حكم الاستشهاد بآيات القرآن على مواقف محدودة
السؤال
فضيلة الشيخ، ما حكم القذف بالآيات؟ مثلاً: يكذب إنسان على آخر، فيقال له: قال تعالى: {أَلا لَعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فما حكم ذلك أثابكم الله؟
الجواب
أما بالنسبة للعنة الله لمن كذب، فإن المراد به ما بعد الآية: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف:45] ولذلك المراد به الكذب على الله بأن له صاحباً وشريكاً؛ أي: الكذب بالكفر، ولذلك الكافرون هم الكاذبون؛ لأنهم ادعوا أن مع الله آلهة، وأن مع الله شريكاً، تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً.
فاللعنة للكاذبين مبنية على هذا الوجه، أما إنسان زلت به الكلمة، ويقول له الإنسان: ألا لعنة الله على الكاذبين، فهذا لا يجوز؛ لأنه فيه تعجل وتسرع في أذية المؤمنين باللعن.
والسبب في ذلك أنه ربما أخبرك أخوك بأمر يظنه أنه كما أخبر، ثم يتبين أن ظنه خاطئٌ وليس بصواب، فإذا عاجلته باللعنة رجعت إليك اللعنة والعياذ بالله، ولذلك ورد أنّ اللعنة إذا خرجت من فم صاحبها صعدت إلى السماء فغلقت دونها، ثم إلى الأرض فغلقت دونها، ثم ذهبت إلى من لُعن فإن كان مستحقاً للعن أصابته والعياذ بالله، وإن كان غير مستحق رجعت إلى صاحبها الذي ذكرها والعياذ بالله، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة).
فلا ينبغي للمسلم أن يكثر من اللعن، وأشد من ذلك أن يعرض بالآيات الكريمة، إلا في مواضع مخصوصة، إذا كان يستشهد فيها بالقرآن بلعن الذين كفروا، أو ذكر بعض مثالبهم ومعايبهم فلا حرج، وهذا شأن العلماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صدق الله وكذب بطن أخيك) فلا حرج أن الإنسان يستشهد ببعض الآيات عند وجود ما يقتضيها أو يتناسب معها، والله تعالى أعلم.(31/15)
وصايا للدعاة إلى الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
فضيلة الشيخ! لو ذكرت لنا القواعد التي يجب أن يعلمها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أثابكم الله؟
الجواب
ما أهون السؤال! وما أعظم الجواب! الاستفتاء سهل، ولكن لو يعلم المستفتي أي مسئولية يتحملها المسئول والمفتي لأشفق والله عليه، هذا السؤال يحتاج إلى دروس ويحتاج إلى مجالس، وتريد من مثل الحقير في خمس دقائق أو في عشر دقائق أن يذكر لك ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إذا ذكرتها وانتقصت منها شيئاً وتعلقت بي بين يدي الله فمن ينجينا؟ -الله المستعان- فيا أيها الأحبة أشفقوا على أخيكم وأشفقوا على السائل، قال الإمام مالك رحمة الله عليه: لوددت أني جلدت على كل فتوى أفتيتها وخرجت من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي.
بعض طلاب العلم جزاهم الله خيراً حرصاً منهم على الخير والفائدة قد يبالغون ببعض الأمور، فحبذا لو قلت: ما هي الوصايا التي توصي بها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ ما هي الأمور التي وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ينبغي أن يُنظر في جوهر السؤال، وليس في مظاهر السؤال: الضوابط والقيود، هذا والله لو عرض على واحد من أئمة السلف، يمكن أن يسقط على الأرض مغشياً عليه من هيبة الله جل وعلا.
الضوابط والقيود هذه تحتاج إلى إنسان يجلس على الأقل ثلاثة أيام يختم كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار حتى يمر على القرآن ويعرف ما هي ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كاملة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإلى الله المشتكى، وأنتم تحسنون بنا الظن كثيراً.
فيا أيها الأحبة: أوصيكم عند السؤال أن تشفقوا على المسئول، وألا يكون هناك مبالغة؛ لو أني ذكرت ثلاثة ضوابط أو أربعة، ربما بالغ بعض طلاب العلم وظن أن هذه هي ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخرج وهو يظن أنه قد حاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قل: ما هي الوصايا أو ما هو الذي يوصى به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ وهكذا حال السلف رحمة الله عليهم في السؤال، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فما هي وصيتك؟ كيف الطريق إلى أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، هذا ربما يكون أخف، ولو أن المسئولية والتبعة موجودة، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم.
الله أكبر! من يوم تسير فيه الجبال، وتشيب فيه ذوائب الأطفال، ويعرض على الإنسان فيه حصائل الأعمال والأقوال، لا إله إلا الله! لقد كنا حينما نجالس العلماء الكبار رحمة الله عليهم كانوا ينهونا عن مثل هذه الأسئلة التي فيها القواعد والضوابط، فهذه تحتاج إلى إنسان يدرس ويجلس فترة، مهما كان عالماً وعنده العلم والإدراك، ينبغي أن يحتاط لدين الله ولعامة المسلمين ولطلاب العلم.
فالذي أوصيك به ما يلي: أولاً: الإخلاص: فلا تدع إلا وأنت مخلص، والكلمة التي تخرج من القلب تقع في القلب، ويأبى الله أن تتكلم وأنت مخلص لوجهه أن تذهب كلمتك هدراً أبداً، لن تجد إنساناً ينصح بصدق وإخلاص وهو يرجو رحمة الله تعالى، إلا وقعت النصيحة في قلب المخاطب بها، لكن من الناس من ختم الله على قلبه والعياذ بالله، فلا ينفع فيه موعظة، كالأرض الميتة، ومنهم من تحركه الموعظة فتقلب حياته من شقاءٍ إلى سعادةٍ، ومن شرٍ إلى خيرٍ، وهذه هي الأرض الطيبة التي تمسك الماء وتنبت العشب، ومنهم من تهزه الموعظة، والأمر بالمعروف النهي عن المنكر يهزه، بمعنى أنه يقلل شره، وربما يحدث نفسه بالقرب من الخير، فهذه ثلاثة أحوال.
فإذا كنت مخلصاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلن تعدل عن إحدى ثلاثة أمورٍ: إما أن تستجاب نصيحتك، وهذا غالب حال المؤمنين، فإنك لن تقف على إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، وتصدق في نصيحتك أو محاضرتك أو موعظتك أو كلمتك، إلا دخلت إلى شغاف قلبه شاء أم أبى، هذا إذا كان مؤمناً، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] قال بعض العلماء: كلما كمل إيمان العبد، كمل انتفاعه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك تجد بعض الناس ينسى ويقع في المنكر، وبمجرد أن تذكره أو تأتيه بأول الذكرى، تجده ينتفض كالعصفور من خشية الله جل جلاله، وهذا ما ذكروه عن بعض السلف أنهم كانوا إذا قيل لأحدهم: اتق الله جلس يبكي! فهذه أكمل ما يكون من عاقبة المخلص لله في الأمر بالمعروف، أو تنال أقل المراتب وهي أن تقيم حجة الله على العباد.
الأمر الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: العلم بما تأمر به وتنهى عنه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فإذا كان هناك علم فإنك على المحجة وعلى الطريق، وأنت صاحب الحجة بإذن الله جل وعلا، فإذا وقع الإخلاص في القلب وجاء العلم الذي هو النور والبصيرة، جاءت خطواتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أماكنها، فرضي الله عز وجل عن أمرين منك: رضي عن نيتك؛ لأنك تريد وجهه، ورضي عن كلماتك لأنها حق، والله يحب الحق ويدعو إليه.
والأمر الثالث: أن يكون هناك الأسلوب، وهي الواسطة، إخلاص، ثم حق يقال، ثم أسلوب يحبب ويقرب، وهذا عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) وبقوله: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
ويستلزم الأسلوب الرحمة والرفق بالناس، فكلما كملت رحمة الداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بمن يأمره وينهاه، كان أقرب الناس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول عن نبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فإذا كملت رحمة الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فإنه قد أصاب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حظاً وافراً، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فوصفه بكونه بالمؤمنين رءوف رحيم.
فإذا رحمت المؤمن بأسلوبك وبكلماتك الطيبة، أحبك وأحب الكلام الذي تقوله والذي تدعو إليه، قال بعض العلماء: من لازم الرحمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يقدم أسلوب الترغيب والترهيب وهي الجنة والنار، ويستفتح دعوته بما استفتح به النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الجنة والنار، ولذلك بالمثال يتضح المقال، لو جئت إلى إنسان يشرب حراماً، أو ينظر إلى حرام، أو يفعل أمراً محرماً، فجئت إليه وقلت له مباشرة: يا أخي! هذا حرام، قال الله تعالى، قال رسوله، وهو إنسان -مثلاً- جدلي، أو إنسانٌ عقلانيٌ، كلما ذكرت له أمراً أخذ يسألك ما هي العلة؟ وهذا الحديث من الذي ذكره؟ ولربما يعنت عليك بالأسئلة، فتتعب وتعيي نفسك، ولربما ازداد إصراراً على منكره.
لكن تعال إليه، ثم قل له: يا أخي! أما علمت أن وراءك جنة وناراً، أما علمت أن وراءك قبراً، وأن وراءك سكرات الموت، وحساباً، وديواناً تعرض فيه أقوالك وأفعالك، أيسرك وأنت واقفٌ بين يدي الله حسيراً كسيراً أسيراً فقيراً ذليلاً حقيراً عاري الجسد بين يدي الله عز وجل، أنك على هذه المعصية، ماذا يقول؟ لا يستطيع أن يقول لك شيئاً، هل يستطيع أن يُكذب بالآخرة؟ هل يستطيع أن يرد عليك عذاب القبر؟ مباشرة يقول لك: جزاك الله خيراً، ولربما سكت فدخلت الموعظة -على قدر إيمانه- إلى قلبه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح قوله بهذا كما قالت عائشة: [كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار.
ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر ما آمن أحد] لأن النفوس ضعيفة، فأول شيء تبدأ به أن تغرس الإيمان بذكر الجنة والنار، وترقيق القلوب لربها، فإذا استجابت القلوب استجابت من بعدها القوالب: (ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فإذا وفق الله للإخلاص والعلم كان الذي يريد أن يدعو الناس عنده علم، ثم جاء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والأسلوب الطيب والأسلوب المقنع، فإن الله سبحانه وتعالى إما أن يجعل للإنسان استجابة ويعظم أجره، وإما أن يكون أقل درجاته أن يقيم حجة الله على عباد الله، فيوم القيامة إذا أوقف الله هذا العبد وسأله عن منكره، قال: ألم تبلغك حجتي؟ قد يكابر؛ لأن الله أخبر أن الذين ظلموا يكابرون، فيقيم الله حجته عليه بك، وهذا من أعظم ما يكون من الشرف والفضل، ولذلك رفع الله قدر الرسل بإقامة الحجة على العباد: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فكملت حجة الله على العباد بالرسل، ثم يقوم مقام الرسل العلماء، ثم يتشبه بالعلماء طلاب العلم، ثم يتشبه بهما صالحو عباد الله المؤمنون الصالحون الأخيار، فهذا أمرٌ ينبغي للذي يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون على إلمامٍ به.
والعوامل المساعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: صبرٌ على الدعوة، فإذا جئت إلى قومك أو قريتك أو حيك، أو حارتك تريد أن تنصح أو تذكر أخاك أو زميلك في العمل أو جارك، فلا تحسب أنك بمجرد أن تجلس مجلساً واحداً أو تقول كلمتين أنه يستجاب لك، بل ضع في ذهنك أنك ستبقى إلى أقصى أمد (حتى لو تقول عمر نوح) لا تقدر أنه بمجرد أن تقول له كلمة يستجيب؛ لأن الشيطان يريد أن يمكر بالعبد، فيجعل في قلبك بعد أن يكون عندك العلم والإلمام أنك بمجرد أن تقول يسمع منك، لا أبداً، بل ضع في قلبك الصبر.
ولذلك لما أمر لقمان ابنه بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فالصبر يشمل الصبر باستدامة الدعوة، والصبر بتحمل الأذى، فإذا تحلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالصبر كسب النتيجة، ويظهر الصبر في عدة مواقف منها: أنه ربما تأتي وتقول: يا فلان! اتق الله! أمامك جنة ونار اتق الله عز وجل، فربما يعاجلك بكلمة(31/16)
آفات اللسان
نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم العظيمة والجليلة نعمة اللسان، ذلك العضو الصغير الذي يتقلب عند الكلام ويقلب الطعام هذا العضو قد يكون سبباً لدخول صاحبه الجنة أو النار، فإن استغله الإنسان في طاعة الله وذكره؛ سلك به طريق الجنة، وإن استغله في الغيبة والنميمة وقول الزور وغيرها؛ قاده إلى النار.(32/1)
من نعم الله على عبده
الحمد لله الذي خلق اللسان، وفجَّر منه ينابيع الحكمة والبيان، وهدى إلى الجنان أو إلى دركات الجحيم والنيران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الديان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى للهداية إلى الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه في كل زمان ومكان، وجعلنا وإياكم منهم برحمته ومنه وكرمه إنه هو العظيم الرحمن.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إخواني في الله: الحمد الله الذي منَّ عليَّ وعليكم بالاجتماع في هذا البيت المبارك من بيوت الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمُنَّ علينا جميعاً بأن يكون مجلسنا مجلساً مباركاً مشهوداً بالخير، وأسأله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه موجباً للفوز بعظيم رحمته.
أيها الأحبة في الله: إن لله عز وجل على الإنسان نعماً وفضائل عظيمة ومنناً لا يحصيها إلا هو سبحانه وتعالى، ومن هذه النعم والمنن والفضائل والنوائل: أن خلقه وكان معدوماً، وأعطاه وكان بئيساً محروماً.
من هذه النعم تلك النعمة العظيمة الجليلة الكريمة يوم خلقه؛ يوم براه فصوره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، يوم تقلب ذلك المخلوق الضعيف المسكين في ظلمات الأرحام تحت منِّه ولطفه ورحمته، فخلقه وسواه، ومنَّ عليه بالخير وأعطاه، فما أعظم خلقته، وما أدق درايته وقدرته.
خلق هذا المخلوق، وجعل في خلقه شواهد وحدانيته، ودلائل عظمته وألوهيته وربوبيته، يوم أطعمه ولا مطعم له سواه، ويوم سقاه ولا يسقي تلك الأحشاء الظامئة أحدٌ سواه.
ثم من هذه النعم تلك الأعضاء التي خلقها وصَّورها وأوجدها وبراها، تلك الأعضاء التي وقف أمامها الأطباء والحكماء، فحارت عقولهم في بديع صنع الله! يوم وقف الأطباء والحكماء أمام أسرار عظمته ودلائل وحدانيته وألوهيته! قف أمام ذلك العقل الذي لو أراد الناس أن يدركوا دقائق ما فيه من العلوم المعقدة لحارت في ذلك أفهامهم وعقولهم.
قف أمام العين، فسبحان من قذف فيها نور البصر! ولو سلب ذلك النور ما استطاع أحدٌ في الوجود أن يرده.
قف أمام السمع فلو سلب الله السمع ما استطاعت أطباء الدنيا أن ترده لحظةً واحدةً.
يدٌ سبحان من خلقها وبراها! سبحان من مدَّها وبسطها! جرت فيها الدماء، وصرفت فيها عروقها من الله فاطر السماء، فإن قبضها الله فلا يستطيع أحدٌ سواه أن يبسطها، ولئن بسطها الله فشلت، لن يستطيع أحدٌ لحظةً أن يقبضها، فسبحانه! لا إله إلا هو فتبارك الله رب العالمين.
تقف أمام هذه الشواهد، وأمام هذه الدلائل والعلامات الصادقة التي تدل على أنه الواحد، فلئن تحرك الإنسان بهرتك حركته، ولئن نام مضطجعاً حقيراً ذليلاً بهرتك ذلته، فسبحان الله العظيم! لكي يعلم كل مخلوق أنه تحت أمره وتحت خلقه وقدره {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] خلق هذه المخلوقات لكي يقف الإنسان أمامها فيسبح ويمجد فاطر الكائنات! خلق هذه المخلوقات لكي تمتلئ القلوب بتعظيم فاطر الأرض والسماوات، خلقها وفطرها وبراها، فلا يعقب حكمه، ولا يغير صنعه تبارك الله رب العالمين!(32/2)
نعمة اللسان
واليوم -أيها الأحبة- نقف أمام عضوٍ خلقه الله، فجعل خلقته دليلاً على وحدانيته عضوٌ حقيرٌ صغيرٌ، ولكنه جليلٌ وخطيرٌ يقود إلى الروح والريحان وعظيم درجات الجنان عضوٌ حقيرٌ إذا لم يتق العبد فيه ربه هوى، وضل عن سبيل ربه وغوى، إنه اللسان الذي إذا نظرت إليه حارك صنعه، ووقفت أمام بديع صنع الله في خلقته، ولئن سمعت أصواته وأنصت إلى عباراته بهرتك تلك الأصوات وتلك العبارات.
خلق الله اللسان لكل ناطقٍ من الحيوان، وجعل لكل حيوانٍ لغته، ولكل حيوانٍ منطقه، فعلم جل جلاله وتقدست أسماؤه كلمات النمل في ظلمات الليل وضياء النهار، وسمع أصواتها، وعلم لغاتها، وقضى حوائجها جل جلاله وتقدست أسماؤه.
تقف أمام هذا العضو الحقير، فيستهويك ما فيه من دلائل عظمة الله وشواهد وحدانيته، فلئن أصبحت وسمعت أصوات الطيور، فقل: سبحان الله! ولكل حيوانٍ لغته، ولكل مخلوقٍ عبارته ولهجته، ومع هذا كله لا يختلف عليه صوت من صوت، ولا تشكل عليه عبارة من عبارة، فكلها وسعها سمع الله، وكلها في علم الله عز وجل! أيها الأحبة في الله: يقف الإنسان حائراً أمام هذا اللسان الذي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه المبين أنه دليلٌ على وحدانية الله رب العالمين، آية آية وما أكثرها! يقول جل جلاله في كتابه محركاً القلوب للتفكر والاعتبار بهذه الآية من آياته: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]؛ ومن آياته التي دلت على وحدانيته وعظمته وألوهيته وربوبيته اختلاف ألسنتكم وألوانكم، خلق الإنسان، وجعل له هذا اللسان لكي يعبر عما في القلب من أشجانٍ وأحزانٍ، لكي يعبر عما في الجنان من أفراح وأتراح خلق هذا اللسان وخلق صاحبه على صفاتٍ لا يعلمها إلا هو جل جلاله.
نثر الناس من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل لكل قومٍ لسانهم، ولكل أمة لهجتهم، فوقف أمام تلك اللهجات وتلك اللغات علماء اللغات فحيرتهم، ووقفوا أمامها حيارى من عظيم صنع الله جل جلاله! حتى إن اللغة الواحدة كلغة العرب -مثلاً- كم فيها من لهجات قد تفرقت قبائلهم، فأصبحت لكل قبيلةٍ لهجتها، يشب عليها الصغير ويشيب عليها الكبير، فلا إله إلا الله العليم الخبير! هذا اللسان ما خلقه الله عبثاً.
هذا اللسان أمره عظيمٌ عند الله الواحد الديان! إنه طريقٌ إلى روح وريحان، أو إلى دركات الجحيم والنيران.
هذا اللسان الذي إذا استقام لله جل وعلا استقامت من بعده جوارح الإنسان.
هذا اللسان الذي إذا حركه قلبٌ يخاف الله ويخشاه لم تسمع منه إلا طيباً.
هذا اللسان الذي إذا أُطلق له العنان هوى صاحبه في دركات الجحيم والنيران.
ولقد وصَّى الله جل وعلا عباده المؤمنين بأن يتقوه -سبحانه وتعالى- في هذا العضو، وأن ينظر الإنسان إلى نعمة الله جل وعلا يوم أنطقه، فيستحي من الله أن يسمع منه كلمةً لا ترضيه، ويستحي يوم ينظر إلى الأخرس الذي لا يستطيع أن يعبر عن أشجانه وأحزانه، بينما تفضل الله عليه وأكرمه فأنطق لسانه وأفصح بيانه، فيستحي الإنسان من الله جل وعلا يتقي الله في اللسان.
ولذلك وصَّى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتقوه فيما تنطق به الألسنة فقال جل وعلا في كتابه المبين آمراً عباده المؤمنين، وواعداً لهم بعظيم ما يكون من الخير في الدنيا والآخرة إذا اتقوا الله في اللسان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] من اتقى الله في لسانه، فإن الله وعده أن يصلح حاله، وأن يحسن عاقبته ومآله، وأنه يفوز فوزاً عظيماً.(32/3)
آفات اللسان
أيها الأحبة في الله: إن لهذا اللسان زلات، وله آفات إذا بلي بها العبد فقد خسر الدنيا والآخرة؛ يوم يصبح الإنسان ويمسي وهو لا يراقب الله ولا يخافه فيما يقوله لسانه يوم يصبح الإنسان ويمسي وقد أطلق للسانه العنان لينتهك حدود الله ويغشى محارمه، ولا يخاف الله في عباده؛ يوم يصبح ذلك اللسان جريئاً على حدود الله ومحارمه، فتخط له في صحائف السيئات زلاته وآفاته! فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً.(32/4)
كثرة الكلام في فضول الدنيا
الثرثرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله كرهها لعباده المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) كره لكم، وإذا كان الشيء يكرهه الله جلَّ وعلا، فحريٌ بالمسلم أن يتقيه ويدعه، مثل كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكانوا يقولون: من دلائل نقص عقل الرجل أو نقص عقل المتكلم، مثل كثرة ثرثرته وحديثه في الدنيا، هذا يدل على نقص عقله؛ لأن العقل يعقل الإنسان عن الكلام في الفضول، فليكن منطق الإنسان منطقاً حكيماً سليماً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك -قال عليه الصلاة والسلام يبين لنا أن الله إذا رزق العبد حفظ لسانه فلم يتكلم إلا فيما يعنيه، كان ذلك من حسن إسلامه- قال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).(32/5)
كثرة السباب واللعان
ومن آفات اللسان: كثرة السباب واللعن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحبها لا يكون شفيعاً، ولا شهيداً يوم القيامة، كثرة السب واللعن تحرم الإنسان الشفاعة والشهادة يوم القيامة -والعياذ بالله- قال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) كلما حصل شيء يقول لعنة، كلما وقع شيء تلفظ بلعنة، فإذا كثرت منه اللعنة فإنه لا يكون شفيعاً، ولا شهيداً -والعياذ بالله- يوم القيامة.(32/6)
النميمة
كذلك أيضاً من حقوق المسلمين التي تزل بها الألسن، وتحصل بها الآفات: النميمة، وهي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، يوم ينقل ذلك الرجل الذي لا يخاف الله ولا يتقيه تلك الكلمات التي تأجج نار الفتنة والعياذ بالله.
تلك الكلمات التي تفرق بين الأحبة والجماعات.
تلك الكلمات التي تورث البغضاء والعداوات.
تلك الكلمات التي تصطلي بها القلوب بنار الحقد والحسد.
تلك الكلمات التي تورث بين الناس المفاسد حتى تسفك الدماء، وتنتهك حدود الله جل جلاله، ألا وهي المشي بين الناس بالقيل والقال، كقولك: فلان يقول فيك كذا وكذا.
فإياك أن تكون نماماً! ففي الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره عن حال من نقل الكلام فأوقع العداوة بين الناس أنه لا يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) والعياذ بالله! يقول بعض العلماء في هذه الأحاديث المشتملة على الكبائر: الغالب أن صاحبها لا يوفق لحسن الخاتمة حتى يكون من أهل الجنة.
فاتق الله في نقل الأحاديث! المسلم يصلح ولا يفسد؛ إذا علمت أن بين أخٍ وأخٍ عداوة فاتق الله فيما تقوله، قُل الكلام الطيب، حتى إن الإسلام أباح لك أن تقول الكذب لأجل أن تصلح بين هذه القلوب المتفرقة، الإسلام يريد السلامة ويريد اجتماع القلوب، والتآلف والمحبة والتعاطف والتراحم والتكاتف، يريد اجتماع القلوب على طاعة الله جل جلاله، لا يريد الشحناء، ولا البغضاء لا يريد تفكك القلوب وحصول الفتن والمحن، واشتعالها واصطلائها بسعير الشيطان وأعوان الشيطان، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله في حقوق إخوانه.
وإذا رأيت إنساناً ينقل إليك كلاماً يوغر صدرك على إخوانك فذكره بالله جل جلاله، وقل: يا فلان! اتق الله فيما تقول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي.
دعوا لي أصحابي إني أريد أن أخرج نقي الصدر لهم) فلذلك ينبغي على المسلم الموفق إذا جاءه هذا النمام -ذو الوجهين- الذي يريد أن يفرق ويبدد الجماعة والشمل أن يقول له: يا فلان! اتق الله! وإذا كنت في المجلس فسمعته ينقل حديثاً يوغر صدر السامع على أحد فقل له: اتق الله.
وقد كانت للسلف مواقف جليلة: جاء رجلٌ إلى بعض السلف وقال له: فلان يقول فيك كذا وكذا، فقال له ذلك العالم الجليل: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ الله أكبر! تريد أن تغير قلبي على أخي؟ ما وجدت شيئاً تنقله إلا هذه الكلمات الخبيثة حتى ولو قالها، ما وجد الشيطان وعاءً نتناً ينقل النتن غيرك والعياذ بالله! وجاء رجل إلى الحسن رحمة الله عليه فقال: فلان يقول فيك كذا وكذا، قال: والله لأغيظن من أمره بذلك، اللهم اغفر لي ولأخي.
أي: لأغيظن الشيطان الذي أمره أن يقول فيه.
اللهم اغفر لي ولأخي.
هذه صفحاتٌ مشرقةٌ من قلوب تعامل الله علام الغيوب، من يريد الجنة يشتريها بالأعمال الصالحة، وبسلامة الصدر التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها بالجنة، فكان مبشراً بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض، لحديث ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة) فاستشرفت تلك العيون تنتظر هذا الرجل المبشر بالجنة وهو في الدنيا، فخرج ذلك الرجل الصالح الموفق فسلم ومضى، فتبعه ابن عمرو رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه يريد أن يفوز بالخير الذي فاز به هذا العبد الصالح، فنام معه ثلاثة أيامٍ يريد أن ينظر كيف دخل هذا العبد الجنة، يريد أن يعرف السبيل الذي أوصل هذا العبد إلى دخول الجنة، فبات معه ثلاث ليال، لا يتحرك حركة، ولا يقول كلمة، ولا يفعل فعلاً إلا وعين ابن عمرو تراقب، حرصاً على الخير، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم قلوبهم معلقة بالجنة، أين طريق الجنة؟ أين سبيل الجنة؟ يبيعون أنفسهم لشراء هذه السلعة الغالية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207] من يشري نفسه، أي: يبيعها {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة:207] ليس كل الناس {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة:207] فرآه ثلاثة أيام، يقول: فما وجدت منه كثير صلاة ولا صيام، ولا كثير عبادة، ولكن كان إذا تقلب في الليل وهو نائم، ذكر الله، سبح حمد هلل كبر قلب معلق بالله جل جلاله، قلب سليم، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم هذه القلوب.
فلما مضت الثلاث الليالي، ولم ير ابن عمرو عملاً عند هذا الرجل، فقال: يا فلان، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كذا وكذا، فكنت أنت الرجل، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الرجل: [أما إنه ليس عندي كثير صلاة، ولا صيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم].
فلذلك ينبغي للمسلم الموفق أن يكون قلبه بريئاً، فإذا جاءه ذو الوجهين، أو جاءه من لا يخاف الله ويتقيه يريد أن يقطعه عن إخوانه، فليقل له: اتق الله ولا تنقل لي كلام الناس، لا تنقل لي ما يغير قلبي على عباد الله فهذه من آفات اللسان.(32/7)
الغيبة
ألا وإنَّ للسان آفات، فكما أن لله حقوقاً يزل فيها اللسان، فإن للعباد حقوقاً تزل فيها الألسن، تلك الحقوق التي تهتك بها عورات المسلمين، تلك الحقوق التي تضيع فيها حدود الله رب العالمين، إنها الحقوق التي ينتهكها الإنسان بالكلمة الواحدة في وجه أخيه أو غيبته.
ومن آفات اللسان التي تكون بين الإنسان وأخيه: الغيبة، وهي أن يذكر أخاه بما لا يحب أن يذكره به، قالوا: (يا رسول الله أرأيت لو كان فيه ما قلت؟ قال: إن كان فيه ما قلت فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) فإن كان ما قلت فيه فهي غيبة، وإن لم يكن فيه ذلك فقد بهته وظلمته.
الغيبة يوم يجلس الإنسان في تلك المجالس فيظن أن الله لا يسمعه ولا يراه، فيذكر أخاً من إخوانه، ويذكر عيباً من عيوبه، فيقول: فلان فيه كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا، وحينئذٍ تخط هذه الكلمة في صحيفة عمله لكي يلقى الله جل وعلا بذنبه.
ألا وإن الغيبة من آفات اللسان وزلاتها، ومما يجب على كل مسلم أن يخاف الله ويرجوه، ويَسلم منه إخوانه المسلمين عند غيبتهم عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون يده ولسانه) أي: المسلم الكامل والمسلم الحق.
ليسلم الناس جميعاً منك، وارض لعل الله يرضى عنك، سلِّم المسلمين من لسانك، فإذا جلست في المجلس وأردت أن تذكر مسلماً فاجعل الجنة والنار بين عينيك إذا أردت أن تذكر أخاك المسلم فلا تذكره إلا بخير، ولا تذكر عيوبه، فإن ذكر العيوب هتكٌ لستر الله جل وعلا عليه، ولذلك قال الإمام مالك رحمة الله عليه كلمةً عجيبةً غريبةً! قال رحمه الله: أعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس، فأوجد الناس لهم عيوباً، وأعرف أناساً عندهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم.
أعرف أناساً لا عيوب عندهم -أهل استقامة وطاعة- ولكنهم يتكلمون في عيوب الناس: فلان فيه وفلان فيه، يهتكون ستر الله عليهم، فأوجد الناس لهم عيوباً -أي: صارت الناس تظلمهم وتقول: فيهم.
وهو ليس فيهم- لأنهم هتكوا ستر الله على عباده، وأعرف أناساً عندهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم، فالكلام في عيوب الناس لا خير فيه.
عليك نفسك فاشتغل بعيوبها ودع عيوب الناس للناس سل الله العافية، فإن عيَّرت مبتلىً فلعل الله أن يعافيه ويبتليك، ولذلك ذُكر عن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمامٌ من أئمة التابعين وصفحةٌ من صفحات السنة المشرقة والصلاح والعبادة في زمانه، وقد أوصى أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن يغسله إذا مات- أنه لما كان في آخر حياته أصابه الدين، فقال: والله إني لأعرف الذنب الذي من أجله بليت بالدين.
قالوا: وما ذاك؟ قال: قلت لرجلٍ قبل أربعين عاماً: يا مفلس!! أذية المسلم لا تفوت؛ إما أن ينتقم الله من المؤذي في الدنيا، أو ينتقم منه في آخر لحظاته من الدنيا، أو ينتقم منه في الآخرة، أو يجمع الله له بين الثلاث النقم والعياذ بالله.
عورات المسلمين عظيمة! ما خلق الله الإنسان لكي يهتك عورات المسلمين: (من ستر مسلماً ستره الله، ومن تتبع عورة مسلمٍ تتبع الله عورته) وورد في الرواية الأخرى: (ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره).
فاتق الله، لسانك لا تذكر بها عورة مسلم، وخف الله في هذه العورات والعيوب التي في الناس، وقل: يا مسلِّم سلِّم.
وقل: الحمد الذي عافاني مما ابتلاهم به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
اتق الله في عورات المسلمين، ولا تذكر عورة مسلم؛ فإن الله يسترك كما سترتهم، ويعافيك إذا حمدت الله عز وجل على العافية إذا رأيتهم.
وينبغي على المسلم إذا نظر إلى عورة أخيه المسلم أن يسعى في استصلاحها، وألا يشمت بها، فمن كمال إيمان المؤمن أنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن كنت مؤمناً حقاً فلا تتبجح في المجالس وتقول: يفعلون ويفعلون ولكن هيئ من نفسك ذلك المؤمن الصالح، واحتسب تلك الخطوات التي تشتري بها رحمة الله ولتذهب إلى هذا المبتلى وتلقي في أذنه كلماتٍ ينفعك الله بها في الدنيا والآخرة، فتذكره بالله وتُهدي إليه العيوب، فلعل ذلك أن يكون سبباً في صلاحه هذا هو المنبغي على الإنسان، أما أن يجلس بين إخوانه، ويذكر العيوب والمثالب فهذا لا ينبغي.
وقد يكون العبد صالحاً فيذكر فواحش ومنكرات تقع في المجتمع، وهذا لا ينبغي خاصةً إذا شهر بها على وجه لا يترتب عليه المصالح؛ فإن ذلك ضرره أعظم من نفعه، وخطره أعظم من خيره، قال سفيان رحمه الله: إذا سمعتم بالفواحش والمنكرات، فلا تذيعوها فإنها ثلمةٌ في الدين.
إذا سمع الناس أن فلاناً فعل وفلاناً فعل قد تقتدي بهم، ولكن حاول ألا تذكر هذه العورات إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة من التحذير، وبيان الخطأ كما هو واجب على العالم، ويجب أن يصحب ذلك إخلاص النية لله جل وعلا والإشفاق، وأن يكون ذلك النصح بأسلوب يدل على حسن قصد صاحبه، فنعم والله من يصنع ذلك! فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين ذلك ويفعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه.
فمن حقوق المسلم على أخيه المسلم ألا يذكر عورته، وألا يشهر به، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوجه يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام؟) ما قال: يا فلان بن فلان: لمَ فعلت كذا وكذا؟ لا يشهر صلوات ربي وسلامه عليه، إلا إذا وجدت المصلحة المقتضية لذلك، أو غلب على الظن اندراء المفسدة بتشهيره.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جاراً جاء يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جاره، فأمره أن يخرج متاعه عن بيته، فصار كلما مرَّ عليه الناس قالوا له: ما بك؟ ما شأنك؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من مرَّ لعن جاره وسبه وآذاه.
فقال له جاره لما رأى ذلك: ارجع إلى بيتك، فلن ترى ولن تسمع مني إلا خيراً).
ألا وإن من أعظم من ينبغي أن يستر هو جارك وأقرب الناس منك، فإن من حق الجار على الجار ألا ترسل لسانك على عورته، ولا تدل على عورته، ولذلك وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، ووصى من قبله كتاب الله الواحد القهار.
وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام على قدميه ومعه رجلٌ يناجيه، فوقف حتى طال موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء صحابي يريد النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ وذلك الرجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه المرة تلو المرة، يقول الصحابي: حتى أشفقت على النبي صلى الله عليه وسلم من طول القيام، فلما فرغ الرجل من ذلك المقام ومضى وانصرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)؛ حتى ظننت أن الله سيجعل الجار كالابن الذي من النسب يرثك وترثه.
فلا تذكر عورة الجار؛ لأن الجار قريب منك تسمع صيحته وتعلم حاله وتعرف أبناءه وبناته وما يكون غالباً من شأن أهله، فلذلك كان من حقه العظيم أن تستر عورته، ولا تفضح شيئاً من ذلك.(32/8)
الكفر بالله
ألا وإن أعظم آفات اللسان التي إذا بلي بها الإنسان خسر دينه ودنياه وآخرته: الكفر بالله، يوم يمسي الإنسان ويصبح وقد نطق لسانه بكلمة تخرجه من الدين والملة -والعياذ بالله- يوم ينطق الكلمة فيهوي بها إلى دركات الجحيم يوم ينطق الكلمة فيكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يتبين فيها يكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم القيامة) فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذا البلاء.
ولذلك خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأمته من زلات اللسان، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام لكي ينتهل من معين الوحي، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أمسك عليك لسانك) أمسك هذا اللسان حتى لا ينطلق في حدود الله ومحارمه أمسك هذا اللسان يا معاذ عن عباد الله المؤمنين أمسك لسانك عن عباد الله المسلمين حتى تكون مسلماً حقاً فقال له: (أمسك عليك لسانك) وإذا بـ معاذ تهوله تلك الكلمة فقال: (يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟) هل هذه الكلمات التي يلفظها هذا اللسان مكتوبة في السجلات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك، ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) حصائد الليل والنهار؛ يوم أطلق اللسان في غيبة المسلمين، ويوم أطلقه في عورات عباد الله المؤمنين: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).
وجاءه صحابي يوماً من الأيام يسأله عن الدين والإسلام فقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك.
فقال صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله، ثم استقم، فقال: يا رسول الله! ما أخوف ما تخافه عليَّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك هذا)؛ أخاف عليك لسانك، أخاف عليك منطقك وبيانك.
فلذلك كان من أعظم آفات اللسان وأعظم ذنوبه أن يكفر بالله جل وعلا، وقد يكفر الإنسان حينما يقول الكلمة الواحدة فيخرج بها من الدين بالكلية، يوم يقول: لا إله والحياة مادة.
أو يقول: إن لله ولداً.
فيأتي بشيء إداً {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:90 - 91] يوم ينادي غير الله ويستغيث بغيره، ويستجير بأحدٍ سواه، فيُكتب عليه أن حرمت عليك الجنة وتبوأت النار؛ وذلك يوم يتعلق بغير الله، فيناديه ويناجيه كما يناجي الله جل الله في علاه!(32/9)
الاستهزاء بالدين وأهله
ومن آفات اللسان التي تخرج من الملة أن يستهزئ العبد بالدين.
يوم يطلق لسانه في معالم هذا الدين لكي يستهزئ ولو بكلمة واحدة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في غزوة تبوك في شدة الحر -وسماها الله عز وجل ساعة العسرة؛ لأنها ساعةٌ شديدةٌ امتحن الله فيها عباده المؤمنين- وخرج معه أصحابه الكرام، وخرج قومٌ لم تسلم لله قلوبهم كما أسلمت ظواهرهم.
فكان من هؤلاء القوم طائفةٌ أرادوا أن يقطعوا طريق السفر لما شعروا بالسآمة والملل، فلما أرادوا أن يتحدثوا بحثوا عن الشيء الذي يتفكهون به بحثوا عن الشيء الذي يضحكهم ويسليهم فلم يجدوا إلا عباد الله الصالحين، فقال قائلهم: (ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء!) من هم؟ إنهم القراء؛ حفاظ كتاب الله عز وجل، يقولون: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أناس يحبون الدنيا- وأجبن عند اللقاء وأخوف عنده! فنزل جبريل من أطباق السماوات العلى بتلك الآيات العظيمة من الله جل وعلا يوم سمع أحبابه وأولياءه ينتقصون من هؤلاء الذين لا خير فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]؛ ليس لكم عذر، قد كفرتم وخرجتم من الدين والملة بهذه الكلمات اليسيرة، فصاروا يتعلقون بناقة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (يا رسول الله! كنا نتحدث حديث الركب -كنا نقطع مسافة السفر- وكانت الحجارة تضرب رجل أحدهم فتسيل بالدماء والنبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) أضاقت عليكم الدنيا فلم تجدوا شيئاً به تفرحون، أو منه تضحكون إلا عباد الله الصالحين؟ وهذه هي عاقبة كل من استهزأ بأولياء الله وعباد الله الصالحين.
فإياك، ثم إياك وأولياء الله! وإياك ثم إياك والراكعين الساجدين، فإن الله يحبهم ويحب من أحبهم، ويعادي من عاداهم، فلا تنطقن بكلمةٍ تستحق بها قول الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، قال بعض العلماء: إن هؤلاء القراء حفظوا كتاب الله، فكان الاستهزاء بهم استهزاء بدين الله عز وجل، ولذلك قالوا: من استهزأ بالعالم واستخف بالداعية إلى الله فقد استهزأ بالدين، من قال: هذا العالم لا يفهم شيئاً هذا العالم يحلل ويحرم من عنده، واستهزأ بالعلماء واستهزأ بآرائهم، واستخف بفتواهم فله نصيبٌ من قول الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65].
إنهم دواوين العلم الذين شرح الله بالقرآن صدورهم، إنهم رجال الدين والإيمان الذين نور الله بالوحي قلوبهم، إنهم رجال الدين الذين حفظوا كلام الله رب العالمين، وحملوا رسالة إله الأولين والآخرين؛ فكانوا ربانيين بما يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون.
فاتق الله، اتق الله في العلماء والدعاة والهداة إلى الله، لا يمسَّنك الله بعذاب في كلمة قلتها في عالم أو داعية إلى الله، وكن ذلك الطيب الذي لا ينفح إلا طيباً، ولا يسمع منه إلا الطيب، فإن الله إذا طيب قلب الإنسان طيب لسانه.
كن ذلك الخيِّر الديِّن الذي يخاف الله فيما يقوله وينطق به لسانه، واذكر محاسنهم، وشيَّد بين الناس مآثرهم، وكن حافظاً لعوراتهم داعياً لهم بظهر الغيب، فلك من دعوتك أوفر حظ ونصيب.
ألا وإن من الاستهزاء بالدين الاستهزاء بشرع الله رب العالمين، فإياك أن ينطق لسانك بكلمة في حكمٍ لله جل جلاله، إذا سمعت أن الله أحل أمراً أو حرمه فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لا تقل: كيف هذا؟ لا تقل: لا يصلح هذا.
لا تقل: هذا لا يعجبني.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
أسلم لله قلباً وقالباً ولساناً، وليكن منك الرضا والتسليم، فإن الله يقول للنبي الكريم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] يقسم الله جل جلاله هذا القسم العظيم أن لا إيمان لهم حتى يحكموك فيما شجر بينهم، حتى تنصاع وتصبح ذليلاً أمام الكتاب والسنة (حتى يحكموك) فإذا جئت في خصومة بينك وبين جارك أو أخيك، فأول شيء تقوله: ما حكم الله ورسوله فيما بيني وبينك؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] وليس وحدها {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65] أي: لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً {حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] هذا هو الإيمان، هذه هي العبودية الحقة لله العظيم الديان، فاتق الله فيما تقول، واتق الله فيما تعتقده فإن الله سائلك عن كل ما يلفظ به لسانك.(32/10)
أمور يحفظ بها الإنسان لسانه من الآفات
أيها الأحبة في الله: نتحدث في الوقفة الأخيرة عن كيفية حفظ الإنسان لسانه من الآفات:(32/11)
سؤال الله القول السديد
أما السبب الثاني الذي يعين على حفظ اللسان من الآفات والزلات: أن تسأل الله جل وعلا الذي منه صلاح الأحوال، ومنه الكرم والفضل بطيب المقال، وتسأله أن يرزقك قولاً سديداً، قل: اللهم إني أسألك لساناً يرضيك عني، وأعوذ بك من لسانٍ يغضبك عليَّ، سل الله أن يعطيك قولاً يرضيك عنه، وادعه، فإن الله يستجيب لمن دعاه، سل الله في الأسحار، واسأله آناء الليل وأطراف النهار أن يحفظ لك لسانك فلا تحمل ذنوب الناس.
ولذلك قد يمسي الإنسان ويصبح راكعاً ساجداً، قائم الليل وصائم النهار، وحسناته لمن تكلم فيهم، يغتاب وينم وهو قائم الليل صائم النهار، حسنات القيام والصيام لمن هتك ستره وآذاه، فاجتهد رحمك الله في سؤال الله أن يحفظ لك لسانك عن أذية المسلمين وعن أعراض عباد الله المؤمنين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حفظ اللسان.(32/12)
قراءة سير السلف الصالح
ومن الأمور التي تعين على حفظ اللسان: قراءة سير السلف الصالح رحمة الله عليهم، ففيها النماذج الكريمة التي تحيي في الأنفس الاشتغال بما يعني عما لا يعني.(32/13)
استغلال اللسان في طاعة الله
ومما يعين على حفظ اللسان: استغلاله في طاعة الله جل وعلا، واستشعار ما عند الله من الفضل إذا سخر الإنسان لسانه في طاعة الله، فإن الكلمة الطيبة تقربك إلى الجنة وتبعدك من النار، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد يتقي النار بشق تمرة وبكلمة طيبة.
فليجتهد الإنسان بذكر ما عند الله من الفضل والرحمة حتى يحفظ الله عز وجل لسانه، ويصون منطقه وبيانه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قولاً سديداً، وعملاً صالحاً رشيداً، اللهم إنا نعوذ بك من زلات اللسان، وخطرات الجنان، ووساوس الشيطان، ونسألك أن تمن علينا بما يرضيك يا كريم يا رحمن.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(32/14)
ذكر الآخرة
ألا وإن من أعظم ما يحصن به المسلم لسانه أن يذكر الآخرة، فذكر الآخرة من أعظم الأسباب التي تهذب للمسلم كلامه ومنطقه، فمن أكثر من ذِكر الموت وهاذم اللذات ومفرق الجماعات، ومن أكثر من ذِكر سؤال الله جل وعلا والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، دعاه ذلك إلى مراقبة الله في كل كلمة يقولها.
أثر عن بعض السلف -وكان قاضياً رحمه الله- أنه قضى في قضية، وكان المحكوم عليه رجلاً من السفهاء -يعني: رجل لا يبالي بما يقول- فلما حكم هذا القاضي عليه، قال ذلك الرجل: ظلمتني، وجرت عليَّ، وتسلط بلسانه على العالم، فقال ذلك العالم: والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله جل جلاله، لكثرة ذكر الآخرة، فإذا أكثر الإنسان من ذكر الموت قل كلامه إلا فيما يعنيه، وأصبح يغار على هذا اللسان، يحترق يريد حسنة، يريد تسبيحة استغفارة تحميدة تكبيرة تزاد له في صحيفة العمل.
تذكر -أخي في الله- أنه ستمر عليك مثل هذه الساعة وأنت ضجيع القبر والبلى لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأنت أحوج ما تكون إلى كلمة طيبة تنجيك من عذاب أليم، ذكر الآخرة يحفظ اللسان، ذكر الآخرة يقوم المنطق والبيان، فإذا علم الإنسان أنه صائر إلى تلك الغصص التي تغص عندها الحناجر، ويذل عندها الأصاغر والأكابر، هانت عليه الدنيا، فلم يطلق لسانه إلا فيما يعنيه.
ولذلك كان السلف رحمهم الله يحفظون الألسنة بكثرة ذكر الموت والآخرة، وكان الواحد منهم يعد كلماته خلال الأسبوع كله -من الجمعة إلى الجمعة- ليعرف عدد الكلمات التي تكلم بها؛ من خوف الله جل وعلا، وكثرة الاستشعار لهيبة الموقف بين يدي الله الواحد القهار.(32/15)
الأسئلة(32/16)
مشكلة انتشار المساجد
السؤال
هناك مشكلة -في الحقيقة- استجدت مع انتشار المباني ألا وهي كثرة المساجد؛ لأن الناس كثرت مساكنهم وتباعدت، وبعض هذه المساجد التي أنشئت يسمعون النداء من مسجد القرية الأساسي ومع ذلك ينشئون لهم مسجداً، حتى إنه أصبح في بعض القرى الصغيرة مساجد كثيرةٌ، وفي غالب الأحوال أنه لا حاجة لها، وتفرق الناس بسبب ذلك، فما قولكم في هذه المسألة أثابكم الله؟
الجواب
اختصاراً في هذا الموضوع التي عمت به البلوى: الأصل أن كل أهل حي أو منطقة يتفقون على مكان وسط بينهم يرفق بهم جميعاً ويبنون فيه مسجدهم، ولذلك أرى أن هذه المساجد بعضها لا يخلو من الإثم، خاصة المساجد التي أحدثت في أماكن فيها مساجد قديمة، ومن أحدث مسجداً بجوار مسجد قديم قريب منه فمسجده مسجد الضرار -والعياذ بالله- يأثم ولا يؤجر؛ لأنه تفريق للمسلمين، وتفريق لكلمتهم، فإن وصل الأمر إلى أن قوم فلان لهم مسجد، وقوم فلان لهم مسجد فهذه من نعرات الجاهلية، وقد يكون -والعياذ بالله- أصحاب المسجد الذي يبنونه بالنعرة الجاهلية، لماذا نذهب عند بني فلان؟ يحرمون قبول الصلاة، فمقصود الشرع من بناء المساجد جمع القلوب واجتماع الناس، فيأتي هذا ويبني مسجداً لكي يجمع جماعته ويقول لهم: مسجدنا كذا، فإذا رأى أحداً يصلي في المسجد الثاني ربما يغر قلبه عليه -والعياذ بالله- كل هذا من الجاهلية.
والذي أراه أن كل جماعة -مثلاً- عشرة بيوت أو عشرين بيتاً، ولو كان عندهم مساجد في بيوتهم ينظرون إلى منطقة متوسطة بينهم، ثم من بنى مسجداً في بيته يقدر هذا المسجد بألفين أو ثلاثة آلاف، فتجمع قيمة هذه المساجد وتهدم هذه المساجد وتضم للبيوت، ثم يبنى بين هذه البيوت مسجداً يجمعهم على كلمة الله وطاعته ومرضاته، هذا هو الذي ينبغي أن يفعل؛ لأن هذا هو مقصود الإسلام.
والذي يريد أن ينجو من عذاب الله فليفعل ذلك، ويحس الإنسان أنه يدخل مسجد الله ولا يكون مسجد بني فلان حتى يكون أبلغ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] ليست لبني فلان ولا علان، ونسأل الله أن يجمع القلوب على طاعته، وأن يؤلف بينها في محبته ومرضاته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(32/17)
حكم عزاء أهل الميت وكيفيته
السؤال
في هذه المنطقة يحصل الاجتماع في العزاء، فيجتمع أهل القرية أو معظمهم في بيت صاحب الميت، أو في بيت شخص آخر قريب له، ويأتي أهل القرى الأخرى ليعزوا أهل القرية، فنرجو من فضيلتكم أن توضحوا هذه المسألة؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهناك نقطة في السؤال، بعض الأسئلة يقال فيها: في هذه المنطقة، أو هذه المدينة، أو هذه القرية.
وأنا أرى أن الأفضل ألا يقال في هذه المنطقة، ولا في هذه القرية، لأنه قد يكون يفعله بعض الناس ويعمم الحكم، وقد يكون هذا -فعلاً- موجوداً عند كثير، لكن الأفضل والذي أرى أن يُسأل، فيقال: هناك من يفعل كذا وكذا، أو هناك من يقول كذا وكذا دون تحديد لمنطقة أو مدينة؛ لأن المقصود التوجيه، والمقصود معرفة حكم الله عز وجل؛ لأنه قد يكون هذا الأمر شائعاً عند بعض الناس، لكن لا يعتبر حكماً عاماً على الجميع، فالأفضل أن يقال: بعض الناس يفعل هذا الشيء.
أما مسألة العزاء فالسنة أن يعزى المسلم في ميته، والله شرع العزاء؛ لأن المسلم إذا فقد مالاً أو فقد ابناً أو بنتاً أو قريباً فإن قلبه يضعف أمام المصيبة فيحتاج إلى من يثبته، وإلى من يذكره بالله جل وعلا؛ لأن المصائب تهز القلوب -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم فيها- لذلك يحتاج المسلم إلى كلمة من أخيه، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعزي، قائلاً له: (إن لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبر ولتحتسب) وقال: (فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون) إنا لله أي: مِلكٌ لله، (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها).
المقصود أن العزاء مشروع، ولكن ليس بالطريقة التي توسع فيها الناس من إضاءة الأنوار، وفرش الفرش وبسطها، وجعل المواعيد والولائم في بيوت الميت، فهذا كله من البدع المحدثة، فالرجل يعزى في الميت في المقبرة، وهذا من السنة، وكذلك يعزى في المسجد، تقول له: يا فلان! أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، ونحو ذلك من الكلمات التي تجبر بها خاطره وتقوي بها إيمانه، وتوصيه بالسنة.
وأما الجلوس واستقبال الناس على جماعات فقد شدد فيه السلف، ففي صحيح البخاري عن جرير رضي الله عنه أنه قال: [كنا نعد الجلوس في بيت الميت من النياحة] فينبغي تركه قدر المستطاع، ولكن إذا كان هناك أناسٌ يقدمون من سفر، وجلس الإنسان رفقاً بهم ولا يقصد بذلك التشهير فهذا رخص فيه المتأخرون من العلماء، وقالوا: إن الناس بحاجة خاصة الآن مع اتساع المدن، ولكن بشرط ألا يطيل الإنسان عند أهل الميت، بل كان بعض العلماء يشدد في الطعام والشراب عند أهل الميت، حتى إنني أذكر بعض مشايخنا لا يشرب القهوة في العزاء، كل ذلك تورع وتحفظ إذا عزى أهل الميت، حتى لا يذهب أجره.
ولذلك ينبغي التحفظ في مثل هذه الأمور، فإطالة الجلوس عند أهل الميت من المنكرات، وأشد ما يكون المنكر أن يجلس الرجل في بيت الميت، ويجلس يتحدث بفضول الدنيا، فلان باع، والعمارة الفلانية، تقول له: لماذا؟ يقول: حتى أُسلِّي أهل الميت.
سبحان الله! الله ينزل هذه المصائب حتى تنكسر القلوب وتنيب إلى الله جل وعلا، ويتذكر الإنسان ويتبصر، وتأتي تلهي عباد الله عن ذكر الله جل وعلا! فهذا من الغفلة -نسأل الله العافية- والسلامة، فينبغي اتقاء مثل هذه الأمور، وأن يكون العزاء على الوجه المعتبر شرعاً، والله تعالى أعلم.(32/18)
حكم حرمان المرأة من الميراث
السؤال
في بعض القرى يحرمون المرأة من الميراث، فتسكت على ذلك خوفاً من القطيعة، وقد تفاجأ بأن الميراث موقوفٌ على الرجال ونسلهم دون النساء، فما حكم ذلك وما موقف الدعاة وخطباء المساجد تجاه ذلك؟ وما موقف المرأة من مورثها وأقاربها؟ وهل عليها بر والديها بعد أن حرماها من حقٍ لها؟ والسؤال الآخر يقول: معلومٌ أن الله تعالى تولى تقسيم الفرائض بنفسه، ولم يكل ذلك لأحدٍ من خلقه، والسؤال: إن بعض الناس يُلجئ الوارث من النساء إلى التنازل -خاصةً الأخوات- مقابل بعض المال، وذلك حتى لا تنتقل التركة إلى غير الرجال من الوارثين، حتى أصبحت المرأة تعتقد أنه لا حق لها في المطالبة، والتي تتجرأ على المطالبة تنبذ وتقاطع وتحتقر، وتعدُّ مخالفةً لعادة المجتمع، نرجو من فضيلتكم التعليق والنصح، أثابكم الله وأعظم أجركم؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها) قال بعض العلماء: من ذلك أن الرجل يكون على صلاح وديانة واستقامة حتى إذا حضره الموت جار وظلم في الوصية التي يكتبها لأهله، فهذا الظلم والجور يكون سبباً في دخوله النار والعياذ بالله، فيكون آخر ما يكتب له في صحيفة عمله أن خرج ظالماً قاطعاً للرحم -والعياذ بالله-.
الميراث حقٌ تولى الله قسمته من فوق سبع سماوات {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ولم يكل قسمة المواريث لا إلى ملكٍ مقربٍ، ولا إلى نبيٍ مرسلٍ، ولكن تولاها سبحانه جل جلاله وحده، فينبغي أن يعلم أن للمرأة حقاً في الميراث، وأن هذا الحق ينبغي أن يحفظ ولا يضيع، وأنه لا يجوز أن يستباح حق المرأة بالحيل والمكر، فإن الحيلة وإن نفعت في الدنيا فلن تنفع صاحبها يوم القيامة.
وكذلك ينبغي أنْ يعلم الإنسان أنَّ المرأة إذا كانت ضعيفةً عن أخذ حقها فإن الله قويٌ ينتزع لها حقها، فليتق الإنسان ربه في حقوق هذا الإنسان الضعيف، والله جل وعلا جعل لها هذا الحق ليعينها على العفة، ويحفظ ماء وجهها أن تسأل غيرها، فإن المرأة إذا احتاجت قد تتعرض إلى الزنا والحرام، فالله جعل لها هذا النصيب حتى تصون ماء وجهها وتذكر ميتها فتترحم عليه فتقول: رحمة الله على فلان، ورحمة الله على أبي وأخي الذي ترك لي كذا وكذا.
فيأتي هذا الظالم الفاجر الذي لا يتقي الله جل وعلا، لكي يقطع عنها رزقها، ولكي يؤذيها فيما أعطاها ربها، فهذا من الظلم، ومن الجور.
والمسئولية على العلماء عظيمة، وعلى أئمة المساجد، وعلى طلاب العلم، وعليكم عامة أن تبينوا للناس أنه لا يجوز ظلم المرأة في أي شيء خاصةً في هذه الحقوق التي هي المال، فإن الله جل وعلا أخبر عن المال أن النفوس تحبه ومجبولةٌ عليه {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً عن أن يزيد عن الحق المعتبر في الزكاة التي هي حق لله، فقال: (وإياك وكرائم أموالهم) ثم قال بعدها: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
وجاء في الرواية الثانية أن الله يرفعها ويقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين) وقال بعض العلماء: إن الله ينتصف للمظلوم من ظالمه ولو كان المظلوم كافراً؛ لأن الله عدل لا يحب الظلم (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فهذا ظلمٌ للمرأة، ولا يجوز ظلم المرأة في الميراث.
وكذلك احتقار المرأة وأذيتها واحتقارها وانتقاصها! وكون كثير من الناس يرى أن المرأة أشبه بسقط المتاع حتى يشبهها بعضهم بالحذاء -أكرمكم الله نسأل الله السلامة والعافية- ومن عادات الجاهلية الممقوتة التي تدل على ضعف الإيمان في القلوب قول بعضهم: المرأة أعزك الله! المرأة أكرمك الله! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] المرأة مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، المرأة قد تكون سبباً في صلاح أُمةٍ، خديجة رضي الله عنها وقفت مع النبي صلى الله عليه وسلم فثبت الله بها قلبه.
لا ينبغي للإنسان أن يكون ضعيف عقل، ويكون عنده تهور في انتقاص الناس واحتقارهم، فالمرأة فيها خير، كما أن الرجل فيه خير، وكون بعض العادات والتقاليد من احتقار المرأة وامتهانها وانتقاصها هذه من بقايا الجاهلية، ومن تخلف العقول، فالله يزن الناس ذكرهم وأنثاهم بالعمل الصالح {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
فلا يجوز ظلم النساء وأذيتهن واحتقارهن، وتبقى مظلومة، وأشد ما يكون الظلم من القريب، فالمرأة إذا ظلمت من أخيها، وإذا ظلمت من ابنها وأبيها، فمن الذي يقف معها بعد الله عز وجل؟ الله المستعان! ضعيفة، قد يظلمها زوجها، ثم يأتي أبوها ويظلمها، ثم يأتي أخوها ويظلمها، أين تذهب؟ أين يذهب هذا المخلوق الضعيف؟ مع ما هي فيه من همها ونكدها في عيشها.
فينبغي لنا أن نتقي الله عز وجل فإن الراحمين يرحمهم الله، وهذه الغلظة والجفاء والأذية لعباد الله عز وجل ليست من الإسلام في شيء، بل الإسلام دين السماحة واليسر، ودين العدل والإنصاف والرحمة، وكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يأمر بالإحسان إليهن حتى قال: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن إلا كنَّ له ستراً من النار).
فلذلك ينبغي حفظ حقوق النساء، وعادات الجاهلية وبقايا الجاهلية ينبغي أن تنزع من العقول ومن القلوب والقوالب، وأن يعطى للنساء حقوقهن، ويحافظ على هذا الحق حتى ينجو الإنسان في يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] يفر لأنه يخاف أن يكون ظلم بنته أو ظلم أخته أو ظلم زوجته أو أمه؛ فلذلك ينبغي التناصح في هذا، والمسئولية عظيمة.
وقد كان الناس قديماً في الجهل، ولكن الآن انتشر العلم بين الناس، وأصبحت تعي وتعلم أن هذا ظلم، فلا تسكت، فإن رأيت الوالد يوصي بأن ماله للرجال دون النساء فقل له: اتق الله يا والد، واسأل العلماء فيما أنت فاعل، وإذا كان هناك وصية قديمة أو كان الإنسان قد ظلم أخواته، فمن الليلة لا تنام حتى تذهب إلى أختك وقريبتك وتقول لها: خذي حقك كاملاً، فأعطها حقها قبل أن يأتي يوم ينصف الله فيه المظلوم من الظالم، والمحروم ممن حرمه.
ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن الله ينصف البهائم بعضها من بعض، فكيف ببني آدم؟ بهائم، شاة جلحاء لا قرن لها يأخذ الله لها حقها من الشاة القرناء، ثم يقول الله لها: كوني تراباً.
وهناك صورة أُحبُّ أن أوضحها، وتسمى عند العلماء بالتخارج، وصورتها: أن يكون الرجل قد مات عن بنتين وابنين، فيكون للبنتين لكل واحدة منهن سهم، فيصبح سهم النساء سهمين، ويكون للابنين الذكرين أربعة أسهم، ويكون مجموع الأسهم ستة، فيترك -مثلاً- أرضين، والأرضين هذه قيمتها -في الحقيقة- تعادل إحداها أربعة آلاف ريال، والثانية تعادل ألفي ريال، فيصطلح الذكور والإناث على أن للإناث الأرض التي بألفين، وللذكور الأرض التي هي بأربعة آلاف، وقد اختلف فيها العلماء رحمهم الله ومذهب طائفة من أهل العلم صحتها وجوازها وهو الصحيح، ويستوي عند العلماء أن يكون التخارج في الفرض والأسهم في النقد، أو يكون بالأعيان، النقد مثل النقود، ويقول له: هذه الدار قيمتها ستة آلاف، نصيبي فيها أربعة أسهم، ولك منها سهمين، فخذ هذه الألفين عن سهميك الباقيين ونحو ذلك.
لكن هذه الصورة ليست مما نحن فيه، فهذه الصورة جائزة ليس فيها حرج لكن بشرط: أن يكون مقدار النصيب الذي يعطى للنساء حق وعدل، ولا يكون فيه ظلم، بمعنى: أنه ما يخدع النساء ويقال لهن: التخارج جائز، ثم يأتي كل من هب ودب يقدر لهن ميراثهن ويظلمهن لا، بل يقدر برجلين من أهل الخبرة؛ عدلين، لا يحيفان لأحد من الورثة بالضوابط الشرعية المعتبرة.
النقطة الثانية: عند كتابة الوصية إذا كان خروج المرأة إلى القاضي، وقالت: أنا متنازلة عن نصيبي، وكان هذا بالإكراه، فإن ذلك لا يحل نصيبها ألبتة، فإن الإكراه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، فالإكراه لا يوجب حرمة الحلال -بمعنى أن المرأة التي تملك نصيبها يصبح نصيبها حرامٌ عليها- والإكراه لاغٍ ووجوده كعدمه كأنه لم يوجد، فإذا أكرهت المرأة واستحيت، حتى إن بعض العلماء يرى أن الحياء والخجل في بعض الأحيان نوع من الإكراه، وهو أصل عند شيخ الإسلام ابن تيمية قرره في غير ما موضع من المجموع: أن الإكراه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يكره الرجل بالحياء، فلذلك إذا كانت المرأة يضغط عليها عن طريق زوجها، أو عن طريق إخوانها حتى تتنازل، فهذا التنازل وجوده وعدمه على حد سواء، فليتق الله الإنسان في هذه الحقوق، ويؤديها كاملةً على الوجه الذي يرضي الله.
