التضحية لهذه الأمة
أول ما ينبغي على العالم: أن يضحي لهذه الأمة، وأن يبذل من وقته وجهده وفكره وتعبه ما يرجو به رحمة الله سبحانه وتعالى.(56/10)
الحقوق التي ينبغي للعالم أن يلم بها
هناك حقوق ينبغي على العالم أن يلم بها، وان يتفقد نفسه دائماً للوصول إلى مراتبها العالية ومنازلها السامية الغالية، ومن أعظمها وأجلها.(56/11)
ترسّم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق
أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، من الإلف والقرب من الناس، كان الصغير يحس كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الفقير يشعر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الحقير من الناس وغيرهم من عامتهم الذين لا جاه لهم ولا قوة يحسون بقربه صلوات الله وسلامه عليه، كان موطأ الكنف، وكان صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وشمائله يجذب الناس إلى علمه، وما قذف الله في قلبه من النبوة والرسالة، يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه واصفاً النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من طلاقة الوجه، وديمومة السرور قال رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) فإذا تبسم العالم فإن هذه الابتسامة كريمة وثقيلة في قلوب الناس؛ لأنها تدل على التواضع والكمال والفضل، وتدل على أنه قريبٌ من الناس، فالعالم يحمل هموماً لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ولكنه إذا تبسم تبسمَ الواثق بما عند الله سبحانه، يتبسم كتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري بها رحمة الله ومرضاته، لا يتبسم للدنيا، ولا يتبسم للجاه ولا للسمعة ولا للرياء، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله: كان صلى الله عليه وسلم يأتيه الرجل -بطيشه وخفته وحمقه- فيجذبه من ردائه صلوات الله وسلامه عليه، فما هو إلا أن يصرف وجهه إليه فيتبسم -ولا يلقى العنف بالعنف، ولا يرد السيئة- بالسيئة صلوات الله وسلامه عليه إذا كملت فضائل العالم وكملت أخلاقه، طابت أقواله وأحس من كان قريباً منه بفضله ونبله، قال أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهو يبين لنا هديه عليه الصلاة والسلام، وخلقه الكامل الفاضل: [لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي يوماً قط أف] صلى الله عليه وسلم.
إذا كمل العالم كملت أخلاقه وآدابه، وشمائله وفضائله، فقد أوصى العلماء وأهل العلم أن يكونوا كذلك، فإذا تواضع العلماء ملكوا قلوب الناس، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي تعين على حب الدين والقرب منه وإلف العلماء والقرب منهم يعين على خيرٍ كثير.
إن كريم الأصل كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى وينبغي على العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه، سواءً كان مع العدو أو الصديق، مع الصغير أو الكبير، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة أشفق على أمه فخفف في صلاته، ولما تكلم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة، قال معاوية: (فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني ولكن قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقلت: أنا يا رسول الله قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... ) الحديث فكان صلى الله عليه وسلم يتعاطى أسباب التأثير في الناس، فالتواضع خلق لا بد للعالم أن يتخلق به، وإذا تواضع العالم استطاع المهموم والمغموم والمحزون والمكروب أن يبث حزنه، وأن يبدي ما عنده من الهم والغم، فإذا وجد العالم موطأ الكنف أحس أنه كوالده، وأنه سيشفق عليه ويرحمه أكثر من رحمة الأم بولدها؛ لأن رحمة العالم نابعةٌ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي نابعة من الدين، وأما حنان الأم وعطفها فنابعٌ من الدنيا، وشتان ما بينهما، ولذلك كان بعض أهل العلم يقول: أستحب للعالم ألا يبالغ في لباسه، فلا يبالغ في التجمل؛ لأنه إذا بالغ في التجمل والزينة ولبس غالي الثياب، احتقر الفقير نفسه إذا جلس بين يديه، وأستحب له أن لا يتبذل في ثيابه، فإذا جاء الغني ترفع عن سؤاله، ولكن يكون بينهما واسطة، حتى إذا رآه الفقير ألفه، وإذا رآه الغني ألفه فالوسط خيرٌ ومحمودٌ في الأمور كلها.(56/12)
تعاطي أسباب قبول العلم
ينبغي للعالم أن يتعاطى الأسباب لقبول علمه حيث أن الكلمة الطيبة من العالم طيبة ومؤثرة ومقبولة عند الناس، ومن رفع الله قدره بالعلم فطيب كلامه وأصبح يوجه الناس بالكلمات المؤثرة فإن الله يعظم أجره بعلمه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يجرح الناس، وكان صلى الله عليه وسلم لا يؤذي الناس بلسانه، جعل نبوته ورسالته مليئة بالعطف والحنان حتى في الكلمة التي يلقيها ناصحاً ومؤثراً، كان صلى الله عليه وسلم إذا رقى منبره يقول وهو يثرِّب على أقوامٍ فيما أخطئوا فيه: (ما بال أقوام) ما كان صلى الله عليه وسلم صخاباً ولا لعاناً، ولما قنت يدعو على رعل وذكوان وعصية التي عصت الله ورسوله أنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] وفي السير: أنه أوحي إليه إننا لم نبعثك صخاباً ولا لعاناً إنما بعثناك رحمة للعالمين، فكان صلى الله عليه وسلم في إلفه وتواضعه نموذجاًَ لكل عالم.
أتى عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأرضاه، وهو على النصرانية، أتى يريد أن يرى حال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال هذا المعلم الفاضل الكامل صلى الله عليه وسلم وذلك بعد أن كتبت له أخته سفّانة تصف له ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فلما أتى عليه قال: [فمضيت معه، فاستوقفته امرأة وهو في الطريق] استوقفت المعلم المربي وهادي الأمة ودالها على الخير، قال: [فوقف لها حتى قضى حاجتها، فقلت: والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء؛ قال: ثم انطلق فاستوقفه صبي فوقف معه، والله ما نزع يده من يده حتى قضى له حاجته، فقلت: والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، قال: فلما دخلت البيت رمى لي بعرض الوسادة إكراماً لـ عدي؛ لأن الضيف يكرم ضيفه وهذه من شيم المسلم، فقلت والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله] فأسلم رضي الله عنه وأرضاه.
وأسر ثمامة بن أثال وربطه في المسجد ثلاثة أيام؛ لكي يرى النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ويرى مدرسة الإسلام الأولى، ورسول صلى الله عليه وسلم يوجه ويعلم ويسدد ويدل على الخير، فلما مضت الثلاثة الأيام وفي كل يوم يقول: (ما وراءك يا ثمامة؟ فقال له: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعفو، تعفو عن كريم -أي: من لا ينسى الفضل- فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة رضي الله عنه إلى الحائط) انطلق لا مجبراً على الإسلام ولا مكرهاً عليه، انطلق بمحض اختياره، لكن قلبه مأسور بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسل بالحائط ثم جاء ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [يا محمد: لقد كان دينك أبغض الأديان إلي، ووجهك أبغض الوجوه إلي، فأصبح دينك أحب الأديان إلي، ووجهك أحب الوجوه إلي] حينما رأى الشمائل والفضائل والآداب، حينما رأى التعليم على أكمل ما يكون من رسول الأمة صلى الله عليه وسلم.
إن القلوب تُملك بالأخلاق وبالآداب، فإذا تحلى العالم بالخلق الكريم أحبته القلوب وألفته واقتربت منه وأحست أنه خليقٌ بالحب والود والإجلال والإكرام.
إن العالم إذا سعى فإن للناس عليه حقوقاً فيجعل من يجلس معه أنه يحبه ويريد له خيراً فيتواضع له، وكأنه يشعر أن الفضل للناس وليس له، فإذا شعر بذلك تواضع للناس، وكان حليفاً قريباً من الناس، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا من أهله إنه ولي ذلك والقادر عليه.(56/13)
حقوق ينبغي على طالب العلم حفظها
كما أن على العلماء حقوقاً كذلك على طلاب العلم عليهم حقوق ينبغي عليهم أن يحفظوها ولا يضيعوها، ويؤدوها إلى أهلها كاملة على الوجه الذي يرضي الله، وأعظمها كما ذكرنا حق الإخلاص.
