها)، كلما ظهرت آية أخذته العزة بالإثم، وقبل أن يحاول قتله مرة ثالثة: (قال له الغلام: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به، تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي -وهي جراب السهام- وتضع السهم في كبد القوس، وتقول: بسم الله رب الغلام بأعلى صوتك، فإنك إذا فعلت ذلك وقع السهم هاهنا -وأشار إلى صدغه- فقتلتني)، فظن الملك أن المشكلة انتهت إلى هذا الحد، ولكن كان هذا هو المسمار الأول الذي دق في نعشه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
(فجمع الناس في صعيد واحد -في ميدان عام- وصلب الغلام، وأخذ سهماً من بين السهام وصوبه إلى صدغ الغلام وقال: بسم الله رب الغلام، ورمى بالسهم إلى حيث أشار، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام)، فقتل الراهب وقتل الجليس وقتل الغلام، لئلا يفشو الإيمان في المملكة ففشى، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت أو كل الناس بعض الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، إن الناس يموجون بين الهدى والضلال، لكن يجبنون ويعرفون الدعي الذي يكذب ويعد الوعود الكاذبة، ويعرفون الكاذب، ولكن لا يستطيعون الكلام، فإذا جاءت الفرصة تكلموا وفعلوا، وهذا ما فعله الرعية، وهذا فعل العامة في كل زمان.
لماذا آمنوا بالله رب الغلام؟ لأن رب الغلام هو الذي غلب، حاول الملك أن يقتل الغلام مرة من على الجبل، ومرة في البحر ولم يستطع، فلما قال: بسم الله رب الغلام؛ قتل الغلام، إذاً رب الغلام هو الأكبر وليس الملك، فاحتار الرجل، واستشار الذين حوله من بطانة السوء ماذا يفعل وقد آمن الناس جميعاً، فقالوا: والله وقع الذي كنت تحذر، فقال: وما العمل؟ قالوا: احفر الأخاديد على السكك، ثم ملأوا هذه الأخاديد بالنحاس المغلي، وعرض الناس على الكفر عرض الحصير عوداً عوداً، فيقال للرجل: تؤمن بالله رب الغلام، أو تؤمن بالملك؟ فإن قال: أؤمن بالله رب الغلام؛ قذفوه في الأخدود، وإن قال: آمنت بالملك؛ نجى، فذلك قوله تبارك وتعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5] وفي بعض القراءات (ذات الوِقُود) أي: الاشتعال لشدة الحرارة.
حتى جاء الدور على أم تحمل ولدها، فالأم خافت، وكأنها تراجعت، فسمعت ولدها يقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق!! فتبين هذه القصة، كيف أن الله غلب على أمره، أراد الملوك أمراً وأراد الله أمراً، فكان ما أراد الله، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، فكل مما يفعلونه من الإجراءات الاستثنائية، والأحكام العشوائية، واتهام الأبرياء بما ليس فيهم، وتنزيل أقصى العقوبات غير اللائقة لا قانوناً ولا وضعاً ولا عرفاً، كل هذا لا ينفع، فإن الله غالب على أمره، وخذ ما حدث في صحراء إيران أيام قضية احتجاز الرهائن، خذ منها عبرة في التاريخ الحديث.(32/7)
البلاء في الله وغلبة أمر الله فيه
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه الآية تشير إلى القدر، القدر الأعلى الذي لا يخرج من قبضته أحد، فإذا قدر عليك البلاء فاعلم أن الله غالب على أمره، وإذا استطعت ألا تبتلى إلا في الله فافعل، وذلك بأن تتبع الشرع، ولا تخالف.(32/8)
ترك الجهاد تهلكة
قال الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، هذه الآية يفهمها كثير من الناس على خلاف ما نزلت له، فيفعل الشيء الذي لا يجوز له فعله بدعوى التخلف من الضرر، مع أن هذه الآية نزلت كما قال أبو أيوب الأنصاري: (قلنا: نجلس في أموالنا نصلحها وندع الجهاد في سبيل الله)، فالتهلكة هي ترك الجهاد، مع أن الجهاد مظنة الموت، لكن ترك الجهاد هو التهلكة، ومن استقرأ ما نحن فيه الآن علم ذلك، فلا يجوز لعبد أن يقول: أنا قد وضعت سيفي وهذه آخر المعارك، وله عدو في الأرض! هذا جنون وخبل، أن تضع سيفك وعدوك شاهر سيفه، وتقول: هذه آخر الحروب، وتقول: أنا لا أريد الدماء أن تسيل على الأرض، سبحان الله، فإذا فرضنا ذلك وأنك سئمت القتال فدخل عليك عدوك، وهجم عليك بغير اختيار منك، ماذا تفعل؟ أليست دماء أولادك ستراق في الدفاع، فطالما لك عدو لا تضع سيفك، ولا تضع سلاحك.(32/9)
تسلط الشيطان على من ترك سلاح الذكر
إن الشيطان يدخل على الذين يضعون أسلحتهم، مع أن الله عز وجل أبان لنا عداوة الشيطان وكرر هذا المعنى كثيراً: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] يعني بائن العداوة، وأعطاك سلاحاً تقهره به، وأعطاك الله سلاحاً أنت به أقوى، وهو ذكر الله عز وجل، فيكسل العبد ويلقي سلاحه وهو الذكر، فيدخل عليه الشيطان، مع أنه ليس هناك وقت يخلو من ذكر تقوله، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أذكاراً، حتى: وأنت نائم -والنائم أخو الميت- علمك النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً تقوله قبل النوم، يقيك الشيطان إذا مت الموتة الصغرى، اقرأ أية الكرسي، واجعل آخر صلاتك من الليل وتراً، ونم على وضوء، ونم على شقك الأيمن وضع يدك تحت خدك الأيمن، علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقل: (باسمك اللهم أحيا وباسمك أموت، اللهم بك وضعت جنبي وبك أرفعه، وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً)، ثم يقرأ آية الكرسي، قال الشيطان لـ أبي هريرة (إنك إن قرأتها لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح) إذا قرأت آية الكرسي، وقف على رأسك ملك يحرسك حتى تفتح عينك وتبدأ بذكر آخر.
فالغفلات يدخل منها الشيطان، فكيف تضع سلاحك وتترك ذكر الله عز وجل وعدوك شاهر سلاحه، فالجهاد قائم ما دام هناك دين على وجه الأرض بخلاف دين الإسلام، ولا يجوز لك ترك الجهاد أبداً، وإذا جاهدت في سبيل الله غنمت، وجعل الله لك الرجال، والديار والأموال، فتأخذ الرجال تستغلهم، وتسيى النساء والولدان.(32/10)
الرق عند المسلمين وعند الكفار
وبكل أسف عندما يتكلم بعض أساتذة الشريعة عن الرق، يقول: والرق محرم دولياً، فعيرونا وقالوا: أنتم تسترقون الرجال الأحرار، وهم يسترقون الدول، عار علي استرقاق الأفراد وهم يسترقون دولاً بأكملها؟ من الذي عمّر أمريكا أول ما اكتُشفت؟ أليسوا هم الهنود الحمر؟ والزنوج الذين سرقوهم من أفريقيا وجعلوهم خدماً هناك، وهذا رق، من أبشع أنواع الرق، ولكن الرق عندنا شرف، الرسول عليه الصلاة والسلام ما تركك تعلو على الرقيق، لكن قال (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه)، فأنت تأكل طعاماً جاهزاً، وهو الذي يقف أمام النار، وقد تعب في صنع هذا الطعام، فلا تمنعه، وجعل الله تبارك وتعالى كفارة بعض الذنوب عتق الرقبة، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من هؤلاء الثلاثة رجل له أمة فأعتقها ثم تزوجها) فهؤلاء يؤتون أجرهم مرتين؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك ولا الآخر يكفي أن هذا العبد دخل ديار المسلمين فأسلم فنجى من النيران، وهذا الصنف هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من أقوام يدخلون الجنة بالسلاسل) فالرق عندنا شرف بينما هم يسترقون المسلمين، ويفعلون الأفاعيل، ثم الذي يغيظ ويفتت الكبد أنهم يعملون تمثال الحرية، فأول ما تدخل أمريكا ترى تمثال الحرية، في حين أن قوات الأمم المتحدة كانت تهتك أعراض المسلمين في البوسنة مع الصرب والكروات، لقد خسر العالم جداً بتخلف المسلمين عن ريادة العالم.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب، وهو الحيوان المهين، الذي ضرب به المثل في المهانة وعدم التحمل، وأنه لا صبر له، وهذه امرأة بغي تترزق بعرضها، ولا توصف المرأة بالبغاء إلا إذا صار حرفة ومهنة وخلة دائمة لها، يعني: امرأة زانية عريقة في الزنا، ملأت موقها ماء وسقت كلباً يلعق الثرى من العطش، فشكر الله لها فغفر لها، وفي المقابل: دخلت امرأة النار في هرة.
لو ملك المسلمون فهل سيرمون البر والدقيق في المحيط وهم يعلمون أن ربع الكرة الأرضية يموت من الجوع؟! حفاظاً على سعر الدقيق والخبز!! هذه ليست إلا أخلاق الكافرين: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8].(32/11)
التمكين بعد البلاء
فإن استطعت ألا تبتلى إلا في الله فافعل؛ لأن هذا له ثمرة، حيث إن الله غالب على أمره، أنت لن تخرج من قبضة الله أبداً، وإذا ابتليت في الله فلك بشارة، قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى، ثم تكون العاقبة لنا) هذه هي البشارة، وإذا خيرت بين أن تعصي الله عز وجل، وأن يأتيك الرزق بالمعصية أو تبقى مستقيماً مع عدم توفر وظيفة، فاختر الطاعة ولا تتردد، إن قيل لك: إن الوظيفة الفلانية لن تأخذها إلا أن تحلق لحيتك، فلا تحلقها أبداً، وسيجعل الله لك مخرجاً، قد جعل الله لكثير من عباده مخارج ما خطرت على قلب واحد منهم، وأهلك أعداءه من محل الأمن وما خطر على قلب واحد منهم أن يهلك من هذا الباب، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] فتجد الإنسان يضرب بيد من حديد ويحكم القبضة ويظن أن الأمر آل له، والله عز وجل يقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:45] أدعهم في طغيانهم يعمهون ويستمرون، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45]، وإذا كاد الله أحداً غلبه وأهلكه، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16].
كلما يحصل شد يحصل انفجار، وهم يعترفون بهذا، فالرسم البياني للصحوة الإسلامية الأثرية التي تنتسب إلى القرون الثلاثة المفضلة يبين أنها كل يوم تزداد، واتسع الخرق على الراقع، فالذي كان يضرب على قفاه إذا بكى يسكت، الآن لا يسكت، بل هو صاحب ساعد قوي يستطيع أن يضرب ولو كانت ضربته أقل تأثيراً من غيره، وابنك الذي كان يأخذ حاجته بالصراخ أمس كبر وصار له ساعد، صحيح أنك أقوى منه، ولو ضربته ضربة لقلعت له عيناً، ولكنه سيضربك ولو كانت ضربة لا تؤثر فيك، وهذا انتصار ومكسب، أن يمد يده ولو كانت ضعيفة، وهذا الذي يضربك الآن بيد رخوة غداً يشتد ساعده، وأنت بطبيعتك تكبر وتكبر، ثم يستدير القمر ويعود محاقاً بعدما كان بدراً، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68] فيشتد ساعد هذا ويضعف ساعدك، فإذا ضربك قلع لك عيناً، وإن ضربته فلن تؤثر فيه، فلا تهاجمه، وأعطه جزءاً من المشاركة تكفى شره بذلك، ولا يفعل هذا إلا عاقل، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(32/12)
الاعتصام بالكتاب والسنة
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن مسعر وغيره عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لـ عمر: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] لاتخذنا هذا اليوم عيداً، فقال عمر: (إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة، في يوم جمعة).
سمع سفيان مسعراً، ومسعر قيساً، وقيس طارقاً.
هذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله في أربعة مواضع من صحيحه، الموضع الأول في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، والموضع الثاني: في كتاب المغازي، في باب حجة الوداع، والموضع الثالث في تفسير سورة المائدة عند ذكر هذه الآية، والموضع الرابع: هو الذي نشرحه وهو أول حديث في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
قلت قبل ذلك: إن الإمام البخاري رحمه الله له فهم ثاقب ونظر حاد في ترجمته لأبواب صحيحه، فوضع هذا الحديث في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، علاقة الترجمة بحديث عمر الواردة فيه الآية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] أن الآية دلت على تمام الإيمان، فالإيمان له زيادة ونقصان، فأعلى زيادة في الإيمان هي كمال الدين، وأن تتمه في نفسك، وبقدر ما يكون لله عز وجل في قلبك يكون كمال الإيمان، فأراد الإمام البخاري أن يبين أن أوج الزيادة في كمال الدين.