فلذلك ينبغي أن تحفظ حقوق النساء، وأن تؤدى كاملة، وكذلك حقوق الرجال، وأن يتقي الله المسلم فيما يعتقده، وأن يؤدي لكل ذي حق حقه والله تعالى أعلم.(32/19)
حكم الغيبة لمصلحة شرعية
السؤال
إني أحبك في الله، نحن مجموعة من الشباب نذكر عيوب بعض الأشخاص فيما بيننا، وذلك للتشاور للقيام بزيارته ونصحه، فهل عملنا هذا يعد من الغيبة؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني من أجله، وأشهد الله العظيم على حبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يدخلنا وإياكم بهذا الحب دار كرامته، وأن يجمعنا بكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أخي في الله! نِعْمَ ما صنعته من الغيرة على إخوانك المسلمين، وحرصك على توجيههم ودلالتهم على الخير، ولكن اعلم -رحمك الله- أنه إذا احتاج الإنسان إلى غيبة أخيه المسلم، فينبغي أن يأخذ بما تحصل به الحاجة، وقد نبه العلماء على هذه المسألة في قاعدة: "ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها".
وهي قاعدة مشهورة عند العلماء.
والكلام في الناس وذكر عيوبهم محتاج إليه، ولكن يقدر بالقدر، مثال ذلك: لو أردت أن تحفز شخصاً أن ينصح جاره، وتعلم أن هذا الجار -والعياذ بالله- يشرب الخمر ويزني ولا يصلي، فحينئذٍ تبدأ بماذا؟ تبدأ بالصلاة؛ لأنها عماد الدين، وإذا صلحت صلاته، نهته عن الفحشاء والمنكر، فتقول له: يا فلان! فلان أراه لا يصلي.
ما تأتي تقول: ويشرب الخمر ويزني ويفعل ويفعل.
لا تهتك ستر الله على العبد؛ لأن الحاجة تندرئ بهذا القليل.
وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام من صالح الأنام) كلاماً نفيساً، وبين فيه قواعد العلماء الذين تكلموا على هذه المسألة في جرح الشعور والطعن فيمن طعن فيه، كل ذلك حفاظاً على حقوق المسلمين.
فتذكر: أقل ما تحصل به الحاجة، ثم تشاور إخوانك في استصلاحه، ثم قليلاً قليلاً تذكر لمن يقوم باستصلاحه من عيوبه حتى يكون ذلك أدعى لصلاح حال من تكلم فيه، والله تعالى أعلم.(32/20)
حكم تأجير المحلات للذين يبيعون المحرمات
السؤال
ما حكم تأجير المحلات للذين يبيعون المحرمات مثل: الدخان وأشرطة الأغاني والفيديو؟
الجواب
أما بالنسبة لتأجير الدور والدكاكين ونحوها لمن يفعل الحرام فهو محرم، ويختلف هذا باختلاف المحرمات، فإن كانت الإجارة على حرام محض؛ جميع الشيء الذي يفعل محرم، وجميع الشيء الذي يباع محرم، فإن الإجارة تعتبر معونة على الإثم والعدوان، ومن يفعل ذلك فإنه يكون -والعياذ بالله- شريكاً له في الإثم على قدر ما يكون منه من ضرر، وأما إن اختلط بحرام، فإنه في هذه الحالة يكون له من حظ الإثم على قدر ما كان منه من وزر، إن قليلاً فقليل، وإن كثيراً فكثيرٌ، والله تعالى أعلم.(32/21)
حكم العرضات الشعبية
السؤال
هل العرضات الشعبية محرمة أم لا؟
الجواب
العرضات: التي هي الرقص بالسلاح، ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل والحبشة يلعبون بالسلاح في المسجد، فأراد عمر أن يحصبهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعهم، فإنه يوم عيدنا) ووقفت عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم فأقرها على ذلك.
فيشرع في يوم العيد اللعب بالسلاح دون اشتمال ذلك اللعب على منكرٍ لما في اللعب بالسلاح من إحياء الحمية ولما يحيي في النفوس من معاني الرجولة والفحولة ونحو ذلك، إذا لم يشتمل على محرمٍ من المعازف والغناء ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه عند حصول الموجب.
أما بالنسبة لغير ذلك من التوسع فيه دون وجود حاجة، كأن يلعب بالسلاح في أي وقت، فهذا للأفراد قد يشرع أن يلعب الإنسان بسلاحه، ولكنه خلاف الأولى، وهو مكروه، ويشرع بمعنى يجوز، ولكن درجته هي الكراهة لما فيه من إضاعة الوقت، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في لعب الرجل بسلاحه.
أما بالنسبة إذا اشتمل على محظور من الطبل والزمر فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوامٌ يستحلون الحر -يعني: الزنا والعياذ بالله- والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) فهذه من المحرمات التي لا يجوز فعلها، والله تعالى أعلم.(32/22)
حكم الإكثار من استخدام لفظة الطلاق
السؤال
في هذه المنطقة أجد تساهلاً عظيماً في استخدام لفظة الطلاق، فأرجو أن تبين لنا خطورة الاستهانة بهذه الكلمة؟
الجواب
الطلاق هي كلمة الفراق التي تفرق الجماعات وتقطع الأرحام، وتوجب الوقوع في كثير من الآثام، الطلاق كلمة تدمر البيوت وتفرق بين الأم وولدها وبين الزوجة وزوجها، كلمة يسيرة ولكنها جليلة خطيرة، والإكثار من هذه الكلمة أمرٌ خطيرٌ ومنكرٌ عظيمٌ، حتى قال بعض العلماء: من أكثر من الطلاق لم يأمن أن يعيش هو وامرأته على الزنا والعياذ بالله.
امرأته طالق إن لم تقم امرأته طالق إن لم تقعد امرأته طالق أن تتغدى اليوم عندي أن تتعشى عندي فتطلق المرة الأولى في أول النهار، وتطلق المرة الثانية في وسط النهار، وتطلق المرة الثالثة في آخر النهار، ثم يبيت معها على فراش زنا والعياذ بالله! من يكثر من الطلاق لا يأمن أن يعيش مع امرأته بالزنا شعر أو لم يشعر، فهذه كلمة خطيرة، ولذلك لا ينبغي ذكر هذه الكلمة عند كل قليل وكثير وجليل وحقير، وقد جاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقال: [يا إمام! إني طلقت امرأتي مائة تطليقة، فقال: ثلاث حرمت عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزواً].
وجاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: [يا أبا عبد الرحمن! طلقت امرأتي الطلقة الثالثة؟ قال: حرمت عليك.
قال: يا أبا عبد الرحمن لا تفعل يرحمك الله -يعني: لا تطلق عليَّ امرأتي- فقال ابن عمر: أنا أفعل؟ أنت الذي فعلت، إن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وأنت لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجاً].
فالذي يكثر من لفظ الطلاق لم يتق الله، وحريٌ به أن يضيق على نفسه حتى يعيش هو وزوجه -والعياذ بالله- على الزنا، فليتق الإنسان ربه، فالزوجة وبيت الزوجية أرفع من أن يطلق على شربة ماء، بيت الزوجية كيان مسلم وبيتٌ مسلم أرفع من أن يهدر ويهدم بكلمة تخرج من إنسان متهور.
ثم تجد الأعذار التافهة: أنا عصبي أنا لا أملك نفسي سبحان الله! أضاقت عليك عصبيتك فما وجدت أن تنفس غضبك إلا على زوجتك، على امرأة ضعيفة؟! أضاقت عليك الدنيا حينما أصابك الهم والغم والغضب -فآذاك عدوك- أن تنفذ تلك الكلمة فتدمر حياة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر؟! ويكون الإنسان فيه على أخطر ما يكون من ضياع بيته وضياع زوجه وأهله، بل يكون الإنسان لئيماً ضيع حق الناس عليه؛ لأن الذي زوجك أكرمك واختارك لعرضه وأخته وبنته، فكانت العاقبة أن يأتي يوم من الأيام تأتيه تجر ثوبها مطلقةً منك؛ بسبب تافه من أسباب الدنيا؟ فاتق الله عز وجل، وإذا سمعت الرجل يقول: طلاقٌ، حرامٌ.
فقل له: اتق الله، وخف الله رب العالمين.
إذا سمعت رجلاً يطلق وسكتَّ عليه، فإن هذا منكر {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2] فمن منكرات الأقوال، الاسترسال في الطلاق، وعدم المبالاة به.
وينبغي التناصح والتذكير بالله عز وجل، وفي كبار السن المسئولية عليهم أعظم فهم قدوة؛ إذا رأى أحداً يطلق يقول له: يا فلان: اتق الله وخف الله، ولا يستهزئ الإنسان بهذه الكلمة.
إن بعض الشباب حديثي السن يطلق وهو ليس عنده زوجه، يقول: عليَّ الطلاق، عليَّ الطلاق، يستهين بهذه الكلمة حتى يبتليه الله عز وجل، فإذا تزوج استمرأ لسانه الطلاق فيطلق امرأته بحيث لا يشعر! ولذلك ينبغي التناصح في هذا الأمر، وتوجيه الناس، والحرص على حفظ النفس عن حدود الله ومحارمه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الورع فيما نقول ونفعل، والله تعالى أعلم.(32/23)
نصيحة للنساء بشأن الغيبة والنميمة
السؤال
تكثر في مجالس النساء الغيبة والنميمة ونقل الكلام، وبعضها في جهاز الهاتف، فهل من كلمة توجيهية للنساء في ذلك؟
الجواب
ينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل في عورة أختها المسلمة، وإذا أرادت أن تحدث أختها ينبغي عليها أن يكون قولها سديداً، وأن تتقي الله عز وجل فيما تقوله من العورات والخطيئات، ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] قال: خص الله النساء؛ لأن اللمز بينهن أكثر من الرجال، فيكثر بينهن اللمز والكلام، فلانة جميلة، وفلانة قبيحة، وفلانة فيها كذا وفلانة تفعل كذا، وكل ذلك ذنوب تسطر على المرأة التي تتكلم بذلك.
فينبغي للمرأة أن تتقي الله فيما تقوله، وأن تحفظ حق أختها المسلمة، فكما أنها تكره أن يقال فيها ذلك، فينبغي عليها أن تكره لأختها ما تكرهه لنفسها وأن تشتغل بعيبها عن عيوب الناس، والله تعالى أعلم.(32/24)
حكم غيبة صاحب المعاصي
السؤال
هل يجوز غيبة الذي لا يصلي، أو الذي لا يحافظ على الصلاة؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
بسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فتسأل أخي في الله! عن عبد لا يصلي أو لا يحافظ على الصلاة، هل تجوز غيبته؟ الجواب فيه تفصيل: فإن ترتبت مصلحة شرعية على غيبته جازت الغيبة بحدود وبقدر، مثال ذلك: أن تعلم أنه لا يصلي، فتذهب وتنصحه، فلا يصلي.
وتعلم أن له أباً، أو أخاً يستطيع نصحه وتقويمه وإرشاده، فتذهب إلى أبيه وتقول له: إن ابنك لا يصلي، أو إلى أخيه وتقول: إن أخاك لا يصلي، فهذا جائز ولا حرج فيه، ولكن لا يجوز لك أن تزيد عن الحاجة، فإذا كان لا يصلي فلا تأت فتقول: إن أخاك لا خير فيه وهو ساقط وكذا، بدليل أنه لا يصلي، بل تقتصر فقط على ذنبه، وتقول: إن أخاك لا يصلي، إن ابنك لا يصلي، فما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها.
أما الحالة الثانية: أن يكون المقصود من السؤال غيبة من لا يصلي بغير مصلحة شرعية، ومثال ذلك: أن تجلس في المجلس، وتقول: يا جماعة! فلان لا يصلي.
وليس هناك مصلحة إلا أن تؤذي هذا الرجل بقولك فيه أنه لا يصلي، فهذا لا مصلحة فيه، إلا إذا كان تشهيره بين الناس يردعه ويزجره فيجوز، ويدل على ذلك حديث معاوية بن الحيدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا ترعوون؟ ألا ترعوون؟ اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس) يعني: عند الحاجة ولحاجة التحذير.
وينبغي إذا أتيت لتحذر أن يفهم من كلامك وأسلوبك أنك تقصد فقط التحذير من هذا الشيء المعين دون زيادة، فإن السلف رحمهم الله والعلماء يحذرون في مثل هذه الأمور، فإن بعض الناس قد تبلغ به كراهيته لفعل ما فيحقد على صاحبه، ولا يفرق بين التوجيه والإرشاد وبين الحقد والغل، وقد نبه على هذا الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين وقال: إن كثيراً من الناس لا يفرقون في هذا حتى تصل العداوة إلى حقد شخصي، ولذلك قيل لـ أبي ذر لما رأى العاصي: أتبغضه؟ قال: لا، إنما أبغض عمله.
هذا له حق الإسلام، وله حق في الدين لا تصل إلى أنك تشفي غلك النفسي، وتحمل عداوة الدين إلى عداوة شخصية، حتى إن البعض إذا رأى أخاه على زلةٍ قد يكره توبته -والعياذ بالله- حتى يبقى يشهر به -والعياذ بالله- فإذا بلغ الإنسان هذا المبلغ فليعلم أن عداوته ليست لله، وإنما هي لحظوظ النفس والعياذ بالله.
فالمقصود أن توجيه الناس وإرشادهم مطلوب، وينبغي أن يكون بالأسلوب الذي يعينهم على القرب من الله لا النفرة من طاعة الله، فبعض العصاة إذا شهَّرت به أمام الناس، ثبت على معصيته، فهذا لا يشهر به؛ لأن المفسدة أعظم من المصلحة، والتشهير إنما جاز للحاجة، وبعض الناس إذا شهرت به ارتدع، وإذا بينت لجماعته وقرابته أنه على خطأ، زجروه وأخذوا على يده وقمعوه، فمثل هذا لا تشهر به إلا بعد أن تنصحه وتحذره، وتقول له: إذا لم تستقم فسأخبر عنك إخوانك حتى يزجروك.
هذه كلها حقوق للمسلم، فإن للمسلم حقاً على أخيه، وينبغي أن يهيئ للناس، ويعينهم على طاعة الله وقبول النصح والتوجيه والله تعالى أعلم.(32/25)
وقفات للمحاسبة(33/1)
توجيهات ونصائح للدعاة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وبعد: فهذه مجموعة من الأسئلة تقدم لفضيلة الشيخ محمد الشنقيطي، تختص ببعض المسائل التي تهم الدعوة والدعاة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلماته وتوجيهه، وما يعطيه لشباب الدعوة وشباب الصحوة من نصائح، نسأل الله عز وجل أن يعم بها النفع.
السؤال
الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى الترشيد والنقد، وإلى معالجة العيوب وتصحيح المسار، وتشتكي الصحوة الإسلامية اليوم داءً عضالاً، يعاني منه كثيرٌ ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله، فضلاً عن الصالحين وطلبة العلم، وهذا الداء هو: عدم الإحساس بالمسئولية تجاه الدعوة، وعدم تحملها والقيام بأعبائها وواجباتها، فتجد لدى كثير من الدعاة طاقة طيبة، وأعطاهم الله عز وجل من المواهب ما قد حُرم منه الكثيرون، وبالرغم من ذلك تجد مساهمتهم في الدعوة إلى الله عز وجل لا تكاد تذكر مع أنهم يسمعون ويعلمون عن واجبهم تجاه هذه الدعوة، ومع أن الواقع حولهم مهيأ لاستماع كلمتهم ولمشاركتهم الفعالة، وكما أننا ننظر إلى الصحوة الإسلامية اليوم بشكل عام فنجد أن حجم هذه الصحوة وهذه الجموع الغفيرة من شباب الإسلام لا يتناسب أبداً مع الواقع السيئ للأمة والمنكرات المتفشية فيها، فإننا كذلك بنظرتنا إلى الدعاة الأفراد نجد أنهم كذلك ينقصهم القيام بواجبهم، وأن ما يؤدونه على الساحة لا يتناسب أبداً مع ما أعطاهم الله عز وجل من العلم وكثير من القضايا التي يحتاج إليها الدعاة، فما هي توجيهاتكم لشباب الصحوة وللدعاة في هذه القضية؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة عباد الله المؤمنين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالحمد لله الذي جمعنا بكم في هذه الليلة المباركة، وأسأل الله أن يجزي الذين تسببوا في هذا اللقاء كل خير، وأن يجعل ذلك في ميزانهم، ثم أقول: إن هذا السؤال مهم جداً، ويحتاج إلى التفصيل فيه الدعاة بصفة خاصة، ويحتاجه كل من له علاقة بدين الله عز وجل على وجه العموم؛ فالاهتمام بأمور الدين، والدعوة إلى رب العالمين أمر واجب على كل منا، فعلى كل مسلم أن يهتم بهذه الأمانة؛ لأن هذا الدين منوط بكل منا، ولا يمكن لهذه الأمة أن تصلح ولا أن تسعد ولا أن تبلغ درجة الكمال والفضل إلا بما كان عليه سلفها، وبفضل وتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
إذا أردت أن ترى التوفيق على كمال وصلاح أمور هذه الأمة فانظر إلى تلك الساعة التي يقوم فيها كل فرد وكل إنسان بواجبه، فالدين أمانة في عنق كل واحد منا، ورسالة الله عز وجل التي أوحى بها إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل بها كتاباً مبيناً وأرسل بها رسولاً أميناً.
هذه الأمانة العظيمة تنتظر منا أمرين: الأمر الأول: العمل والتطبيق.
الأمر الثاني: الدعوة إلى هذا الطريق.
العمل والتطبيق أمر يختص بك، فكون الإنسان يلتزم ويسير على طاعة الله ومنهج الله، فهذه رحمة من الله تبارك وتعالى، لكن تأتي الثمرة الثانية وهي ثمرة الدعوة إلى طاعة الله والهداية إلى سبيل الله عز وجل، وإذا أراد الإنسان أن يعرف قدره عند الله عز وجل ومكانته عنده، فلينظر إلى قدر الدين في قلبه، فإن وجد أن هذه الرسالة لها مكانة في قلبه ولها مكانة في فؤاده، وأنه يتمعر وجهه لله عز وجل ويحترق من داخله إذا انتهكت حدود الله، وتُعدِّيت محارم الله فليعلم أن قلبه بخير، وأن نور الإيمان لا زال أثره في فؤاده، وأن الله تعالى يجله ويكرمه على قدر إجلال الدين، والله ما من إنسان يعظم هذا الدين ويحرص على تبليغه للأمة والدلالة عليه والهداية بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وجدته موفقاً أينما كان، ومسدداً أينما كان، وملهماً الخير أينما كان.
فالواجب على كل واحد منا أن يعلم هذه القضية الأساسية، وهي: أن قيمتك ومكانتك عند الله على قدر الدين، ولذلك جرب يوماً من الأيام أن تجلس فيه مع أهلك وتذكرهم بالله، وتجلس مع زوجتك فتذكرها بالله، ومع أبنائك فتعلمهم شرع الله عز وجل، ثم انظر إلى هيبة أهلك لك، والله يضع الله لك الهيبة على قدر ما وضعت للدين من هيبة، بل ويزيدك، فمن عامل الله فهو الرابح، وليس بيننا وبين الله إلا هذا الدين؛ تحقيقاً ودعوة إليه ودلالة عليه.
فإذا كان كل واحد منا استشعر أن مكانته عند الله على قدر إجلاله لهذا الدين، فحينئذٍ الفوز الفوز، كل واحد منا يرشح نفسه أن يكون أسعد العباد برحمة الله بتبليغ رسالة الله، وليس المطلوب أن الشخص يجلس مثلاً في المساجد وينصح ويذكر ويفعل ما يفعله العلماء إذا لم يكن عنده حصيلة علمية كاملة تؤهله لذلك، فهذا ليس بالمطلوب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يتحمل هذه الأمانة التي فوق طاقته، إنما المطلوب الشيء الذي بين يديك فتبدأ أولاً بدعوة الأقرب إليك، كأهلك وأبنائك وبناتك وإخوانك؛ لقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
المرحلة الثانية: أن تتوسع قليلاً، فتبدأ بدعوة زملائك في العمل، كذلك أيضاً تحرص على جيرانك، وأي خطأ تراه فاعلم علماً مؤكداً أن الله يبتليك بهذا الخطأ الذي رأيته؛ يبتلي إيمانك، يبتليك لكي يعلم وهو علام الغيوب كيف منزلة هذا الدين عندك، الساعة التي ترى فيها المنكر أو ترى فيها أمراً يحتاج إلى نصيحة، يحتاج إلى كلمة طيبة، اعلم أن الله يختبرك فيها، هي ليست محض صدفة كما يقولون، ولم تأت هكذا عبثاً، لا، بل هي ابتلاء واختبار، يقول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، فالعمل لا يحسن إلا بالصدق مع الله، وأصدق عمل تصدق فيه مع الله عز وجل الدعوة إلى الله عز وجل.
والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تكون لكل إنسان بحسبه، ممكن أن تدعو وأنت في وظيفتك، ممكن أن تدعو وأنت في بيتك، ممكن أن تدعو وأنت في مجلس مع إخوانك وزملائك، وليس المراد أن تجلس أربعاً وعشرين ساعة في الدعوة، لا، المراد أن تعطي هذا الدين ما تستطيع، فالله لا يريد منك أن تتحمل ما لا طاقة لك عليه، وأوصيك أن تقرن مع الدعوة الجد والصدق، واعلم أن الأجر والثواب على قدر إخلاصك.
نركز هنا على عدة قضايا: القضية الأولى: إجلال هذا الدين.
والله لا تُجل هذا الدين إلا كان على قدر ذلك الإجلال يجلك الناس، ولذلك انظر إلى هيبة العلماء عند الناس، ومحبة الناس للعلماء، لماذا؟ هل لأحسابهم؟ لا والله، لأنسابهم؟ لا والله، لألوانهم؟ لا والله، لمالهم؟ لا والله، لجاههم؟ لا والله، وإنما لشيء واحد وهو الدين، فقد صغت قلوبهم لله، وأذعنت لله وغارت له؛ لأنهم أعرف الناس بالله، فلما عظموا الله، جعل الله لهم القبول في العباد، هذه حقيقة مدركة بالدليل النقلي والدليل الحسي المشاهد، لا تُجل ولا تكرم إلا بقدر إجلالك للدين.
فإذاً إذا ثبتت هذه القضية الأولى والركيزة الأولى، وهي: أن مكانتك عند الله على قدر إجلالك للدين، فما عليك إلا أن تؤهل نفسك للدرجات، فتحاول أن تجند نفسك على قدر ما عندك، فإذا رأيت شخصاً تائهاً، فهل من الصعب أن تجلس معه خمس دقائق، وتكلمه كلمتين ربما أنت ما تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضا لا سخط بعده؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، هل من الصعب عليك إذا رأيت شاباً حائراً تاركاً للصلاة أن تستوقفه خمس دقائق، فتجلس معه تقول له: هذا الطعام الذي تطعمه لمن؟ والشراب الذي تشربه لمن؟ هذه الروح التي تسري في جسدك فيتحرك بها كل شيءٍ بإذن الله لمن؟ وتقول له: أما تستحي من الله، وأنت ترفل في نعمه ولا تجيب داعي الله في بيت من بيوت الله؟ ثم كلمة بعد كلمة علَّ الله أن يهديه، فوالله ما ركع ركعة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا سجد سجدة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا دمعت عينه من خشية الله إلا كان لك مثل أجره، نعمة وفوز وفضل من الله عز وجل.
القضية الثانية: إذا ثبت أنه ينبغي للإنسان أن يجلَّ دين الله وشرعه، فمن إجلالك لدين الله وشرعه: أن نحب لكل إنسان ما نحب لأنفسنا، وأن نسعى أن يكون هذا الدين وهذه الرسالة عند كل أحد، وأن يظفر بها كل أحد، كل ذلك طمعاً في رحمة الله، والتماساً لرضوان الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك بأسلوب التشويق، فقال صلوات الله وسلامه عليه حينما بعث علياً رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذا يدل على أنه ينبغي بعد إجلال الدين: الانطلاقة للدعوة إليه، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]، لاحظوا يا إخوان مجلس واحد فقط، سمعوا آيات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلاها ذلك اللسان الصادق (فلمّا حضروه قالوا: أنصتوا)، هذه مرحلة الإجلال للدين، حتى في مجلس العلم، قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، (ولوا): انظر حتى أسلوب القرآن، يقال: ولَّى هارباً، يعني: فزع مباشرة، هذا دليل كمال التأثر بالقرآن، فكل من أجلَّ دين الله لا ينتظر، بل مباشرة ينطلق داعية إلى الله، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30]، إذا كان الإنسان تعلق بهذا الدين وعظم هذا الدين ما يتحمّل، ويتمنى هداية الأمة كلها فليس(33/2)
أساليب كسب القلوب
السؤال
أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، أما هذا السؤال فضيلة الشيخ، فهو من القضايا الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي العلم الصحيح وسلامة المنهج، ولكن هناك قضية يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد لا يهتدي إليها إلا القليل، ولا يملك مفتاحها ولا يعرف أسرارها إلا الأقل، ألا وهي قضية كسب قلوب الناس ومحبتهم، فما السبيل إلى ذلك؟
الجواب
لا شك أن ما تضمنه السؤال من الحرص على قضية العلم، هي قضية أساسية، فالعلم نور، ومن جعل الله له هذا النور فقد أبصر السبيل، وكان الله له دليلاً ونعم الدليل، ولذلك العلم مفتاح كل خير ومنبع كل فضل، وللإمام ابن القيم كلام ما معناه: إن الإنسان يبصر بنورين: نور من داخله، ونور من خارجه، أما النور الداخلي فالبصر، وأما النور الخارجي فالشمس والشعلة المضاءة، فلو انطفأ أحد النورين لم يغن الآخر عنه، ولذلك -مثلاً- لو عمي الإنسان لا تنفعه الشمس، ولو وجد نور العين والشمس غير موجودة والمكان مظلم أتنفع العين؟ لا تنفع، إذاً لا بد من نورين: نور داخلي ونور خارجي، ولذلك يقولون في قوله تعالى: ((نُورٌ عَلَى نُورٍ)) [النور:35]، نور العقل الذي جعل الله عز وجل به معرفة الخير من الشر، ونور الإيمان والعلم، فقال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، جعلنا الله وإياكم ممن هداه.
فلا بد من أمرين، العالم لا شك أنه على نور من الله، ولذلك يقول بعض العلماء، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات} [الأنعام:122]، قال بعض العلماء في هذه الآية: هذا مثل للعالم والجاهل، (أومن كان ميتاً فأحييناه) أحييناه بماذا؟ بالعلم (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) سبحان الله العظيم! إذا كان الناس في مكان مظلم، وجاء شخص معه نور، فكل الناس ستتبع هذا الذي معه نور، لا يمكن لأحد أن يتركه، إلا إنساناً ليس عنده عقل.
قضية كسب القلوب، هي سر الصنعة كما يقولون، هذه أمور بيد علام الغيوب، القلوب مفاتيحها بيد الله عز وجل، فكسبها يحتاج إلى أمور: أولها: الإخلاص؛ فالمخلص هو الذي يفتح الله له القلوب، ولذلك رب كلمة صادقة من إنسان مخلص تدخل إلى سويداء القلوب، ويحيي الله عز وجل بها قلوباً طالما ماتت، ورب كلام كثير غير يسير لا يجد الإنسان له أثراً، ولا يجد له تفاعلاً مع نفسه، وكما قال بعض السلف عن سبب تأثيره في غيره، قال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة، فالنائحة الثكلى هي التي أصيبت، أما النائحة المستأجرة فتصيح بدون صدق، تصيح من أجل الدراهم، لكن الثكلى تصيح من أجل ولدها، لذا تصيح من قلبها، فكأنه يقول: إن الكلمة لما تخرج من القلب تقع في القلب، وهذا من عدل الله عز وجل، الله عدل، ووصف نفسه بالعدل المطلق الذي هو غاية العدل، لا يمكن أن يسوي بين إنسان يرائي ويسمع، وإنسان يريد وجهه.
فبينهما كما بين السماء والأرض.
ولذلك أول شيء تريد أن تكسب به القلوب في الدعوة إلى الله يا طالب العلم! يا داعياً إلى الله! أو أنت في أي مكان كنت، ولو كان الإنسان عامياً يريد أن يكسب القلوب، فأول شيء ينصح به الإخلاص.
الأمر الثاني مما يعين على كسب القلوب: التزام الشرع أو الدين؛ لأن الله عز وجل كتب المحبة لأوليائه، ما من إنسان يلتزم كتاب الله إلا قذف الله في قلوب عباده حبه، أياً كان هذا الرجل، قال تعالى مصداقاً لذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] (وُدًّا): يعني: محبة في الصدور، قال بعض العلماء: العمل الصالح سبب لمحبة العبد.
إذاً الأمر الثاني بعد الإخلاص: قضية الالتزام بالشرع، ولذلك الداعية الذي يلتزم بما يقول ويعمل بما يقول يتأثر به الناس أكثر من الداعية الذي يقول ما لا يفعل.
الأمر الثالث مما يعين على كسب القلوب: التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أحب العباد إلى العباد، وكانت القلوب تحبه قبل أن ينطق بمنطقه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قذف الله المحبة فيه؛ بمنطقه ومخبره ومنظره قبل مخبره صلوات الله وسلامه عليه، فعندما تلتزم سيرته سيكون لك الأثر، لماذا قذف الله في قلوب العباد حبه؟ بسبب آدابه وأخلاقه، فطالب العلم أو الداعية أو العامي، أي إنسان إذا التزم بآداب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -سبحان الله! - الزوجة تكرمه والابن يكرمه، فهو عندما يطبق السنة، ويحاول أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموره العامة والخاصة، حتى في شئون الطعام والأكل والشرب والمنام، ويحتسب عند الله التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد فترة يجد المحبة ويحس بها دون أن يخسر شيئاً، فتتجه القلوب إلى محبته؛ لأن الله يحب السنة؛ لأنها هي الحكمة التي أوحاها إلى نبيه، ويحب أهلها، وإذا أحبك الله وضع لك المحبة في قلوب عباده.
الأمر الرابع الذي يعين على محبة الناس وكسب قلوبهم: المحافظة على مشاعرهم في حدود الشرع، لا يكون الإنسان فظاً غليظاً، وهذا أشار إليه الله تعالى حينما قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] إذاً لا بد أن يكون الإنسان حليماً رحيماً، المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرب من مزادتها، وتفجر الماء بين أصابعه، ما قال لها: أنت مشركة، أنت ضالة، أنت كذا، وإنما أحسن إليها وأرسلها، فلما ذهبت إلى قومها قالت: جئتكم من عند أسحر الخلق، إما أنه نبي أو ساحر.
عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما قال له أنت مشرك ضال بعيد عن الله عز وجل -جابهه مباشرة- وإنما أعطاه وادياً من النعم، فلما سرى به إلى أهله قال: يا قوم! أسلموا، فوالذي يحلف به عيينة لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر.
ملك القلوب بالإحسان، والآداب والأخلاق، والإنسان عندما يكون مثلاً بين العوام، أو يريد أن يهدي أناساً ضالين، فلا يفكر أنه ركب على أكتافهم، أو أن بيده مفاتيح الجنة والنار، يدخل من شاء ويخرج من شاء، لا.
فالأمر يحتاج إلى تقريب القلوب إلى الله عز وجل، ويحتاج إلى حكمة في ذلك التقريب، فإذا وفق الله عز وجل الإنسان لذلك كسب القلوب، وإذا بها بعد فترة تحبه شاء أم أبى، الناس تخسر الملايين من أجل أن يحبوا وأن يكرموا، فالتجار وأهل السمعة والفنانون وغيرهم يخسرون الملايين من أجل أن يحبوا، ولكن طالب العلم لا يخسر شيئاً، فقط يصلح ما بينه وبين الله فيجعل الله له القبول في الأرض، مجرد أن ترى الشخص من عباد الله الأخيار الملتزمين بالكتاب والسنة، تحبه بسبب ماذا؟ الدين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] هذه من المعزة التي كتبها الله لخاصة عباده -جعلنا الله وإياكم منهم-، وعندما تذكر الناس أول شيء ذكرهم بقلب صادق، مثلاً إذا جلس إنسان مع ولده ووالده وأهله وقرابته يريد أن يذكرهم بالله، يقول بعض العلماء: انظر إلى نفسك إن كان رأى الإنسان أخاه أو أخته على معصية، فجاء من باب الغيرة، يعني كيف الأخت تفعل كذا، كيف الأخ يفعل كذا، كيف ابني يفعل كذا، أصبحت ما هي لله، بل أصبحت غيرة للناس، إذا كنت تريد أن تكسب قلبه للدعوة، فلابد أن تكون لله، وتنظر إلى بعده عن طاعة الله وبعده عن سبيل الله وتنطلق من هذا المنطلق.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن كتب الله له حبه ومتعه بحبه وحب خلقه.
والله تعالى أعلم.(33/3)
أهمية العناية بجانب القلوب والرقائق
السؤال
جزاك الله خيراً، إذا تصفحنا كثيراً من كتب العلم، كتب السنة والحديث، نجد أنها ضمَّت إلى جانب أبواب الفقه والعقيدة والطهارة والسير والجهاد وما إلى ذلك، ضمَّت أيضاً باباً أو كتاباً كاملاً عن الرقائق، وقضية الرقائق والسلوك والإيمانيات أيضاً هي من القضايا التي غفل عنها كثير من الملتزمين وطلبة العلم والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، سواء من الناحية العلمية أو من الناحية العملية، فهم من الناحية العلمية -كما سبق أن ذكرنا- لا يقرءون في هذه إلا القليل، وربما تجد الواحد منهم يعرف الكثير عن العلماء الأعلام كـ ابن تيمية رحمه الله، فإنهم يعرفون عن علمه ومصنفاته، وعن جهاده ودوره، ولكنهم قد لا يعرفون شيئاً عن قلبه وعن مدى الإيمان العظيم الذي يضمه بين صدره، ومن الناحية العملية تجد أيضاً أن كثيراً من الناس يفتقرون إلى كثير من القضايا التي ترقق القلوب، فلا نجد زيارة للقبور، ولا حرصاً أو تواصياً على قيام الليل، ولا على كثرة الصيام، ولا غير ذلك من هذه القضايا التي ترقق القلوب وتقوي الصلة بين العبد وبين ربه، فما هو توجيهكم في هذه القضية؟
الجواب
أما جانب العناية بالقلوب ومحاولة الإنسان أن يكون قلبه ليكون قريباً من الله عز وجل، وأن يكون عنده سكينة وخشوع وانكسار، هذا أمر مهم جداً لكل طالب علم، ولكل مسلم فضلاً عن طالب علم أو عن عالم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيما صح من حديث النعمان: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فالعناية بالقلب ورقته وخشوعه وانكساره أمر مطلوب، ولا ينبغي لطالب علم أن يهملها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتحلى بالخشوع ويتحلى بالرقة، (قرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء -بطلب منه عليه الصلاة والسلام- حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] فقال لي: حسبك، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان صلوات الله وسلامه عليه)، فكان يتأثر صلوات الله وسلامه عليه، قلبه حي، يتفاعل مع القرآن.
فإذا جلس طالب العلم مثلاً يتكلم عن موضوع يحتاج إلى تأثر، وأن يكون متفاعلاً معه، يتكلم عن جانب الإخلاص، فينبغي أن يكون عنده تأثر، وأن يكون قلبه في رقة، بحيث يتمعر لله ويظهر أثناء حديثه جانباً من الروحانية، أما لو جاء يقرع جانب الإخلاص بذكر السلبيات، وأن الناس يقصرون، وأنهم يراءون، وأنهم وأنهم، فما هي النتيجة، يخرج الناس ما يدرون كيف يعملون ولا ما هو الحل؟ لكن لو جاء وبيَّن فضل الله على العباد، وأن العبد ينبغي أن يستحي من الله، وأن يكون قريباً من الله، ورويداً رويداً حتى يصل إلى القضية التي يريدها، ويجمع بين المادة وبين الروح، بتهيئة النفس إلى قبول ذلك، هذا أمرٌ مهم جداً، وأصدق شاهد على قضية الترهيب والترغيب والعناية بالرقائق ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أول ما أنزل- آيات فيها ذكر الجنة وذكر النار-يا إخوان هذا الحديث مهم جداً، وينبغي أن يتنبه له- تقول فيه أم المؤمنين: (كان في أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا، لا تشربوا الخمر، ما آمن أحد).
من أين كانت البداية؟ من جانب الترقيق، لكن جانب الترقيق لا يغلو الإنسان فيه؛ مثلما غلا بعض المتصوفة وبعض أهل الضلالات، لا لا، يجب أن يكون الترقيق منضبطاً بالكتاب والسنة، وتذكر بآيات الكتاب، تذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم معين خصب، ورياض ناضرة لا ينضب معينها، لكن تحتاج إلى ذلك الحكيم الذي يتفاعل معها أولاً، ثم ينقلها إلى الغير.
فأنا أقول: لا بد لطالب العلم، وكل أحد أن يعتني بجانب الترقيق؛ لأن القلب يقسو بأمور الدنيا، والأخذ والعطاء فيها، فأعط لنفسك في اليوم ولو ساعة تقرأ فيها كتاب الله، مثلاً: الإنسان بعد العشاء ينتهي من أعماله، لماذا لا يتوضأ ويفتح كتاب الله إذا كان غير حافظ فيقوم ويركع ركعتين، ولا يعرف فيها شيئاً إلا كلام الله، ينسى الزوجة والأبناء، حتى يعطي كتاب الله حقه من التدبر.
يا إخوان! كل ليلة نؤجل للتي بعدها، نقرأ القرآن بقلوب فارغة، ونقول فيما بعد إن شاء الله يأتينا الخشوع، فيما بعد فيما بعد والنهاية؟ كل يوم ونحن نتدارك الذي بعده، لا، من الليلة، خذ لك ولو نصف ساعة بعد صلاة العشاء اقرأ فيها كتاب الله -سبحان الله العظيم- وحس كأنك المخاطب، إن جاء ذكر النار تصور كأنك فيها، وإن جاء ذكر الجنة تصور كأنك في نعيمها وسرورها، ما بين خوف وبين رجاء، وكما يقول بعض السلف: هما جناحا السلامة، فاقرأ، ثم بعد ذلك قرب قلبك من هذا الكتاب الذي لو نزل على الجبال لاندكت، ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، فقرب نفسك منه، حس كأن هذا الكتاب نزل لك من أجل أن تعمل به، وتتغافل معه فإذا فعلت ذلك فإن قلبك ينشرح، ونفسك ترتاح، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وإذا بك -سبحان الله العظيم! - هاتان الركعتان أو هاتان الآيتان اللتان تلوتهما وتدبرتهما والله تجد حلاوتهما في يومك بأكمله، وتجد أثرهما في قلبك.
وكيف كان علماء السلف، كان عالم السلف لا بد أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، الإمام الشافعي جاءته امرأة سألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟ لأنه يمر على هذا الكتاب كل ثلاثة أيام، يعني يختم القرآن كل ثلاثة أيام، فلما كانت الليلة الثالثة كبَّر في السحر؛ لأنه في الليلة الثالثة في الثلث الأخير، وفيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، قال: يكفي هذه الآية، فعثر على حجية السنة.
فلذلك كان السلف على صلة، العالم يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ، معنى ذلك أن أي همٍ من هموم الأمة إذا مرَّ عليه فخلال ثلاث ليالٍ يعرضه على الكتاب، ولذلك لا تجد أحداً يتكلم إلا يقول لك: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فأنا أقول: جانب العناية بالرقائق والقلوب مهم جداً، لكن يكون أساسه الكتاب والسنة، وينبغي أن ينبه بعدم العناية كثيراً بالقصص، وترك الكتاب والسنة، لأن بعض الناس يعتني بجانب القصص، حتى أنك تسمع محاضرة، كلها قصص وأحداث وأخبار، وقد يتأثر بعض العامة بها أكثر من القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما ينبغي هذا، والله بعض آيات الكتاب بل كل آيات الكتاب، لو أن الإنسان أحسن تدبرها وخشوعها وتذكرها، فإن القلوب تتفتت من خشية الله عز وجل، وإن بعض المجالس نعرفها لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم وأحسن الخاتمة لأحيائهم، والله لا زلنا نذكر آيات يسيرة ذكرونا بها ولا تزال في قلوبنا؛ لأن القرآن عجيب.
فلذلك ترقيق القلوب يكون بالقرآن، وأما الخيالات والقصص والمنامات وهذه الأمور الحقيقة يفضل تركها إلا ما وافق الكتاب والسنة يذكر بقدر حتى لا يسترسل الناس فيه، ولا مانع أن يستشهد الواعظ بشيء له أصل من الكتاب والسنة.
فالمقصود من هذا كله أن جانب الترقيق مهم جداً، ولذلك جرب الآن واجلس في حلقة فيها مثلاً جانب علمي؛ مادة علمية بحتة، تقوم من الحلقة هناك فائدة، لكن ماذا؟ القلب تجده قد يقسو، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يربط الأعمال بأثرها على القلوب، فيذكر مثلاً الوضوء، قال عليه الصلاة والسلام: من توضأ توضأ وضوءاً كاملاً -كما في حديث حمران عن عثمان في الصحيحين- لما انتهى من الوضوء ماذا قال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه) تشويق، وأسلوب جمع بين المادة وبين الأثر، كذلك إذا جئت تعلم اجمع بين المادة العلمية وبين الآثار المترتبة، أما أن تكون مادة علمية بحتة، قال فلان قال علان، هذا صعب، والإنسان ضعيف، لا يحتمل كثيراً من هذا، فأقول: جانب الإيمانيات مهم جداً، مهم للداعية، مهم لطالب العلم، مهم للعامة، العامي الآن إذا ذكرته بالله أحياناً يبكي وتجده يتأثر ويهلل ويكبر من الأثر، يمكن أن يكون هذا المجلس سبباً في صلاح سنة كاملة منه بل سنوات، بسبب ماذا؟ جانب الإيمانيات، وأهم قضية قضية الإيمان، إذا صلح للإنسان معتقده وإيمانه بالله استقام، وسار على منهج ربه وأصاب دار السلام، بماذا؟ بالإيمان.
نسأل الله عز وجل أن يكمل إيماننا وإيمانكم، وأن يشرح صدورنا وصدوركم.
والله تعالى أعلم.(33/4)
محاسبة النفس
السؤال
أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، محاسبة النفس لها أهميتها، والصالحون والدعاة هم أمس الناس حاجة إليها، وقد أقسم تبارك وتعالى في كتابه بالنفس اللوامة، ونسمع عن العلماء في وصف محاسبة النفس قولهم: أنه يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، ولكنها لكثير من الناس تظل قضايا نظرية أكثر منها عملية في هذا الزمن المادي المليء بالفتن، فكيف السبيل إلى محاسبة للنفس حقيقية عملية؟ وكيف كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحاسبون أنفسهم؟
الجواب
الله أكبر! الله أكبر! وهذا سؤال يحتاج إلى تدبر وتأمل، ويا ليتنا نبلغ هذا المقام، الله المستعان، الله أكبر! المحاسبة مفاعلة من الحساب، ومعنى ذلك: أن الإنسان يعيش مع نفسه في كل لحظة من لحظاته، إن خيراً حمد الله واهب الخير، وإن شراً استغفر الله عز وجل غافر الشر، فيعيش الإنسان مع نفسه في كل حركة وفي كل سكون، وهذه غاية في مراقبة الله عز وجل، ولذلك ما وفق الله عز وجل العبد لمحاسبة النفس إلا وفقه لطريق السلامة، وإذا أردت أن ترى العبد الناجي من عقوبة الله عز وجل -بإذن الله- فانظر إلى ذلك الرجل الذي لا يفتر لحظة إلا وهو يحاسب نفسه، تسره حسنته فيحمد الله، وتسوءه سيئته فيدمع من خشية الله.
والله ما وفق الإنسان لشيءٍ بعد الإيمان مثل محاسبة النفس، وتأديبها بعد الحساب لها، مرحلتان: مرحلة المحاسبة ومرحلة التأديب، لا يحاسب ويسكت، بعض الناس يقول: أنا مقصر، وكذا وكذا، ادع لي ادع لي، ما ينفع!! مقصر وبعيد عن الله، لكن العمل النجاة، محاسبة النفس هي سبيل النجاة، وكما ورد في الآية أن الله تعالى أقسم بالنفس اللوامة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2]، هذا إثبات للقسم، ولذلك قيل: إن (لا) زائدة أي: وأقسم بالنفس اللوامة، قال بعض العلماء: أقسم الله بها؛ لكي يدل على عظيم مكانها وجليل منزلتها، فهو الذي يهب هذه النفس.
والنفس اللوامة يهيئوها الله عز وجل أولاً بالإيمان، فما تأتي الملامة إلا بالإيمان، إذا قوي اعتقاد الإنسان بالله، وقوي إيمانه بالله، وعرف الله بأسمائه وصفاته هاب الله، فلما هاب الله إذا بنفسه تناديه: ما الذي فعلته؟ من الذي عصيته؟ فتأتي ثمرة الإيمان؛ وهي محاسبة النفس.
ومحاسبة النفس تكون بالجليل والحقير، والصغير والكبير، تكون للإنسان وهو خالٍ فريد، فيجلس فيقول: يوم كامل -أربعة وعشرون ساعة- فيم قضيته؟ وما الذي كان عليَّ من نعم الله فيها؟ فيعقد موازنة بين أمرين: بين نعم الله عليه وإحسانه عليه، وإساءته في جنب الله، وفي طرفة عين تأتي الآثار المترتبة، دمعة من خشية الله، أو عبرة في جنب الله، هذا بسبب ماذا؟ بسبب المحاسبة الصادقة، ولذلك ورد في أثر عمر أنه قال مخاطباً الناس: (أيها الناس! زنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتهيئوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]).
ومحاسبة النفس نعمة من الله عز وجل، يحاسب الإنسان نفسه خالياً فريداً على ما ضيع من حقوق الله وحقوق العباد، ويحاسب نفسه وهو بين أهله، ويحاسب نفسه وهو بين أصدقائه، ويحاسب نفسه في كل حركاته وسكناته وهذا أكمل ما تكون عليه المحاسبة، يحاسب نفسه في جوارحه؛ في اللسان، كان بعض السلف يعد الكلمات التي يتكلم فيها من الجمعة إلى الجمعة، كما روى ذلك أبو نعيم في الحلية.
أُثر عن ابن دقيق العيد رحمة الله عليه، الإمام الجليل صاحب الإحكام، أنه قضى في قضية، فلما انتهى من القضية اتهمه أحد الخصمين بأنه جار في حكمه، وأنه لم يحسن القضاء، فقال له: أتتهمني؟! والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل.
فكان السلف رحمهم الله يراقبون الله في أقوالهم، يراقبون الله في أسماعهم وأبصارهم وفي قلوبهم، محاسبة النفس تكون في القلوب، فلا يدخل في قلبه غل على مسلم، ويكون قلبه صافياً نقياً يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، يحاسب نفسه في سمعه، ويخشى أنه في يوم من الأيام ينظر الله إليه وقد أصغى إلى حرام، بمجرد إحساسه بالحرام إذا به ينفر عنه، فالحقيقة إذا أراد الله بالعبد خيراً هيأه لمحاسبة نفسه، وشرح صدره لها.
وحال السلف رحمة الله عليهم في المحاسبة حال كمال، وأخبارهم في ذلك يطول ذكرها.
بلغ بعضهم من العلم مبلغاً عظيماً، فلما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: أتبكي وقد وفقك الله لعلم وخير كثير؟! وقد كان إماماً وعالماً جليلاً من العلماء، قيل له: أتبكي وقد وفقك الله لهذا الخير الكثير؟! قال: والله الذي لا إله غيره إني لأتمنى أن أخرج من هذا العلم كفافاً لا لي ولا عليَّ.
إحساس منه بالتفريط في جنب الله عز وجل.
وكانت المحاسبة في المال والأهل والولد، وكان الإنسان يحاسب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، إذا جاء الأمر من أوامر الشرع امتثلوا وكانوا يخافون أن يقعوا في شيء من محارم الله، يحاسبون أنفسهم على أصغر شيء حتى في جانب الورع، كان الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه يبيع الخز -وكفى له بذلك فضلاً وشرفاً أن يتواضع وأن يأكل من كسب يده، فليس في ذلك منقصة له رحمة الله عليه- فجاءه رجل واستدان منه شيئاً، فأراد أن يأخذ المال من عنده، فذهب إلى الذي عليه الدين في وقت الظهر، وكانت الشمس شديدة، وكان معه أصحابه فقرعوا الباب، فجاء أصحابه تحت المظلة، مظلة بيت المدين هذا الذي عليه الدين، فقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، فقال: أخشى أن تكون منفعة لي عليه، فتكون من جنس الربا، فأي محاسبة ومراقبة دقيقة هذه، الآن الإنسان قد يجلس في مكتبه، ويأخذ الأوراق الخاصة والأوراق العامة ويكتب عليها رسائل، ويكتب عليها محاضرات وندوات، وقد يكون من الشباب الطيبين، ولا يحاسب نفسه، وقد ينال من السيئات والأوزار ما الله به عليم؛ فقد يأخذ أشياءً هو مؤتمن عليها، وأشياء تتعلق بها مصالح يفعل بها ما يشاء، هذا من ضعف المحاسبة.
المحاسبة: تراقب الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وتعلم الحلال فتفعله، والحرام فتتركه.
نسأل الله عز وجل أن يحيي قلوبنا وقلوبكم لذلك.
والله تعالى أعلم.(33/5)
الإحساس بعظمة الدين هو نقطة الانطلاقة في التبليغ
السؤال
الحقيقة الأسئلة كثيرة، والقضايا التي نريد علاجها كثيرة، الدعوة إلى الله عز وجل ليست محصورة في شكل معين ولا نمط من الأنماط ولا في جهد أو نشاط لا يتغير، ولكن يظل الداعية الناجح بحاجة إلى أن يتقن فن الكلام وفن مخاطبة الناس، وإلقاء الكلمات والمواعظ، فهذا مما لا يقدر عليه كل أحد، ولا نقصد بهذا أن يتصدر طلبة العلم المجالس وأن يتصدروا الإفتاء، وغير هذا مما لا ينبغي لهم أدباً مع العلم وعرفاناً بقدر أنفسهم، ولكن كل واحد منّا يحتاج إلى أن يكلم أهل حيّه أو أن يعظ في مسجده أو أن يبلغ جيرانه، أو أن يحدث من في مجلسه بكلمة فيها خير، أو بما يفتح الله سبحانه وتعالى عليه لعلّ الله عز وجل يهدي بكلمته وينفع، وكذلك في الحقيقة يشتكي بعض الإخوة الذين قد يقرءون في بعض الدروس وبعض الكتب ويرون أنهم يستوعبون الموضوع استيعاباً كاملاً ويفهمونه، ولكنهم إذا ما أرادوا تقديمه وإفادة الناس به وجدوا في ذلك صعوبة كبيرة، فما هو توجيهكم لعلاج هذه القضية؟
الجواب
فنّ الكلام ليس فيه مشكلة، يعني: الكلام بسيط وسهل، لكن القضية ترجع إلى الكلام الصادق، الشاب الذي يعلم أن الدعوة إلى الله أمانة ومسئولية، سيقوم والله لو كان أمام الأمة كلها، لكن البلاء جاءنا من ضعف الإيمان، يقول الشاب: أنا لماذا أقف؟ قد أخطئ في النحو أو في الصرف فيضحك عليَّ الناس، أصبحت القضية قضية شخصية، -سبحان الله! - {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] يا إخواننا! الأمر كله في القلب، فإذا أردت أن تهدي الأمة ستقوم، لا تقل: أنا لا أعرف كيف أتكلم وكيف أقوم في طلاب علم أعظهم، هذا نراه، يقوم عامي في المسجد يصيح والمسجد مليء بطلاب العلم، فيه من هو أحق بالكلام منه، لكن سبحان من أحيا قلب هذا العامي حتى يذكر بالله وأمات قلب غيره، القضية ترجع إلى القلب، والأمر محكه في القلب، إن جاء الداعية وجلس في المجلس وقال: والله أمتي بحاجة إلى الدعوة أنا أتكفل لكم بكلمة في المسجد، يذهب إلى البيت يدرس الموضوع يأتيه الشيطان من كل حدب وصوب جارك فلان يعرفك عندما كنت ضالاً، وجارك الثاني يضحك منك، وجارك فلان كثير الكلام في المجالس، أراك إذا قمت تتكلم سيضحك منك فلان وعلان، حتى يقتل الإيمان الذي في قلبك، ولا يزال يقل منسوب الإيمان عندك حتى يصل إلى الحضيض، فإذا وصل إلى الحضيض أسلمه الشيطان إلى الخلاصة، وهي: لا تتكلم، فيقول: سمعاً وطاعة لا أتكلم، فيأتي في المجلس يقولون له: قم تكلم، يقول: والله أنا لست بأهل، فيجعلها قضية ورع، لا، القضية قضية أن الإنسان يبذل ما عنده، يا أخي! قم وقل لهم: يا إخوة احرصوا على الصلاة، احرصوا على الزكاة، احرصوا على الخير، لا تسهروا في معصية الله يعني أمور واضحة لا تحتاج المسألة إلى كثير علم، قم فلعل الكلمة هذه تلامس قلباً يحييه الله عز وجل إلى لقائه.
فأنا أقول: محك القضية ليس في الكلام، محك القضية في محور الكلام، ما الذي يحرك اللسان؟ القلب.
إن كنت تريد أن تقوم لله وفي الله، والله سوف تقوم، وستتكلم بكل ورع وصدق، وإن كانت القضية أن الإنسان يريد أن يقول: أنا طالب علم الآن، قد أصير أضحوكة إذا تكلمت، دعني قليلاً حتى أتعلم وأحسن العبارات الطيبة، ويشهدون بأني عالم وأني أحسن الكلام، انتبه فهذا هو الرياء بعينه -نسأل الله السلامة والعافية- يقول عليه الصلاة والسلام: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به).
أمور الدين يجب أن تكون لله وفي الله، تأمل أنك عندما تقول: لا إله إلا الله، كم أذن ستسمعك من الجن والإنس؟ حتى لو سمعتك أذن واحدة، أي خير سيكون لك.
مرة من المرات شاء الله أني جلست مع والدي رحمة الله عليه في الحرم، أريد أن أقرأ عليه، وشاء الله بعد صلاة الفجر أن خرج كثير من الناس لا أدري لماذا، بقيت أنا والوالد في الحرم النبوي، أنا أقرأ والوالد يفسر، والله ما قطع درسه ولا امتنع من الدرس، فقلت: لا يوجد أحد!! فقال لي: اقرأ فقط، سواءً كان هناك أناس أم لا.
فالإنسان الذي يعامل الله ما عليه، حتى لو كانت أذن واحدة تصغي له، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب ولما جاءت العير انصرف الناس إلى التجارة، وتركوه قائماً صلوات الله وسلامه عليه، فما قطع خطبته، ولا قال: أين الناس؟ لأن الخطبة ليست للناس، وإنما هي لرب الناس.
فأنا أقول: إذا كان الشخص يريد أن يقف في مسجد حيه، أو مع إخوانه، أو في مجلس يذكر بالله عز وجل، إن كان لله فسيتكلم، والله أشهد لله ما تقوم لله في مجلس وتنصح لله إلا وفقك الله في مجلس بعده إذا أخلصت، وما توفق في محاضرة في جلسة إلا وفقك الله لخير منها إذا صدقت، فلذلك يحتسب طالب العلم.
أنا أقول: إذا كانت القضية قضية كلام، الكلام سهل، لكن المهم والمحور والأساس القلب، وأنا أقول: كل شخص يحس بقيمة هذا الدين الذي هو الأساس والمنطلق، إذا أحسست بقيمة هذا الدين بإذن الله ستنطلق.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم للقول السديد والعمل الصالح الرشيد، إنه على كل شيءٍ شهيد.(33/6)
العلماء هم المؤهلون لفهم نصوص الشرع
السؤال
فضيلة الشيخ حفظه الله، إنك تقول قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقد ورد عنه كذا، فما الداعي بعد ذلك أن تقول قال مالك أو غيره؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن هذا السؤال فيه إساءة أدب مع أهل العلم رحمهم الله، ينبغي للإنسان أن يعرف قدرهم، وأن يعرف للعالم حقه، ولا خير في إنسان لا يعرف لأهل العلم حقهم وقدرهم، قال الله عز وجل في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، يا هذا! قد قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس كل إنسان متأهل لفهم كلام الله، نقول: قال الله ثم نتبعه بمن هو أهل للفهم، حتى نبين مراد الله عز وجل كما بين الله، ولذلك قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ما قال كلهم؛ فلذلك لو كانت النصوص يستوي الجاهل والعالم، ويستوي فيها الناس في فهمها، وليس هناك داعٍ للإمام فلان وعلان، فحينئذٍ ما الحاجة إلى وجود العلماء، ولماذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ حبر الأمة وترجمان القرآن: (في كتاب الله عز وجل ما لا يعذر أحد بجهله، وفي كتاب الله ما لا يعرفه إلا العرب بلسانهم، وفي كتاب الله ما لا يعلمه إلا العلماء).
فقسَّم علم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما لا يعذر أحد بجهله: فالذي لا يعذر أحد بجهله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل يحتاج أحد في فهم هذه الآية؟ الآية واضحة في الدلالة على وحدانية الله، لا يعذر أحد بجهلها ألبتة، فدلالتها على الوحدانية يستوي في فهمها العالم والعامي، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، هذه يستوي في فهمها الجاهل والعالم، هذا ما لا يفضل فيه أحد على أحد.
القسم الثاني: ما لا يعرفه إلا العلماء، كمعرفة تقييد مطلق القرآن، وتخصيص عمومه، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وهذا هو الأداة التي يفسَّر بها كلام الله، ولذلك لما قام الرجل ينصح الناس في المسجد ناداه علي رضي الله عنه فقال: (أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: ويحك! هلكت وأهلكت)؛ لأنه ربما يستدل بآية منسوخة، إذا كان لا يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه فربما يهلك بالاستدلال بنصٍ قد رفع حكمه وبقيت تلاوته، فلذلك بيّن أن في القرآن ما لا يعلمه إلا العلماء، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، ما المراد بالذي بيده عقدة النكاح؛ هل هو الزوج، أو ولي المرأة؟ ما لا يعرفه إلا أهل اللسان، ولذلك كان العالم الفحل على سعة علمه وتضلعه في فهم الكتاب تمر عليه الآية مشكلة في اللغة لا يجد حلها إلا عند أهل اللسان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كنت أعلم قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] حتى اختصم عندي رجلان من كندة؛ قال أحدهما في بئر: هي بئري أنا فطرتها، فعلمت أن معنى (فاطر): موجدها وخالقها.
وكذلك في القرآن ألفاظ نزلت بلغة العرب تحتاج إلى معرفة دلالتها وتحتمل معانٍ، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] عسعس: يطلق على أول الليل ويطلق على آخر الليل، على إقبال الليل وإدبار النهار، وإقبال النهار وإدبار الليل، فما هو المراد؟ المقصود: أننا نرجع إلى العلماء لعلمنا بمنزلة العلماء، وهم ورثة الأنبياء، ولا طريق لنا بالفهم إلا طريقهم، فهم الذين أخذوا عن العلماء حتى اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خير في إنسانٍ أياً كان ينتقص من قيمة العلماء، فمن انتقص من قيمة العلماء فقال: لا حاجة إلى قول فلان أو علان، فهذا قد ضل السبيل، ولم يعرف لأهل العلم فضلهم، ولا يعرف الفضل إلا صاحب الفضل.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الأدب مع العلماء، وحفظ حقوق العلماء الأحياء منهم والأموات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.
هنا أنبه على أسلوب السؤال يا إخوان! من الأدب أن الإنسان إذا أراد أن يسأل أن يحفظ أسلوب السؤال، بدل أن يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يقول: أشكل عليَّ قولك كذا وكذا، فيكون متأدباً في السؤال، وهذا أمر ينبغي أن يراعى ليس عندي فحسب، بل مع كل إنسان يسأله، كما قال العلماء: إنه ينبغي على من جلس في مجالس العلم أن يحفظ ويعلم آداب المجلس؛ لأنه لربما تحصل منه الفلتة فيخشى عليه، قال بعض العلماء: أخشى على من أساء الأدب في مجلس العلم أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قالوا: كيف ذاك؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، وحبوط العمل في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل النبوة، ومن الذي ورث النبوة وحفظها غير العلماء؟! فلذلك ينبغي التأدب في السؤال، فالشخص بدلاً من أن يباشر بالنقد، أولاً ينبغي أن يكون أهلاً للنقد، فرق بين أسلوب النقد وأسلوب الاستشكال، إذا كان مثل هذا جاهل لا يفهم ولا يعرف حق العلماء يقول: أشكل عليَّ كذا وكذا، لا يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يجمع بين السوءتين، حشفاً وسوء كيلة؛ سؤال عما لا خير فيه واحتقار للعلماء، وأسلوب لا ينبغي أن يلتزمه من جلس في مجالس العلماء.
إني أذكر رجالاً من أهل العلم والفضل على دراية وبصيرة بنقد العلماء، كنت أجلس معهم في مجالس بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فيجلس مع العالم، فينسى العالم دليلاً، أو ينسى حجة، أو يلتبس عليه دليل، فيقول: يا شيخ -يريد أن يذكر العالم بالدليل- يقول: يا شيخ هناك حديث أشكل عليَّ في المسألة؛ لأنه يحتمل أن الشيخ نسي الحديث، فلما يقول له هناك حديث، سرعان ما يتذكر الشيخ ويقول: نعم جزاك الله خيراً تذكرت، ولا يستطيع أن يباشره ويقول له حديث كذا وكذا.
إلى الله المشتكى، أين حالنا الآن؟ الآن بعض أهل العلم والفضل قد يقول الحديث قبل أن يقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه ربما يسبقه طالب علم ويذكر الحديث، وهذه والله يا إخوان رزية، والله إن الأدب نعمة من الله، وجمال طالب العلم الأدب، وإذا رأيت طالب العلم قد التزم الأدب -سبحان الله العظيم! - رأيت الوقار والهيئة، فلا تدري من أي شيء تعجب منه، من حسن طلبه للعلم، أم من جماله في أدب العلم؟! نسأل الله أن يجملنا وإياكم بذلك، فينبغي أن يفرق بين النقد وبين الأدب، النقد فتنة، وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً قام أمام الناس وانتقد في سؤاله، ما الذي يحصل؟ يحصل له الاحتقار والنقص من هيبته، ولكن إذا تأدب في سؤاله حصل له الإجلال والاحترام.
فالله الله في مجالس العلماء ومجالس العلم، ينبغي أن نفرق بين أسلوب النقد وأسلوب السؤال والاستشكال.