ثم على طالب العلم أن يعلم أن أول ما ينبغي عليه أن يقذف حب هذا العلم في قلبه، فإذا أحببت العلم أحببت أهله، وأحببت من حمل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت محبتك لله، فأظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، من أحب لله فإن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فتحب العلماء، فإذا أحببت قوماً حشرت معهم، قال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت) فمن أحب العلماء فإنه سيبحث عن علمهم، ومن أحب العلم طلبه وجدَّ واجتهد حتى يحصله، لقد ملك الدينار والدرهم قلوب أناس فسهرت عيونهم، وتعبت أجسادهم، وذلوا وأهانوا كرامتهم ومع ذلك لم يشعروا بتعبٍ ولا نصب، الله أكبر! ترى التاجر في موسمه الذي يبيع فيه التجارة الغالية، تراه يسهر ويتعب ويأتيه أرذال الناس، فيقف معهم ويتحمل ما يكون منهم من زلة وخللٍ وخطأ لعلمه بشرف الدرهم في نفسه، فمات قلبه وتعلق بالدينار والدرهم، فبذل كل ما يجده من أجل الوصول إلى ما يحب، ولله المثل الأعلى.(56/14)
مراعاة حقوق إخوانه من طلاب العلم
على طالب العلم أن ينتبه لحقوق إخوانه من طلاب العلم، فإن العلم رحمٌ بين أهله، فعلى طلاب العلم أن ينتشر بينهم الحب والود وأخلاق الإسلام، فإنه إذا كان طلاب العلم قريبين من هذا الهدي الذي أدب الله عليه المؤمنين وجدت الرحمة بينهم، ووجدتهم متعاونين متعاطفين متآلفين متكاتفين، فإذا وجدتهم كذلك حمدت الله سبحانه، ولا يزال الإسلام بخير ما تراحم طلاب العلم، أما إذا انتشر بينهم الحسد والبغضاء، والعداوة والشحناء تفرقوا وتشتتوا وشغلوا عن طلب العلم، إياك أن تطعن في العلماء، وتشتت عنهم طلاب العلم، فبعض طلاب العلم يقدح في شيخ غيره، وبعضهم يريد أن طلاب العلم عند شيخه، وعند العالم الذي يتعلم على يده لا وألف لا، ويأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم أن تشتت شمل إخوانك، وأن تطعن في علمائك بدون وجه حق، إن كنت تتعلم العلم على عالم وضع الله له الخير والبركة، ووضع الخير والبركة في غيره من العلماء فكلٌ له حقٌ عليك، فاحفظ حقوق العلماء، وإياك أن تصرف همة طلاب العلم الذين أحبهم مشايخهم وعلماؤهم إلى شيخك فقط، هذا من الغلو الذي لا يأذن الله به، ولا يأذن به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) فلا تغلُ في شيخك ولا تبالغ في تعظيمه، بحيث تحتسب أن الأمة مفتقرة لعلمه وحده دون غيره، فإن الله سبحانه وضع فضله حيث شاء، فاعترف لأهل العلم بفضلهم، وعلو مكانتهم، عندما كان طلاب العلم يثنون على العلماء، ويمجدونهم ويوقرونهم كان الناس بخير، ولكن لما أصبح طلاب العلم يتكلم بعضهم في مشايخ البعض، ذهبت هيبة العلماء، وأصبحت عورات العلماء مكشوفة، فكل من يتحدث عن عالم يذكره بعورة، ولم يذكر عالم إلا وذكرت له لمزة أو زلة وإنا لله وإنا إليه راجعون، والله لا خير في الأمة إذا أصبحت تكشف عورات علمائها، ولا تتقي الله عز وجل في علمائها، ولا تحفظ لهم كرامة، ولا ترعى فيهم إلاً ولا ذمة، على الإنسان إن يتقي الله، وأن يعلم أن أهل العلم حملة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لهم علينا حقوق عظيمة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلم منا، وأن يرزقنا الإخلاص، ويتقبل منا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(56/15)
البذل والتضحية
على طالب العلم أيضاً أن يعلم أن عليه أن يجد ويجتهد، فإن العلم يحتاج إلى تضحية ويحتاج إلى تعبٍ وعناء، وأعز ما يملكه الإنسان في طلب العلم وقته، فإذا رأيت طالب العلم حريصاً على الوقت ألا يذهب سدىً، وألا يذهب هدراً، فاعلم أنه طالب علمٍ موفق، وأما إذا هان عليه وقته لكي يلتقي بهذا ويسهر مع هذا ويحادث هذا ويمزح مع هذا، فذهب وقته في اللقاءات والزيارات ذهب عليه من العلم خير كثير، ولذلك قالوا في الحكمة: "أعط العلم كلك يعطك بعضه" فكيف بمن أعطى العلم بعضه، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا السداد والرشاد في القول والعمل، وأسأله تعالى أن يجعل علمنا نافعاً، وعملنا صالحاً خالصاً لوجهه الكريم.(56/16)
مراعاة الأدب مع العلماء
كذلك أيضاً ينبغي أن يراعي الأدب مع العلماء، ومن كمل أدبه في الطلب كمل تحصيله، ولذلك جبلت القلوب على حب من كملت أخلاقه، فإذا نظرت إلى طلاب العلم، فانظر إلى ذلك الطالب الذي تأثر في قوله وفعله فظهر ما خفي في قلبه من الحب للعلماء على لسانه وجوارحه وأركانه، والله ما أخفيت في قلبك من سريرة تريد بها رحمة الله إلا أظهرها الله في جوارحك، ولذلك من ملأ قلبه بمحبة العلماء وجدت آثار ذلك في تعامله معهم، كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه طالباً من طلاب العلم، توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنه فدعا له بالعلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على زيد بن ثابت عالم الكتاب الذي كان آية في العلم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي في شدة الظهيرة فينام على عتبة زيد، ينام مع علو نسبه ومكانته وشرفه، ينام على تلك العتبة لعلمه بما عند الله من الثواب والأجر، فكان زيد رحمه الله ورضي عنه يقول: [هلاَّ أيقظتني] وكان لا يوقظ عالماً من علماء الصحابة رضوان الله عليهم، ويقول: [لو شئت أن أقول للأمة التي تخدمه: أيقضيه لأيقظته] وكان ذلك من أحب ما يكون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يوقظه ولا يزعجه، فطالب العلم لا بد أن يقدم الثمن والتضحية في الأدب، وإذا رأى العالم منك خصلتين الأولى: الأدب والخلق الحميد، والثانية: صدق الرغبة، أحب أن ينفعك، وجد واجتهد على أن يبذل لك.
ومن عجائب ما ذكروا أنه نزل بدمشق عالم من علماء الحديث، فجاءه طالب علم، فرأى كثرة الناس حوله فلم يستطع الوصول إليه، فاختار ساعة السحَر وهي في جوف الليل قبل الفجر بما يقرب من ساعة، فجاءه فقرع الباب على العالم فلما خرج ذلك العالم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تعلمني مما علمك الله يرحمك الله، فما كان من ذلك العالم إلا أن أخذ الباب وصكه في وجهه بقوة، فما كان من هذا الطالب الموفق إلا أن فرش عمامته، وتلحف رداءه في شدة البرد، وانتظر خروج العالم لصلاة الفجر، فلما خرج العالم ورآه أخذه وضمه إلى صدره وقال: لقد أردت أن أختبر صدق رغبتك في العلم.
كانوا يؤذون الطلاب قبل الطلب حتى يعلموا هل هم صادقون، وأذكر بعض المشايخ الكبار رحمة الله عليهم، أنه كان إذا جاءه الطالب في أول مجلسه أغلظ عليه قليلاً، حتى ينظر هل هو صادق في إرادة العلم؟ وهل هو من أولي القوة والعزم؟ لأن العلم ثقيل والله يقول: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] والثقيل لا يحمله إلا أولي العزم وأهل القوة الذين لهم صبرٌ وجلد على طاعة الله ومرضاته، فقد كانوا يختبرونهم بالقرع والتوبيخ لينظروا مدى تحملهم؛ لأنهم غداً سوف يأتيهم السفهاء والجهلاء، فإذا رأوا أمامهم من هو قوي الشكيمة صادق العزيمة، علَّموه وأعطوه من العلم مما علمهم الله، فينبغي لطالب العلم أن يظهر للعالم هاتين الخصلتين، وأفضلهما وأكرمهما: حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فضل حسن الخلق وقال: (خيركم خيركم لأهله) وقال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيءٍ أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من تقوى الله وحسن الخلق) نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التقوى، وأن يرزقنا كمال الخلق إنه ولي ذلك والقادر عليه.(56/17)
محبة العلم وأهله
إذا أحب طالب العلم العلم تذلل له، وطلب هذا العلم وبحث عنه، ولذلك لما ملكت محبة العلم العلماء والسلف الصالح من هذه الأمة والتابعين لهم بإحسانٍ طلبوا هذا العلم، وضحوا من أجله، فأسهروا ليلهم، وأتعبوا أجسادهم، وخطت أيديهم فما ملت ولا تعبت ولا سئمت، والله إن قرأت سير العلماء وتأملت تراجم النبلاء عجبت مما كان عليه القوم، كان بعض طلاب العلم يجلس لتهيئة الطعام وهو في شدة الجوع، وشدة الحاجة إلى الطعام فيُقال له: إن مجلس العلم بمسجد كذا قد عقد فيترك الطعام ويذهب إليه، الله أكبر! إذا ملكت محبة العلم شغاف القلوب، وأصبح الإنسان يحب هذا العلم، إذا أحبه محبةً كاملة نفعه الله نفعاً كاملاً، فينبغي على طالب العلم: أن يحس أن محبة العلم فرضاً عليه حتى يقوم بحقه كما ينبغي.
كذلك إذا أحببت العلم أحببت أهله، ومن أحب العلماء حشره الله مع العلماء، ومن أحب العلماء تأثر بأقوالهم وأفعالهم وما يكون من مواعظهم، ومن أحب العلماء انتفع بعلمهم.(56/18)
مزج المحبة بالهيبة والإجلال والإكرام والتقدير
كذلك أيضاً: على طالب العلم أن يمزج هذه المحبة بالهيبة والإجلال والإكرام والتقدير، فإن لأهل العلم حقاً عظيماً على الناس كلهم عامتهم وخاصتهم، وإذا رأيت الرجل يقدر العالم ويرفع من مكانته ويعظم من شأنه في حدود الشرع دون غلوٍ ولا تنطع علمت أن وراء ذلك قلباً يخاف الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أن الله ملأ قلب هذا العالم بالحكمة وهو يريد به الخير قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فإذا علمت أن الله قذف هذا العلم في صدور العلماء لخيرٍ يريد بهم فإن هذا يدعوك إلى كمال محبتهم وتقديرهم وإجلالهم.(56/19)
الأسئلة(56/20)
نصيحة للشباب بضرورة ملازمة العلماء الأجلاء
السؤال
نخبركم يا شيخ بحب الشباب لكم واستماعه لكم وكثيرٌ من الشباب يأتي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة المسجد النبوي، ونعلم أن لكم دروساً في الحرم النبوي فما هي هذه الدروس ومتى تكون؟
الجواب
الله المستعان! قال: أتسألوني وفيكم صاحب السوادين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ما شاء الله أنتم عندكم الشيخ عبد العزيز إمام العلماء، وقدوتهم نسأل الله أن يحفظه، وأدام عليه العفو والعافية، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وإخوانه من العلماء الأجلاء الذين أتمنى أنني والله عند قدم أحدهم أطلب عنده علماً من الكتاب والسنة، والله أقولها من قلبي، والله لا نفاقاً ولا رياءً، وأقولها وإذ أقولها وهو حقٌ من حقوقي، عندكم النعمة العظيمة أنتم تغبطون عليها، وينبغي عليكم أن تحرصوا على هذا الخير والله سبحانه وتعالى يسألكم عن هذا خاصة طلاب العلم، عليهم أن يحرصوا على دروس الشيخ حتى ولو كان الشيخ في بعض الأحيان يراعي مستويات الناس، قد يكون هذا العلم الذي تريد أن تتوسع فيه أكثر قد يضع الله لك البركة في هذه الكلمة التي خرجت من هذا العالم الرباني العامل، تنتفع بها وتنفع بها أمماً، العلم مداره على النشر، وقد تأخذ من عالمٍ صادق قليلاً فيضع الله منه من الخير ما لا يحصى، يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن الصحابي كان يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة والساعتين، فيخرج بعلمٍ كثير من هذا الحديث أو الحديثين لو سمعهم ووعاهم لوضع الله بهم البركة فتنتفع بها أمم، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى، ويوجد الأفراد والأحاديث القليلة لبعض الصحابة، ولكن اشتهروا بها، لأنها جمعت مسألة ملازمة، أو حكماً مهماً، فإذا بالله عز وجل يضع البركة فيها، فأقول: أهم شيء يُبنى عليه من هو أحق وأولى.
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحارُ من الركايا فأنتم على خير كثير، وأحبب دائماً أن يكون بيننا وفي قلوبنا الإشادة بمثل هؤلاء، لا نشيد بفضلهم وندعو دائماً إلى مجالسهم والتأكيد على الاستفادة منهم ونحن نمنُّ بذلك لا والله، إنما هو قليل من حقوقهم علينا، إن حقهم علينا أكبر، نسأل الله العظيم أن يجزيهم عنا خير الجزاء، اللهم بارك في أعمالهم، وأعمارهم، وانفع بهم الإسلام والمسلمين، وافتح عليهم فتوح العارفين بك، وأحسن لنا الختام، وأدخلنا وإياهم دار السلام إنك أنت الله ذو الجلال والإكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(56/21)
الطريقة المثلى في طلب العلم
السؤال
جميع الإخوة يقولون لشيخنا نحبك في الله، ونسأل الله أن يجمعنا في دار الكرامة، وهنا أسئلة كثيرة حول الطريقة المثلى لطلب العلم، وما هي الكتب التي تنصحونا بها في بداية الطلب؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فأشهد الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما الطريقة المثلى في طلب العلم فأول ما ينبغي على طالب العلم كما ذكرنا: أن يصلح ما بينه وبين الله بالإخلاص.