(قال رجل من اليهود) وهذا الرجل اسمه كعب الأحبار، وكعب الأحبار كان رجلاً من علماء اليهود وأسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، فيحمل على أن كعباً قال هذا الكلام لـ عمر قبل أن يسلم، وهذا ظاهر من اللفظ: (قال رجل من اليهود لـ عمر)، وإذ ثبت أنه كعب فإذاً قال هذا الكلام لـ عمر قبل أن يسلم، وإما أن يكون أسلم ولكن نظر إلى أول حاله، كما في الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها حدث بينها وبين صفية بنت حيي خصومة، وضعف جمل صفية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زينب: (أعطها الظهر لتركب، فقالت له: أنا أعطي هذه اليهودية!!) -وهي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام- فكأن النظر بالنسبة إلى الحال الأول، وإن كان الوجه الأول أقوى، وهو أن كعباً سأل عمر رضي الله عنه قبل أن يسلم قال: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال عمر -في رواية للبخاري أيضاً- أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]) فأراد عمر أن يرد عليه فقال له: نحن ما قصرنا في اتخاذ ذلك اليوم عيداً، بل هي نزلت في يوم عيد، كما رواه الترمذي من حديث ابن عباس أن رجلاً قال لـ عمر هذا الكلام فقال: (نزلت في يومي عيد)، يوم عرفة ويوم جمعة، ومناسبة هذا الحديث لكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة الإشارة إلى أن الله تبارك وتعالى أتم دينه وأكمله، فلم تعتصم بغير الكتاب والسنة؟ أتطلب الهدى خارج الكتاب والسنة؟ والله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] إذاً لا عذر لك في الخروج عن الكتاب والسنة.(32/13)
يأس الكفار من المسلمين ومراوغتهم في حربهم
وهذا الشطر من الآية مقدم على الآية التي وضعها الإمام البخاري وفيها بشارة، يعني: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم بتمام الدين، فديننا تام، والذين كفروا يئسوا من النصر عليه، ولذلك تجدهم الآن فقهاء في حربنا، ويعملون بالمقالة القائلة: إن المجاهد يغير موقعه ولا يغير عقيدته، فإذا نظرت مثلاً لإسرائيل وعدد سكانها ثلاثة أو أربعة ملايين، وقهروا مائة وأربعين مليوناً؛ لأنهم يغيرون مواقعهم، فمن حوالي عشرين سنة كان لا يمكن أن نتصور في يوم من الأيام أن يكون بيننا وبين إسرائيل صلح، وهو يضع يده في يدك، ثم ينتصر بعد ذلك، فهم أربعة ملايين لكنهم أذكياء، مع أنهم في وسط دول مواجهة، ولو زحفت عليهم هذه الكتلة البشرية زحفاً لأكلوهم كلهم، لكن هؤلاء عندهم ترغيب وترهيب وتحرير مناطق النفوذ ومناطق القوى، وطريقة استخدام القوى.
فـ إسحاق رابين يبني المستوطنات، ويطلق على المصلين النار وهم سجود دون أي اهتمام، وعندما دخلنا مرحلة جديدة وهي مرحلة السلام والاستسلام قالوا: نريد أن نثبت حسن النية، فإذاً نراوغ ونقول: إن السلام يقتضي أن يكون هناك احترام، يظهر هذا في الجامعات عندنا، وكذلك في الجامعات عندكم، وممكن نعمل اتصالات إلخ، ويفكرون الآن في شبكة كهرباء للوطن العربي كله، ومفتاحها يكون عند من؟ عند هذا اليهودي، والله عز وجل أنزل آيات محكمات في الكتاب المجيد أن هؤلاء لا دين لهم ولا ولاء، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] لو ظهر عليك لا يمكن أن يتركك، وهذا كلام الله عز وجل، فإذا اتبعنا القرآن والسنة واعتصمنا بهما، ييئس الذين كفروا من ديننا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3]؛ لأن فيهما الجلاء والتوضيح والبرهان.(32/14)
الرد على المقلدة
وهذه الآية أيضاً فيها رد على المقلدة الذين يدعون الكتاب والسنة ويأخذون بأقوال أئمتهم المخالفة للكتاب والسنة.
وقد أطال صديق حسن خان في الرد عليهم حتى يكاد الواقف على كلامه يظن أنه ينفي القياس، من شدة رده على المقلدة، فوضع البخاري هذا الحديث في أول كتاب الاعتصام، أراد به أن يقول: إذا تم الدين وكملت النعمة ولم يترك الله تبارك وتعالى دقيقاً ولا جليلاً إلا بينه لعباده، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بيَّن القرآن، فلا معنى للخروج عن الكتاب والسنة واستيراد أحكام من الخارج.(32/15)
بطلان الحكم بغير ما أنزل الله
وليت الذين حكَّموا فينا القانون الوضعي أو القانون الفرنسي نظروا في هذه الآية، فنحن جميعاً محكومون بغير ما أنزل الله، إلا في قانون الأحوال الشخصية، والآن يبدلونه، بدلوه أولاً بأن جعلوا البيت للمرأة، وأن الرجل إذا أراد أن يتزوج لا بد من موافقة الزوجة الأولى، وهذا القرار كم من بيوت هدمت بسببه، وصارت المرأة هي الرجل، وصارت تهدد الرجل، فالرجل الأبي الذي تجري دماء الرجولة في عروقه لا يستطيع أن يعيش مع هذه المرأة فيطلقها، وأول ما يطلقها تأخذ منه البيت، ولذلك يصبر الرجل على الذل والمر لأجل البيت، وخربت بيوت، ثم جاء مؤتمر السكان وضرب ضربات قاتلة، وقام العلماء جميعاً -وطبعاً الدولة لا تحترم العلماء، ولا تحترم وجهة نظرهم- وقالوا: لا نحن غير ملزمين بقرار مؤتمر السكان، لماذا غير ملزمين وأنتم الدولة المضيفة؟ والدولة المضيفة المفروض أنها أول دولة تحترم توصيات المؤتمر المقام على أرضها، فقالوا: هذه القضية غير ممكنة الآن، لكن يمكن بعد ثلاثين سنة أن نبدأ في تنفيذ هذا القرار، ويصاغ على هيئة قانون.
ثم جاء المؤتمر الذي أقيم في الصين في مسألة الزواج والطلاق، وقام العلماء قومة رجل واحد، فقانون الأحوال الشخصية فيه إعواز بسبب اعتماده على مذهب أبي حنيفة وحده، ومن المفروض أن المسألة لا تقتصر على مذهب واحد، فمثلاً في مذهب الأحناف إذا غاب الرجل بأن سافر لأجل أن يأتي بمال وغاب سنة أو سنتين أو أربع أو عشر أو عشرين سنة ليس للزوجة أن تطلب الطلاق، ولا أن ترفع أمرها للقاضي، فإن لم تجد حلاً تصبر، وأما في المذهب المالكي إذا يئسنا من رجوع الرجل بسبب غيابه جاز للمرأة أن تطلب الطلاق، إذ أنه إذا كان يعمل بالظن الغالب في الأحكام الشرعية أفلا يعمل بالظن الغالب في مثل هذه الأمور العادية؟ فتصبر المرأة وتظل معلقة مدى الحياة، فلماذا لا يدخلون مذهب مالك في هذه المسألة؟ خاصة أن مذهب الأحناف مخالف للدليل في بعض المسائل.
ثم بأي عقل أيها الإخوة! الكرام في بلد الإسلام يقال: إن حالة الزنا تسقط إذا رضي الزوج، وهذا الحكم بمنتهى الجلاء واضح في كتاب الله عز وجل، وبأي عقل يقال: يجوز للمرأة أن تزني إذا رأت زوجها يزني، والجروح قصاص!! أيجوز هذا الكلام في ديار الإسلام وعندنا قرآن وسنة، والأحكام واضحة جداً وجلية؟ ويأتي رجل بلغ من الكبر عتياً، صاحب (عودة الروح)، (وعصا الحكيم) (وحمار الحكيم)، كان سنه ثلاثاً وثمانين سنة يوم أن قال هذا الكلام في الأهرام، عندما عاد من باريس واستقبلوه في المطار فسألوه: ماذا أعجبك في باريس؟ فلم يقل البيجو أو شيء من هذه الأشياء، وإنما قال لهم: أعجبني في باريس الزواج الجماعي، يعني: تبديل الزوجات، كل رجل يعطي زوجته للآخر، هذا الذي أعجب ابن ثلاث وثمانين سنة.
والآن تعرفون فرج فودة الذي أهلكه الله عز وجل وقلعه في ليلة مباركة، بدأت الآن تسن قوانين لضرب الإرهاب من كتب فرج فودة: بأيمانهم نوران: ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات وضرب شركات توظيف الأموال هذه تمت بفعل فاعل، هذه الشركات كانت مباركة عمل فيها ألوف العاطلين، وفتحت أبواب الرزق على آلاف الأسر، وكان الرجل الذي يذهب للعمل فيها يأخذ خمسائة وستمائة وسبعمائة إلى ألف جنيه، وأحدث هذا حالة ازدهار وانتعاش، وبدأت تحويلات المصريين في الخارج تأتي، حتى صار رأس مال واحد مثل أحمد الريان وإخوانه في نحو ثلاث سنوات ثلاثة مليارات وواحد من عشرة، فقالوا: هؤلاء سيتمكنون بالمال ويلعبون بكم كما يلعب اليهود برئيس أمريكا، فهم الذين يتحكمون بالرئيس في الترشيحات، والملاحظ أن كل الشركات كان عليها سمت الإسلام، وكان معهم مليارات، وبعضهم استعد لدفع الديون التي على البلد، فهذه الشركات ضربت بفعل فاعل، وألصقوا بهم التهم وقالوا: إنهم كانوا يضحكون على المودعين ويعطونهم أرباحاً من رأس المال، ولو أتيت بـ أبي جهل وأعطيته هذه الشركة لا يمكن أن يعطي المودعين من رأس المال، بدليل أنهم عندما ظهرت هذه الفرية قالوا: لو أن كل المساهمين أرادوا أن يأخذوا رءوس أموالهم ما عليهم إلا أن يأتوا، وكل هذا بسبب أننا نحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، وهو مهيمن ومسيطر وكامل.
وليس هناك حكم لغيره سبحانه وتعالى إلا تجد له نص: إما خاص، وإما يندرج تحت عنوان.
فإذاً: الاعتصام بالكتاب والسنة هو النجاة؛ لأن الله عز وجل ضمن لنا هذا الكمال، وضمن لنا تمام النعمة إذا صدقنا الكتاب والسنة، إذاً: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(32/16)
الرد على الرافضة في دعوى النص على علي رضي الله عنه
وفي هذه الآية أيضاً رد على الروافض الذين يقولون: إن إمامة علي رضي الله عنه كانت بنص جلي في كتاب الله عز وجل والصحابة كتموه، ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى نص على إمامة علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فنقول: سلمنا معكم أن الصحابة بدلوا وغيروا، أغلبوا الله عز وجل حتى غلب تبديلهم على نصه، وهو يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، المفروض أن الله غالب على أمره، ولو أنهم أرادوا تحريفاً فلا يستطيعون ذلك أبداً، إذ الله غالب على أمره فأكمل دينه وأتم نعمته، فكان المفروض أن هذا النص يظهر على تحريف المحرفين، أما إذا لم يظهر هذا النص على تحريف المحرفين فهذه الآية حجة على الروافض، حيث أن الله تبارك وتعالى لم يذكر نصاً جلياً في إمامة علي، بل النص الذي يكاد يكون جلياً بل هو جلي في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فالرسول عليه الصلاة والسلام دخل مرة على عائشة رضي الله عنها فوجدها تقول: (وارأساه! -يعني: عندها صداع- فقال لها: بل أنا وارأساه! ما ضرك لو مت قبلي فصليت عليك ودفنتك، فقالت عائشة: والله! إني لأرى أنك تحب موتي، ولو كان ذلك لما بت إلا معرساً ببعض نسائك) يعني سوف تنساني، وسوف تبيت ليلة جميلة مع أي امرأة من نسائك، وسوف تنسى عائشة تماماً: (فقال لها: ادع لي عبد الرحمن لأكتب كتاباً، لعل قائلاً يقول أو متمنياً يتمنى فينازع أبا بكر ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، واستخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر في الصلاة دليل واضح جداً، وقول الله عز وجل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] دليل واضح جداً، وأيضاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام للمرأة التي قالت له: (إن جئت فلم أجدك فمن أسأل؟ قال أبا بكر)، والنصوص الجلية الظاهرة تنص على إمامة أبي بكر الصديق، وحتى لما تخلف علي بن أبي طالب عن بيعة أبي بكر وأراد أبو بكر أن يذهب إليه قال له علي: (ائتنا العشية وحدك، فقال عمر: تذهب إليهم وحدك؟ والله لا يكون، لأذهبن معك) وعللت هذا عائشة في صحيح مسلم فقالت: (وكره علي محضر عمر)؛ لأن عمر شديد، ويمكن أن يوجه له كلاماً شديداً، كما قال عمر لـ سعد بن عبادة مع جلالة سعد وجلالة منصبه عندما بويع لـ أبي بكر قال قائل: (قتلتم سعداً) فقال عمر: (قتله الله!) فكره علي أن يحضر عمر، وأراد أن ينفرد بـ أبي بكر، فقال عمر: (لا تأتيهم وحدك)، فقال أبو بكر: (والله لآتينهم وحدي، ما عساهم أن يفعلوا بي؟!) فدخل أبو بكر على علي، فتشهد علي وتكلم وأثنى على أبي بكر وقال: (إنا عليك ما أعطاك الله عز وجل، لكنا رأينا أنك استبلغت بالأمر دوننا)، وجعل يتكلم عن قرابته ومنهم الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى فاضت عينا أبي بكر لما ذكرت القرابة وقال: (والذي نفسي بيده لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أصل قرابتي) وجعل يتكلم ويقول: (إني لم آلو أن أفعل في هذا الأمر ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فبايع علي أبا بكر الصديق، وكان إلى المسلمين أقرب منه إليهم قبل أن يبايع أبا بكر رضي الله عنه، فأين النص والدليل على إمامة علي بن أبي طالب وأن المسلمين أخفوها؟ فهذه الآية أيضاً حجة قاهرة على هؤلاء الروافض، إذ لو جاز للصحابة أن يبدلوا لما جاز أن يظهر تبديلهم على كلام الله عز وجل القائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وقبل هذه الآية قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3].(32/17)
الرد على نفاة القياس
فدلالة الحديث ظاهرة، وفي هذه الآية رد على بعض الطوائف، وإن كان هؤلاء الطوائف تمسكوا بها في الرد على مخالفيهم، والقرآن حمال ذو وجوه، فمثلاً الذين ينكرون القياس تمسكوا بهذه الآية، قالوا: إن الله أكمل دينه وأتم نعمته، وما ترك شيئاً إلا بينه، فلم تلجأون إلى القياس؟ والقياس هو: محض اجتهاد في تحقيق انطباق علة الأصل على الفرع، هذا هو القياس، فعندنا فرع نطلب له حكمه، فننظر في هذا الفرع أله علة؟ فإن وجدنا له علة، ننظر أهذه العلة بكاملها موجودة في أصل محكم، إن كان ذلك كذلك، واشتركا في علة الحكم أعطينا الفرع حكم الأصل.