والله تعالى أعلم.(33/7)
وقفة مع من وضع نفسه في زمرة العلماء
السؤال
جزاك الله خيراً، والشيء بالشيء يذكر، فبمناسبة حديث فضيلتكم على هذا الموضوع، عُرِض هنا سؤال يقول صاحبه: فضيلة الشيخ محمد سلمه الله، ظهرت ظاهرة في بعض طلبة العلم وهم قلة والحمد لله، يقول: تجده يرفع من قدر نفسه ويضعها في طبقة العلماء وفي منزلتهم، فتجده يقول: أرى أنا كذا، وانقلوا عني كذا، وإذا كتب يكتب ويقول: قال مقيد حروفه كذا، ويقول نجد البعض من هذا الصنف -يشكك في العلماء- فهذا فيه كذا، وهذا ينتمي إلى كذا من غير حجة من كتاب ولا سنة، ثم نجدهم يتركون الجلوس إلى العلماء والتعلم منهم، ويجلسون إلى أحدهم ومن زمرتهم يأخذون منه العلم، فما هو توجيهكم ونصيحتكم -أثابكم الله- لهؤلاء؟ وما هي نصيحتكم لغيرهم من طلبة العلم؟
الجواب
أولاً: إذا كان المراد من هذا السؤال طائفة معينة أو أمة معينة، فأقول للسائل: اتق الله عز وجل، وينبغي أن لا تستغل مجالس العلماء لأي طرف من الأطراف، هذا أول شيء، لأن المراد الحق، والمراد النصيحة لله، الخالصة لوجه الله، هذا أول شيء، وكلنا ناقصون وعندنا أخطاء وكلنا عندنا تقصير، ولكن نسأل الله أن يكمل نقصنا ونقصكم.
ثانياً: سوء الأدب وعدم احترام العلماء، وعدم تقدير العلماء، هذا لا شك أعظم سبب فيه: عدم الإخلاص في طلب العلم، والله لو أخلص طالب العلم لبارك الله له في علمه، ولنفعه الله ونفع به.
ثالثاً: الاجتماع والقراءة والعلم ينبغي أن لا تكون إلا بين يدي أهل لذلك، والله لن تخطو خطوة إلى إنسان تعلم أنه جاهل تريد أن تكثر سواده إلا لقيت الله بوزره؛ لأنك أنت السبب، فقد غررته بنفسه.
فلذلك يا إخوان! أوصيكم بأن نتق الله في العلم، وأن لا نكثر سواد كل من هب ودب، ينبغي أن نفرق بين العلماء وبين المتعلمين الذين يريدون أن يتسلقوا إلى أمر ليسوا هم له بأهل، هذا أمر مهم جداً، ولذلك قال العلماء: لو أن شخصاً جلس مع جاهل فسأله وهو يعلم أنه غير أهل، سأله مجاملة، سأله لأجل عاطفة، بينه وبينه محبة، فأفتى بغير علم كان شريكه في الإثم والعياذ بالله، الدين ليس فيه مجاملة، الدين قيم، حجة واضحة ناصعة تؤخذ من أهلها.
رابعاً: قول القائل: الذي أراه، أو الذي يترجح في نظري، أو نحن نقول كذا وكذا، أو ينقل عني كذا وكذا، أقول: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، كلنا ناقصون، ووالله ثم والله لولا خوف الإثم ما جلست في هذا المجلس؛ لأن المقام أمام الناس أولاً يستلزم منك أن تكون أميناً، لا تغش الناس من نفسك، تدعي أنك بعالم وأنت ما أنت عالم، حرام عليك، هذه خيانة للمسلمين، وأذية لعباد الله المؤمنين، فكيف إذا كان معها انتقاص للعلماء، كقول البعض: فلان لا تجلس معه، وهنا أنبه على مسألة؛ نحن كنا قبل الصلاة، نتكلم على القذف، فيا إخوان! كنت أعجب إذا كان الشخص يقول للشخص: يا زانٍ والعياذ بالله أو يقول للمرأة: يا زانية، فإنه يُلعن في الدنيا والآخرة، وموعود بعذاب عظيم، كيف إذا طعن في عقيدته؟! تصوروا يا إخوان! كيف إذا قيل: فلان فيه نظر، عقيدته فيها كذا، وفلان ضال، وفلان صوفي، وفلان مبتدع، يا أخي! قل: فلان صوفي أو قل مبتدع لكن عن بينة، نحن لا نريد عدم الكلام، ما نريده التبين، أما الطعن في الناس وتفسير كلام الناس وتحميله ما لا يحتمل هذا وزر وبهتان، أنا لا أمنعك أن تقول: فلان صوفي أو مبتدع لكن بدليل، أما تأتي إلى كلامه وتفسر كلامه على حسب فهمك، وتحمل الكلام ما لا يحتمل، وتتبع عورة إنسان من المسلمين، فضلاً عن إنسان من علماء الدين، ويحك هلكت وأهلكت نفسك وأقمتها في مقام أنت في غنى عنه.
ثم أخي في الله! إذا كان الشخص انتقد داعية أو عالماً -لو كان هدفنا الحق- لماذا لا يأخذ كلام العالم ويذهب به إلى من هو أعلم منه، ويقول: أنا أشكل علي هذا الكلام، أو يذهب به إلى صاحب الكلام، ويقول له: أشكل علي هذا الكلام، ما مرادك به؟ شيخ الإسلام رحمة الله عليه قارع أهل البدع وأهل الأهواء، وسبحان الله العظيم! يأتي إلى كلامهم ويقول: قال منهم فلان كذا وكذا، فإن كان مراده -انظروا إلى الإنصاف، انظروا إلى الأمانة، انظروا إلى العلم، انظروا إلى التجرد لله، إنسان يريد النصيحة- فإن كان مراده كذا وكذا فهو حق، قال الله قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان مراده كذا وكذا فهو باطل، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا العلم، النقيصة والثلب لا تجوز إلا عند الحاجة، والتنفير من المحاضرات، والتنفير من الندوات، والتنفير من مجالس العلماء، هذا شأن أهل البدع، وشأن أهل الأهواء والضلالات.
يا أخي في الله! إذا جاءك إنسان وقال لك: لا تجلس مع فلان -وهو من أهل العلم- انظر ما الذي تستفيده من هذا الرجل وما الذي تأخذه، سبحان الله! شخص يأخذ بحجزك عن النار ويقودك إلى رحمة الحليم الغفار، ويأتيك إنسان حثالة يريد أن يجرك عن داعية إلى الله، أو مذكر بالله عز وجل وينفرك عن مجالس العلماء، لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله السلامة والعافية.
إذا كان لك مأخذ على عالم، قل: فلان قال كذا وكذا، وهذا هو مأخذي عليه، كن دقيقاً ورعاً، كن إنساناً يراقب الله عز وجل، هذا الذي أوصي به.
فوالله ثم والله ما من إنسان يتكلم بحق أو باطل إلا سيقف بين يدي الله بذلك الحق أو الباطل، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، الشائعات ما تكفي، الدعايات التي تقع بين الناس ما تكفي، والله نعرف أناساً من أهل العلم والفضل والدعوة إلى الله من خيرة الأخيار اتهموا بأشياء نعلم يقيناً أنهم منها برآء، وأنهم أنصح للأمة ممن اتهم، وأنهم أصدق في عبودية الله عز وجل، ولكن هناك أناس أتباع كل زاعق وناعق.
فالله الله أن تلقى الله عز وجل بوزر ولي من أولياء الله، خاصة عالماً أو داعية إلى الله عز وجل، وأنا لا أقصد شخصاً بعينه، هذا كلام للعامة وللجميع؛ لأن هدفنا أن يتقي الله عز وجل بعضنا مع بعض.
كل الذي نريده أن تأتلف القلوب وتجتمع، كل الذي نريده أن يكون المسلم مع أخيه يشد من أزره، ويعينه على طاعة الله، ويكمل نقصه بالنصيحة الطيبة وبالموعظة الحسنة، والله أعرف طلاب علم طالما تكلموا في علماء، وطالما تكلموا في أهل الفضل، أذكر بعضهم جلست معه، كلمات يسيرة -وأعرف كثيراً منهم عندهم حسن نية ولا نزكيهم على الله- ما إن ذُكر بالله عز وجل حتى ذهب في اليوم الثاني يعتذر إليهم واحداً واحداً.
أذكر ذات مرة وفي عهد قريب شاباً جاء وتكلم كلمة قال: يقولون في العالم الفلاني كذا، قلت له: يا أخي! اتق الله اغتبت أولاً، ونقلت فرية، أنا أعرف هذا العالم أنه بريء من هذا الشيء، والله يا إخوان! دمعت عينه، ما استطاع من الخير الذي فيه أن يرد عليَّ، قال: ماذا أصنع؟ قلت: يا أخي! الآن تتصل عليه وتعتذر منه.
نحن هذا الذي نريد، نريد شباباً دعاة ومشايخ، إذا جاءك طالب العلم يريد أن ينتقص أحداً من أهل العلم فذكره بالله، أذكر والدي رحمة الله عليه فقد كان لا يستطيع أحد أن ينتقص أحداً في مجلسه ولو كان من عامة الناس، والويل له لو انتقصه، فكيف بطلاب العلم؟!! ينبغي أن نكون على هذا السمت، وهذا فيه الخير كله.
يا إخوان! الدلالة على العورات وفتح باب الإشاعات والسيئات وتتبع العورات لا خير فيه، ولذلك أنا أوصيك بوصية: جرب يوماً من الأيام تتبع عثرات أحد من الناس، وانظر إلى صلاتك في ذلك اليوم، وانظر إلى عبادتك لربك، الحق واضح ليس فيه لبس.
أذكر رجلاً جاءني في خضم فتن فيها قال وقيل، قلت له: يا أخي! أسألك بالله قبل أن أجيبك، بالله عليك، كيف تقول بالأمس جلست في مجلس كذا وكان فيه كذا؟ قال: نعم، قلت: متى كان المجلس؟ قال: بعد الظهر، قلت: صليت العصر؟ قال: نعم، والمغرب والعشاء والفجر، قلت: بالله عليك، كيف كانت صلاتك؟ قال: والله ما خشعت فيها، من ألم ما سمعت، معنى ذلك ماذا؟ أن هذه فتن، والله هذا يقع؛ لأن المؤمن لا يرضى أن أحداً يتكلم في أخيه فضلاً عن عالم أو داعية لله عز وجل.
فالله الله يا إخوان! والله كثرت النصيحة، وكلنا سنلقى الله جميعاً؛ من رغب في الكلام ومن نهى عنه، وإني والله لكم من الناصحين، وأول من أنصح نفسي اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في إخوانكم، واتقوا الله في العلماء.
ولذلك كان سفيان الثوري يقول: (إياكم إذا سمعتم بالزلة والخطيئة أن تشيعوها، فإن إشاعتها ثلمة في الإسلام).
فأنت عندما تشيع بين الناس وتقول: وقع زنا، أو وقع خمر، أو وقع كذا وكذا، فهذه ثلمة، ويقول معاذ: (إنكم تسمعون عن العالم الفلتة فلا تعجلوا عليه عله أن يراجع نفسه فيرجع عنها).
ولذلك الذي ضرنا الآن: أنه بمجرد ما يخطئ إنسان خطيئة واحدة تبلغ الآفاق، وإذا بلغت الآفاق وضعنا كل الحواجز لرجعة هذا الإنسان عن زلته.
فلذلك الله الله يا إخوان! إذا كنا نريد الحق، فسبيل الحق واضح، فما الذي يعنيني من الكلام في زيد وعمرو، الله عز وجل يقول: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33]، إلا في حالة.
والخطأ، قل: الخطأ الفلاني لا نريده، أما زيد وعمرو وكثرة القيل والقال، أنا أنصح الجميع، ولا أريد شخصاً بعينه ولا جماعة بعينها ولا طائفة بعينها، الكلام للجميع؛ لأنه كلام الله وكلام رسوله، أنصح كل طالب علم أن يتقي الله، وليتق الله كل إنسان من عامة المسلمين فضلاً عن طلاب العلم، ونسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيرنا وإياكم من ذلك.
أذكر قصة أختم بها هذه النصيحة: رجل أعرفه من أهل العلم والفضل يقول: جلست مع أحد العلماء، فذكر لي أن شخصاً في مجلسه نال من قاضٍ من القضاة واتهمه بالرشوة في القضاء، فلما انتهى قال له ذلك العالم الموفق: والله إني لأعلم الشيخ الذي تكلمت فيه، وأنه أبرأ مما تقول إن شاء الله، ولكن لا آمن والله عليك سوء الخاتمة، فيقسم لي بالله العظيم، يقول هذا الرجل: والله رأيته بعيني في سوء خاتمته -نسأل الله السلامة- كانت من أسوأ ما تكون.
فالله الله لينتبه الإنسان، فلا تحسب أن الأمور ذاهبة هكذا هدراً، فلذلك يا إخوان! أوصيكم ونفسي بتق(33/8)
وصايا للصائمين والقائمين
من أظله الشهر الكريم فقد أظلته نعمة أوجبت عليه الشكر، والناس في رمضان بين قائم وصائم ومعتكف، ولكن وصية للصائم: أن عليه بالإخلاص وضبط النفس عند الغضب، والاستفادة من الصيام في أخذ العبر، وللقائم: أن عليه حسن النية وحضور القلب عند سماع القرآن الكريم، والصبر على القيام والإمام، أما المعتكف فعليه أن يزين المسجد بالعبادة والصلاة وقراءة القرآن، وينقطع عن العباد إلى مناجاة رب العباد.(34/1)
وصايا للصائمين
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام، وندبهم إلى التعبد له بالسجود والركوع والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تبارك اسمه ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الهادي والداعي بإذن ربه إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه واستقام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة المباركة عن شهر رمضان، وما أدراك ما شهر رمضان! شهر البر والإحسان! شهرٌ أوله رحمة وإحسان، وأوسطه عفو من الله وغفران، وآخره فكاك وعتق من الجحيم والنيران، شهرٌ تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لقاءه، إذ قال في دعائه صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)، فقبل لقائه هو في حنين إلى لقائه، كيف وهو شهر الجهاد والصبر! شهر الطاعة والشكر! شهر الإنابة والذكر! لذلك فإن المؤمن ما ودَّعه إلا وقلبه يحترق ألماً لفراقه ووداعه، وما انصرف شهر رمضان عن عبد صالح أعطاه حقه وقدره إلا ترك انصرافه في نفسه شجناً وحنيناً وحزناً لا يعلمه إلا الله.
كم دخله بعيد من الله فقربه إليه! كم دخله مسيءٌ فتاب الله عليه فيه! كم دخله محروم فأعطاه الله! شهرٌ وأي شهر! لذلك إخواني فإن المؤمنين في شوق وحنين إلى لقائه، كان الأخيار من سلف هذه الأمة الصالحة البرة المباركة يتمنون لقاء شهر رمضان، ويدعون الله تبارك وتعالى وصوله وبلوغه.
ولي في هذا الشهر ثلاث وصايا، الوصية الأولى: للصائمين، الوصية الثانية: للقائمين، والوصية الثالثة: للمعتكفين.(34/2)
تذكر نعمة الله عليك بحضور شهر رمضان
أما الصائمون، فوصية من الأعماق، تتحقق بها هذه العبادة الشريفة المباركة التي جعلها الله عز وجل ركناً من أركان الإسلام، إذا قدم عليك شهر رمضان فوضعت أول قدمٍ على أعتابه، فإنه حريٌ بك أن تتذكر نعمة من الله تبارك وتعالى أسداها، ومنةً إليك أولاها، هذه النعمة أن كتب لك الحياة إلى بلوغ شهر رمضان، فكم من قلوب حنّت واشتاقت للقاء رمضان انقطع بها القدر، وانقطع لها الأثر، فهي اليوم في الأعماق، وتحت التراب والثرى، كانت تتمنى لقاءه، فإذا وضعت -رحمك الله- القدم على أعتاب شهر رمضان فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن بلغتني شهر رمضان لا أحصي ثناءً عليك جلَّ شأنك، حتى إذا تمكنت هذه النعمة من قلبك فعرفتها واعترفت لربها بها، عندها تأذَّن الله لك بالمزيد، فكانت بداية الشكر بداية لأن تصاب برحمة الله، فما شكر عبدٌ نعمة إلا بارك الله له فيها، ويتحرك قلب المؤمن بالشكر الصادق، فيخرج من لسانه الشكر بقلب موقن لمعناه، إذا تذكر الأمة المحرومة التي حال بينها وبين الصيام الألم، يتذكر إخواناً له على الأسرِّة البيضاء منعتهم الأسقام والعلل، وحالت بينهم وبين الصيام والقيام، فإذا رأيت العافية ونظرت إلى جسدك وأنت ترفل بنعمة الصحة الغالية فعندها تذكر منة الله تبارك وتعالى عليك، واحمد الله تبارك وتعالى على الوصول والبلوغ، واسأله أن يعينك على الطاعة والإنابة إليه سبحانه وتعالى.(34/3)
عقد النية على صلاح القلب
أما الأمر الثاني لك أيها الصائم وأنت في بداية شهر رمضان: عقد النية على صلاح القول والعمل.
فما عزم عبدٌ على طاعة من الطاعات ونوى في قلبه أن يؤديها فحال بينه وبينها حائل إلا بلغه الله أجرها، فليكن من بداية الشهر نية بينك وبين الله على المسير إلى الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه جل شأنه بطاعته وذكره وشكره وإعطاء الصيام والقيام حقه، فهذا أمرٌ ينبغي على الصائم -وهو في بداية صيامه- أن يستلهمه ويتذكره، فكم من أقوام طرقوا أبواب رمضان ثم اخترمتهم المنايا قبل بلوغ آخره، فأدركهم آخره ولم يدركوه، تمنوه ولم يبلغوه، ولم يبلغوا ما تمنوه، لذلك كتبت لهم الحسنات التي كانوا يطمعون في أدائها من رب البريات.(34/4)
اجتناب الرفث والجهل والصخب
أما الأمر الثالث الذي ينبغي على الصائم أن يستلهمه: فوصية نبوية تذكر بحق هذه العبادة الجليلة تذكر القلوب الصادقة المؤمنة التي تعرف العبادة الخالصة لوجه الله عز وجل، وصية نبوية تعرفنا بحقيقة هذه العبادة الجليلة، وتذكرنا بما ينبغي أن يكون عليه الصائم في صيامه: يقول عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم! إني صائم! إني صائم!).
يذكرنا عليه الصلاة والسلام بأن الصيام لا يقف عند الإمساك عن الشراب والطعام فحسب، بل هناك صيام بالإحجام عن الكلام الذي لا يرضي الملك العلام، فإذا جاءت بواعث الشرور وحرّكها أهلها في موقف من المواقف، وأنت قد جعت لوجه الله وظمئت لوجهه في يوم صيامك، فحرّك تلك الأشجان من نفسك غضب تريد أن تنتقم به بكلامٍ لا يرضي الله تذكر وذكَّر النفس بما أنت فيه من هذه العبادة الجليلة، وقل: إني صائم! إني صائم، فالصائم ليس خليقاً به أن يرتكب لغط الكلام أو رفثه الذي لا يرضي الله عز وجل.
قال بعض العلماء: ليقل إني صائم بصوت يسمعه من يخاطبه، وقيل: فليقل إني صائم في قرارة قلبه؛ حتى يكبح جماح نفسه عن أن تقول الخنا أو تسترسل مع أهل الشرور والغي والهوى، فليذكر العبد نفسه بالصيام إذا انبعثت أسباب الشرور.(34/5)
استلهام العبر من الشهر الكريم
أما الأمر الرابع للصائم الذي وفقَّه الله لبلوغ شهر رمضان، فهي: استلهام العبر من هذا الشهر المبارك.
فكم في شهر رمضان من مواقف تذكر قلوب المؤمنين! وتنبهها من الغفلة وتقودها إلى رب العالمين! أول ما يتذكره الإنسان إذا جاعت أحشاؤه وظمئت أمعاؤه، هو تذكر ذلك اليوم الذي يشتد حره، ويعظم ظمؤه! وهو في يوم يسير يجد الجهد من دقائق وساعات يسيرة، بعدها يصيب البغية وما لذ من الشراب والطعام، ولكن من الذي له ساق إذا وقف في المحشر! ومن الذي يكف عنه الظمأ إذا اصطفت قدمه بين يدي الله تبارك وتعالى! فما ظمئ مؤمن صائم إلا تذكَّر بالظمأ ظمأ يوم القيامة، وتذكر الظمأ الذي لو شاء الله أن لا يطعم شراباً بعده ما طعم، لذلك ففي يوم الصيام تذكير بيوم القيام.
وأما العبرة الثانية للصائمين: فإن الجوع والظمأ يعود العبد على الصبر والجهاد والكفاح في طاعة رب العباد، يهيئ هذه النفس على الصبر والمصابرة والمثابرة والمرابطة في محبة الله تبارك وتعالى.
العبرة الثالثة: الصيام طريق للإخلاص، يغذِّي القلوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى، أليس الصائم قادراً -بإذن ربه- أن يصيب ما شاء من طعامه وشرابه؟ ولكن يعلم أن الله يسمعه ويراه، وأنه مطّلع عليه، فعندها تتحرك في النفس بواعث الإخلاص، ولذلك قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأن أجزي به) فإن أصدق عبادة وأخلصها هي عبادة الصيام، فقوله تعالى: (فإنه لي) أي: إنه يقع خالصاً له سبحانه وتعالى.
العبرة الرابعة التي يجنيها عبد الله المؤمن في يوم صيامه: أن يتذكر بذلك الصيام إخواناً له في الدين والإسلام، يتذكر أحشاءً ظامئة، ويتذكر الضعفة والمساكين والبائسين والمحرومين، يذكره الصيام بمن لا يستطيع الشراب والطعام، فيبعث في النفس بواعث الخير، ويحرك فيها المسير في طريق الجود والسخاء والمنح والعطاء علَّه أن يفوز برحمة الله ورضوانه، فعندها لا يتمالك الصائم إذا سمع عن أخٍ له في الإسلام أنه أصابه الجوع والظمأ حتى تتحرك نفسه لكي يغيثه بإذن الله من جوعه وظمئه، فكم من ساق -سقى لوجه الله- سقاه الله يوم الظمأ شربة لا يظمأ بعدها أبداً! وكم من صائم تذكَّر الجائع فأطعمه لوجه الله فوقاه الله شر يوم القيامة! {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:9 - 11] فالصيام يحرّك الأخيار الكرام إلى الجود والسخاء إلى التضحية والفداء إلى بذل الأكف في طاعة الله ومحبته، فتسخو اليد لكي تفوز برضوان الله تبارك وتعالى.(34/6)
وصايا للقائمين
أما الوصية الثانية فإلى القائمين في شهر رمضان، وصايا يضعها كل قائم يرجو رحمة الله في قيامه:(34/7)
التأثر والبكاء أو التباكي عند سماع القرآن
ومن الوصايا للقائمين: التأثر والبكاء ومحاولة البكاء أو التباكي لآيات القرآن، وليكن ذلك بإخلاص، فكم من أقوام دمعت عيونهم، وكان ذلك الدمع لا يراد به وجه الله، ولا يقصد به مرضاة الله فخابوا وخسروا، فليكن الإنسان مجاهداً في بكائه أن يخلص لوجه ربه، أن يدمع لوجه الله، فكم من عين دمعت غُسل بدمعها ذنوب رؤيت! وكم من عين سحّت بالبكاء من خشية الله حرّم الله على صاحبها النار! فهذه مواقف يسيرة ولكنها عند الله جليلة، فليجاهد العبد في قيامه.(34/8)
إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى
الأمر الثالث لك أيها القائم: إياك والضجر! إياك والسآمة! إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى! إذا انتصبت لك القدمان واستحضرت الجنان في طاعة الملك الديان عندها لا تبالي أطال الوقت أم قصر، فكم من أناس يشكون طولاً من الأئمة ويضجرون لآيات يسيرة تتلى عليهم ويملون! وقد يغتابون والعياذ بالله، فيبوء العبد بالإثم والوزر والإصر، كم يطول قيامنا في شهوات من حياتنا ما شكونا ولا مللنا، ألما قام العبد بين يدي ربه ألما قام العبد بين يدي سيده ألما تشرف بالوقوف بين يدي الله يشكو الضجر والملل والسآمة من الوقوف بين يدي الله! من نحن الفقراء؟! من نحن الأذلاء حتى نقف بين يدي الله؟! من نحن؟! لولا أن الله تفضل علينا وتكرم فأذن لنا أن نقف بين يديه نناديه نناجيه نقرأ آياته نتفكر في عظاته ومع هذا كله نعرض عنه ونتأثر ونضجر، سبحان الله! كم من إمام أطال القيام فقرب خطواتك إلى الجنان! كم من إمام نفرت عنه لطول قراءته وعظيم الآيات التي يتلوها في قيامه يقربك إلى الجنة شعرت أو لم تشعر! وكم من إمام بحثت عنه ولهثت وراءه لقصر قيامه قد باعد بينك وبين المسير إلى الجنان! فالله الله أن تحرم النفس هذا الخير وأن تكون على نفسك بخيلاً! فمن دلائل الحرمان والعياذ بالله الضجر لآيات القرآن! كان الصحابة رضي الله عنهم إذا قام الواحد منهم في صلاته أطال قيامه، وغفل حتى عن أشياء من حوائجه التي هو بحاجة إلى قضائها، إذا دخل الصلاة نسي الدنيا وما فيها، وأقبل على الله تبارك وتعالى، فطابت الأيام والليالي لما قويت الصلاة والصلة بالله عز وجل، والعكس بالعكس! فإن الله لا يعبأ بمن لا يبالي به جلَّ شأنه، ومن لم يعظم ما عظم الله ولم يجلَّ شعائر الله فالله لا يبالي به، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وأعظم شعيرة في الإسلام هي الصلاة وهي الصلة بين العبد وربه، فالله أن تضجر أو تملَّ من طاعة الله تبارك وتعالى.(34/9)
التفكر في آيات القرآن
أما الأمر الثاني إليك يا قائم رمضان: أن تتفكر في آيات القرآن وأن تتأثر بهذه العظات البالغات تذكر من الذي يناديك! تذكر من هذا كلامه! تذكر هذه النداءات وما انطوت عليه من الخيرات لك في الدين والدنيا والآخرة! واستجمع الفؤاد وعش مع هذه الآيات في عظاتها! عش مع أهل الجنة في نعيمهم وسرورهم حتى تتحرك النفس إلى الجنان، وعش مع أهل النار في جحيمهم وسعيرهم فإن هذا يزكي الفؤاد حال تذكرهما، ويكسبه الرقة والخوف من رب العباد، فما تفكر عبدٌ في آيات القرآن إلا تذكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] كن ذلك المدكر! فكم من أناس وقفوا! وكم من أناس بين يدي الله انتصبوا! تفكروا في آيات القرآن فخرجوا بعظات بالغات! وكم من آيات تفكر فيها العبد بقيت في قلبه ما شاء الله أن تبقى! تفكروا في القرآن فكم نحن عنه بعيدون! {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور} [يونس:57] فاعرض القلب على مائدة القرآن، فإن كنت كما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فاحمد الله تبارك وتعالى، إذا وجدت هذه الآيات التي اشتملت على الواجبات قد حققتها فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وإن وجدت التقصير والبعد عن هذه الآيات فحفز النفس للكمال، وذكرها التقصير في حق الكبير المتعال، القرآن ما نزل لكي يتلى فلا يتذكر التالي، ويُسمع فلا يتذكر السامع، كم من قائم سمع الآيات فكانت عليه حجة يوم يقوم العباد لرب العالمين! فالله الله أن تسمع في القرآن عظات لا تلقي لها بالاً، ولا تحسن الاستجابة لنداءاته، ولا التفكير في آياته، ولا التأثر بعظاته، والمحروم من حرم ذلك، فوالله ثم والله إن الشقاء كل الشقاء أن يحرم العبد التذكر بالقرآن، وإنه والله لمن السعادة كل السعادة أن يكون العبد متأثراً بالقرآن، كم من أقوام قاموا في رمضان فحرّكوا النفوس للتأثر بآيات القرآن! ما خرج رمضان إلا وهم خاشعون، كم من أناس أخذوا من رمضان ثمرات كان منها الخشوع في الصلوات والتأثر لآيات القرآن! أيها القائم بين يدي الله تفكر! كم تمر علينا شهور وأيام وليالٍ لا نقرأ القرآن إلا قليلاً! فهذه فرصة، هذه نعمة، هذا موقف، هذا موسم يهيئ العبد للتفكر في القرآن.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون إذا كان رمضان، وكان أجود ما يكون إذا لقيه جبريل، وكان يلقاه جبريل في رمضان كل ليلة فيدارسه القرآن، فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة).
قال بعض العلماء: التأثر بالقرآن والجلوس في حلقه والتفكر في آياته من أعظم الأسباب التي تحرك العبد إلى طاعة ربه، فإذا لقيه جبريل (كان أجود بالخير من الريح المرسلة) قال بعض العلماء: قوله (أجود بالخير) خيران: خير الحس وهو السخاء والجود، وخير المعنى وهو بذل العلم وتذكير العباد وهدايتهم وإرشادهم للخير.
هذه مدرسة تذكر العباد بالإقبال على الله في قيام رمضان، لذلك ينبغي لك أيها القائم أن تتذكر بهذا القيام ما يدعوك إلى محبة الله ورحمته.(34/10)
الإخلاص لله في القيام
أول ما يوصى به من أراد قيام ليالي رمضان: الإخلاص لوجه الله في قيام شهر رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (من قام رمضان إيماناً) أي: أنه مصدق بوعد الله ووعيده، (واحتساباً) أي: رجاءً في رحمة الله عز وجل، (غفر له ما تقدم من ذنبه).
إذا خرجت من الدار لكي تعمر المسجد بقيام رمضان فاخرج وليس في قلبك إلا الله فاخرج بنية ترجو بها رحمة الله عز وجل، إذا خرجت بهذه النية لم تُرفع لك قدم إلا رفعت بها درجات، ولم توضع لك قدم إلا حُطَّ عنك بها آصار وسيئات، اخرج بهذه النية الصادقة، لا رياءً ولا سمعة، ولو خيَّرت بين أن يراك الناس وبين أن لا يروك، لاخترت أنك وحيد خالٍ بقيامك لا يراك إلا الله، اخرج وأنت ترجو رحمة الله، فكم من قدم أخلصت في القيام بين يدي الملك العلام أوجب الله لها بذلك القيام دار السلام! فإن الله تبارك وتعالى يصيب عبده برحمته على قدر إخلاصه في عبادته، فليجاهد العبد نفسه في إخلاص النية لله، والمحروم من حرم الإخلاص في قيامه، فكم من أقدام انتصبت في جوف الليل تتعبد الله بالقيام، ما كان لها حظ إلا التعب والنصب، نسأل الله السلامة والعافية.
فالله الله أن يُحرم العبد بسبب فتنة -يرجو بها نظرة العباد- رحمة رب العباد! فما الذي يجني العبد من النظرات؟! وما الذي يأخذه العبد من البريات؟! لا يغني أحد عن أحد من الله شيئاً، حرّك النفس للإخلاص في القيام، وقل إني أرجو رحمة الملك العلام، فإذا خرجت من دارك تذكرت بخروجك أنك في الحشر بحاجة إلى هذه الخطوات، فإذا قمت في قيامك تذكرت حاجتك إلى هذه الركعات والسجدات إذا طوي عليك قبرك، وأُقفل عليك لحدك، لذلك ينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه بالإخلاص في قيامه، ومن خرج من بيته مخلصاً لوجه الله في القيام أذاقه الله حلاوة القرآن، فتجد عنده الخضوع والخشوع والإنابة لله تبارك وتعالى، وما خرج مخلص لله في خروجه إلا نال التوفيق في عبادته.(34/11)
وصايا للمعتكفين
أما الوصية الثالثة، فإلى المعتكفين إلى أهل الاعتكاف إلى الذين هجروا البيوت والدعة والسرور؛ لكي يأووا إلى بيوت الله إلى الذين أرادوا قضاء أفضل أيام الشهر ولياليه إليهم وصية من الأعماق ملؤها الأشواق أن يهدى العبد إلى الكريم الخلاق، وصية إلى المعتكف:(34/12)
مراعاة تقديم الفرائض على النوافل
أما الأمر الثاني: فقدم الفرض على النفل، ولا تقدم النفل على الفرض، هيئ الأسباب لمرضاة الله، فإن الله لا يطاع من حيث يعصى، فإذا تعارض الاعتكاف وبر الوالدين وحقوق الأبناء والبنات أو تعريض الزوجات إلى المحرمات فقدِّم ما أمرك الله بتقديمه، والله يبلغك بالنية الثواب، فالمعامَلُ كريم سبحانه وتعالى، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: (ما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه)، فإذا كان الوالد يدعوك لبره والوالدة تدعوك لبرها، فقدم برهما على الاعتكاف، فالقرب من الوالدين أفضل من الاعتكاف ولو كان الاعتكاف في ليالي العشر.
ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! إني قدمت من اليمن أبايعك على الهجرة وعلى الجهاد)، يريد أن يعيش في ظل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجاهد تحت سنانه وسيفه، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحية أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها، فإن الجنة ثم -أي هناك- الزم رجلها فإن الجنة ثم!).
فيا من تريد الجنان! ويا من تريد الفوز برحمة الرحمن! بر الوالدين، أحسن إليهما وعش في كنفهما، كلاماً ليناً وقولاً كريماً تفوز فيه برحمة الله، فما بال كثير من الشباب قد عزف عن هدي الصواب فخرج عاقاً لوالديه؟! فالله لا يطاع من حيث يعصى، ولذلك قد يجد كثير من الشباب حرمان التوفيق في الاعتكاف فتقسو القلوب من القرآن، وتصبح في ضنك من العيش لا يعلمه إلا الله؛ والسيئة سببٌ في ذلك، فلذلك قدم الواجب، وقدم ما أمرك الله بتقديمه، واعتبر فرض الله على غيره.(34/13)
خذوا زينتكم عند كل مسجد استغلال الوقت بالطاعات وترك إضاعة الأوقات
وأما الأمر الثالث: إذا دخلت رحمك الله إلى بيوت الله فادخلها وأعطها حقها وقدرها من العبادة والإنابة، واستغل الوقت في محبة الله، واصرفه في طاعته ومرضاته، تذكر أنك سافرت عن الأب والأم والأخ والأخت! وأنك هجرت مجالس الأقارب وفارقت الأحباب ترجو رحمة الله عز وجل غريباً عن أهلك! غريباً عن إخوانك وخلانك وجيرانك، وذلك من أجل عمارة الوقت في طاعة الله، فكيف يصرف في قيل وقال؟! كيف يصرف في تلك المجالس التي تعقد في المساجد!! ضحك ولعب وسخرية واستهزاء؟! فلو جلس هؤلاء المعتكفون في بيوتهم لكان خيراً لهم؛ لما في ذلك من الإضرار بأنفسهم وبغيرهم، فكم من عابد ما قرت عينه بالعبادة لوجود أمثال هؤلاء من صياح ولغط وغير ذلك! وقد يصل الأمر إلى الخصومة والعياذ بالله، ما هذا الاعتكاف؟! أين اعتكاف السلف الصالح رحمهم الله؟!! لقد رأيت رجالاً صالحين -وأنا في معقد الصبا- إذا دخلوا معتكفهم في حرم المدينة مشى الرجل لا يجاوز بصره موضع قدميه، وإذا جئت إليه وقد توارى بذلك الكساء قائماً يصلي، فحينها تتلذذ وأنت تسمعه يتلو القرآن ويبكي من خشية الله، وكنا صغاراً نأتي إليهم بين تلك اللحف التي قد وضعوها بمثابة القباب، تسمع الواحد منهم يقول: أستغفر الله، وهو مليء بالنشيج والبكاء، فكانت كلماتهم والله ألذَّ إلينا من كثير.
أين الصادقون؟! أين المعتكفون الذين إذا جنَّ الليل تعفرت جباههم بالسجود؟! تعفرت بالقيام بين يدي الله عز وجل وحسن طاعته والإنابة إليه؟! ذهبت حلاوة العبادة والاعتكاف! وضاعت الأوقات في قيل وقال! وغير ذلك من فضول الكلام، فليهتد العبد بهدي السلف الصالح.
كان مسلم بن يسار رجلاً من خيار السلف الصالح، وكان رجلاً إذا قام في صلاته لم يلتفت إلى شيءٍ ألبتة.
أُثر عنه رحمه الله أنه قام في مسجده فصلى في الضحى، وكان الناس يتبايعون في السوق، فسقط جانب المسجد ولم يعلم به مسلم رحمه الله، وجاء الناس سراعاً من السوق يخافون أنه هلك تحت تلك الأنقاض فوجدوه قائماً يصلي ما شعر بسقوطه إلا بعد السلام.
أين أولئك الرجال؟!! أين أهل العبادة؟!! أين أهل الخشوع والخضوع؟!! أين تلك الأقدام الصادقة في موقفها، والسواعد المنيبة لربها، والقلوب المستشعرة لعظمة القهار سبحانه وتعالى؟!! فكم من أناس وقفوا تلك المواقف الكريمة في معتكفهم فأصابوا من الخير ما لا يعلمه إلا الله! الاعتكاف مدرسة تهيئ العبد للخلوة بذكر الله عز وجل، وإلا لماذا تُركت البيوت -ما تُركت البيوت التي فيها الحقوق والواجبات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه يشد مئزره، ويوقظ أهله، ويعتكف تلك العشر- ما ذلك إلا لعظيم فضل العبادة في المساجد، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] قال: هي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل في كتابه بها؛ لكي ينبه على عظيم شأنها.
فلنكن صادقين في اعتكافنا، وإذا كان ولا بد -وأراد الإنسان أن يعتكف مع أناس- فليجعل له مقاماً يخلو فيه بربه.
المعتكف تذكر ماضياً فرَّط فيه في جنب الله، وتذكر مستقبلاً لا يدري ما غيبته الأقدار، فدخل إلى المعتكف يبكي على ماضٍ فرط فيه في جنب الله، ومستقبل لا يدري كيف حاله ولا مصيره ومآله! ألهاه حاله عن الناس ألهاه حاله عن قيل وقال، وإضاعة العمر فيما لا يرضي الله عز وجل.
فهذه وصية إلى المعتكفين، ووصية لنا أجمعين، إذا دخلنا المساجد أن نعطيها حقها وقدرها.
فالصيام والقيام مطية لمرضاة الملك العلام، فـ: (من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) لذلك أحبتي في الله، لنتهيأ لهذا الشهر، ولنعد له العدة صادقين في قبوله والإقبال عليه.
اللهم رب شعبان ورمضان ورب الشهور كلها نسألك أن تبلغنا رمضان، اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، اللهم بلغنا رمضان.
اللهم إنا نسألك شهراً يرضيك عنا، اللهم إن كتبت لنا فيه الحياة فنسألك أن تجعلنا أحظ العباد عندك في الرحمة والمغفرة والعتق من النار، اللهم إنا نسألك الفوز بالعتق من النار.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى إن كنت تعلم أنا إليك ماضون، وإليك مسافرون مرتحلون أن تبلغنا أجر رمضان قبل بلوغه.
اللهم ونسألك أن ترحمنا برحمتك الواسعة، وأن تذكرنا في تلك الظلمة وذلك الحشر العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك شهراً يرضيك عنا، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن رغم أنفه فدخل عليه شهر رمضان فلم يغفر له، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن رغم أنفه فدخل شهر رمضان وخرج ولم يغفر له.
اللهم ارحم موتى المسلمين الذين كانوا يؤملون العيش معنا، اللهم ارحم موتى المسلمين أجمعين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.(34/14)
أن يكون الاعتكاف خالصاً لله
أولاً: أن يخلص لله في اعتكافه ويكون كل مراده أن يخرج من ذلك المعتكف والله راضٍ عنه.
إذا خرجت إلى الاعتكاف خرجت بنية خالصة لوجه الله عز وجل، ولو كان بيدك أن لا يطلع أحد ولا يعلم بأنك اعتكفت شيئاً من رمضان لفعلت، فأين الشباب؟! أين أولئك الذين يتحدثون بالاعتكاف ويتباهون به والعياذ بالله، والعجب كل العجب أن الشاب يخبرك باعتكافه من أول رمضان، ويقول: إذا جاء العشر فأنا معتكف! فأخلص لله واهتد بالسلف الصالح، وغيب ما بينك وبين الله عز وجل، فذلك أسلم لدينك وأكمل لطاعة ربك، اعتكف وأنت ترجو رحمة الله عز وجل، فإن هجران البيوت والإيواء إلى بيوت الله وعمارتها بالاعتكاف يقع عند الله عز وجل بمكان، فاتق الله في اعتكافك، ولتكن مخلصاً في خروجك لوجه ربك.(34/15)
وصية نبوية
من جوامع الكلم التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم قوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع …) الحديث، فقد اشتمل هذا الحديث على ثلاث وصايا شاملة لخيري الدنيا والآخرة، أولها: التقوى، فحري بكل مسلم أن يتمسك بها ويطبقها خير تطبيق.(35/1)
صفحات مشرقة من تاريخ أبي ذر الغفاري
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله! إن الله إذا أحب عبداً من عباده ألهمه فعل الخيرات وترك الفواحش والمنكرات، وحبب إلى قلبه الباقيات الصالحات، فالحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك في بيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، فـ (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ولقد وجبت محبة ربك للمتحابين فيه، وللمتجالسين فيه، وللمتزاورين فيه، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
إخواني في الله! إن الله بعث نبيه بالهدى والنور، فشرح به القلوب، وأنار به الصدور، بعثه شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل هدى ولا بر ولا طاعة إلا هدانا إليه، أخذ بمجامع قلوب الناس إلى ربها، ودلهم على الله خالقها وفاطرها، فيا لها من كلمات وعظات بالغات خشعت لها قلوب الصحابة والصحابيات! يوم وقف النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وصدع بكلمة الله في رحابهم، ففتح الله له قلوبهم وأسماعهم؛ فخشعت تلك القلوب لربها، وأصغت إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ويعظها، وهذه كلمة من تلك الكلمات ووصية من الوصايا البالغات حفظها أبو ذر الصحابي الأغر البر، صاحب العلم والزهد جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل طيب الجنة مسكنه ومثواه، رضي الله عن أبي ذر -صفحات الإيمان والتضحية والصبر- يوم خرج ودان أهله وعشيرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، خرج بقربة من الماء صغيرة، ولكن بقلب كبير يريد أن يضع فيه الإيمان بالله اللطيف الخبير، وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه التوحيد والإيمان، عرض عليه الوحي والقرآن، وعرض عليه نبذ الجاهلية والأوثان، فما فارقت قدما أبي ذر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رضي الله عنه وأرضاه يوم أسلم لربه ومولاه؛ فبرقت أسارير السرور في وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
رضي الله عنه وأرضاه يوم أن أرضى رسول الله وأدخل السرور على حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فما إن دخل ذلك الإيمان إلى ذلك القلب حتى تغلغل في سويدائه فقال: (والله لأصدعن بكلمة الحق بين ظهرانيهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليك أن يقتلوك) فخرج رضي الله عنه وأرضاه مؤمناً موقناً متوكلاً، خرج لكي يقول كلمة الله، فخرج في يوم كان فيه خامس من أسلم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مسجد الكعبة وقد جلست فيه قريش برجالها وأبنائها، فوقف أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه عليهم وصاح صيحته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فما بقي رجل إلا قام إليه وضربه؛ حتى سالت دماؤه رضي الله عنه وأرضاه، فلما سالت دماؤه كتب أجره وعظم ثوابه، وخرج من الدنيا وله صفحة يوم ابتلي فيها في جنب الله، خرج من الدنيا وله يومٌ أوذي فيه في جنب الله وفي ذاته، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدقه ومحبته وإيمانه أمره أن يسير إلى قومه مسير البشير النذير فخرج هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ فأسلمت غفار عن بكرة أبيها، وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله وتشهد بالنبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في ذلك اليوم عليه الصلاة والسلام، فلما رأى إسلامها قال عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها) وغفار هم قوم أبي ذر، بل ثمرة أبي ذر اليانعة، فرضي الله عنه وأرضاه.
وما زال أبو ذر يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد المشاهد، يجاهد ويجالد حتى ابتلى ربك أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالغزوات والمشاهد المباركات، فجاءت غزوة العسرة في زمان شديد الحر والقر، في شدة الصيف إلى عدو شديد كلبه، عظيم خطره، فندب النبي صلى الله عليه وسلم رجال الإيمان إلى أهل الجاهلية والأوثان، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصليب وعبدة الأوثان، فخرج أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه مع نبي الهدى يجاهد العدى حتى سار المفازات، وقطع المسافات الشاسعات، لا يصيبه ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا أُجر، حتى تعطل به بعيره عن المسير فوضع متاعه على ظهره وخرج في شدة الهاجرة والظهيرة -والمتاع على ظهره- يتصبب عرقاً فرآه الصحابة من بعيد فقالوا: فلان، لا بل فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا ذر رحمك الله يا أبا ذر تعيش وحيداً، وتموت فريداً) فعاش رضي الله عنه وأرضاه عيشة الإيمان والإحسان.(35/2)
وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر
في هذا اللقاء نقف أمام وصية من الوصايا سمعتها أذنا أبا ذر ووعاها قلبه، ونجلس اليوم نعطر مجالسنا بذكرها، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجره وثوابه عليها، اللهم اجعل قبره في هذه الساعة أنواراً، اللهم عظم أجره، اللهم نور قبره يا ذا الجلال والإكرام! وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يا من تؤمن بالله، ويا من تؤمنين بالله، إليك يا من ترجو لقاء الله وتخافه وتتقيه، وتعلم علم اليقين أنك موقوف بين يديه، هذه الوصية ثلاث كلمات، كلمتان عظيمتان كريمتان بينك وبين الله جل جلاله، اثنان بينك وبين الرحمن، وثالثة بينك وبين الناس، من حفظ هذه الوصايا الثلاث حفظه الله جل جلاله.(35/3)
الوصية الثالثة: حسن الخلق مع الناس
أحبتي في الله: الوصية الثالثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصية بينك وبين خلق الله، سيرة عطرة، ومواقف جميلة جليلة، نظرة تحقق بها الإسلام والعبودية والهداية والالتزام، هذه الوصية العظيمة قسمة من الله جل وعلا، لا يعطيها إلا من أحب، ألا وهي الخلق الحسن، الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، سأله الصحابة رضوان الله عليهم وكلهم شوق إلى رحمة الله وجنته، سمعوا القرآن يدعوهم إلى الجنة، فوجهوا السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الجنة التي وصفها الله في كتابه، أي شيء يكون سبباً في دخولها؟ وما هو أكثر ما يدخل الناس إلى الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق) أكثر ما يُدخل الناس إلى الجنة تقوى الله وحسن الخلق.
وإذا نصبت الموازين ونشرت الدواوين، فإن الإنسان أحوج ما يكون إلى الحسنات، حتى إذا قدم على الله جل وعلا وفي صحائف أعماله الأخلاق الكريمة ثقل الله ميزانه بها، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: تقوى الله وحسن الخلق).
وإذا دخلت إلى الجنة كانت أمنيتك مرافقة النبيين وجوار الصالحين مع الذين أنعم عليهم رب العالمين، نسأل الله العظيم أن يبلغنا الجنة بمنه ورحمته وهو أرحم الراحمين.
يدخل العبد الجنة وكله شوق أن تكون منزلته في أعالي المنازل، فإذا دخلها وكان طيب الخلق رفعت درجاته ومنازله، ورأى أمام عينيه عواقب الأخلاق الحميدة، ومعاملة الناس والعطف عليهم، والشفقة على المسلمين وتفريج النكبات والفجائع عن المنكوبين، رآها أمام عينيه جزاءً وفاقاً، فما جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ، رآها عند رب كريم منان لا يضيع عمل العاملين وسعي الساعين، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (ألا أنبئكم) أي: ألا أحدثكم، ألا أخبركم، فنبأنا بأمر غيبي لا تراه عيوننا ولا تسمعه آذاننا، عالم غير العالم الذي نحن فيه، ألا أنبئكم عن أمر من غيب أطلعه الله علي جل جلاله: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) فما أعظمها من كلمة! وما أعظمه من وصف! (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أن تكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من يدك ولسانك وزلات جوارحك وأركانك، تستقيم على طاعة الله، حتى إذا رآك العبد كأنه يرى شمائل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن من الأخيار من لو رأيته ذكرت الله عند رؤيته، من الأخيار من إذا سمعت قوله في حال الغضب أو سمعت قوله في حال الرضا علمت أن وراء هذا القول قلباً يخاف الله جل جلاله، الأخلاق الحميدة تعيش بها حميداً، وتموت بها قرير العين راضياً عن ربك سعيداً، مات أناس وهم في الناس أحياء بسيرتهم العطرة وأخلاقهم الجليلة الجميلة النظرة، عاشوا في الناس وهم أموات في القبور، يذكرون بالجميل، ويترحم عليهم الحقير والجليل، فرحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وتلك الجوارح التي أرادت وجه الله جل جلاله في سعيها.
أحبتي في الله! الأخلاق عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة والقلوب التي مُلئت حمقاً وغيظاً على المسلمين، ولكن قول سديد وعمل صالح رشيد، تعلم أن وراءه عبداً يرجو الوعد ويخاف الوعيد.
الأخلاق منحة من الله جل جلاله، ألا وإن أحق الناس بأخلاقك وأحق الناس بعطفك وحنانك وبرك وإحسانك ومن تظهر له الخلق الحسن والداك: أمك وأبوك: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24]، كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا وقف على الباب وأمه بالبيت قرع الباب وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا أماه كما ربيتني صغيراً، فقالت أمه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا بني كما بررتني كبيراً.
وكان عثمان رضي الله عنه وأرضاه لا يرفع بصره في وجه أمه كما تقول عائشة: [كان أبر الناس بأمه لا يرفع بصره إلى وجهها].
وسئل بعض السلف: ما بلغ بك من برك لأبيك؟ قال: والله ما رقيت على سطح تحته أبي أو أمي.
وقيل لثالث: ما بلغ بك من برك لوالديك؟ قال: والله ما طعمت معهما من قصعة واحدة، قيل: أو ذاك من البر؟ قال: أخشى أن تمتد يدي إلى طعام يحبانه.
وكان بعض الأخيار إذا قدم بالمال إلى والديه يضع المال أمام والده، فقيل له: ما هذا؟ قال: إنني أخشى إذا مددت يدي أن تعلو يدي على يد أبي فيكون فضلي على أبي، وفضله عليَّ على فضلي عليه.
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم إذا طلبت أمه الحاجة ولم يفهم كلامها، لم يستطع أن يستبين منها حتى يخرج ويسأل من كان جالساً: ماذا تقول أمه؟.
وكان محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وإماماً من العلماء المجتهدين، رحمة الله عليهم أجمعين، هذا الإمام العظيم كان ديواناً في العلم من تلامذة أنس بن مالك، وكان في غاية من العلم والصلاح والورع وتقوى الله جل جلاله، قال بعض من صحبه وقد جاوره: كان إذا جن الليل سمعنا بكاءه بالقرآن في الظلمات، وكان إذا جلس مع أصحابه ضحك ومزح وأدخل السرور عليهم، فإذا دخلت أمه عليه خشع كأنه مصاب بمصيبة رحمة الله عليه.
كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبرون بالوالدين، أحق الناس بعطفك وإحسانك وبرك والداك، فمن مجلسك هذا تعاهد الله على أن تغير في أخلاقك ومعاملتك، قال بعض السلف: من عبس وجهه بحضور والديه فقد عق والديه.
وقال بعضهم: من نادى أباه باسمه فقد عقه، ومن نادى أمه باسمها فقد عقها، إنما يقول: يا أماه، ويقول: يا أبتاه.
هذه من البر والأخلاق الحميدة، فلا تزال تبر الوالدين فتقوم من عندهما وقد رفعت الدعوات إلى الله لك بالأمور التي تنشرح بها الصدور وتأمن بها من هول البعث والنشور، وما زال البار يبر والديه حتى استجاب الله دعوته وفرج الله نكبته وكربته، كما في حديث الثلاثة الذين في الغار، وما زال البار يبر والديه حتى عزت عند الله دعوته فما رد له دعوة سأله فيها، كما في قصة أويس القرني رحمة الله عليه.
أحق الناس بأخلاقك الحميدة زوجتك وأهلك وأولادك، تكون على شمائل عطرة، سل عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، سل عن أخلاقه العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة مع الصغير والكبير، وخذ ذلك المثال الذي يحتذى به، هذا هو الالتزام وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: (وخالق الناس بخلق حسن) فتبدأ أول ما تبدأ بوالديك ثم بأهلك وأولادك، تدخل إليهم حليماً رفيقاً براً رقيقاً، حتى تكسب تلك القلوب بالحنان والمودة والإحسان، وكم من أب ما زال يحسن إلى أهله حتى خرج من الدنيا وقد أسر قلوبهم بالجميل، وكم من زوج صالح خرج من الدنيا وقد أسر قلب امرأته بالجميل والعمل الصالح الجليل.
أحبتي في الله! الأهل أحوج ما يكونون إلى الأخلاق الحميدة، فالعفو عن زلتهم، والصبر على أذيتهم، واحتساب الأجر فيما يكون منهم.
كذلك أحق الناس بأخلاقك الحميدة العلماء والدعاة إلى الله، فيذكرون بالجميل، ومن ذكرهم بغير ذلك تنقصاً فقد ضل عن سواء السبيل.
العلماء مشاعل الحكمة والنور، أهل الهدى والخير والرحمة والبشر والسرور -فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجورهم، وأن يشرح صدورهم، وأن يخلد حبهم في العباد- فحبهم في الله قربى، والدعاء لهم بظهر الغيب حسنة، لا يحبهم إلا مؤمن يخاف الله، ولا يذكرهم بالجليل إلا من يتقي الله، فهم أحق الناس بالأخلاق الحميدة، فإذا رأيت العالم فتواضع له وأجله وأكرمه، كان ابن عباس رضي الله عنهما -حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أرفع الناس علماً ونسباً وفضلاً ونبلاً- كان ينام على عتبة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فالعلماء حقهم كبير، عيون سهرت وقد نامت عيون الناس، سهرت على مشاكل المسلمين وهمومهم وغمومهم ومسائلهم، فالله أعلم كم تكبدوا من مشاق، وصدعوا بحق دمغ أهل الزيغ والنفاق، العلماء حقهم كبير، فكن -رحمك الله- من أحسن الناس خلقاً مع العلماء، وإذا جلست بين يدي عالم فكن التلميذ المبرز في الخلق الحميد، وإذا جلست في مجلسه فكن التلميذ المبرز في الكلمات الطيبة التي تدل على إجلال من أمر الله بإجلاله، وتعظيم من أمر الله بتعظيمه، وتوقير من أمر الله بتوقيره، فتلك سنة الصالحين، ودأب عباد الله المتقين جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين.
ثم أحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى، فتواضع لهم فإن رحمة الله في التواضع لهم، وأدخل السرور عليهم فمن سرهم سره الله يوم المساءة، تفقد عورات المسلمين والضعفة والمحتاجين، وافتح قلبك لهمومهم وأحزانهم، واحتسب عند الله جل جلاله، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولعل مالاً تنفقه يحجبك الله به عن النار، ولعل كربة تفرجها يفرج الله عنك بها كربة يوم القرار، احتسب عند الله في ضعفة المسلمين فإنهم أحق الناس بعطفك وحنانك، واحتسب عند الله جل وعلا ألا يراك العبد إلا على فعل جليل، وألا يسمع الناس منك إلا القول الجميل.
أحبتي في الله! عشنا مع وصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشنا مع هذه الوصية وقد نقلت اليوم إلينا فهي إما حجة لنا أو حجة علينا.
اللهم إن نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وكمالك أن تجعل علمنا نافعاً وصالحاً، وأن تجعله حجة لنا لا حجة علينا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.(35/4)
الوصية الأولى: تقوى الله
هذه الوصايا الثلاث تزيد جمال المؤمن وكماله وبهاءه وزينته عند الله، استفتحها نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه: (اتق الله).
التقوى وصية الله للأولين والآخرين ووصيته للأنبياء والمرسلين.
التقوى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عقابه.
التقوى ألا يراك الله حيث يحب أن يفقدك، ولا يفقدك حيث يحب أن يراك.
التقوى نور في القلوب، ظهرت آثاره على الجوارح والقوالب، نور أسكنه الله في قلوب المؤمنين، فلا يعلم قدره أحد سواه، فالله أعلم بالمتقين والخائفين، وبالصادقين المخلصين.
التقوى صفات أهل الإيمان، وخلال أهل الطاعة والإحسان، وَقَرت في القلوب والجنان.
التقوى سبب الصلاح ومنبع الفلاح والإصلاح، أهلها الرابحون لا أشقياء ولا محرومون.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منها أوفر حظ ونصيب.
تقوى الله أن تتقي الله -أول ما تتقيه- في إيمانك، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك.
تقوى الله أن تلتزم بدين الله وطاعته حتى إذا جاءتك المنية جاءتك على الخيرات والباقيات الصالحات، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك وإيمانك، فتنصب وجهك لله لا لشيءٍ سواه، حتى إذا جاءك الأجل جاءك على الخيرات والباقيات الصالحات، فما زالت التقوى بأهلها حتى أخرجتهم بالروح والريحان والرحمة والرضوان ورب راض عنهم غير غضبان.
التقوى تمسكٌ بحبل الله المتين، وسير على صراطه المستبين، حتى إذا جاءك الموت نعمت عينك عن ربك، ورأيت أمامك صحائف الأعمال والأقوال فقلت: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقلت بلسان الحال والمقال: اللهم إني راضٍ عنك فارض عني.
يخرج التقي من الدنيا نقياً، خالياً من المعاصي سرياً، تحجر قلبه عند حدود الله، وتحفظت جوارحه عن محارم الله، فالله أعلم كم رجفت قلوب المتقين من هيبته، والله أعلم كم خافت قلوب المتقين من جلاله وخشيته.
التقوى نور في القلوب وأثره في الجوارح والقوالب كما قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره وقلبه صلى الله عليه وسلم) قال بعض العلماء: اختار الله للتقوى أجلَّ الأماكن وأشرفها وهو القلب؛ حتى يكون العبد مخلصاً لوجهه جل جلاله.
وأول ما ينبغي على المتقي أن يتقي الله في دينه وإيمانه، فلا يضحي بشيء من هذا الدين والإيمان، إذا التزمت واستقمت وآمنت تمسكت بحبل الله، واتقيت الله في نوره الذي قذفه في قلبك.
هذا الإيمان والالتزام والهداية نور وضعه الله في قلبك وحرمه سواك، فاحمد الله على نعمته، واشكره على فضله ومنه وكرمه، لم يجعلك ساجداً لحجر، ولا معظماً لوثن ولا بقر، ولكن جعلك ساجداً لوجهه، ذلت له رقابنا، وخشعت له قلوبنا، وسجدت له جباهنا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي، فكل يوم يمر على المهتدين حق عليهم أن يتقوا الله رب العالمين في التزامهم، ومن دلائل تقوى الملتزم لله أنه تثبت قدمه على طاعة الله جل جلاله، هذه الهداية رحمة فازدد منها حتى تكون من المهتدين، تزداد بعلم نافع وعمل صالح، تزداد منها بغشيان حلق الذكر وبمجالسة العلماء والصلحاء، تزداد منها بعشرة الأخيار والأبرار، تزاد منها بكلمة ترضي الله عنك أو خصلة من خصال الخير في يدك أو رجلك أو في جوارحك كلها.
تقوى الله رحمة من الله، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يهبه هذه الرحمة، وهذه الرحمة لا تنال بالأماني ولا بالشهوات والدعوات، ولكن بالدعاء الصادق لله جل جلاله أن يجعلك من المتقين، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أسألك الهدى والتُقى) اللهم يا رب الأرباب! ويا سامع الدعاء! ويا واهب الخير وكاشف البلاء! أسألك أن تهب لي الهدى والتُقى، فاسأل الله أن يهبك هذا النور، سله في السجود وأدبار المكتوبات والأسحار والأذان والإقامة، وتحين حالة يخشع فيها قلبك، وتسأل فيها حاجة إلا قرنتها بتقوى الله جل جلاله، إن اتقيت الله أحبك، والله يحب المتقين، إن اتقيت الله فرج كربك، والله يفرج كرب المكروبين: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً؛ ومن كل ضيق مخرجاً، ويجعل له نوراً وفرقاناً يسير به إلى لقائه سبحانه وتعالى: (اتق الله حيث ما كنت) التقوى لا تكون في بيوت الله وحدها حتى إذا خرج الإنسان إلى تجارته أو مسكنه أو عمارته أو مزرعته كشَّر عن أنيابه لدنياه، وغفل عن لقاء ربه وأخراه، ولكنها لزمت القلوب وتعلقت بها حيثما كان الإنسان، إن سافر كان من المتقين، وإن أقام كان من المتقين، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في السفر: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) تقوى الله في كل زمان ومكان، وتقوى الله في الأقوال والأحوال، فإذا رضيت فاتق الله واشكره، وإذا أنعم عليك فاتق الله وتشكره، وإذا قرت عينك اتقيت الله وحمدته، فإن الله يرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها، تقوى الله تكون في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وبين الناس وفي أهلك وولدك.(35/5)
الوصية الثانية: الإتيان بالحسنة بعد السيئة
أما الوصية الثانية: فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل ولكنها وصية للمؤمنين والمؤمنات، وصية للصالحين والصالحات، ووصية للعاصين والعاصيات، هذه الوصية ما أحوج المؤمن أن يتأملها وأن يتدبرها وأن ينظر فيها، فما أحكمه وما أعلمه صلوات ربي وسلامه عليه يوم جعل هذه الوصية تلو الوصية بتقوى الله! هذه الوصية الثانية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) السيئة: سماها الله وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم؛ لأنها تسوء صاحبها في الدنيا والبرزخ والآخرة.
السيئة تسيء إلى صاحبها في الحياة وفي الممات، فلا تزال السيئة مكتوبة في ديوان العبد حتى يمحصه الله منها، إما ببلية في الدنيا أو بتوبة صادقة إلى الله قبل الموت، أو ببلية يصيبه بها أو بعذاب يبتليه به في قبره، أو بعذاب يبتليه به في حشره ونشره، السيئة بلاء وشقاء وعناء، من سلم منها فقد سلم، ومن بلي بها فقد حرم، إلا أن يرحمه الله برحمته.
أعظم السيئات كفر بالله جل جلاله، وردة عن الإسلام وإعراض عن الله بالكلية: بالاستهزاء بالدين، أو الاستخفاف بالصالحين، أو التهكم بشعائر رب العالمين.
أعظم السيئات: إطلاق اللسان في الفواحش والمنكرات، وإطلاق الجوارح في الفواحش والمنكرات، واستباحة حدود الله، وانتهاك محارم الله بسفك الدماء، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك -والعياذ بالله- من معاصٍ وفجور، كلها شقاء وبلاء وعناء ينطمس بها نور الإيمان على قدرها عند الله العظيم الرحمن.
ما زالت السيئة بصاحبها حتى أظلم وجهه وقلبه وتنكد عيشه، ولربما حجبت الرزق عنه والعياذ بالله.