ثانياً: أن يحرص على وجود عالم صادقٍ قد ورث العلم عن أهل العلم، فإذا وجدت العالم العامل الذي هو على منهج الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح لهذه الأمة فإنه يدلك على ما فيه صلاح دينك ودنياك وآخرتك، فإذاً لا بد من الكتاب والسنة وطبيب هو العالم الرباني، والتوفيق في الطريقة المثلى، والطريقة التي ينبغي أن يسلكها طالب العلم تختلف من شخصٍ إلى آخر، أي: لا أستطيع أن أحدد لك طريقاً سرت أنا عليها مثلاً؛ لأنها قد تنفعني ولا تنفع لك، وقد يكون الإنسان مشغولاً فللمشغول طريقة تتلاءم مع شغله، وللفارغ له طريقة تتلاءم مع فراغه ووقته الواسع، فلا يستطيع الإنسان أن يرسم للناس منهجاً معيناً في الطلب.
لكن هناك قواعد عامة وهي: أولها أن تهيئ من نفسك ما يعينك على ضبط العلم، من صدق الرغبة -كما ذكرنا- وقوة العزيمة في طلب هذا العلم والتضحية من أجله.
ثانياً: أن تبحث عن عالمٍ صادق وتجلس بين يديه، فينظر إليك، وينظر ما هي حدود إمكانياتك ووقتك وجهدك، وما الذي ترغبه من العلوم، وما الذي هو حريٌ أن يعلمك إياه، فهذا هو الذي يمكن أن يحدد من خلال المنهج والطريقة، هذا بالنسبة للأشخاص وطريقة تناولهم للعلم.
أما بالنسبة للعلوم فإن أهم العلوم وأعظمها والأساس التي ينبغي العناية به علم التوحيد والعقيدة؛ لأن ضبط هذا الثغر بلاؤه عظيم وأجره كبيرٌ عند الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان الإنسان في بيئته وقومه وجماعته وهم يحتاجون إلى هذا العلم؛ لأنه يتأكد عليه أكثر، أما إذا كانت عقائد الناس الذين يعيش بينهم على صلاحٍ واستقامة لكنهم يخلطون في معاملاتهم يتبايعون في الحرام، ويشترون الحرام ويقعون في الآثام فحينئذٍ تركز على المعاملات مع العناية بالأصل، لأن العناية بالأصل سواءً وجد من يحتاجه أو لا يوجد في بيئة الإنسان، لكن يعتني الإنسان بحاجة الناس في أحكامهم أيضاً إذا كانوا على استقامة في عقيدتهم وأصول دينهم، فيقرأ فقه العبادات: من صلاة وزكاة وصيام وحج، وما يتبع ذلك من سائر العبادات، ثم بعد ذلك يقرأ فقه المعاملات المالية: من بيعٍ وشراء وإجارة ورهن وشركات وغير ذلك من المعاملات التي تعم بها البلوى، ثم يدرس المعاملات التي يعيشها قومه، ويتعاملون بها، فيسأل أصحاب السوق عن معاملاتهم وتجارتهم فيكون على خلفية وإلمامٍ وضبط وإتقان حتى يسد هذه الثغرة من الناس.
كذلك أيضاً: ينظر الإنسان إلى العلوم المساعدة التي يتمكن بها من ضبط هذا العلم كعلم الأصول، وكذلك علم قواعد العربية التي يضبط بها دلالات الكتاب ودلالات السنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل القرآن عربياً وبلسانٍ عربيٍ مبين، وبين أن ذلك لكي يعقل ويفهم الناس ما في هذه اللغة من أسرار وحكمٍ عظيمة فعلم اللغة وضبطها والإلمام بها {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] فهذا علمٌ عزيز، وعلمٌ له مكانته فإنه يساعد على فهم الكتاب وفهم السنة.
كذلك أيضاً: يلم بالأمور التي تساعد على ضبط العلوم المتفرقة التي يمكن أن يستعان بها على ضبط الأصول وجماع الخير كله تقوى الله، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرا، ومن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، والله تعالى أعلم.
أما بالنسبة للكتب فالكتب قد رتبها العلماء، فإنه إذا جاء إلى أي فن يجد هناك كتباً مبسطة يبدأ بها، فالعلم المنضبط أن تبدأ بصغائر العلم قبل كباره، قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قيل في تفسير هذه الآية: أن يتعلم صغير العلم قبل كبيره فتأخذ الكتب المطولة بعد إتقانك للكتب المختصرة، وفي كل فن مطولات، وفي كل فن مختصرات، فيبدأ بالكتب المختصرة ويتدرج فيها حتى يلم ويصل إلى معالي الأمور في طلب العلم، والله تعالى أعلم.(56/22)
الرحلة في طلب العلم
السؤال
كان العلماء وطلاب العلم الأولون يتنقلون في البلدان لطلب العلم وتعليمه، والآن ولله الحمد المواصلات والتنقلات أسهل بكثير من ذي قبل، ومن نعم الله أن العلماء أمثالكم يتنقلون ليعلموا الناس فهل من كلمة مناسبة في الرحلة لطلب العلم؟
الجواب
الله المستعان، ما أنا إلا طالب من طلاب العلم، وأسأل الله العظيم ألا يغرني بما تقول، وأن يجعلنا خيراً مما تظنون بنا، وأما ما ذكرته من الرحلة في طلب العلم، فإن الرحلة في طلب العلم لا تكون إلا من عبدٍ يريد الله والدار الآخرة، فمن خرج من بيته لله وفي الله وابتغاء مرضاة الله، وهو يحس أن عليه مسئولية أن يبقى مع هذا العلم، وأن يلم به فقد طاب وطاب ممشاه، وتبوأ من الجنة منزلاً، ومن خرج من بيته يريد هذا العلم، ويريد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يجلس بين يدي العالم فقد تشبه بالسلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اغبرت أقدامهم مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهجرة الأخيرة وهي هجرة الوفود؛ لأن الهجرة تنقسم إلى أنواع ومنها هجرة الوفود، فهجرة الوفود: هي التي جاء الناس فيها أفواجاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:2 - 3] فهاجروا إلى رسول الله ليتعلموا، فإذا وفق الله طالب العلم للهجرة فقد تشبه بالصحابة رضوان الله عليهم، وأرى أن على طالب العلم أن يضحي من أجل هذه الهجرة، إذا كنت لا تستطيع أن تمضي أشهراً فهاجر أسابيع مثلاً في الإجازة، بدلاً من أن يذهب الوقت سدى فسافر إلى المدن التي فيها علماء أجلاء، وتأخذ عنهم العلم، وتضبط على أيديهم العلم، وتحتسب عند الله غربتك، فإن الغربة إذا كانت لله عظم أجرها، وثقل في الميزان ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
لا إله إلا الله! والله إني لأعجب أن أرى بعض السائقين يسافرون بعض الأحيان مرتين ينتقلون من موضع إلى آخر ويرجعون خلال اليوم، ويقطعون المسافات الشاسعة لأمرٍ: وهو أن يطلبوا الكسب الحلال الطيب في سفرهم بهذا الكد والتعب، ويريدون به المال الحلال عسى الله أن يبارك لهم مما يكون من رزقٍ حلال، فتعجب ألا ترى من سفرهم وغربتهم لا يسأمون ولا يملون ويحسون بالنزهة والراحة فكيف بطلاب العلم، كيف بمن يتاجر مع الله وفي الله، نسأل الله العظيم أن يرزقنا ذلك.
الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم وقد غبرت قدمك مهاجراً وطالباً للعلم.
الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم من أوله إلى آخره وأنت غريب عن أهلك وولدك لطلب العلم، يكتب لك ذلك اليوم كاملاً في صحيفة عملك، وأنت مغترب لله وفي الله، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا صدق العزيمة، وأن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وعلى طالب العلم إذا تغرب ألا يشكو السآمة والملل، فإن مما يذهب الأجر في الطاعة الشكوى، لا تشتك أبداً، وإن لم تكن ذا همة صادقة، كان الوالد إذا جئت وأنا أشتكي من شيء، يقول: هذا عيبٌ عليك، فأنت في خيرٌ كثير، مثلك يتحدث عن نعمة الله ولا يشتكي، لأن هذا من الضعف والخور، وإذا كان الإنسان في طلب العلم فينبغي أن يكون قوياً جلداً صابراً حتى يكون ذلك أكمل في ميزانه قال موسى بن عمران: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] ما معناها؟ معناها إلى الأبد {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] أبد الأبد، فقال: لا أبرح لا أستقر ولا يمكن أن يهنأ لي عيش حتى أدرك هذا العالم الذي أوحى الله إليه أنه بمجمع البحرين من هو أعلم منك، فعظمت همة موسى بن عمران إلى لقاء الخضر وسؤاله والاستفادة من علمه فقال: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] هذه هي الهمة الصادقة في أن يغبر الإنسان قدمه في طلب العلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.(56/23)
نبذة مختصرة عن والد الشيخ وعن منهجه في التعلم والتعليم
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو إعطاءنا نبذة عن والدكم رحمه الله تعالى ومنهجه في التعلم والتعليم؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: ففي الحقيقة دائماً إذا سئلت عن منهج عالم أو شيخ فالأفضل أن تصرف الهمة لمن هو أكمل وأفضل وهو: نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ينبغي دائماً لطلاب العلم وأهل العلم أن يتذكروا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما وجدت من العلماء فإنك سترى البون شاسعاً بينهم وبين ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهم على خير وعلى مكانة، لكن ينبغي دائماً أن يكون حديثنا عن هذا الهدي الكامل والداعية إلى الله صلوات الله وسلامه عليه، الذي أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات صلى الله عليه وسلم تسليماً، ولكن قد يكون ذكر بعض المعاصرين أو بعض من هم قريبون في هذا الزمان فيه عظة وعبرة خاصةً أن بعض طلاب العلم إذا ذكر له العلماء الأوائل يقول: تلك أمة قد خلت وكان الزمان فيه خير، وكان الناس فيهم الخير والبركة، ولكن في زماننا هذا قد يستبعد ذلك، فإذا ذكرت لهم نماذج قريبة فهذا له وقعٌ كبير، لكن مما أتذكر والسؤال مفاجئ، وكثيراً ما أحرج إذا فوجئت بالسؤال عن الوالد رحمه الله، لكن أشهد لله عز وجل أنني رأيت ما أقول، وسمعت ما أقول، والله شهيدٌ عما أحدث به، فأشهد لله أنه ما كانت الدنيا تزن عنده شيئاً، ومن أعظم ما وجدت فيه أنه لما انصرف قلبه عن الدنيا، بارك الله له في علمه، والعالم إذا وجدته قد صرف قلبه عن الدنيا فأخذ منها حاجته وانصرف إلى نفع الناس ونفع المسلمين فنعم والله العالم، فكان رحمه الله لا يبالي بقليل المال أو كثيره، ويأتيه الراتب، والله لا يمضي نصف الشهر -وهذا يسأله الله عنه ويحاسبه- بل ثلث الشهر إلا وهو يقترض رحمة الله عليه، هذه المائة لفلان، وهذه لفلان وهذه لفلان فيفرق ماله رحمة الله عليه، وكنت أتولى له الصدقات وهذا شيء رأيته بنفسي حيث أنه لا يبقي من راتبه شيئاً.