فمثلاً: الخمر علة التحريم فيه الإسكار، وهو وصف ثابت منضبط، فأي إنسان يسكر تظهر عليه علامات السكر، ولا يقال: إن أناساً يشربون الخمر ولا يسكرون، فعلى هذا يجوز الخمر، وقد رأيت هذا بعيني، لما سافرت إلى أسبانيا سنة (76)، وعملت هناك صحفياً لجريدة مشهورة، وكان القصد منها أن أمارس اللغة، فكنت أجد أي فرد فأتكلم معه حتى أتقن كلامهم فأمسك بيدي دفتراً وقلماً وأعرض لأي رجل في الشارع وأقول له: أنا صحفي وأريد أن أسأل أسئلة عن أسبانيا حتى نعرف المسلمين بها، ومن ثم ندخل في الكلام، فرأيت في هذه الدولة عجباً، قابلت رجلاً عجوزاً شيخاً، فقلت له: أنا صحفي ومن مصر، وأريد أن أعرف أسبانيا أيام الطراز الإسلامي، وأسبانيا أيام فرانكو، وأسبانيا أيام خوان كارلوس وهو الموجود حالياً، فأول ما سألته عن الإسلام بصق الرجل ومضى، والأندلس هي جنوب أسبانيا وهي الصعيد، فكل بلد فيها صعيد، يعني وجه قبلي ووجه بحري، فالصعيد ليس عندنا فقط، فالمسلمون ما دخلوا إلا صعيد أسبانيا التي هي الأندلس، ووقفوا تقريباً على منتصف أسبانيا من الأسفل، وعندما تذهب إلى هناك ترى فعلاً الآثار الباقية واضح عليها جداً اللمسات الإسلامية، فأول ما قلت للرجل: إسلامي بصق، وحدث نفس الموقف مع رجل آخر، وبصق أيضاً، ومكثت أبحث عن المسجد لأصلي الجمعة قرابة أسبوعين، ولم أعثر عليه حتى وصف لي وصفاً دقيقاً، وكنت متوقعاً أن أجد مسجداً وحيداً في مدريد له منارة وقبة، وظاهر عليه سمت المساجد التي نعرفها، فبحثت في الشارع كله فلم أجد المسجد، فسألت رجلاً: يقولون إن مسجداً في هذا الشارع؟! فبصق وتركني، وظللت أبحث عن المسجد حوالي أربع ساعات إلى أن عرفت أنه في عمارة في أسفلها، تنزل له بسبع أو ثمان درجات، ودخلت فلم أجد مسلماً من جنس أسباني أبداً، وإنما كل الموجودين في المسجد كانوا من الجالية العربية، وكان أغلب هؤلاء من أهل الشام.
فكنت أعمل صحفياً وأسأل الناس عن الأخبار، ومرة سألت رجلاً منهم يقال: إن هناك حي ليس للمسلمين فيه نصيب أبداً، ويقال والله أعلم: بني فيه مسجد، وهو حي من أعتى أحياء أسبانيا وهو حي الجامعة، فبينما كنت أمشي في يوم من الأيام لقيني رجل فعرف أني من مصر فقال كلمة أسبانية تعني: الأحرار، فهو لا يعرفنا إلا بالأحرار، وقال: لا بد أن أدعوك اليوم، وكان معي زميلي في الرحلة، فأخذنا إلى البيت وقال: هذا الخمر القديم أنا لا أنزله إلا للأحباب، وأنزل قارورة سوداء جداً، وصب منها كأساً، قدر عقلة الإصبع، فقلت له: الخمر عندنا حرام ولا يجوز، وأما صاحبي فكان عنده حب استطلاع فأخذها فقال الرجل: لماذا الخمر حرام؟ فقلت: لأنها تسكر، فرفع القارورة وقال: هه، وشرب منها، وأما صاحبي فشرب منها فاضطربت معدته وحصل لها ما حصل، بينما شرب الرجل وأتم معنا الجلسة وذهنه صافٍ وليس هناك إشكال.
فلا تؤثر مثل هذه الصورة على الحكم، لأنه يقال: الشاذ لا يقاس عليه، وإنما يقاس على الأعم الأغلب، يعني مثلاً: النفاس أكثره أربعون يوماً، فلو نفست امرأة مثلاً ثلاثة أشهر فلا يجوز أن نربط حكم النفاس على الثلاثة أشهر لقلة من يستمر معها النفاس ثلاثة أشهر، لكن لما تدبروا في حال النساء وجدوا أن أغلب النساء لا يزدن على أربعين يوماً، فجاز لهم تعليق الحكم بالعادة الغالبة، فالوصف المنضبط في الخمر هو الإسكار، وعلامة الإسكار تظهر على كافة الناس حيث يخرج الإنسان من وقاره ويتكلم بكلام يخلط فيه.
إذاً العلة في تحريم الخمر هي الإسكار، وهذه علة وصفها ثابت ومنضبط، فحيثما وجدنا هذه العلة في أي مشروب آخر فإنه يأخذ حكم الخمر؛ لأن علة الأصل -وهو الحكم السابق بتحريم الخمر في القرآن- تعدت إلى الفرع، وهي وصف ثابت منضبط لا يتغير، فمنكرو القياس قالوا: هذه الآية حجة لنا في نقد القياس؛ لأن القياس محض اجتهاد، وقد يخطئ الرجل في تنزيل العلة من الأصل على الفرع ويقول: هذا حكم الله فيخطئ، ولا يجوز لأحد أن يقول: هذا حكم الله بالاجتهاد، فرد عليهم الأئمة المثبتون للقياس بأدلة كثيرة، أتوا مثلاً ببعض الأحاديث التي استخدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم القياس، كما في الحديث الصحيح أن رجلاً أراد أن ينتفي من ولده، حيث التبس عليه أنه أبيض والولد أسود وأمه بيضاء، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا ليس ابني!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس لك إبل؟ قال: بلى.
قال: أليس فيها من أورق؟) يعني: أحياناً يأتي جمل لونه ليس كلون أمه: (قال: نعم.
قال: ومم ذاك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: وهذا لعله نزعه عرق) فمن الممكن أن يكون هذا الولد ينزع لجده، أو لجد جده، فيكون أخذ منه شيئاً من بعيد، فكما أن الجمل الأورق نزعه عرق فكذلك الولد نزعه عرق، فهل هذا إلا القياس؟ هذا هو القياس، حيث عدى العلة وهي اختلاف اللون من اختلاف الجمل عن لون أمه، إلى اختلاف لون الولد عن لون أمه وأبيه، أن هذا لعله نزعه عرق وهذا أيضاً لعله نزعه عرق، ثم نقول: إن الأحكام الشرعية تبنى على الظن الغالب، وليس معنى بناء الحكم على الظن الغالب أن نقول: هذا مراد الله، فهذا شيء وهذا شيء، وإلا فنقول لنفاة القياس: أنتم تفسرون الآية الواحدة بعدة تفسيرات، فهل تستطيع أن تجزم أن أي تفسير منها هو مراد الله؟ لا نستطيع الجزم، وهذا قرآن، فهل يبطل تفسير القرآن؛ ونقول: لا يجوز لنا أن نفسر القرآن وكلام الله عز وجل؛ لأنه قد يكون هذا التفسير ليس بمراد لله تعالى؟ لا، ولا نقول: هذا حكم الله، ولكن نقول: هذا هو حكم الشرع فيما ظهر لنا، وهذا سائغ.
وإذا كانت الأحكام تبنى على الظن الغالب فلا يجوز التمسك بهذه الآية في نفي القياس؛ لأن القياس راجع إلى حكم الشريعة، ألم نقل قبل: إن القياس هو تعدية علة أصل إلى فرع، وهذا الأصل هو كلام الله عز وجل، فإذا حددت العلة ونقلتها بشروطها، فأنا في تعديتي العلة من الأصل إلى الفرع لم أخرج عن حكم الله، ولم أخرج عن كلام الله عز وجل، فالقياس في حقيقته راجع إلى كلام الله عز وجل وإلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.(32/18)
نصيحة وحوار
الصحابة رضوان الله عليهم هم حملة هذا الدين العظيم، نصر الله بهم دينه ورسوله، وعلى أيديهم ارتفعت رايات الجهاد، وفتحت الأمصار، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، بذلوا الغالي والرخيص من أجل هذا الدين، فكانوا الأحق بأن يكونوا صحابة رسول رب العالمين، وأن يكونوا لمن خلفهم أسوة وقدوة، ولكن مع ذلك فقد حاول العلمانيون طمس عظمتهم من قلوب المسلمين بدعوى ظاهرة البطلان، وهي أنهم رجال ونحن رجال، فطعنوا بذلك في كثير من الأحاديث الصحيحة، ومن ثم طعنوا في دين الإسلام.(33/1)
فضل الصحابة رضي الله عنهم ودورهم في نشر الدين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أن رجلاً قال للمقداد بن الأسود رضي الله عنه: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فغضب المقداد بن الأسود غضباً شديداً، فقال له -التابعي راوي الحديث-: لم تغضب؟ قال: وما يدريك يا ابن أخي إن رجالاً رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأكبهم الله على وجوههم في النار).
لقد غضب المقداد رضي الله عنه؛ لأن الرجل زكاه لمجرد أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام، فاحتج عليه المقداد بأن هناك رجالاً رأوا النبي عليه الصلاة والسلام ومع ذلك أكبهم الله على وجوههم في النار.
وروى الإمام البيهقي في دلائل النبوة أن رجلاً قال لـ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركناه يمشي على الأرض)، فكأن هذا الرجل ينسب التقصير إلى الصحابة في توقيره عليه الصلاة والسلام، فيقول: لو كنت أنا مكانكم ما تركته يمشي على الأرض، أي: لحملته على رأسي.
فقال له حذيفة: يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا -أي: في يوم الأحزاب- وقد حفر كل منا لنفسه حفرة يدفن نفسه فيها من البرد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم وهو معي في الجنة؟ قال حذيفة: والله ما قام أحد)، مع أن الصحابة كانوا يتسابقون على أقل من ذلك، ومع ذلك من شدة البرد ما استطاع أن يقوم أحد.
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم لديهم جلد عجيب، فالذي يذهب إلى مكة الآن ليحج لا يكاد يطيق الحر مدة خمسة أو ستة أيام مثلاً، وهم قد كانت هذه حياتهم بصفة مستمرة، فقد كان عندهم جلد إلى هذا الحد العجيب، ومع ذلك لا يقوم أحد؛ فلك أن تتصور شدة البرد التي كانت موجودة آنذاك! قال: (والله ما قام أحد، فقال: من يأتيني بخبر القوم وهو معي في الجنة؟ قال: فما قام أحد ثلاث مرات، قال حذيفة: فتقاصرت خشية أن يدعوني، فقال لي: قم يا حذيفة! قال: فقمت، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، قال: فدعا لي، وقال: اذهب إلى القوم وائتني بخبرهم، ولا تذعرهم علينا، قال: فذهبت كأنني أمشي في حمام -ذهب إلى مكان تجمع قريش والأحزاب- قال: فكنت أسمع ضرب الحجارة بعضها ببعض من شدة الريح، والله ما تجاوزت معسكرهم -أي: أنه كان واقفاً قريباً من الأحزاب وهو لا يشعر بشيء من الريح، وكانت الحجارة تضرب بعضها بعضاً داخل المعسكر- قال: ورأيت ناراً عظيمة ورجلاً، فعلمت أنه أبو سفيان، وكانت هذه أول مرة أرى أبا سفيان فيها، قال: فهممت أن أخرج القوس وأضربه، حتى تذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: ولا تذعرهم علينا، قال: فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام، فلما وصلت إليه عاد لي القُر -أي: البرد، يعني أنه عاد بارداً برداً شديداً يكاد يموت من البرد بعدما أدى المهمة- قال: فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم بردة له فتدثرت بها ونمت حتى أصبحت، فجاءني فأيقظني فقال لي: قم يا نومان!).
وهذا الحديث رواه أيضاً الإمام مسلم رحمه الله تعالى، فالصحابة رضوان الله عليهم ما وصلوا إلى هذه المرتبة إلا بخالص تضحيتهم لله تبارك وتعالى، ولذلك قال عبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وابن مسعود لبعض هؤلاء التابعين: والله لو عمِّر أحدكم عمر نوح ما ساوى ذلك مُقام رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصف ساعة.
لقد اصطفى الله تبارك وتعالى هذا الجيل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب العالمين، فاصطفى قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين، فاصطفى قلوب أصحابه له).
هؤلاء الصحابة الكرام لو أنهم تخاذلوا وانطووا على أنفسهم لما وصلنا هذا الدين، فإنه لم يصلنا إلا على رقاب هؤلاء الصحابة الذين بلغوا هذا الدين ولم يخافوا في الله لومة لائم.(33/2)
طعن العلمانيين في الصحابة رضي الله عنهم من خلال المسلسلات
كذلك نجد في المسلسلات التي تنشر في التلفزيون وتتحدث عن المسلمين والسيرة شيئاً عجيباً! فقد كان هناك مسلسل قديم منذ حوالي خمس عشرة سنة اسمه: (على هامش السيرة) عرضوا فيه المنظر الآتي: أبو الدرداء يزور أخاه أبا ذر، فتخرج له امرأة أبي ذر، فتقول له: هو غير موجود، تفضل.