قال الفضيل رحمه الله: إذا رأيت الناس سبوك أو شتموك أو أهانوك؛ فاعلم أن لك ذنباً بينك وبين الله، وإذا رأيت الناس احتقروك أو ذموك أو عابوك فاعلم أنها السيئات جنت عليك في الحياة قبل الممات.
فتب إلى الله قبل أن ينتقم الله منك.
السيئة تسوء صاحبها في دينه فتطمس نور الإيمان من قلبه، قالوا: إنه ما من عاص يعصي الله إلا حرم من العلم على قدر معصيته، وقد يكون من الحفاظ فيسلبه الله نعمة الحفظ، وقد يكون من الخاشعين فيسلب نعمة الخشوع، وقد يكون من القائمين والذاكرين والمخبتين والمنيبين والصائمين فترفع هذه الحسنات بسبب ذنب بينه وبين الله جل جلاله.
السيئة تسوء صاحبها حتى إذا حرم هذا الخير بكى حين لا ينفع البكاء والندم إلا أن يشاء الله جل جلاله.
فلما علم صلى الله عليه وسلم -بل علم ربه الذي أرسله وبعثه- أننا لا نستطيع أن نتقيه كمال التقوى إلا أن يرحمنا برحمته، وعلم أن منا هنات وزلات وعيوب ومنكرات دلنا على علاجها، وأرشدنا إلى دوائها، فقال: (أَتبع السيئة الحسنة تمحها) قال بعض العلماء: الحسنة قول العبد الصالح: أستغفر الله أستغفر الله حسنة من أعظم الحسنات التي تمحو السيئات، وما من إنسان إلا عنده عورات وخطيئات ولو كان من صالح المؤمنين والمؤمنات، ولكن الله جل جلاله برحمته يرحمك، فأولاً: لا يبادرك بعقوبته، وثانياً: يتولى بجميل لطفه وعظيم رحمته وحلمه سترك وأنت تعصيه، سبحانه ما أحلمه وما أرحمه! حين يغلق العبد بابه على حد من حدود الله وهو يعلم علم اليقين أن الله يسمعه ويراه، وهو يعلم أن هذه الأرض التي يعصي عليها الله لو أذن لها لخسفت به، وأن هذه السماء التي يستظل بها لو أذن الله لها لأرسلت عليه ما يهلكه، ومع هذا كله يتولاه الله بالرحمة والستر تفضلاً منه وكرماً وجوداً سبحانه وتعالى، حتى إذا انتهى الإنسان من معصيته انطفأ نور الإيمان من قلبه على قدر ما أصاب من السيئات، فعاد قلبه مظلماً بعد النور، وعاد منقبضاً بعد الانشراح والسرور، عاد قلبه ضيقاً عليه فأرشده الله جل وعلا على لسان رسوله أن يتبع السيئة الحسنة، وأن يقول بقلب يستشعر الندم مليءٍ بالحزن والألم: اللهم إني أسأت وأنت المحسن إلي، وأذنبت وأنت الغافر الجواد الذي تمن عليَّ، فيريق دمعة من دموع الندم فلعلها تمحو ذنبه فلا يراه أبداً.
علم الله أنا مذنبون ومقصرون، لكنه فتح أبواب رحمته، قال له إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني، فالله رحيم بعباده وحليم بخلقه.
(اتبع السيئة الحسنة تمحها) إن كنت من الصالحين، فهذا نداء من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن صالح، ضعفت نفسه الأمارة بالسوء، فدعته إلى المنكرات والفواحش والشهوات فأصابه الهم أن يرجع إلى الله جل جلاله، ثم هذه الدعوة الطيبة المباركة لأقوام كانوا بيننا فابتعدوا عنا، كانوا فينا فأصبحوا ليسوا منا، لأقوام انتكسوا ورجعوا على أعقابهم فارتكسوا، هذا النداء الرحيم الحليم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها).
يا من أذنبت وأسرفت وبعدت عن الله! يا من تغربت عن الله! أتبع السيئة الحسنة تمحها، قل في ساعة المعصية بقلب صادق: أستغفر الله، فإن الله يغفر الذنوب، قل في هذه الساعة: أتوب إلى الله، فإن الله يرحم التوابين والمستغفرين، تب إلى الله قبل أن يداهمك الممات وتصير إلى اللحود والرفات، فالله جل جلاله جعل هذه الوصية سلواناً للمسيئين والمذنبين، فرحماك يا أرحم الراحمين! ما أرحمك وما أحلمك بهذا الخلق من بني آدم! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
ما زال ربنا يكرمنا ونهين أنفسنا، ويرحمنا ونعذب أرواحنا، فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك.(35/6)
الأسئلة(35/7)
لا يوجد في حياة المسلم وقت يضيعه
السؤال
ما حكم لعب (البلوت) والسهر من أجله إذا كان ذلك لا يؤثر على تأدية الفروض، ولا يتخلله سب ولا حلف بالله؟
الجواب
أعند الإنسان وقت حتى يلعب الورق؟ الله المستعان، نسأل الله العظيم ألا يبتلينا بالغفلة، وألا يجعلنا من أهل الحرمان، تصور يا أخي أهل القبور وهم الآن في ضيقها وفي لحودها يتمنون التسبيح والاستغفار! تصور أهل القبور الآن وهم في ظلمتها وكربتها وشدتها ومحنتها وهم يتمنون حسنة واحدة تزاد في الأعمال! وهذا العمر الذي أعطاك الله إياه تنفقه في اللعب، أعندك فراغ من الوقت وأنت بين طرفة عين وغمضتها قد تفارق هذه الحياة، وقد تصير إلى ما صار إليه القوم، وتصرع كما صرعوا، وتنزل منازلهم التي نزلوا، وإنا إلى ما صار إليه القوم صائرون، وإلى ما انقلبوا إليه منقلبون؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون! فيا أخي في الله! دع مسألة الورق على جنب، ولكن هذا مرض قلب، فابدأ بقلبك أولاً، هذه غفلة والله حتى لو كان جائزاً، أعندك وقت تضيعه في غير طاعة الله جل وعلا؟ أعندك وقت تضيعه في الفضول؟ فليست المشكلة أن تقول: حرام، ويقول غيرك: جائز، لا، اتركنا في الأصل، هب أنه جائز ومباح، ولو أنه لا يقل عن درجة المكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل لهو باطل) فهذا أقل درجاته أنه مكروه، وإلا فمن العلماء من يرى أنه في حكم النرد الذي حرمه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، لكن الذي نسأل عنها الآن هي الغفلة ولو كان مباحاً: هل لإنسان عنده نفس ينعم الله عليه بالحياة، ويجعل هذه الروح تدب في الجسد، أن يجلس ويلعب ورق؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! فنسأل الله العظيم ألا يميت قلوبنا! يا أخي! انتبه من غفلتك واتق الله فيما أنت فيه، واعلم أن الله سائلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه …)، فتعرض أمام عينيك، ساعات السهر واللعب بالبلوت والورق وتجدها أمام عينيك لا تفقد منها ثانية واحدة، وتراها أمام عينيك: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
فيا أخي! اتق الله في هذا العمر، وفي ساعاته ولحظاته، واحمد الله جل وعلا، كم من أناس على الأسرة البيضاء يتمنون العافية التي أنت فيها، كم من إنسان مريض على فراشه في هذه اللحظة التي تلعب فيها الورق، وهو يتأوه ويقول: يا ليت لي مثل ما لك من العافية، أكان جزاء شكر نعمة الله بالعافية أن تضيعها هدراً؟ أيسرك وأنت واقف بين يدي الله والناس حاف عار في العرض الأكبر أن يأتي في صحيفة عملك ساعة في لهو من هذا اللهو؟ لا والله.
فنسأل الله العظيم أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وألا يكتب لنا الخزي والفضيحة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أسال الله العظيم أن يشكر سعيكم، وأن يعظم أجرنا وأجركم، وأن يفرق هذا الجمع بذنب مغفور، وعمل صالح مبرور، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: (قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(35/8)
مخالفة أمر الله لأجل إرضاء الزوج لا تجوز
السؤال
أنا أوقظ زوجي لصلاة الفجر، ومع ذلك يغضب عليَّ ويهجرني ولا يكلمني؛ لأنني أيقظته للصلاة، بحجة: أنه يأتي من العمل وهو متعب، فيريد أن يرتاح في هذا الوقت؟
الجواب
جزاك الله كل خير، عظم الله أجرك وأحسن ثوابك، اشكري نعمة الله عز وجل عليكِ يوم نظر إليكِ في بيتك ومع زوجك وأنت تأمرينه بطاعة الله جل جلاله، هنيئاً لكِ هذا الفضل يوم أمرتِ بما أمر الله ونهيتِ عما نهى الله عنه، فذلك شأن الأخيار والصفوة الأبرار، وتلك نعمة الله جل وعلا يمن بها على من يشاء، فاحمدي فضل الله عليكِ إذ جعلك امرأة صالحة، توقظي زوجك إذا نام، وتنبهيه إذا غفل، وتحيي قلبه بذكر الله جل جلاله.
أختي المؤمنة! استمري على ما أنتِ عليه، فإن غضب عليكِ فإن الله لا يغضب، وإن غضب عليك رضي الله، وإن أرضيتِ الله أرضى عنك الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) فأرضي الله جل وعلا ولو سخط زوجكِ ولو هجرك ولو غضب عليك، فبلغي رسالة الله وذكريه بالله حتى تنعم عينك غداً بثواب الله، والله تعالى أعلم.(35/9)
من أصيب بالعجب فليتذكر نعم الله عليه
السؤال
كيف نتخلص من العجب بالعمل؟
الجواب
الله المستعان، هل عندنا عمل حتى نعجب؟! الله المستعان، أين قيام الليل؟! وأين صيام النهار؟! أين بكاء الأسحار؟! وأين القنوت؟! وأين الخشوع الذي رفع من القلوب إلا ما شاء الله جل جلاله؟! كان الرجل إذا نُظر إليه ذُكِر الله جل جلاله، لا شك أن نعمة الله علينا عظيمة ولكن نغتر بماذا؟ مع السيئات والخطيئات وفتن النظر وفضول الكلام؟! تأمل نفسك يوماً كاملاً -ولو كنت أعبد الناس- هل سلم المسلمون من لسانك؟! تأمل يوماً كاملاً ما الذي قلته منذ أن أنعم الله عليك فأحياك وأمات غيرك، فقمت من صباحك الباكر إلى أن أويت إلى فراشك ما الذي تكلمت به وما الذي قلته؟ وانظر إلى الذي قلته من الكلام الذي يرضي الله، كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعدون الكلام الذي يقولونه بغير ذكر الله جل جلاله، هل بلغت هذا المبلغ؟! بأي شيء تعجب؟! بأي شيء تغتر؟! كان السلف الصالح رحمهم الله إذا قيل لأحدهم: اتق الله، خشع وجلس يبكي، ولربما غشي عليه، فهل بلغت هذا المبلغ؟ وهل عندك علم بلغت به أعالي المراتب فأجبت به عن المسائل وحللت به المشكلات والنوازل حتى بلغت الغاية والتفوق، حتى تغتر بما أنت فيه؟ أي شيء عندنا حتى نغتر؟ جهل وإسراف وبعد عن الله جل وعلا إلا أن يرحمنا الله برحمته، ومع ذلك يعد الإنسان نفسه وكأنه أصلح الخلق، إذا أطلق لحيته وقصر ثوبه وصلى في المسجد فكأنه إمام زمانه علماً وصلاحاً وورعاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فإن العبد يحرم البركة في إخلاصه واستقامته والتزامه بعجبه بنفسه، فلا تغتر ولا تعجب، قال مطرف رحمه الله: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً] أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ لأن الله بالندم يبلغه درجة العامل، أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً، وكم من عبد أعجب بنفسه حتى مكر الله به وبعلمه، ويعجب العالم فينزع الله من القلوب حبه، يعجب العالم فينزع الله من القلوب الثقة في كلامه ويصرف وجوه الناس عنه، ويعجب طالب العلم فيمحق بركة العلم وخشوع العلم، فلا يجد لعلمه أثراً على عامله وصلاحه -نسأل الله السلامة والعافية- العجب لا خير فيه، وإذا أردت أن تتخلص من هذا العجب فدعوة صادقة من الله جل جلاله، كل الأمراض -أمراض القلوب وأمراض الأجساد- أول شفاء ودواء لها أن تقول: يا رب وأن تقول: اللهم، من قلب لا يعرف أحداً سواه، تسأل الله أن يعافيك وأن يشفيك، بمجرد أن تصلي فوجدت أنك أعجبت بصلاتك، أو ذكَّرت الناس فأعجبت بتذكيرك، أو وعظتهم فأعجبت بوعظك، فابكِ لله وقل: اللهم إني أسألك ألا يحبط الشيطان عملي فأكون من الخاسرين، اللهم انزع من قلبي العجب بعمل عملته فيما بينك وبينه.
سل الله أن ينزع من قلبك العجب.
الأمر الثاني: النظر إلى الصلحاء وقراءة سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، كثير من الشباب يغتر لأنه ينظر إلى واقعه وقل أن يجد من هو على الكمال والجلال، فليقرأ في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم حتى يعرف منزلته، وليقرأ في أخبار العلماء والصلحاء حتى يعلم أين هو، فهذه من الأمور التي تعين على احتقار الإنسان نفسه.
أما الأمر الثالث: فإن الأعمال ولو صلحت ولو كانت من أحب الأعمال إلى الله فالعبرة كل العبرة على القبول، قد تجلس من طلوع الفجر إلى أن يغلق المسجد في العشاء وأنت تتلو كتاب الله ولا يتقبل الله منك حرفاً واحداً، هل تستطيع أن تقول: لا؟ {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه} [الرعد:41] ولذلك هذا الذي أهم السلف الصالح رحمة الله عليهم، فكانت قلوبهم منكسرة لله عز وجل، يحملون هم القبول: قد آلم القلب أني جاهل ما لي عند الإله أراض هو أو قالي وأن ذلك مخبوء إلى يوم اللقاء ومقفول عليه بأقفال ما أحد يعلم من المقبول ومن المحروم، كان علي رضي الله عنه إذا كانت آخر ليلة من رمضان صاح وبكى وقال: [ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه ومن هو المحروم فنعزيه] وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاه يقول: [لو أعلم أن لي صلاة واحدة مقبولة لاتكلت] ولا يستطيع ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يعلم أن الله تقبل، إلا إذا أطلعه الله جل جلاله، ما أحد يعلم، المدار على القبول، ربما عقوق والديك يحجب عنك القبول، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله واستنبطوه من الآية التي ذكرناها في البر وقال الله عقب البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16] فما يدريك فلعل كلمة أسخطت والديك أو عققت بها والديك حجبت عنك قبول عملك أو صلاحك أو عبادتك، فإذاً الإنسان مداره على القبول، فالإنسان لا يغتر بالعمل وإنما يفوض أمره إلى الله.
الأمر الخامس الذي يعين على احتقار العمل: أن تنظر إلى نعم الله التي تغدق عليك في الصباح والمساء، التي تغدق عليك آناء الليل وأطراف النهار وأنت ترفل فيها، ما الذي يقدم في جنب هذه النعمة، انظر إلى عينك هذه التي حفظها الله لك، ويدك وسمعك وبصرك، وهذه الرحمة الإلهية التي لطف الله عز وجل بها بجوارحك وأركانك حتى وقفت على قدمك وحتى مشيت بها إلى المسجد، وانظر إلى رحمة الله بك يوم صرف عنك الفتن والمحن، وقد كان بالإمكان ألا تقرب مسجداً لذكر الله وطاعته، والله لو شاء الله ما خطت ولا وقعت قدم أحدنا في بيت من بيوته إلا رحمته سبحانه لا إله إلا هو، ما نحن بشيء تحت رحمة الله جل جلاله، فلا تغتر رحمك الله، بأي شيء تغتر؟ فالإنسان تحت رحمة الله، وفي حديث العابد أنه لما قال الله له: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: لا، بعملي -والقصة معروفة- فأمر الله أن توزن نعمة البصر -نعمة البصر فقط- فرجحت بأعماله الصالحة في عمره كلها، ومع ذلك بقيت لها فضل على هذه الأعمال الصالحة، فقال: أَدخلوا عبدي الجنة برحمتي، نحن لسنا بشيء يا إخوان، نحن تحت رحمة الله جل جلاله، ومهما عملنا وقلنا، فالمنة والفضل كله لله، نقول: الحمد لله والفضل كل الفضل لله جل جلاله، يقول لنبيه أشرف الخلق وأفضلهم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113] المنة لله والفضل كله له، وقف صلى الله عليه وسلم يوم حنين وقد قسم الغنائم فأعطى غير الأنصار وحرم الأنصار، فقالوا: أيعطيهم وسيفونا تقطر من دمائهم؟ فقال: اجتمعوا لي، فاجتمعوا وقال: ما مقالة بلغتني عنكم؟ قالوا: يا رسول الله، أما سفهاؤنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ وأما ذوو الحلم فما قالوا إلا خيراً، وكانوا قوم صدق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتم لعاعة من الدنيا يا معشر الأنصار؟! -يخاطبهم وهم لوحدهم ليس معهم أحد من غيرهم إلا النعمان بن أختهم- قال: (يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي؟! ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله بي؟! فبكوا وقالوا: المنة لله، ثم قال: ولو شئتم لقلتم، ولو قلتم لصدقتم وصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وخائفاً فأمناك، فبكى الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: المنة لله) ما قالوا: لنا المنة ولا اغتروا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: المنة لله، ردوا عليه صلوات الله وسلامه عليه وهو يقول: (ولو شئتم لقلتم ولو قلتم لصدقتم وصدقتم قالوا: المنة لله) العبد الصالح يجعل المنة كلها لله، فالغرور بلاء وشقاء يغتر به الإنسان حتى يكون من الهالكين، نسأل الله العظيم أن يكسر قلوبنا لوجهه الكريم، وأن يصرف عنا منكرات الأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(35/10)
حكم لبس المرأة للثوب الضيق والكم القصير وكلمة في تربية الأبناء
السؤال
ما حكم لبس الثوب والكم القصير أمام النساء، وكذلك الثوب الضيق، ثم نريد كلمة في تربية أبنائنا تربية إسلامية، وترسيخ الدين في أذهانهم، وفقكم الله؟
الجواب
أما بالنسبة للمسألة الأولى: فقد شاع وذاع بين النساء لبس هذا القصير، ونسأل الله بعزته وجلاله في هذا المكان الطيب الطاهر المبارك أن يذهب هذه العادة الممقوتة التي لا خير فيها، اللهم بعزتك وبجلالك نسألك أن تهدي قلوب النساء وأن تصلحهن وأن تنزع من قلوبهن هذا المرض العظيم، كشف المرأة عن ساقها وفخذها، والغريب أن بعض اللاتي يدعين العلم -نسأل الله السلامة والعافية- يحتج بعضهن: بأن العلماء رحمهم الله يقولون: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل.
هذا صحيح، ولكن الآن لو أن رجلاً دخل علينا وهو لا يلبس إلا سروالاً قصيراً وفنيلة إلأى نصف كمه، تسقط عدالته بإجماع العلماء، وترد شهادته؛ لأن هذا الفعل ينبئ عن ضعف عقله -والعياذ بالله- وأنه قدوة سيئة، ليس في الإسلام فقط الواجبات، هناك الكمالات، وهناك العرف والحياء الذي ينبغي للإنسان أن يصونه عما لا يليق، صحيح هذا الأمر ذكره العلماء، لكن ذكروا ضابطاً له عورة المرأة مع المرأة، إذا كان الأمر هو وجود عرف وضوابط فالإجماع منعقد على أن العادة محكمة، والله ردنا إلى العرف، فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وأجمع العلماء على أن أمور اللباس والهيئات مردها إلى الأعراف بشرط ألا تعارض شرع الله، فكيف إذا وافقت شرع الله، المرأة التي تلبس إلى نصف ساقها، في هذا المجتمع المعروف بالمحافظة والالتزام والحياء والخجل ذاهبة المروءة -والعياذ بالله- ساقطة العدالة، وينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فلو كانت تستحي وفيها مروءة ما فعلت هذا، ففعلها هذا يدل على ضعف العقل -نسأل الله السلامة والعافية- قال بعض العلماء: ضعف المروءة مقرون بضعف العقل.
فالمرأة التي تفعل ذلك لا عقل عندها، لأن العقل يعقل -وسماه الله عقلاً، وسماه حجراً؛ لأنه الذي يعقل الإنسان ويحجره، أي: يمنعه عما لا يليق به- فإذا نزع هذا النور -نسأل الله ألا ينزعه منا ومنكم- أظلم صاحبه فأصبح يتخبط خبط عشواء -أعوذ بالله- إذا جلست المرأة كاشفة لساقيها في مجمع النساء، هل يرضيك لو رأيت أمك بهذه الصفة؟ أمَّا أن تنعم عينك بأن ترى أمك بهذه الصفة كاشفة عن فخذيها بين النساء فهذا تهتك وانحلال، نسأل السلامة والعافية، ونعوذ بالله عز وجل من هذه الأخلاق الرديئة التي دخلت على بيئة المسلمين.
فينبغي على النساء أن يتناصحن، وأن يأتمرن بأمر الله عز وجل، وأن يتقين الله جل وعلا، يتقين الله في البنات، ويتقين الله في النشء، فإن النشء يتأثر، إذا نشأت المرأة نشأت وأمها تحتجب حتى في البيت تستحي بعض الأحيان إلى عهد قريب، بل لا زال من النساء الصالحات من تستحي أن تكشف شعرها لولدها، إي والله من النساء صالحة تستحي أن تكشف شعرها لولدها، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن المرأة تكشف ساقها لأخيها ومحرمها، وساعدها كذلك، قال: أخاف عليها الفتنة، مع أنه محرم، وبذلك لا ينبغي إحداث هذه القدوة السيئة، وهذه الصور التي تدل على ضعف العقل، ينبغي المحافظة على الأخلاق الكريمة وصيانتها والدعوة إليها، والتحبيب فيها، والحرص كل الحرص على هذه الأخلاق الطيبة التي جعلها الله في الناس على فطرهم، فهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فنسأل الله العظيم أن يهديهن وأن يصلحهن، وأن يزيل عن هذا المجتمع الطاهر هذه المنكرات والأخلاق والأدواء إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما الثوب الضيق فلا يليق بالمرأة، ضيق الله عليها كما ضيقت ثوبها، المرأة التي تضيق ثوبها ماذا تريد أعوذ بالله -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة تفكر، هذه امرأة مثلها، ماذا تريد بلبس الضيق؟ ما تريد إلا تشبهاً بكافرات -والعياذ بالله- أو عاهرات فاجرات -نسأل الله السلامة والعافية- هل هذا من صنيع الصالحات أن تلبس المرأة لبساً ضيقاً أمام أخواتها من النساء؟ ماذا تريد؟ المرأة تتزين لزوجها، تتزين لبعلها، أما لأخواتها فتتزين بالمعروف، ولذلك لبس الضيق يعتبر أقل ما فيه كما قال العلماء رحمهم الله أنه ككشف العورة؛ ولذلك الآن الذي نشأ بين بعض النساء لبس هذا اللباس الذي هو العباءة المفصلة، اليد على حدة، وغيرها على حدة هذا لا يجوز؛ لأنها إذا فصلت يدها على حدة عرف جرمها، وتحدد الجرم، لكن لو لبست عباءتها، ما عرف شيء من تفاصيل جسمها، بل كان بعض العلماء يقول: لا يجوز للمرأة أن تجعل عباءتها على عاتقيها؛ لأنها إذا جعلت غطاءها للرأس عرف حجم رأسها، والمرأة تفتن بكل صورها، ولكن انظر إليها وهي في عباءتها قد وضعت عباءة على رأسها لا ترى فيها شيئاً، وتحس أنك أمام امرأة، ولية لله جل جلاله، تخاف الله وتراقبه، وتتقي الله في عباد الله المؤمنين، والعكس بالعكس، نسأل الله العافية والسلامة.
أما تربية الأبناء فجماع الخير في تقوى الله، الابن تربيه بأمرين: الأمر الأول: القول السديد والنصيحة الهادفة، أن يكون قولك سديداً، دائماً تعاهده بالنصيحة في المواطن والمواضع المؤثرة، وحببه في طاعة الله، واغرس في قلبه محبة الله ومرضاته، وذلك قربة وحسبة، هذا أول شيء في لسانه، الشيء الثاني: في جوارحك وأركانك قدوة حسنة توجدها لهذا الابن الصالح، تأمره بالبر فإذا بك أبر الناس بوالديك، تأمره بصلة الرحم وإذا بك أنت الذي تصل الرحم، وتأخذه إلى صلة الرحم وتعويده على الخير بالقدوة الصالحة، الأبناء يتأثرون بالآباء، والبنات يتأثرن بالأمهات، ولذلك حق على الآباء والأمهات التربية الصالحة بالقول والعمل، وذلك كله لا يكون إلا بعد توفيق الله، والأخذ بالأسباب الصالحة، إن وجدته مع الصالحين ثبته وشجعته وأعنته، وإن وجدته مع غير أولئك سحبته وحذرته وخوفته وقرعته، إن أساء ذكرته بالله، وإن أحسن شكرته وثبته على طاعة الله، وبذلك تنعم عينك بذرية صالحة، رفعت الأكف إلى الله من أنبياء الله أن يرزقهم الأبناء الصالحين: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] كان هذا من دعاء الأخيار والأنبياء، وذكر الله عز وجل عن عباده الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] لأن العيون تقر عندما ترى ابناً صالحاً يحدثك، وقد يكون أصلح منك، فتقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يسجد لله لا يسجد لأحد سواه، والله تعالى أعلم.(35/11)
حكم تزين كبيرة السن بالكحل والطيب وغيره أمام الأجانب
السؤال
أنا امرأة أبلغ من العمر خمساً وخمسين سنة، وألبس البرقع والحلي، وأضع الكحل في العينين، وأضع الطيب وأخرج إلى الأسواق أو إلى المسجد وأنا بهذه الحال، فهل هذا أمر يجوز أم أنا من القواعد؟
الجواب
يا أمة الله، اتقي الله عز وجل في جمالك، واتقيه في وجهك ولو كنت بهذا السن، إن الله أباح لك عند الكبر أن تكشفي للنظر، أما أن تتبرجي بالزينة فيأبى الله ويأبى عباده الأخيار، فتنة للناظر وفتنة للمنظور، فاتقي الله -يا أمة الله- وأنت خارجة إلى بيوت الله ومساجد الله أن تفتني عباد الله، فلكل ساقطة لاقطة، فاتقي الله عز وجل، لا يجوز لك أن تضعي الكحل على العينين، ولو أُذن لك بكشف العينين للحاجة؛ لأن كبيرة السن يضعف بصرها وتقل الفتنة فيها، فلذلك جاز لها أن تضع عن عينها الحجاب من أجل الحاجة، وليس من أجل أن تفتن نفسها وتفتن عباد الله، فاتقي الله يا أمة الله وتوبي إلى الله مما تصنعين، أما الطيب فإنه حرام ويعتبر على النساء من الآثام؛ لأن المرأة إذا مرت على الرجال فشموا طيبها نظروا إلى مصدر الطيب ففتنوا بالنظر إلى المرأة، ولو كانت عجوزاً في آخر عمرها، إن وضع الطيب للنساء إنما هو ما خفي ريحه وبدا لونه، والطيب للرجال ما بدا ريحه وخفي لونه، فهذه هي السنة المأثورة والمعروفة المشهورة، فكوني على السنة، وابتعدي عن الفتن والمحن خير لك في الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.(35/12)
أكثر ما يكون الثبات والأجر عند الفتن والإيذاء
السؤال
أنا شاب كنت ضالاً فهداني الله، ولكن عندي أبٌ يرتكب بعض المعاصي، وتضايق كثيراً من التزامي حتى أنه إذا رأى معي كتاباً مزقه، ففي مرة من المرات كاد أن يمزق المصحف وحاول أن يدوسه بقدمه، فلما رأيت منه ذلك تركت الصلاة وابتعدت عن أهل الخير، ومنَّ الله عليَّ بشاب طيب زارني وناصحني، وأبشركم أني رجعت -ولله الحمد- إلى المساجد، فما نصيحتكم كيف أتعامل مع والدي؟
الجواب
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدي والدك، أسأل الله العظيم أن يشرح صدره وأن ينور قلبه وأن يمنَّ عليه بالتوبة إليه، إن ما فعله أمر عظيم، ما فعله كفر وردة -والعياذ بالله- وإذا مات فإن الجنة عليه حرام -نسأل الله السلامة والعافية- أعوذ بالله من سخط الله، ونعوذ بالله من كل شيء لا يرضي الله.
أخي في الله! الحمد الله الذي هدانا وهداك واجتبانا واجتباك فأهنئك بنعمة الله عليك، فقل من كل قلبك وفؤادك: الحمد لله، فإن الله يحب الحامدين، فاحمد الله على نعمته، ولولا أن الله يريد بك خيراً ما قيض من ينتشلك، وأسأل الله أن يجزي هذا الأخ كل خير، وأسأل الله أن يعظم أجره وأن يوفقه، ويوفق أمثالاً من هؤلاء الذين نشهد الله أن الأمة كلها خاسرة إلا أمثال هؤلاء: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فهنيئاً له هذا الفضل الذي وفقه الله له حينما كتب هدايته عليك، ثم أوصيك أخي في الله: أن تجعل الجنة والنار نصب عينيك، ولا عليك من سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين، فإن في الله عوض عن الخلق أجمعين: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27] كان موحداً حنيفياً على وجه الأرض يوم لا أحد سواه في قومه وعشيرته يؤمن بالله، فلما رأى هذا الإعراض منهم عن الله قال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] فأعرض عنهم فعذبوه وآذوه، ثم انظر كيف يعامل ربك عباده الأخيار؟ ما خاب أحد عامل الله وصدق مع الله، بل إنه إذا صدق الله صدق الله معه، خرج من قومه وعشيرته، فأبدله الله الأرض المقدسة أرضاً أبرك وأطهر من الأرض التي كان عليها ثم فارق أباه فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب إلى يوم الدين خلف من الله عز وجل، فاستعصم بالله وإياك أن تعيد الكرة، فبمجرد أن ترى من أبيك أو من قريبك الاستهزاء تضعف، فإن المؤمن قوي، المؤمن لا تزيده الفتن والمحن إلا ثباتاً وقوة وصبراً على طاعة الله جل جلاله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] فنسأل الله أن يثبت قلوبنا بالتثبيت، إياك أن ترجع لها، وإياك أن تعود، فاثبت بتثبيت الله جل جلاله، ولو رأيته مزق المصحف فمزق من قلبك حبه، وانزع من قلبك ولاءه، واجعل حبك لله ولو كان أقرب الناس منك، ولو كان أباك أو أمك ولو كان أقرب الناس إليك، فعدو الله عدوك، وولي الله وليك ولو كان من كان من الخلق والناس، فكن مع الله صادقاً بصدقك.
أولاً: أوصيك فيما بينك وبين الله ببغضه في الله لأجل عمله، والقلوب لا سلطان لأحد عليها إلا الله جل جلاله، فالله يحاسبنا على محبة أعدائه أو موالاة من لا يرضاه سبحانه وتعالى، القلب ليس لأحد عليه سلطان، فهذا لا تعذر فيه أباك، ولا تواليه ولا تحبه في الله جل جلاله، بل تبغضه في الله سبحانه وتعالى، وهذا البغض عمل قلبي يرفع الله به درجتك ويعظم الله به أجرك ويصلح به أمرك.
الأمر الثاني: نصيحة صادقة، واهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين واتباع للخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ذكره بالله جل جلاله، واغتنم أفضل الأوقات لتذكيره بالله، حتى تعذر إلى الله وتنفض من ثوبك ومن عهدتك المسئولية بين يدي الله جل جلاله، استشعر آناء الليل وأطراف النهار أن الله سائلك عنه، فالله سيسألك عن هذا الأب، فابذل كل ما تستطيع لنصحه، وله عليك فضل كبير بعد فضل الله عز وجل، فليكن من رد المعروف أن تهديه، ثم دعوة صادقة في دياجير الظلمات والسجود، ودعوة صادقة تخرجها من قلب مؤمن بالله جل جلاله إلى مقلب القلوب ومصلح الأحوال علاَّم الغيوب سبحانه أن يهديه، وقل: رب أسألك أن تنعم عيني فأرى أبي من الساجدين، وأن تنعم عيني فأرى أبي من المطيعين والمؤمنين المخبتين، وما ذلك على الله بعزيز، هو على الله هين، أمره بين الكاف والنون سبحانه وتعالى، والقلوب بين إصبعين من أصابعه، فاسأل الله فإن العطية من الله جل جلاله.
أما الوصية الأخيرة: فاصبر على الأذى واحتمل لوجه الله جل وعلا، قال عروة بن الزبير: [والله ما قام أحد مقاماً لله فأهين فيه إلا أقامه الله مقاماً أعز منه وأكمل] فإذا أهانك في البيت فاعلم أن الله سيجعل لك يوماً تكرم فيه في هذا البيت، أهانت قريش نبي الأمة على الصفا حين دعاها إلى التوحيد؛ فجاء اليوم الذي تحته عليه الصلاة والسلام مائة ألف من أمته وأصحابه يحجون كحجه -صلوات الله وسلامه عليه- ووقف على الصفا فقال: الله أكبر، فكان أول ما قال: الله أكبر، بالأمس يهان على هذا الجبل، واليوم الأمة كلها تقول: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بالأمس يقولون له: الصابئ والأبتر والكذاب، وحاشاه! واليوم يقولون: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقتتل الرجال والنساء حتى يرون شخصه ماذا يفعل من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فاعلم أن الله عز وجل يخلفك بخير، فإذا استهزأ بك فإن الله لا يستهزئ بك، وإن استخف بك فإن الله يجلك ويكرمك، وهذا الاستهزاء والسخرية التي تسمعها من إخوانك وأخواتك وأولادك وزوجك ما هي إلا حسنات تخط لك في دواوين الحسنات، فقر عندها عيناً، وارض عن الله لعل الله أن يرضيك، والله تعالى أعلم.(35/13)
كيفية اكتساب الاستقامة
السؤال
فضيلة الشيخ كيف نكسب الاستقامة ونحافظ عليها؟ وجزاكم الله عنا خير الجزاء؟
الجواب
الاستقامة نعمة من الله جل وعلا لا يمكن أن تنالها إلا بدعوة صالحة، سل الله أن يجعلك من عباده المستقيمين، وأن يثبتك على ذلك إلى لقائه سبحانه وهو رب العالمين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول في دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) سل الله أن يرزقك الاستقامة.
ثانياً: أن تأخذ بالأسباب التي تعين على الاستقامة، وأعظمها وأجلها العلم النافع، فإن العلم النافع نور يستنير به الإنسان في طريقه إلى الله جل جلاله، اطلب العلم: فاحرص على مجالس العلماء، واحرص على محاضرات العلماء والدعاة إلى الله، واحرص على مجالس الذكر فإنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم، فلا تزال تجلس مع الصالحين حتى يبلغك الله فضلهم، ولعلك أن تكون خيراً منهم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، الحرص على مجالس العلماء والأخيار من أعظم الأسباب التي تعين على الاستقامة، فكثير من الشباب -إلا من رحم الله- يستقيم، ثم يحس بظلمة قلبه وقسوته؛ لأنه كان في بداية أمره لا يسمع بمجلس ذكر إلا حضره، ولا يسمع بكلمة خير إلا أصغى إليها وفتح قلبه لها وطبقها بجوارحه وأركانه، فلما غير من حاله غير الله عنه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
الأمر الثالث: جناحا سلامة تطير بهما إلى الله: خوف صادق من الله، ورجاء صادق في رحمة الله، فتربي قلبك على الخوف الصادق من الله جل جلاله، واستشعارك دائماً لعظمة الله وبطشه وهيبته، وأنك تحت رحمته جل جلاله.
وأيضاً: حبك الذي هو الرجاء، وحبك لرحمة الله وشوقك إلى حلمه وعفوه وإحسانه ومنه وكرمه، فإذا حصل عندك الأمران: الخوف الصادق، والرجاء الصادق أمنت وسرت على نهج الله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، هؤلاء أهل الاستقامة يقول الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] يدعوننا رغباً فيما عندنا من الخير ورهباً من الوعيد، وما عندنا من العذاب والنكال: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:47 - 48] خوف من الله جل جلاله، والاستشعار لظلمات القبر، وهول البعث والنشر، وزلات الصراط، وهيبة سؤال الله جل جلاله يوم القيامة، فإذا استشعرت هذا الخوف نقلك إلى الطاعات وجعل أخلاقك حميدة وسيرتك سوية مستقيمة، كلما دعتك نفسك الأمارة بالسوء حبسها ومنعها الخوف من الله جل جلاله، وشوقها -إذا حصلت منها السآمة والملل في طاعة الله- إلى نعيم الله ورحمته، فالدعاء وغشيان حلق الذكر والخوف الصادق والرجاء الصادق في الله جل جلاله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] فاحرص رحمك على هذه الثلاث الخلال، أسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده المستقيمين.
والله تعالى أعلم.(35/14)
حالنا مع القرآن
إن الناظر في حال المسلمين اليوم مع القرآن ليرى العجب، فالكثير منهم عند قراءة القرآن ينثره نثر الدقل، كما قال ابن عمر: فلا يفرق بين أمره وزجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، بخلاف حال السلف رضوان الله عليهم، فإن حالهم مع القرآن حال تفهم لما أريد من خطاب الله الموجه إليهم.(36/1)
أهمية الاعتناء بكتاب الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاختصار للوقت لم أرد أن أدخل مع الشيخ محمد حفظه الله فيما ينبغي من الأسبقية للمتكلم، وفضلت أن أبدأ بكلمة موجزة قصيرة، حتى يتيسر لكم الانتفاع بما عنده جزاه الله خيراً، ونفع الله به ومنه، ووفقنا الله وإياكم جميعاً للعمل بما نقول وبما نسمع، وجعلنا الله وإياكم هداة مهتدين، وزادنا وإياكم هدىً وخلقاً وتوفيقاً وعلماً وتواضعاً.
آمين.
إخواني! إن من أهم الأمور التي يجب علينا جميعاً أن نعتني بها القرآن الكريم كتاب الله عز وجل، إن القرآن الكريم من أهم الأمور التي يجب علينا الاعتناء بها حفظاً وتلاوة، وفهماً وتدبراً وعملاً وتحاكماً واستشفاءً، وإنا لم نعد نخشى اليوم قلة الحفاظ بقدر ما أصبحنا نخشى عدم التدبر في كتاب الله عز وجل، وفهم ما أريد به وهو خطاب ربنا سبحانه وتعالى الموجه إلينا، وعندما نتأمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما في المستدرك بسند على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي رحمهم الله تعالى، نرى أن من أخبر عنهم ابن عمر في زمانه من المقصرين في حق كتاب الله عز وجل، لا يمكن أن يكونوا أولى منا وأحرى وأجدر بأن يوصفوا بالمقصرين الذين حولوا ما أريد بكتاب الله عز وجل إلى مجرد الترداد والتلاوة من غير تأمل ولا تفهم ولا تدبر، ليسوا أولى منا ولا أجدر بأن يوصفوا بالمقصرين.
وإن كان هذا قد روي في عصر ابن عمر، في أوائل عهد التابعين الذين هم أفضل هذه الأمة بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمما لاشك فيه أن مضي السنين وتصرم الأعوام يفضي بمن يأتي بعد الزمان الأول إلى حال أشد وعورة وأشد خطورة، فنعيذ أنفسنا وإياكم بالله عز وجل من أن نكون واقعين تحت طائلة هذا الكلام الذي سأذكره سريعاً.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: [كنا نؤتى الإيمان، ثم نؤتى القرآن، فإذا نزلت السورة تعلمنا حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلم أحدكم السورة من القرآن] الإيمان ثم القرآن، وحالهم مع القرآن حال تفهم لما أريد من خطاب الله عز وجل الموجه إليهم يتعلمون الحلال والحرام، وما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلم الشخص منا تلاوة سورة من السور ليحفظها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: [ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن فيقرأه من فاتحته إلى خاتمته، لا يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، ينثره نثر الدقل].
كما يبعثر الواحد منا ويرمي التمر الرديء، ولا يحفل ولا يعبأ به ولا يبالي به، كذلك هذا الذي لا يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، وهكذا ينتقل من سورة إلى أخرى.
وكما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: كيف يمكن لمن يتعامل مع القرآن على النحو والوجه اللائق أن يكمل ختمة، بل كيف يمكن أن يجوز آية إلى غيرها إلا بصعوبة ومشقة؟ إذا كان يعطيها حقها من الفهم والتدبر، وتنزيلها على أدواء قلبه، كيف يمكن أن يجوز آية إلى آية أخرى؟ وكذلك من قام يصلي لله عز وجل، إذا أعطى الركعتين اللتين يصليهما قلبه وخشوعه وحضوره وتركيزه إلى آخره.
كيف يمكن أن يتجاوز ركعتين إلا بمشقة وجهد؟ فإذا غفل عن ذلك عد الركعات بلا حساب، فهكذا يبين لنا ابن عمر رضي الله عنهما أن من الناس من حاله مع القرآن حال من ينثر الدقل، ينثر القرآن كما ينثر الدقل، وبسبب هذا الجهل بكتاب الله عز وجل ترى فينا -وما أبرئ نفسي- خللاً في الظاهر وفي الباطن، في الباطن خلل في النيات والمقاصد وأحوال القلوب، وفي الظاهر خلل في الآداب وما ينبغي أن يقف الإنسان عنده من الآداب الشرعية، خلل في الظاهر والباطن؛ لأننا لم ننزل أدوية القرآن على أدواء الباطن والظاهر.
ولهذا صار كل الناس يشكون من بعضهم البعض، يشكون من المعاملات، يشكون من التصرفات، يشكون من القسوة ومن الغفلة، ومن الغلظة والجفاء؛ كل هذا لأن القلوب لم تعرض أدواؤها على أدوية القرآن، ولم ينزل دواء القرآن على هذه الأدواء.(36/2)
تتبع القرآن والسنة لأمور الجاهلية وذمهما لها
القرآن والسنة يتتبعان أمور الجاهلية، ويشنعان على الجاهلية وأمورها وفاعليها، ويذمان ويقبحان الجاهلية وأمورها وفاعليها، ويحذران من ذلك، فتجد القرآن الكريم في سورة آل عمران في الآية الرابعة والخمسين بعد المائة، يذم من يظن بالله غير الحق ويسميه ظن الجاهلية، كما أخبر عمن ظن بالله كذلك في غزوة أحد، فقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً منْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154].
وتتبع القرآن أمراً من أمور الجاهلية في سورة الأحزاب في الآية الثالثة والثلاثين، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وتتبع أمراً آخر من أمور الجاهلية وهو الظهار، وإن لم يصفه في سورة المجادلة بإنه من أمور الجاهلية، لكن أخبر العلماء أن هذا الأمر كان معروفاً في الجاهلية، ولكن شنع القرآن عليه، وذمه وقبحه في سورة المجادلة فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2] في الآية الثانية من سورة المجادلة.
وذكر حمية الجاهلية في سورة الفتح في الآية السادسة والعشرين، وأنه لا يجعلها في قلبه إلا الذين كفروا، أما المؤمنون فجهادهم في سبيل الله عز وجل، لتكون كلمة الله هي العليا، فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح:26].
وتتبعت السنة أمور الجاهلية، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وحذر من ازدراء الناس واحتقارهم وانتقاصهم، حتى قال لـ أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه السابق إلى الإسلام من السابقين، قال له يوماً لما عير رجلاً بأمه: [يا ابن السوداء!] قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه القدم الثابتة الراسخة في الإيمان، وما أمضاه من سنين في البلاء الحسن، قال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية).
وعلى هذا فكم من رجل وامرأة منا حريون بأن يقال لهم: إنكم أناس فيكم جاهلية؛ لأننا قد بعدنا أشد البعد وأعظمه من عرض أدوية القرآن على أدواء قلوبنا ولسنا كـ أبي ذر، ومع ذلك فلتت من أبي ذر هذه الفلتة التي عوض عنها وداواها بأن وضع خده على الأرض، وأمر من قال له: [يا ابن السوداء!] ويقال: إنه بلال، ويقال: غيره، وأمر هذا الشخص الذي عيره بأن يطأ خده بقدمه، لكي يتخلص تماماً من أمر من أمور الجاهلية أخبره المربي الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما يزال فيه.
أمور الجاهلية الكثيرة التي فينا لا خلاص لنا منها إلا بأن نقرأ القرآن الكريم قراءة فهم وتدبر ووعي، ولأن يفهم الواحد منا في هذا الزمان سورة من سور القرآن الكريم فهماً صحيحاً سليماً بكل ما فيها من حلال وحرام، وما ينبغي أن يوقف عنده لعل هذا يكون أبرك وأعظم أثراً على النفس وعلى الأفراد والمجتمع، من أن يقول المرء: أنا من حفاظ القرآن الكريم، ثم تراه بعد ذلك يتصرف تصرفات يقال له فيها كما قال الشيخ عبد الرحمن العشماوي جزاه الله خيراً: إيه يا حافظ القرآن أجبني أو هذا بالحافظين يليق نعم، لا نريد أن يقال للحفاظ هذه الكلمة، ولو بين الإنسان وبين نفسه، لا نريد أن يقول أحدٌ بينه وبين نفسه: إيه يا حافظ الكتاب أجبني أو هذا بالحافظين يليق إذاًَ فلو تدبر الواحد منا سورة واحدة تدبراً كاملاً، وعرف ما أريد فيها من خطاب الله عز وجل، وما أريد بالآيات أبرك وأعظم أثراً من أن يجمع سورة إلى سورة، وهو من التأدب بأدب القرآن بعيد، ومن عرض أدوية القرآن على أدوائه بعيد، هو في شق والقرآن في شق.
وكذلك أقول في حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من اعتنى بها قولاً وفعلاً وتقريراً، وبتدبر وفهم وإخلاص وإيمان تخلص من هذه الجاهلية التي اشتد أمرها فينا، واشتد أثرها علينا.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعمل بهذه الكلمة التي فيها من القصور ما فيها، لكن يكفيني ويكفيكم أن نستفيد زبدتها، وأن نذكر خلاصتها، وهو ما ينبغي من تغير حالنا مع القرآن والسنة من مجرد حفظ وتمتمة وترداد وتلاوة، إلى حرص شديد أكيد على الفهم والتدبر، وهذا يتطلب منا ويقتضي أن نلم بالأدوات التي تعيننا على ذلك، ولهذا ليس لأجل وجود أخينا الفاضل الشيخ محمد حفظه الله، بل هذا أمر كان في غيابه كنا نتذاكر أحوال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وما كان له من التمكن، والشيخ محمد المختار رحمة الله عليه في القرآن الكريم، فقال أحد الذين درسوا عليهما في المدينة: إن هذا كان بسبب التمكن من اللغة، وأوجه القراءات، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصول، فهذه الأدوات يجب على كل طالب علم يريد أن ينفع نفسه ومجتمعه أن يأخذ منها بطرف بحسب الطاقة.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجمعنا وإياكم بالسابقين من المخلصين الصالحين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.(36/3)
القرب من كتاب الله تعالى وأنه سعادة الدارين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فجزى الله فضيلة الشيخ كل خير على حسن الاختيار لهذا الموضوع الذي لا يمكن للأمة أن تسعد إلا به.
إن البعد عن كتاب الله، والغربة عن هذا النور المبين، وهذا الصراط المستبين هو شقاء هذه الأمة، والقرب والدنو منه، والعمل بآياته، والتأثر بعظاته، والوقوف عند حدوده وزواجره، هو سعادة الدارين وهو فلاحهما، هذه الصفة العظيمة وهي التأثر بكتاب الله عز وجل، منحة ربانية، وعطية إلهية، اختار الله لها أمة صالحة، وسلفاً صالحا، صلحت أعمالهم لما كانوا رهبان الليل بكتاب الله، وظمئوا هواجرهم حينما تقرحت قلوبهم من آيات الله.
إن هذا الكتاب المبين عظيم الوقع في قلوب المؤمنين، هذا الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، وجد أرضاً طيبة، وقلوباً مستنيرة، تهيأت لسماعه، وتأثرت لعظاته، فشاء الله ما شاء لها، فكان الصحابي يسمع الآية من كتاب الله لا يقر قراره، ولا ترتاح نفسه إلا بالعمل والتطبيق، نظروا إلى كتاب الله فوجدوا أنه حبل من الله متين، وصراط من الله مستبين، فأيقنوا يقيناً لاشك معه ولا مرية ألا سعادة إلا بالتمسك به، والاعتصام بحبله، فحققوا ذلك قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً.
فيا لله! من أمة عرفت كتاب الله، عاشت مع هذا الكتاب حينما يذكرها بالآخرة حتى كأنها تنظر إليها نظر عين، عاشت مع هذا الكتاب حينما أدبهم في القول والعمل، وفي الظاهر والباطن، حتى أدبهم رجالاً ونساء، ذكراناً وإناثاً، فأدب المؤمن في قيله وأدبه في حديثه، أدبه وهو في ثورة الغضب، وأدبه وهو في قمة الرضا، وأدب المؤمنة في ظاهرها وباطنها، حتى أدبها وهي ترفع قدماً وتضع أخرى.
كتاب الله، وما كتاب الله؟ وهل شقيت الأمة إلا بالإعراض عن كتاب الله؟ وهل سعدت إلا في ذلك الزمان الذي احتضنت فيه هذا الكتاب المبارك، فعاشت معه العيشة الراضية الهنيئة الطيبة المباركة، التي وعد الله عز وجل بها أهل القرآن.
لذلك -أحبتي في الله- كانت هذه الكلمات من فضيلة الشيخ تذكيراً لنا جميعاً أن نحيا مع كتاب الله، وحركت في القلب أشجاناً وأحزاناً لا يعلمها إلا الله، والله لا تفتح سيرة القرآن، ولا يذكر مؤمن بحق القرآن عليه، إلا تأثر والله عظيم الأثر، إن هذا المنهج وهذا الكتاب المبارك هو الذي بيننا وبين الله، من عمل به أحبه الله، ومن اعتز به أعزه الله، ومن أكرم هذا الكتاب أكرمه الله، ومن لم يرفع به رأساً، ولم يجعله في الأمور أساساً، فإنها الخيبة التي لا خيبة وراءها: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
لذلك -أحبتي في الله- إذا أردتم أن تعرفوا سعادة المؤمن، وأراد المؤمن أن يعرف حياته من موته، فليحيي، وليذكر نفسه بتلك الحياة حينما يتساءل، أين أنا من كتاب الله؟ وكل شخص منا إذا أراد أن يعرف مقامه عند الله، فليعرف قدر القرآن في قلبه، وليعرف قدر هذه الآيات في فؤاده، إذا كان لها خاشعاً، ومن تلاوتها وسماعها دامعاً، فوالله قد حيي فؤاده، وعندها يكون للخير سباقاً، وللطاعة المرضية مشتاقاً.
إن هذا الكتاب ما عرض عبد مؤمن حاله عليه إلا دمع تلك الدمعة الصادقة بحرارة من قلبه، كيف لا يدمع وآيات القرآن قد نسيت! وحدود الله التي بينه وبينه قد انتهكت! كيف لا يدمع على هذا الكتاب المبين والصراط المستبين، والله إنها للحسرة إذا قدم العبد على ربه، فوجد الأخيار والصالحين قد ملئت كفات حسناتهم بتلاوة هذا الكتاب، ووجدهم قد حازوا من الله رضواناً، ومحبة وصفحاً وغفراناً، وجاء صفر اليدين من كتاب الله، وجاء بعظيم الغربة والبعد عن كتاب الله عز وجل.
يا أحبتي في الله! القرآن وما القرآن! الذي وصف الله عز وجل أثره، وأخبر وهو أصدق القائلين، ولا أصدق منه حديثاً، أنه لو نزلت هذه الآيات على الجبال لاندكت، ولو نزلت على الرواسي من خشية الله انهدت، فأين قلوبنا؟ أحبتي في الله! أين قلوبنا من هذا الكتاب العظيم الذي وصف الله أهل الإيمان الصادقين، أنهم يخشعون لسماعه ويبكون لآياته وعظاته {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]؟ فهذه هي صفات الأحبة الذين اجتباهم الله للقرآن، واختارهم لهذا الكتاب المبين، إنه الإمام الذي يهدي إلى الله، والسبيل الذي لا سبيل إلى الله بسواه، من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه، فليجعل بينه وبين القرآن زماناً، ليجعل بينه وبين القرآن لحظات من يومه، وساعات من نهاره وليله، يعيش مع هذه الآيات، يعيش مع أهل الآخرة، إن كانوا في نعيم سمت روحه إلى ذلك النعيم، حتى كأنه ينظر إلى الجنة نظر عيان، وإن كان مع الآخرة في جحيمها وسعيرها، أفض قلبه من خشية الله، وحرك في القلب وازعاً يزعه عن حدود الله.
لذلك إخواني في الله! لا سعادة إلا بالقرب من القرآن، ولا فلاح إلا بالقرب من كلام الرحمن، إنا لله وإنا إليه راجعون، طابت لنا أحاديث العباد، أليس الواحد منا إذا سهر ليلة تمنى أن يسهر مع أخ له يحبه؟ فكيف بمن آثر مرضاة الله على مرضاة العباد؟ أين أولئك الذين بلغ الواحد منهم أنه يقرعه ضيفه، يقول الحسن رحمه الله: [فيستأذنه وكأنه له حاجة في بيته، فيدخل يركع ركعات بين يدي ربه].
والله ما عظم شقاؤنا ولا عظم بلاؤنا إلا حينما لم نقدر لهذا القرآن قدره، وحينما أصبحت غربتنا شديدة عن القرآن، قال بعض السلف: [والله ما عرضت نفسي وقولي وعملي على كتاب الله، إلا اتهمتها بالنفاق] كانوا إذا قرءوا القرآن أحسوا أنهم هم المخاطبون بالقرآن، وأحس الواحد منهم أنه إذا جاءت المقرعة تقرع عاصياً عصى الله عز وجل عد نفسه ذلك الرجل، فبكى شفقة وخوفاً من عذاب الله وسطوة الله، ناهيك عن قيام الليل، وتلاوة هذا الكتاب في تلك الساعات التي هدأت فيها العيون، وسكنت فيها االجفون.
فيا لله من أرواح طيبة! ويا لله من قلوب صادقة! عرفت كتاب ربها، وأدركت أنه لا سعادة ولا فلاح إلا به، وإنه للعجب أن تقرأ سيرة الصحابي الطاهر المبارك، فتجده قد ملئت صفحته جهاداً وجلاداً وصبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، ومع ذلك يقوم بالآية يخشع لوجه الله عند قراءتها.
أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أنه أراد أن يقوم ليلة، فاستفتح تلك السورة العظيمة، التي أصبح يقرأها الصغير منا قبل الكبير، وهي تلك السورة العظيمة التي قل أن تجد صغير سن إلا وهو يستطيع قراءتها {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] قرأها رضي الله عنه وأرضاه، يريد أن يحيي ليلته بقراءة ذلك الجزء المبارك، وإذا به تخنقه العبرة، ويغلبه البكاء، حينما ذكر قول الله {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] تذكر أن الله وصف نبأ الآخرة بأنه نبأ عظيم، فما استطاع أن يجاوزها؛ لأنه يعلم من الذي يخاطبه، ويعلم من هذا كلامه، وأن الله تعالى إذا وصف الشيء بأنه عظيم، فلا عظيم فوق عظيم وصفه الله بعظيم، فحركت في قلبه الخوف والخشية، حتى أثر عنه رضي الله عنه أنه مازال يرددها إلى السحر بكاءً من خشية الله عز وجل.(36/4)
السلف الصالح وعيشهم مع القرآن
وكان السلف رحمهم الله يعيشون مع القرآن خشوعاً، ويعيشون مع القرآن عملاً وتطبيقاً، فكان الواحد منهم إذا ذكر بالآية من كتاب الله تذكر، وإذا بصر بالآية من كتاب الله تبصر، فكان حي الفؤاد، سليم القلب، يعيش مع القرآن بالعمل والتطبيق، كما يعيش معه بالقراءة والتفكر والتدبر.
ولذلك قد يعطى الإنسان -أحد الثقلين- يعطى تفكراً وتدبراً، ولكن يحرم العمل، ومن الناس من يعطى العمل، ولكن يحرم بعض الخشوع والتدبر، فبعض الناس للخير سباق، ولطاعة ربه مشتاق، ولكنه لا يجد في قلبه الأثر في الخشوع، فتجد كثيراً من الأخيار الآن يقول: والله إني أحب الخير، وأحب طاعة الله من قلبي، ويعلم الله ذلك، ولكنني أقرأ القرآن، وأحس أني لا أتأثر بالقرآن، فهو مستعد للعمل مستعد للتطبيق، ولكن الله حرمه الخشوع.
فأسعد العباد في القرآن من جمع الله له بين الخصلتين، وأصابت كلا الحسنيين، فكان متأثراً بالقرآن، إذا سمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] تحرك فؤاده وقلبه، وقال بلسان حاله ومقاله: لبيك رباه! لبيك سيدي! بماذا تأمرني؟ حتى إذا جاءه الأمر قال: سمعا ًوطاعة، فلا يقدم قدماً على كتاب الله، ولا يؤخر أخرى عن كتاب الله ومرضاة الله، فهؤلاء هم أسعد العباد، الذين جمع الله لهم في القرآن بين التفكر والتدبر، وبين العمل والتطبيق.
ما الفائدة إذا خشع الفؤاد من كلام الله، وخشع القلب لآيات الله، وإذا جاء العبد عند العمل تقاعس عن مرضاة الله، وأصبح يسوف في طاعة الله عز وجل؟ الخشوع الصادق والتدبر الصادق يحرك الوجدان إلى العمل، ويحرك القلب والقالب إلى التطبيق، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا جاءتهم الآية من كتاب الله حركتهم للعمل.
جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] قال: يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو رب العالمين؟] سبحان الله! ما أحيا ذلك القلب، كم منا من يقرأ هذه الآية وما تحرك عنده هذا السؤال، الله ملك الملوك ومالك الملك، يقول لك: أقرضني، تحرك هذا السؤال لحياة قلب صاحبه، فقال: [يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!] قال عليه الصلاة والسلام: (نعم ... ) أي: يستقرضنا؛ لأن ذلك موجود في كتابه، فقال: (نعم.
يستقرضكم ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيآتك).
قال: [يا رسول الله! إن لي في المدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة هي أعز ما أملكه، أشهدك أنها لله ورسوله] ستمائة نخلة! ورد في الحديث عن علي رضي الله عنه أن الرجل كان يعمل في سقي الدلو بتمرة واحدة، فكيف بستمائة نخلة، ستمائة نخلة حياة عاش من أجلها يكافح ويجاهد حتى أصبح ثرياً يملك ستمائة نخلة، ومع ذلك هانت عليه بآية من كتاب الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] فنظر إلى أحسن قرض يقدم مما يملكه، وأعز ما يجده، وهو هذا البستان الذي يحيا به، وتحيا به ذريته.
فخرج رضي الله عنه وأرضاه إلى ذلك البستان، فوجد أم الدحداح قد جلست مع صبيانها تجمع ذلك التمر والرطب والبسر الذي تساقط من ذلك النخل المبذول لوجه الله، تجمعه لكي تستفيد منه، فقال لها رضي الله عنه يخاطبها شعراً: بيني -أي: اخرجي- من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتمادي إلى رجاء الضعف في المعاد والبر لاشك فخير زاد قدمه المرء إلى التنادي فماذا قالت تلك المرأة الصالحة؟ تلك المرأة التي تعرف ربها وتحيا لطاعة خالقها، هل قالت: ضيعتنا، هل قالت: هدمت حياتنا؟ قالت له تخاطبه بما خاطبها: بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ومنح قد متع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها، وخرجت من الحائط بلا تمر.
أين هذه القلوب المؤمنة؟ أين هؤلاء الذين يتحركون للقرآن؟ آية واحدة من كتاب الله حركت هذا الصحابي الجليل، لكي تجود يده في مرضاة ومحبة الله، إيمان وتصديق وثقة برب العالمين، ومحبة في سبيل مرضاة رب العالمين.
أحبتي في الله! هذا حال سلفنا الصالح، ولماذا صلحت أيامهم؟ وبماذا صلحت أحوالهم؟ هل ذلك إلا بكتاب الله، والله ما حرك الأخيار للخير، ولا حرك الأبرار للبر، ولا حرك أهل الصلاح للصلاح شيء مثل كتاب الله، ولن تجد مؤمناً صادقاً في إيمانه وطاعته، تقياً براً عفيفاً صالحاً في القول والعمل، إلا وجدت كتاب الله يحرك فيه كل صغير وكبير، ويحرك فيه كل جليل وحقير، القرآن له أثر عظيم في القلوب، له أثر عظيم في تلك النفوس التي تقدره قدره، وتعطيه حقه، وتقف معه في عظاته وآياته وما يذكر به رب العالمين.(36/5)
السبيل لكي نكون مع القرآن
إخواني! كيف السبيل لكي نكون مع القرآن؟ وكيف الطريق لكي نكون قريبين من القرآن؟ لنا مع هذا القرآن جفوة والله لا تليق بمؤمن يخاف الله ويرجو لقاءه، ليسأل كلٌ منا نفسه سؤالاً صادقاً، هل يقوم الليل بالقرآن؟ وإذا قام ما الذي يقرأه في قيام الليل؟ فإن كان وجد خيراً فليحمد الله، وإن لم يجد غير ذلك فليبك على نفسه، ووالله المحروم من حرم الخير، فإذا وجد نفسه أن له من كتاب الله حظاً يقوم به في الليل، فليسأل نفسه: هل ازداد من هذا الحظ؟ فرضنا أنه يقوم بجزء، هل فكر أن يقوم بجزأين؟ هل يفكر أن يقوم بثلاثة؟ هل فكر أن يقوم بأربعة بخمسة إلى عشرة؟ عله أن يصيب ختم القرآن في كل ثلاث مرة، هل حاول الإنسان أن يسأل نفسه هذا السؤال؟ والله أمر يسير على من يسر الله، جرب ولو يوماً واحداً بعد صلاة العشاء بدل السهر في اللغط وفضول الأحاديث، خذ كتاب الله عز وجل، إن كنت حافظاً فاقرأ جزءاً من القرآن، لا يأخذ منك ربع ساعة، أحياناً قد يأخذ إذا كان الإنسان يتفكر ويتدبر ويقف مع الآيات، يأخذ معه ساعة والله تمر من ألذ ما يكون، تمر وكأنها لحظة واحدة من اللذة والسرور.
فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار تعيش مع هذه الآيات ساعة كاملة وكأنها ثانية، ولكنها والله تغير من حياتك شيئاً كثيراً، وبعض الأخيار والله يوفق فيقوم الساعة، وتمر عليه آية واحدة من كتاب الله، ويلهمه الله التدبر فيها، وتبقى عظتها في قلبه ما شاء الله أن تبقى، فلذلك جرب بعد العشاء، إذا كنت لا تستطيع أن تقوم السحر فبعد العشاء مباشرة جرب، بدل أن يجلس الإنسان مع زيد وعبيد، بعد العشاء وقت يرتاح فيه لآخرته، يرتاح فيه لكي يبكي على ما فرط في يومه، وأسرف في جنب ربه.(36/6)
السؤال عن معاني القرآن
الأمر الثاني -إخواني في الله-: السؤال عن معاني القرآن: يحاول الإنسان إذا مرت به آية فيها عظة، وجلس مع إنسان من أهل العلم والفضل، وكان مع معشر أخيار، أو حتى من العامة يسأل عن هذه الآية، كنا إلى عهد قريب نجلس مع بعض العلماء، والله نجد من العوام بعض الأسئلة عن آيات في كتاب الله يشرحها بعض هؤلاء العلماء من مشايخنا، والله بعضهم استفدنا منه درراً وفوائد نسأل الله أن يجعله في ميزان حسنات من سأل.
لذلك لا تبخل على نفسك بالخير، الناس كان عندهم حرص على تفهم آيات القرآن، تدبرها، معرفة معانيها ومراميها، وهذا هو المفتاح للتدبر؛ لأن الإنسان إذا سأل عن معنى الآية كشف له عن خبيئتها، فإذا كشف له عن معناها جاءت مرحلة التفكر وجاءت مرحلة التدبر، وإذا جاءت مرحلة التدبر جاء الأثر وهي الذكرى، ولربما يتبع هذا الأثر أثر العين بالدمع، وأثر القلب بالخشوع {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] جعلنا الله وإياكم منهم، وحشرنا وإياكم في زمرتهم.(36/7)
الإكثار من تلاوة القرآن
أول خطوة أن نكثر من تلاوة القرآن، وبإذن الله إذا كان الإنسان له ورد أو حزب معين يقرأه من القرآن كما ثبت في الحديث الصحيح مشروعية ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: (من نام عن حزبه من الليل) يقول العلماء: في هذا أصل على أن المسلم له أن يجزئ حزباً يقرأه من القرآن، حتى يستديم الطاعة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الطاعة ما كان ديمة وإن قل، كما ثبت في حديث عائشة الصحيح.
إذا كان الإنسان حاول أن يستفتح ليله بهذا، وبعض الأخيار يقرأ الجزء، وإذا به قد ارتاحت النفس للجزء الثاني، وبعضهم يرتاح للثالث والرابع، ثم بعد فترة وإذا بك تأنس بالله عز وجل، وإذا بهذا القلب يحس أن هذه الساعة لا يمكن أن يفرط فيها، وإذا بالقلب يحس أن هذه الساعة التي كانت في أول يوم مثل الجبل إذا بها والله كغذاء الجسد، لو أنك فرطت فيها يوماً من الأيام أو ليلة من الليالي إذا بك تحزن، وتصبح وأنت متكدر الخاطر من فوات هذا الخير عليك.
فلذلك أحبتي في الله! جربوا، والإنسان إذا كان عنده ورد من الليل يزداد، فالمؤمن لا يسأم من طاعة، ولا يبقى على قليل من الخير، بل هو دائماً في زيادة، ولذلك وصف الله أهل الخير والفضل بقوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61] فكن ممن سارع إلى الخيرات، وسابق إلى المرضاة، ونافس في محبة رب البريات.(36/8)
أحق الناس بالقرب من القرآن والعمل به
إخواني! هذا من طريق قربنا، لابد لنا من القرب من القرآن، وأحق من يكون من القرآن قريباً هم طلاب العلم، ولذلك كان طلاب العلم أشبه الناس سمتاً بالعلماء، وأقرب الناس هدياً للعلماء، وإذا رأيت العالم ترى أشبه الناس به طلابه، لماذا؟ لأنهم أقرب الناس من العلم والعمل، وأقرب الناس من أوعية العلم والعمل، ولذلك مثلهم كمثل العين المباركة الطيبة تجدها في الأرض الطيبة أخصب مكان منبعها، فأخصب مكان ينتفع من العين تجده المنبع إذا كانت أرضه طيبة، كذلك طالب العلم إذا كان قريباً من العالم، وعنده قلب وفؤاد صالح، فإنه أسبق الناس تأثراً وعملاً وتأسياً واقتداءً بذلك العالم.
ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون، لما تغيرت أحوال طلاب العلم، وتغير حال كثير من طلاب العلم، جاءت النتيجة بالعكس، حتى والله إنا لنجد من بعض العوام تقديراً وإجلالاً واحتراماً لأهل العلم أكثر مما نجد من طلاب العلم، وهذه والله ثلمة ورزية طلاب العلم إذا أصبحوا أبعد الناس عن التأثر بالعلماء، وأبعد الناس عن العمل بالقرآن، كان علمهم وبالاً عليهم والعياذ بالله، فلذلك ينبغي أن نقف مع أنفسنا، هذا القرآن أحق من يتأثر به، وأحق من ينتفع به هم طلاب العلم، عجباً أن تجد طالب علم له إلمام بمعاني القرآن ومغازيه ومراميه وتفسير آياته، وبيان ما فيها، ومع ذلك تجده بعيداً عن التأثر بالقرآن، هذا من الشقاء والعياذ بالله.
فلذلك إخواني في الله! ينبغي للإنسان إذا كان طالب علم أن يكون أسبق الناس للتأثر بالقرآن، وأئت بطالبي علم أحدهما عظيم التأثر بالقرآن، والآخر قليل التأثر بالقرآن، والله تجد بينهما في الخلق والأدب والقول والعمل كما بين السماء والأرض، تجد هذا لا يتكلم إلا بالقرآن، ولا يعمل إلا بالقرآن، وتجد هذا بينه وبين القرآن غربة لا يعلمها إلا الله.
فلذلك إخواني! أحق من يتأثر بالقرآن هم طلاب العلم، وأحق من يكون قريباً من القرآن هم طلاب العلم، سبحان الله! تجد بعض العوام يتأثر بالقرآن أكثر من تأثر طلاب العلم، وتجد بعض العوام يدمع ويخشع للقرآن أكثر من دمع وخشوع طلاب العلم، هذه والله رزية -يا إخواني في الله- ينبغي على طلاب العلم أن يكونوا قريبين من القرآن.
ولذلك على سبيل المثال مما نجده، وأقرب شاهد من أهم ما اعتنى به -كما ذكر فضيلة شيخنا حفظه الله الشيخ سعيد - مسألة تأديب القرآن لأهله، مسألة ترك خصال الجاهلية، من أعظم خصال الجاهلية التي وجدت فيهم في مسائل الاعتقاد -كما بين الشيخ- كذلك أيضاً مسائل الجهر بالسوء، هذا من شأن أهل الجهل والجاهلية.
ولذلك من الجهل والجاهلية أن تجد الإنسان دائماً يلفظ السوء، هذا من دلائل الجهل والجاهلية، فإذا وجدت طالب العلم لا يراقب الله في لسانه، بعيداً عن مراقبة الله في قيله، يسب هذا ويشتم هذا، ما الذي يدل عليه؟ يدل على أنه أبعد الناس من كتاب الله، ولذلك تجد قول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] عائشة رضي الله عنها لما قال اليهود: (السام عليك يا رسول الله! قالت: وعليكم السام واللعنة، قال: مه يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) وهي ترد مظلمة، يقول لها: إن الله لا يحب الفحش والتفحش، من الذي قاله؟ قاله نبينا صلوات الله وسلامه عليه، لماذا؟ لأن خلقه كان القرآن، يريدها على الكمال، سبحان الله! ترد جاهلية وترد خطأ، يقول لها: إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.
فلذلك إخواني في الله! لابد أن نعيش مع القرآن، وصاحب القرآن إن تكلم تكلم بخير، ووجدت كلامه دائماً إما في ذكر أو شكر، وتجد كذلك أخلاقه وأقواله وأعماله مع القرآن، يحيا مع القرآن، إذا جاءه الأمر سأل نفسه: ما الذي قال القرآن؟ ما الذي يطلب القرآن؟ فيترسم هدي القرآن بألا يقدم على كتاب الله شيئاً.
ولذلك عمر رضي الله عنه لما حصلت له القضية مع ذلك الرجل الذي جهل عليه رضي الله عنه وأرضاه، ونقم عليه أنه لا يعدل بين الرعية، ولا يقسم بالسوية، أراد عمر أن يبطش به، فقال له أحد الصحابة: [يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين] يقول الراوي: فوالله ما إن سمعها عمر حتى سكت، وكان وقافاً عن كتاب الله، عمر معروف بالغضب والبطش، أراد أن يبطش به يتهمه بدينه على أنه لا يعدل، ومع ذلك هم أن يبطش به، لكن كظم ذلك الغيظ من آية واحدة في كتاب الله، يقول: والله ما جاوزها، أي: ما إن سمعها حتى وقف عندها، هذا شأن أهل الإيمان، المؤمن إذا قيل له قال الله؛ أذعن واعترته الذلة لله تبارك وتعالى.
وسبحان من حبب لتلك القلوب كتابه، وأدناها إلى طاعته ومرضاته والعمل بآياته وعظاته، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن رحمهم وهداهم باتباعه، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا وهمومنا وغمومنا، وسائقنا وقائدنا إلى رضوانك وجناتك جنات النعيم إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه.(36/9)
الأسئلة(36/10)
الجمع بين إباحة البنج وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر: (إنها ليست بدواء)
السؤال
بالنسبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بدواء، إنما هي داء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم عن الخمر، الآن الأطباء يستعملون المخدرات خاصة بالتخدير الكلي، بما يسمى البنج، والعلة واحدة في ذهاب العقل، فكيف التوفيق بين إباحة البنج، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء؟
الجواب
إنه لا تعارض بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إنها داء، وليست بدواء) وبين ما يعمل الآن من التخدير؛ لأن النص ورد في التداوي، والتخدير الموجود الآن ليس بتداوي، وإنما هو تسكين، وفرق بين تسكين الألم ومعالجة الألم، فالتخدير يسكن، ومعالجة الألم زوال السبب الموجب لذلك الألم، وبناءً على ذلك فإن من المشاهد أن المريض الآن إذا أعطي حبوباً مسكنة سكن عنه المرض، وهذا ليس بدواء، وإنما هو تخفيف وتخدير، وفرق بين التخدير وبين استئصال الداء، فالحديث في قوله: (إنها داء، وليست بدواء) مراده من ناحية استئصال السبب، أي: من ناحية تأثير الخمر في المرض، والخمر والمخدر ليس مؤثراً في المرض، وإنما هو موجب للخدر، وفرق بين الخدر وبين زوال الأثر.(36/11)
معنى حرف "حتى" في قوله تعالى: (حتى زرتم المقابر)
السؤال
تكرر الحرف "حتى" المرة الأولى في سورة القدر والمرة الثانية في سور التكاثر، هل جاءت في سورة التكاثر بمعنى إلى؟
الجواب
أما آية التكاثر فسبب النزول يشير إلى أن المقصود بها: المبالغة في التشنيع عليهم، وهذا أقرب إلى قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] يعني: حتى بلغ بكم الأمر إلى التفاخر بالأموات؛ لأنه سبب النزول كما ورد: أنهم كانوا يتفاخرون ويدلي بعضهم على بعض بحسبه ونسبه، حتى تفاخروا بالأموات وما كان لهم من مجد، ولما بلغوا إلى هذا القدر عتب الله عز وجل عليهم، حتى ورد الأسلوب، فورد الأسلوب بقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] فهو أقرب إلى المبالغة في التشنيع، أكثر من أنه قول، والله أعلم.(36/12)
اغتنام الحياة
الحياة كنز، والواجب على العبد أن يغتنم ساعاتها، ومن أفضل الأعمال التي تغتنم فيها الأوقات ذكر الله عز وجل، والإتيان بالفرائض كالصلاة والصيام، ولقد أوضح الشيخ ذلك كله في محاضرته، مضمناً إياها ذكر الخصال الموجبة لمحبة الله، وحسن الخاتمة، وخاتماً إياها بذكر ثمرات اغتنام الحياة.(37/1)
الحياة كنز فاغتنمها
إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذي جمعنا بكم في بيتٍ من بيوت الله بعد هذه الفريضة من فرائض الله، اللهم لك الحمد كالذي نقول، ولك الحمد خيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول.
أيها الأحبة في الله: إن الحياة مهما مضت أيامها وانقضت سنينها وأعوامها فإنه لا بد لأصحابها من نهاية، لابد للإنسان أن يقف تلك الساعة الأخيرة من هذه الدنيا لكي يلقي عليها آخر النظرات على الأبناء والبنات، وعلى الإخوان والأخوات، لكي يتفطر قلبه على فراق ما هناك من الأحبة، ولقد كتب الله عز وجل على كل صغير وكبير وجليل وحقير أنه صائر إلى الله العظيم الكبير، فقال الله تعالى في كتابه ينعى للعباد أنفسهم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] فلا بد لهذه الحياة من هذه النهاية المحتومة، ولا بد لهذه الحياة من هذه الغاية المكتوبة.
ولكن ما إن يقف الإنسان عند هذه النهاية حتى يتفطر قلبه حزناً وألماً على الناس، وعلى الأحبة والأقربين، ولكن هناك حزن ليس هناك حزن أعظم منه، وهناك ألم ليس هناك ألم أشد منه، حينما يبكي على ساعات ليله ونهاره، حينما يحس من قرارة قلبه أن الحياة انتهت، وأن المهلة قد انقضت، وأنه قد صار إلى الله جل وعلا، لذلك ما إن ينتهي الإنسان من هذه الدنيا إلا وقلبه في حزن وهم وغم على ما فرط في جنب الله، يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصالِحِينَ} [المنافقون:10].
لذلك -أيها الأحبة في الله- حقيق بكل مؤمن بالله أن يعرف قيمة هذه الحياة، وأن يعلم أن الله تبارك وتعالى لم ينعم عليه بهذه الساعات واللحظات عبثاً، ولم يمتعه بهذا الوجود سدى، ما خلقك الله إلا لأمرٍ عظيمٍ وخطب جليل كريم؛ لكي تتعطر الحياة بطاعة مولاك، ولكي تتعطر الحياة بمحبة من أحياك، وتطيب الحياة بالقرب من الله في السعي في كل ما يرضي الله؛ لذلك فإن من أجل نعم الله على العبد أن يلهمه اغتنام هذه الحياة أن يلهمه اغتنام الساعات واللحظات في تقربه إلى الله فاطر الأرض والسماوات، إنها الغنيمة الباردة، والتجارة الرابحة التي يمسي الإنسان ويصبح فيها وهو قريب من الله، فكم من أيام قربت القلوب إلى ربها! وكم من ليالٍ شوقت القلوب إلى خالقها! إنها الغنيمة الباردة، والتجارة الرابحة حينما يغنم الإنسان الساعات واللحظات، فلا تمضي عليه ساعة من يومه، ولا ساعة من ليله إلا وهو في ذكر أو شكر.
ولقد أنزل الله جل وعلا كتابه المبين وبعث رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لكي يحيي في القلوب هذا الأمر الجليل، ولكي يتحرك الناس إلى عبادة الله رب الجنة والناس، ولكي يكون ليل الإنسان ونهاره مطية له إلى طاعة الله ومرضاة الله.(37/2)
ذكر الله من أعظم وسائل اغتنام الحياة
إن من أعظم ما يوفق الإنسان له لاغتنام هذه الحياة ذكر الله جل وعلا، ذكر الله الذي سبق به المفردون، فقد خرج صلى الله عليه وسلم في سفره، فقال لأصحابه: (سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
من أحيا الله قلبه بذكره وشكره، وشوقه إلى جنانه ورحمته فقد غنم هذه الحياة، ولذلك حقيق بنا أن نتفكر في هذه النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة التي أحياها رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه حينما فتح لأمته أبواب الطاعات، وشحذ هممهم إلى اغتنام الخيرات، فقال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] شوق المؤمنين إلى طاعته، لعلمه جل وعلا ألا سبيل إلى جنته إلا باغتنام هذه الحياة بسلوك طريق محبته، إنها التجارة الرابحة حينما يكثر الإنسان من ذكر الله جل وعلا، حينما يعمل بوصية الله في كتابه حيث يقول جل وعلا لأحبابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] ألم تعلم أنك إن ذكرته ذكرك، ولئن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه، ولئن ذكرته بين الناس ذكرك الله جل وعلا بين مَنْ هُمْ خير من الناس الذين ذكرته بينهم؟ ذكر الله الذي تدرك به من سبقك وتفوت به من بعدك.(37/3)
الصلاة من أعظم الأذكار
أعظم ذكر عمارة الأوقات بالصلاة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فيا من تريد اغتنام الحياة! يا من تريدها حياة طيبة يطيب ليلها ونهارها، يطيب صباحها ومساؤها؛ أكثر من الصلاة فإنها صلة بين العبد ومولاه، أكثر من الصلاة فإنه يستدرج بها العبد محبة مولاه، أكثر من الصلاة فإن الله جل وعلا يقول فيما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي عليها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
الصلاة نور نور في الحياة ونور بعد الوفاة نور في الحياة ولذلك نور الله وجوه المصلين، وقال الله في كتابه المبين عن أصحاب رسوله الأمين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] قال بعض العلماء: كانوا يحيون الليل بالعبادة فإذا أصبحوا أشرقت وجوههم من نور الصلاة في جوف الليل؛ ألا وإن الصلاة رحمة من الله جل وعلا فلن يشرح قلب إنسان للإكثار منها إلا أحبه الله جل وعلا، الصلاة قرب من العبد إلى مولاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها ويدعو إليها، وبين صلوات الله وسلامه عليه أحبها وأكرمها عند الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) وقال صلى الله عليه وسلم فيهما: (لا تتركوها ولو طلبتكم الخيل).(37/4)
صلاة النوافل من اغتنام الحياة
ألا وإن من اغتنام الحياة في الصلاة المداومة على ركعتي الضحى التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلاة الأوابين، والله للأوابين غفور رحيم.
وإن من اغتنام الحياة في الصلاة: صلاة أربع قبل الظهر تفتح لها أبواب السماء، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الظهر أربعا، ً فقالت له أم المؤمنين عائشة عن تلك الصلاة، قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الله على النار).
ألا وإن من خير الصلاة: المداومة على الرواتب التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حافظ عليها بنى الله له بها قصراً في الجنة، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى لله في يوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
ألا وإن من الصلاة المحمودة المباركة المشهودة: إحياء ما بين العشائين -ما بين صلاة المغرب والعشاء- إحياؤه بالصلاة، حتى قال بعض العلماء: إن الله عناها بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
ألا وإن من الصلاة المحمودة المباركة المشهودة: صلاة الليل قيام الليل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم) وهو خلة المتقين، وخصلة من خصال عباد الله المهتدين.
ألا وإن من أفضل ما يكون وأحب ما يكون من إحيائه قيام آخره، قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا في كل ليلة في الثلث الآخر، فيقول: هل من داع فأجيب دعوته؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) فمن أراد الله به خيراً وأراد له اغتنام هذه الحياة ألهمه إحياء الليل بالصلاة، فما حافظ عبد على قيام الليل إلا شرح الله صدره، ونور الله قلبه وقبره، ولذلك قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور) قالوا: ينور الله بكثرة الصلاة على العبد قبره إذا أظلم عليه.(37/5)
النفقة من اغتنام الحياة
ألا وإن من اغتنام الحياة اغتنامها بإنفاق الأموال في طاعة الله، أن يسخر الإنسان ماله لطاعة الله ومحبة الله، أنفق ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك (ما من يوم من الأيام إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
يا من أكرمك الله بالأموال! اغتنم هذه الحياة بإنفاقها، وأسر المال قبل أن يأسرك، وخذ من المال زاداً للآخرة، واعتبره وسيلة للتجارة الرابحة، أنفق من مالك طيبة به نفسك، استر به عورات المؤمنين، وفرج به كربات عباد الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن (العبد يوم القيامة في ظل صدقته).
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقي العبد النار بشق تمرة، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه دخل على عائشة وكانت قد دخلت عليها امرأة معها صبيتان، فاستطعمت أم المؤمنين، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت لكل بنت تمرة، فلما أرادت أن تأكل التمرة الثالثة استطعمتها إحدى البنتين فأخذت تلك التمرة وأعطتها لابنتها ولم تأكل منها شيئاً، فعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبين من صنيعها؟ إن الله حرمها على النار بتلك التمرة).
أخي في الله: إن إنفاق الأموال وبذلها في محبة الكبير المتعال من أعظم الخصال الموجبة لرحمة الله جل وعلا، كم من هموم فرجها الله عن الذين يسترون عورات المسلمين! كم من هموم وغموم نفسها الله لمن نفس هموم إخوانه المؤمنين! كم من مكروب فرج الله كربه بالنفقات! فأنفق على إخوانك ينفق الله عليك، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
الإكثار من النفقات من أعظم الأسباب التي يرحم الله جل وعلا بها العباد، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله رحم عبداً أنعم عليه بالمال فكان يداين الناس، فكان إذا جاءه المعسر قال لأصحابه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فقال صلى الله عليه وسلم: فلقي الله جل وعلا، فقال الله: نحن أحق بالتجاوز عنه، تجاوزوا عن عبدي).
فمن أكثر من إنفاق الأموال ستره الله بإنفاقها، ورحمه الله ببذلها، إن المال غادٍ ورائح، فكن سخي اليد في محبة الله ومرضاة الله، وكيف تنعم عين المؤمن بالراحة والسرور وعورات المسلمين قد انكشفت؟ وكيف ينعم المؤمن بنومه والمال بين يديه، وجراح المسلمين قد سالت؟ وكيف ينعم المؤمن بالراحة والسرور والمال بين يديه وأخوه في هم الدين وغمه؟ فأنفق ينفق الله جل وعلا عليك، وأكثر من الصدقات، واقصد بها وجه الله جل وعلا يكن لك في ذلك خيري الدنيا والآخرة.(37/6)
اغتنام الحياة بالصيام
ألا وإن من اغتنام الحياة في الطاعات صيام أيامها، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه سبعين خريفاً) أكثر من الصيام فإنه يوجب رحمة الله جل وعلا، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كرامة أهله عند الله، فهم لا يدخلون الجنة إلا من باب يخصهم (إن في الجنة باباً يقال له: الريان لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخوله قفل على آخرهم).
أكثر من الصيام لعل الله أن ينظر إليك وأنت في شديد الهاجرة، تقرحت أمعاؤك، وظمأت أحشاؤك في طاعة الله جل وعلا.
إن الصيام طريق التقوى، وسبيل موجب من الله الحب والرضا، أكثر من الصيام وخيره وأفضله صيام نبي الله داود: صيام يوم وإفطار يوم، فإن لم تستطع فصم ثلاثة أيام من كل شهر، فإن صيامها كصيام الدهر، قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن أبداً: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتا الفجر، وأن أوتر قبل أن أنام).(37/7)
الخصال الموجبة لمحبة الله
ألا وإن من اغتنام الحياة الحرص على الطاعات، والتشمير في المحبة والمرضات، أكثر من الخصال الموجبة لمحبة الله.(37/8)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ألا وإن من أحب الأعمال إلى الله وأعظمها أجراً عند الله: التذكير بالله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر الغافلين، ونبه النائمين، وبصرهم بسبيل رب العالمين؛ يكن لك في ذلك ذخر في الدنيا والدين.
إذا رأيت أخاك على معصية فحذره عواقبها، وخذ بيده حتى يكف عنها، ذكر بالله جل وعلا من غفل، فإن الله يعظم الأجر لمن دعا إليه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته حتى الحيتان في جوف الماء يستغفرون لمعلم الناس الخير).
والله ما مررت على عاصٍ فذكرته بالله فانكف عن معصيته إلا كان لك أجره، ولا هدى الله بك عبداً إلى سبيل رحمته إلا كان في ميزان حسناتك، وما ركع إلا كتب لك مثل أجره، ولا سجد إلا كتب لك مثل أجره، ولا ذكر إلا كان لك مثل أجره، فاغتنم هذه النعمة بالتذكير بالله جل وعلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لاغتنام الحياة، وأن يجعلنا وإياكم ممن وفق لاغتنامها وإحيائها في طاعة الله ومرضاته.(37/9)
صلة الأرحام
ألا وإن من أعظم الطاعات وأحبها إلى الله صلة الأرحام التي أمر الله أن توصل، وأخبر أنها من خصال أهل الجنة، وأنها موجبة من الله عز وجل الكرامة والمنة، صل الأرحام في الله يصل من وصلها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحم فتعلقت بعرش الرحمن، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
قال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ فرضيت بذلك) فكن ممن وصلها وتقرب إلى الله جل وعلا بصلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح: (من وصل رحمه أنسأ الله له في أثره، وبارك الله له في رزقه، وبسط الله له في عمره) صل الأرحام فإن صلتها موجبة لرحمة الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى: إني أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فهي الرحم وأنا الرحمن، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته).(37/10)
أذكار الصباح والمساء
ألا وإن من الطاعات والباقيات الصالحات: المحافظة على أذكار المساء والصباح، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه كلما أظلم عليه الليل وأضاء عليه النهار، كان للنبي صلى الله عليه وسلم سنن وأذكار يقولهن في الليل والنهار، فمن تأسى به صلوات الله وسلامه عليه حفظه الله بحفظه، ورفع الله درجته، وأعظم أجره، ووفقه لسبيل رحمته.
أكثر من الأذكار فإن الله يذكر من ذكره، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأعظمها أجراً عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله عند قيامه، ويذكر الله عند صباحه، ويذكر الله عند مسائه، وأذكار الصباح والمساء حرز من الله للعبد وحصانة من الله للعبد، ومن حفظها حفظه الله جل وعلا.(37/11)
حلق الذكر والزيارة في الله
ألا وإن من أحب الأعمال إلى الله غشيان حلق الصالحين، وزيارة عباد الله المتقين، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا خرج إلى صلة أخيه في الله نادى عليه مناد من السماء: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه: (إن لله ملائكة سياحين فضلاء يغشون حلق الذكر، فإذا رأوا حلق الذكر نادى بعضهم بعضاً أن هلموا، فيحفونهم إلى عنان السماء حتى إذا انقضوا صعدوا إلى الله فسألهم عن عباده وهو أعلم، قالوا: أتيناهم وهم يذكرونك، يقول: فماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة.
قال: ومم يستعيذون؟ قالوا: يستعيذون من نارك، قال: وهل رأوها؟ قالوا: لا.
قال: كيف لو رأوها لكانوا أشد فرقاً منها، ثم قال: ولهم قد غفرت.
قالت الملائكة: إن فيهم فلاناً عبد خطاء كثير الذنوب قد مر وجلس معهم، قال: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فاعمر مجالس الذكر، واعمر مجالس العلماء، ولينظر الله إليك تضرب الخطا إليها، ولينظر الله إليك قد تعلق قلبك بها، اخرج إلى مجالس الصالحين فإن الجلوس معهم مرضاة لله رب العالمين، محبتهم عبادة، والجلوس معهم عبادة، وكن معهم كخير ما يكون الأخ مع أخيه، إن نسوا الله ذكرهم، وإن ذكروا الله أعنهم.(37/12)
بر الوالدين
من أعظم هذه الخصال: بر الوالدين، وإدخال السرور عليهما، وتفريج كروبهما والقيام بحوائجهما، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضي الله على من أرضى والديه، وسخط الله على من أسخط والديه) فلتطب حياتك ببر الوالدين، فكم من دعوة صالحة استجابها الله من الوالدين أسعد الله بهما من بر، وإياك والعقوق فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة عاق) قال بعض العلماء: معناه لا يوفق لحسن خاتمة والعياذ بالله.(37/13)
اغتنام الحياة والتوفيق لحسن الخاتمة
ألا وإن من نعم الله على العبد إذا اغتنم هذه الحياة أن يوفقه لحسن ختامها، من اغتنم الحياة في طاعة الله فإن الله يختمها له بخير.
فقل أن تجد إنساناً يحافظ على طاعة الله إلا ختم الله عز وجل حياته بالحسنى؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يسعى جهده في طاعة الله حتى إذا جاءه الموت جاءه على خصلة من خصال الخير، قال بعض العلماء في تفسير قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] قالوا: إن معنى الآية: أكثروا من طاعة الله حتى إذا جاءكم الموت جاءكم على طاعة فقبضت الأرواح عليها.
وقال بعض العلماء: من مات على طاعة بعث عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه، في الرجل الذي وقصته دابته وكان محرماً بالحج: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه ولا تغطوا وجهه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).(37/14)
الحرص على حسن الخاتمة
وأعظم شيء في الحياة يحمل المؤمن همه وغمه مسك الختام، فإن العبد قد يكون على أصلح ما يكون ليس بينه وبين الجنة ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
إن الخاتمة هي المهمة؛ ولذلك قال العلماء: الحرص على اغتنام الحياة هو السبيل لبلوغ حسن الخاتمة، كما قال الله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أكثروا من خصال الخير، ولذلك أكثر الأخيار من خصال الخير فجاءهم الموت على حسن خاتمة فمات الواحد منهم قرير العين برحمة الله ومرضاته، فهذا يموت ساجداً، وهذا يموت راكعاً، وهذا يموت وهو خارج إلى صلة رحمه أو زيارة أبيه وأمه، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله جل وعلا ويرضاها.
وإذا غفل العبد عن الله فإن من أعظم ما يبتلى به ألا يوفق لحسن الخاتمة والعياذ بالله، ولذلك من كثرت غفلته حتى ألهته دنياه وتجارته جاءته الخاتمة على تلك الدنيا وهو يبيع ويشتري ويأخذ ويكتري غافلاً عن الله جل وعلا، لا يدري، نسأل الله السلامة والعافية.(37/15)
صور من حسن الخاتمة
حسن الخاتمة يوفق لها من وفقه الله لاغتنام الحياة، إن الله يعظم من العبد اغتنام الليل والنهار حتى يقر عينه بمسك الختام، لا يزال العبد يحافظ على طاعة الله في الليل والنهار حتى يأتيه الأجل على خصلة من خصال الخير التي يحبها الله.
ذكروا عن رجل أنه كان كثير الأسفار في العطل إلى الأماكن التي لا تحمد، وشاء الله جل وعلا أن يقيض له من يذكره ويهديه إلى الخير ويبصره، فقال له: يا فلان! إنك تذهب في كل عام إلى هنا وهناك فهل لك أن تعتمر؟ هل لك أن تذهب إلى رحمة الله جل وعلا بدل أن تذهب إلى معصيته؟ فشاء الله جل وعلا أن تلق هذه النصيحة أذناً مصغية وقلباً واعياً، فشاء الله جل وعلا أن يجعل عطلته الأخيرة عمرة إلى مكة، ويشاء الله أن يخرج هو وأهله معتمرين، وقبل أن يبلغ البيت يقع ذلك الحادث الذي لا تبقى فيه نفس من أهله، فشاء الله جل وعلا بعد هذه المعاصي وبعد هذه الغربة الطويلة عن طاعة الله ومرضاة الله أن تكون خاتمته على أحسن ما تكون عليه الخواتم، أن يبعث يوم القيامة ملبياً محرماً، فالعبد إذا حافظ على الطاعات أقر الله عينه بحسن الختام، وقل أن تجد في قصص الصالحين إنساناً حسنت خاتمته إلا وجدته قبلها من أحرص الناس على الخير.(37/16)
من ثمرات اغتنام الحياة
من أجل نعم الله لمن وفقه الله لكثرة الأعمال الصالحة أن يحسن خاتمته، ومن ثمرات اغتنام الحياة.(37/17)
أخذ الكتاب باليمين
ومن عواقبها الحميدة وآثارها الجليلة المجيدة: يوم يبعث الناس على رءوس الأشهاد بين يدي الله رب العباد، فينادي منادي الله بالصحائف، فتطير الصحائف فلا يدري الإنسان أينال صحيفته باليمين فيكون من الناجين أم ينالها بالشمال فيكون من الهالكين، إذ بذلك العبد الصالح ينال كتابه باليمين، ذلك الكتاب الذي مليء من صالح الأقوال والأعمال فينادى على رءوس الأشهاد {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20].(37/18)
دخول الجنان
ومن ثمرات الأعمال الصالحة واغتنام الحياة في مرضاة الله جل وعلا: دخول الجنان، والفوز بما فيها من الروح والريحان، فإذا دخلها المؤمن خلف كل هم وغم وراء ظهره، قيل لبعض السلف: أمرتاح أنت؟ قال: (إنما الراحة حين أضع قدمي على أعتاب الجنة) فإذا وضع المؤمنون الصالحون أقدامهم على أعتاب الجنان خلفوا وراءهم الهموم والغموم، ودخلوا إلى دار السلام والسلوان، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
ولذلك يناديهم الملائكة ووجوهم كالأقمار المضيئة، وهم داخلون ينادونهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] طبتم بماذا؟ طبتم بالأعمال الصالحة، طبتم بقيام الليل، بالإنفاق، بالبذل، بالتضحية، بالاغتنام لهذه الحياة في مرضاة الله ومحبة الله.
أحبتي في الله! ألا وإن سلعة الله غالية، ألا وإن سلعة الله الجنة، ألا وإن من يريد أن يفوز بهذه الكرامات والباقيات الصالحات فليجتهد غاية وسعه في محبة الله جل وعلا، إن الطاعة تحتاج إلى جهاد تحتاج إلى صبر تحتاج إلى كفاح وجلاد الطاعة تحتاج إلى تعب ونصب، ولكن تعب ساعة وراحة عمر ودهر.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن اغتنم الحياة في طاعته، ووفقه الله لسلوك سبيل محبته ومرضاته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/19)
قبول العمل الصالح
إن الله جل وعلا يقبل منك العمل الصالح -خاصة في شبابك، خاصة في اقتبال العمر- إنك إن أقبلت على الله في عز الشباب عظمت عند الله نشوتك وصحتك وعافيتك وقدرتك على معصية الله وأنت تنصرف إلى طاعة الله ومرضاته.
ولذلك ذكروا عن رجل أنه بلغ أكثر من مائة سنة وكانت قوته قوة الشاب، قالوا له: كيف وقد بلغت أكثر من مائة وقوتك قوة الشاب؟ فقال رحمه الله: أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
من اغتنم الحياة في طاعة الله أنعم الله عينه بالحياة الطيبة، فمن ثمرات اغتنام الحياة في طاعة الله أن الله يطيبها بالعمل الصالح، ولذلك قال الله في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: والله لنحيينه حياة طيبة.
فمن بشائر اغتنام الحياة في طاعة الله أن الله يطيبها؛ ولذلك تجد العبد الصالح كثير الذكر والشكر، في طمأنينة وراحة نفس وهناءة بال، لو بذلت أموال الدنيا لكي يصيب الإنسان تلك الراحة ما ذاقها.
إذا صلى الإنسان فرضه وخرج من بيت الله ومسجده كم يجد من الراحة والسلوان، وكم يجد من الطمأنينة التي والله لو بذل لها الأموال ما بلغها ولا حصلها، فهذه من ثمرات اغتنام الحياة في الطاعة.(37/20)
جعلك قدوة للناس في الخير
ومن ثمرات اغتنام الحياة في الطاعة: أن الناس يتخذونك قدوة في الخير، قال الله عن عباده الأخيار: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] قال بعض العلماء: معنى الآية: اجعلنا كثيري الخير حتى يقتدي الناس بنا في الخير، ولذلك إذا وجد في الناس عبد صالح كثير الذكر كثير الشكر كثير الطاعة اتخذه الناس قدوة في الخير وإماماً، فإذا رأيت أخاك كثير الصيام أحببت الصيام برؤيته، وإذا رأيت أخاك كثير القيام في الليل أحببت قيام الليل برؤيته، فيأخذ أجرك حينما كان قدوة لك في الخير.(37/21)
تأمين الله أهل الطاعة إذا خافوا
ومن ثمرات اغتنام الحياة في الطاعة: أن الله جل وعلا يؤمن أهلها إذا خافوا، وأن الله جل وعلا يقضي حوائجهم إذا سألوا، فلذلك تجد أهل الطاعات أغنى الناس بالله جل وعلا، فقلوبهم غنية بالله سبحانه وتعالى لا تمتد أكفهم إلى أحد سواه، ولا تتعلق قلوبهم بشيء عداه، إن أصابتهم الضراء صبروا فأنعم الله عليهم بالصبر، وإن أصابتهم السراء شكروا فأنعم الله عليهم بذلك الشكر.
ألا وإن اغتنام الحياة بالطاعة خير كثير وثواب جزيل يسعى إليه الصالحون، ويشمر فيه الأخيار والمتقون، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم منهم.(37/22)
الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة
أما الثمرات الأخيرة التي يراها الإنسان على أتم ما تكون عليه ثمرة الصلاح والفلاح، وعلى أكمل ما يكون عليه الربح والنجاح إذا ضم العبد قبره وأوسد لحده فإنه يجد أثر هذه الطاعات على أتم الوجوه وأكملها، فإن الله جل وعلا أخبر أن أهل الاستقامة ينعم عليهم إذا صاروا في آخر لحظاتهم من الدنيا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] جمعوا بين الأمرين: القول والعمل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] استقاموا بالعمل الصالح استقاموا باغتنام الحياة في طاعة الله ومرضاة الله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] عزت عند الله مكانتهم فأنزل إليهم الملائكة في سكرات الموت، تنزل عليهم الملائكة إذا صاروا في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، في تلك اللحظة التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر، في تلك اللحظة العصيبة ينظر الإنسان نظرتين لا ينظر غيرهما: أما النظرة الأولى: فهي أمامه، وأما النظرة الثانية: فهي وراءه، فإذا نظر أمامه أصابه الخوف، وإذا نظر وراءه أصابه الحزن، أما النظرة التي إلى ورائه فإلى أبنائه وبناته إلى الذرية الضعيفة التي يتركها من ورائه، إلى أزواجه، إلى عشيرته، إلى قرابته، ينظر إليهم بقلب متقطع مليء بالحزن.
أما النظرة التي أمامه فهي نظرة لهذه الدار غير الدار التي يعرفها، وإلى هذا المنزل الذي ما نزله من قبل، وإلى هذه الرحلة التي لا رجعة بعدها، وإلى هذا السفر الذي لا إياب بعده، فيصيبه الخوف لا يدري هل هو قادم على رحمة أو قادم على عذاب! أقادم على جنان وروح وريحان، أم قادم على جحيم ونيران وسخط من الديان! لا يدري، فينزل الله جل وعلا عليه الملائكة لكي تقول هذه الجملة: {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أي: لا تخافوا من هذه الدار التي أنتم قادمون عليها {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] أي: على فراق الذرية.
ولذلك ورد في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاًً} [الكهف:82] كان أبوهما عبداً اغتنم الحياة في طاعة الله ومرضاة الله، يقول بعض العلماء: كان أبوهما صالحاً: الجد السابع لهذين اليتيمين، ذكر الله العبد الصالح في الذرية في الطبقة السابعة من الأبناء، ذكر الله عز وجل هذه الذرية بفضل الله أولاً، ثم بما كان من صلاح الجد، {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أي: على هذه الدار التي أنتم قادمون عليها {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] على فراق الأهل والذرية؛ ولذلك إذا رأى المؤمن ما عند الله من الحبوة والكرامة والرضا في أول لحظة من لحظات الآخرة، وفي أول ضجعة له في القبر، إذا رأى نعيم الآخرة وبشائر الرحمة لو خير بين أن يبقى ويرجع إلى أهله لاختار البقاء على الرجوع إلى الأهل.
كثير من الناس يخافون الموت، كثير من الناس يجزعون من الموت، ولكن إذا كشف للعبد المؤمن ما عند الله من الرحمات وثواب اغتنام الحياة في الطاعات كان شوقه إلى ذلك أعظم من شوقه إلى أهله وأولاده؛ ولذلك ما أعظم الغنيمة! وما أعظم الربح! وما أعظم الفوز حينما يُضجع الإنسان في قبره قرير العين بطاعة الله! وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الملكين إذا سألا العبد الأسئلة الثلاثة عن ربه ودينه ونبيه صلوات الله وسلامه عليه قالا له: نم صالحاً -لأن الله أصلحه في الدنيا وهذه عواقب الصلاح في قبره- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فيفتح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة) مما يحس من عظيم كرامة الله التي تنتظره.
وجاء في الحديث الآخر عند أحمد رحمه الله في المسند (أنه إذا قالا له: نم صالحاً.
جاءه رجل على أحسن ما يكون وأجمل ما يكون من صورة فيقول ذلك الميت الصالح: من أنت؟ فوجهك وجه خير ولا يأت إلا بخير؟ فيقول له: أنا عملك) أنا قيام الليل، وصيام النهار، ولذلك المؤمن الصالح إذا قام في ركعة نافلة واستثقلها وأحس بطولها وجاءته السآمة والملالة في طاعة الله فليتذكر يوم تكون هذه الطاعة أنساً له في القبر، ليتذكر يوم تكون له هذه الركعة والسجدة نوراً له في القبر، ليتذكر يوم تكون هذه الركعة والسجدة نوراً له على الصراط، هذه غنائم وهذه عواقب اغتنام الحياة في طاعة الله ومرضاة الله.(37/23)
الأسئلة(37/24)
العدول عن فتوى جواز ركوب المرأة مع السائق الأجنبي
السؤال
سمعنا لك في أحد الأشرطة فتوى بجواز ركوب المرأة لوحدها مع الرجل إذا كان الرجل موثوقاً يجوز أن تذهب معه داخل البلد، فهل هذا صحيح؟ وهل سبقكم إلى هذا أحد من أهل العلم؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: نعم.
هذا كان في شريط صلاح المرأة، والسبب أني كنت أعتمد على حديث أسماء رضي الله عنها حينما أناخ النبي صلى الله عليه وسلم بعيره لكي تركب، وله أصل كما ثبت في الصحيح من قصة عائشة رضي الله عنها مع صفوان بن المعطل في قصة الإفك؛ لأنه كان قائد بعيرهم، ولكني عندما نظرت إلى فساد الناس وتذرع الكثير بهذه الفتوى إلى مسألة ركوب النساء مع السائق الأجنبي، ووجود الفرق بين الصورتين؛ لأن البعير الخلوة فيه ليست كالخلوة في السيارة الموجودة الآن، رأيت أن الأقرب إلى الصواب هو المنع من هذا الأمر، ولذلك أعدل عن القول بهذه الفتوى، وقد عدلت عنها منذ عام، ورأيت أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو المنع من هذا إلا في حالات الضرورة وهو محل اتفاق بين أهل العلم رحمة الله عليهم، لحديث أم سلمة الثابت في قصة هجرتها لما هاجرت رضي الله عنها دون محرم.
فالمقصود: أن هذا القول أفتى به غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم يجيزون قضية ركوب المرأة على بعيرها، وقيادة الأجنبي لها، هذا محفوظ وموجود، والسنّة دالة عليه كما في الأحاديث التي ذكرناها، مثل حديث صفوان بن المعطل، وحديث أسماء رضي الله عنها، ولكن هناك فرق بين السيارات الموجودة الآن وبين الركوب على البعير، والفرق واضح؛ ولذلك أرى أن فقه الفتوى هو المنع من هذا ما أمكن، وعدم جوازه إلا في حال الاضطرار، وجزاك الله خيراً على هذا، ولذلك أحب التنبيه على هذه الفتوى في شريط صلاح المرأة، ولا يتذرع بها، ونسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(37/25)
الطريقة المثلى لإنكار المنكر
السؤال
هذا سائل يتحدث عن غربة هذا الزمان، وعن الأمور التي فشت عند كثير من الناس من الفساد والأمور المحرمة ويقول: ما هو واجبي أمام إقبال هؤلاء الناس على الحياة والانغماس في الملذات؟
الجواب
نجمل هذا الواجب في أمور: أولها: أن تكون قدوة في مجتمعك، أول ما يفكر فيه الشاب الصالح الموفق الذي يريد هداية الناس ويريد الخير للناس: أن يكون قدوة، أول ما تفكر فيه صلاح نفسك، وتحمل نفسك على طاعة الله ومحبة الله حتى تكون إمام خير، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] أول ما يفكر فيه الشاب الصالح الموفق أن يكون قدوة للغير، ولذلك ما أوحى الله إلى نبيه الكتاب ولا أنزل إليه إلا بعد أن أصبح إماماً وقدوة لمجتمعه، كانوا يسمونه الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
تكون قدوة في صلاحك وطاعتك لله جل وعلا، وقدوة في أخلاقك ومعاملاتك للناس، تحاول قدر استطاعتك داخل مجتمعك، وأقرباؤك وجيرانك وأهلك لا بد أن يلمسوا أن هذه الهداية غيرت من حياتك، فالكبير يراك تجله، والصغير يراك توقره، ويرى فيك رحمة الهداية، فتكون كأنك طبيب تأخذ الناس إلى محبة الله ومرضاة الله، تداوي القلوب بكلام الله علام الغيوب، أول ما تفكر فيه أن تكون قدوة في نفسك، وكم من قدوة صالح دعا الناس بأخلاقه وأعماله قبل أن يدعوهم بقوله، قال بعضهم: كونوا دعاة وأنتم صامتون، قالوا: كيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وسمتكم قبل أن تدعوهم بقولكم، فالدعوة بالقدوة الصالحة.
النقطة الثانية أخي في الله: النصيحة والموعظة الحسنة، وتختار لها الوقت المناسب والأسلوب المناسب، فإذا رأيت جاراً على زلة تختار أفضل الأوقات لزيارته أو تدعوه إلى زيارتك، ثم تكلمه كلمة المشفق من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أوصيك ألا تخرج كلمة منك وأنت تنصح أو تعظ إلا وأنت ترجو الله والدار الآخرة، الكلمة الصادقة والنصيحة الخالصة لوجه الله لا يمكن أن تذهب سدى، لا بد أن تقع في القلوب ولا بد أن تؤثر في القلوب إن عاجلاً أو آجلاً، كن صادقاً ليس هدفك إلا نجاة العبد، لا تنطلق حمية ولا غيرة، بعض الأحيان يرى الرجل أخاه على منكر فيقول: فضحتنا، فعلت بنا، فعلت بنا.
إذاً ما هو الدافع لإنكار المنكر؟ الحمية، العصبية، لكن حينما ينطلق مشفقاً عليه من عذاب الله، يقول: يا أخي! اتق الله، يا أخي! إني أخاف عليك عذاب يوم عظيم! يذكره بالله جل وعلا؛ يجد لهذه الموعظة والنصيحة أثراً، فكن صادقاً مع الله في نصح الناس وتوجيه الناس.
ومما يعين على الصدق أن تعلم أنه إذا ترك هذا الحرام أجرت على تركه، وأنه إذا فعل هذه الطاعة والله ما فعلها يوماً من الأيام في سواد ليل أو ضياء نهار إلا كان لك مثل أجره، فهذه غنيمة وتجارة رابحة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم منها.
واعلم -أخي في الله- أن مهمتنا البلاغ {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أقم حجة الله على عباد الله، فإن خرج الأمر إلى الاستهزاء والسخرية فاصبر، أوصيك بأمرين: أولاً: ألا تتألم لسخرية الساخرين، واستهزاء المستهزئين.
ثانياً: إياك أن تجاري أهل الجاهلية في جاهليتهم، إذا جئت تنصح أي شخص فوجدته يستهزئ أو يتلاعب فكف عنه وأعرض عن الجاهلين، فإنه إذا رآك لا تجاريه في جاهليته علم أن هدفك هو النصح والتوجيه.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، والله تعالى أعلم.(37/26)
الوسائل المعينة على قيام الليل
السؤال
كثير من الإخوة يسألون عن الوسائل المعينة على قيام الليل؟
الجواب
من أعظم الوسائل: سؤال الله عز وجل والدعاء، سل الله جل وعلا أن يجعلك من أهل قيام الليل؛ فإن أهل قيام الليل هم الصالحون وعباد الله المتقون، وأولياؤه الذين يذكرونه بالأسحار إذا نامت الأنظار، وتوارى الإنسان عنها، وأصبح في الدعة والسرور قام بين يدي الله يناجيه ويناديه، سل الله عز وجل أن يجعلك من أهل قيام الليل.
الوسيلة الثانية التي تعين على قيام الليل: كثرة ذكر الآخرة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] هذا أول شيء، إذا أردت أن تكون من أهل قيام الليل أكثر من ذكر الآخرة والخوف من الآخرة؛ فإن الله يحيي بهذا الخوف ليلك، فتصبح في خوف مما أنت قادم عليه فتقوم تركع أو تسجد أو تستغفر أو تتلو كتاب الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:9] القنوت: قيل: ملازمة الشيء، وقيل: الذكر {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] إذاً أول شيء هو الخوف من الآخرة، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الزمر:16] ماذا؟ {خَوْفاً} أول شيء الخوف {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] فإن أردت أن يجعلك الله من أهل قيام الليل فهيئ في نفسك الخوف من الله؛ حتى يجعل الله فيك شوقاً للنجاة، والذي يخاف الله جل وعلا يوفقه الله لقيام الليل، ويكون قيام الليل سهلاً ميسراً عليه، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم.
الأمر الرابع الذي يعين: الأخذ بالأسباب، ومنها قراءة سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، والصحابة رضوان الله عنهم، فهذه من الأمور التي تحيي في القلوب حب قيام الليل، وإذا أحببت قيام الليل حرصت عليه.
كذلك أيضاً من الأسباب التي تعين على قيام الليل الآتي: إياك والسهر بعد العشاء، يكفي الدنيا من بعد الفجر إلى صلاة العشاء، ما يكفي الإنسان الدنيا هذا كله وهو في دنياه يسرح ويمرح؟ بعد العشاء -يا أخي- اقفل باب بيتك، وتوضأ وقم بين يدي ربك، والله يمكن الجزء ما يأخذ منك ثلث ساعة، جزء من كتاب الله جل وعلا، الحرف بعشر حسنات، تقرأ الصفحة آلاف الحسنات تكون لك، وهي لا تأخذ منك خمس دقائق تجارة وغنيمة وفوز وربح، بمجرد أن تصلي العشاء، الآن كثير منا يجلس مع ضيفه أحياناً ثلاث ساعات بعد صلاة العشاء ولا يستكثرها ولا يشعر بها من حلاوة الضيف! فكيف بحلاوة مناجاة الله جل وعلا؟! إذا لم تستطع قيام آخر الليل بعد صلاة العشاء توضأ يا أخي! وخذ كتاب الله، إن كنت تحفظ اقرأ من حفظك، وإن كنت لا تحفظ فخذ كتاب الله ولو تقرأ بالنظر، وهي ساعة تفرغ فيها لذكر الله جل وعلا، واذكر ما فرطت فيه في يومك، تستغفر، تذكر، تسأل الله عز وجل خير الدين والدنيا والآخرة، وتسأل الله لك ولوالديك.
فهذه من أهم الأمور، الأخذ بالأسباب، قيام الليل يحتاج إلى جهاد، يحتاج إلى رجل كامل الرجولة في إيمانه، فإذا أخذت بهذه الطريقة نظر الله إليك كل ليلة، وهذا أمر لا تفرط فيه مهما كان، قيامك لليل إذا ابتدأت القيام بعد صلاة العشاء تحافظ عليه يصبح أعز عليك من طعامك وشرابك، اليوم الأول تراه كالجبل، واليوم الثاني كنصف جبل، واليوم الثالث أحب إليك -والله- من أهلك وولدك، حتى أنك تضيق لو أن أحداً قال لك: تعال افعل كذا أو احصل على كذا بعد هذا؛ من لذة وحلاوة طاعة الله جل وعلا، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
فإن استطعت أن تفعل هذا فإن الله قد يحب ويجل منك هذا العمل، فيوفقك إلى قيام نصف الليل، ثم يجل منك هذا حتى تصبح من أهل قيام الثلث الآخر، فينعم الله عليك فتكون ممن قام الليل وكتب من الذاكرين.
أكثر من قيام الليل فإن الله عز وجل يشرح به الصدور، وينير به القلوب، حتى قال بعض أهل العلم: إن من أعظم أسباب النجاة من عذاب الآخرة قيام الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديثاً طويلاً في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه في قصته مع الملك أنه رضي الله عنه عندما قص الرؤيا - قصتها حفصة، أخته، أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: (إن أخاكِ رجل صالح فليعني على نفسه بكثرة السجود في الليل) قالوا: إن هذا يدل على أن قيام الليل من أعظم الأسباب التي تذهب روع الآخرة وخوف الآخرة.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهل قيام الليل، والله تعالى أعلم.(37/27)
وصايا لمن تاب وقلبه معلق بالمعصية
السؤال
فضيلة الشيخ! أنا شاب تائب -أسأل الله أن يرزقني التوبة النصوح- وكنت من قبل التوبة أشاهد عدداً كبيراً من الأفلام الجنسية، ولا يخفى عليك ذلك الخيال المشبع بتلك الصور، فما الوسيلة للنسيان ومقاومة تلك الشهوة الجامحة التي لم أستطع ردها حتى بالصوم، وأستغفر الله لي ولك وللمسلمين؟
الجواب
أولاً: الحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة والهداية، وشرح صدرك لسلوك سبيل محبته ومرضاته.
أوصيك أخي بحب الله، فإذا أحببت الله جل وعلا أنعم عليك، ألا وإن من حب الله الذي يزيدك الله به ثباتاً على الهداية أن تشكره على هذه النعمة، فتقول: الحمد لله والشكر لله أنه لم يدركني الموت وأنا على هذه الملهيات والمغريات والشهوات المهلكات، فاحمد الله عز وجل على نعمته.
الوصية الثانية التي أوصيك بها: إن كثرت عليك هذه المشاهد فأوصيك بكثرة ذكر القبر والموت، فما هذب سلوك الإنسان شيء أعظم -بعد توفيق الله جل وعلا وهدايته- من ذكر القبر والموت والحشر والنشر، والسؤال والصراط، أكثر من ذكر الآخرة فإن الموت نغص على أهل اللذات لذاتهم، والموت قطع أهل الشهوات عن شهواتهم، أكثر من ذكر تلك اللحظة الأخيرة من هذه الحياة، والله مهما بلغ من معصية الإنسان إذا تذكر أنها ستمر عليه هذه اللحظة التي لا يدري متى زمانها ولا يدري أين مكانها هانت عليه الدنيا وما فيها، وتذكر أنه سيمر عليه مثل هذه اللحظة وأنت ضجيع القبر والبلى لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأنت مرهون بما كان ويكون من أمر الله جل وعلا، فأكثر من ذكر الآخرة فإن الله يقوم بها سلوك المؤمن ويحفظه من الزلل.
والأمر الثالث: أوصيك بوصية هي من أفضل الوصايا في مثل هذه الأمور: كثرة الدعاء، أكثر من الدعاء فإن الدعاء سلاح المؤمن، القلوب بين أصبعين من أصابعه سبحانه وتعالى، ولذلك أكثر من دعائه وسؤاله أن يصرف قلبك عن هذه الشهوات وهذه المناظر والملهيات فإن الله يفعل، فإن أمر الله كن فيكون، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] فالله يحول بين المرء وقلبه، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من دعاء الله جل وعلا، ويسأل الله جل وعلا أن يصرفها عنه، وبإذن الله ستجد من الله فرجاً ومخرجاً.
أخي في الله! إن هذا الذي تجده الآن من تعلق قلبك بما مضى، وتحس في بعض الفترات يمر عليك طيف من خيالها امتحان وابتلاء واختبار من الله جل وعلا، الله يريد أن يختبرك الآن، فإن حن الإنسان إلى الماضي كان ناقصاً في هدايته، وناقصاً في إيمانه على قدر حنينه، ففر إلى الله وأنت إذا جاءتك تبكي وتشتكي وتتألم وتضيق عليك الدنيا كان هذا الضيق وهذا الهم الذي يصيبك في ميزان حسناتك؛ لأنه كما أن للأيدي والألسنة أعمال فللقلوب أيضاً أعمال، فلذلك مقتك لهذه الصور عندما تتذكرها وتتألم منها وتكثر من الاستغفار عند ذكرها فإن الله جل وعلا يثيبك عليه.
والوصية الأخيرة: إذا مر بك طيفها اذكر الله، وأرجو من الله جل وعلا إذا فعلت ذلك أنه لا يعود لماذا؟ لأن طيفها جاءك من الشيطان، فالشيطان يريد أن يذكرك هذا الماضي حتى تحن إليه، فإذا وجدك صادقاً بمجرد ما يذكرك بها تذكر الله ما يأتيك؛ لأنه لا يريد ذكر الله جل وعلا، فأكثر من ذكر الله، وكن مع الله جل وعلا، بمجرد ما تذكرها قل: أستغفر الله.
وإذا ذكرتها يتفطر قلبك على التفريط في جنب الله، ويكون عندك حزن على ما أنت قادم عليه من الآخرة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصرف قلبك عنها، وأن يجعل لك الفرج منها، والله تعالى أعلم.(37/28)
نصيحة لمن يذهبون إلى العرافين والمشعوذين
السؤال
فضيلة الشيخ: نلاحظ انتشار المشعوذين وكثرة الذين يذهبون إليهم، فهل من كلمة توجيهية لهؤلاء؟
الجواب
تعلق الناس بغير الله مصيبة عظيمة، وثلمة في الدين، ولذلك الواجب هو التناصح، وعدم إهمال هذا الأمر، وينبغي على كل إنسان أن ينصح من يعلم أنه يذهب إلى العرافين أو المشعوذين من أجل أن يدفعوا أو يتسببوا فيما يزعم أنهم يفعلونه لقاء بلائه وعنائه.
فأوصيكم إخواني بأداء النصيحة والتوجيه لمن يذهب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أتى أمثال هؤلاء فقد كفر بما أنزل على محمد والعياذ بالله، فالأمر عظيم، مزلة قدم، وموجبة لسخط الله جل وعلا على الإنسان.
أما القضية الأخيرة التي أحب أن أنبه عليها: من أصابه هم وغم، فليكثر أولاً من الاستغفار، وثانياً: يحاول أن يكون قريباً من رياض الصالحين ومن حلق الذكر؛ لأن الذي فيه مس أو عناء الغالب أن سلطان الشيطان يضعف في بيوت الله جل وعلا، يكثر من غشيان حلق الذكر ومجالس الصالحين، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أنها تتنزل عليه الملائكة، والشيطان يفر من الملائكة، قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48] قال ابن عباس: [رأى جبريل ومعه الملائكة يوم بدر، وكان يحرض المشركين على القتال حتى وصلوا إلى بدر، فلما بلغ قبل العدوة نكص على عقبيه] كان يحرضهم طيلة الطريق أكثر من ثلاثمائة كيلو وهو معهم، يقول لهم: أنتم المنصورون، وأنتم القاهرون، وأنتم وأنتم.
حتى بلغوا مشارف الموت، لكي يروا مصارعهم، ويأتي أمر الله وقدر الله فتضرب تلك الرقاب مهينة لمعصية الله جل وعلا، فلما بلغ ذلك ورأى تنزل الملائكة نكص على عقبيه، هنا عرف قدره، أولاً: يكذب ويقول: إني معكم، إني جار لكم.
حتى إذا بلغ هذا المبلغ نكص على عقبيه وقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله من شدة ما رأى من هول: تنزل الملائكة وجبريل لكي تقاتل مع أولياء الله جل وعلا، ولذلك من به مس إذا تليت عليه آيات الكتاب ماذا يفعل؟ يصرع مباشرة؛ لا يستطيع، سلطان القرآن على الشياطين قوي، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من تلاوة القرآن، فقد ذكروا عن رجل أنه هدده ساحر والعياذ بالله أن يعمل له عملاً، وكان قوي العقيدة في الله جل وعلا، وهو من طلبة العلم.
يقول: فحبست عن أهلي فألهمني الله عز وجل، ما أصبحت عندي إلا كثرة الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، ما اشتكيت إلى أحد، ولا ذهبت إلى عراف ولا إلى ساحر، ولكن إلى الله جل جلاله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] من الذي يجير ولا يجار عليه سبحانه عز جاهه وتقدست أسماؤه! يقول: ما مضت قرابة نصف سنة حتى ذهب عني جميع ما أجده، ذهب عن هذا الموفق، فبعد فترة يخبرني يقول: إن هذا الساحر يقول له: كيف حالك مع فلان؟ وكان هذا الساحر يربط الناس -والعياذ بالله- عن أزواجهم، قال: عذبني هذا من كثرة تلاوة القرآن، لأنه لا يستطيع أحد أن يقف أمام كتاب الله جل وعلا كالشهب على الشياطين {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
وجعل الله فيه رحمة الدين والدنيا والآخرة، ولذلك أي هم أو غم يصيبك عليك أن تتلو آية من كتاب الله حتى ترى العجب، فيه الرحمة، وفيه اليسر، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهله، وأن يحشرنا وإياكم في زمرتهم والله تعالى أعلم.(37/29)
أسباب الإصابة بالمس والعلاج منه
السؤال
فضيلة الشيخ! نلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة المرضى المصابين بالمس فما أسباب ذلك؟ وكذلك نلاحظ انتشار المشعوذين أو كثرة الذين يذهبون إلى المشعوذين، هل من كلمة توجيهية لهؤلاء؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فما ذكرته -أخي في الله- من المس وكثرته في هذه الأيام المس موجود من القدم، ولكن الناس قد تعتني بالشيء فيظهر بينهم بسبب اعتنائهم به، وكثرة المس لا تأتي إلا بسبب معصية الله جل وعلا، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] فكثرة الذنوب هي التي سلطت الشياطين على الناس، ولذلك خير علاج لهذا البلاء وكشف هذا العناء هو الرجوع إلى الله جل وعلا {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43].
اعلم -أخي في الله- أن الشياطين والجن والإنس لا يملكون في هذا الكون مثقال ذرة، اعلم علم اليقين أن الله إذا ضر لا نافع سواه، وأن الله إذا نفع لا ضار سواه، فهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي يشفي ويكفي، وإن أصابت علله لن يستطيع أحد أن يداويها غيره جل جلاله وتقدست أسماؤه.
سلطان الشياطين إنما يكون على أوليائهم، على الذين يتعلقون بهم، أما ولي الله المؤمن الذي فرغ الله قلبه له جل جلاله، وأسلمه بالتوحيد له سبحانه فإنه في حرز وحفظ وحصانة ورعاية من الله جل وعلا، لكن لو أصيب المؤمن بشيء من هذا فإن الله يجعله له رحمة في الدنيا والآخرة، قال الله عن نبيه أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] مسه الضر، وقال في آية أخرى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:41 - 42] سلط الله عليه الشيطان وأصبح في همه وغمه، والبلاء في جسده سنين عديدة وهو صابر، يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:44] الله أكبر! إذا قال الله: (نعم العبد) بماذا؟ بالصبر بالتوحيد، بالتسليم لله جل وعلا.
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ} [ص:44] كلمة (وجد) لها معنى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] ما معنى أواب؟ كثير الرجوع إلى الله جل وعلا، كان إذا أصابه ضيق أو هم أو غم قال: يا الله! يا رباه! لا يستجير بشيء عداه جل جلاله.