كانت الدنيا لا تسوى عنده شيئاً، حتى أنه ذات مرة من عجائب ما رأيت فيه: أنه كانت له مزرعة فحفر فيها بئراً بأكثر من مائة ألف، فلما حفر البئر وانتهى منه الحافر، جاء يقول له: إن البئر ليس فيها ماء، وهذه مصيبة عظيمة وليس بالشيء الهين، مائة ألف ولا يجد الإنسان فيها ماء فقال: هذا الرجل -يريد أن يهون على الوالد رحمة الله عليه- يقول: إن شاء الله مستقبلاً الماء سيكثر، وكان يريد أن يمهد، فقال له الوالد: حسبك يا بني -يخاطب هذا الرجل- والله لو ذهبت هذه المزرعة كلها فإني راضٍ عن الله، يعني لا تظن أن الأمر، أو الخطب كبير، إن جاء شيء فالحمد لله، ونريدها من مرضاة الله، وإن لم يأت شيء فما عند الله أعظم مما عندنا.
الشيء الثالث أنا أذكر نماذج دنيوية وقعت له، تترجم عما قلته.
أولاً: أن الدنيا لا تسوى عنده شيء، كان رحمه الله كثيراً ما يوصيني في المزرعة بأن أتصدق بثمر البستان، وأذكر أنه لا يأخذ من هذه المزرعة إلا قدر ما يحتاج لإصلاح المزرعة، فكنت استعين بعد الله عز وجل برجل، كان من حفظة كتاب الله عز وجل، ومن خيار من عرفتهم من الجماعة ديناً وخلقاً واستقامة، وكان زميلاً للوالد في طلب العلم، فكان يعرف الأيتام والأرامل، فهذا الرجل رحمة الله عليه كان يتولى الصدقات، فلما تولى صدقات الوالد رحمه الله توفي الوالد قبله، فأكثر من مرة يراه في بستانٍ عظيم وثمار وجنات ويقول: هذا كله لي، فكان من عاجل البشرى له رحمه الله بعد الموت، الرجل الذي كان يتصدق بدنيا الوالد، ويقيمها للفقراء والضعفاء إذا به يبشر بعد موته من عاجل البشرى بالرؤية الصالحة، كان يبشر ويقول: رأيته وهو في جنة، وتارةً يقول: أراه في بساتين خضراء، وفيها ثمار عجيبة فأقول: ما هذا؟ فيقول: هذا كله لي رحمه الله رحمةً واسعة.
ومما رأيته في العلم أنه كان رحمه الله لا يمكن أن يتكلم في مسألة إلا وهو يعلمها، أما الشيء الذي لا يعلمه لو يأتي الخلق على أن يدفعوه للتكلم فيه، لا يمكن أن يتكلم فيه بحرفٍ واحد، وما أعلمه تكلم فيه، رحمه الله برحمةٍ واسعة، يقول: هذا شيء لا أعلمه فلا يستحي أمام الناس والجمهور في الملأ والخاصة أن يقول لك: لا أدري لا أدري، وهذا لا شك أنه نعمة من الله على العالم أن يكون عفيفاً صادقاً ينبئ عن علمٍ صادق، وهذا هو العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتكلم الإنسان عن علمٍ ومعرفة.
أما الأمر الثاني: فكان لا يضيع وقته، ولا يرضى لأحد أن يضيع وقته في القيل والقال، وهذا مشهود له رحمه الله حتى بين الجماعة لو خرجوا في نزهة أو طلعة، فإذا وجدهم في علم ومذاكرة جلس معهم، وإذا لم يجدهم في علمٍ انتحى جانباً وقل أن يخرج لنزهة أو مع الجماعة إلا ومعه الكتاب، فإذا رآهم على ذكر الله عز وجل جلس معهم، وإن رأى غيبةً أو نميمة نصح، فإن لم يُنتصح انسحب وجلس تحت شجرة حتى يطيب خواطرهم فيتربع ثم ينصرف رحمه الله وهو راشد.
أما الأمر الثالث: فكان شديداً في علمه، لا يسمح لجاهل أن يستطيل على العلم، كان متواضعاً وقريباً من الناس، لكن أن يأتي الجاهل لكي يستطيل على دين الله وشرع الله فلا، فكان إذا جاء العقلاني يدخل عقله في النصوص السمعية إذا بذلك الوالد الأليف القريب من الناس ينقلب كالأسد ولا يجامل الكبير ولا الصغير، ويقول له: اسكت هذا شيءٌ لا علم لك به، ولا تخض فيما لا علم لك به، ولو كان من أعلم الناس يتكلم في الدين أو الشرع بدون بينة ولا علم يرد عليه في وجهه، ولا يسمح لأحدٍ أن يتكلم بحضرته بعلمٍ لا يحسنه، فإذا جاء أحد يخوض بالعقلانيات في وسائل السمعيات كهره، وهكذا لو جاء الطالب يبحث ويتكلف في العلم ويتنطع في السؤال عن الأمور الغيبية وكيف يحدث هذا وكيف يقع كان رحمه الله يتغير ومن عجائب ما كان يفعله! كان في تفسيره رحمه الله إذا فسر، وقيل له: لِمَ ختمت بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]؟ ولماذا ختمت {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:240]؟ كان يمنع من هذا، ويقول: لا يُسأل عما يفعل، ولا يمكن للناقص أن يدرك الحكمة التي ختم الله عز وجل بها الآية على هذا الوجه، فكان يمنع أن يقال: ما هي الحكمة في ورود هذه الآية على كذا؟ يقول: هذا شيء لا تدركه العقول، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة معرفة هذه الأمور، وإنما يقول: من الفوائد المستفادة كذا، نعم من يجزم أنها حكمة، أو أنها هي التي من أجلها ورد النص؟ كذلك أيضاً مما كان رحمه الله يتحلى به في تعليمه للناس، أنه كان يحب طالب العلم الصادق، ويفتخر به، ويعطيه من وقته وجهده، وكان رحمه الله إذا رأى الصدق في الطلب أقبل عليك، وهذا يشجع كثيراً من طلاب العلم الصادقين في الطلب، ولا يحب من طالب العلم الكسل ولا الخمول، ولا يحب منه التعب ولا السآمة ولا الملل، رحمه الله.
كان له درس بعد صلاة الفجر في التفسير، ودرس بعد الظهر في صحيح البخاري، ودرس بعد المغرب في السنن الصحاح، وختمها رحمه الله بسنن الترمذي وسنن أبي داود وابن ماجة، وكذلك أيضاً موطأ مالك ختمه، ثم بعد العشاء كان له درسه في الصحيحين وفي السنن، فكان رحمه الله طيلة هذه الأوقات يضحي ويبذل في العلم، لكن أن تأتي وتشتكي له الضعف والخور في طلب العلم فإنك تنزل من عينه، فلا يحب طالب العلم ولا يجله إلا إذا رآه صادقاً قوي العزيمة، فربما طرأت مسألة فآتيه بعد العشاء وهو مجهد -منهك والله يشهد على ما أقول هذه أشياء عايشتها بنفسي- فآتيه بالمسألة فأسأله، وكان منهجه معي في آخر حياته رحمه الله أنه ما كان يفتيني، ويقول لي: اذهب وأت بكتاب كذا ثم اقرأ من صفحة كذا، أو اقرأ من باب كذا، فإذا قرأت يقول: ماذا تفهم كأنه يدربني على الاستفادة من الكتب مباشرة، فكان رحمه الله آتيه بالكتاب والكتابين والثلاثة والأربعة، وهو منهك مجهد وآتيه بالكتاب فيقول لي: هذا ما يكفي اذهب إلى كتاب كذا، وأتِ بشرح كذا، ورد هذا وأتِ بكذا، أنا بنفسي أمل وأتعب وأجد نوعاً من الثقل ومع ذلك الرجل لا يسأم ولا يمل، وأقول له: انتهيت؟ يقول: لا حتى تنتهي، رحمه الله رحمة واسعة.
إذا أتقن العالم علمه فإنه يجد لذة العلم وفضله وبركته، نسأل الله العظيم أن يرزقنا من فضله، فضل الله عز وجل لا يتوقف على عصر من العصور كما قال ابن المنير: وفضل الله واسع، فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجَّر واسعاً والليالي حبالى، يلدن كل غريبٍ، وكم ترك الأول للآخر.
إذا ذكرنا تراجم العلماء أو تراجم الفضلاء، أو قرأت سير أعلام النبلاء ورأيت هذه النماذج الكريمة، فاعلم أن الكل بفضل الله جل جلاله، وأن الأمر كله يعود على الإخلاص، وأن الله قد يعطيك مثلهم ويزيدك من فضله، متى؟ إذا أخلصت لوجهه وأحسنت الظن معه، قال صلى الله عليه وسلم: (من يصدق الله يصدقه) كان ابن عباس رضي الله عنهما قليلاً في العلم، ولكن لما صدق مع الله في طلب العلم وجدَّ واجتهد فعندما دفن أبو هريرة زيد بن ثابت رضي الله عنه بكى أبو هريرة وقال: [لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً] كان في البداية لا شيء، لكن لما جد واجتهد أعطاه الله، فأنت إذا صدقت مع الله، وأخلصت لوجه الله فإن الله يرزقك، نسأل الله العظيم أن يبلغنا ذلك الفضل بفضله وهو أرحم الرحمين، والله تعالى أعلم.(56/24)
جيل القرآن
أهل القرآن هم أهل الله وخاصته؛ لأنه كلام الله العظيم، وقد اختار الله سبحانه وتعالى نبيه لتبليغه لأمة وعته وصدقته وعملت بمقتضاه، حيث كانت قلوبهم كالأرض الطيبة أصابها الغيث، فكانوا يقفون عند كل آية منه، ويعرضون أنفسهم عليه، فحري بنا أن نقتدي بهم، فإن من تمام حقوق القرآن علينا أن نغرس حب القرآن في الأهل والأبناء والزوجات؛ لأنه سيأتي يوم القيامة إما حجة لنا أو حجة علينا.(57/1)
فضل القرآن على الجيل الأول وتأثرهم به
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلامٌ على جيران بيت الله الحرام، وسكان أرض الحطيم والحِجر والحَجر والمقام، سلامٌ عليكم إذ أكرمكم الله عز وجل بنعمه، فجاورتم بيته، وكنتم على أرضه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حسن الجوار، وحسن المقام.
أيها الأحبة في الله: ما أطيب المجالس إذا طيبت بذكر الله، وما أطيب المجالس إذا طابت بطاعة الله، وما الذي يأخذه المؤمن من هذه الدنيا غير كلمةٍ تدله على الله، أو نصيحة تثبته على طاعة الله ومرضاته.