تفضل!! كيف يتفضل الرجل وزوجها غير موجود في البيت؟!! هل كان نساء الصحابة كذلك؟! أليس هذا من القذف الذي ينبغي أن يجلد فيه هؤلاء جميعاً؟! ثم إنه سينطبع في أذهان الناس أن الممثل الذي يمثل أبا ذر كان أمس في مسلسل على الفراش مع امرأة فاجرة! فأنا -كناشئ جديد- أرى أن أبا ذر هو ذلك الرجل الذي كان يمشي مع تلك المرأة، أو كان نائماً معها في الفراش في الليلة الماضية في مسلسل ما، فتذهب صورة هذا الصحابي في نظري.
كذلك عندما صوروا إبليس، صوروه بلحية سابغة إلى السرة، ولما صوروا مصعب بن عمير جعلوا له (سكسوكة) هكذا.
ما الذي يمنع أن ينطبع في أذهان الشباب أن اللحية العظيمة هي لحية إبليس، فيقترن في ذهن هؤلاء أن اللحية العظيمة لإبليس، فبالتالي ينفرون من اللحية العظيمة.
وقد حدث لي هذا الأمر: فقد كنت ذات مرة أركب دراجة عادية، وفي يوم شديد الريح وأنا أمشي تعرض لي أولاد صغار لا تتجاوز أعمارهم الست سنوات، فعندما رأوني صرخ بعضهم على بعض: الشيطان الشيطان! وهربوا.
فمن أين عرف هذا الولد الصغير الشيطان؟ والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، لقد أخذوا هذا الأمر من المسلسلات، يكبر الولد وقد انطبع في قلبه ووجدانه أن اللحية من فعل الشياطين الأبالسة، فيكبر وهو يكره أهل اللحى.
فهؤلاء يريدون تحطيم التأسي بالصحابة؛ لأن الأسوة لا تكون إلا بهم، والنص النظري المحض لا يؤثر تأثيره، فمثلاً عندما تقرأ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فإن هذا لا يؤثر فيك كما إذا قرأت أنه في غزوة من الغزوات كان هناك رجل في الرمق الأخير وطلب ماءً، فسمع أخاه يريد ماء فقال: أعطه، والثاني سمع أخاه يطلب ماء فقال: أعطه وكانوا عشرة، ويأبى كل واحد وهو في النزع الأخير أن يشرب ماء وهو يسمع أخاه يقول: أريد ماءً، فيعطيه، حتى يصل إلى الأخير، فيقول: لا، فيرجع إليهم فيجدهم جميعاً قد ماتوا!! إن تأثير هذا الموقف أكثر من تأثير حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فالتأسي في الحقيقة لا يكون إلا بهذا الجيل.
فهم جميعاً قاموا بقضهم وقضيضهم على هذا الجيل، حتى يبينوا أنه لا فضل لهم علينا لماذا؟ لأنهم رجال ونحن رجال!!(33/3)
أهمية الاقتداء بالصحابة والسير على منهجهم
فالواجب علينا أن نطالع سيرة هذا الجيل، ومن أمتع الكتب التي ذكرت سير السلف: سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين الذهبي.
نحن نشبه الإسلام بمثلث حاد الزاوية، فلو وضعت نقطة وأخرجت منها ضلعين، النقطة هذه لا أبعاد فيها، حتى إذا سلمنا أن فيها مسافات فإنها لا تكاد تذكر، وهذه النقطة هي زمان النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان الكل فيه على قلب رجل واحد، والمسافات الصغيرة هي وجهات النظر التي تكون بين العباد؛ لاختلاف عقولهم ونحو ذلك، لكن في النهاية كانوا على قلب رجل واحد، وكلما بدأت بالنزول من هذه النقطة إلى أسفل، كلما زادت المسافة بين الضلعين، فالضلع الأول نعتبره الإسلام الصافي، والضلع الثاني هو تطبيق المسلمين لهذا الإسلام -واقع المسلمين- فكلما ابتعدنا عن هذه النقطة كلما زادت المسافة بين الضلعين إذاً: ما هو الحل؟ الحل أن نقترب دائماً من هذه النقطة، تقترب من زمن النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: المرء كلما بعد عن المصباح أوغل في الظلام، فالحل: أن تصعد إلى الأعلى، فإنه كلما صعدت إلى أعلى -إلى الجذور الأولى- واقتربت من هذه النقطة؛ كلما قل الخلاف بينك وبين إخوانك، وكلما تركت هذه النقطة وبعدت عنها؛ كلما زادت الهوة، كما هو حادث الآن.
فنحن يجب علينا أن نصعد إلى أعلى، إلى النقطة التي تمثل زمان الرسول عليه الصلاة والسلام.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأسون بهذا الجيل الفريد العظيم، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(33/4)
خواء روحي وتخاذل ديني
لقد عجزنا عن أن نجعل قضية الإسلام كقضية رغيف الخبز!! فإنه لو صدر قرار برفع قيمة رغيف الخبز لوجدت أن كل المناقشات في البيوت عن رغيف الخبز: كيف نأكل وكيف نشرب؟ ولو ارتفع سعر الوقود لتكلم كل الناس عن الأسعار وكيف نعيش؟ فلو أن الإسلام صار كرغيف الخبز بالنسبة للمسلمين لما كان هذا حال المسلمين، لكن -وبكل أسف! - كل إنسان لا يشعر أن الإسلام قضيته العظمى، بدليل أنك تراه قد ينتهك حرمات الله عز وجل بينه وبين نفسه، ومع ذلك لا يشعر بشيء من وخز الضمير.(33/5)
طعن العلمانيين في الصحابة رضي الله عنهم حديث الذباب نموذجاً
إننا نحن نحتاج إلى النظر في ذلك الجيل العظيم الذي يحاول العلمانيون الآن طمس عظمته بدعوى أنهم رجال ونحن رجال.
كتب أحد الكتاب العلمانيين مقالة يقول في ضمنها: إن أبا هريرة رضي الله عنه كان رجلاً يمشي على ملء بطنه مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان همه الأكل والشرب، وكان مزاحاً، ولو أن أحداً أعطاه مالاً أو أطعمه فإنه على استعداد أن يحدثه بأحاديث لم يقلها النبي عليه الصلاة والسلام!! ثم شرع الكاتب يأتي بأحاديث تخالف العقل عنده، وهي عند البخاري ومسلم مثلاً، ويقول: هذه لا يمكن أن يقولها النبي عليه الصلاة والسلام، كحديث: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه)، مع أن هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري أيضاً!! ويقول: إن العالم يعيرنا بهذا الحديث العالم الآن يطرد الذباب لمضرته، ونحن نقول: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) أي: أن في الحديث دعوة من الرسول عليه الصلاة والسلام لاصطياد الذباب انظر إلى هذا الكلام! مع أن الحديث لم يقل: أسقط الذباب، لكنه قال: إسقاط الذباب وأسقطه، لكن قال: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء).
هب أن رجلاً فقيراً معوزاً، وبعد طول جهد اشترى أكلاً أو شراباً معيناً، فسقط فيه ذباب، فهل يُمنع هذا الرجل بعد هذا الجهد أن يأكل هذا الطعام الذي يشتهيه؟ إذاً من الممكن أن يغمس الذباب ثم يأكل أكله أو يشرب شرابه بدون حرج.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما ألزمك أن تأكل الأكل الذي سقط فيه الذباب، لكنه ألزمك بغمس الذباب، فغمس الذباب واجب؛ لكن أكل الأكل ليس بواجب، فإنه لم يقل أحد قط: إنك لا بد أن تأكل الأكل الذي سقط فيه الذباب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فليغمسه) إذاً: غمس الذباب هو الواجب، وبعد ذلك اعمل في طعامك ما شئت، وإذا جاء بعدك رجل لم يعلم أن هناك ذباباً سقط فيأكل وهو مطمئن.
والسر في غمس الذباب: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال -كما في سنن أبي داود في طريق من طرق الحديث-: (فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء)، أي: أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الداء، فعندما تغمس الذباب، هذه القوة مع مقاومة السائل ينفجر بها الكيس الآخر الذي فيه الدواء، فينزل الدواء فيقضي على الداء، فكأنه ما سقط فيه شيء.
فيقول هذا الكاتب: هذا عار علينا أن نقول للعالم: إننا نُسقط الذباب في الطعام؛ فإنهم سوف يستقذروننا ويتركون ديننا، والإسلام نظيف، والرسول عليه الصلاة والسلام نظيف، وديننا دين النظافة إلى آخر ذلك الهراء.
ثم يقول: هذا الكلام سيطبع في أذهان الناس أن هذا دليل على أن أبا هريرة رجل يكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، فأنا إذا علمت أن أبا هريرة بهذه المثابة فإنه يقل اقتدائي بهذا الرجل!!(33/6)
الأسئلة(33/7)
الموقف من أحداث الفتنة بين علماء السعودية
السؤال
ما موقفكم مما حدث في السعودية من فتنة بين علماء المدينة وبين المشايخ الأربعة الذين منهم: الدكتور ناصر العمر والشيخ سلمان؟
الجواب
هذه الفتنة أنا ما زلت حريصاً على أن أتجنبها بالكلية؛ لأنك لن تحمد حتى إذا قلت كلمة الحق، وقد قلت مرة لطلبة العلم في جدة: أنا أرى أن تتجنبوا هؤلاء وهؤلاء، عليكم بالعلم؛ لأن كلامك غير مؤثر، فطالب العلم مثلاً لما يقول: أنا مع فلان أو ضد فلان هل حل الإشكال؟ لم يحل الإشكال؛ لأنهم ليسوا رءوساً، إنما هم طلبة.
فخرج بعضهم يقول لبعض: إنني أميِّع المسائل والقضايا.
والذي أظنه من سماعي للجانبين أن هناك هوى عند الجانبين، وأنا أظن أنه لو وجد الإخلاص عند هؤلاء لاجتمعوا؛ لأن نقاط الخلاف لا تستدعي مثل هذا العداء الشديد بينهم، إنها مسائل عادية، لكنهم لا يحملون كلام بعضهم على الخير أبداً، فهؤلاء عندهم خير وهؤلاء عندهم خير.
فمثلاً: فقه الواقع أمر ضروري، فلو تجاهلناه بالكلية لضعنا، لكن على الجانب الآخر هناك من يضخم هذه المسألة، فقد سمعت شريطين للشيخ سفر اسمهما: الوعد الحق والوعد المفترى، يقول مثلاً: الأعداء لهم خمسون صحيفة ومجلة، وأربعمائة محطة تلفزيونية، ومائتان وخمسون إذاعة، وأربعون قمر تجسس على منطقة الشرق الأوسط، وعندهم وعندهم! أنا عندما أقول هذا الكلام لأمة ضعيفة لا تملك رغيف الخبز، فإنها سوف تصاب بالإحباط، فهذا الكلام يقال لأناس ربُّوا تربية حقيقية، أكشف لهم فيه عدوهم بهذا الكلام حتى يأخذوا أهبة الاستعداد، لكن أن أقول هذا الكلام لضعاف لا يملكون رغيف الخبز، فتكون النتيجة أن يصابوا بإحباط شديد.
وأنا أرى أن الشباب هم الذين أفسدوا بين المشايخ؛ فإن المشايخ عادة لا يلتقي بعضهم مع بعض إلا لماماً، والشباب لا يكفون عن الكلام.
والخلاصة: أن هذه الفتنة ليس عندي اطلاع كبير عليها؛ لأنني متجنب لها نسأل الله أن يقينا شرها.(33/8)
حكم دخول الإسلاميين في البرلمانات
السؤال
ما رأيكم في دخول الإسلاميين في البرلمانات والمشاركة في الواقع السياسي؟
الجواب
هذه المسألة تختلف من بلد إلى بلد، فمثلاً: عندنا في مصر دخول البرلمان لا قيمة له، بل دخول البرلمان يعتبر مضيعة للوقت، فعندما دخل الإخوان المسلمون البرلمان، بعضهم دخل ضمن حزب العمل، وبعضهم دخل ضمن أي حزب من الأحزاب، ومعروف أن في النظام الديمقراطي أن الحكم للأغلبية، فالحزب الحاكم حريص -بطبيعة الحال- على أن يكون له أغلب الأصوات في البرلمانات، وأي مشروع يذهب أدراج الرياح إذا لم يوافق عليه الأغلبية، فنقول: لو كان هناك تسعة وتسعون عالماً، وهناك مائة رجل جهال لا يفهمون أي شيء، فإن هؤلاء المائة يكسبون.
فلذلك هم لم يحققوا أي شيء تقريباً، بالإضافة إلى أنه ملزم في بدء الدخول أنه يقول: باسم الشعب، باسم الدستور، باسم الأمة، باسم كذا ألا أخالف وألا وألا وعندما سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن مسألة الدخول في البرلمان وقيل له: إننا نغير ونعمل، ولنا سلطان ولنا كذا قال: لا بأس بالدخول، ثم قيل له: ولكن سيقول: باسم الأمة، باسم الدستور قال: لا يجوز له أن يدخل؛ لأنه لا يجوز أن يشارك في مباح بارتكاب شرك وحرام.
فلذلك أنا أعتقد أن هذه المسألة تختلف من بلد إلى آخر.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(33/9)
حكم القيام لاستقبال الضيوف
السؤال
ما حكم قيام الناس كلهم لاستقبال الضيوف؟
الجواب
الذي يستقبل الضيف في الغالب هو صاحب الدار، لكن لو قام بعض الناس للاستقبال أيضاً فلا بأس به إن شاء الله.(33/10)
حقيقة غضب من لم يقم له الناس
السؤال
ما هي حقيقة غضب من لم يقم له الناس؟
الجواب
الذي يغضب لأن فلاناً لم يقم له، لا يعلق المسألة بسفر أو أنه لم يرني منذ مدة؛ بل هو يحب أن يتمثل له الناس قياماً.