فلذلك من أجل نعم الله على المؤمنين أن الضراء رحمة بهم وإن كانت ألماً في الظاهر لهم، يريد أن يرفع درجاتهم، يريد أن يكفر خطيئاتهم، يريد أن يعظم لهم أجورهم في دنياهم وأخراهم؛ فيسلط عليهم هذا البلاء، لكن هذا البلاء إذا صحب بالإيمان والتسليم والتوحيد، وقوة العقيدة في الله جل وعلا أنعم الله على عبده، وجعل له العاقبة، والله يقول في كتابه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] العاقبة المهم العاقبة والنتيجة، وليس المهم أن الآن يبتلى الإنسان، المهم ما هي الثمرة وما هي النتيجة، ولذلك ورد في الحديث أن أهل البلاء إذا نظروا ما لهم عند الله يوم القيامة من الحسنات والأجور تمنوا أن حياتهم كلها في بلاء، العبد الآن يصيبه هم وضيق نفسي وغم، فيقول: الحمد لله، اللهم إن هذا منك، اللهم اغفر لي ذنباً أوجب لي هذا البلاء، اللهم لك الحمد؛ الله يسمعك ويراك، كلماتك تسطر في صحيفة الملك لكي يصعد إلى الله، فيقول: (عبدي ابتليته فماذا قال؟ يقولون: حمدك وأثنى عليك.
فيقول: ابنوا له بيت الحمد في الجنة) هذه الكلمات تقول: الحمد لله.
المريض يأتيه البلاء فيقول: الحمد لله.
تقول له: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله.
بقلب مليء بالحب والرضا عن الله جل وعلا لعلمه أن الذي أصابه هو الله، لعلمه أن هذا الكون ليس فيه مثقال ذرة إلا وهي تحت قهر الله وملك الله جل وعلا.
فيعلم أن هذا البلاء ليس من الشياطين ولا من الجن ولا من السحرة ولكن من الله جل جلاله بسبب الذنوب، وذنوبنا كثيرة، فقد يبتلي الله الإنسان بسبب ذنب يريد أن يكفره، فيقول العبد الموفق الصالح: الحمد لله، اللهم اغفر لي، اللهم تب عليّ، ولذلك كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا) لأنه عندنا زلات في اللسان، وفي السمع، وفي البصر، وفي القدم، وفي اليد، زلاتنا كثيرة فالله يبتلينا بمثل هذا البلاء.
فأنا أقول: هذا الابتلاء ينبغي للإنسان بمجرد أن يجده أن يجعل أمام عينيه أن لا مفر من الله إلا إلى الله، ومن اعتمد على غير الله جل وعلا أو تعلق بشيء سوى الله معتقداً أنه ينفعه أو يضره فقد أشرك مع الله جل جلاله، ينبغي على الإنسان أن يعلم أنها مزلة الأقدام، وأنه إذا أشرك بالله جل وعلا فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لا ينفع ولا يضر إلا الله جل جلاله (من أتى عرّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كما ثبت في الحديث الصحيح.
لا تذهب إلى ساحر ولا إلى كاهن فلن يغني أحد غير الله عز وجل لك من الله شيئاًَ، انطلق من الأساس وهو كثرة الاستغفار.
الوصية الثانية في علاج البلايا: كثرة الصدقات؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب) كثرة الصدقات سبب، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن الشمس عندما أكسفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة والاستغفار، وقرن بين الصدقة والاستغفار، قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن الإكثار من الصدقات عند البلاء سبب في رحمة الله جل وعلا للعبد.(37/30)
لقاء الخير
إن سبب النجاة والفلاح في الدارين هو الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك كثيراً، وبالإضافة إلى ذلك تقوى الله وطاعته والإحسان إلى خلقه، والاهتمام بالأعمال القلبية، وعلى رأسها الخوف والمحبة والرجاء؛ فإن هذا كله مما تنال به رحمة الله التي وسعت كل شيء.(38/1)
ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الكرام: أيها الأحبة في الله! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام مرة أخرى: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونرحب بالمشايخ الفضلاء ونرحب نيابةً عن الداعية الشيخ خالد بن عبد الله القحطاني بالإخوة جميعاً، ونسأل الله أن يجعل هذا اللقاء لقاء خير، ويسعدنا ويشرفنا أن يكون في معيتنا هذه الليلة إضافةً إلى المشايخ الفضلاء من أهل هذه المنطقة الشيخ محمد الشنقيطي وهو معروف لدى الكثير بل الجميع، وكذلك الشيخ محمد الدويش وفقهما الله إلى كل خير، وهما وأشرطتهما وما كتبا يبينان من هما، نحسبهما على خير ولا نزكي على الله أحدا.
ونسأل الله جل وعلا أن يحشرنا جميعاً في فردوسه الأعلى مع نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أيها الإخوة الكرام: أعلم أن الجميع في أحر الشوق لسماع كلمةٍ من الشيخين الكريمين، فأترك المجال لهما بعد أن رحبت بهما وبالجميع، وأسأل الله أن يبارك لهما في خطواتهما، ولكن قبل ذلك وخير ما تشغل وتعمر به المجالس كلام الله جل وعلا، فنستمع إلى بعض الآيات والتي نود من الشيخين الكريمين أن يعلقا عليها طلباً واقتراحاً لا إلزاماً وأمراً، فأقول كما قال حبيبنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) كما كان يبتدئ بها في كثير من خطب حاجته في عدد من الأحيان، وإن كان ليس من اللازم أن يُبتدأ بها، فإنه قد ثبت كما في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ كلمته بقوله: (ما من نفس منفوسة) وفي أحاديث أخرى لم يبتدئ بخطبة الحاجة فدل على أنها سنة وليست بالواجب.
وفي كل وقت أقول: كثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام ينبه أمته على الاعتصام بكتاب الله وبسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي فيها النجاة وفيها الفلاح بإذن الله تبارك وتعالى، فلا فلاح ولا نصر ولا سعادة ولا هداية لا في مجال العلم والتعليم، ولا في مجال الوعظ والإرشاد، ولا في مجال الجهاد في سبيل الله، ولا في أي مجال من المجالات الخيرية إلا بالرجوع إلى هذين الأصلين، وإلى الوحيين من كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى فهم السلف الصالح، ويكفينا في ذلك ما جاء في كتاب الله من الآيات، وسوف نكتفي بواحدة منها، ومما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكتفي بواحد منها، ومما جاء من كلام السلف أيضاً ونكتفي بواحد من كلامهم.
أما ما جاء في كلام الله جل وعلا فهو في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة:137] أي: لا هداية ولا سعادة في الاعتقاد، ولا في العمل ولا في العلم، ولا في العبادة ولا في الأخلاق ولا في السلوك ولا في المعاملة، ولا في شأن من شئون الحياة إلا بأن نهتدي بمثل ما اهتدى به نبينا صلى الله عليه وسلم.
أما الأحاديث فهو ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث بأسانيد يقوي بعضها بعضاً، أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في أحاديث الفرقة الناجية أنها: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، فيجب أن نكون على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العلم والعقيدة والعمل.
وأما قول السلف فهو قول إمام دار الهجرة الإمام مالك فيما نقل عنه: [لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها].
نسأل الله جل وعلا أن يعيدنا جميعاً إلى كتابه وإلى سنة نبيه؛ لننهل من معينهما، ونتعلم منهما ولنعمل بذلك وندعو إلى الله على بصيرة وحكمة.
وقد أتتني هذه القصاصة أو هذه الورقة من أخي الحبيب، فيها أبيات من الشعر يهديها إلى الضيفين الكريمين وإلى الجميع، فيقول فيها: سلام من صحيح القلب يهدى إلى أغلى الأحبة والصحاب يؤرقني له شوق وذكرى وطول مدى التفرق والغياب وأبعث ما يكن له فؤادي إلى الشنقيطي بين يدي خطابي نقول إلى الشنقيطي وفقه الله وإلى الدويش وإلى الجميع، نسأل الله أن يوفقنا لذلك.
ونستمع الآن إلى آيات من الذكر الحكيم يرتلها علينا الشيخ خالد بن عبد الله القحطاني، ثم نقترح على الشيخين أن يعلقا عليها لننتفع من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وجزاكم الله خيراً، ومع التلاوة: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:53 - 61].
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ونترك الآن المجال لفضيلة الشيخ: محمد الشنقيطي ليعلق على هذه الآيات، ثم بعد ذلك نثني بالشيخ محمد الدويش.(38/2)
سعة رحمة الله ومغفرته
كلمة الشيخ محمد الشنقيطي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بسط يده للتائبين، وعمَّ برحمته ذنوب المسيئين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وجميع من سار على نهجهم إلى يوم الدين، كلما رقت قلوب المنيبين وكلما دمعت عيون المسرفين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي أخي الفاضل الشيخ: خالد كل خير على هذا المجمع المبارك، وأن يجزيكم جميعاً خير الجزاء وأجزله على هذا المجلس، وأن يكتب لنا ولكم الخُطى، وأن يوجب لنا ولكم بها الحب والرضا.
ثم إنه لمن توفيق الله جل وعلا أن تُختار هذه الآيات الكريمة، وهذه المقاطع الجليلة العظيمة التي كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أرجى آية في كتاب الله هي هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]) أرجى آية في كتاب الله تجبر كسر المكسورين، وتحدث السلوان للمصابين: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
هذه الآية الكريمة التي نظر الله عز وجل فيها إلى أمم غرقت في ذنوبها وقلوب أسرفت في غيها وفجورها وإلى أمم تعيش في الظلمات وقلوب حائرة في السقاطات والجهالات إلى تلك الجموع التي هوت وضلت عن سبيل الله وغوت إلى قلوب طالما فرت عن ربها وأفئدة طالت غربتها عن خالقها، نظر الله إليها نظر الرحمة؛ لكي يناديها بهذا النداء، فنسبها إليه جل وعلا: (قُلْ يَا عِبَادِي) ومن لهم غيره؟! ومن لهم سواه؟! ومن يرجون عداه؟! حينما عظم من النفس إساءتها، وجل منها خطيئتها ووزرها، نظرت إلى اليمين والشمال ومن فوقها ومن تحتها ومن أمامها وخلفها، فعلمت عندها أن لا مفر من الله إلا إليه.
عندها أقبلت على الله جل وعلا، والقلوب محترقة بالحزن والألم، والنفوس متوهجة من شديد العتب والندم، تحس أنه ما كان ينبغي ما فات وسودت به الصحائف، تحس أنه لا غنى لها عن ربها، وأنها قد أسرفت في فجورها وغيها، وأنه إذا لم تصب برحمة من فاطرها فالويل ثم الويل لها، فعندها أحست من صميم القلب والفؤاد أن النجاة هناك، وأن المفر إلى هناك، إلى الله وجلَّ الله.
إلى من إذا دمعت بين يديه دمعة غسلت الذنوب إلى من لا يذكرك بما مضى إذا أنبت بصدق إليه جل وعلا إلى الله الذي إن أقبلت إليه إقبال الصادقين لم يلتفت إلى ما مضى من ذنوب المسيئين، عندها أحسست أن النجاة عند الله، وأنه لا مفر من الله إلا إليه، وأن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.
فمن يربيهم بالنعم غيره؟ ومن يغذيهم بالفضائل والمنن غيره؟ يا من لا مفر لكم إلا إليَّ! يا من لا عدة لكم سواي! يا من طالت غيبتكم! يا من طالت غربتكم! ((لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) [الزمر:53] أي: لا تقنطوا مما أعددت من رحمات تُغسل بها الذنوب، وتقال بها العثرات، لا تقنطوا وإن عظمت من النفس إساءتها ولا تيئسوا وإن ذلت النفوس من خطيئتها، فللذنوب غفرانها، وللعيوب سترها، وللكروب تفريجها، كم نادى منادٍ والقلب يحترق من الألم، وقد تلطخ بالذنوب ولكن جاء يطلب الإقالة مع الندم فرجع كيوم ولدته أمه.
بغي من بغايا بني إسرائيل ما عملت خيراً قط، حياتها في الزنا والفجور، مرت على كلبٍ يلهث يأكل الثرى من الظمأ، فنزلت فملأت موقها فسقته فشكر الله لها فغفر ذنوبها.
ومر عبد على غصن شوك فزحزحه عن الطريق، فزحزحه الله به عن نار جهنم، فما أحلمه! وما أرحمه! ما ضاقت رحابه بالمنيبين، ولا طرد عن بابه المسيئين، فما وقف أحد ببابه فرده خائباً عن جنابه، وما وقف أحد ببابه فخيبه في سؤاله ورجائه.
هل وقف أحد بباب الله فطرده الله عز وجل وأبعده؟ هل رجا أحد ربه فخيبه فيما رجاه؟ فما عنده إلا الحلم والرحمة والفضل والإحسان، تبارك الله الواحد المنان.
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) نظر إليهم في جوف الليل وقد تلطخوا بالذنوب والمعاصي، فستر وتفضل بالستر وهو قادر على الفضيحة، حتى إذا انبلج ضياء الفجر وشع ضياء الصبح وانتشر، رُفِعت الأكف إليه تدعوه وتسأله وترجوه فبسط يده بالعفو بالنهار عن ذنوب الليل: (يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار) حتى إذا أشرقت الشمس بضيائها تلطخت أمم بذنوبها وسيئاتها فغفر وستر، حتى إذا جن عليها ضياء الليل تحركت في النفوس أشجانها، ونادت النفس اللوامة: أيا نفس ماذا فعلت؟! أيا نفس أي ذنب اقترفت؟! أيا نفس أي رب عصيت؟! فدمعت بين يدي ربها، وأنابت إلى الله خالقها، فتولى ذنوبها بالعفو والصفح، فكأن لم يكن ذنب وكأن لم تكن إساءة.
فما أحلمه بعباده! وما أرحمه بخلقه! وكلما عظمت الذنوب، وكلما اشتدت الخطايا من النفوس فسلوانها أن الله لها، ومهما أساء المسيء في جنب الله فإنه بسعة عفو الله، وهو الذي يجرئه على حدود الله، وإن كان ينبغي له أن يحس بعظيم نعمة الله وأن يستحي من الله، لكن ما أحلمه! وما أرحمه! وما أكرمه! ومع هذه الرحمات وواسع العفو والمغفرات ما قدرناه حق قدره، ولا أجللناه حق إجلاله، تمحى الذنوب من الصحائف وإذا بالعبد يعود إلى تسويدها، فكأن لم يكن وكأن لم تكن له رحمة من الله، فما أوسع رحمة الله بعباد الله! وما أجرأ الخلق على حدود الله! وقفت مع هذه الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] لا تقنطوا؛ لأن الله يغفر الذنوب جميعا، فليس هناك ذنب أكبر على الله من أن يغفره إلا أن يموت العبد على الشرك أو على الكفر والعياذ بالله، فخاب وخسر الدنيا والآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] فيكتب خالداً مخلداً في النار يوم أن يكتب عليه حرمت عليه الجنة فلا ترى عينه فردوسها ولا جنانها.
يغفر الذنوب جميعاً إذا لم تبلغ النفس إلى سكراتها، ولم تفارق أو تصل إلى حدها من حياتها: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] لا يجوز لمسلم بعد هذه الآية الكريمة إذا وقع منه أي ذنب كان أن يستعظمه على الله جل وعلا، ولو قتل ولو زنا ولو سرق ولو فعل الموبقات، ولو ارتكب كبائر الفواحش والمنكرات فليضع نصب عينيه {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
حمل عمر بن الخطاب السيف لكي يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقلب الله قلبه في لحظة واحدة لكي يكون إماماً ورحمةً للمسلمين، فما أوسع رحمة الله بعباده! وما أوسع حلم الله على خلقه! نعصيه على أرض هي بساطه، وخيرات هي طعامه وهي نعمه جل شأنه وتقدست أسماؤه.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم: أن يمن علينا وعليكم بالتوبة النصوح، وأن يمن علينا وعليكم بغفران الذنوب وتكفير الخطايا وستر العيوب، اللهم إنا نسألك في هذه الحياة قبل لقائك بأننا نشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ولم يكن له كفواً أحد، اللهم لا تبقِ لنا ذنباً إلا غفرته، اللهم اغفر لنا ما كان وما سلف، اللهم بارك فيما بقي من أعمارنا، اللهم ارزقنا فيها قولاً يرضيك عنا، وعملاً يرضيك عنا، وثبت أقدامنا على طاعتك إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(38/3)
ضرورة اجتماع المحبة والخوف والرجاء
المقدم: أحسن الله إليك، ونفع الحاضرين والمستمعين بما سمعنا، وجعلنا ممن تنفعه هذه الكلمات في دنياه وفي أخراه، فننطلق عاملين بها لا متأثرين تأثراً لحظياً، ولكن تأثراً إلى أن نلقى الله جل وعلا، وهو راضٍ عنا، كما قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
نسأل الله أن يصلح ظواهرنا وبواطننا، وأن يجعلنا دائماً وأبداً ممن يخاف ربه، وممن يخشاه، وممن يرجو ثواب الله جل وعلا، فالمؤمن لابد أن يكون بين جناحين: جناح الخوف والرجاء.
الخوف: هو أن يخاف من ربه جل وعلا، ويخاف من عقابه ويخاف من تحول نعمته إلى نقمة.
والرجاء: هو أن يرجو ما عند الله، ويرجو ثواب الله، ويرجو لقاء الله وهو عنه راض، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارجه: والقلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر: رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء، فإذا قطع الرأس مات الطائر وإذا كسر أحد الجناحين فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
فلا بد -أحبتي- أن نسير بقلوبنا إلى الله جل وعلا، محبة في الله جل وعلا وخوفاً من الله تبارك وتعالى، ورجاءً فيما عنده، حتى نكون من المؤمنين الموحدين، كما نقل عن مكحول الدمشقي ونقل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتاويه: أنه من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -من الخوارج - ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله حباً فيه ورجاءً لما عنده وخوفاً من عقابه فهو مؤمن موحد.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم كذلك.
أيها الإخوة الكرام: الخوف المحمود هو: ما حجز عن محارم الله جل وعلا، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فقد تنزل منا دمعة وقد نتأثر لحظة أو لحظات، وقد نتأثر في رمضان خلف الإمام وخاصةً لما يدعو، وقد نتأثر من بعض الآيات، وقد نتأثر من بعض الكلمات من الدعاة الصادقين الذين نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ولكن لابد أن يستمر العبد مع إخوانه ليزيد إيمانه، ولابد أن يستمر العمل حتى لا يصدق فينا حديث رسول صلى الله عليه وسلم -الذي رواه ابن ماجة وهو حديث حسن من حديث ثوبان: (لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال كأمثال جبال تهامة بيضاء من الأعمال الصالحة يجعلها الله هباءً منثورا، أما إنهم منكم، يقرءون القرآن كما تقرءون، ولهم حظ من الليل ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
نسأل الله أن يصلح ظواهرنا وبواطننا، وأن ينفعنا بما سمعنا، ونترك الآن المجال لفضيلة الشيخ محمد الدويش ليعلق على الآيات التي تليت، أو على ما تبقى منها وفقنا الله وإياكم للاستفادة، ووفق الله الشيخ للحق والسداد.
كلمة الشيخ محمد الدويش:(38/4)
الحث على التزود من الأعمال الصالحة
كلمة الشيخ: محمد الدويش: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فكما أن للكلمة الصادقة التي تصدر من قلب يخاف الله سبحانه وتعالى ويخشاه ويرجو ما عنده أثراً بالغاً في نفس مستمعها, وكأنه وهو يسمع يقرأ ما في قلب صاحبها، فإن الكلمة المتكلفة التي تصدر من اللسان والتي تصدر من قلب قاسٍ بعيدٍ عن الله سبحانه وتعالى هي الأخرى لن يكون لها نصيب من التأثير والسماع، وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، والكلام الذي خرج من اللسان لن يتجاوز الآذان.
ولهذا أرى أنني أفسد عليكم كثيراً عندما أعلق على ما قاله شيخنا حفظه الله ونفعنا بعلمه، ولا أزيد إلا على أن أؤكد على أن هذه المشاعر التي تمر بنا، عندما نسمع كلام الله تعالى، أو نسمع موعظةً لا يجوز أن تبقى مجرد مشاعر في القلب يتأثر بها المرء، فالله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4].
فلابد أن يكون لهذا الخوف عمل، ولا بد أن يكون لهذا الرجاء عمل، وأن نوظف هذا التأثر -الذي نجده في نفوسنا عندما نقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو نقف بين يدي الله عز وجل أو نسمع موعظة- لكي يتحول إلى رصيد من العمل، والامتناع عما حرم الله سبحانه وتعالى، والتوبة الصادقة النصوح إليه.
فقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده بثناء قال فيه سبحانه وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:8 - 10] فأخبر الله سبحانه وتعالى أن هذا الخوف إنما قادهم إلى هذا العمل والإنفاق والبذل.
ولا أريد أيها الإخوة أن أطيل عليكم أو أثقل عليكم، ولا أزيد على أن أؤكد ما قاله شيخنا: أن نسعى دائماً إلى أن نزيد من رصيد العمل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العمل النافع، والعمل الصالح، وأن يجزي شيخنا خير الجزاء على ما ذكرنا به ورقق قلوبنا، ونسأل الله تعالى رقة القلوب وخشيتها، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(38/5)
أهمية خوف المؤمن من حبوط عمله وهو لا يشعر
شكر الله لفضيلة الشيخ محمد الدويش على هذه الكلمة، وقد ذكرني عندما تكلم عن حاله بفعل كثير من سلفنا الصالح، وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، كانوا يبذلون ويعملون ويجدون ويجتهدون ويجاهدون ويضحون، ومع ذلك يقولون عن أنفسهم ولسان حالهم: يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني أيها الإخوة: هذا شأنهم، يعمل ويجد ويجتهد في دين الله جل وعلا، أعمال قاصرة من قيام الليل وصيام وغير ذلك، وأعمال متعدية من دعوة وتأليف وكتابة ونشر للخير وهداية للخلق، هداية دلالة وإرشاد وإلى غير ذلك، ومع ذلك يستشعر أنه مقصر في جنب الله وفي ذات الله جل وعلا.
وفي صحيح البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، أورد أثراً عن ابن أبي مليكة يقول: [أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه] الصحابة وهم من هم في العلم والعمل والجد والاجتهاد والبذل في كثير من مجالات الحياة، ومع ذلك يخافون النفاق على أنفسهم، يقول ابن حجر: ومن أدرك ابن أبي مليكة؟ أدرك أناساً من كبار الصحابة، أدرك أبا هريرة وأدرك عائشة وأدرك العبادلة وغيرهم، ومع ذلك كان أحدهم يخاف النفاق على نفسه.
فاروق هذه الأمة عمر كان يبذل ويعمل وسيرته معروفة، ومع ذلك كان يقول لابنه عبد الله عند موته: [ضع خدي على التراب، فإني لا أدري أيغفر الله لي] وهذا من استشعارهم للتقصير، قال الحسن البصري رضي الله عنه: [أولئك جمعوا إحساناً وخشية، ومَن بعدهم جمعوا إساءةً وأمنا] يكون عنده معاصٍ وذنوب ثم يقول: أنا أحسن من غيري، فعلت وبذلت وغيري لم يفعل ما فعلت.
نسأل الله السلامة والعافية.
فاروق هذه الأمة عمر الذي لا تخفى عليكم الأحاديث الواردة في فضله، يشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ويوم وقف النبي على جبل أحد قال: (أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ويقول صلى الله عليه وسلم عن عمر: (ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر) وكذلك شهد له الصحابة بذلك، يقول ابن عباس: [كثيراً ما كان يقول عليه الصلاة والسلام: جئت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر] ومع ذلك كان يتبع حذيفة أمين سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فينظر من يصلي عليهم حذيفة ومن لا يصلي عليهم؛ لأنه يعلم أنه يحفظ أسماء المنافقين، ثم يأتي لـ حذيفة فيقول: [يا حذيفة! أسألك بالله أعدني رسول الله في المنافقين؟] عمر يخاف على نفسه؛ إذاً ماذا نقول عن أنفسنا؟ ولا يعني هذا أن نقنط، وإنما هذا شعور لابد أن نستشعره، وأن نعمل ونبذل ونستشعر الخوف من الله جل وعلا، ونخاف من عدم القبول.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إخلاص النية، وأن يبعد عنا جميع أمراض القلوب، والعُجْبَ الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنكم تذنبون لخفت عليكم ما هو أعظم!! العجب العجب) كما ثبت في الحديث الحسن، ونسأل الله أن يطهر قلوبنا من الرياء الذي هو الشرك الخفي، ونسأل الله أن يطهر قلوبنا من الكبر: الذي لا يدخل صاحبه الجنة، ونسأل الله جل وعلا أن يطهر قلوبنا من جميع أمراضها، وأن يطهر ظواهرنا وبواطننا، كما نسأله أن يرزقنا الاستقامة على دينه والثبات على شرعه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يلتزم السنة وهدي نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنكون من عباده المهتدين.
أما الآن فمع كلمة للشيخ محمد الشيخ حفظه الله ليتحفنا بما عنده، نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول.(38/6)
حاجتنا إلى التوبة النصوح
كلمة الشيخ: محمد الشيخ.
الحمد لله الكريم التواب، الرحيم الوهاب، الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلت لجبروته الصعاب، ولانت لقدرته الشدائد والأطناب، رب الأرباب، مسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:3] عليه توكلت وإليه متاب، وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضلهم بلا ارتياب، وعلى سائر الأصحاب.
ثم أما بعد: أيها الأحبة في الله: فإنه لا زيادة على ما تقدم به المشايخ، ولكن أود أن أذكر نفسي وإخواني أن الكلام الذي قيل، والآية التي تليت وفسرت ووضحت، هي تعنينا قبل غيرنا، فقد يظن الكثير أن آيات التوبة وخطاب التوبة إنما يوجه إلى من زنى أو إلى من سرق أو إلى من تراكمت عليه المعاصي لا، فنحن أحوج ما يكون إلى توبة نصوح.
إن الله تبارك وتعالى أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيات يأمره بها وأصحابه من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، والسابقين من المهاجرين والأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقدموا وبذلوا وضحوا وجاهدوا، أمرهم الله جل وعلا وهو يخاطبهم بخطاب الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8].
الشاهد أيها الأحباب! لا يستغني أحد منا عن أن يستغفر الله، فإذا كان نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة) وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن حق الله أعظم من أن يؤديه بشر، فلا يزال كل عبد مسلم مقصراً في حق الله، ذلك أنه جل وعلا ربه ومولاه وخالقه ورازقه الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فأنَّى للعبد أن يوفيه حقه، وأن يعبده حق عبادته.
فلا شك أن العبد محتاج إلى أن يتوب من التقصير، ومن الجفاء، ومن البعد عن الله تبارك وتعالى ولو للحظة، ولذلك علَّمنا صلى الله عليه وسلم حديثاً وذكراً ما أطيبه وما أسعد من أخذ به، قال صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فهل وفيت نعمته عليك بالهداية والإسلام واتباع خير الأنام؟ أبدا، فلا بد أن تقول ذلك (وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، وأفسد -كما ذكر ذلك الشيخ محمد - موعظة الشيخ وكلامه والذكرى التي ذكَّرنا بها.
ولعلي أختم أيها الأحبة كلمتي بالوصية بأن نشمر للجنة بالتوبة (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فسارعوا إليها بالتوبة، فسارعوا إليها بالتوبة وعمروا دنياكم بالتوبة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها: فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أسأل الله أن يتولانا برحمته، وأن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته، وأن يسعدنا وإياكم بعبادته، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الفوز يوم أن نلقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(38/7)
أثر حفظ الجوارح
المقدم: أما الآن فمع مسك الختام ومع شيخنا الذي رغم كثرة مشاغله، ورغم كبر السن، إلا أنه أبى إلا أن يكون قلبه قلب شاب، ومن نشأ في طاعة الله أمده الله بعونه وأمده الله بتوفيقه، والله إذا رأيته خاصة عندما تراه في أراضي الجهاد يتنقل مع الشباب وكأنه لم يتجاوز العشرين، وإذا جئت إلى محاضرة وجدته، وإذا جئت إلى درس وجدته، ويذكرني ذلك بما نقل عن المحب الطبري: أنه كان ذات مرة قريباً من الشاطئ، فقبل أن يصل القارب إلى الشاطئ قفز قفزةً لا يقفزها كثير من الشباب، فلما قالوا له: يا شيخ! قد بلغت من السن قرابة الثمانين فما الذي قواك لمثل هذا؟! فقال: تلك جوارح حفظناها لله في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
أيها الشباب خذوا درساً من هذه الكلمات، ويذكرني كذلك بالصحابي ابن الجموح الذي أقسم أن يطأ بعرجته الجنة، وبغيره رضي الله عنهم وأرضاهم، ومع الشيخ: محمد بن سليمان الشيحة ليتكلم دقائق عدة، نختم بها هذا المجلس فليتفضل جزاه الله خيرا.(38/8)
تقوى الله والاستقامة على دينه
كلمة الشيخ: محمد بن سليمان الشيحة.
أحمده سبحانه وأثني عليه وأشكره على مزيد الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعزنا بالإسلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، سيد الخلق ورسول الحق وخير الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28].
أما بعد: أحييكم أيها الأحبة بتحية الإسلام المباركة: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سمعنا -أيها الإخوة! - من أصحاب الفضيلة مشايخنا ما حذروا منه، وأوصوا به، كيف يكون المؤمن وجلاً خائفاً، وإذا غمر قلب المؤمن الخوف من عذاب الله والرجاء في ثواب الله، سارع إلى العمل الصالح، والله سبحانه وتعالى يقول ويأمر ويحذر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] أي: اتقوه في طاعته واجتنبوا معصيته.
والتقوى: أن تطيع الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتجتنب معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله، أي: لا يفتقدك ربك حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك.
والتقوى هي: الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
هذه الدنيا -أيها الأحبة- دار الأعمال، ودار الآخرة دار الجزاء والثواب والعقاب، واغتنموا فرصة الحياة لتسارعوا إلى الأعمال الصالحة، والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المستقيمين لهم جزاء عظيم، إذ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14] توحيد واستكانة على كلمة التوحيد، فإذا كانت حياتنا نابعة من الإيمان بالله جل وعلا وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، صلحت أحوالنا وصلحت أعمالنا وصلحت حياتنا.(38/9)
المبادرة بالإيمان الصادق والعمل الصالح
إذاً أيها الأخ الكريم! بادر في الحياة الدنيا إلى الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والعلم النافع الذي يكون في ميزان أعمالك، فإن كان كل مسلم مؤمن همه كيف تصلح حياته الدنيوية، وحياته البرزخية، وحياته الأخروية، فلا يكون ذلك إلا باستقامة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: هنا عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، فلنتقِ الله في أعمالنا وأحوالنا وأقوالنا؛ لكي نفوز برضا ربنا، ونحشر في زمرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج إلى مجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(38/10)
مرتبة الإحسان وأهميتها
أيها الأخ الكريم: إن الإحسان أعظم ركن في الدين: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا الركن العظيم إذا عملنا به، وإذا أحسنا العمل به، وإذا أحسنا العبودية لله رب العالمين، صلحت أحوالنا وصلحت أعمالنا.
ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما ما يحبه ويرضاه من الاستقامة على نهجه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله أسأل أن يعز دينه، ويعلي كلمته، ويصلح عباده إلى السير في طريقه المستقيم، وعلى منهجه القويم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزى الله الشيخ محمد الشيحة خير الجزاء.
وأشكركم أيها الأحبة شكراً جزيلاً على الحضور، فمنكم من تجشم الصعاب، وعلى رأسكم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الشنقيطي حفظه الله، وأمد في عمره ونفع به، ولا يفوتني أن أشكر والدي حفظه الله والذي حضر هذا المجلس، والذي قد رباني فأحسن تربيتي، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لي وله وللجميع، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا على محبته وطاعته، وفي الجنة بإذنه تعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(38/11)
مجاهدة النفس على الطاعة
أيها الحبيب: لابد في هذه الحياة من مجاهدة النفس، فالنفس أمارة بالسوء، وقد تغر الإنسان هذه الحياة الدنيا ومتاعها وزخارفها، فالله يحذرنا من هذه الدنيا: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33].
الله سبحانه وتعالى يحاسبك ويستنطقك عما قدمت من أعمال في هذه الدنيا، فحذار -أيها الحبيب- هذا اليوم الذي قال الله جل وعلا فيه: {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:33 - 38].
اللهم اجعل وجهنا من هذه الوجوه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:38 - 42].
أيها الأخ الكريم: {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] هذا اليوم الذي يفر فيه القريب من قريبه، والابن من أبيه، والأم من ابنها، كلٌ منهم همه نفسه وهمه حاله؛ لأنهم في يوم رهيب عصيب.
إذاً أيها الأخ الكريم: احذر ذلك اليوم، واعرف ما ينبغي عليك أن تؤديه في هذه الحياة الدنيا من عمل صالح يرضاه ربك وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعلنا ذلك أنجحنا وأفلحنا وفزنا في حياتنا الدنيوية، وفي حياتنا البرزخية وفي حياتنا الأخروية، ذلك اليوم الذي يفر الابن من أبيه، يقول الأب في ذلك اليوم لابنه: حسنة يا بني، فيقول الابن: يا أبتِ إني بحاجة إلى هذه الحسنة، كلٌ همه نفسه في ذلك اليوم، وتقول الأم لابنها: حسنة يا بني طالما كان حضني لك وقاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء فحسنة يا بني، فيقول الابن: إنني يا أماه أشكو مما تشكين منه.(38/12)
قيام رمضان
من أجل نعم الله على عباده أن امتن عليهم بهدايتهم إلى الخير، وتحديد مواسم للتركيز فيها على أنواع من العبادات، ومن هذه المواسم شهر رمضان الذي يعد من أهم مواسم الطاعات.
ومن أهم الطاعات التي يعتبر رمضان موسماً لها قيام الليل، ففيه مناجاة للحي القيوم، واتباع لسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن في رمضان إلا ليلة القدر وما فيها من الفضل، لكفى بها مزية لهذا الشهر.(39/1)
فضل قيام الليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن من أجل الطاعات وأفضل القربات التي يحبها الله عز وجل قيام الليل، فقيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله المتقين كما أثنى الله عليه في كتابه المبين، وهذا الشهر -أعني: شهر الصيام- فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين صيامه، وندب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلى قيامه، فحري بالمسلم أن يشحذ همته لقيام هذا الشهر المبارك، اقتداءً وامتثالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقيام الليل فضيلة من الفضائل ونعمة من أجل نعم الله على عباده، فالله إذا أحب عبداً من عباده فتح له أبواب رحمته ويسر له سبيل طاعته، فينشرح صدره للخير، وقد امتن الله بهذه النعمة على نبيه فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فإذا أراد الله بعبده خيراً شرح صدره لهذه الطاعة وسهلها عليه، ولا يزال المؤمن يحفظ قيامه من الليل حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، بل وتجده يضجر ويسأم ويتألم إذا حُرِم ذلك القيام، إذا حُرِم مناجات الله جل جلاله والوقوف بين يديه في ساعة هدأت فيها العيون وسكنت فيها الجفون وهو ينادي الحي القيوم.
وقد أثنى الله عز وجل على أقوام أحبوا الآخرة فجدوا في ليلهم في القيام، فقال سبحانه وتعالى عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] وقال سبحانه وتعالى شاهداً بفضل هؤلاء وأنهم أهل خوف ورجاء: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
فمن يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه يحيي ليله بذكر الله جل جلاله؛ لعلمه بفضيلة هذه المنزلة، وبعلو درجة هذه القربة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضائل الأعمال قال: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) أي: ومن أحب الطاعات إلى الله ركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر في ساعة يكون فيها الدعاء أسمع، والإجابة أرجى من الله جل جلاله.(39/2)
هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيام الليل
قيام رمضان السنة فيه أن يهتدي المسلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فكان صلوات الله وسلامه عليه قوام لليل في رمضان وغير رمضان، وكانت سنة ماضية في سائر العام لكنه إذا دخل عليه رمضان ودخلت عليه العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله صلى الله عليه وسلم وأيقظ أهله؛ كل ذلك لكي تنتبه الأمة لفضل هذا الشهر عموماً ولفضيلة العشر الأواخر فيه خصوصاً، ففيها ليلة هي أفضل من ألف شهر يقومه العبد لله جل جلاله، وهي الليلة التي يقول العلماء: إن الله اختارها من العام كله، فأفضل ليلة في العام كله بل في الدهر كله هي ليلة القدر، ولذلك اختارها الله لنزول القرآن كما أخبر سبحانه وتعالى في سورة أنزلها للدلالة على شرفها وفضلها.
وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أكمل الهدي وأجمله وأحسنه وأفضله، ما كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل فيبالغ في قيامه، ولا كان على منهج الرهبانية والغلو في العبادة، برئت سنته صلوات الله وسلامه عليه من الغلو والتشدد، ولذلك كان ينام ويقوم عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ولما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن يواصل قيام الليل منعه، فكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أحيا الليل على أجزائه الثلاثة، فقام أول الليل وقام أوسط الليل وقام آخر الليل وانتهى وتره وقيامه عليه الصلاة والسلام إلى آخر الليل.
ولذلك قال العلماء: السنة ألا يكون القيام لليل كاملاً، واستثنى بعض العلماء ليالي العشر الأواخر فقالوا: الأفضل أن يجتهد في قيامها ولو استغرق الليل كاملاً بالقيام فلا بأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وأحيا ليله) فدل على أنه لم يكن ينام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يقوم آخر الليل ولذلك قال العلماء: الأفضل أن ينام المسلم أول الليل ويكون قيامه آخر الليل لعدة أمور: أولها: أن هذا الوقت هو أفضل الأوقات وأشرفها بالليل؛ لأن الله أختاره بنزوله فينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته وكماله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، نزولاً حقيقياً يليق بجلاله سبحانه وكماله، فينادي: هل من تائب فأتوب عليه، هل من داعٍ فأستجيب دعاءه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، فهذا يدل على فضل آخر الليل.
وقال بعض العلماء: إن الأفضل للإنسان أن يقوم الثلث الأخير إذا كان واثقاً من القيام، أما إذا غلب على ظنه أنه سينام وأنه لا يتمكن من القيام في آخر الليل فالأفضل أن يؤخر إلى نصف الليل؛ وذلك لأن نصف الليل أقرب إلى الثلث الآخر، وكلما كان القيام قريباً من وقت الفضيلة كلما كان له حظ من الأجر، قالوا: فيؤخر قيامه إلى الثلث الأوسط من الليل؛ لأنه سيتعب في الانتظار ويجد المشقة والجهد وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ثوابك على قدر نصبك) فدل على أن النصب والتعب يزيد في أجر العبادة وأجر القربة، فقالوا: يفضل ألا يقوم من أول الليل وإنما يتأخر إلى قدر نصف الليل ويحيي هذا القدر.
وقال بعض العلماء: إذا كان يتأخر إلى نصف الليل ويؤدي ذلك إلى ضياع صلاة الفجر عليه أو أنه يصلي وهو مجهد منهك لا يفقه القرآن ولا يتفهمه فالأفضل أن يصلي عقب العشاء؛ لأنه أقدر على فهم وتدبر القرآن وأكمل في خشوعه وهو يناجي ربه.
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه ينام أول الليل، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة، وهذا يدل على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحبهم للخير، هذا الغلام صغير السن ولكنه كبير بعلمه وفضله ونبله وحبه لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحث عن هديه حتى نام معه عليه الصلاة والسلام لكي يرقب وينظر ماذا يكون من هديه وسنته إذا قام من الليل، فبات في عرض الوسادة كما في الصحيحين، قال: نام عليه الصلاة والسلام حتى نفخ وابن عباس رضي الله عنه يراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم مراقبة دقيقة لكي يحفظ للأمة هذا الهدي وهذه السنة؛ فنسأل الله العظيم أن يعظم أجره وثوابه بما حفظ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فقام أي: قام رسول صلى الله عليه وسلم -هذا بعد شطر الليل- فأول ما كان من قيامه عليه الصلاة والسلام أن مسح النوم من على عينيه ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ثم لما ختمها قال صلوات الله وسلامه عليه: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) لأنهن آيات عظيمة تدل على عظمة الله جل جلاله فقلب لا يخشع لها ولا يتأثر بها فويل له، ويل له إن لم يتداركه الله برحمته.
كان بعض العلماء يقول: من أحب أن يعرف مقدار خشوعه وتأثره فليقرأ هذه الآية، ولينظر هل هو متعظ بما فيها ومتأثر بها أم لا حتى يعرف مقدار منزلته من الخشوع وتأثره بكلام الله جل جلاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختارها ورتب الوعيد على عدم التأثر بها؛ فدل على أنها آيات عظيمة، قال: (فلما فرغ منها قام عليه الصلاة والسلام فأفرغ من شنٍ -يعني: من قربة- فتوضأ فأسبغ الوضوء) وللوضوء في ظلمة الليل خاصة في ليالي الشتاء لذة يعرفها من يعرفها وحلاوة لو ذاقها المؤمن قل أن يتركها، ففيها غفران الذنوب ورفعة الدرجات: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره).
قال بعض العلماء: إسباغ الوضوء في جوف الليل الأظلم في شدة الليلة الباردة الشاتية.
تقوم من مضجعك ومن مكان سكونك وراحتك لكي تناجي الله جل جلاله فتصب الماء على أعضائك، فإذا وجدت شدة البرد وأذى البرد على جوارحك وجدت لذة العبودية والطاعة والقربة لله سبحانه.
ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نام مع حبه وزوجه وقام من الليل لكي يتهجد قال الله تعالى: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وأهله؟ قالوا: إلهنا يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله تعالى: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي) (فقام صلى الله عليه وسلم فأفرغ الماء فتوضأ فأسبغ الوضوء) قال ابن عباس: فأسبغ الوضوء ولها معنى؛ لأن هذا الوقت وهو الوضوء في الليل كما ذكرنا غالباً يكون فيه الماء بارداً فمن فقه ابن عباس قال: فأسبغ الوضوء، أي: في وضوئه عليه الصلاة والسلام كان على الكمال وذلك بأن يكون ثلاثاً، قال: (ثم قام فقمت فصنعت مثلما صنع).(39/3)
الهدي النبوي في صلاة الوتر
كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصل وتره فيكون بالخمس ويكون بالسبع ويكون بالتسع متصلة ويكون بالإحدى عشرة متصلة، ولا حرج أن يوتر بالواحدة منفصلة، وأن يوتر بالثلاث متصلة وأن يوتر بالخمس متصلة وبالسبع وبالتسع كل ذلك جائز ومشروع، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام الإذن بالفصل وكذلك فعله بالوصل، ومن إذنه بالفصل قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) قال بعض العلماء: أنه قال (فليوتر بواحدة) فاستوى أن يكون فصلاً أو يكون وصلاً.
والسنة في قيام الليل أن يكون وتراً بهذه الركعة التي ذكرنا وهذه الركعة هي الوتر وهي فضيلة وليست بفريضة على أصح قولي العلماء، وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث أن الوتر سنة وليست بفريضة، والأصل في سنيته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما سئل عما فرض الله من الصلوات؟ قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فلو كانت الوتر واجباً لكانت الصلوات ستاً.
وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث طلحة بن عبيد الله: (أنه لما سأله الرجل: ما الذي فرض الله من الصلوات؟ قال: خمس، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع) فدل على أن الوتر فضيلة وليس بفريضة، وقال بعض العلماء بفرضيته كما هو مذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر) والذي يظهر أن هذا الحديث المراد به في الفضيلة وليس الفريضة، ولذلك جاء بمثل سياقه في ركعتي الفجر فدل على أنها فضيلة وليس بفريضة، فيحمل على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب.
والسنة في الوتر أن يكون مرة واحدة، أي: يوتر في ليله كله مرة واحدة ولا يكرر الوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) كما رواه الترمذي في سننه.
قال العلماء: نهي عن الوترين في ليلة؛ لأنه إذا صلى الوتر مرتين أصبح العدد شفعياً، والمقصود في قيام الإنسان بالنافلة في الليل أن يكون العدد وترياً لا شفعياً، وأخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على أن من أوتر في أول الليل وقام في آخر الليل أنه يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول، لأن قوله: (لا وتران في ليلة) يدل أن الوتر ينقض الوتر وإذا ثبت هذا فإنه ينقض الوتر الأول بالوتر الثاني، ثم يصلي شفعاً ما شاء ثم يوتر لكي يحصل الفضيلة في قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) إذا صلى في أول الليل وأوتر ثم أراد الله أن يقوم في آخر الليل فأحب أن يصلي فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: الحالة الأولى: إما أن ينقض الوتر الأول بركعة ثم يصلي ما شاء ثم يوتر، وهذا هو المأثور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ويدل عليه حديث الترمذي: (لا وتران في ليلة) حيث دل على أن الوتر ناقض للوتر.
الحالة الثانية: أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يوتر؛ لأن الوتر الأول أجزأه، ويدل على هذه الحالة ما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد الوتر).
قال العلماء: صلاهما لبيان الجواز وأنه لا حرج على المسلم أن يصلي الشفع بعد الوتر، ولكن هذه الصورة الثانية يشكل عليها أنه يفوت على نفسه الأفضل والأكمل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يدل على أن المستحب والمرغب فيه أن يكون دعاء الوتر في آخر الليل، فإذا كان سيصلي ركعتين ركعتين يكون وتره لأول الليل لا لآخر الليل.
الحالة الثالثة: وهو ضعيف ومرجوح يعارض حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو أن يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر ثانية، وهذا قول مرجوح والصحيح أنه يقتصر إما على نقض الوتر أو يصلي شفعاً بعد وتره على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.(39/4)
الهدي النبوي في مقاربة الركوع والسجود في القيام
كان من هديه عليه الصلاة والسلام مقاربة ركوعه وسجوده لقيامه، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، وما ألذ القيام إذا كان بهذه المثابة، أن يكون ركوع الإنسان قريب من قيامه وسجوده فهذا من أفضل ما يكون فإنه يجمع بين الفضائل كلها، فيجمع بين فضيلة تلاوة القرآن وفضيلة التسبيح وذكر الله جل جلاله وفضيلة الدعاء في السجود، فيصيب الفضائل على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك استحب العلماء أن يكون في الصلاة اتزان من حيث طول الركوع وطول السجود وهذا كله إذا صلى الإنسان لوحده.
أما إذا صلى بالناس ووراءه الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة وحطمة الناس فإنه يرفق بهم ويحاول إصابة السنة قدر استطاعته، ولكن لا يشق على الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أشياء شرعها للأمة وكذلك نص على أشياء بقوله تشريعاً للأمة فقال: (إذا صلى أحدكم بالناس -وفي رواية- إذا أم أحدكم بالناس فليخفف) فنص على أنه ينبغي له أن يراعي أحوال الناس، فقال: (فإن وراءه السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة) وإذا صلى لوحده فليطول ما شاء.
فلما ثبت قيامه بالليل لوحده صلى الله عليه وسلم وطول قالوا: إذا كان الإنسان إماماً في صلاة التراويح يراعي أحوال الناس، فلا يخفف تخفيفاً يفوت به الفضل على الناس ولا يطول بهم إطالة يملون بها كتاب الله عز وجل أو الوقوف بين يديه، وهذا أمر يرجع إلى نظر الإمام وتوفيق الله عز وجل له، فالله تعالى إذا أراد للإمام الخير وضع له القبول بين الناس، فإن الإمام إذا راعى أحوال الناس ورفق بهم ووسع عليهم في الحدود الشرعية وجعلهم يحبون الصلاة وراءه ويرتاحون لذكر الله وراءه فإن هذه غنيمة عظيمة وخير كثير، ولا شك أن الناس يحبون الخير ويقبلون عليه ويزدادون رغبة فيه وهذا أفضل مما لو طول وفوت على الناس حب الخير وفوت عليهم الحرص على شهوده، فلا شك أن الأفضل والأكمل إذا كان هناك رفق أن يراعي من يحتاج إلى الرفق من المأمومين.(39/5)
من الهدي النبوي: تعظيم الله في الركوع
كان من هديه عليه الصلاة والسلام: تعظيم الله في الركوع، يركع فيطيل في ركوعه ويعظم الله ويكثر من الثناء عليه، ففي الحديث الصحيح أنه كان من تعظيمه وتمجيده لربه قوله: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو في سجوده في قيام الليل ويختار الأدعية العظيمة التي فيها سلامة العبد في دينه، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي فوقعت على قدمه ساجداً يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه.
فانظر إلى حكمته وعلمه بربه وبصيرته صلوات الله وسلامه عليه كيف اختار هذا الدعاء الذي فيه سعادة الدين والدنيا والآخرة وفلاحهما فقال: (ثبت قلبي على دينك) قال العلماء: يستحب أن يختار الداعي في قيام الليل أفضل الدعاء وأجمعه، وليس هناك أفضل ولا أجمع من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كهذا الدعاء العظيم ونحوه من الأدعية المأثورة.(39/6)
الهدي النبوي في استفتاح قيام الليل
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا استفتح قيام الليل يستفتحه بركعتين خفيفتين لا يطول فيهما القراءة، وقال العلماء: إن هذا من أكمل الهدي؛ لأن المسلم إذا قام من الليل أو الإنسان إذا قام من الليل فإنه يقوم وقد تعلقت نفسه بالراحة والدعة والسكون فإذا هجم على العبادة وأطال القيام فإنه قد يمل وقد يسأم؛ ولذلك ابتدأ عليه الصلاة والسلام بالشيء الخفيف حتى تألفه النفس ويستطيع بعدها أن يطول ما شاء.
قالوا: ومن الفوائد والحكم التي شرع الله بها السنن الرواتب قبل الصلاة أنها تعين على الخشوع أكثر؛ فإنه إذا دخل بركعتين نافلة قبل الفريضة فإن هذا يعين على الخشوع أكثر، وهذا مجرب، فأنت إذا تأملت إلى الناس ونظرت إلى المبكرين إلى المساجد والذين يحرصون على حضور الصلاة إما قبل الأذان أو لا يؤذن إلا وهم في المسجد تجدهم أخشع الناس قلباً في الصلاة، ومن تجده يتأخر ويتقاعس ولا يأتي إلا على الإقامة تجد خشوعه أقل وتأثره بالقرآن أقل، بل تجد ذلك في نفسك جلياً ظاهراً فإنك ما حرصت على التبكير وابتدأت العبادة بالنافلة قبل الفريضة إلا قويت على الفريضة أكثر.
ولذلك قالوا: استفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين فإنه أدعى لتدبر القرآن وأدعى أيضاً للأعضاء أن تقبل على حركات العبادة وقد استجمت وهيئت بهاتين الركعتين الخفيفتين.
كان صلى الله عليه وسلم يستفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين واستحب العلماء أن يكون دعاء الاستفتاح في قيام الليل من طوال الأدعية؛ لأن أدعية الاستفتاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: دعاء محض.
الثاني: تمجيد محض.
الثالث: ما اشتمل على الدعاء والتمجيد معاً.
فقالوا: يفضل أن يكون استفتاحه بالدعاء الطويل كما في حديث علي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح الصلاة بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنوبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ... ) إلى آخر الدعاء الطويل.
قالوا: إن الأفضل أن يبدأ به؛ لأنه أدعى لتهيئ النفس لصلاة الليل أكثر.
فلما فرغ عليه الصلاة والسلام وكان إذا فرغ من الركعتين صلى ثمان ركعات، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، وكان يصليها عليه الصلاة والسلام فلا يجلس للتشهد إلا في آخر الأربع الركعات، أي: يصليها أربع متصلة وهذا جائز في النوافل، فأنت إذا أردت أن تصلي أربع ركعات إن شئت وصلت وإن شئت فصلت، إلا أن السنة في الوصل ألا تجلس للتشهد بينهما بين كل اثنتين من الركعات.
ثم قال: (فإذا انتهى عليه الصلاة والسلام من الأربع الأولى صلى بعدها أربعاً ثم أوتر عليه الصلاة والسلام).
وكان قيامه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة وهي الثابتة في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة -ثم فصلت ذلك وقالت:- يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن) وهذا يدل على طول القيام، واختلف العلماء رحمة الله عليهم في مسألة طول القيام وعدد الركعات.
فقال جمع من أهل العلم: الأفضل في صلاة الليل طول القيام مع قلة العدد بحيث لا يزيد على إحدى عشرة ركعة من ناحية الفضيلة لا سبيل الوجوب واللزوم، وهذا مذهب الجمهور: أن الأفضل في قيام الليل طول التلاوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فكان يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن.
ومما يدل على رجحان هذا القول: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل صلاة الليل.
فقال: (طول القنوت) أي: الأفضل فيها طول القنوت، يعني: القيام، ولذلك استدل به جمهور العلماء على أن الأفضل لك أن تطيل القراءة ويكون العدد بهذا الحساب الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً لا فرضاً؛ أي: أنه على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه على سبيل الفضيلة -كما نص عليه في المجموع- وأنه لا يقصد منه أن من زاد عليه أو انتقص منه أنه لا يجوز؛ فنص على أنه ليس على سبيل اللزوم وإنما هو على سبيل الفضيلة.
وقال بعض العلماء: الأفضل أن يكثر من عدد الركعات ولو قل قيامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة مرافقته في الجنة قال: (أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل في صلاة الليل أن يكثر من السجود، وإذا أكثر السجود لا شك أنه سيخفف من قيامه حتى يكون العدد أكثر.
والذي يترجح هو القول الأول: أن الأفضل طول القنوت، ولذلك ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه (أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم فأطال عليه الصلاة والسلام القراءة حتى هم عبد الله بأمر سوء قيل له: وما هممت؟ قال: هممت أن أتركه وأذهب) وهذا من طول قراءته عليه الصلاة والسلام.(39/7)
جواز صلاة الليل بالسر والجهر
يجوز في صلاة الليل في قراءتها الجهر والسر ولا حرج عليه أن يجهر ولا حرج عليه أن يسر، ولكن الأفضل أن يجهر بقدر ما يسمع نفسه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب عمر إلى أن يخفض من صوته وأبا بكر أن يرفع من صوته وهذا هو العدل والوسط الذي أمر الله به.
قال العلماء: إنه لو رفع صوته بتلاوة القرآن ذهب خشوعه وضعفت نفسه عن فضائل هي آكد وأبلغ، ولذلك قالوا: يرفع قليلاً بقدر ما يسمع نفسه فهذا هو الأفضل له والأكمل؛ لأنه يكون على نشاط؛ ولأنه إذا رفع من صوته وسمع بإذنه حصل له فضيلة التلاوة وفضيلة التأثر بصورة أبلغ مما لو قرأ في سره.(39/8)
مسألة: أيهما أفضل: القراءة غيباً أم النظر؟
كما يستحب في قراءة الليل أن يقرأ من القرآن بالنظر وأن يقرأ غيباً، وهل الأفضل أن يقوم في الليل بالقرآن أو غيباً؟ مسألتان: المسألة الأول: أنه يجوز له أن يقرأ بالقرآن نظراً، والأصل فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يقوم بالليل بالمصحف، ونص جماهير العلماء على أنه لا حرج أن يصلي في صلاة الليل وهو ينظر إلى المصحف لكن: هل الأفضل أن يقرأ بالمصحف أو يقرأ غيباً؟ قال بعض العلماء: الأفضل أن يقرأ غيباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غيباً؛ ولأنه إذا قرأ غيباً انشغلت أحاسيسه وانشغل ذهنه بتذكر الآيات وضبطها وأدائها من دون نقص أو خلل، وهذا جهد وتعب يكون أبلغ في الأجر والمثوبة.
ولأنه إذا حمل المصحف انشغل بحمله وكلف نفسه حمله، والأفضل له أن يكون نظره إلى السجود وذلك أقوى وأدعى للخشوع فيه، فلذلك قالوا: الأفضل أن يكون غيباً ولا يكون نظراً.
وقال بعض العلماء: الأفضل أن يقرأ بالمصحف سواء في الصلاة أو في غير الصلاة؛ لأنه يأمن الخطأ ولأنه أدعى لضبط القرآن فهي فضيلة متصلة؛ ولأن القراءة من المصحف تفرغه في التفكر في الآيات أكثر والتدبر فيها أكثر.
والذي يترجح هو القول الأول؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، فالأفضل له أن يقرأ غيباً إلا إذا خشي الخطأ فإنه يحتاط بكتاب الله ويكون قريباً منه، فإذا كان القرآن في جيبه جاز له أن يخرجه وينظر فيه؛ لأنها حركة يسيرة ومن أجل مصلحة الصلاة، وتجوز الحركة إذا كانت يسيرة لمصلحة الصلاة، إلا أن هنا خطأ ينبغي التنبيه عليه وينبغي على طلاب العلم أن ينبهوا الناس عليه خاصة في المساجد الكبيرة أثناء صلاة التراويح، فإنك ترى الرجل حاملاً للقرآن وينظر في كتاب الله عز وجل، فإذا سمع الإمام أخطأ رفع صوته ليرد عليه، وقد يكون بعيداً عن الإمام ويكون الإمام في موضع لا يسمع فيه رده ولا يبلغه صوته، وهذا لا شك أن فيه تشويشاً على المصلين وفيه كلاماً من دون حاجة، ولا يجوز له أن يتكلم إلا من ضرورة وحاجة، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ فأنصتوا) والمسألة عامة حتى من يقف وراء الإمام أو يكون في المسجد والإمام يخطئ لا ينبغي لهم أن يتعجلوا في الفتح على الإمام مادام هناك من يتولى هذا الأمر، وما دام أن هناك حفاظ وراء الإمام يردون عليه إذا أخطأ، فالسنة أن يسكت الناس وأن ينصتوا لكتاب الله عز وجل، وأن يتفرغوا بما ينبغي أن يتفرغ له المأموم من الخشوع والتأثر بكتاب الله.
أما حملهم للقرآن أنه سيتكلف هذا الحمل، ثم إذا نظر إليه تكلف النظر للقرآن وهذا قد يفوت عليه فضيلة الخشوع والتأثر بكتاب الله عز وجل وبسماع الآيات، فينبغي للناس أن ينصحوا ويوجهوا ذلك، أنه لا حاجة إلى حمل المصاحف خاصة في المساجد العامة والتي لا يحتاج فيها إلى حمل المصحف من المأمومين.
والسنة في القراءة أن تكون مرتلة فإذا قام المسلم من الليل فالأفضل له أن تكون قراءته مرتلة.
قال بعض العلماء: الأفضل أن تكون القراءة فوق التجويد ودون الحدر أي: بين بين، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الطوال في قيامه من الليل ولا يتأتى ذلك إلا بطريقة الحدر ولذلك قالوا: الأفضل له أن يقرأ قراءة فوق القراءة المتأنية ودون القراءة السريعة، أما إذا كان وراءه المأموم فإنه يراعي تأثر الناس، والقراء يختلفون على حسب حدرهم وتجويدهم، فبعض القراء تتأثر بقراءته إذا حدر ورتل، وبعض القراء تتأثر بقراءته أكثر إذا جود، ولذلك يراعي تأثر الناس بقراءته، ولا حرج عليه إن قرأ بهذه الصفة أو هذه الصفة فالأمر واسع في قيام الليل؛ لأن المقصود التأثر بكتاب الله عز وجل وبكلامه.(39/9)
أمور ينبغي مراعاتها في قيام الليل
وفي قيام الليل أمور خاصة في رمضان ينبغي التنبيه عليها:(39/10)
الحرص على أداء السنن
ثالثاً: إذا دخل المسلم المسجد فليحرص على أداء السنن والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذكار والهيئات ويبادر إلى الصف الأول، وينبغي التنبيه على عدم تخطي الرقاب وعدم أذية الناس في المسجد بمضايقتهم أو الجلوس بين اثنين على وجه يزعجهم أو يقلقهم أو يشوش عليهم في صلاتهم، فهناك كبير السن وهناك من هو محتاج إلى سعة قليلة في المكان لضعف في بدنه أو آفة في قدمه أو جسده فينبغي الرفق بمثل هؤلاء خاصة إذا بكروا وأتوا إلى المسجد مبكرين فهم أحق بذلك لمكان السبق، فينبغي للمسلم أن يبتعد عن أذية الناس.(39/11)
الحرص على عدم أذية الناس
رابعاً وهي من علامات القبول والتوفيق: أن العبد يؤدي العبادة فيسلم الناس من شره ويسلم الناس من أذيته، وما الفائدة إذا كان يطيع الله جل جلاله ويؤذي عباده؟! فتكون حسنات طاعته لمن آذاه والعياذ بالله، فلذلك يحرص المسلم على ألا يؤذي المصلين خاصة أهل الصفوف الأول والمبكرين إلى المسجد ونحوهم، هؤلاء يحرص على عدم مضايقتهم وعدم التضييق عليهم ما أمكن.(39/12)
التبكير إلى المساجد
أما الأمر الثاني: فالتبكير إلى المساجد؛ فإن المسلم إذا عظم طاعة الله وحرص عليها وأظهر لله من نفسه الشوق إليها والحرص عليها فضله الله وأعلى درجته؛ فإنك إن بكرت إلى الصلاة كنت أعظم الناس فيها أجراً؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط) فالرباط على الخير أن يبادر الإنسان ويبكر إلى قيام الليل، وهذا من أفضل ما يكون، على أن يكون أول داخل للمسجد وآخر من يخرج من المسجد، وهذه نعمة من الله إن اختار الله العبد لذكره وفرغ قلبه لذكره وجعله من أسبق الناس للخير، فهذه نعمة والله لا يعطي الدين إلا لمن أحب.
قالوا: ومن دلائل حب الله للعبد أنك تجده بخير المنازل في الطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) أي: يتأخرون عن الخير وهذا ورد في الصلاة، ولكن العلماء يقولون: وهي قاعدة عامة، فالمستبق إلى الخير والمسارع إلى الخير ليس كغيره، ولكل درجات مما عملوا؛ ولذلك ينبغي المبادرة والتبكير ما أمكن وذلك لما فيه من عظيم الثواب والأجر عند الله سبحانه وتعالى.(39/13)
الإخلاص لله عز وجل
أولها وأعظمها وأجلها وأفضلها: الإخلاص لله جل جلاله، فمن خرج من بيته إلى بيت من بيوت الله فيخرج وليس في قلبه إلا الله، لا يخرج رياءً ولا سمعة ولا من أجل ثناء الناس: (فمن راءى راءى الله به ومن سمّع سمّع الله به) ولقد عتب الله على أقوام إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، عتب الله على هؤلاء وذكر أن مصيرهم إلى الدرك الأسفل من النار وساءت مصيراً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعافينا من الرياء وأن يحفظنا منه.
فليحرص المسلم على أن يخرج إلى بيت الله مخلصاً لوجه الله جل جلاله، ولا ينتظر من أحد أن يمدحه أو يثني عليه؛ ولذلك كان بعض العلماء يقول: لا يبلغ العبد درجة الإخلاص حتى يتمنى أن صلاته وعبادته بينه وبين الله لا تراها عين ولا تسمع بها أذن، وهذا من أبلغ ما يكون من الإخلاص لله جل جلاله، فيبتعد عن البروز أمام الناس واختيار أماكن خاصة حتى يراه الناس ويثنون عليه بأنه قائم أو أنه العابد لا.