أو ما الذي يأخذه العبد من هذه الدنيا غير أمرٍ بينه وبين الله، في طاعةٍ يحبها أو قربةٍ يرضاها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر مجالسنا ومجالسكم بذكره، والإنابة إليه وشكره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة في الله: أطيب ما طيبت به المجالس من ذكر الله، وأحسن ما عمرت به الأوقات من طاعة الله: أن يكون الكلام عن كلام الله، هذا الكلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى هدايةً ونوراً يقود إلى دار السلام، هذا الكلام الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، الجد لا الهزل، والقول الحق الفصل، كلام رب العالمين، وموعظة إله الأولين والآخرين.
كم قادت إلى الله قلوباً، وأنارت في سبيل محبته مناهجاً ودروباً، كم هدى الله عز وجل به الضالين؟ وكم أيقظ به من النائمين؟ وكم دل به إلى رحمته الحائرين؟ كلام رب العالمين، الذي ختمت به الرسالات، وقطعت به الحجج والبينات، كلام الله الذي منه مبتدؤه وإليه منتهاه، كلام الله الذي سمعته الجن فآمنت، وأقرت وصدقت، فقالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2].
هذا الكلام الذي أنزله الله نوراً ودليلاً إلى دار السلام، أوجد به الرحمات، وأعد لأهله علو الدرجات، وكفر به الخطيئات، وجعله موجباً للرحمات.
هذا الكلام العظيم والنور الكريم، الذي اصطفى الله له الأخيار، فقلب قلوبهم على أوامره وزواجره آناء الليل وأطراف النهار، كلام الله الذي اصطفى الله له رجالاً، واختار له على مر العصور أجيالاً، كلام الله الذي أحل به الحلال، وحرم به الحرام، فكان به صدق المقام، وحسن الفعال وكريم الخصال، فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهله، وأن يحشرنا في زمرة أهله.(57/2)
التخلق بالقرآن ومحبته من مزايا السلف
أيها الأحبة في الله: إن الله عز وجل اختار لكتابه أمةً وعته، وأحبته وصدقته، فنزل القرآن إلى جذور قلوبها، ففتحت قلوبها للقرآن واطمأنت لموعظة الرحمن، حتى إذا تغلغلت تلك الآيات في الجنان، قادت أهلها إلى المحبة والرضوان.
وإذا نزلت الآيات إلى تلك القلوب، نزلت كالغيث إذا أصاب الأرض الطيبة، فكلام الله مع أحباب الله وأوليائه، يطهرهم لطاعته، ويؤهلهم لمرضاته ومحبته، إذا سمعوا القرآن وجلت قلوبهم لسماعه، فبكيت عيونهم من عظاته، وتحركت أشواقهم لجناته.
كم سمعوا فيه من الآيات التي تفطر القلوب لطاعة رب الأرض والسماوات، سمعوا تلك الآيات فاستقرت في قلوبهم فترجموها في الحياة، حتى أصبح القرآن دليلاً أمام أعينهم.
القرآن الذي أحب الله أهله، واصطفى أولياءه فاختار له رجالاً وأمماً وأجيالاً أحبته من قلوبها وحققته بقوالبها.
فهذه الأمة التي عاشت ليلها مع كتاب الله، ونهارها في تحقيق العبودية لله، ما أفضت إلى الله إلا والقرآن شاهدٌ لها لا شاهدٌ عليها، نزل هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل، فافترق العباد إلى فريقين وطائفتين ونحلتين: طائفةٍ كذبت ولم تؤمن به، ولم ترض به، فأعرضت عنه وأنكرته وكفرت به، فأذاقها الله الهوان، وألبسها الذل في سائر الأزمان.
وطائفة أحبته واقتربت منه وارتضته، هذه الطائفة المنصورة، أعلامها مشهورة، وفي الخير مشهودة.
أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، الذين أحبوه بقلوبهم وطبقوه بقوالبهم، وهذه الطائفة المحبوبة، والفرقة الناجية المنصورة، يطيب الحديث عنها وعن أخلاق وصفات أهلها، هذه الصفات التي تترجم القرآن في الحياة، أعلاهم وأشرفهم قدراً هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجيل القرآن أول شواهده وأعظم دلائله: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نزل القرآن يوم نزل، ففتحوا قلوبهم لآياته، وفتحوا قوالبهم لعظاته، فقادهم القرآن إلى الله، فحققوه وطبقوه، حتى أخذوا أرواحهم في أكفهم، يجاهدون في سبيل الله، ويقاتلون أعداء الله، ويوالون أولياء الله بكلام الله.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين اصطفاهم الله واجتباهم لرؤية منازل القرآن وحوادثه ومعاركه، فكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم والكل يراه، والكل يعلمه ويشاهده، فحققوا القرآن بالعمل، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكل واحدٍ من أصحابه قرآنٌ يمشي على وجه الأرض، فكانت هذه الأمة مع كتاب الله، التي سهرت ليلها وأظمأت نهارها، رهبان الليل وفرسان النهار، بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا أحب الله العبد رزقه أن يسير على نهجهم، فما مات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وخلفوا أشباههم من التابعين، ومن الأئمة المهديين المحبين لكلام رب العالمين، توفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تحكم القرآن في قلوبهم، وترجم في قوالبهم، فغرسوا هذا القرآن في أتباعهم، والسائرين على نهجهم بإحسان.
غرس الصحابة رضوان الله عليهم كلام الله في قلوب التابعين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى أحبت القلوب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تبارك وتعالى جمع للصحابة في القرآن خصلتين، قل أن تجتمع لإنسان في الدنيا: خصلة العلم بالقرآن والعمل به وتطبيقه أمام العيان.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن بقلوبهم، سهروا معه، فكان الواحد منهم تبكيه الآية وتفرحه الآية، يعيش الوعد والوعيد والشوق والتهديد، فكانوا مع القرآن على الحقيقة، عاشوا مع هذا القرآن، إذا تليت عليهم آيات الجنان طارت قلوبهم شوقاً إلى الروح والريحان، إذا تلا الواحد منهم آيات الجنان كأنه يقطف من ثمارها، ويتكئ على أرائكها، وينظر إلى أشجارها وثمارها وأنهارها، فما أعظمها من أمة، وإذا تلا الواحد منهم الآية التي فيها ذكر النيران، وغضب الواحد الديان، صعق كأن زفير النيران بين أذنيه.
أمة أحبت كتاب الله صدق المحبة، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم به، ويعظهم به، علموا أنه القول الفصل، وأنه الجد لا الهزل الذي يحتاج لمن يحمل همومه وغمومه، ويبادله مشاعره وأشجانه وأحزانه، فإذا أردت أن تنظر إلى جيل القرآن في أبهى صوره، وأجمل حُلله، فانظر إلى تلك الأمة المصطفاة، واقرأ عن سيرة أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
إذا قرأت في سيرتهم لا تدري أتعجب من علمهم بالقرآن! ومعرفتهم لكلام الرحمن! إذا قرأت سيرتهم لا تدري أتعجب من عملهم بكلام الله، أم بمعرفتهم بأحكام الله وشرائع الله، أم بوقوفهم عند حدود الله وزواجر الله، تعطرك السيرة، وتنفحك السريرة، فتجد الصدق الذي لا كذب فيه، والحب الذي لا شائبة فيه.(57/3)
صفة أهل القرآن
أيها الأحبة في الله: أصدق كلمة خرجت من الأفواه كلمةٌ تذكِّر بكلام الله، وأحب الكلام إلى الله القرآن، به ختم الله الرسالات، وقطع به الحجج والبينات، فأقامه شاهداً على وحدانيته، ودليلاً على عظمته وألوهيته، ولقد تكفل الله عز وجل للقرآن بالعز، وجعل أهل القرآن في العزة والمكانة والجلالة والكرامة، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ما عاش أحدٌ مع كتاب الله عز وجل إلا قاده إلى الله، وعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى.
أهل القرآن تمكن حب القرآن من أفئدتهم، وعاشوا مع تلك الآيات ساعات ليلهم ونهارهم، إذا جاء الليل بثوبه فأرخى عليهم سدوله، وجاء الرجل منهم بعد أن أعياه التعب والنصب لكي يضع كف الراحة، ويبدي للنفس ما هي به من استراحة، جاءته آيةٌ من كتاب الله، أو عظةٌ من كلام الله، فأقضت مضجعه ونغصت نومه، وقادته للوقوف بين يدي ربه، فهان عليه النوم والكرى، وقام يناجي ربه جل وعلا، تحركه آيات القرآن لكي يقف بها بين يدي الواحد الديان، حتى إذا تلا فاتحته، واستفتح علومه وأخباره، إذا بتلك الآية تذكره بما عند الله عز وجل من النعيم، أو ما عنده من العذاب والجحيم، فقرعت مسامعه مقارع التنزيل، فقادت قلبه وقالبه إلى العظيم الجليل.
يستفتح الآية من الجنان، حتى إذا استقرت منه في الجنان فتذكر ما فيها من الروح والريحان، وما فيها من الكرامة من ربه الديان، أحس بأن الشوق يقوده إلى الله، ونادى بلسان حاله ومقاله: رباه رباه، إذا ذكر بالجنان وما عند الله من الروح والريحان بكى، واشتجى إلى ربه واشتكى؛ لأنه يخاف أن تحول ذنوبه بينه وبين تلك الفرقة الصالحة، فكم نزل بالجنان من الأخيار، وكم تقلد ما فيها من الحور وحسن القرار؛ من أممٍ خلت، في أزمنةٍ مضت، أطاعت ربها وسارت على نهج خالقها.
فإذا قرأ المؤمن آية الجنان يخاف أن تنقطع ما بينها وبينهم من العرى، يخاف أن ينقطع المسير به، فيحال بينه وبين الجنان بسبب الذنوب التي أصابها، والعيوب التي اقترفها، يخاف من ذنبٍ يحول بينه وبين الله، أو إساءةٍ تبعده عن جوار الله، وإذا ذكر الآية التي فيها ذكر النيران والجحيم وسخط الديان، خاف من الله عز وجل أن يكون ذلك مآله، وأن ينتهي به إلى ذلك المنتهى فيكون قراره، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل الذي يعيش مع القرآن عظاته، ويحيا بآياته.(57/4)
نماذج من السلف في حالهم مع القرآن
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، فلما رأوا آثار القرآن في حياتهم ووجدوا لذته في دنياهم، غرسوه في قلوب الناس، فكان إمامهم عبد الله بن عباس إذا وقف يتلو كتاب الله، تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وظهرت دلائل الحق من حسن بيانه، ووقف في عرفة يوم أن ولاه علي رضي الله عنه الحج عامه، فتلا آيات البقرة ففسرها آيةً آية، يقول القائل: [لو رأته الفرس والديلم لأسلمت لله من جماله وبيانه].