ثم إن طلحة بن عبيد الله لما قام لـ كعب، فقال كعب: لست أنساها لـ طلحة؛ لأنه أثر فيه، لكن الصحابة لم يرتكبوا شيئاً من المخالفات عندما لم يقوموا له، فإذا علمنا أن الرجل يغضب إذا لم يقم له الناس؛ فاعلم أن هذا من الكبر الكامن في النفوس.(33/11)
توجيه حديث: (قوموا إلى سيدكم)
السؤال
هل يجوز الاستدلال بحديث: (قوموا إلى سيدكم) على القيام للآخرين؟ هذا الحديث له مناسبة: وهي أن سعد بن معاذ كان مجروحاً، وكان راكباً على الدابة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فكان القيام هنا لإنزاله وليس لاستقباله وتعظيمه، فلذلك لا حجة فيه.(33/12)
حكم السلام مع المصافحة
السؤال
ما حكم إلقاء السلام ثم المصافحة بعد ذلك؟
الجواب
المصافحة لها فضيلة، لكن لو دخل وسلم السلام العام فإنه يجزئ، أما قول: السلام عليكم، مع كل مصافحة، فإن الذي يظهر هو إلقاء السلام على الكل ثم تتم المصافحة بعد ذلك.(33/13)
كيفية تحريك الأصبع في التشهد
السؤال
كيف تحرك الأصبع في التشهد؟
الجواب
توضع الأصبع بحيث تكون شبيهة بـ (51) ثم تحرك، وليس في الحديث رفع وخفض، إنما في الحديث تحريك، فيتم التحريك مع عدم انفكاك الإصبع عن القبلة.(33/14)
كيفية الصعود إلى الركعة الثالثة بعد التشهد الأوسط
السؤال
كيف يقوم من أراد الصعود إلى الركعة الثالثة؟
الجواب
بعض العلماء يرى أن الإنسان يعتمد على يديه إذا أراد أن يقوم، لكن خروجاً من الخلاف يقوم على راحة اليد؛ لأن هذه لا خلاف فيها بين العلماء.
أما بالنسبة لرفع اليدين هل يكون والمصلي جالس أو قائم؟ فهناك ثلاثة أوضاع لرفع اليدين: إما أن يرفع وهو قاعد، أو يرفع مع القيام، أو يرفع بعد القيام.
فهو مخير في هذه الثلاثة الأوضاع.(33/15)
وقت إدراك تكبيرة الإحرام
السؤال
متى يدرك المأموم تكبيرة الإحرام مع الإمام؟
الجواب
يدرك تكبيرة الإحرام إذا لم يبدأ الإمام في قراءة الفاتحة؛ لأنه إذا كبر تكبيرة الإحرام -وهي ركن- ثم بدأ يقرأ الفاتحة، فيكون قد انتقل من ركن إلى ركن آخر، فإذا جاء المأموم فكبر تكبيرة الإحرام والإمام يقرأ الفاتحة أو يقرأ السورة، فلا يقال: إنه أدرك تكبيرة الإحرام؛ لأنه لا يدرك تكبيرة الإحرام إلا من جاء والإمام لم ينتقل إلى وضع آخر، أما إذا انتقل إلى وضع آخر -ركن أو هيئة- فهذا لم يدرك تكبيرة الإحرام.(33/16)
الخطوات العملية المعينة على التمسك بهدي سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم
السؤال
ما هي الخطوات العملية التي ينبغي للمسلم أن يسلكها حتى يسير على نفس منهج أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
كان وكيع بن الجراح يقول: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا عن كل مائتي حديث بخمسة.
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام يعمل به، حتى إنه روى حديثاً أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجام أجرة، فدعا الحجام فحجمه وأعطاه أجرة، ثم قال الإمام: ما كان بي من حاجة إلى الحجامة، لكن أردت أن أعمل بالحديث.
فمن سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن ينفذه حتى ولو كان بخلاف هواه، وهذه المسألة تحتاج إلى تدريب وممارسة.
وقد كان عبد الله بن وهب -الإمام المصري المعروف من تلاميذ الإمام مالك - يقول: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، والأصل أن المسلم لا يتوسع في مسألة النذر؛ لأن الأشياء المستحبة أو المباحة تصير فرضاً بالنذر، فلو نذر الإنسان أن يصوم الإثنين والخميس، صار في حقه بمنزلة رمضان؛ لذلك لا يستحب للإنسان أن يكبل نفسه بالنذر، وليكن في سعة.
لكن أحياناً قد يكون الإنسان متفلتاً، فهذا لا بأس أن يكبل نفسه بالنذر كنوع من الأدب، لكن لا يتوسع، فيقول مثلاً: نذرت لله أن أقرأ جزءاً من القرآن كل يوم، لكن يستحب له في النذر أن يستثني، فيقول: نذرت لله أن أقرأ جزءاً من القرآن كل يوم إلا إن عجزت، فإن عجز فلا يلزمه أن يكفر عن نذره.
فالإنسان كأسلوب من أساليب التربية ينذر أنه إذا سمع حديثاً نفذه بقدر استطاعته ولا يتجاوزه، وإذا كان له أولاد فإنه يحاول أن يربيهم على هذا المنهج ويختبرهم.
أحد الإخوة أراد أن يعلم ابنه الصغير أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام هو الأمر الأول، وأنه لا يجوز أن يقدم على أمره أحداً، فجلس معه ليلة، ثم قال له: إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يجب أن يطاع، وإذا أمرتك بأمر وأمر الرسول بأمر آخر، فيجب أن تخالفني وتطيع الرسول عليه الصلاة والسلام.
وعند ذلك طُرق الباب، فقال له أبوه: قل له أنني في الخارج.
فالولد لأنه صغير ولا يفقه هذه المسألة قال له: أبي ليس هنا.
فنهر الأب ولده وقال له: أليس هذا من الكذب؟ قال: نعم، من الكذب.
قال: ألم ينه الرسول عليه الصلاة والسلام عن الكذب؟ قال: نعم.
قال: إذاً ما هو الواجب عليك في هذه المسألة: أن تخالفني كما اتفقنا أو تطيع أمري؟ قال: بل أخالفك.
والولد كانت هيبة أبيه عنده كبيرة، فعندما يقول له: قل كذا -كذباً- فكان يطيع أباه، فيكذب، فيقول له أبوه: أليس كذا أليس كذا؟ حتى ترسخ في ذهن الولد مع مرور الأيام أنه لا يجوز مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فانظر كم أخذ الولد من الوقت حتى تربى على هذا الأمر! فزرع السلوك يحتاج إلى فترة من العمر، وهو كالرياضة تماماً.
فتنفيذ النصوص يحتاج إلى ممارسة وإلى سمع وطاعة.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدينون بمخالفة الهوى؛ ففي غزوة تبوك تخلف أبو خيثمة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو خيثمة هو الذي تصدق بصاع من تمر فلمزه المنافقون كان أبو خيثمة متزوجاً بامرأتين، فلما دخل بيته وجد كل امرأة قد رشت الماء وجهزت الأكل والماء البارد، فتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بخ بخ! أنا بين زوجتين حسناوين، وماء بارد، وظل ظليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الريح والشمس، والله لا أدخل على أي واحدة منكما، جهزا لي الفرس، فجهز نفسه وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا الرجل عندما وجد نفسه في نعيم، وحبيبه رسول الله في الريح والشمس، لم يتحمل؛ لأنه شديد الحب للرسول عليه الصلاة والسلام، لذلك لم يدخل العريش ولم يشرب الماء، وانطلق خلف النبي عليه الصلاة والسلام.
إن المهمة في غاية الصعوبة؛ لأن المعين على الخير قليل جداً في هذا الزمان، وقد كان الصحابة رغم شدة ما كانوا يعانونه لكن كانوا جميعاً متكاتفين على شيء واحد، فنحن في زمان الغربة الثانية نعاني أشد مما عاناه أسلافنا في الغربة الأولى، فقد كانوا في الغربة الأولى عندهم من الإيمان ما يلوذون به في حال الكرب لقد كان بلال رضي الله عنه يلوذ بإيمانه إذا شدوا عليه في العذاب، لكن نحن الآن ليس عندنا من الإيمان ما عندهم، وعلينا من الضغط نحو ما كان عليهم، ونحن نقول هذا الكلام حتى نبين وعورة الطريق، فإن العبد إذا علم أن الطريق وعر استعد له، أما إذا كان يظن أن الطريق ممهد إلى آخره فاعترضته عقبة؛ فإنه قد يصاب بإحباط.
ولذلك فإن بعض المسلمين الذين ينتسبون إلى الالتزام أول ما يصاب بمصيبة يسقط مباشرة؛ لأنه لم يتوقع أنه سيصاب بهذه المصيبة؛ لكنه لو علم أن هذا الطريق كله عقبات، وأنه لا بد أن يُبتلى فابتلي، فيكون قد وطن نفسه لذلك، فإن المفاجأة تضعف عزم القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم والحديث في البخاري بأخصر من لفظ مسلم -: (والله! لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة كان معه راحلته وعليها طعامه وشرابه، فظلت منه، فلما يئس استظل بظل شجرة ونام، فاستيقظ من نومه وإذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح).
ومما يدل على ذلك أيضاً: قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، ولو افترضنا أن هناك إنساناً يأخذ مرتباً جيداً، فإن هذا المرتب لا يُشعر الإنسان بسعادة؛ لأنه أول كل شهر يعرف أنه سيأخذ المرتب الفلاني، لكن لو أنه ذهب ليأخذ المرتب فقالوا له: ومع المرتب نصف شهر مكافأة.
فستكون فرحته بالمكافأة أعظم من فرحته بمرتب الشهر؛ لأنه لم يتوقعه، ولذلك يقول الله عز وجل:) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)؛ لأن فرحة المؤمن بالرزق من حيث لا يحتسب أعظم من فرحته بالرزق الذي يتوقعه.
وكذلك على الجانب الآخر لو حصلت مشاجرة بين رجل وجاره فلطمه مثلاً، فإن هذا لا يؤثر فيه مثلما لو حدثت مشاجرة بين الرجل وابنه فلطمه ابنه، فإن هذه تكون أقسى بكثير جداً؛ لأنه لم يتوقعها.
فأي شيء لا يتوقعه الإنسان يفت عزم القلب، سواء كان بالخير أو كان بالشر، فلذلك الإنسان الذي يمشي على هذا الطريق يجب أن يتوقع البلاء حتى لا يُصدم.
نقول هذا الكلام تنبيهاً على أن الطريق مليء بالعقبات مع عدم وجود المساعد على الخير؛ بل هناك من يحاول إبعادك عن هذا الالتزام، فأنت تتوقع مثل هذه الغربة، وتعلم أنه لا معين لك على الخير؛ فتستعين بالله تبارك وتعالى في تنفيذ كل حديث يبلغك عن النبي عليه الصلاة والسلام، حتى تصبح بعد فترة -إن شاء الله- من المتمرسين على العمل.(33/17)
حكم القيام لمن دخل مجلساً
السؤال
ما حكم القيام لمن دخل مجلساً؟
الجواب
لا يشرع قيام الجالسين للداخل إلا إذا قصد به الاستقبال، أما أن يقوم مجرد قيام فأكثر العلماء على تحريم ذلك وللإمام النووي رحمه الله رسالة في جواز القيام لأهل الفضل، وقد رد عليه كثير من العلماء فيها، فهو يرى جواز القيام لأهل الفضل من باب إنزال الناس منازلهم، لكن نحن عندنا أحاديث صريحة في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن القيام، منها: حديث أنس في الصحيح قال: (ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك).
فلذلك نوصي إخواننا في الله أن يظلوا على حالهم، أي: لا يقوموا إلا إذا قصدوا الاستقبال، أما أن يكون قياماً مجرداً فهذا مما يُنهى عنه.
وقد جاء في تاريخ بغداد للخطيب في ترجمة الإمام الثقة علي بن الجعد: قال علي بن الجعد: دعا أمير المؤمنين المأمون تجار الذهب وناظرهم؛ لأنه كان يريد أن يشتري -يريد أن يرى الأرخص سعراً- قال: فخرج المأمون لقضاء حاجته ثم رجع، فقاموا جميعاً ولم أقم، فلما رأى المأمون ذلك غضب، وقال: أيها الشيخ! ما حملك على ألا تقوم كما قام أصحابك؟ قلت: أجللت أمير المؤمنين لحديث مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعنا من القيام.
قال: وما ذاك؟ فقلت: حدثني المبارك بن فضالة، عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الرجال له قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)، قال: فأبطأ المأمون ساعة، ثم قال: ما ينبغي أن نشتري إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار.
يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
والبركة دائماً في تنفيذ كلام الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهناك شبهة يذكرها البعض في هذا البحث، وهي في قوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث معاوية بن أبي سفيان عند أبي داود وغيره-: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار) قالوا: قوله: (من سره) والسرور أمر قلبي، فكيف يتأتى تنفيذ هذا الحديث وهو متعلق بأمر قلبي؟ والجواب: أن الحكم إذا كان متعلقاً بأمر قلبي فلا بد أن توجد قرينة في الخارج حتى يعلق بها الحكم، والقرينة هنا هي: غضب الرجل إذا لم يقم له الناس، فإذا كان السرور أمراً قلبياً لا نستطيع معرفته، فنحن نعلق الحكم بغضب الرجل، وهذه قرينة ظاهرة يمكن أن يعلق الحكم بها.
إذاً: لو أن الرجل غضب إذا لم يُقم له؛ فهذا ممن ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)، وتكون القرينة الخارجية التي عُلق بها الحكم هي الغضب الذي ظهر على وجه هذا الرجل؛ إذ أنه لو كان القيام والقعود عنده سواءً لما غضب أبداً، إذاً غضبه دليل على أنه ممن يُسر بذلك.
وكذلك سائر الأحاديث التي يكون فيها الحكم متعلقاً بأعمال القلب، ولا سبيل إلى معرفتها، فلا بد من البحث عن قرينة خارجية نعلق بها الحكم، ويكون لها ارتباط بعمل القلب.
لكن لو أن الناس قاموا لاستقباله، فهذا جائز؛ بدليل أن فاطمة رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام لاستقبالها وأجلسها في مكانه، وكذلك حديث زيد بن ثابت لما قدم على النبي عليه الصلاة والسلام فقام فاستقبله والتزمه -أي: اعتنقه-.