وكان إبراهيم النخعي رحمه الله لا يجلس تحت سارية معينة خوفاً من الشهرة رحمه الله برحمته الواسعة، كانوا يخافون الرياء وثناء الناس ومدحهم، فمن مدحه الناس وأثنوا عليه في وجهه فبالغوا في ثنائه قطعوا عنقه -نسأل الله السلامة والعافية- لأن الإنسان لا يأمن أن تزل قدمه بعد ثبوتها، والمعصوم من عصمه الله.(39/14)
مسألة: حكم حجز المكان في المسجد
وهنا مسألة حجز المكان فإن من الأمور التي لا يجوز فعلها في المسجد حجز المكان في المسجد إلا في حالة واحدة وردت السنة بالإذن بها وهي أن يخرج الإنسان إلى قضاء حاجته، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من مقعده لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) أما أن يحجز الرجل مكانه فيصلي المغرب ويضع سجادته ويذهب إلى بيته فيأكل ويترفق حتى إذا بقي على الإقامة اليسير يأتي يتخطى رقاب الناس ويؤذي الناس إلى ذلك المكان الذي هو في الصفوف الأول ولا يصل إليه إلا بعد أذية كثير من المصلين فهذا لا يجوز ولا شك أنه ظلم وأذية، إذ لو فتح هذا الباب لكل واحد لما وسع كل رجل إلا أن يضع سجادة ويذهب، فلا يجوز الحجز إلا إذا كان في المسجد وخرج لقضاء الحاجة، أما غير ذلك فبيوت الله لله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] يستوي فيه الفقير والغني والجليل والحقير والرفيع والوضيع كلهم سواء في بيت الله جل جلاله، لا يجوز للمسلم أن يحجز مكاناً ويدعي أن هذا المكان له وأن هذه السارية له بعينها له مكانها وأنه أحق بالجلوس فيها، كل ذلك مما يفوت على الإنسان الأجر وقد يوقعه في الإثم والوزر، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك أوصي أخواتي المسلمات أن يتقين الله عز وجل في قيام الليل فأوصي المرأة المسلمة بما أوصي به الرجال لأنهن شقائق الرجل كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى المرأة المسلمة إذا خرجت لقيام رمضان أن تبتعد عما حرم الله من إبداء الزينة وإبداء المفاتن، وأن لا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن تقول قولاً معروفاً، وأن تخرج إلى بيوت الله خائفة من الله ترجو ثواب الله مخلصة لوجه الله تعصم نفسها وغيرها عن الفتن ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وتبتعد عن مزاحمة الرجال وكذلك عن فتنتهم بالطيب والروائح ونحو ذلك، كل ذلك ينبغي على المرأة أن تتحفظ فيه وأن تتقي الله جل وعلا في إخوانها المسلمين، وأن تعلم أنها خرجت ترجو رحمة الله، وأنه لا يجوز أن تفتح على نفسها أو على إخوانها المسلمين أبواب الفتنة سواء كان ذلك بقول منها أو عمل.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شهر شعبان، وأن يبلغنا شهر رمضان، وأن يجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(39/15)
الأسئلة(39/16)
حكم الوتر بركعة واحدة من غير شفع
السؤال
هل يكفي أن يوتر الشخص بركعة واحدة من غير شفع؟
الجواب
من صلى بالليل وصلى ركعة واحدة فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يطول ويكثر من القراءة وينحصر قيامه في ركعة واحدة، وهذا أثر عن بعض السلف وعن بعض الصحابة، فقد أثر عن عثمان رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقام بركعة واحدة من طول قيامه، ولكن الأفضل والأكمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي إحدى عشرة ركعة ويجزئ القيام على هذه الصورة.
أما إذا كان وقته ضيقاً ولا يستطيع أن يصلي إلا ركعة واحدة فله أن يوتر بركعة واحدة، ولذلك أوتر معاوية رضي الله عنه كما ثبت في الأثر الصحيح عنه بركعة واحدة، وأثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولا حرج أن يكون وتره بركعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وجعلها لكم بين صلاة العشاء والفجر) فقالوا: يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركعة واحدة مستقلة، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يفوت على نفسه الخير والأجر فيحصر قيامه في ركعة واحدة، والمحروم من حرمه الله، نسأل الله العظيم من واسع فضله، والله تعالى أعلم.(39/17)
حكم صلاة النافلة جماعة في غير رمضان
السؤال
ما حكم صلاة النافلة جماعة باستمرار في غير شهر رمضان وذلك لتأكيد حفظ القرآن؟
الجواب
لا تشرع الجماعة في النافلة إلا في صلاة التراويح؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا فيها.
أما بالنسبة للسؤال عن مسألة الجماعة في النافلة، فالجماعة في النافلة تشرع في صلاة التراويح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية التراويح جماعة، وأما بالنسبة لإحياء الليل في غير رمضان جماعة فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون بالقصد، والمراد بالقصد عند العلماء أن يتفق جماعة على أن يخرجوا وأن يصلوا كل ليلة جماعة، أو يتفق أهل المسجد على أن يجتمعوا في ساعة من الليل يصلون في بيت أحدهم أو في المسجد جماعة، فهذا لا يشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل الجماعة قط إلا في التراويح، لكن لو أنك كنت في سفر أو كنت في بر أو كنت في بيتك وعندك ضيف أو نزلت ضيفاً على رجل رأيته يقوم الليل فجئت عن يمينه وقمت معه أو رآك تصلي في الليل وجاء يصلي معك فلا حرج، فهذه تسمى الجماعة اتفاقاً؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه وكذلك ابن عباس رضي الله عنه إنما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً.
ولذلك لما أراد أن ينام ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم يا غلام! قم معي الليل، أو إذا كان آخر الليل: فصلي معي جماعة، قالوا: فعل ذلك اتفاقاً لا قصداً، ويجوز ذلك أيضاً في النهار فلو جئت في بيتك وصليت الضحى فرآك صديقك أو من معك فأحب أن يصلي معك أو الزوجة أرادت أن تصلي معك فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه دخل على أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس: (فقال لنا: قوموا فلأصلي لكم) فهذا شيء حصل اتفاقاً، أي: أنه لم يكن مرتباً قبل مجيئه عليه الصلاة والسلام وقبل وقته وحينه، قال: (فصففت أنا واليتيم معه والعجوز من ورائنا) فدل على جواز النافلة اتفاقاً لا قصداً، والله تعالى أعلم.(39/18)
حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
السؤال
هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟
الجواب
قوله في الحديث الماضي: (كتب له قيام ليلة) قالوا: يكتب له أجر قيام الليلة كاملاً، وفرق بين قوله: (كتب له قيام ليلة) وبين الحكم في كونه قد قام الليلة كاملة، هناك فرق بين المسألتين وتوضيح ذلك في العشر الأواخر، ففي العشر الأواخر يندب إلى إحياء الليل، فبعض الناس يصلي مع التراويح ثم يقول: إذا صليت التراويح وخرجت مع الإمام كتب لي إنني أحييت الليل فيذهب وينام، ويقول: إنني قد أخذت الفجر والفضيلة، والواقع أن هناك فرق بين الفضيلة وبين الحكم، (كتب له قيام ليلة) أي: كتب له أجر قيام الليلة، ولكنه لا يحكم بكونه قد قام الليلة فيما ندب إلى إحياء الليل فيه كاملاً؛ لأن الإحياء لا يكون إلا حقيقة، فقوله كما جاء (وأحيا ليله) لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعلى هذا فإنه يكتب له أجر القيام.
وأما بالنسبة للاعتكاف فالأصل في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] هذا أصل عام أخذ منه جماهير العلماء رحمة الله عليهم منهم الأئمة الأربعة وهو قول داود الظاهري والحديث أن الاعتكاف جائز في المساجد كلها من حيث الجملة، إلا أن من نوى أن يعتكف العشر الأواخر أو نذر أن يعتكف العشر الأواخر فإنه لا يعتكف إلا في مسجد فيه الجمعة؛ لأنه إذا نذر اعتكاف العشر كاملة حرم عليه أن يخرج، فإذا جاء يوم الجمعة وهو في مسجد لا يجمع فيه فمعنى ذلك إما أن يبطل نذره بالخروج؛ لأن المعتكف لا يجوز له الخروج إلا من ضرورة وحاجة تتعلق ببدنه، وإما أن يضطر إلى ترك الجمعة ولا يجوز لمثله أن يترك الجمعة.
فلذلك إذا نذر وفرض على نفسه اعتكاف العشر كاملة فإنه لا يعتكف إلا في مسجد فيه جمعة، وهذا هو الأصل الذي دعا بعض العلماء أن يقول: اعتكاف العشر لا يكون إلا في مسجد يجمع فيه حتى لا يضطر إلى الخروج، أما لو نذر أن يعتكف ليلة وجاء في أي مسجد واعتكف فيه لا بأس ولا حرج، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) وهذا الحديث حسن بعض العلماء رحمة الله عليهم من المتقدمين والمتأخرين إسناده وقال مجاهد بظاهره، ومجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس قال: [إنه لا يجوز الاعتكاف إلا في واحد من المساجد الثلاثة] ولكن خالفه جمهور العلماء على ظاهر الآية الكريمة.
ولذلك أيضاً قالوا: إن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هذا معروف في أسلوب الشرع النفي المسلط على الحقيقة الشرعية كقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) (ولا صلاة بعد صلاة الصبح) (ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) تارة يرد ويراد به الكمال، وتارة يرد ويراد به نفي الصحة، فتردد الحديث هنا بين أن يحمل قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) بين أن يحمل على الفضيلة، أي: لا أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة فلا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة؛ لأن المسجد الحرام فيه فضيلة الطواف التي لا توجد في غيره، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم دونه ففيه فضيلة الألف الصلاة التي لا توجد فيمن دونه، والمسجد الأقصى فيه فضيلة مضاعفة الصلاة خمسمائة صلاة، فأصبح من يصلي ويعتكف في هذه المساجد قد حصل على كمال الاعتكاف ما لم يحصله في غيره، فصار كقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كامل لمن لا أمانة له، وكقوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي: لا وضوء كامل لمن لم يذكر اسم الله عليه لوجود الصارف من الأدلة الأخرى وهذا هو قول جمهور العلماء، والله تعالى أعلم.(39/19)
حكم ابتلاع الصائم للنخامة
السؤال
ما حكم ابتلاع النخامة؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة مما تعم به البلوى وهي مسألة النخامة، والنخامة إذا كان الإنسان صائماً لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يزدرد النخامة دون أن تبلغ فمه، كأن تكون في خياشيمه أو أنفه فيزدردها، أي: إلى جوفه دون أن يخرجها إلى فمه فهذا لا تفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وهي من الجسم ومن داخله كتحرك الطعام في الجوف.
الحالة الثانية: أن يخرج النخامة حتى تخرج من فمه ثم يعيدها فهو مفطر كالقيء إذا أخرجه ثم أعاده.
الحالة الثالثة: أن يخرج النخامة في فمه ولا يخرجه عن شفتيه كالصورة الثانية فتكون في فمه فهل يفطر أو لا يفطر وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: النخامة كالقيء وهي البلغم الثقيل ويكون غليظ له قطع، أما إذا كان رقيقاً ومن الريق فهذا لا يضر، نحن نتكلم عن النخامة التي هي كالقطع، قالوا: إذا أخرجها إلى فمه فحكمها حكم القيء، والذي يظهر أنه من المشتبه الذي ينبغي اتقائه فاحتياط المسلم بقذفه وإلقائه أبلغ وأسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك) والله تعالى أعلم.(39/20)
حكم القلس الذي يخرج من الصائم
السؤال
ما حكم القلس الذي يخرج من الصائم وهل يعتبر مفطراً؟
الجواب
ما خرج من الجوف وبلغ اللهاة، واللهاة هي: الفاصل بين الفم وبين الحلق، فاللهاة هي اللحمة المتدلية وهي الفاصل عند العلماء إذا قاء الإنسان أو خرج منه القلس فإنه إذا جاوز هذا المكان وأعاده فقد أفطر، فمن خرج منه طعام أو فضلة طعام وجاوز اللهاة إلى الفم ثم أعاده فإنه يعتبر مفطراً، وهذا بناءً على أن الفم من خارج لا من داخل فيستوي أن يكون قيءً أو يكون قلساً، والله تعالى أعلم.(39/21)
الإمساك عن الطعام عند سماع الأذان
السؤال
إني أحبك في الله، انتشر في قريتنا أنهم يأكلون ويشربون حتى يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم، فهل فعلاً هذا صحيح وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأصل من المؤذن أن يؤذن عند تبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فإذا أذن المؤذن وجب الإمساك، لكن من كان في صحراء وأمكنه أن ينظر إلى السماء وعنده خبرة ومعرفة يعرف فيها الفجر الصادق من الفجر الكاذب ونظر أن الفجر باقٍ عليه، وأكل في هذا الوقت فإنه لا يفطر، أما أن يقال للناس: كلوا إلى قوله (الصلاة خير من النوم) أو كلوا واشربوا إلى أن ينتهي المؤذن فهذا خلاف الأصل، لأن الأصل في المؤذن أنه يؤذن عند تبين الفجر الصادق من الكاذب، وهذا هو الذي نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين، فلا يجوز الأكل إذا كان المؤذن حافظاً للوقت وضابطاً له وكان معروفاً أنه يؤذن عند تبين الفجر، فمن أكل أو شرب عندئذٍ فإنه يحكم بفطره، والله تعالى أعلم.(39/22)
فضل متابعة الإمام
السؤال
ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)؟
الجواب
القيام مع الأئمة فيه خير كثير؛ فإن لزوم جماعة المسلمين وإصابة دعوة الناس فيها خير كثير كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام قال: (ودعوتهم من ورائهم) فيشهد الخير ويشهد جماعة المسلمين ويصلي معهم، فندب إلى تكثير سواد الأئمة والحرص على الصلاة معهم لما في ذلك من نشاط النفوس على الخير وتشفعه أيضاً في إخوانه وجيرانه وأقاربه أن يشهدوا هذا الخير حينما يروه محافظاً عليه.
قال العلماء: المقصود من هذا الحديث أنه إذا قام مع إمامه حتى ينصرف فيه ترغيب الناس في البقاء مع الأئمة وترغيب الناس في ألا ينصرفوا إلا مع الأئمة، لما فيه من حصول المعونة على الخير، وتشجيعهم أيضاً على القيام بالناس، هذا الحديث المراد به أن يبقى المصلي والمأموم مع الإمام حتى يقضي وتره وينصرف، سواء كان إماماً واحداً أو كان أكثر من إمام؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه) هذا لفظ أريد به الجنس، يعني: جنس من يؤمه، سواء كان الإمام الراتب أو كان هناك أئمة يتناوبون؛ فلذلك قصد منه جنس الإمام: (من قام مع إمامه) قالوا: لأنه لما قعد وصبر واصطبر واحتسب الأجر كان أبلغ في عنائه ونصبه فورد له الفضل بالخصوص، فيندب إلى البقاء حتى يختم الأئمة صلاتهم وينتهون منها ويكون في ذلك إصابة دعوة الوتر وما في ذلك من رجاء الإجابة مع جماعة المسلمين، والله تعالى أعلم.(39/23)
الحقوق الزوجية
الحقوق الزوجية من أهم الأمور التي تطرح فيما يخص أحوال الأسرة وقضاياها، إذ إن على كل من الزوجين واجبات تجاه الآخر، وله حقوق، وهذه الحقوق والواجبات قد بينها الشارع الحكيم، وجعل المحافظة عليها من شروط استمرار الحياة الزوجية.
ويترتب على الإتيان بهذه الحقوق صلاح الأسرة في الدنيا، مع ما أعده الله لكل من الزوجين من الأجر في الآخرة.(40/1)
أمانة الحقوق الزوجية ثقلها وفضل أدائها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف بإذن الله عز وجل عن العباد الغمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن الفرائض والواجبات وحقوق الأزواج والزوجات أمانة وأي أمانة؛ برئت من حملها الأرض والسماوات، وفزعت من عبئها الجبال الشم الشامخات الراسيات برئت من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا.
حملتها على ظهرك، ووضعتها أمانة في عنقك، لكي ترهن بها بين يدي ربك.
الحقوق والواجبات والأمانات والمسئوليات حقوق أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب عباده، وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يفوا بها، وأن يقوموا بها تقرباً إليه جل شأنه.
إنها الحقوق التي وفى بها عباد لوجه الله، فعدلوا بين أزواجهم وأهليهم، وبناتهم وبنيهم، فأنزلهم الله منابر من نور في الجنة، يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المقسطين على منابر من نور يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء) وفي حديث أحمد في مسنده: (على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن).
إنهم أهل الوفاء الذين قاموا بأداء الحقوق بكل حب وصفاء.
إنهم أهل الوفاء الذين تفطرت قلوبهم من خشية الله أن يحاسبهم على تلك الحقوق فتغل أعناقهم عند لقاء الله.
إنها الحقوق التي قربت عباداً إلى الله، وأبعدت من أضاعها عن جوار الله.
إنها الحقوق التي أضاعها رجال فخرجوا من القبور حفاة عراة قد شلّت أجسادهم.
إنها الحقوق التي أضاعها نساء فخرجت الواحدة منهن من الدنيا والجنة عليها حرام.
إنها الحقوق التي أمر الله تبارك وتعالى بها عباده، فكم نزل بها جبريل، وكم سطر بها في القرآن لله من قيل.
إنها الحقوق التي طالما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فأدمع لها العيون، وسكب لها الجفون، وأخشع لها القلوب، حتى وقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً ما وقف قبله ولا بعده، وكان آخر عهده بأمته في ذلك الموقف.
وقف يوم حجة الوداع أمام مائة ألف نفس من أمته صلوات الله وسلامه عليه، ففتح الله له القلوب والأسماع، فأحل الحلال وحرم الحرام، وأبان الشريعة وفصل الأحكام.
وقف صلوات الله وسلامه عليه فخشعت القلوب من كلامه، وأذعنت لربها من جلال ذلك الموقف العظيم، وكان من خطبته المشهورة وكلماته المأثورة: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
اتقوا الله في النساء؛ وصية من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن يؤمن بلقاء الله تعالى، وأبان حقوق الزوج على زوجته، وأبان حقوق الزوجة على زوجها، وأشهد الله على البلاغ، فشهد العباد وشهدت الأرض أنه بلغ لله حجته، وأدى لله أمانته ورسالته.
إنها الحقوق التي رغب فيها ورهب: رغب في أدائها تقرباً إلى الله وتحببا، ورهب من إضاعتها حتى لا يغل العبد بها بين يدي الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(40/2)
نماذج من سير الصحابة في الوفاء مع زوجاتهم وأزواجهم
ولقد سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خطبته، ورقت قلوبهم إذ سمعوا موعظته، فكانوا رضوان الله عليهم أبلغ ما يكونون وفاء، وأصدق ما يكونون حباً للأهل وصفاء، كان الواحد منهم يخاف من زوجتيه أن تغل عنقه إذا لم يعدل بينهما.
هذا معاذ بن جبل صاحب الفقه والعمل، القارئ الثابت، العابد القانت، كانت له زوجتان، أثر عنه رضي الله عنه وأرضاه: [أنه إذا كانت الليلة لواحدة منهما وأصبح، لم يشرب في بيت الأخرى] كل ذلك يخاف أن يكون ظالماً، يخاف من كأس من الماء أن يقوده إلى النار، ويوجب عليه سخط الجبار ونقمة القهار.
إنها القلوب التي عرفت الله حتى شاء الله تبارك وتعالى أن تموت كلتا زوجتيه في يوم واحد، فغسلتا وكفنتا، وصلى الناس عليهما، وكان الناس في ذلك اليوم في شغل، فما حضر الجنازة إلا القليل، فلما دنا من قبره وأراد أن يقبر الزوجتين احتار رضي الله عنه أيتهما يقدم! خاف -من الله- أن يقدم إحداهما فيحاسبه الله بعد وفاتهما على ظلمهما، حتى إنه رضي الله عنه أقرع بين المرأتين، فلما أقرع بينهما خرجت القرعة على واحدة منهما، فقدمها في القبر.
فرضي الله عنك وأرضاك، وجعل أعالي الفردوس مثواك، إذ وفيت وصية رسول الله في أهلك وزوجك، رضي الله عنك وأرضاك إذ خفت من ربك، وخشيت من لقاء إلهك.
إنها القلوب التي تعرف الله، وتخشى لقاء الله.
إنها الحقوق التي ما أنزلها الله في القرآن عبثا، ولا وقف النبي صلى الله عليه وسلم يرهب منها ويدعو إليها عبثا، إنها الحقوق التي تسطر من أجلها الأقوال والأفعال، فتقاد إلى الله حسيراً كسيراً أسيراً بما قاله اللسان، وبما انطوى عليه الجنان، وبما اقترفته اليدان.
أين هذه النماذج الكريمة؟ أين هذه الأمة العظيمة الرحيمة من نماذج اليوم؟(40/3)
ضرورة التذكير بالحقوق الزوجية
لذلك أحبتي في الله يحتاج المؤمن إلى من يذكره بهذه الحقوق، وإلى من يحرك في قلبه الخوف من الله، ومراقبة الله في حقوق الأهل والزوجات والزوجة بحاجة إن كانت مؤمنة بلقاء الله إلى من يذكر قلبها، ويرقق فؤادها، ويدلها على عظيم حق بعلها، إنها الحقوق العظيمة التي أنزل الله عز وجل من أجلها الآيات، وحبرت على المنابر العظات البالغات.
أحبتي في الله هي الحقوق التي وصَّى بها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: (فاستوصوا بالنساء خيرا) فبيض الله وجه امرئ حفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، ونضر وجه زوجة حفظت وصية الله في بعلها، أحبتي في الله: في هذا الزمان الذي عظمت غربته، واستخف الرجال بحقوق النساء، واستخف النساء بحقوق الرجال كم نحن بحاجة إلى من يذكر بهذه الحقوق.
إن البلاء كل البلاء، والمصيبة كل المصيبة؛ أن تجد الرجل ظالماً، ولكن لم يسمع يوماً قط من أخيه كلمة تذكره بالله في حقوق زوجته، والمصيبة كل المصيبة أن تكون المرأة ظالمة لزوجها، فلم تسمع يوماً من الأيام كلمة من صديقاتها تدلها على عظيم حق بعلها.
إلى الله المشتكى من غربة الدين بين المؤمنين! ومن تقاعس الناس في طاعة رب الناس، وخوف ما له من شدة وبأس، ومن ضعف القلوب عن التذكير بالله؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! فهذه كلمات تضمنت بعض الحقوق والواجبات.(40/4)
الوعيد الشديد لمن فرط في حق أهله
رجل تزوج امرأة فمكث معها ثلاثين عاماً، فكانت أماً لأبنائه وبناته، كم طعم من طعامها، وكم اكتسى من لباسٍ غسلته يداها وكم وكم لها عليه من فضل، فلما تولى شيء من جمالها، وغدت بعد مشيبها وكبرها تزوج عليها الثانية، فأنسته الأولى، ومكث أكثر من عشر سنوات لم يدخل بيتها، ولم يطعم طعامها، ولم يطأ فراشها تحلف بالله العظيم أن له أكثر من عشر سنوات ما وطئ فراشها، ولا طعم طعامها، ولا دخل بيتها ويلٌ له من الله ما أشقاه وما أرداه! ويل له من الله إذ ظلم وفجر! ولم يخف الله عز وجل في زوجتيه.
لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت له زوجتان فلم يعدل بينهما إلا جاء يوم القيامة وشقه مائل) مشلول والعياذ بالله! يقوم أمام العباد حافياً عارياً مشلول الجسد -والعياذ بالله- ويلٌ له ثم ويلٌ له إذا تعلقت به تلك المظلومة، واستمسكت به تلك المحرومة في يوم يفر فيه المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه! فالله الله! ما أعظمها من حقوق تقرب إلى الله! الله الله! ما أعظمها من حقوق توجب رضا الله أو سخط الله!(40/5)
حق الله على الزوجين
أعظم الحقوق الزوجية وأجلها على الإطلاق، وأعظم الواجبات الشرعية: حق الله على الزوجين، الله الذي أحل لك حلالها، وأباح لك طيبها ومسها، الله الذي أذن لك بنكاحها، وسهل لك السبيل للوصول إليها.
فيا أيها الزوجان: إن لله عليكما حقاً عظيماً أن تقيما بيت الزوجية على حبه ورضاه، وخشيته وتقواه، وعلى العبودية، والتمسك بالحنيفية، والأمر بالصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبيض الله وجه رجل أقام أوامر الله في بيته، وبيض الله وجه امرأة أقامت أوامر الله في بيت بعلها.
كم من نساء صالحات ثبت الله بهن القلوب على الطاعات، وكم من نساء بخل الأزواج عليهن لأنهم كانوا بعيدين عن الله، وغريبين عن الله، ومعتدين على حدود الله، فما مضت الأيام إلا والقلوب قد خشعت لربها، وأذعنت لخالقها، فدلّت وبصّرت وهدت، فنعم والله المرأة، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لامرأة نضحت في وجه زوجها الماء لتقيمه للعبادة، ورغَّبته في الطاعة والزهادة (رحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء، ورحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء).
ولقد أخبر الله تبارك وتعالى عن هذا الواجب والحق العظيم في كتابه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بطاعته، وأن يحبب في مرضاته، فقال جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] قال بعض العلماء: إني لأرجو من الله ألا يأمر أحدٌ أهله بطاعة الله إلا كفاه الله رزقه؛ لأن الله تعالى يقول: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] فاستنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن من حفظ حق الله في أهله أن الله لا يعييه في رزقٍ لهم.
وقال بعضهم: إنه كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر في بيته وزوجه، وكان قد بلغه قول هذا العالم، يقول: وقد جربت ذلك فوجدته حقا، حتى إنه تمر علي الليلة لا أجد فيها الطعام، فآوي إلى الزوجة لا تخاصمني ولا تعاتبني، فما هو إلا شيء يشغلها عن الرزق، فأنام وتنام في رحمة من الله.
وقال بعضهم: كان بيتي مليئاً بالمشاكل، وكانت أبغض ساعة عندي تلك الساعة التي أدخل فيها بيت الزوجية، فشاء الله أن يهدي قلبي إليه، فعرفت سبيل المساجد، وقمت مع كل راكع وساجد، فأصبحت أسعد ساعة عندي تلك الساعة التي أدخل فيها إلى بيتي.
ما حفظ مؤمن حق الله في أهله إلا وفقه الله، ولن يسيئه الله في أهله وزوجه؛ لأنه من وفّى لله وفّى الله له، ولذلك أثنى الله على نبي من أنبيائه في كتابه، فقال جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] فما أمر أحد أهله إلا أرضاه الله في أهله وكان عند ربه مرضيا، حتى قال بعض العلماء: من دلائل رضوان الله عن العبد توفيقه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيت أهله.
فالله الله! في هذا البيت الذي أقمته بتوفيق الله ورحمته! ليكن أول ما يجعله الزوج والزوجة نصب أعنيها إذا دخلا إلى بيت الزوجية إرضاء الله سبحانه وتعالى؛ فأول ما يفكر فيه الإنسان الصالح الموفق الذي يريد الحياة السعيدة الهنيئة هو طاعة الله ورسوله.
والله ما دخلت إلى بيت زوجية وفي نيتك وقلبك أنك تقيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلك وزوجك وأولادك إلا متعك الله، وجعل بيتك نعم البيت إذ تأوي إليه، وإذ تضفي إليه فالله الله في هذا الحق العظيم! والله ما تنكد العيش، ولا تنغصت الحياة، ولا تنكدت العشرة الزوجية بشيء مثل عصيان الله عز وجل، والتمرد على الله وعلى أوامر الله! الله الله أن تدخل على زوجتك فتراها على منكر لا يرضاه الله، فلا تأخذك حمية الدين أن تذكرها، ويرق لها شعورك، وتخاف منها أكثر من خشيتك من ربها! الله الله إذ رأيتها فلم تأمرها بطاعة ربها، فجئت يوم القيامة فتعلقت بك بين يدي الله، وقالت: رباه! سل زوجي؛ رآني نائمة وما أيقظني للصلاة! يا رب! سل زوجي؛ سمع مني ما لا يرضيك فما نهاني! يا رب! سل زوجي؛ رآني على معصيتك: انظر إلى الحرام أو أسمع الآثام وما نهاني عن حدودك، وما رهبني من معاصيك! الله الله أن توقفك ذلك الموقف! ولذلك قال بعض العلماء في قول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] يفر من أهله وزوجه خوفاً من معصية ومنكر رآهم عليه، فيسأله بين يدي الله عن ذلك.(40/6)
المعاشرة بالمعروف
أما الحق الثاني فقد أمر الله تبارك وتعالى به في أكثر من آية من كتابه، وهو ثمرة الخوف والخشية من الله عز وجل: العشرة بالمعروف خلق الأوفياء، وشأن الكرماء العشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
قال ابن عباس: [الخير الكثير أن تكره المرأةَ فتصبر عليها، فيرزقك الله منها ولداً صالحاً فيه خير كثير] وقال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231] أي: إنه قد ظلم نفسه وسيلقى من الله ما يكون جزاءً وفاقاً لعمله.
فلا يحسبن الظالم إذا أمسك الزوجة للإضرار أن الله غافل عن إضراره، لا والله، فكم لله من نقم وسطوات تنزلت بسبب تلك الدعوات من النساء المظلومات، وكم من رجل تنغصت عليه عيشته، وتنكدت عليه حياته بظلمه لمؤمنة آمنت بالله، فرفعت كفها مظلومة فاشتكت إلى الله! فإن الله قد سمع شكوى المرأة من فوق سبع سماوات، تقول عائشة: [إنه ليخفى علي بعض كلامها، فسبحان من وسع سمعه الأصوات.
سمعها من فوق سبع سماوات تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعلها، وتشتكي إلى الله من زوجها]، فأنزل الله عز وجل فيه قرآناً، وأبقى للعباد من شأنها فرقاناً.
أحبتي في الله: أمر الله بالمعاشرة بالمعروف وهي خصلة الكرماء، وشيمة البررة الأوفياء، شيمة الصالحين، وخلق عباد الله المتقين.
ولذلك لما سأل رجلٌ الحسن البصري رحمه الله، فقال له: [يا إمام! إن لي ابنة، لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي، فإنه إن أمسكها برها، وإن طلقها لم يظلمها] فمن يتقي الله هو الذي يمسك بالمعروف، وهو الذي يفارق بإحسان.
يقول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، أي: إن أمسكتم النساء في عصمتكم فأمسكوهن على الشيمة والوفاء وحسن العهد والذمة والمحبة والصفاء أمسكوهن إمساك الخير لا إمساك الإضرار، فهذه وصية الله لعباده.
ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله، إذا أرادوا تزويج الرجل وسأل عن شرط الولي، قالوا: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال عبد الله بن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] قال: [الغليظ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان] غليظ لكنه على المؤمن يسير، ميثاق غليظ: أي: إن الله أمر كل مؤمن يؤمن بلقائه وبكتابه أن يمسك بالمعروف، فهذا ميثاق غليظ من الله.
فالله الله أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وأنت تمسك المرأة بقصد الأذية! فإن الله تعالى جعل القلوب محل النظر.
والغريب أن الله تعالى يقول للكفار: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فهم كفار، لكن لو علم الله في قلوبهم خيراً لأعطاهم على قدر نياتهم، فكيف بالمؤمن؟! فالقلب محل النظر من الله عز وجل.
والله! ما أخفى إنسان في سريرته وقلبه نية سوء إلا فضحه الله عز وجل، ولا تحسبن الله غافلاً عن عباده!(40/7)
حقيقة الإمساك بالمعروف
وما معنى الإمساك بالمعروف الذي وصى الله به في كتابه، ووصى به نبيه صلى الله عليه وسلم أصحابَه والأمةَ جمعاء؟ الإمساك بالمعروف أن تنظر إلى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترى العشرة الوفية في أبهى صورها وأجمل حللها أن تنظر إلى ذلك النبي الكريم في أخذه وعطائه، وحبه ووفائه ذلك النبي الكريم الذي ما آذى امرأة من نسائه ما سب يوماً من الأيام امرأة من نسائه، ولا آذى يوماً من الأيام زوجة من زوجاته، ولا تذمر في وجه واحدة قط صلوات الله وسلامه عليه، ولا وضعت إحداهن طعاماً بين يديه فسبها أو شتمها أو عاب طعامها.(40/8)
نماذج للمعاشرة بالمعروف
يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [صحبت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما لمست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفه، ولا قال لي يوماً من الأيام قط: أف] طفل صغير ما قال له يوماً من الأيام: أف، فكيف بامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر؟! يأتي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة فيقول: (يا عائشة! هل عندكم شيء، قالت: لا، قال: إني إذاً صائم) ما قال: فعل الله بك وفعل ما قال: أين طعامنا؟ تقول عائشة: (وإني لأضع يدي على بطنه أرى أثر الجوع) صلوات الله وسلامه عليه.
شيمة ووفاء أبلغ ما يكون من الحب والصفاء والرحمة والشفقة والخيرية للأهل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما سمع منه يوماً من الأيام إساءة إلى زوجة من زوجاته، وكان يتحبب إلى المرأة حتى ينادي بالترخيم، فيقول لـ عائشة: (يا عائش!) يدللها ويعطف عليها صلوات الله وسلامه عليه، ولما أمره الله أن يخير نساءه، وأخبر عائشة رضي الله عنها وأرضاها بحكم الله فيه وفي نسائه، فقال لها: (لا تعجلي، استأذني والديك، فقالت رضي الله عنها: أفيك أختار يا رسول الله؟!).
لو لم يكن وفياً صلوات الله وسلامه عليه ورحيماً بأهله ما اختارته رضي الله عنها وأرضاه.
تلك السيرة العطرة، والمواقف الجميلة النضرة من المحبة والصفاء والشيمة والوفاء، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين مع هذا كله يلاطف ويعاشر مع القول بالفعل! خرج صلى الله عليه وسلم معها إلى قباء فسابقها فسبقها صلوات الله وسلامه عليه، فطلبته الثانية فسبقها، حتى إذا بدن وكبر عليه الصلاة والسلام سبقته رضي الله عنها وأرضاها، فيقول لها يطيب خاطرها: (هذه بتلك)، قلوب تعلقت بالله، وأذعنت لجلال الله، فتقربت إلى الله بالإحسان إلى الأهل.
أحبتي في الله: إنها العشرة التي يحب الله أهلها وأصحابها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم دالاً لك ومعرفاً إذا أردت أن تعرف خيرية الإنسان أن تنظر إليه مع أهله (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) إذا أردت أن تعرف خير الرجل، فانظر إلى ذلك الرجل الذي تؤذيه امرأته فيحسن إليها، وتهينه فيكرمها، وتحرمه فيعطيها إلى ذلك الرجل القادر على الانتقام ولا ينتقم لوجه الله، والقادر على الطلاق ولا يطلق لوجه الله، والذي ما ذهبت زوجته يوماً من الأيام تشتكي إلى أبيها.
وإن في الرجال من هو على الصبر والتذمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولقد بلغ ببعضهم أنه آذته امرأته، وأصبحت تسبه وتشتمه، حتى سمع بعض طلابه ذلك السب والشتم، فقيل له: لا تسرحها؟ فسكت، ثم قيل له: هلا أجبتها؟ أي: أين الرجولة؟! أجبها، فقال: أستحي من الله أن يسمع مني كلمة لأهلي لا ترضيه.
يريدون لقاء الله خفيفين من الأحمال والأوزار، وقد يسلط الله على العبد أهله فيؤذى ويصبر لوجه الله عز وجل، فمن الناس من يؤذى في أهله فيصبر ويحتسب فيجمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة.
ولذلك قال الله عز وجل عن نبيه زكريا: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] قال بعض العلماء: كانت زوجته قاسية فظة عليه، فصبر لوجه الله عز وجل، حتى قلبها الله في آخر حياتها فأصبحت ذات الخلق الحسن، وكم من أناس صبروا على أذية الزوجات فبلغهم الله عز وجل بذلك الصبر أعالي الدرجات، وأوجد لهم الحب وجزيل الحسنات، وكفر عنهم بتلك البلايا عظيم السيئات، فوافوا الله عز وجل بحسنات عظيمة، وأجور كريمة، ومنهم من جمع الله له بين الحسنيين، وآتاه حسن العاقبتين، فأصلح له أهله في الدنيا قبل أن يلقاه، ثم أصلحها له من بعده.
وقد حدثني بعض الإخوان أن أمه كانت شديدة على أبيه، وكان صابراً لوجه الله، وكانت تؤذيه وتضطهده حتى تهينه بين يدي أولاده، وهو يصبر ويحتسب، ومن العجيب أنها ما كانت تسبه وتشتمه إلا أجاب بذكر لله عز وجل، إما أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو حسبنا الله ونعم الوكيل، أو يقول لها: يا أمة اللهّ! اتقي الله في نفسك، ويذكرها بالله.
يقول: ما سمعت منه يوماً من الأيام إساءة إلى والدتي، مع شديد قبح الألفاظ وشناعتها التي تؤذيه بها، يقول: فصبر واحتسب، فشاء الله عز وجل في آخر حياة الأب أن مرض، فقلب الله قلبها حناناً وعطفاً وشفقة عليه، يقول: كنا مسافرين، فكانت الأم هي التي ترعاه، وتقوم على شأنه، إلى درجة أن أعمامي -إخوة أبي- لا يأتونه خوفاً من الإصابة بالعدوى، فما صبرت إلا تلك المرأة، ومع هذا اختاره الله إلى جواره، وبعد وفاته أصبحت تكثر له من الدعوات والاستغفار وتذكره بصالح الدعوات، وإذا ذُكِر خشعت من ذكراه مما تتذكر من صبره عليها.
وكم من أناس صبروا لوجه الله تعالى، أولئك الرجال الذين يخرجون من الدنيا، وقد أسروا قلوب زوجاتهم في محبة الله ومرضاة الله! ومع الخير الموجود في الرجال فإنه موجود كذلك في النساء، فكم من أمة لله صابرة على أذية بعلها، وكم من أمة لله صابرة على أذية زوجها.
من النساء من تؤذى وتهان وتضرب وتذل، ولا أحد يعرف بذلك الأمر، ومن النساء من تؤذى وتهان في بيت زوجها بأمور لا يعلمها إلا الله، وما اطلع أحد على ذلك السر، ولا علم به أحد فهي صابرة ومحتسبة لوجه الله.
وحدثني بعض الأخيار أن أختاً له أوذيت وضربت حتى كان من أثر الأذية جرحاً في جسدها، يقول: فجاءت إلى بيتها، فقيل لها: ما هذا؟ فادعت شيئاً غير الضرب، يقول: وما علمنا بذلك.
من النساء من هن صابرات لوجه الله، ويحتسبن الأجر عند الله، فطوبى لهن وحسن مآب.
فالله الله في المعاشرة بالمعروف! إياكَ أن تكون المرأة أوفى لله منك! وإياكِ أن يكون الزوج أوفى لله منكِ! حاولي قدر الاستطاعة أن تكوني أبر لله، وليحاول الرجل أن يكون أبر لله {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فإن بيوت المؤمنين لا تعرف هذه المشاكل، ولا تعرف تنغيص العيش؛ لأنها إذا اختلفت في أمر فعندها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءً شافياً، وعلاجاً كافيا، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم المعاشرة التي ترضيه لوجهه، ونعوذ بالله العظيم أن يطلع على عورة منّا تغضبه في عشرة الأهل والأبناء.(40/9)
حق المبيت
أما الحق الثالث فهو حق المبيت: هذا الحق الذي يعتبر -كما يسميه العلماء- من الحقوق الزوجية المشتركة، ومعنى ذلك أنه يجب على الرجل للمرأة، ويجب على المرأة للرجل.
يجب على الرجل أن يبات عند امرأته، ويجب على المرأة أن تبات وتعين زوجها على العفة والإحصان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وجوب هذا الحق على الطرفين، وأشار الله عز وجل في كتابه إلى ذلك بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وانظر إلى أسلوب جمال القرآن! انظر إلى ذلك الأسلوب الرباني الذي يعطيك الحياة الزوجية الحقيقية {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] فهذا الحق وإن كان من الحياء الإعراض عنه، ولكن الله لا يستحي من الحق!(40/10)
خطر التقصير في حق المبيت
فالله الله في هذه الحقوق! لقد وقعت كثير من المشاكل والحوادث المحزنة المؤسفة، حتى إن البعض قد يسافر في بعض الأمور التي هي من النوافل، ويتغرب عن بيته الشهر والشهرين والثلاثة والأربعة، حتى تقع زوجه في الحرام، تقول إحداهن: حتى اضطررت إلى حاجة، فأصبحت أطلب من جاري أن يأتي بالحاجة يوماً فيوماً حتى أغواني الشيطان فأصبت الحرام معه!! من الذي يلقى الله بإثمها، ومن الذي يحمل بين يدي الله وزرها؟ إنه الزوج الظالم الغاشم الذي رمى بهذه الحقوق وراء ظهره.
والعجب أن يكون إنساناً يفقه عن الله ورسوله يعرف الحلال والحرام، ويعرف الشريعة والأحكام ويقول: أما أنت فلستِ بفراش، ويغض عنها الطرف ويحتقرها، ويشتغل بكتب العلم زاعماً أن ذلك أفضل وأجل له.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وهذا مما افترضه وأوجبه الله عليك، فإن كنت صادقاً في طلب حب الله فابدأ بأهلك وزوجك؛ أعفهم عن الحرام، وصنهم عن الفواحش والآثام.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف على منبره فتتفجر ينابيع الحكمة من لسانه وبيانه، لكنه إذا دخل إلى أهله أعطاهم حقوقهم، فعفهم وصانهم عن الحرام، حتى كان إذا خرج إلى الصلاة قبَّل امرأة من نسائه، حتى يشعرها بالحنان وبالرحمة، ويكون آخر عهده بها الوفاء لها في حقها.
الله أكبر! ما أجله من دين! وما أعظمها من رسالة تنزلت من رب العالمين! فالله الله في هذه الحقوق! والله لو نعلم كثيراً من المشاكل التي تقع بسبب إضاعة حق المبيت لأشفقنا على أنفسنا.
كثرة السهرة مع الأصحاب والأحباب، وكثرة الضيوف التي تكون لأمور من الفضل ليست من الواجب واللازم، حتى تضيع حقوق النساء في البيوت كل ذلك مما لم يأذن الله به، كلٌ له حقه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لزوجك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه)؛ للأهل حقهم، وللصديق حقه، وللزوجة حقها، فأعطِ كل ذي حق حقه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبصرنا بهذه الحقوق، وأن يعيننا على أدائها لوجهه الكريم.(40/11)
الأدلة على وجوب حق المبيت
هذا الحق الذي أوجبه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث أوجبه على المرأة فأخبر كما في الصحيحين (أن المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت باتت الملائكة تلعنها في السماء)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما امرأة دعاها زوجها فامتنعت سخط عليها الذي في السماء حتى يرضى عنها)؛ لأن هذه الرواية أشد من الرواية الأولى، الرواية الأولى: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) وأما الرواية الثانية: (كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها) أي: لو بقي الزوج في نفسه على المرأة متألماً من ذلك الامتناع في تلك الليلة حافظاً له، لا يزال الله ساخطاً على تلك المرأة حتى يرضى ذلك الزوج.
ومن النساء من آذت زوجها وامتنعت عليه في الفراش في إحدى الليالي، وشاء الله أن يتوفى زوجها في حادثة في تلك الليلة، فباتت قد سخط عليها ولعنت من السماء، فالله الله في حقوق الفراش! وكذلك على الزوج حق لزوجه، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله: أن على الرجل أن يصيب المرأة في كل أربعة ليال، وهذا أشار إليه العلماء رحمهم الله، واستنبطوه من دليل الكتاب، فإن الله أباح للرجل أربعة نساء، وهذا يدل على أن للمرأة ليلة من بين تلك الليالي، فإن كان الرجل عابداً قانتاً فليؤد حق الله وحق أهله، فلا يترك الفرائض التي أوجبها الله لنوافل لم يوجبها الله عليه.
ولذلك ورد عن عمر رضي الله عنه [أنه جاءته امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال لها رضي الله عنها: هنيئاً لكِ! نعم الرجل، فمضت المرأة ثم رجعت، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فقال لها: هنيئاً لكِ! نعم الرجل، فمضت المرأة ثم رجعت، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال أبي -وفي رواية علي -: يا أمير المؤمنين! إن المرأة تشتكي زوجها، فقال عمر رضي الله عنها: أما وقد علمت فلا يقضي بينهما غيرك، فطُلب الزوج فجاء، فقالت المرأة: ألهى خليلي عن فراشي مسجد وليله نهاره ما يرقد ولست في أمر النساء أحمده انظر إلى البلاغة والأدب حتى في تعاطي الألفاظ، فقال ذلك الرجل المدعى عليه: زهدني في فرشها ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول إني امرؤ قد رابني وجل زهدتني تلك السبع الطوال من كتاب الله عز وجل، حتى عفت فراشها، وخفت من لقاء الله، فهان عليَّ أن أصيبها، فلما قال ذلك، قال أبي أو علي: إن لها عليك حقاً يا رجل تصيبها في أربع لمن عقل فالزم بذا ودع عنك العلل] والمقصود أنه من حق المرأة على الرجل أن يعفها عن الحرام خاصة في هذا الزمان الذي عظمت فيه الفتن والمحن، إذ تحتاج المرأة إلى شيء هو من جبلتها وخلقتها، ويحتاج الرجل إلى شيء هو من جبلته وخلقته، والمقصود من الزواج الإعفاف، وأن يحصن الإنسان فرجه، ولذلك لا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر فراشه بغير حق، وما من إنسان يقصر في حق زوجه في الفراش فيكون ذلك التقصير سبباً في وقوعها في الحرام إلا لقي الله بإثمها ووزرها، وما من امرأة تؤذي زوجها في فراشه، وتمنعه من مبيته، وتؤذيه حتى يقع في الحرام، إلا لقت الله بوزره! فالله الله! إنها الحقوق التي لا يجامل فيها! فإن الله ذكر الفراش للنساء في آية من كتابه، فذكر الثلاث العورات، {قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] أنزلها آيات تتلى في كتابه سبحانه وتعالى.
فالإسلام دين العبادة والزهادة والخشوع والخضوع، وكذلك دين العفة والحصانة، ودين أعطى لكل شيء حقه وقدره، فليس من حق الرجل أن يحبس المرأة ثم يأتي في آخر الليل تعباناً سهراناً كسلاً خاملاً فيرتمي على الفراش مضيعاً حق زوجه، خاصة إذا كانت في عز شبابها(40/12)
حق الزوج في الطاعة بالمعروف
أما الحق الرابع: فحق الزوج على زوجته الطاعة بالمعروف: وهذا الحق بينه الله تعالى في كتابه فقال تقدست أسماؤه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فللرجل حق القوامة على المرأة، والمرأة تحت الرجل تشد من أزره وتعينه وتسدده وتقربه من طاعة ربه ومرضاته، فالرجل له حق القوامة على النساء، ولذلك من حكمة الله وفطرته التي فطر الناس عليها -لا تبديل لخلق الله- أن الرجال أقدر على تدبير وتصريف الأمور من النساء، وفي النساء الدعة والرحمة والحنان واللطف؛ لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا كسر هذا فسبحان العليم الخبير! وسبحان اللطيف البصير! إذ جعل المرأة على الضعف حتى تسد عجز من الرجل الخشونة، وجعل الرجل في الخشونة حتى يسد ضعف المرأة من اللين.
فإذا استرجلت المرأة وأصبحت كالرجال، فإنها قد لعنت بلعنة الله عز وجل: (لعن الله النساء المسترجلات)؛ التي تحاول الواحدة منهن أن تظهر أن لها فضلاً على الرجل، وأنها أصبحت تساويه وتنافسه، وأن دراستها وعلمها وشهادتها قد أهّلوها أن تعصي أمره، وتبتعد عن نهيه، تباً لها من امرأة! عصت ربها، واعتدت حدودها، وخالفت فطرتها ولذلك لن تجد امرأة تسترجل وتخرج عن أنوثتها ورقتها إلا مقتها وازدراها الناس، وسقطت من الأعين مهما كانت تلك المرأة على فطنة وذكاء وعلم.
ولذلك ينبغي للمرأة أن تعي رسالتها تجاه زوجها، قال صلى الله عليه وسلم لامرأة من النساء يعرفها بحق بعلها: (إنه جنتك ونارك) أي: هذا الزوج الذي أمامك هو الجنة إن أطعتِ الله فيه، وهو النار إن عصيتِ الله عز وجل فيه، إن أمرك بأمر فقولي بلسان الحال والمقال: سمعت وأطعت لله، لكن بشرط أن يكون هذا الأمر في حدود طاعة الله ومرضاة الله، فإن أمرك بالمنكر فدليه وأرشديه، وخذي بحجزه واهديه لعل الله عز وجل من عذابه أن يقيه، دليه على سبيل الرضا، واهديه إلى محبة الله والتقوى لعل الله أن ينقذه بدلالتك، فإن أمركِ بأمر لم يأذن الله به، فقولي له: إن في هذا معصية لله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
عجب والله! أن تجد المرأة على الصلاح والعفة، وتجد الرجل يأمرها -بناء على أن الطاعة له- بما لم يأذن الله به؛ من الرجال من يأمر امرأته أن تصب القهوة للرجال الأجانب من الرجال -والعياذ بالله- من يأمر أهله بالدخول على الغريب الأجنبي حاسرة لكي تبدي زينتها وجمالها وفتنتها -أعوذ بالله- تباً له من زوج! عصى الله وآذى الله، وفتن المرأة في طاعته ومعصية الله.
فالله الله أن يستغل الرجل هذه القوامة فيأمر بما لم يأمر الله به، وإياك أيتها المسلمة المؤمنة أن تؤمري بأمر لم يأذن الله به فتذلي لذلك الأمر، فالذلة لله وحده، والعزة لله وحده، والذلة من العباد لله، فيذلون له وحده، فالأمر أمره، والشرع شرعه، والدين دينه، والأجساد أجساده، والأرواح أرواحه، لا ينبغي أن تستغل إلا في طاعته ومحبته.
فإذا اعتدى الزوج هذه الحدود، وأراد أن ينتهك محارم الله فعندها تقف المرأة ناهية له عن المنكر، مبتعدة عن اقتراف ما أمرها به من حدود الله وزواجره.
وأيما امرأة وفت لله فأطاعت زوجها أعانها الله على حصول مرضاته عنها؛ فإن المرأة إذا أرضت زوجها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم زفت إلى الجنان وخيرت من أي أبواب الجنة أن تدخل، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن عنه: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) طوبى لامرأة ماتت وتوفاها الله وزوجها راضٍ عنها.
وطاعة الزوج أمر عظيم، ولذلك إذا كفرت عشيرها، وآذت الله في زوجها، فإنها مأذونة بالنار وبئس القرار.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وعظ النساء، فذكرهن بالله عز وجل، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (استغفرن الله واتقين النار فإني أُريت أنكن أكثر حطب جهنم، قلنا: ولم يا رسول الله؟ قال: بكفركن! قلنا: أيكفرن بالله؟ قال: لا، وإنما يكفرن العشير)؛ أي: تكون المرأة عند زوجها يحسن إليها ويكرمها، وتأتي لحظة من اللحظات تحصل منه هنة من الهنات أو زلة من الزلات، فتمد يدها والذهب في ذلك اليد الذي امتن به زوجها عليها، لتقول له: ما رأيت منك خيراً قط، وبهذه الكلمة تتبوأ مقعدها من النار والعياذ بالله.
حق الزوج على الزوجة عظيم، فلا تخرج إلا بإذنه، ولا تدخل أحداً إلى بيت الزوجية إلا بإذنه، كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حقوق الرجال على النساء: (ولا يوطئن فرشكم إلا من تأذنون) أي: لا يوطئن تلك الفُرش إلا من أذنتم أن يطأها، بمعنى أنها لا تأذن لأحد أن يدخل بيت زوجها ولو كان قريباً حتى يأذن الزوج.(40/13)
حق الزوجة في النفقة
الحق الخامس من حقوق الزوجية: حق النفقات: وهو حق للزوجة على الزوج، فعليه أن يطعمها ويكسوها بالمعروف، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هذا الحق، حين سأله معاوية رضي الله عنه وأرضاه: (ما حق الزوج علينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت).
حق النساء في النفقة من الحقوق الواجبة واللازمة، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشتكت له هند فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله لولدي، فقال: خذي من ماله ما يكفيكِ وولدك بالمعروف).
ولها حق السكنى حتى تؤوي عرضك عن الحرام، فتسكنها حيث سكنت {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6] وتطعمها من حيث طعمت، وتكسوها من حيث اكتسيت، وتكون تلك الكسوة والنفقة بالمعروف {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لا تضار امرأة زوجها بتلك النفقة، ولا يضار الزوج زوجته بتلك النفقة، ليست النفقة سبيلاً للإجحاف، فبعض الأزواج إذا أعطى المرأة نفقتها امتن عليها بتلك النفقة، وقال: فعلت لك وفعلت لك حتى يذهب معروفه عليها، وبئس والله ما فعل، فذلك -كما يقول العلماء- من سوء العشرة، وقد يكون ذنباً على الإنسان إذا قصد به أذية المرأة والزوجة.
وهنا أمر ينبغي أن يتنبه له: ليس معنى إيجاد النفقة أن تبغي المرأة على زوجها، أو يبغي الرجل على زوجته، فمن الناس من ينفق لا كالنفقة، ومن النساء من تطالب زوجها بنفقة تجحف به، وقد تبلغ به إلى حد الدين! وذلك تكليف للنفس بما لا يطاق.
فعلى المرأة المؤمنة إذا كانت ترجو لقاء الله والدار الآخرة ألا تحمّل زوجها ما لا يطيق، ومن النساء من إذا ذهبت إلى البيوت ونظرت إلى ما فيها من الجمال والمال أقامت الدنيا وأقعدتها حتى يفرش مثل ذلك الفراش، ويبسط مثل ذلك البساط، فالله الله أيتها المؤمنة أن تكوني سبباً في الإجحاف بالزوج.
إنه حق ولكنه بالمعروف، لا بالإسراف، ولا بالإجحاف، فليس من حق الزوج أن يكون ثرياً غنياً بخيلاً على زوجه وأبنائه؛ حتى إن الابن ينكسر قلبه إذا دخل الغريب بيت أبيه، وحتى إن الزوجة ينكسر قلبها إذا دخلت الغريبة بيتها، بل ينبغي للزوج أن يكون وفياً، فإذا بسط الله لك الدنيا فابسط ولكن بقدر ووجه يوجب رضوان الله عز وجل.
دخل رجل على الحسن بن علي رضي الله عنه -وكان في أول أمره في فاقة وشدة- فوجد بيته قد فرش بأحسن الفراش، ووضع فيه أحسن البساط، فقال: [ما هذا رحمك الله؟ قال: إنا أقوام إذا وسع الله علينا وسعنا، وإذا ضيق الله علينا ضيقنا] أي: مادام أن الله أنعم علينا، فلماذا لا نوسع ولكن بالمعروف.
ودخل بعض الصحابة على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فوجد الستور والبساط والفراش، فقال: [ما هذا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: غلبتنا النساء].
أي: إذا كان عبد الله بن عمر الصحابي الجليل، يقول: غلبتنا النساء، أي: أنه من شيمته ووفائه لما سألت زوجُه أن يحسن إليها في بيتها أكرمها، ولكن بشرط ألا يكون ذلك بإجحاف وإسراف، فطاعة الله فوق طاعة المخلوق.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الحق والصواب، وأن يهدينا وإياكم لمنهج السنة والكتاب.(40/14)
وصية في حفظ الحقوق
أحبتي في الله: وصية أخيرة وهي: أن نحفظ حقوق الأهل والزوجات، وأن نعاهد الله على الوفاء بها لوجهه، طوبى لزوج ما أمسى ولا أصبح إلا ويومه خير له من أمسه، وطوبى لزوجة ما أمست ولا أصبحت إلا ورضا زوجها خير لها من أمسها، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينجينا من الأمانات والواجبات، ومن حقوق الأزواج والزوجات! إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله.(40/15)
الأسئلة(40/16)
توجيه إلى دعم المشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج
السؤال
هذا خطاب من المشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج نتلوه على فضيلتكم: فضيلة الشيخ محمد المختار الشنقيطي وفقكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فبحمد الله تعالى وتوفيقه أهداف هذا المشروع تتحقق في حل مشاكل الشباب والشابات بالزواج وبناء الأسر الصالحة المستقرة والسعيدة، ومع استمرار تعاون الجميع معنا في حث الإخوة المسلمين على مواصلة الدعم لهذا المشروع الذي نراه من خير المشاريع التي تنفع المسلمين، والمستفيدون حتى الآن بلغوا ألفين وسبعمائة وأربعة وثلاثين شاباً وشابة، صرف لهم مبلغ ثمانية عشر مليون ريال، وبلغ عدد المواليد الأوائل للذين تزوجوا عن طريق هذا المشروع مائة وستة وأربعين مولوداً، صرف لهم مبلغ مائة وثمانية وأربعين ألف ريال، بارك الله فيكم وجزاكم عن الجميع كل خير.
الأمين العام للمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج الشيخ فريح بن علي العقلا
الجواب
ما شاء الله! أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي من تسبب في هذا المشروع وقام عليه كل خير، وبيض الله وجوههم وجزاهم عن المسلمين والمسلمات كل خير، فنعم والله العمل! إعفاف أبناء وبنات المسلمين، ولا شلت يمين أنفقت لإعفاف أبناء المسلمين وبناتهم، وإني والله إذ أسمع هذا الكلام لأقول في نفسي: يا ليت لي مثلهم من العمل! ويا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما! وإن كنت أوصيكم وأوصيهم وأوصي كل مؤمن بالإخلاص لوجه الله تعالى، فإن الأعمال لا يبارك فيها بشيء أعظم من الإخلاص لوجه الله! وهنيئاً ثم هنيئاً لهذه القلوب الطيبة التي تذكرت حاجة المسلمين في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن، فأخذتها الحمية والغيرة أن تعف أبناء المسلمين وبناتهم، جزاهم الله كل خير، وأعظم لهم المثوبة والأجر، ونسأل الله العظيم أن يثبت أقدامهم على هذا الخير العظيم.
وأعينوهم أعانكم الله، أعينوهم بالدعم المادي الذي يراد به وجه الله، فلربما أنك تنفق المائة والمائتين والثلاث ترجو بها وجه الله لتعف بها فرجاً إلى لقاء الله، وقد يكون من هذا المال الذي تنفقه فرجاً محصناً إلى لقاء الله، وقد تكون منه الذرية -كما سمعنا- فهذه الذرية إذا نويت أنها ذرية مؤمنة، وتريد أن تعينها على طاعة الله فلك مثل أجرها، نعم والله العمل! هذا والله الذي يبقى ويدوم من العمل الصالح.
إن المجتمع بحاجة إلى هذه الجمعيات الخيرية الطيبة التي تساهم في إصلاح المجتمع، فتحل مشاكله، وتعيش مع هذه المشاكل، وتضع لها الحلول المناسبة، نسأل الله العظيم أن يبقي هذا الخير ويبارك فيه، وأن يجزي المشايخ والإخوة الأفاضل الذين قاموا عليه كل خير، جزاهم الله كل خير بما صنعوا، وأسأل الله أن يبارك عمل الجميع في طاعته ومرضاته، وأن يرزق الجميع الإخلاص لوجهه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(40/17)
كيفية التعامل مع المرأة التي لا تطيق الجلوس مع زوجها
السؤال
زوجتي حامل من شهرين، وهي تحس بما يسمى بـ (الوحم)، حيث أنها تكرهني وتكره مجالستي عند الجماع، وتحس بضيق شديد ينتهي بالبكاء، وأنا في حيرة أدعو الله أن يخلصني منها، فما هو توجيهكم لمثل هذه، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أخي في الله: هذا بلاء ابتلاك به الله فاصبر واحتسب، فما صبر عبد في بلاء إلا آجره الله وأحسن له العاقبة في بلائه، فاصبر لوجه الله، واحتسب إمساكها لوجه الله، لو كان الناس لا يمسكون الزوجات إلا إذا رضوا فأين الشيمة والوفاء؟ وأين الصبر والحب والصفاء؟ وأين الحب لمرضاة رب الأرض والسماء؟ وأين احتساب الأجر في طاعة رب الأرض والسماء.
أخي في الله: اصبر عليها واحتسب في صبرك عليها.
وأما البلاء الذي ذكرته فإن كان عارضاً أصيبت به، فإن علاجه أن يعالجه الإنسان، وأما إذا كان شيئاً آخر كأن يكون بلاء ابتليت به من نفس أو عين أو سحر أو غير ذلك، فاستعن بذكر الله واطرح بين يدي الله، وناده وناجه، فإنه نعم المولى ونعم النصير! إن أغلقت الأبواب فتح بابه، وإن خاب الرجاء لم يخب العبد في رجائه، فأحسن الظن بالله، وتعلق بالله، فإنه إليه المشتكى وهو المستعان وعليه التكلان، والله تعالى أعلم.(40/18)
الترغيب في الزواج من الصالحات
السؤال
هل من كلمة للذين لا يرون الزواج من الطبيبات الصالحات الملتزمات؟ وهل هناك مانع في الزواج من الطبيبات؟ وما ذنب الطب والطبيبات حتى يرفض الزواج منهن؟
الجواب
لا أستطيع أن أرغب في الطبيبات ولا في المهندسات ولا في البيطريات، أنا أرغب في المرأة الصالحة، فإذا كان الرجل يريد امرأة صالحة ووجد امرأة صالحة فلينكحها، ويطلبها على كتاب الله وسنة رسول الله، أما إني أرغبك في الطبيبات أو غير الطبيبات وألقى الله بإثمك لو خاب ظنك، فأنا لا أستطيع أن أتحمل وزرك أمام الله.
لا أرغب إلا فيمن رغب الله (فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا الذي أُرغب فيه، وأما غير ذلك فما أستطيع أن أتحمل وزره.
لا أستطيع أن أتحمل مسئولية أحد أمام الله، أنا أرغب في ذات الدين كما رغب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أرغب لا في هذه ولا في هذه، وأنت أدرى بنفسك إن كانت المرأة تعمل طبيبة أو معلمة أو أي عمل من الأعمال، وتعرف أنك تستطيع أن تحفظها وأنها حافظة لدينها وعرضها، وبعيدة عن المنكرات والمحارم والسيئات فنعم والله المرأة، عفها وعف نفسك! أما أن أتحمل مسئوليتك أو مسئوليتها أمام الله، والله لحمل الجبل أهون عندي من أن أتحمل مسئولية أحد، فهذه أمور صعبة، ونسأل الله العظيم أن يرزق الصالحات الصالحين، وأن يمتعهم بالطيبات والطيبين، والله تعالى أعلم.(40/19)
توجيه للنساء في مسألة تعدد الزوجات
السؤال
هل من كلمة إلى نساء ملتزمات يضايقن أزواجهن كثيراً عندما يعلمن أن أزواجهن يريدون الزواج عليهن؟ وهل من كلمة للمطلقات اللاتي يرفضن الزواج من متزوج بواحدة أو اثنتين أو ثلاث؟ وهل من كلمة للاتي بلغن في السن عتيا ويرفضن الزواج من متزوج؟
الجواب
أما الرجال إذا أعيتهم الحيلة فعندهم سلاح التعدد، إذا كنَّ ملتزمات يعلمن أمر الله عز وجل فالقضية مفروغ منها، ينبغي على المرأة المؤمنة التي تؤمن بالله، وترضى بحكم الله وشرع الله، وترضى بما أذن الله عز وجل به، وذلك في كتابه المبين وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين، أن ترضى بحكم الله، وألا تضيق ذرعاً بشرع الله، فإن الله تبارك وتعالى وعظ العباد بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
من عصى الله عز وجل ورسوله، وانتهك حدوده، فلم يرضَ بشرعه ودينه، أو استخف بذلك الشرع وبذلك الدين، فإنه قد ضل ضلالاً مبينا بشهادة الله عز وجل في كتابه.