هذا الصحابي الجليل، لما رأى عظمة التنزيل ومآله عند الله العظيم الجليل، أحب كتاب الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلق بكلام الله، وقال في نفسه: إن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتاب ربي موجود، وإن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلام الله غير مفقود، فعاش مع هذا القرآن فالتزم باب زيد بن ثابت وكان نعم الصحابي القانت الثابت، فكان رضي الله عنه وأرضاه يسأله عن القرآن آيةً آية، ويوقفه أمامه حرفاً حرفاً، فرضي الله عنه وأرضاه، حتى كان يبكر من الفجر إلى بيت ذلك العالم الجليل من الصحابة.
وهنا وقفة لأهل الخير والرضا، وشباب الصحوة وطاعة الله جل وعلا، أن تُشحذ الهمم إلى العلم بالقرآن، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه مع صغر سنه لم ير أن بينه وبين القرآن حاجزاً، فأقبل على زيد وتعلم منه ذلك العلم النافع، وكان يبكر قبل صلاة الفجر على باب زيد، يحب أن يراه الله وهو يضرب الخطا لكي يتعلم كلام الله، كان يغدو من الفجر، فينام على عتبة زيد بن ثابت، حتى إذا خرج إلى صلاة الفجر أيقظه، وكان رضي الله عنه وأرضاه يخرج في شديد الظهر والهاجرة، لكي يسأل الصحابي عن آيةٍ من كتاب الله، يقول رضي الله عنه: [إن كنت لأجلس على باب الرجل أسأله عن آيةٍ من كتاب الله وهو نائم، وإن كنت لآتي الرجل في بيته وهو نائم في شدة الهاجرة، فأجلس على بيته والريح تسفني -يعني السموم والريح- لو أمرتهم أن يوقظوه لأيقظوه، أنتظر خروجه فأسأله] فكان كتاب الله في قلبه عظيماً، وكان يعظم من كان يعرف كلام الله.
وهنا وقفة لكل من يريد أن يكون من جيل القرآن، أن يغرس في قلبه حب كلام الرحمن، وأن يكون مع هذا الكلام في جميع ساعاته وحركاته وسكناته.
فلما توفي زيد بن ثابت إمامه وشيخه، وقف أمام ذلك العالم الجليل، الذي فقه التنزيل فدمعت عيناه، وبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: [ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم، فلينظر! هكذا يقبض الله العلم] (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء) فبكى رضي الله عنه، وأبكى الناس لفراق شيخه في كتاب الله، فلما بلغ مبلغه من العلم تصدر رضي الله عنه وأرضاه، فشعت أنوار التنزيل من كلامه، وظهرت حجج القرآن من بيانه، فكان رضي الله عنه علماً من أعلام المسلمين، وإماماً من أئمة الدين، غرس في نفوس طلابه من التابعين فقه الكتاب المبين، فكان مجاهد بن جبر ومكحول وطاووس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رحمة الله على الجميع، تلاميذه يذكرون به، فتصدر رضي الله عنه لتربية الأجيال على كلام الله عز وجل، وما خرج من هذه الدار إلا وقد غرس كلام الله عز وجل في نفوس أصحابه.
وهكذا تكون أجيال القرآن يغارون على تعلمه، ويحرصون على تعلمه، ويحرصون على تفهمه وتطبيقه وتعليمه، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منه أوفر حظِ ونصيب.(57/5)
خصال أعظم الناس نصيباً في القرآن
أيها الأحبة في الله: أعظم الناس مصيداً في القرآن من جمع بين ثلاث خصال:(57/6)
الوقوف عند كل آية وعرض النفس عليها
الخصلة الثانية: إذا أكثرت من تلاوة القرآن فإياك ثم إياك أن تجاوز آيةً واحدة إلا وقد سألت نفسك ما موقفك من هذه الآية؟ أمرتك فهل ائتمرت، ونهتك فهل كففت وانزجرت، ما موقفك من هذه الآية الكريمة؟ هل هذه الآية حجة لك، أو حجة عليك؟ إذا تلوت آي آيةٍ من كتاب الله فقف معها، وسل نفسك، هل هذه الآية لك أو عليك، فإن كانت الآية لك، فاحمد الله على التوفيق، واسأله الثبات عليها إلى لقائه، فوالله الذي لا إله إلا هو ما من آيةٍ تقرأها ولا آيةٍ تسمعها، إلا وقفت بين يدي الله تقول: يارب عمل بي أو ردني؟ ما من آية تسمعها في حديث أو محاضرة أو صلاة، أو تكتبها أو تقرأها أو تنظر إليها، إلا كانت حجةً لك أو عليك، قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إن الناس يصلون في قيام رمضان، فمن قام رمضان كاملاً حتى ختم القرآن وهو يسمعه، فقد تمت حجة الله عليه.
كملت حجة الله عليه إذ بلغته جميع الآيات وانتهت إليه جميع العظات، فإما أن تنتهي به إلى الجنة، أو تنتهي به إلى النار، فإن الإنسان إذا تليت عليه آيات الله ما تليت عبثاً، إذا وقفت في أي موقف في الصلاة أو في محاضرة أو في ندوة أو في مجلس، وقرأت في كتاب أو في صحيفة على ورقة، ومرت بك آيةٌ من كتاب الله، فاعلم أن هذه الآية بمجرد أن تقرأها أنها قد بلغتك، فإما لك أو عليك.
تقف أمام القرآن وقفة الخائف الوجل، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، يقفون مع القرآن حرفاً حرفاً، وكانوا إذا علَّموا طلاب العلم كتاب الله، علموهم كتاب الله آيةً آيةً.
يقول مجاهد: [عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة -وقال في راوية ثانية-: عرضته ثلاث مراتٍ أسأله عن القرآن آيةً آيةً] وهذا من أبلغ ما يكون، فإنك إذا تلوت من القرآن قليلاً مع التدبر والتفهم، عرفت مكانك من القرآن، ولو لم يكن للإنسان مع القرآن إلا أن يعرف قدره، فإن ذلك من أعظم التوفيق.(57/7)
كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه
الخصلة الأولى: كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه، والله عز وجل أثنى على تلك الطائفتين، فقال في كتابه المبين: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] والله لا يحرص على تلاوة القرآن واستماعه إلا من أحبه الله عز وجل، وذلك بداية التوفيق لكي يكون الإنسان من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، الحرص على سماع القرآن وقراءته، ومن الناس من لا يرتاح إلا بسماع القرآن، وأذكر بعض العلماء الفضلاء: كان إذا جلس على طعامه جلس والقرآن يتلى عليه، ومن الناس من لا تهنأ نفسه ولا يرتاح قلبه إلا بتلاوة القرآن، يتلوه قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً كأنه نائم.
هذا من أعظم التوفيق أن تكثر تلاوة القرآن، ولا يوفق لكثرة تلاوة القرآن إلا من أحبه الله، وفي تلاوة القرآن رفعة الدرجات، ومضاعفة الحسنات، وحت الذنوب والخطيئات، فمن أكثر تلاوة القرآن جاء القرآن له شفيعاً، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سورةٍ من سوره، أحبها رجلٌ من العباد، وأكثر من تلاوتها، فأحل حلالها وحرم حرامها، وشاء الله عز وجل أن يختاره إلى جواره، فمات وانتقل إلى ربه فجاءت هذه السورة، وهو في ظلمات القبر وفي لحده ومضجعه، فجادلت عنه حتى أنجته من عذاب القبر وفتنة القبر، فما أجل القرآن إذا وفق العبد لتلاوته، وتفهم آياته، وتدبر عظاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) كثرة تلاوة القرآن من أجل النعم التي يوفق لها الإنسان بعد نعمة الإيمان.(57/8)
مراتب القارئين للقرآن
فإن الناس مع القرآن على ثلاث مراتب: منهم سابقٌ بالخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، ثلاث مراتب إذا سمعت كتاب الله، أو قرأت كتاب الله، فإما أن تكون من السابقين، وإما أن تكون من الظالمين، وإما أن تكون من المقتصدين، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من السابقين.
أن تقف مع كل آية، فإن وجدتها لك حمدت الله، وإن وجدتها عليك ففكر علّ الله عز وجل أن يعينك للعمل بها، وتطبيقها وتحقيقها، فإن كانت ذنوباً بينك وبين الله، فاستح من الله وقد بلغتك حجة الله، فاستدم لها الاستغفار، والتزم لها التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وإن كانت حقاً واجباً فأد هذا الحق لمن أمرك الله بأدائه إليه.
فإن الإنسان إذا هيأ نفسه للعمل بالقرآن وفقه الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، إذا نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا تلك الآية عملوا بها، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، فكانوا يتبعون السماع بالعمل، وإذا أردت أن تعرف حب الله لك، وحبك للقرآن فانظر إلى تأثرك بعد سماعك كلام الله عز وجل.
إن خرجت من المسجد أو من الموعظة، أو بعد النصيحة، وأنت تشتاق لعمل ما يأمرك الله به، وترك ما حرم الله عز وجل عليك فاعلم أن الله يحبك، وأنه يهيئك لكي تكون من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وما أنصف عبد نفسه من القرآن، إلا تكفل الله له بحسن الختام.
قال بعض العلماء: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما حفظ عبدٌ كتاب الله وعمل به، إلا ضمن الله له حسن الخاتمة، وأذكر أحد العلماء الذين توفوا قريباً من أهل القرآن، الذي أمضوا ليلهم ونهارهم في حب القرآن، وتعليم القرآن وتدريسه، جاءه رجل من بلدٍ بعيد فقال له: إني أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: إن عندي طلاباً كثيرين، قال: يا شيخ أقبلت عليك من بلد كذا وكذا فأعطني من وقتك، فأعطاه وقتاً عزيزاً عليه في ليله، فشاء الله عز وجل أن يستفتح ذلك الطالب كتاب الله عز وجل، وما زال يقرأه حتى بلغ قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] قال: فخشع الشيخ وسقط مغمىً عليه، فكانت خاتمته عند هذه الآية الكريمة.
فنسأل الله حسن الختام.
والقصص في هذا كثيرة، فإن أهل القرآن الذين يحبون كلام الله عز وجل، ليس كثيراً عليهم هذا، وهذا الشيخ الفاضل الذي توفي عند هذه الآية الكريمة، كان يقرأ عليه أحد الأقارب يقول: فرأيته بعد وفاته في المنام فقلت: يا شيخ ما فعل الله بك؟ قال: فغضب عليّ واحمر وجهه، قال: ما تظن الله يفعل بأهل القرآن! هل تظن الله سيعذبني وأنا من أهل القرآن، يفتخر ويعتز بنعمة الله تبارك وتعالى عليه.
فنسأل الله عز وجل أن يسكن قلوبنا وقلوبكم حب القرآن، وأن يجعل حياتنا وحياتكم مع القرآن.
إذا قرأت القرآن واستمتعت إلى آيات القرآن وسألت نفسك عن هذه الآيات.
فالقرآن على ضربين: القسم الأول: ضرب منه الأوامر والنواهي، تفعل ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عليك.