ومن المسائل التي ينبغي التنبيه عليها أيضاً: مسألة العناق، فإن العناق لا يكون إلا لمن أتى من سفر، أما إذا كنا من أهل الحضر، ونحن نلتقي ولو على فترات متباعدة، فإنه لا يشرع هذا العناق الذي يكون عادةً بين الإخوة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل -كما في سنن الترمذي-: (إذا قابل الرجل أخاه أيقبله؟ قال: لا.
أيلتزمه -يعني يعتنقه-؟ قال: لا.
أينحني له؟ قال: لا.
أيصافحه؟ قال: نعم).
فلا يشرع في هذا كله إلا المصافحة، أما العناق والالتزام فلا يكون إلا للقادم من سفر، كما جاء في حديث زيد بن ثابت الذي حسنه الإمام الترمذي: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء زيد المدينة قام إليه واعتنقه)، وحديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي رواه الإمام أحمد وغيره، لما بلغه أن عبد الله بن أنيس عنده حديث لم يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، فابتاع جابر بعيراً وسار عليه شهراً، حتى وصل إليه، فقال للغلام: قل له: جابر.
فقال عبد الله بن أنيس: ابن عبد الله؟! فقال له: نعم، قال: فخرج فاعتنقني -أو قال: فالتزمني- وقال: ما جاء بك؟ قلت: حديث بلغني عنك إلى آخر الحديث.
فهذا الصحابي الجليل عانق أخاه بعد القدوم من سفر، أما ما يحدث بين الإخوة من التقبيل -وبالذات قبلة الخد- فهذا أمر عجيب جداً! إنما التقبيل الذي ورد في الأحاديث هو التقبيل في الجبهة، أي: ما بين العينين، هذا هو الذي يشرع دون غيره.(33/18)
ابن تيمية
إن الناظر في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وما وهبه الله من العلم، والحجج والبراهين في دحض شبه أهل الأديان السماوية وأهل البدع من أهل الملة ليجد أن كل من أتى من العلماء بعده عيال عليه.
فهم يستمدون من علمه، ويلتمسون من سمته وهديه وأدبه وحسن مناظرته لأهل البدع، ولا يجدون ردوداً أقوى من ردود ابن تيمية رحمه الله، كما ضرب أروع الأمثلة لأهل الابتلاء ممن سجنوا وعذبوا فقد سطر لهم عناوين السعادة، وعبارات الشهادة، وألفاظ السيادة في الدنيا والآخرة، فرحمه الله من مجدد لمجد الإسلام رحمة واسعة.(34/1)
الرضا بقضاء الله وقدره
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
فمن أعظم الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو: رضاه بقضاء الله عز وجل، أكثر الناس يصبر على القضاء، لكن أقلهم يرضى، لذلك قال العلماء: الصبر على القضاء واجب، والرضا به مستحب، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأسألك الرضا بعد القضاء) وأنه لا يرضى عن الشيء الذي يكرهه إلا الأفذاذ من الناس، أين هذا النوع في الناس؟ يبتلى بضد ما يكره فيبتهل إلى الله شكراً، تستوي عنده النعمة ويستوي عنده الضر، أقل الناس هم الذين يصبرون على البلاء.
الذي ينظر إلى حياة شيخ الإسلام رحمه الله تراه كان يرضى بالحبس إذا خير ولا يهاجر في الله تبارك وتعالى، موقفه مع غازان موقف مشرف، موقف العالم الثبت، لما قدَّم غازان للعلماء طعاماً أكلوا وأبى شيخ الإسلام رحمه الله أن يأكل، فقال له غازان: لِمَ لم تأكل؟ قال: وكيف آكل وهذا مما نهبتموه من أموال الناس، وطبختموه على ما قطعتموه من شجر الناس؟! لذلك نحن الآن نتكلم عنه: أين خصومه؟ أكاد أقطع أنه لا يوجد فيكم إلا القليل ممن يعلم خصوم ابن تيمية، من يعرف ابن الزملكاني أو ابن الوكيل، أو نصر المنبجي أو تقي الدين السبكي؟ ربما تعرفون أبا حيان النحوي صاحب البحر المحيط، وتاج الدين السبكي عبد الوهاب بن تقي الدين، وابن مخلوف ذاك الشيطان -كما يصفه الشوكاني - رجل مصاص للدماء، ومن عيوب المذهب المالكي التوسع في القتل تعزيراً، يعني: يجوز للسلطان أن يعزر، وتعزيره يصل إلى القتل، فيتوسعون في إهدار الدماء تعزيراً، وكان ابن مخلوف يتوسع في هذا جداً.
كل هؤلاء كانوا علماء ولهم مصنفات، ولكن أين ذكرهم الآن؟ شيخ الإسلام رحمه الله من وقت ما ظهرت إمامته سنة (698هـ) عند أول محنة، في العقيدة الحموية الكبرى، وهو مثار جدل عريض إلى هذه الساعة، وهو صاحب فضلٍ على كل الحركات الإسلامية المعاصرة الآن، والكل يأخذ من كتبه وإنما يأخذ من بحر.
فهذا هو الذكر الحسن الذي لا يجعله الله عز وجل إلا لمخلص، الذي يقرأ سيرة شيخ الإسلام يشعر بالرضا في تصرفاته، ما نقم، آخر مرة أخذوه في قلعة دمشق فقال قولته التي صارت مثلاً يتمثل به الدعاة المضطهدون، قال: (ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما حللت فهي معي -جنته وبستانه: الكتاب والسنة، هي معه أينما حل- إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني من بلدي فسياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة) هو على أي وجهٍ راضٍ، ويرى أنه يؤدي واجبه، وفي أي وجهةٍ يوجهونه يذهب إلى الله تبارك وتعالى، قتلوه شهادة، حبسوه خلوة، نفوه عن بلده سياحة.
فقد وظف كل حياته لله تبارك وتعالى، ترى فيه قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] كل حياته له، لذلك ما ضره التشريد، وما ثناه عن رأيه يوماً ما، والله تبارك وتعالى حما هذا الدين بهؤلاء العلماء، ولو داهن العلماء في كل جيلٍ ما وصل إلينا العلم والدين.
إن الكتب التي صنفت في بيان معاني القرآن والسنة لو وضعت إلى جنب بعض لغطت الكرة الأرضية؛ كل هذا لبيان معاني الكتاب والسنة أي دينٍ أعظم من ديننا؟! وهل هناك أتباع دينٍ خدموا دينهم كأتباع ديننا من العلماء؟ أبداً.
المطبوع الآن من الكتب لا يساوي ثلث الذي لم يطبع، ناهيك عن الذي وضعه التتار في نهر دجلة والفرات، وأرادوا أن يعبروا النهر فردموه بالكتب، فجعلوا الكتب قنطرة حتى اسود ماء الفرات ثلاثة أيام، ما استطاع أحد أن يشرب شربة ماء من الفرات، الجزئية الواحدة يصنفونها جزئيات، وكل جزئية فيها كتب، وذلك لوضع ضوابط لفهم الكتاب والسنة، وكان من أعظم من أبلى البلاء الحسن في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قال الذهبي رحمه الله: مصنفاته خمسمائة مجلد تفنى الأعمار في كتابتها فقط، فضلاً عن تصنيفها وتأليفها.
أين وجدوا الوقت للتصنيف، والوقت للدعوة، والوقت للمناظرات، والوقت لقضاء حاجات العوام؟ تأسف الفقراء جداً لموت شيخ الإسلام في دمشق؛ لأنه كان ينفعهم ويعينهم، وكان كثير الجلوس إليهم، وقال مترجموه: قلما وجد في مجلس الأغنياء أو مجالس السلطان.
يقول: (ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما حللت فهي معي) يشعر بالرضا، ويزيد على الشعور عندما أغلقوا عليه باب القلعة، ودخل ونظر إلى سورها العالي، ثم قال: (والله لقد أنعموا عليَّ بنعمةٍ ما أستطيع أن أوفيهم شكرها، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ما كان أسرع انتزاعه للآية الدالة على المعاني! يقول الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته: كان عجباً في انتزاع الآيات، حتى كأنما وضع القرآن بين عينيه، وكان الكبراء يقلبون أيديهم ورءوسهم دهشةً لما يأتي به من المعاني.
وهنا احتجاجه بهذه الآية احتجاج حقيقي لا يعرفه إلا كل سجين في الله، وأقول: (في الله) أنه لا يشعر بهذه إلا المبتلون في الله عز وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] الذي هو سور السجن، {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13].
إياك أن تتصور أن الذي سجن في الله معذب أو متعب، هو أنعم قلباً منك، ربما أنت وليه محتار، تبحث عن تصريح زيارة، وتبحث عن مال لتجهيز أكل، وتبحث عن مواصلة لتذهب إلى السجن، فهو عذاب بالنسبة للذي في الخارج، لا يكاد يذهب إلا ويهيئ نفسه من جديد للزيارة القادمة، لكنه يراجع ورده، أو يحفظ الذي لم يحفظه، أو يتلو في الكتاب، أو يقرأ في السنة فهي رحمات.(34/2)
ابن تيمية وقولته المشهورة في قلعة دمشق(34/3)
الحويني ومعايشته لكرامات الدعاة المسجونين
الذي عاين السجن في الله تبارك وتعالى يرى الكرامات، والله لقد رأيت بعينيَّ أشياء أحكي لكم بعضها:(34/4)
رجل يسحب بالفرس وهو يقرأ القرآن
الذين عاينوا السجن قديماً في الستينيات لهم مواقف أشد مرارة، يأتي أحد النواب المصريين في كتابٍ له اسمه الطريق إلى المنصة يقول: وهذا الرجل كان الذراع الأيمن للمشير عبد الحكيم عامر، إذا أراد المشير أن ينام مع امرأة يذهب إلى باريس فيأتي له بغرفة النوم -يعني: رجل من أوليائه- وكان صلاح نصر آنذاك يصور المشير عارياً مع المرأة، وهو صديقه الحميم، لعله يحتاج إليها في يوم من الأيام لا يوجد في قواميس هؤلاء معنى للوفاء ولا للصداقة.
المهم: فقد صلاح نصر الصور: أين ذهبت؟ صار خائفاً أن ينكشف أمره.
فسام كل الذين من حوله من أصفيائه وأوليائه سوء العذاب بحثاً عن هذه الصور.
يقول الرجل: وفي الساعة الثالثة من الليل هجموا على البيت، فأخذوني وقالوا: أين الصور؟ قلت: أي صور؟! والله ما أعلم شيئاً.
قالوا: لا، أخرج الصور.
قال: وعلقوني كالذبيحة، وعشت أياماً لا شمس لها ولا قمر، لا يسمع عنها الزمان! ودخل مع الإخوان آنذاك، قال: رأيت بعيني منظراً لا أنساه، رجل عمره يزيد على الستين! عجوز! أخذوه وربطوا يديه ورجليه، ثم ربطوه في ذيل الفرس، وعاد الفرس هارباً، فيستحثون الفرس على الجري فيجري والرجل يجرجر على الأرض، ظل في دوران مدة نصف ساعة، فلما انتهى هذا الشوط من التعذيب أصبح الرجل كأنه نصب أحمر من كثرة الدماء.
قال راوي القصة: المدهش أن الرجل جاء ينطق بالشهادة ويقول: الحمد لله، أنهيت وردي! كيف لهذا الرجل أن يقرأ وهو يعذب؟ من الذي ثبت فيه العقل، أو ثبت فيه قوة القلب؟! إياك أن تتصور أن حياة المبتلى في الله حياة ضنك لا والله! إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرصة) عندما تطير عنقه لا يشعر بشيء، وهو أول القربات، قرصة واحدة وانتهى الأمر.
وهذا مشاهد، أحياناً الإنسان وهو يعمل عملاً فيه مكسب بدني ممكن تقطع يده أو عنقه وهو لا يدري إلا بعد ذلك، الصبر على القضاء واجب، لكن الرضا به مستحب، ولا يرضى إلا المؤمنون حقاً.(34/5)
رجل عنده قرحة فأذهبها الله عنه
في سنة (1981م) كان هناك رجل عنده قرحة شديدة في المعدة، وكان يهيئ نفسه لعملية جراحية لقص جزء من المعدة؛ لأن الأكل كان عبارة عن شيء من العذاب بالنسبة له، فلما دخل وكان معه بعض أكياس للحموضة لا يستطيع أن يأكل إلا بها، وقد أخذوا ماله وأخرجوه، فلما كان الكيس الأخير لا أنسى منظره أبداً وهو يمر على إخوانه ويسألهم أن يدعوا الله له في السجود أن يرفق به في الأكلة القادمة؛ لأنه إذا أكل كأن ناراً تشتعل في معدته.
فطعام السجن وخبزه كلها حموضة: فول! وعدس! وجاءت الوجبة التي يخاف منها، فأكل نزراً يسيراً وقام جائعاً، ولم يشعر بتعب، وفي العشاء أكل لكنه كان جائعاً؛ فأكل وزاد في أكله، وظل ساهراً ينتظر الألم لعله يأتي فجأة! لكنه لم يجد ألماً، وفي اليوم الثاني أَكَل أكلاً عادياً ولم يشعر بشيء، فظل سنة وأربعة أشهر يأكل، حتى فتحت الزيارات فسأله أهله: أتحتاج إلى دواء؟ قال لهم: رفع الله المرض! وأكل كل شيء.
أين ذهب المرض؟ إن الله تبارك وتعالى لا يترك عباده المتقين يتخطفون في الأرض، لا بد أن تظهر الآيات إن الله لا يترك عبده إذا غُلب يظهر له المعجزة.
الشيطان الرجيم يبدل نظر المرء بالنسبة للمرأة -وهو مخلوق- قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان) ما معنى صورة شيطان؟ هل المرأة تتحول إلى شيطان؟ لا، إنما وصلت القدرة للشياطين أنها تزين هذه المرأة القبيحة للرجل، فيراها أجمل النساء، حتى إذا واقعها رآها على حقيقتها.