وأما القسم الثاني: فهو العظة والعبرة التي جعلها الله عز وجل في قصص الماضين، ومآل العباد إلى الله رب العالمين، فما كان من العظات وقفت أمامه، فإن استطعت البكاء فذلك من السناء والبهاء، وإن لم تستطعه فتباك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماع كلام الرحمن، فالعظات ينبغي للإنسان أن يعيش معها وأن يحس أنها تخاطبه، وأنه هو المعني بها.
ولذلك قال بعض العلماء: إذا قرأت آيةً فيها ذكر الجنة فعد نفسك كأنك من أهلها، حتى تشتاق إلى بلوغها، وإذا ذكرت آيةً فيها ذكر النار، فعد نفسك كأنك من أهلها، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان، إذا قرءوا القرآن، أهانوا أنفسهم عند تلاوة القرآن، قال بعض السلف: والله ما عرضت نفسي على كلام الله إلا اتهمتها بالنفاق.
وقال الثاني: ما عرضت نفسي -قولي وعملي- على كتاب الله إلا وعددتها من الراسخين في النفاق.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [ما زال ينزل في سورة براءة ومنهم ومنهم حتى خشينا على أنفسنا أن نذكر] فينبغي للإنسان إذا تلا كتاب الله أن يعيش مع كلام الله عز وجل، حتى تكمل موعظته، وتكمل عظته، ونسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم ذلك المبلغ.(57/9)
حقوق القرآن على من تعلمه
أيها الأحبة في الله: إن من تمام حقوق القرآن أن يغرس الإنسان حب القرآن في أبنائه وأهله وزوجه، فمن توفيق الله عز وجل لأهل القرآن أنهم كالشجرة خيرها لا يقتصر عليها، جناها للناس وظلها للناس، كذلك حافظ القرآن وتاليه، يبلغ حجة الله إلى العباد، ويهدي كلام الله عز وجل داعيةً إلى سبيله، سبيل الحق والسداد.
فإذا أردت أن يتمم الله عز وجل عليك نعمته، وأن يكمل عليك منته، فإذا تأثرت بكلام الله، فذكِّر به الأقربين، وذكر به الناس أجمعين، فمن تمام النعمة في القرآن أن تهدى ثماره، وأن يذكر بآياته من بعد عنه من الأقربين والأبعدين، فكن أخي في الله حامل رسالة الله إلى عباد الله، شرفٌ لك أن تقف أمام عبدٍ تذكره بآيةٍ من كتاب الله عز وجل، وفخرٌ لك أن تعتز بكلام الله فتبلغه إلى عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وأخبر صلوات الله وسلامه عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ... )، فإذا أتاك الله القرآن ووجدت للقرآن أثراً فابذله إلى غيرك.
قال بعض الفضلاء من الدعاة: إن العبد إذا وفقه الله للآية فتأثر بها، وأراد أن يذكر بها غيره فوفقه الله لتذكيره بها فإن الله سيوفقه لغيرها.
لأن من شكر نعمة الله عز وجل عليه بعلم القرآن وعمله بارك الله له في ذلك العلم.
والناس في علم القرآن على قسمين: القسم الأول: بارك الله له في علمه.
والقسم الثاني: محقه بركة علمه.
ولذلك تجد الرجل يدخل المسجد فيسمع من بجواره يخطئ في القرآن لا يرد عليه خطأ واحداً، وهو يعلم أنه مخطئ في كتاب الله، ورجل ثانٍ يجلس بجوار الرجلين، يخطئ هذا فيرده ويخطئ هذا فيرده، كم له من الأجور والحسنات، وهو يقوم في كتاب الله، فينبغي للراغب الموفق في رحمة الله ومرضاته أن يحرص على تبليغ القرآن للغير، ودلالة الناس إلى كلام رب الناس.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بالقرآن، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، اللهم إنا نسألك أن ترفع بالقرآن ذكرنا، وأن تهدي به ضالنا، وأن تجمع به شملنا، وأن تثبت به قلوبنا، وأن تشرح به صدورنا.
اللهم إنا نسألك حب القرآن والعمل به، والدعوة إليه، والثبات على ذلك إلى لقائك، حتى يكون حجةً لنا لا حجةً علينا، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(57/10)
الأسئلة(57/11)
نصيحة لمن تكاسل عن صلاة الفجر وهو من حفظة القرآن
السؤال
بعض حفظة القرآن تجدهم يتكاسلون عن صلاة الفجر، فتجدهم في بعض الأحيان يأتون الصلاة متأخرين، وفي بعض الأحيان ينامون ولا يأتون إلى الصلاة فما هو توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
طلاب العلم هم القدوة للناس، فينبغي أن يكون حالهم على الكمال، ومن حفظ كتاب الله عز وجل فقد حمل النبوة بين جثتي صدره، وينبغي عليه أن يكون على الكمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا يقصر لا في صلاة الفجر ولا في غيرها، فينبغي عليه أن يتعاطى الأسباب التي تعينه على التبكير إلى المساجد إذا أمكنه ذلك، إلا إذا كان مشغولاً بأمرٍ عظيم، أو بمصلحةٍ هي أعظم من تعليم الناس وتوجيههم ونحو ذلك، فهذا أمرٌ آخر، ولكن ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الكمال، وأن يحرص على ذلك الكمال، والله تعالى أعلم.(57/12)
نصيحة في حث النساء على تلاوة القرآن
السؤال
الرجاء حث النساء على تلاوة القرآن، خاصةً في أوقات فراغهن في البيوت، فهن يشغلن أوقاتهن بالنوم أو غير ذلك من الأمور، فنرجو توجيه النصيحة لهن والله يحفظكم؟
الجواب
أما الكلام الذي ذكرناه في الرجال، فالرجال والنساء فيه سواء، وكما أن في الرجال الطيبين كذلك في النساء الطيبات، وكما أن في الرجال الصالحين، كذلك في النساء الصالحات، والله تبارك وتعالى أثنى على الصالحات وذكر أنهن مسابقات إلى الخيرات، وفي خاتمة سورة آل عمران ما يدل على أن النساء منهن من الذاكرات.
فأوصي أختي المسلمة أن تكثر من تلاوة كتاب الله، وكل الذي قلناه من قبل وصيةً لها، ووصيةٌ للذكر والأنثى كثرة تلاوة القرآن، لكن المرأة إذا أكثرت تلاوة القرآن ظهر الأثر في بيتها، وظهر الأثر في أولادها وبناتها، فإذا نظرت إليك البنت وأنتِ تحافظين على تلاوة كتاب الله، تعلق قلبها بكلام الله عز وجل، وكم من امرأة صالحة ورثت بنتها أو ابنها حب الصلاح بصلاحها، فالمرأة الصالحة فيها خيرٌ كثير، ولذلك ينبغي للمرأة أن تكثر من تلاوة كتاب الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم حفز النساء والرجال فقال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أصحابه، والله تعالى أعلم.(57/13)
ضرر الرياء عند حفظ كتاب الله
السؤال
لقد أتممت حفظ كتاب الله ولكني قبل أن أختم القرآن كنتُ أتفاخر بأني حافظٌ لكتاب الله، وكنتُ أحب أن يقال: فلانٌ حافظ، وكنتُ على غير علم، والآن ولله الحمد عرفت أن هذا لا يجوز وهو من الرياء، فهل ينطبق عليّ الحديث: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة)؟
الجواب
عفا الله عما سلف وعليك بما بقي من عمرك أن تصلح ما بينك وبين الله في نيتك، فما كان وما مضى فلا تعلق قلبك به، وإذا ذكرت أقوالك الأولى، فاستغفر الله عز وجل منها وتب إلى الله، فإن الذي ذكرته عظيماً، فإن الإنسان إذا ورثه الله حفظ كتابه فقال مفتخراً: أنا حافظ للقرآن، فقد أحبط على نفسه العمل.
فإن الغرور يحبط العمل والعياذ بالله، ويمحق بركة العمل، ولذلك إذا وجدت الإنسان على خصلةٍ من خصال الصلاح، ووجدته قد قرنها بالغرور محق الله بركة ذلك الصلاح، فينبغي للإنسان أن يخاف من الغرور، وأن يخشى الله عز وجل فيما يقوله من الثناء والتزكية لنفسه، ولكن يقول: أرجو أن أكون حافظاً وأرجو أن يوفقني الله عز وجل لحفظ القرآن والعمل بالقرآن، أي يصرف نظره عن كونه حافظاً فيقول: أسأل الله أن يوفقني للعمل بالقرآن، المهم أن تسأل عن العمل بالقرآن، لا عن حفظ القرآن والله تعالى أعلم.(57/14)
كيفية التخلص من الوسواس
السؤال
أنا إنسانٌ مبتلى بالوسواس في كل شيء، وخاصةً في الصلاة والوضوء، فكيف أتخلص من هذا الوسواس؟
الجواب
استعن بالله عز وجل فإنه نعم المولى ونعم النصير، سل الله عز جل أن يشرح صدرك، وأن يثبت قلبك وأن يدفع الوساوس عن جنانك، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذك من الشيطان الرجيم، فإن الله تبارك وتعالى لما ذكر الوساوس قرنها بقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].
فمن استعاذ بالله أعاذه الله، فأكثر من الاستعاذة واتفل عن يسارك ثلاثاً إذا وجدت الوسوسة في صلاتك، أو وجدتها في وضوئك فالله يعينك.
أما الأمر الثاني: إذا غسلت كفك وجاءك الشيطان فقال: لم تغسل؟ فقل: قد سألت وكفيت المسألة، فالمرة كافية، فلا تصب مرةً ثانية ولو قال لك: إن صلاتك باطلة، ولذلك خير ما يعالج به الموسوس ألا يفتي نفسه، فباب الوسوسة يأتي والعياذ بالله من فتوى الإنسان لنفسه، إذا غسلت الأعضاء أو قمت فصليت الركعة أو الركعتين أو الثلاث وجاءك الشيطان فقال لك: لم تغسل يدك، ولم تغسل رجلك! غسلت يدك! وأنت تعلم أنك قد صببت الماء عليها، قال لك: امسح حتى يصل الماء إلى البشرة، فقل له: إن الله لم يكلفني بذلك، ولن أفعل شيئاً إلا بفتوى ومثلك لا يفتي، فكن مع الله عز وجل بضبط نفسك بفتوى أهل العلم، فأوصيك ألا تسمع لأي وسواس يأتيك، إذا قال لك: لم تغسل يدك ورأيت الماء عليها فلا تلتفت، ولو قال لك: إن هذا سيبطل صلاتك ويبطل وضوءك؛ لأن الشيطان خبيث يأتي الإنسان من باب الطاعة كما يأتيه من باب المعصية، فتقوى الوسوسة حينما يعظم له الأثر، فيقول له: أنت توضأت ولكن وضوءك غير صحيح، إذاً: صلاتك باطلة، وإذا بطلت صلاتك فأنت غير مصلٍ، وإذا كنت غير مصلٍ فأنت كافر، وقس على ذلك؛ حتى ينتهي به الأمر إلى أقصى ما يكون من الشدة والحرج، فإذا بلغت هذا فاعلم أنه على غير شرعة ولا دين؛ لأنه يخالف منهج رب العالمين فالدين يسر وهذا عسر، والدين رحمةٌ وهذا عذاب، فإذا وجدت من نفسك هذا فأعرض عن هذا كله، واستعن بدعاء الله عز وجل عليه، والله تعالى أعلم.(57/15)
وصية لمن حفظ القرآن وترك مراجعته
السؤال
أنا شابٌ قد منّ الله عليّ بحفظ القرآن الكريم إلا القليل منه، ولكنني مقصرٌ جداً في مراجعته وأنا خائفٌ أن أموت وأنا على هذا الحالة، فأرجو منك توجيهي الوجهة الصحيحة؟
الجواب
إذا حفظ الإنسان كلام الله، واستقر في قلبه كلام الله، فينبغي أن يستحي من الله عز وجل أن يؤاخذه بكلامه، ولذلك أكمل الناس عملاً بالقرآن حفاظ كتاب الله، وإذا حفظت كتاب الله فاعلم أن كتاب الله يسألك حقاً عظيماً، لقد كان بعض الأخيار لا يأكل في السوق ولا يقف في المطاعم، وكان يبتعد عن كل شيٍ فيه منقصة يقول: أخشى أن يؤاخذني الله بالقرآن الذي في صدري، فالقرآن عظيم، وصاحب القرآن في الجلال والتكريم، فإذا حفظت القرآن حفظك، وإذا أكرمت القرآن أكرمك، وإذا رفعت القرآن رفعك، ولذلك لا ينبغي للإنسان الذي أورثه الله عز وجل كتابه أن يقصر في تلاوته، فإن من دلائل الإيمان كثرة تلاوة القرآن، قال الله في كتابه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121].