فالله تبارك وتعالى رفع عن هذا الرجل المرض، فلما صار بإمكانه أن يأتي بالدواء رجع إليه، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المعونة على قدر المئونة) المعونة تكون على قدر المشقة.(34/6)
قشر البرتقال وحلاوته في السجن
مثال آخر عايشته بنفسي، قال لنا أحد العلماء: لماذا تقشرون البرتقال؟ هذا تبذير! فقلت له: وكيف تأكل القشرة يا مولانا؟ قال: نحن في سجن، والقشر هذا يشغل حيزاً في المعدة، فلا ينبغي أن نضيعه، فأكل البرتقال مباشرة، وأنا أنظر للرجل متعجباً! قال لي: جرِّب.
قلت: لا أستطيع.
قال: جرِّب.
فأكلتها بقشرها، والله الذي لا إله غيره كأن القشرة أشد حلاوةً من البرتقال! وظللت على هذا أربعة أشهر، فلما خرجت قلت لبعض إخوتي: نحن نتصرف تصرفاً فيه رعونة: لماذا نقشر البرتقال، إن قشرته جميلة؟ فقالوا لي: هل جرى لعقلك شيء؟ قلت: والله كان القشر أعظم حلاوة من البرتقال! أعطني برتقالة، فقضمت قضمة واحدة ثم تركتها، ما استطعت أن أبلعها.(34/7)
العلماء ومسئولية الدعوة إلى الله ومقارعة أهل الزيغ والفساد
ينبغي ألا يفرط المرء في دينه بمجرد أن يعايش شيئاً من الإرهاص في الدنيا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وهذا من الحمق، وقلة الصبر، وضعف القلب كيف يجعل إيذاء الناس كعذاب الله؟! {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، فكيف تسوي بين هذا وبين عذاب الناس؟ لكن القوة قوة القلب، والضعف ضعف القلب.
الدعاة إلى الله تبارك وتعالى إذا فرطوا ظهر كل خبث في الأرض، إن كل البدع الموجودة الآن بسبب سكوت العلماء، ماذا يطلبون؟ ماذا يريدون؟ يريدون مالاً؟ ضعف الأزهر يوم صار شيخه بالتعيين من قبل الحكومة، وكان قديماً قوياً؛ لأن الذي كان يعين شيخ الأزهر وينتخبه هم العلماء، وذهبت الأوقاف لما ذهبت أوقافها، واستذل العلماء بلقمة عيش؛ فصار أحدهم لا يستطيع أن يجهر بكلمة الحق.
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها لذلك إذا وجدت العلماء عندهم جرأة على إقامة الحق؛ تختفي الخفافيش، لكن إذا رأيتهم يهاجرون، تنتهك أعراض الأمة وهم سكوت، وتعتلي القلة القليلة على الكثرة الكاثرة، ولا يظهر على الساحة إلا من يقول بالسماحة، والإسلام دين السماحة، كأن الإنسان عاجز عن تأديب المخالفين، هو يقول: الإسلام دين السماحة ولا يظهر إلا هذا، حتى ظهر الأمر في المرجئة بأقبح وجهٍ في هذا العصر.
الآن خطباء المساجد منعوا أن يتكلموا عن النار وعذابها وحيَّاتها وعقاربها، يقول لك: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا) فإذا ذكرت رجلاً عاصياً بعذاب الله نفرته، أي تنفيرٍ في هذا؟ إذاً: رب العزة نفر الناس من الدين! عندما ذكر عذاب النار ولهيبها وشدة اضطرامها! النبي عليه الصلاة والسلام نفر الناس من الدين، عندما قال لهم -وقد سمع الصحابة صوتاً، أي: ارتطام حجر بالأرض-: (هذا حجر ألقي من أعلى النار منذ ألف عام، فما وصل إلى قعرها إلا الآن).
وعندما يتكلم النبي عليه الصلاة والسلام عن الغسلين والزقوم كان ينفر الناس من الدين! نفترض أننا نتكلم عن الجنة، وأن كل الناس سوف يدخلون الجنة، ولن يدخل النار أحد -حتى النصارى، وجد في المسلمين من يكتب كتاباً أن اليهود والنصارى في الجنة، وأنهم من المؤمنين، وجد هذا وطبع ونشر، وقبل أن ينشر في كتاب نشر على صفحات صحيفة الأخبار سنة (76) م-.
فإذا وصل الحال إلى هذا التردي، ولا يميز الذين آمنوا من الذين كفروا، ولا بد أن يستخفي الذين آمنوا إذا حصلت شبهة مع الذين كفروا! فمتى يقام لله تبارك وتعالى دين في الأرض؟ لا يمكن أن يمكن لنا ديننا، إن الله تبارك وتعالى لا يحابي أحداً، لسنا أعز عليه من اليهود والنصارى إذا كنا مثلهم: ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده نسب إلا التقوى والعمل الصالح: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] (أقاموا الصلاة) فإذا كان لا يصلي في الأرض كيف يُمكن له؟ لذلك كان قيام شيخ الإسلام ابن تيمية -والمخلصون من أصحابه- كان له أكبر الأثر في دخول خفافيش أهل البدع في جحورها، وما طائفة الرفاعية عنا ببعيد؛ الرفاعية الذين يتعاملون مع الثعابين، ويأكلون الزجاج، ويدخلون النار في أفواههم، ويدخل السيخ في بطن أحدهم فيخرج من ظهره.
أغلب الناس بسطاء ينخدع بهذا ويظن أنه من علامة الولاية، وهذا من الخطأ المتفشي عند العوام: أنهم يجعلون الولاية مجرد الخارقة، وهناك فرق بين الأشياء الخارقة وبين الكرامات، فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما رأى مثل هذا الأمر وهاله ذلك، والناس من أتباعهم كل يوم يكفرون، وقف لهم، وبين عورهم، وأنهم مخالفون للكتاب والسنة عقيدةً وفقهاً؛ ولأن الرجل كنا نحسب فيه الإخلاص كان كلامه عليه نور وفيه حرارة؛ فأثر هذا فيهم.
وشكوه إلى السلطان وقالوا: ابن تيمية يتكلم في الأولياء، فقال شيخ الإسلام: ما هم بأولياء إنما هم مبتدعة، فجمعهم السلطان بعد مظاهرة منهم، وحصلت مناظرة بين شيخ الطريقة وبين شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان الظفر لشيخ الإسلام ابن تيمية كالعادة في كل مناظراته -وكان في المناظرة كما يقول الذهبي: كأنه ليث حرب، ونار تحرق في المناظرة، قوي الحجة-.
قال السلطان: ولكنهم لا يفعلون ذلك إلا بتغيير، أي: الرجل يأكل النار، ويضع السيخ في بطنه ويخرج من ظهره، ويأكل الزجاج، وهم بشر مثلنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنا وهم ندخل هذه النار، بشرط أن نغسل أجسامنا بماء الخل، فإنهم يدهنون أجسامهم بدهن الضفدع وذكر أشياء هم يفعلونها، قال: سأغسل جسمي بالخل، وهم كذلك يغسلون أجسامهم بالخل، وندخل جميعاً النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، وجعل يشد الرجل ويقول له: قم بنا ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله.
فلما رأى السلطان جرأة شيخ الإسلام والرجل الصوفي مرتعداً، والحق أصبح واضحاً أبطل هذه الطريقة، ورفع منار دعوة شيخ الإسلام رحمه الله، فلما سئل شيخ الإسلام بعد ذلك عن دخول النار، وأنه لا يجوز لعبد أن يدخل النار مختاراً، وكيف لو قام الرجل ودخلها؟ فقال شيخ الإسلام رحمه الله: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم عليه السلام لقوة رجائه في الله، فقوة الرجاء في الله وصدق اليقين يحرك الحجر.
وما قصة جريج عنا ببعيد: لما خرج عن قومه وهجرهم، وبنى له صومعة خارج البلد يتعبد فيها، وقد انقطع عن الناس، ولم يجعل للصومعة سلماً حتى لا يصعد إليه أحد فكان إذا أراد أن ينزل نزل بحبل وتركه حتى يقضي حاجته ثم يتسلق بالحبل، وبعدها يشد الحبل، حتى لا يخالط أحداً.
فكانت أمه كل عدة أيام تذهب إليه وتنادي عليه، تريد أن تراه، فوافته يوماً وهو يصلي، فجعلت تقول: يا جريج! أجبني -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على حاجبه يمثل أم جريج عند دعائها لولدها- فصادف أن كان جريج يصلي، وسمع دعاء أمه، فقال في نفسه: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي؟ يعني: أجيب أمي أو أكمل صلاتي، فاختار صلاته على دعوة أمه، ورجعت الأم مشتاقة لولدها لم تره.
ولما جاءت في اليوم الثاني ونادت: يا جريج! أجبني.
صادفته وهو يصلي، فقال: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي؟ فاختار صلاته على دعوة أمه.
وفي اليوم الثالث جاءت أيضاً فنادت: يا جريج! أجبني.
فصادفته وهو يصلي: فاختار صلاته؛ فدعت عليه: ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات اللواتي فر منهن، فر من فتنة النساء، فدعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه اللواتي فر منهن.
تحدث الناس -وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه- عن عبادة جريج ما أعجبه! كيف له صبر أن ينقطع عن الناس؟ وكيف له صبر أن يتعبد كل هذه العبادة؟! فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه لكم، قالوا لها: قد شئنا.
فذهبت المرأة وتعرضت لـ جريج فلم يلتفت إليها، فمكنت منها راعي غنم كان يأوي إلى ظل الصومعة ليرعى غنمه، فحملت المرأة وصارت تمشي، وأصبح جميع الناس يعلمون أن هذه المرأة حامل من جريج، وقالت: فتنته لكم، وهذا الولد منه.
تركوا المرأة لما ولدت، وهنا جاءت فرصة اليهود، وأدركتهم الغيرة على الشرع والدين، كل شخص أخذ الفأس وذهبوا إلى جريج، وهم الذين قالوا للبغي: إن شئت فتنته.
العابد جريج يصلي وإذا به يفاجأ بأصوات تكسير! فقطع صلاته ونظر، فإذا بهم يكسرون الصومعة من تحته، سيهدمونها عليه، قال: ما الخطب؟ قالوا: انزل يا فاجر! أحبلت المرأة؟! كنا نظنك أعبدنا.
فدلى الحبل ونزل، فأوسعوه لكماً وضرباً: يا فاجر! يا داعر! نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر علينا خطيئاتنا يوم القيامة، فإن منا من يظهر النسك ويوم القيامة يكون فاجراً يتفرج عليه عباد الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعالم يوم القيامة فيقذف في النار، فيدور حول أمعائه -لأنها تندلق من دبره- ويدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيقول أهل النار: يا فلان! أو لم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) شيء فظيع! كل الناس وقعوا في صفين يتفرجون على جريج، ومن اللواتي وقفن على قارعة الطريق المومسات، فلما رآهن جريج -وقد كتفوه ليقيموا عليه الحد، فهذه النخبة اليهودية تدعي الورع اليهودي الكاذب- تبسم.
فاندهش الناس؛ لأن هذا ليس وقت تبسم، هذا وقت إرهاص واضطراب.
فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أدركتني دعوة أمي -ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات- وذهبوا به إلى ملك القرية، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن المرأة الزانية هي بنت الملك، فيا للعجب! يعني: ابنته زانية وتركها، ويريد أن يقيم على الزاني -بزعمهم- الحد! هلا أقمت الحد على المرأة أيضاً؟ ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا فأحبلت المرأة! قال: دعوني أصلي ركعتين -كل إنسان إذا اضطر ليس له إلا الله- صلى ركعتين، ثم قال: أين الغلام؟ جيء بالغلام الرضيع وهو ابن يومين أو ثلاثة، فأخذه فنخسه في جنبه بإصبعه، وقال: من أبوك يا غلام؟! فقال الغلام: الراعي.
ونطق وهو ابن يومين أو ثلاثة! هل جرت العادة أن ينطق الطفل وهو ابن يومين أو ثلاثة من لدن آدم عليه السلام إلى زمان جريج؟ لا ما جرت العادة بذلك، لكن صدق رجاؤه في الله فأنطق الغلام، وليس الذي عاين الخبر كالذي سمعه.
لذلك يقول(34/8)
الناس تجاه البلاء معادن
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
الناس أمام البلاء معادن، منهم من يدخل البلاء فيخرج وهو أكثر صلابة وقوة، ومنهم من إذا دخل احترق، والفرق بين هذا وذاك: ما عند هذا من اليقين والصدق، وخلو ذاك من هذا اليقين والصدق.
فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه -وهو ممن ابتلي في الله أشد البلاء- كان جالساً مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وعمر أمير المؤمنين- فقال عمر: ما هناك أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال -أي: ليس هناك أحد أحق أن يكون خليفة المؤمنين لبلائه في الله تبارك وتعالى من بلال -.
فكشف خباب عن ظهره، وقال: انظر يا أمير المؤمنين! فبهت عمر لما رأى ظهر خباب وقال: ما هذا؟ قال: أشعلوا لي ناراً عظيمة وساوموني على ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم فما أطفأ النار إلا ودك ظهري.
ابتلي في الله أشد البلاء وصبر، وكانت العاقبة له، كما كانت لسائر المؤمنين، هؤلاء لا يجعلون عذاب الله كعذاب الناس أبداً.
ويقول خباب رضي الله عنه: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردةٍ في ظل الكعبة.
فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان متكئاً فجلس، وقال: قد كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل، فتحفر له حفرة، وينشر بالمنشار نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعصبة ولا يرده ذلك عن دينه).