فأخبر أن من حرم تلاوة القرآن، وحصل له الكفر بكلام الرحمن أنه من أهل الخسارة، فنسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من ذلك.
أوصيك أخي في الله، وقد أكرمك الله بكلامه أن تجعل للقرآن حظاً من الليل، فتراجع كلام الله عز وجل في قيام الليل، اجعل لك ولو جزءاً واحداً من كتاب الله عز وجل.
اتصلت عليّ امرأة البارحة عمرها أكثر من ستين سنة، من حفاظ كتاب الله عز وجل، من القرابة، تشتكي أنها في قيام الليل لم تعد تطيق الوقوف، وتترخص في تلاوته وهي جالسة، فقلتُ: سبحان الله، أين الشباب الأصحاء الأقوياء الذين هم في عافيةٍ من الله، امرأة في آخر العمر عند المشيب والكبر تتمنى أن الله عز وجل يكرمها بذلك، ومع هذا لما سألتها إذا بها في الركعة الواحدة تقرأ حزباً كاملاً من القرآن!! فأي فضل وأي غنيمة، والله إن الإنسان في بعض الأحيان إذا فكر في حال الصالحين وما كانوا عليه من الخيرات، وجاءك ذكر الموت يحصل في القلب من الشجى والحزن ما الله به عليم؛ لا لشيء، فقط والله نخشى أن تنتهي آجالنا وأن تنقضي أعمارنا وما عبدنا الله حق عبادته، نخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل قيام الليل.
ونخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، ولكن نسأل الله عز وجل بعزته وعظمته ألا يخرجنا من الدنيا إلا وقد جعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهله وخاصته، فأي غبن حينما يأتي الإنسان في عرصات يوم القيامة، فيجد الصالحين قد سبقوه بمراتب ومفائز، فنسأل الله أن يقرب بيننا وبينهم، وأن يرزقنا التأسي بهم.
أوصيك بمراجعة القرآن وبتلاوته في قيام الليل، فإن من أفضل ما يكون في مراجعة القرآن قراءته في قيام الليل أكثر من تلاوته، ابتدأ أول يوم ولو لم تكن حافظاً، اجعل لقيام الليل من القرآن جزءاً، حاول بعد صلاة العشاء ألا تتصل بأحد، واجعل ليلك لله، ويكفيك النهار للناس، فكف أحاديث الناس ومجالسهم، فاجعل هذه الساعة بينك وبين الله، فإن قدرت أن تقوم آخر الليل فذلك أجل وأكمل، وإن لم تقدر فاحرص أن تقوم منتصف الليل، فإن لم تستطع فبمجرد أن تصلي العشاء أقفل باب غرفتك وخذ كتاب ربك، وصل واقرأ، أنا أقول: طالب العلم أقل ما ينبغي أن يقرأ في الليلة على الأقل ثلاثة أجزاء.
الإمام الشافعي رحمه الله كان يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ مرة، يعني يقرأ عشرة أجزاء في الليلة الواحدة، فنحن نقول طالب العلم عليه ثلاثة أجزاء، الثلث والثلث كثير، أقل شيء ثلاثة أجزاء، والله ثلاثة أجزاء في اليوم الأول تراهم مثل الجبل، واليوم الثاني نصف الجبل، واليوم الثالث ولا جبل، واليوم الرابع مثل الغذاء الذي لا تستطيع أن تصبر عليه.
ولو كانت على الإنسان أحمال الدنيا وهمومها وهو من أهل قيام الليل وجد أثر قيام الليل في حياته، وجرب وستجد ذلك، لا تقل هذه نصف ساعة، أحياناً نصف ساعة تختم فيها جزءاً، وفي هذا الجزء ملايين الحسنات، والله تتأثر بها في قولك، وتتأثر بها في سمعك، وتتأثر بها في سلوكك، ويورثك الله بها الحب عند عباده على قدر ما تلوت من كتابه، جرب وستجد ذلك، كتاب الله بيننا وبينه فجوات، محبة الخلق على قدر ما بينك وبين كتاب الله عز وجل من المحبة، فاجعل نصف ساعة تختم بها جزءاً كاملاً، إذا قرأته بارتياح، فإذا تلوت ثلاثة أجزاء من كتاب الله جنيت ملايين الحسنات، مع ما فيها من العظات، وقد يعز عند الله لحظة حينما تقوم بين يدي الله وأنت تستطيع أن تنام، تأتي بعد العشاء في عز شبابك وقدرتك، فتقف بين يدي الله بالقرآن ولو تنظر إليه، فتقرأ الجزء ربما أن الله عز وجل يعظم منك هذا الموقف فيورثك خصلة من خصال الصالحين، ولربما أن يشرح صدرك للطاعة فلا ينقبض أبداً، فالله كريم.
وما نال الصالحون درجات الصلاح بعد فضل الله إلا بالعمل الصالح، فأرِ الله عز وجل من نفسك، أرِ الله من نفسك خيراً، والله إذا رآك تقترب منه قليلاً زادك منه قرباً: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً).
فنسأل الله العظيم أن يحي قلوبنا وقلوبكم بتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(57/16)
الجمع بين تأثر الصحابة وتأثر التابعين بالقرآن
السؤال
عندما ينظر الإنسان في سيرة الصحابة ومن بعدهم، يجد أن تأثرهم بالقرآن يختلف، ففي التابعين ومن بعدهم يصعق الواحد منهم ويغمى عليه وغير ذلك من أنواع التأثر، أما في الصحابة فلا يتأثرون مثل هذا النوع من التأثر بل أقل، فكيف نفسر هذا؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذا السؤال لا شك أنه من أفضل الأسئلة وأدقها، وهو يعتبر إشكالاً عند العلماء رحمهم الله، ووجه هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون القرآن ويذكرون به، ولم يقع لهم ما وقع للتابعين من بعدهم، فنسمع في قصص التابعين أن الرجل كان إذا سمع الآية صعق ومات، كما في الترمذي أن رجلاً تلا قول الله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] فسقط مغشياً عليه ميتاً.
فهذه الحالة هل تدل على أن التابعين أكثر تأثراً من الصحابة؟ والجواب كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الناس تختلف قلوبهم، فقلوب الصحابة رضوان الله عليهم كمل فيها الإيمان، وقوي فيها اليقين، وكانوا إذا تليت عليهم آيات القرآن تأثروا بها، وكان تأثرهم في القلوب، وفي العمل والتطبيق، وأما الأثر الظاهر، وهو دمع العين، ووجل القلب والسقوط مغشياً عليه ونحو ذلك مما وقع للتابعين، فهذا ضعفٌ في الوارد والمحل الذي وردت عليه التلاوة، فكان الصحابة أقوى في الثبات، وأقوى في التأثر بالآيات وكان علمهم بالقرآن عملاً وتطبيقاً، فهذا لا ينقص من قدر الصحابة شيئاً، وهذا هو أنسب الوجوه في الجمع، أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد قوي يقينهم، ولم تكن قلوبهم كقلوب التابعين أرق، وهذا لا ينقص قدر الصحابة كما قلنا والله تعالى أعلم.(57/17)
نصيحة لمن تمر عليه أيام ولم يقرأ القرآن
السؤال
تمر عليَّ بعض الأيام وما أقرأ شيئاً من القرآن، فهل يعتبر هذا هجراً للقرآن؟
الجواب
هذا يعتبر حرماناً وأي حرمان!! إذا وجدت نفسك تمر عليك الأيام ولم تتلُ شيئاً من كتاب الله فابكِ على نفسك، فوالله ما حرم عبد طاعة إلا دل ذلك على بعده من الله عز وجل.
قال سفيان الثوري رحمه الله: "أذنبتُ ذنباً فحرمتُ قيام الليل ستة أشهر" فإذا وجدت أن الأيام تمر عليك وليس لكتاب الله حظٌ في أيامك وساعات ليلك ونهارك، فابكِ على نفسك واسأل الله عز وجل العافية، واطّرح بين يدي الله عز وجل منيباً مستغفراً، فما ذلك إلا بذنبٍ بينك وبين الله، والناس الآن يهجرون كتاب الله، أما السلف فكانوا يرتبطون بكتاب الله، والفرق بين الطائفتين أن الفتن كثرت في هذا الزمان، وما يدريك لعل فتنةً في البصر أو في السمع أو الهرج، طفئ نور الإيمان بها في القلب، فلم تعِ كتاب الله ولم تحبه ولم تتله، فكثرة الذنوب في هذه الأزمنة المتأخرة صرفت قلوب الناس عن الطاعة، وأصبح حظ كثيرٍ من الناس من التأثر بكلام الله أقل من حظ الأولين، الذين انتشر فيهم الخير وقل فيهم الشر.
فنسأل الله العظيم أن يتداركنا وإياكم بلطفه، ولذلك من أفضل العلاج، أن نفر من الله إلى الله، وأن يحاول من يريد الخشوع والقربى من القرآن أن يفر عن الفتن، وأن يبتعد عن كل سيئة تبعده عن الله، سواءً في سمعه أو بصره، أو فرجه أو يده، أو لسانه يبتعد عن ذلك كله.
كان السلف الصالح رحمهم الله يتركون فضول الحديث خوفاً من الوقوع فيما لا خير فيه، فكيف بنا وقد وقعنا في الغيبة والنميمة وغير ذلك من الذنوب، فنسأل الله العظيم أن يتداركنا برحمته، والله تعالى أعلم.(57/18)