أي إنسان مهما بلغت درجة إيمانه يحتاج إلى مثل هذا التسلي، الرسل -وأعظمهم نبينا عليه الصلاة والسلام- أنزل الله قصص الأولين عليه ليسليه رغم قوة إيمانه، ولما حدثت موقعة بدر ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، وبالغ في رفع يديه حتى سقط برده من على منكبيه، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فيقول أبو بكر رضي الله عنه -وقد أمسك بكتفه عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، إنه منجز لك ما وعدك) يستصرخ يريد النصر وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأي إنسان مهما بلغ إيمانه يحتاج إلى التسلي، يحتاج إلى ضرب المثل له ليعلم أنه ليس على طريق البلاء وحده.
وها هو الإمام مالك يجلده أمير المدينة بأمر من أبي جعفر المنصور بسبب فتوى يفتيها ورأي يتبناه، ويموت أبو حنيفة في الحبس، ويحبس الإمام أحمد سنتين، وجلد في يوم الإثنين وهو صائم حتى أغمي عليه ثلاث مرات، ويقولون له: أفطر.
فيأبى أن يفطر، والمجلود يحتاج إلى شربة ماء، وقُيد الإمام الشافعي وجلد بالجريد وهو مقيد، تهون عليك نفسك فلا تغتر، وتقول: لا.
أنا إمام متبوع، أو أنا رجل له ذكر، أو أنا رجل فاهم، ولكن إنما أنا منتسب إلى العلم بسبب تقول هذا، فتهون عليك نفسك، ولذلك نهاية التسلي الاغتباط، الذي يتسلى فيستحضر ما جرى للمؤمنين قبله يغتبط، وهو الرضا بالقضاء.
إذاً: سبيل الرضا بالقضاء استحضار قصص السالفين من الأنبياء والمرسلين، وسائر أوليائهم وأتباعهم، إذا تذكرت ذلك اغتبطت وشعرت ببرد الرضا، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة: (أسألك الرضا بعد القضاء).
إن عائشة رضي الله عنها وهي من هي إيماناً وثقة وزهداً وقرباً، لما حدثت حادثة الإفك، فقالت: (فظللت يوماً وليلة أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فدخلت فأذنت لها، فدخلت تبكي معي).
هذا هو التسلي، عندما يمرض الإنسان وينقطع الناس عنه يشعر بالذل، هذا هو الذل، لا يسأل عنه أحد، أين خدماتي؟ أين عمري أهديته لفلان وعلان، أين أين؟ ماذا كنت تفعل لله؟ لذلك يشعر المرء بذل إذا انقطع العوَّاد، لكن إذا تتابع الناس عليه لا يشعر بالذل، ولذلك قالت الخنساء لما مات أخوها صخر: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي إنها تراعي أن كل إنسان يبكي فهو يشاطرها المصيبة، فتهون مصيبتها عليها.
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين) بالصبر: لأن هذا البلاء لا ينفك عن الدعاء إلى الله عز وجل، مصداقاً لقول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)، إذاً: العداء ملازم لدعوة الأنبياء، فيحتاج إلى الصبر على الناس والصبر على العذاب، واليقين: أن الله لن يخذلنا ((وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) [القصص:83] هذا هو الذي يوصلك، وهذا كان الظاهر جداً في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا والحمد لله رب العالمين.(34/9)
أدب الحوار عند ابن تيمية
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
من الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: معرفة أدب الحوار.
فإن شيخ الإسلام رحمه الله بعدما ظهر عليه النضوج صارت حياته كلها معارك في كل الجهات، ولا شك أن هذه المعارك تخرج المرء عن حلمه أحياناً لصلابة المعارض، فأحياناً لا تستطيع أن تتحمل طريقة جدال الإنسان الذي أمامك، فتغضب عليه فتخرج منك عبارات نابية، وهذا لا يصدر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول في بعض المناظرات لخصومه: أنا أعلم كل بدعةٍ في الإسلام وأول من ابتدعها؛ وذلك لعنايته الفائقة؛ لأن هذا يحتاج إليه في الرد، فهناك بدع قد لا تحتمل الصبر عليها، ومع ذلك تجد أن التزامه بالحوار العلمي الهادئ شيء عجيب.
كان معه مرة غلام يتحدثون حول التكفير، ثم تطرق الكلام على تكفير الحاجب، وجاء الدور في الاستدلال بقول ابن عباس الصحيح عنه (كفرٌ دون كفر).
فقال هذا الغلام: ابن عباس رجل وأنا رجل، أي: نحن الآن في ميدان البحث العلمي الحر، فـ ابن عباس كما أنه رجل فأنا رجل، وكما أنه مخاطب بأدلة الشريعة فأنا أيضاً مخاطب بأدلة الشريعة، وأنا رجل لي اجتهادي ورأيي، فلا تحتج لي بقول ابن عباس.
وهذا أصل من أصول هذه الجماعة: أن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأن قول الصحابي إذا كان ليس بحجة فلم يبق إلا الكتاب والسنة، لكن بفهم من إذاً ندخل على الكتاب والسنة؟ بفهمي وبفهمك وفهم (س) و (ص) و (ل) و (ع) و (ض) و (خ) بفهم كل هؤلاء ندخل على الكتاب والسنة، ولو اختلفت أنا وأنت و (س) و (ص) و (ل) و (ع) أليس ينبغي أن يكون هناك حاكمٌ نرجع إليه عند الاختلاف؟ سيقول لي: الله والرسول صلى الله عليه وسلم، نحن لسنا مختلفين في هذا، لكن أنا معي حديث وأنت معك حديث، وأنا احتججت بآية من القرآن، وأنت احتججت بآية، فمن الذي يفصل في المسألة؟ فتركوا فهم الصحابي هذا الأصل الذي انبثقت ثلاثة أرباع البدع بسبب إهماله وتركه، وإنما تركوا عمل الصحابة أو فهمهم لأدلة الكتاب والسنة عمداً.
فيقول إذاً: أنا متعبد بالكتاب والسنة، وهو متعبد كذلك أي: نعم، والأمي الجاهل متعبد أيضاً، فكم رجل جاهل أمي أحسن منه في الاستدلال! ذهب مرة ثلاثة منهم يسألون عن زميلهم، وزميلهم يعرف قرية من قرى دمياط، فدخلوا وسألههم أبوه: تفضلوا، حتى يأتي، فدخلوا، فقدم لهم أكلاً، وبعدما أكلوا كسروا الأطباق وكسروا الملاعق، فدخل الرجل فرأى أمامه كأنه أمام هناك معركة حربية، وأشلاء المعركة موجودة، والأثاث مكسر كله، ما هذا يا جماعة؟ قالوا له: هذه الحاجات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان أذكى وأفضل منهم في الاستدلال، فعندما يأتي هو ويقول: إن ابن عباس رجل وأنا رجل، فقال بعض أصحابي في رد لطيف عليهم: طيب، خليك رجل وهو رجل، لكن تميز ابن عباس عنك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فأنت من دعا لك؟! هذا معه دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت ماذا معك؟ فيقوم هذا الغلام يماري ويقول لك: وما أدراك أن دعوة الرسول استجيبت؟ فأنكر عليه إخوته هذا الكلام، فعندما تجد شخصاً يقول مثل هذا الكلام ممكن تفقد أعصابك وأنت تكلمه، فشيخ الإسلام ابن تيمية كان يناظره أناس بأقوال لا يقولها الشيطان الرجيم، وكان يرد عليهم وهو واسع الصدر حليم، مع الحدة التي كانت تعتريه لكن في الله، حتى إن الذهبي رحمه الله قال: لو لان لخصومه لكان كلمة إجماع، فخصومه معترفون أنه بحر لا ساحل له، هو يغرف من البحر وهم يغرفون من السواحل انظر إلى التعبير! ومن خصومه: ابن الزملكاني نفسه، أول ما رأى ابن تيمية أنشد ثلاثة أبيات على البديهة لترفع ابن تيمية إلى مصاف العلم والمجتهدين، وقال ابن الزملكاني -الذي هو عدوه اللدود-: اكتملت في ابن تيمية كل آلات الاجتهاد على وزنها.
وأبو حيان النحوي صاحب البحر المحيط في التفسير والنحو كان في النحو واللغة أشهر من نار على علم، كان يتمنى أن يرى ابن تيمية، فلما رأى ابن تيمية أنشد أبيات شعر وترحيب بـ ابن تيمية أيضاً على البديهة، وظل ابن تيمية هو الإمام الأوحد؛ حتى حصلت مناقشة بين ابن تيمية وبين أبي حيان في النحو.
فلما حصل خلاف في جزئية من النحو، قال أبو حيان: قال بها سيبويه.
أي: كيف ترد على سيبويه؟! وسيبويه أشهر إمام نحو بصري، وكان هناك مدرستان: مدرسة بالكوفة على رأسها في ذلك الوقت الكوفي علي بن حزم صاحب القراءات السبع، وكان سيبويه في البصرة.
فلما قال له: قال بها سيبويه! قال له: ما كان سيبويه نبي النحو -يعني: سيبويه ليس معصوماً من الخطأ- ولقد أخطأ في ثمانين موضعاً في كتابه أنت لا تعرفها، فكان ذلك سبباً في وقوع الوحشة بينهما، فكان أبو حيان يذكره بكل سوء في كل مجلس بعدما كان البارحة يمدحه ويثني عليه، وهكذا حسد المعاصرة داء من أعظم الأدواء المانعة لوصول الحق، كل شخص يريد أن يكون هو الإمام، ويريد أن يأتي الحق عن طريقه؛ حتى يقال ويشار إليه بالبنان، هو الذي قرر المسألة، وأبرز الحق، وهذا كله مناف للإخلاص وتجريده لله سبحانه.
ولذلك صدق الإمام الشافعي رحمه الله لما قال: ما ناظرت أحداً على الغلبة -لم أناظره لكي أغلبه- وما ناظرت أحداً فوددت أن يهزم، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه.
هذا هو شأن العلماء، المهم: ظهور الحق للناس، أما أن يظهر على يد فلان أو علان فهذه مسألة جزئية لا ينبغي للعالم المخلص أن ينتظرها، لأنها جزء من حظ النفس، وهو حظ الشيطان من العلقة الموجودة في قلب ابن آدم.
فشيخ الإسلام ابن تيمية كان الكل معترف بجلالته، وكان يأخذ كلام أهل البدع من كتبهم، وهذا أقوى في إقامة الحجة.
وهذا ابن حزم كان على الأشاعرة نار تحرق وبحر يغرق، كان يصلي الأشاعرة بالنار، لكنهم دخلوا عليه؛ لأنه أخذ فكر الأشاعرة من أناس ينقلون عن الأشاعرة، لم يأخذ فكر الأشاعرة من كتبهم -من أهل الفكر نفسه- فالناقل يخطئ، فإذا أخذت قول الناقل وحاججته قال لك: أنا لا أقول بهذا، أخرج من كتبنا هذا القول، فيعجز المناظر أن يخرج هذا القدر من كتب الخصوم.
لذلك كان ينبغي لأي رجلٍ يريد أن يتصدى لعقيدة المنحرف، ويريد أن يتعرف على الفكر لا بد أن يأتي بكتب لأهل الفكر نفسه، لا يأخذ المسألة بواسطة، فإن الواسطة قد يكون متحاملاً، ويشوه الفكرة، فالوسيط يريد أن يقول: يا جماعة! الأشاعرة يقولون كذا وكذا وكذا هل تصدقون؟! وهو يبالغ بقصد التنفير من فكر الأشاعرة، فحمله هذا على الغلط عليهم، فيدخل الداخل منهم عليه بمطالبة الإثبات أن هذا من عقائدهم.
حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية لما أراد أن يناظر النصارى قرأ أناجيلهم، وأتقنها أكثر من الرهبان، بل تلميذه ابن كثير رحمه الله صاحب التفسير المشهور تأثر به جداً؛ لأن ابن تيمية كان إماماً فحلاً كبيراً، وابن كثير كان لا يزال صغيراً، ولد ابن كثير سنة (701هـ)، وابن تيمية توفي سنة (728هـ)، لما مات ابن تيمية كان عمر ابن كثير (27) سنة، كان لا يزال صغيراً، لم يتضلع بعد، وابن تيمية كان إماماً في الدنيا، ملأ الدنيا بعلمه، كان شيئاً طبيعياً أن ينبهر هذا الشاب الصغير بذاك الإمام الفحل الكبير، فتبنى بعض مسائل ابن تيمية.
فالذي أريد أن أقول: إن هذا الشاب الصغير بلغ من تطلعه أنه كان عارفاً بالإنجيل أكثر من النصارى، قال ابن كثير: فناظرت أحد النصارى.
قال: فكلمته فوجدته كالحمار، لا يعلم من دينه شيئاً.
وشيخ الإسلام له كتاب مذهل اسمه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، يقع في أربعة مجلدات، فقرأ في الأناجيل بحيث أنه تضلع في النصرانية.
فخذ الفكر من كتب أهله -لكن بشرط- أن تتضلع في كتب أهل السنة أولاً قبل أن تدخل إلى كتب المبتدعة، فأنا رأيت طالباً من طلبة الثانوية أتى يقول لي: أريد أن تدلني على كتاب، لأن معنا زميلاً نصرانياً في الفصل، وأريد أن أبين له فساد دين النصرانية.
فقلت له: هل تعرف كتاب الله عز وجل؟ قال: نعم.
قلت له: (الرحمن على العرش استولى) قال: لا.
(استوى)، قلت له: حسناً، (استولى) أي: (علا) هذا تأويل المعتزلة، هل هذا التأويل صحيح؟ قال: لا أعرف، قلت له: أنت لا تعرف إلهك الذي تعبده، فكيف ترد على النصارى؟ فالرجل ليس له درع واق كيف يحارب؟! رجل ليس عنده طوق نجاة كيف ينزل في البحر؟! لذلك شرط العلماء للرد على المخالف أن تكون على بصيرة من دينك، حتى إذا وقعت على موقف منه كان هناك ما يعصمك، وأصل الدليل في هذه المسألة هو ما صح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد(34/10)