فإياك أختي المسلمة أن تضايقي زوجك في طلب الثانية إذا كان ذلك الطلب بالمعروف، ائذني له ما دام أن الله قد أذن بالتعدد وأباحه، فقد كان لمن هو خير منا ومنكِ -وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين- عدد من الزوجات، فما ضقن بذلك ذرعا، وفيهن القدوة الحسنة، والأسوة الكاملة لكل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر.
ما بال المرأة تمنع زوجها من أن يطلب التعدد فيكثر سواد الأمة، ويوجب خروج الأبناء والبنات الصالحات؟! إن التعدد سبيل لوصل الأرحام، وائتلاف القلوب، ولذلك تجتمع الأنساب، وتجتمع القبائل على تباعدها واختلافها وتنافرها، تجتمع بالأرحام فيتزوج الرجل من هذا، ويتزوج الرجل من هذا فتصبح أرحامه في كل مكان، وتصبح بيوت المسلمين كالبيت الواحد؛ لو مرض الرجل تأوه لمرضه بيوت كثيرة، وذلك من فضائل التعدد.
ولكن نقول كلمة للرجال كما نقولها للنساء: إن التعدد الذي أذن الله به هو التعدد الذي فيه العدل والإنصاف، وليس الذي فيه الظلم والإجحاف والإسراف، فإن العبد المؤمن الذي يخاف الله ويراقب الله في حقوق أهله ويعدل بين قرابته وزوجه يقيم بيوت الزوجية على العدل والإنصاف، لا إجحاف ولا إسراف، هذا هو التعدد الذي أذن الله به، أما إذا كان الذي يعدد أو يرغب في التعدد يريده قضاء للشهوة، وتمتيعاً بالنزوة، ولا يريد أن يكون ذلك على الوجه المعروف، فهو الذي لم يأذن الله به، وهو التعدد الموجب لغضب الله وسخطه، وكما قلنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: إنه يوجب الشلل للعبد بين يدي الله عز وجل فضيحةً على رءوس الأشهاد.
فمن كان من الرجال يخاف الله في حقوق النساء، ويعدل ويساوي بينهن، ويؤدي حقوقهن كاملة، فله أن يعدد، أما امتناع النساء عن الزواج ممن عدد، فإياكِ أختي المسلمة أن تنطلي عليك تلك الشعارات الزائفة، وتلك الكلمات المسعورة ممن لا يخاف الله ولا يراقبه، فكم من رجل عنده الزوجة والزوجتان والثلاث وهو وفيّ كريم، لو أنك دخلت بيته وعشت في كنفه لذقت الحياة السعيدة التي هي أسعد ما تكون للمرأة.
وكم من رجل لا فراش له ولا زوجة وهو ظالم غاشم، لو تزوجتِه كان سبباً عليك في العذاب في الدنيا والآخرة، فالعبرة كل العبرة بصلاح الزوج؛ إذا أرادت المرأة الخير كله فلتبحث عن دين الرجل واستقامته وخلقه، فإن وجدت ذلك فلترضاه ولو ثانية أو ثالثة أو رابعة، فهي مؤمنة تحب الله وتحب دين الله.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبصرنا بالحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(40/20)
ضرورة الاهتمام بالكلمة الطيبة من الزوج للزوجة
السؤال
إن الله لا يستحي من الحق، إنني متزوجة من عشر سنوات تقريباً، ولم أسمع كلمة طيبة حنونة من زوجي إلا في أيام زواجنا الأولى فقط، فهل هذا يرضي الله؟ وما هو توجيه فضيلتكم في هذا، لعلمي أن زوجي بإذن الله يخاف الله، وأخاف عليه من عذاب الله؟
الجواب
والله إنه مما يؤلم ويشجي كثيراً أن الواحد منا تجده من ألطف ما يكون مع الناس، ومن أرق ما يكون مع الناس، حتى تجده رقيقاً مع أعدائه، يسبه العدو فيتبسم، ويدعي أنه حليم رحيم، ولكن ما إن يدخل إلى بيت أهله حتى -نسأل الله السلامة والعافية- يكشر عن أنيابه، ويعتريه العبوس، ويؤذي أهله وزوجه أين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)؟! أين وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها وآيات الكتاب التي تلوناها التي تأمرنا بالعشرة بالمعروف؟! لو كنا نؤمن بالله أو نخاف الله لاتقينا الله في الحقوق، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (هي تصوم وتصلي وتؤذي جارتها قال: هي في النار)، الله أكبر! فإذا كان الإنسان يشح ويبخل بابتسامة يدخلها على زوجه فأعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك العافية من سوء الخلق.
ولذلك أرى أحق الناس بحسن الخلق هم أهل الالتزام والهداية، إن الرجل يكون عنده أكثر من زوج لبناته، ولكن ينظر إلى الشاب المهتدي نظرة خاصة، فالله الله أن تعاب الهداية بأسبابنا! أو ينظر إلى الهداية بأسبابنا، لن تكون مهتدياً حقاً حتى تكون المرأة التي عندك أحظى وأوفى امرأة في أرحامك كلهم؛ ويكون أحب أصهار ذلك الرجل إلى قلبه، فإذا بلغ بالواحد منا أن يكون ديناً صالحاً يخاف الله، ولا يبتسم في وجه امرأته فنعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والكلمة الطيبة للمرأة تذهب بها وتأتي، والله إن المرأة قد تؤذيها وتسبها وتشتمها وتهينها، وبمجرد أن تعطيها كلمة رقيقة -سبحان الله- تنقلب رأساً على عقب، فالمرأة ضعيفة تحتاج إلى كلمة رقيقة، وإلى من يجبر كسرها؛ إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقى على المنبر ويقول كما في صحيح البخاري: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) المرأة ضعيفة تحتاج إلى من يواسي ذلك الضعف، فليكن من شيمتك ووفائك إدخال السرور عليها، فابتسامة تبتسم بها لزوجتك تشتري بها رحمة الله عز وجل.
فلذلك نعوذ بالله من هذا الخلق، وأظن أنه من السداد والتوفيق أن نعيد النظر في معاملاتنا لأهلنا، ووالله إن كثيراً من المشاكل التي تقع في بيوت الزوجية أسبابها تضييع مثل هذه الحقوق، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وإياكم من سوء الخلق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(40/21)
وصية في الحذر من الخيانة الزوجية
السؤال
هذه رسالة من سائل يطلب توجيه كلمة فيها تذكرة للغافلين والغافلات تخوفهم بالله رب العالمين من الخيانة الزوجية، حتى لا تنهدم بيوت المسلمين، وجزاكم الله خيرا؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فجزاك الله خير الجزاء بما سألته وطلبته.
إخواني في الله: إن الله تبارك وتعالى أوجب على عباده المؤمنين وفرض على عباده المتقين أن يحصنوا فروجهم بتحصين الله، وأن يعفوا أنفسهم عن الحرام الذي لم يأذن به الله، فالرجل إذا أكرمه الله عز وجل بفراش الزوجية فقد أحصن، فحرام عليه أن يطأ امرأة لا تحل له، وقد ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد من نار أهون عليه من أن يمس امرأة لا تحل له) فكيف بمن جامع؟! وكيف بمن استحل محل أخيه؟! وكيف بمن أفسد فراش مؤمن؟! وكيف بمن أفسد دين مؤمنة؟! أحبتي في الله: إن الزنا والخيانة في الزوجية جريمة عظيمة توجب غضب الله وسخطه خاصة من المرأة، فإن المرأة إذا مكنت من فراشها، وسهلت للزاني البغيِّ الاعتداء عليها، فإنها قد خلطت الأنساب، وآذت الله رب الأرباب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله أغير من أن تزني أمته أو يزني عبده) والله ما من امرأة زنت فخلطت فراش زوجها، وخانت في فراش بعلها، فولد لها من ذلك الزنا ولداً أدخلته عليهم وغريباً أوجدته بينهم، إلا حملت أوزاره، وباءت بإثمه والعياذ بالله.
وويل ثم ويل لذلك الباغي الذي لم يخف الله في فراش أخيه، فتسلط على عورة مؤمن من المؤمنين، فأفسد عليه فراشه، وأراق في ذلك الفراش الماء! لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل حينما وطأ المسبية، وهي حل له أن يطأها، ولكن بعد استبرائها، فاستعجل فوطأها قبل استبرائها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه إلى قبره).
الزنا جريمة من الجرائم، ومصيبة من المصائب، ولذلك أخبر الله تبارك وتعالى أنه فاحشة ومقت وساء سبيلا، فما زنا رجلٌ ولا زنت امرأة إلا مقتا من الله عز وجل، وأظلم نور الطاعة في وجهه ووجهها! حرام على كل مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخل على فراش زوجها غريباً يستمتع بالحرام الذي لم يأذن الله أن يستمتع به! حرام على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تطلع إلى عورات توجب وقوعها في السيئات والفواحش والمنكرات! إن المؤمنة لها من خوف الله وخشيته ما يردعها عن حدود الله تبارك وتعالى.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلمكم، وأن يطهر الفرش لنا ولكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(40/22)
حكم بقاء الزوجة مع الزوج صاحب المعاصي
السؤال
أنا امرأة لا أريد زوجي لسببين: الأول: أنه يتعاطى المخدرات وقد نصح مرات، والثاني: أنه عقيم، وهو يرفض أن يطلقني، وأنا الآن في بيت أهلي أكثر من سنتين، فما الحل؟ هل هناك في الشرع ما يفصل بيننا، ويضع حداً لهذا الأمر من غير أن يطلق هو، أفيدونا بارك الله فيكم؟
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فتسألين عن زوج لك ابتلي بالمسكرات والمخدرات والعياذ بالله، وأنه نصح مرات وكرات، وأنه لم يمتثل أمر الله عز وجل إذ نصح، وأنك قد بقيت في بيت أهلك عامين، وهل هناك سبيل للفراق بينك وبينه.
أولاً: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت بعلها إلا إذا أذن الله لها بذلك الخروج، هلا سألت قبل أن تخرجي من بيت زوجك، أيحل لك الخروج أم لا يحل؟ فإن إساءته لا تدعوك إلى الإساءة، ولا توجب لك حل الخروج من بيته، والبعد عن عصمته، فأنت ما زلت زوجة في عصمته وملكه، لذلك فإنه لا يجوز لك الخروج من بيته إلا على الوجه المعروف.
ثانياً: عليك أن تبذلي كل ما تستطيعين في تذكيره بالله ونصيحته ودلالته على طاعة الله ومرضاته، وإن من النساء من كانت مبتلى بما بليت به، فما زالت تنصح وتنصح حتى هداه الله.
وأعرف امرأة سألت والدي مرات وكرات، حتى بلغ بها في آخر المرات إلى درجة اليأس، وما زال الوالد رحمه الله يأمرها بالصبر، ويأمرها أن تدعوه وتذكره بالله، حتى جاء الفرج في آخر لحظة فتاب فتاب الله عليه.
فلو صبرتِ لجعل الله لك فرجاً ومخرجا، ولو اتقيت الله فبقيت في بيت بعلك لجعل الله لك فرجاً ومخرجا، وكان بعضهم مبتلى بالمسكرات والمخدرات، حتى يقول: كنت بعيداً عن الله عربيداً سكيراً والعياذ بالله، فما زالت تنصحني وتذكرني بالله حتى عرفت سبيل بيت الله، وأصبحت من أهل المساجد، ومن أهل طاعة الله.
فلذلك أختي في الله أوصيكِ بأمور: أولها: أنه لا يحل لك الخروج إلا بعد نصحه، فإن أبى فإنه يحل لك إذا خفتِ منه الضرر، بمعنى أنه يسكر في بيتك أو يشرب المخدرات في بيتك، فتخافين على نفسك أن يقتلك أو تخافين أذيته، فحينئذ يحل لكِ الخروج، أما ما عدا ذلك إذا كنت في مأمن منه، وكان سكره خارجاً عن بيته، فاستعيني بالله، وأكثري من نصحه وإرشاده، واصبري فإن العاقبة للتقوى، وأما إن أردت أن تبيني منه، وأن تحل العصمة بينكِ وبينه، فذلك يكون على الوجه المعروف، ترفعين الأمر إلى القضاء، وتبيّني ما أنت عليه عند القاضي فينظر في أمرك، وحينئذ يقرر الخلع أو الفسخ بما يراه أصوب وأرشد، ومثلي لا يستطيع أن يحدد لك؛ لأنني سمعت من طرف ولم أسمع من الآخر، فهذا هو جماع ما سألتِ عنه، والله تعالى أعلم.(40/23)
ففيهما فجاهد
ذكر الله عز وجل بر الوالدين والإحسان إليهما في أكثر من آية من كتابه الكريم، حتى قرن برهما بتوحيده سبحانه، وقد تكلم الشيخ -حفظه الله- عن كيفية بر الوالدين في الحياة وكيفية الإحسان إليهما، وكذلك تكلم عن كيفية برهما بعد مماتهما، ذاكراً آثار بر الوالدين وعلاج ما قد يكون عائقاً للمرء عن برهما.(41/1)
بر الوالدين في حياتهما
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71].
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن للوالدين حقاً عظيماً وفضلاً -بعد فضل الله- جليلاً كريماً، وصى الله به عز وجل الملأ وتنزل به الروح الأمين من فوق أطباق السماوات السبع العلى.
اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والمعروف والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما تحركت في القلوب الأشجان والأحزان اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً، ينتظران منك براً رفيقاً، وقفا ينتظران والجنة وراءهما والجنة تحت أقدامها، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسء إليهما، طوبى لمن برهما ولم يعقهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن سرهما ولم يحزنهما، طوبى لمن أسعدهما ولم يشقهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن نظر إليهما نظرة الحنان، وتذكر ما كان منهما من البر والعطف والإحسان، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في رضاهما فما خرجا من الدنيا إلا وقد كتب الله له رضاهما، طوبى لمن سهر ليله وأتعب نهاره وأضنى جسده في حبهما وابتغاء رضاهما.
أيها الأحبة في الله: في هذا الزمان الذي عظمت غربته، وفي هذا الزمان الذي اشتدت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم ترحم البنات رقة الأمهات، في هذا الزمان الذي تولى فيه البرور، وانقطعت فيه المودة إلى أعقاب الهوى والشرور، في هذا الزمان الذي عظمت غربته واشتدت كربته يحتاج المؤمن إلى من يذكره بحقيهما، يحتاج المؤمن إلى من يدله على عظيم فضلهما، لذلك تنزلت من الله عز وجل الآيات، تحث المؤمن على البر بالآباء والأمهات، وصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ووصى أمته من بعدهم أن يبروا ولا يعقوا، وأن يحسنوا ولا يسيئوا، وأن يكرموا ولا يهينوا.
ثلاث كلمات مشتملات على وقفات: الوقفة الأولى: مع البر في الحياة.
والوقفة الثانية: مع البر بعد الوفاة.
والوقفة الثالثة: مع الثمرات وما يجنيه أهل البر من الخيرات.
فاللهم إنا نسألك قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً.
أيها الأحبة في الله: الوقفة الأولى: مع من متع الله عينيه وسر خاطره وناظريه برؤية أبويه، مع من أكرمه الله بحياتهما فكم من قلوب تمنت بقاء الوالدين والله تفضل عليك بوجودهما.
فيا من متع الله ناظريك! ويا من أسعد الله عينيك! وصية بالوالدين وصاك الله عز وجل في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين بالوالدين إحساناً، قال الله في كتابه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، وقال جل ذكره: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8]، وقال تقدست أسماؤه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] وصية من الله جل وعلا إليك أن تحسن إلى الوالدين.(41/2)
كيفية الإحسان إلى الوالدين
وكيف يحسن الإنسان إلى أبويه؟ يحسن الإنسان إلى أبويه بخصلتين كريمتين يقول العلماء: من حفظ الله له هاتين الخصلتين فبر بهما فقد أحسن إلى والديه، الخصلة الأولى: في اللسان.
والخصلة الثانية: في الجوارح والأركان.
أما اللسان: فمن حق الوالدين على الإنسان أن يصونه، فلا يؤذيهما بالكلام الذي يكسر خاطرهما، يحافظ على لين الكلام، ويحافظ على كريم المنطق مع الوالدين، وقد جمع الله عز وجل في اللسان لمن أراد بر والديه صفتين: الصفة الأولى: القول الكريم.
الصفة الثانية: العفة عن القول الذي لا يليق.
فمن وفقه الله للقول الكريم وصان لسانه عن أن يؤذي والديه؛ فقد بلغ الإحسان إلى والديه بلسانه، فما عليه إلا أن يتقي الله فيما بقي من جوارحه وأركانه.
أما القول الكريم: قال بعض العلماء: إن الله عز وجل أمر به ومنه أن يشعر أباه بالأبوة وأمه بالأمومة، فلا ينادي أباه باسمه بل يناديه فيقول: يا أبتاه! أو ينادي أمه فيقول: يا أماه! ولقد أخبر الله عز وجل عن هذا الأدب الكريم حينما قال عن نبيه إبراهيم وهو يخاطب أباه على الشرك والكفر: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] لم يناده باسمه وإنما قال: يا أبت، قال بعض العلماء: إن الابن إذا دعا أباه بالأبوة أشعره بعلو المرتبة عليه.
ومن دلائل الإكرام والإجلال باللسان: ألا يتكلم الابن في مجلس فيه أبوه إلا في حالتين: الحالة الأولى: أن يتكلم عن علم.
الحالة الثانية: أن يتكلم عن حاجة.
ولذلك كانوا يعدون من سوء الأدب مع الوالدين كلام الابن بحضرة أبيه وأمه دون حاجة، وكان الإمام محمد بن سيرين إمام من أئمة التابعين إذا حضرت أمه خشع وأصابه السكون، فيسأل الغريب: ما باله؟ فيقولون: هكذا يكون إذا حضرت أمه، من سوء الأدب إذا حضر الوالد أن يهذي الابن فيما لا حاجة فيه.
أما الخصلة الثانية في اللسان: أن يقول القول الكريم كما قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] القول الكريم وكف الأذى باللسان فلا يقل لهما أف.
قال بعض السلف: لو كانت هناك كلمة أقل من أف لنهى الله عز وجل عنها، فيكف الإنسان لسانه في هاتين الحالتين، فيقول الكلام الطيب الذي يدخل السرور على والديه ويغض عن الكلام الذي يجرح الوالدين، فكم من كلمة تكلم بها الابن جرحت أباه إلى الممات في قلبه، وكم من كلمة تكلمت بها البنت جرحت أمها إلى الممات في قلبها.
الكلمة إذا خرجت لا تعود وإذا رمى الإنسان بالكلمة المؤلمة لأبيه وأمه فإن أذاها وشدة بلاها لا يقتصر على ما فيها، بل يضاعف على ذلك وجود الحنان والشفقة في قلب الوالد والوالدة، لذلك وصى الله من أراد البر أن يقول القول الكريم.
أما الخصلة الثانية التي ينبغي للإنسان أن يحفظها في جوارحه وأركانه: طول الصحبة للوالدين، فقد فرض الله على الإنسان أن يصحب والديه، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يخرج عن والديه في سفر أو في غربة ما لم تكن واجبة إلا بعد استئذانهما، قال الله عز وجل في كتابه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقبلت أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (أحي والداك أو أحدهما؟ قال: نعم.
بل كلاهما، فقال عليه الصلاة والسلام: أفتبتغي الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم.
قال: ارجع إليهما فالزمهما وأحسن صحبتهما) الله أكبر! قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة ويبايعه على الجهاد، يريد أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً مجاهداً فيقول له: أحي والداك؟ ثم يقول له: أفتبتغي الأجر، ثم يقول له: الزمهما وفي رواية: (صاحبهما).
ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز للإنسان أن يخرج عن والديه إلا بعد استئذانهما، ولا ينبغي للإنسان أن يعيش في بلد غير بلد والديه إلا عند الاضطرار والحاجة، إذا فارقت الوالدين فقد أسكنت قلوبهما ألم الفرقة، وأوجدت في قلبيهما ألم الغربة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم عليه الرجل قال: يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد قال: (أحية أمك؟ قال: نعم.
قال: الزم رجلها فإن الجنة ثم) أي: الجنة التي تطلبها والتي تريدها وتنشدها عند رجل أمك، ولذلك كان من أول ما ينبغي على المسلم الذي يريد بر الوالدين أن يصحبهما، أحق من يصاحبك هم الوالدان، وأحق من تكون معهما وتطيل الجلوس معهما فتدخل السرور عليهما برؤيتك هما الوالدان.
ولذلك يقول بعض العلماء: من تغرب عن الوالدين في طلب عيش أو في ضرورة فليدمع، وليسأل الله جل وعلا أن يغفر ذنباً حرمه القرب من الوالدين، البعد عن الوالدين فوات لخير كثير لو لم يكن إلا دخولك على الوالدين في زيارة أو قضاء حاجة حتى سلام الإنسان على والديه من البر الذي يرحمه الله تعالى به.
ومما يوصى به من أراد بر الوالدين ورد جميل الوالدين، أن يحفظ الجوارح وأن يكون في خدمة والديه، ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يطعمهما إذا جاعا، وأن يكسوهما إذا عريا، وأن يحسن صحبتهما بالمعروف إذا احتاجا، فكم من ساعات قضى بها الإنسان للوالدين الحاجات غفر الله عز وجل بها الذنوب والخطيئات، وأوجب بها الستر وفرج بها الهموم والغموم والكربات! كم من ابن بار بر والديه أدخل السرور عليهما فقام من عندهما وقد قضى لهما حاجتهما، فرفعت له الكف من والديه فلم تخب أكفهما فيما دعت وسألت، فخير ما يقضيه الإنسان حوائج الوالدين.
ومن كان في حاجة والديه كان في بر ورحمة ولطف من الله جل وعلا، قضاء حوائج الوالدين مقدمة على حوائج الأبناء، ومقدمة على حوائج البنات، ومقدمة على حوائج الزوجات، وعلى حوائج الإخوان والأخوات، إذا وفق الله الإنسان فصان لسانه وصان جوارحه عن أذية الوالدين ولزمهما فأحسن صحبتهما وأدخل السرور عليهما فإن الله تبارك وتعالى قد وفقه لخير كبير وفضل جليل غير حقير.(41/3)
بر الوالدين بعد مماتهما
أما الخصلة الثانية والوصية الثانية التي يحتاجها من أراد بر الوالدين فهو: بر الوالدين بعد الممات، فأحوج ما يكون الوالدان إلى بر ابنهما إذا خرجا من الدنيا فصارا إلى دار البلاء، فما أحوجهما إلى دعوة صالحة أو استغفارة أو رحمة صادقة يرفع بها الابن كفه إلى الله تبارك وتعالى، قال: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم.
الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ابتلاه الله بفقد والديه يريد أن يسأل هل بقي من حقهما شيء؟ فقال: يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم.
فلا يزال بر الوالدين ديناً على الإنسان مادامت روحه في جسده، ومن ظن أن البر ينتهي بوفاة الوالدين فقد أخطأ، فلا يزال بر الوالدين ديناً في عنق الإنسان إلى أن يلقى الله جل جلاله، يحتاجان إلى دعوة صادقة ويحتاجان إلى استغفارة تسبغ بها شآبيب الرحمات وتضفى بها من الله عز وجل المغفرات، فأحوج ما يكونان إليه برهما بعد موتهما، فيكثر الإنسان من الاستغفار لهما وكلما كان الإنسان ذاكراً والديه بعد وفاتهما فإن الله يفي له كما وفى لوالديه.
والله ما ذكرت والديك بعد وفاتهما إلا سخر الله لك من يذكرك كما ذكرتهما، والله ما ذكرت الوالدين بدعوة صالحة فنفس الله بها في القبور كرباتهما أو رفع بها درجاتهما؛ إلا سخر الله لك من يذكرك إذا صرت إلى ما صاروا إليه، فإن الجزاء من جنس العمل.
أما الوصية الثانية في بر الوالدين بعد الوفاة: صلة قرابة الوالدين، وأحق من تصل أبناء الوالدين، فإن الإنسان قد يتوفى أبوه ويترك له إخوته وإخوانه وهما أحوج ما يكونون إلى عطفه وبره، فلذلك كان من أصدق البر للأب العطف على يتيمه والعطف على صغيره، فمن ابتلاه الله فكان أكبر إخوانه فقد صار ديناً عليه أن يفي لأبيه بعد وفاته؛ فيحسن إلى إخوانه وأخواته، فمن أجل القربات وأفضل الطاعات أن تحسن إلى يتيم الوالدين، ولذلك قال العلماء: إن الإحسان إلى اليتيم على مراتب: أعلاه: اليتيم القريب، وأقرب قريب إذا كانوا إخوة لك، فإن الإخوة إذا فقدوا الأب احتاجوا إلى من يسد ذلك الفراغ الذي كان فيه الأب، احتاجوا إلى أخيهم الكبير في كلمة حنونة أو عطف أو بر أو إحسان، أو دفع شدة أو كربة بعد الله جل وعلا، فإذا قابل الأخ إخوانه بهذا العطف وهذا البر كان أصدق ما يكون من ذكره لحق والديه عليه، ولذلك كان من أشد ما يكون على اليتيم أن يبلى بأخ يسيء إليه ولا يحسن إليه، فخير ما يوصى به من فقد والديه وخلف له الوالدان أبناءً وبناتاً يحتاجون إلى عطفه أن يبر الوالدين بالعطف على أولئك الصبية الضعفة، وأن يحتسب عند الله جل وعلا إدخال السرور عليهم.
الخصلة الثالثة في بر الوالدين بعد الوفاة: صلة أهل ود الوالدين من الأرحام -العم والعمة والخال والخالة- بزيارتهم وتفقد أحوالهم والإحسان إليهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
مشى عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه في سفره من المدينة إلى مكة وكان عنده دابة يركبها ويتروح عليها إذا تعب، فرأى أعرابياً يسير فنزل عن دابته وألبسه العمامة وحياه وأكرمه، ثم لما مضى قال له أصحابه، لم أعطيته الدابة رحمك الله؟ قال: إن هذا كان أبوه صديقاً للخطاب في الجاهلية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
قال بعض العلماء: إنما كان براً؛ لأن صديق الوالد إذا رأى ابن صديقه ذكر الوالد فترحم عليه، وذكر جميل أفعاله وأثنى عليه، فكان ذلك من بر الوالدين، ولذلك تعتبر هذه وصية لمن فقد والديه أن يحسن إلى أصحابهما -إن من أبر البر أن يصل أهل ود أبيه- يتفقدهم بالزيارة، وإن وجد منهم خلة أو حاجة سدها يحتسب عند الله عز وجل برها، فهذه من القربات التي تكون للوالدين بعد الممات.(41/4)
آثار بر الوالدين
لبر الوالدين آثار:(41/5)
انشراح الصدور
ومن آثار البر: انشراح الصدور.
ولذلك قل أن تجد باراً منقبض الصدر، وقل أن تجد إنساناً باراً تضيق عليه الحياة أو يشكو نكدها أو همها؛ لأن من بركات البر وآثاره الحميدة على الإنسان في نفسه انشراح صدره، فإن القلوب تنشرح بطاعة الله وأعظم الطاعات بعد عبادة الله بر الوالدين، فمن وجد في قلبه ضيقاً أو حرجاً فليتفقد حقوق الوالدين عليه، فلعله أن يكون أساء إلى الوالدين بكلمة أو أساء إلى أمه أو أبيه بزلة فليطلب سماحها عل الله أن يذهب عنه همها وغمها.(41/6)
إجابة الدعاء
الأمر الثاني الذي يجنيه البار بالوالدين: إجابة الدعوة، فإن البار بالوالدين الغالب أنه يكون مستجاب الدعوة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أويس القرني قال: (يأتيكم أهل اليمن أرق قلوباً فيهم أويس القرني -رجل كان باراً بأمه- وكان به برص فدعا الله عز وجل فأذهبه إلا قدراً يسيراً في قدمه، من رآه منكم فليسأله أن يدعو له) فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع علو قدره وارتفاع مكانه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد البعوث في الجهاد حتى وجده فعزم عليه بأن يستغفر له.
فمن فضائل البر إجابة الدعوة، وقل أن يكون الإنسان باراً بوالديه ويحجب عن دعوة، ما من إنسان يوفق لبر الوالدين إلا كانت دعوته مستجابة، وإذا توسل لله عز وجل ببر الوالدين فرج الله كربته ونفس الله همه وغمه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الثلاثة النفر الذين دخلوا الغار (قال الثالث: اللهم إنك تعلم أنه كان لي والدان، وكنت آتي بالعشي فأحلب فلا أغبق قبل غبوقهما، وإني قد نأى بي طلب الشجر يوماً فتأخرت عليهما، فقدمت وقد ناما فاحتلبت لهما وقمت على رأسيهما فكرهت أن أوقظهما حتى طلع الصبح، والصبية يتضاغون عند قدمي، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، ففرج الله الصخرة عنهم حتى خرجوا).
فمن كان باراً بوالديه استجاب الله دعوته وفرج الله كربته، والله لن تجد باراً يساء في الحياة غالباً، لن يطلب طريقاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً إلا فتحه الله في وجهه، ولا تمنى أمراً من الخير إلا يسر الله له سبيله.
بر الوالدين من أعظم الأسباب التي توجب الرحمة من الله في تيسير الأمور، والعكس بالعكس، فإن العاق ما حضر مكاناً إلا كان شؤماً على أهله، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم فكيف بالذي عق والديه؟! فالمقصود: أن من أراد أن يجني ثمرة البر فمن أعظمها أن الله يجيب دعوته وأن الله يفرج كربته، وأن الله تعالى يكون معه في شدته وعسره.(41/7)
تقبل العمل
من أعظمها وأجلها تقبل العمل؛ فإن الإنسان إذا كان باراً بوالديه كان مقبول العمل، وإذا تقبل الله العمل نفع الله به صاحبه في الدنيا والآخرة، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحملون هم القبول، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [لو أعلم لو أن لي صلاة مقبولة لاتكلت، فمن بر والديه فإن الله يتقبل عمله] قال الله تعالى في كتابه فيمن بر والديه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16] فجمع لمن بر والديه بين هاتين الثمرتين قبول العمل وتكفير الخطيئة، فيقبل عمل الإنسان وتكفر خطيئته.
قال بعض العلماء: إن البار إذا أصبح وفعل الطاعة وأمسى قبل عمل يومه، وإن العاق لو أطاع الله يومه فإن عقوقه قد يكون سبباً في حرمانه القبول للطاعة والعياذ بالله، فلو أصبح صائماً وبات قائماً وأغضب أباه وأمه لم يقبل الله عز وجل عمله، فإن الله تبارك وتعالى ذكر في قطيعة الرحم أنها تلحق بالإنسان العمى والصمم فقال جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] فإذا كان هذا فيمن قطع رحمه، فكيف بمن عق والديه والعياذ بالله، فخير ما يجنيه من بر الوالدين قبول العمل.(41/8)
أسباب بر الوالدين
أيها الأحبة في الله! من أراد أن يبر الوالدين فليأخذ بالأسباب: الأول: أعظمها الدعاء، فيسأل الله البر ويستعيذ من العقوق.
الأمر الثاني: أن تحس أن وجود الوالدين ليس بدائم، وأنه سيأتي اليوم الذي يفقد الإنسان فيه أمه أو أباه، ولا شك أن ذلك قادم إن عاجلاً أو آجلاً، فإذا وجدت الوالدين أمامك فاحمد نعمة الله عز وجل بوجودهما ولا تضمن أن تمسي ولا تراهما، فإن هذا مما يعين على البر ويشوق الإنسان إلى اغتنام وجود الوالدين.
الثالث: استشعار حسن العاقبة، فإن الإنسان إذا أحس برضى الله عز وجل عنه فإن ذلك يشوقه إلى الإحسان والبر للوالدين.(41/9)
عوائق بر الوالدين
إخواني في الله! إن من أعظم العوائق التي يجدها الإنسان في بر والديه هي:(41/10)
الابتلاء بأبوين قاسيين
أولاً: أن يحسن إلى الوالدين ويسيئا إليه، أن يرحم الوالدين ويعذباه، أن يقول لهما القول الطيب فيردا عليه بالخبيث، أن يفعل الخير بهما فيردا عليه شراً، أن يذكرهما بخير فيردا عليه بسوء، فإذا ابتلاك الله بأب لا يرحمك وأم لا ترحمك فاعلم أن أفضل البر بر مثل هذا، أفضل ما يكون البر إذا وجدت أباً إذا أحسنت إليه أساء إليك، وأفضل ما يكون البر إذا وجدت أباً تكرمه فيهينك، وترفعه فيضعك، لا يبالي بحسنتك، إن رأى منك حسنة كفرها، وإن رأى منك سيئة أذاعها، فإذا بليت بمثل هذا فاصبر، فإن أفضل ما يكون البر في مثل هذا، فإن الله قد يريد أن يرفع درجتك ويعظم أجرك بهذا البر فيسلط عليك أباً لا يبالي بإحسانك إليه، فأفضل ما يكون البر إذا وجدت من الأب الإساءة، أو وجد الإنسان من الأم الإساءة، فما عليه إلا أن يصبر ويصطبر عل الله عز وجل أن يعوضه خيراً.
ذكروا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان أبوه شديداً عليه وكان باراً به؛ حتى إنه رضي الله عنه نزل بوادٍ بمكة فجمع التراب ونام وقال: كنت أرعى لأبي الخطاب في هذا الوادي الإبل وكان فظاً غليظاً يضربني، قال بعض العلماء: إن الله عز وجل أخرج من عمر هذه الكلمة في هذا الوادي الذي بر فيه والديه فقال هذه الكلمة وهو خليفة وإمام للمسلمين، لكي يعلم حسن العاقبة من الله، أهانه أبوه في الجاهلية فكان يكرمه، وأساء إليه فكان يحسن إليه، فعوضه الله عز وجل أن جعله إماماً من أئمة المسلمين.
فمن صبر على الوالدين واحتسب؛ خاصة عند الأذية وعند الإهانة؛ فإن الله تبارك وتعالى لن يضيع إحسانه، ولذلك كثيراً ما يجد الشاب الصالح أباً لا يبالي به، ويكون له إخوة يقسون على أبيهم فيخاف الأب منهم ولكن يحسن فالأب يهينه، ويحس الأب أن هذا الصالح بإكرامه له وبره له قد أصبح مهاناً في عينه، فيتألم الشاب الصالح من أثر ذلك ويجد في نفسه، ولكن اصبر وصابر، فإن كان أبوك أو كانت أمك لا تبالي بإحسانك فما هي إلا حسنات تخط في ديوانك، وإذا كان الأب يجحد البر فإن الله لا يجحده، وإذا كان الوالدان يجحدان الإحسان فإن الله لا يجحده، فما عليك إلا الصبر وما عليك إلا احتساب الأجر، وأن تحس من قلبك أن الله يريد بك خيراً حينما سلط عليك أباً لا يرحمك.(41/11)
قرناء السوء
كذلك أيضاً من عوائق البر التي تعيق الإنسان: قرناء السوء، فإن كثيراً من الناس قد يبتلون -والعياذ بالله- بعقوق الوالدين بسبب قرناء السوء، فكم حقر الأب وكم حقر الأم في عين الولد صديق لا يخاف الله، وقرين لا يتق الله، فغير قلب الابن على أبيه وغيرت قلب البنت على أمها، فمن الشقاء أن يبلى الإنسان بقرناء السوء، فما على الإنسان الذي وجد من قرينه إهانة لوالديه إلا أن يتركه، إذا أحسست بأن جلساءك يعينوك على العقوق وأنك لا تجد منهم من يثبتك على البر والإحسان فاتركهم والله يعوضك خيراً منهم.
أيها الأحبة في الله: إن الله تبارك وتعالى إذا يسر للإنسان البر ورأى دلائله فما عليه إلا أن يشكر، فإن الله تأذن بالمزيد لمن شكر، إذا وجدت سرور الوالدين بك ورضاهما بما كان منك فاحمد الله عز وجل على نعمته، واسأله المزيد من فضله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر برحمته.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تسبغ شآبيب الرحمات على الوالدين، اللهم اغفر لأمواتهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولد، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وكفر عنهم الخطيئات، وارفعهم عندك في أعلى الدرجات.
اللهم من كان منهم حياً اللهم فأسعده ولا تشقه، اللهم أسعده ولا تشقه، اللهم ارحمه ولا تعذبه، اللهم أعظم أجره وكفر خطيئته ووزره، وأحسن خاتمته إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(41/12)
الأسئلة(41/13)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
السؤال
إن أمر الوالد ابنه أن يأتي له أو يشتري له أمراً محرماً كالدخان مثلاً هل يجيبه أو لا، وإن كان في امتناع الابن ورفضه ذلك ربما يتطور الأمر وتحصل مشاكل كبيرة في المنزل مثل مخاصمة الأم أو إلى غير ذلك، فما هو الصواب في هذه المسألة؟
الجواب
أما الذي أعرفه أن للأب السمع والطاعة إلا في معصية الله؛ ولأن تحمل الجبال الشم على ظهر الإنسان ولا يفتي بما حرم الله، لا أستطيع أن أجد لك مخرجاً أن تأتي بأمر محرم لأمك وأبيك، لا أعرف نصاً من كتاب الله ولا سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم تبيح لك أن تطيع مخلوقاً في معصية الخالق، وأما الطريقة التي تتخلص فيها من البلاء فابذل والله يعينك، فإن الله ييسر لليسرى لمن أراد ذلك، والله تعالى أعلم.(41/14)
نصيحة لمن ينهى عن المنكر ويأتيه إذا خلا به
السؤال
إني أشعر بيني وبين نفسي بالذنب والإثم؛ بأنني أنكر على والدي كثيراً من المنكرات ولكن إذا خلوت بنفسي انتهكت كثيراً من المحارم، ماذا تنصحني وفقك الله فضيلة الشيخ؟
الجواب
أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنه قد جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف أقواماً من أمتي يأتون بأعمال كأمثال الجبال فقال ثوبان: جلهم لنا، صفهم لنا يا رسول الله! لا نكون منهم ونحن لا ندري، فقال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون، إلا أنهم أقوام إذا خلوا بحدود الله انتهكوها) فينبغي عليك أن تربي في نفسك تقوى الله عز وجل، وأن تقوي في نفسك وازع الإيمان الذي يحول بينك وبين معصية الرحمن، واتق الله فيما تقوله، اتق الله فيما تذكر به، واسأل الله جل وعلا أن يسلمك وأن ينجيك مما بليت به، فإنه لا عاصم من الضلالة إلا الله.
نسأل الله العظيم أن يمن علينا بالقول السديد والعمل الصالح الرشيد، والله تعالى أعلم.(41/15)
كيفية توبة عاق الوالدين
السؤال
كيف تكون توبة عاق الوالدين وفقكم الله؟
الجواب
أما إذا كان الوالدان حيين فيبدل الإساءة حسناً، وبدلاً من أن كان يسيء إليهما يحسن إليهما، ويغير الفظاظة والغلاظة إلى اللين، ويدخل عليهما يقبل رأسيهما ويجلس عند رجليهما ويضفي الحنان إليهما، ثم يغير ما كان عليه من الإساءة، فإن كانت هناك أمور قد فعلها أغضبتهما فعل ضدها وأرضاهما.
أما إذا كانا ميتين فقد مضيا إلى ربهما، وقال بعض العلماء: إدراك برهما وإزالة عقوقهما أولاً بصلاح الإنسان قالوا: ما يعتبر باراً لوالديه بعد الموت إلا إذا كان صالحاً؛ لأنه لا تستجاب دعوته ولا تقبل حسنته إلا بالصلاح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أو ولد صالح يدعو له) فقالوا: أول حق للميت على ابنه لكي يبره أن يكون صالحاً، يحاول أن يكون صالحاً في قوله وعمله.
الأمر الثاني: أن يكثر من الدعاء والاستغفار لهما، وقد نصت طائفة من العلماء على أن الإنسان إذا عق والديه في الحياة فأكثر من الاستغفار والترحم عليهما وصلة أرحامهما وأحسن إلى قرابتهما أن الله يكفر خطيئته بالعقوق، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(41/16)
حكم معارضة الأب ابنه في زواجه بامرأة صالحة
السؤال
تزوجت امرأة صالحة والحمد لله، إلا أن والدي لم يكن موافقاً على هذا الزواج وتجاهلت هذا الأمر لصلاح المرأة، ما هو الحكم الآن هل ترى أنني أطلقها أم ماذا أفعل؟
الجواب
إذا وجد الإنسان امرأة صالحة وكان أبوه لا يرضاها فإنه إذا ذكر عيباً أو ذكر أمراً يعتبر وجيهاً في امتناعه من زواج ابنه بهذه المرأة فإنه يجب عليه بره قولاً واحداً.
أما إذا كان لم يذكر شيئاً فإن الصالحات موجودات وكثيرات والحمد لله، إذا لم تتيسر هذه فيتيسر غيرها، ولذلك أقول: إنك لربما تجد المرأة صالحة ويعلم الله أن صلاحها لا يثبت ولا يدوم فيسخر الله لك الأب يقول لك: لا.
لا تتزوجها أو يسخر الله لك الأم تقول: لا تتزوجها.
لكي يبتلي الله أمرك، فإن بررت عصمك من فتنة انتكاسها، وإن عققت أوقعك فيما يكون من سوء عاقبتها، وقد تكون المرأة على صلاح واستقامة، ولكن يعلم الله أن ذريتها غير صالحة، ويعلم الله أن ما يكون منها ليس بصالح.
ذكر بعض الإخوة أنه عرضت عليه امرأة صالحة وكان باراً بأبيه فحاول فيه إخوانه وخلانه يقول: حتى هممت أن أقطع أبي وأعقه وأتزوجها، ولكن وجدت أحد العلماء سألته فقال لي: بر أباك ولعل هذا البر أن يعصمك الله به من شر، ثم شاء الله عز وجل أن تزوجها غيره فلما تزوجها غيره تركها وتزوج غيرها وكانت قريبة له يرضاها أبوه، وكانت على صلاح لكن دون صلاح الأولى يقول: وشاء الله عز وجل أن انتكست المرأة الأولى -والعياذ بالله- فالله حكيم في خلقه فإذا وجدت الوالد والوالدة يمتنعان من شيء فإن الله يعلم وأنت لا تعلم، فبر والديك فإن عواقب الأمور هي المهمة وقد ترى المرأة على صلاح في بدايتها لكن ما تعلم نهايتها.
وكذلك أقول للمرأة، إذا حضر الزوج فإن بعض النساء يرغبن في الزواج من رجل ويرغب الوالد من رجل آخر، ويكن ذا دين واستقامة، وليس على الذي اختاره الأب من محذور شرعي فتختار هي ذلك وتقول: هذا أفضل من هذا، فيشاء الله عز وجل أن يكون مثلما يكون في النساء فلعل الرجل الذي تختاره المرأة لا يستديم صلاحه ولعله أن يكون ديناً لكن طباعه ليست بحميدة، وقد تكون ذريته ليست بصالحة، فإياك إذا عرض الأب عليك أمراً ليس فيه معصية لله أن تترددي لحظة واحدة في القبول، ولذلك ينبغي للمرأة أن تبر.
عرض أب على ابنته أن تتزوج من ابن عمها وكان كبير السن -يعني: أكبر منها سناً- ولكن فيه قوة الشباب وليس بذي هرم ولكنه في الخمسة والأربعين تقريباً، وكانت البنت في قرابة العشرين فعرض عليها ابن عمها فأبت وأصرت وعاندت، فجاء من يذكرها بالله عز وجل وينصحها فقالت: ما دام أن أبي اختاره فإني قد رضيت به، وكانت تكره هذا الزوج وتمقته وتحتقره، وصبرت وصابرت وتزوجت ودخل بها، فإذا بالله عز وجل يقلب قلبها وإذا به أحب إليها حتى في بعض الأحيان من أهلها وقرابتها، ثم شاء الله عز وجل أن يخرج من ذريتها صبية من خيار الصبيان، ولا زالت تربي وتجد الخير في الزواج من هذا الرجل، الآن بعض النساء بمجرد أن تبلغ تضع في ذهنها أن تتزوج على طريقة معينة تحس أن الوالد والوالدة إذا تدخلا في أمرها أن الدنيا قامت وقعدت، فترد على أبيها وتسفه رأيه وتغضب وتحدث مشكلة في البيت، وتقيم الدنيا وتقعدها سبحان الله! متى كانت نساء المؤمنين ترفع الواحدة بصرها في وجه أبيها؟ من أين جاءنا هذا البلاء؟ متى كانت المرأة تعترض على أبيها في زواج لم يكن فيه معصية الله عز وجل؟ كانت المرأة على حسن ظن: هل أحد يشك في صدق الوالدين؟ هل أحد يشك في حب الوالدين الخير لك؟ من الذي يتهم والديه بحب الشر للإنسان؟ فالوالد قد يصر على قريب -ابن عم- لعلمه أن القريب يستر العورة ويغفر الزلة، وأنه يحس أن ابنة عمه فضيحتها فضيحة له، ويصبر ويصابر لأشياء يراها الوالد قد لا تراها المرأة، نحن لا ندعو إلى التعصب والجمود على العادات، ولكن مع ذلك نريد المرأة أن تكون عاقلة فاهمة لا نريد إلغاء حقوق الوالدين ولا نريد فتح الباب، إنما نريد أن تقدر الأمور بقدرها، المرأة إذا عرض عليها الوالدان الزواج أو الرجل إذا عرض عليه الأمر في الزواج والداه ينبغي عليه أن أن يبادر ببر الوالدين ما لم يجد معصية وحداً من حدود الله.
بل إن بعض النساء عرض عليهن شارب خمر -والعياذ بالله- وكان يصلي ولكن مبتلى بشرب الخمر وكان ابن عم للوالد فقالت لأبيها: أنت تأمرني أن أتزوجه -كانت امرأة صالحة- قال: نعم.
آمرك بذلك ولا تتزوجي غيره، قالت: إذاً أنا لا أرضاه إلا من أجل برك، والله يعلم أني ما قبلته إلا من أجل رضاك، فشاء الله عز وجل بمجرد أن دخل زوجها عليها ما مضت فترة يسيرة حتى هدى الله قلب ذلك الزوج على يديها، وأصبح يحبها ويكرمها ويحس أنها أنقذته من النار، حتى إنه يثني عليها ويقول: دلتني على طريق المساجد، فعلت بي وفعلت بي، فأصبح خير زوج لها بالبر.
فالذي نريد أن ينظر الأبناء والبنات في حق الوالدين من السمع والطاعة وإجلال للأمور وتقديرها بقدرها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا في القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.(41/17)
حكم طلب الزوجة للطلاق بسبب وجود مشاكل بينها وبين أم الزوج
السؤال
إنني شاب متزوج وقد أخذت والدتي معي في بيتي، ولكن حصلت مشكلة كبيرة بين زوجتي ووالدتي وطلبت زوجتي مني الطلاق أو إخراج والدتي من البيت؛ خاصة وأن زوجتي ابنة خالتي وأمها أخت أمي، وبينهما قطيعة رحم، ماذا أفعل أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة تحتاج إلى نظر ما هو السبب الذي من أجله طلبت بنت الخالة الطلاق.
وهل وجود الأم يتسبب في الضرر بها والتضييق عليها؟ يحتاج الأمر إلى نظر، فإذا أمكن أن يأتيني السائل بعد الصلاة حتى أنظر في أمره وإن شاء الله أسأل الله أن يوفق للصواب في ذلك، والله تعالى أعلم.(41/18)
تقديم بر الوالدين على مجالس العلم ونحو ذلك
السؤال
أجلس مع أناس أحسبهم صالحين ولكن يتعارض جلوسي مع ما يريد والدي أو والدتي ماذا أفعل أثابكم الله؟
الجواب
إذا أمر الوالد ابنه أن يجلس في البيت لحاجة أو سأله أن يذهب لحاجة وتعارض ذلك مع مجلس علم أو نحو ذلك من خصال البر؛ فإنه يقدم بر أبيه على الجلوس في مجلس العلم، وهذا أمر واضح بين من خلال النصوص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جريجاً العابد فإنه لما نادته أمه وهو في الصلاة قال: يا رب! أمي وصلاتي؟ فنادته فقال: يا رب! أمي وصلاتي؟ فنادته في الثالثة فقال: يا رب أمي وصلاتي، فدعت عليه وقالت: اللهم لا تمته حتى يرى وجوه المومسات -يعني: الزانيات والعياذ بالله- ففتن في دينه حتى عصمه الله تبارك وتعالى من فتنته كما ثبت في صحيح مسلم.
ولذلك ترجم له الإمام النووي وغيره باب إذا دعاه والداه وهو في صلاة النفل وجبت عليه إجابتهما، يقطع الصلاة النافلة ويجيبهما، هذا في صلاة النفل وهي مقام الإنسان بين يدي الله وهو في طاعة من أجل الطاعات يقطعها من أجل إجابة والديه، فكيف إذا كان إنسان في أمر من فضائل الأمور في مجلس علم أو غيره، فلذلك يقول العلماء: إن الإنسان يقدم حاجة أبيه وأمه على مجلس العلم شريطة ألا يكون ذلك العلم فرضاً ولا يمكنه التوفيق بين الأمرين، والله تعالى أعلم.(41/19)
حكم السفر إلى بلاد لا يأمن فيها المرء على دينه بأمر من الوالد
السؤال
يعلم فضيلتكم ما للسفر إلى الخارج من أضرار، ويقول: أنا طالب في المرحلة الثانوية في القسم العلمي وأبي يريد أن أسافر إلى بلاد مشهورة بالكفر لتعلم اللغة الإنجليزية أو بعض العلوم التي يمكن أن تدرس في البلاد، هل أطيعه أم أخالفه، وماذا أفعل أثابكم الله؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتسأل أخي في الله عن حكم السفر إلى بلاد قد لا تأمن الفتنة فيها، وأن أباك يدعوك إلى الخروج إليها بحجة التعلم فيها، والجواب: أنه إذا غلب على ظنك أنك تقع في الحرام وأنك تصيب الآثام، فإنك لا تلتفت إلى أمره ويعتبر حق الله مقدم على حقه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن الحفاظ على دينك وصيانة دينك أمر مطلوب واجب عليك، وأما بر الولدين فحده وحدوده ألا يكون بمعصية الله جل وعلا، بحيث أمرك بأمر يفضي بالمعصية ويفضي للوقوع بالمحذور فلا يلزمك بره ولا طاعته، ولكن ينبغي عليك أن تلتمس الأسباب والطرق التي يمكنك بها أن تقنعه بالعدول عن رأيه، وأن تنظر من قرابتك من يؤثر عليه، وأن تستعين بالدعاء عل الله أن يصرفه عن أمره، وأسأل الله العظيم أن يكتب لك ذلك، والله تعالى أعلم.(41/20)
حكم المزاح مع الوالدين
السؤال
ما حكم المزاح مع الوالدين، وما حكم أن يناديهما باسميهما بدون يا أبي أو يا أمي مازحاً لهما؟
الجواب
والله بئس المزاح، والله ما أدري هل عند الإنسان حياء أن ينادي أباه باسمه ولو كان مازحاً، هل عنده حياء يستطيع أن يجرأ على أن يخاطب أباه باسمه، والله مثل هذا يعزر، يقول بعض السلف: والله لو سألتني أن أصف أبي ما استطعت أن أصفه، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ما رفعت بصري في وجهه يوماً قط، وأنت تمزح معه! والثاني قيل له: ما بلغ بك من برك لوالديك قال: والله ما رقيت على سطح تحته أبي أو أمي، وأنت تمازحه وتغلبه، هذا لا ينبغي، أنا أرى أنه خلاف الأولى فينبغي أن تشعره بالإجلال والإكبار، أشعر والديك بالإجلال والإكبار والإعظام في حدود الشرع، إذا شعر الوالد أنك تجله ما يمزح معك.
لكن عندما يعلم أنك -أستغفر الله- لعاب يمزح معك، إذا رأيت إنساناً يلعب أو يمزح تمزح معه، لكن إذا رأيت إنساناً وتجله ما تمزح معه أبداً؛ لأنك تجله وتحترمه ولا تفعل معه هذه الأمور، لكن إذا كان يستخف بالوالدين يمزح معهما، لكن أشعر الوالد بالإجلال والاحترام والإكبار لا يمزح معك أبداً، فتكسب من رضاء الله أكثر مما تكسب من إدخال السرور بالمزاح، فينبغي للإنسان أن يطلب الأكمل وأن يطلب الأجمل من أجل بر والديه، يقولون: لو أن الإنسان أشعر والديه بالإجلال قلّ أن يمزح معه والده؛ لأن الإنسان -مثلاً- لو فعل أي خصلة من الخصال التي تنبي على أنه يرى والده شيئاً كثيراً منعت الأب وكفت الأب عن أن ينزل إلى منزلة المزاح، نسأل الله العظيم أن يجبر الكسر.
لكن الأولى والأحرى أن تترك ذلك، إلا إذا دعاك إلى المزاح ما حيلة المضطر إلا ركوبها.(41/21)
كيفية بر الزوجة لأبويها وزوجها
السؤال
أرجو التوضيح بالنسبة للزوجة كيف لها أن تبر والديها وزوجها أثابكم الله؟
الجواب
ينبغي على الزوج أن يعين زوجته على بر والديها، وينبغي على الزوجة أن تعين زوجها على بر والديه، وهذا سؤال نحب أن نتكلم عليه بالعموم، فينبغي للزوج أن يتقي الله في زوجته وأن يحملها على البر، والله ما أعنت زوجتك على بر الوالدين إلا بارك الله لك فيها، فإن المرأة إذا كانت بارة بوالديها وجدت أثرها في بيتك، ووجدت أثرها في ولدك، لأن الله سيخرج منها ذرية بارة، فكن أول من يعين الزوجة على بر الوالدين، لا تنتظر الزوجة أن تقول لك يوماً من الأيام: أريد أن أذهب إلى أمي، بل من نفسك؛ لأن أمها لها حق عليها، فتقول للزوجة: هل لك أن تصلي رحمك، هل لك أن تزوري أمك، على فترات تراها أنها فعلاً تحدث البر وأنها تدخل السرور على أم الزوجة، فإذا فعلت ذلك فإن الله يأجرك ويعظم لك الأجر، وهذا من العشرة بالمعروف.
ينبغي للزوج أن يكون حي القلب يستشعر هذه المواطن التي لها آثار حميدة حتى على الزوجة، الزوجة إذا شعرت أن الزوج يجل أمها وأنه يحرص على برها فإن ذلك يكون له أثر كبير حتى في أخطاء الزوج، فإن الزوجة تغفر للزوج خطأً متى ما وجدته معيناً على طاعة الله عز وجل.
الأمر الثاني: بالنسبة للزوجة مع الزوج، كذلك أيضاً فإن بعض الزوجات تكون حجر عثرة دون بر الزوج لوالديه نسأل الله السلامة والعافية، والله لا خير في الزوجات ولا الأبناء والبنات إذا قطعوا عن الآباء والأمهات، من الذي له الحق والفضل بعد الله عز وجل أعظم وأجل من حق الوالدين، يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8] هذه وصية من الله عز وجل أوصاك بوالديك أضعاف أضعاف وصيته لأهلك وزوجك، فأي مكانة للزوجة أمام أم وأمام أب، لا مكانة لها إذا دعتك إلى معصية الله عز وجل أو حقرت من شأن الأم أو أنقصت من مكان الأم، إذا قالت الزوجة أي كلمة تشعر بانتقاص الأم فكفها واردعها وانهها عن ذلك، ولا يكن زواجك وسيلة إلى عقوق والديك فإن حق الأم أعظم من حق الأب، قال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك).
ما قال: زوجتك، ما قال أبناؤك، كله ينسى أمام الأم والأب، فمن حق الزوج على زوجته أن تعينه على بر الوالدين، بعض الزوجات تتدخل في كل صغير وكبير من شأن الأم وتحاول أن تمنع زوجها حتى في بعض الأمور الضرورية لو اشتراها لوالديه جلست تحاسبه وجلست تثبطه، وبئس والله المرأة التي لا تخاف الله ولا تتقي الله في بعلها وزجها، ينبغي للمرأة أن تصون لسانها، وألا تتدخل في بر زوجها لوالديه، فإن أول من يجني الثمرات في البيت هي الزوجة، متى ما كان الزوج باراً بأبيه وأمه فإن الزوجة هي التي تجني الثمرات؛ لأن الله يعينه وييسر أمره ويشرح صدره ويكون آثار ذلك كله على بيته، وقل أن تجد امرأة مكرت بوالدي زوجها إلا مكر الله بها، فإن المرأة إذا جعلت الزوج لئيماً ينسى معروف الوالدين سيأتي يوم من الأيام وينسى معروفها.
فإن الذي نسى معروف أمه التي كان بطنها له وعاء، وثديها له سقاء، وحجرها له حواء، سيأتي يوم من الأيام ينسى امرأة من عرض الناس؛ لأن اللؤم الذي دفعه -والعياذ بالله- إلى المكر بهذا الفضل العظيم سيدفعه إلى المكر بحق الزوجة والأبناء، فلتتق الله الزوجة في حقوق الأباء والأمهات على الأزواج ولتكن معينة له وتقول له: جزاك الله خيراً، وإذا سمعت منه أنه وصل أمه قالت: جزاك الله خيراً، وكيف حالها، وسألت وتملقت حتى ولو تكلفت، كل ذلك من أجل أن تثبت الزوج على طاعة الله، وتعينه على مرضات الله، فالمقصود: أنه ينبغي للزوج والزوجة أن يراقب كل منهما ربه وأن يتقي الله، وأن يعلم أن الله سائله عن معاملة تنتهي بصاحبه إلى خير أو شر.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.(41/22)
الابتعاد عن الوالدين لطلب الرزق
السؤال
أنا شاب أعمل في جدة ومعي زوجتي وأولادي، ولكن والدي يعيشان في قرية بمفرديهما، فهل أنا عاق لهما بأني هنا وهم هناك، علماً بأني قد حاولت معهم أن يسكنا معي ولكن رفضا، وأنا أزورهما كل شهر مرة، أرشدني وفقك الله للخير؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الوالدان في الموضع الذي هما فيه؛ فيه عمل ويتيسر لك فيه العمل ووجود الوظيفة فإنه ينبغي عليك القرب من الوالدين، وأن تكون بجوارهم وفي البلد الذي فيه الوالدان، قال: (يا رسول الله! أقبلت أبايعك على الجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) فلا يجوز للإنسان أن يتسبب في البعد عن والديه دون حاجة، وقد انعقد قول جماهير العلماء بل حكى بعض العلماء الإجماع على أنه لا يجوز السفر في النوافل إلا بعد استئذان الوالدين، لو أردت أن تخرج إلى عمرة نافلة والوالدان في البلد لا يجوز أن تخرج إلا بعد استئذانهما.
من عظيم حقهما قال: (ارجع إلى والديك فإن أذنا لك فجاهد، وإن لم يأذنا لك فالزمهما) أي: كن معهما، فهذا يدل على حق الوالدين في القرب، والله يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] أمر بالمصاحبة وأن تكون المصاحبة على وجه المعروف لا على وجه الإساءة، فالبعد عن الوالدين فيه عدة أضرار منها أن الوالدين لو احتاجا -خاصة إذا لم يكن لهما غيره- فمن يسألا ومن يطلبا بعد الله عز وجل، وقد يحتاجا إلى سؤال الغريب وقد يحتاجا إلى الخروج، وقد يصيبهما السقم والمرض، فاتق الله في الوالدين خاصة بعد كبرهما وضعفهما وحاجتهما إليك.
الأمر الثاني: إذا كان المكان الذي فيه الوالدان لا يتيسر فيه العمل فحينئذٍ تستأذنهما في الخروج، وتخبرهما بأنك خارج لطلب المعيشة، وترضيهما وتأخذ بإذنهما، فإن ذلك مما ييسر الله عز وجل به أمرك، قال بعض العلماء: إذا وجد عملاً بديل في نفس الموضع الذي فيه الوالدان لم يحل له الخروج ووجب عليه البقاء؛ لأنه يبحث عن طلب الرزق وقد تيسر له الرزق في الموضع الذي فيه الوالدان، فحرم عليه أن يعقهما بالخروج دون حاجة، هذا بالنسبة لقضية خروجك عن الوالدين.
وأما قضية أنك حاولت فهذا شيء تؤجر عليه من الله عز وجل، وكونهما امتنعا يوجب عليك أن تنظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، فتكون قريباً من الوالدين وتقوم بحقهما على الوجه المعروف، والله تعالى أعلم.(41/23)
المدة التي يجب فيها زيارة الوالدين
السؤال
ما هي حق الزيارة للوالدين إذا كانا يسكنان خارج المنزل؟
الجواب
نزل نفسك منزلة الوالدين وأنت أدرى بالجواب.
نزل نفسك منزلة الوالدين متى تحب أن ترى ابنك وتنزل المرأة نفسها منزلة أمها، وبناءً على ذلك فإنه سيظهر للإنسان الجواب.(41/24)
حكم اللقطة
السؤال
وجد أبي بعض الأشياء في الطريق، فأخذها ثم أخبرته أنه لا يصح له أخذها، بل تسليمها إلى المكان المخصص لهذا الأمر فرفض بحجة أنه وجدها فهي له، ولكن عندما خرج من المنزل أخذتها شفقة وخوفاً عليه من العقاب من الله سبحانه وتعالى وسلمتها لإحدى الجهات المختصة، فغضب عليَّ غضباً شديداً، ما هو الدور الذي كان ينبغي عليَّ فعله أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الشيء الذي أخذه الوالد حقيراً أو لا تتبعه همة صاحبه فقد ملكه بأخذه، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تمرة وجدها: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الحقير الذي يجده الإنسان أنه لا يشترط تعريفه، ولا يجب على الإنسان إعطاؤه الغير بل يملكه بقبضه.
وأما إذا كان شيئاً عظيماً وشيئاً ذا بال فإنه في هذه الحالة لا يملكه الأب وينبغي عليه التعريف، وكان ينبغي عليك بدل أن تأخذ المال وتقع في غضب الوالد أن تخبر الجهات بأنه من فقد أمراً بصفة كذا وكذا فليخبروك، ثم بعد ذلك تقوم بإخبار الوالد بذلك وأخذ حق الإنسان له.
وأما أخذك على نية الخوف على الوالد فالله يأجرك على حسن نيتك، وهو أمر صحيح وفعل صحيح، لكنه خلاف الأولى، والله تعالى أعلم.(41/25)
مسائل الطلاق لا يفتى فيها أمام العامة
السؤال
شخص قال لامرأته وهو غاضب: إذا ذهبت إلى بيت أختك فأنت طالق وهو غاضب السؤال: أنه يريد الآن أن تذهب زوجته إلى أختها وخاصة أن أختها مريضة فماذا يفعل؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، هل إذا علق الإنسان الطلاق على أمر ثم أراد أن يرفعه؛ فيها خلاف معروف بين العلماء، ولذلك مسائل الطلاق لا يفتى فيها أمام العامة والأولى أن ترد إلى المحاكم.(41/26)
الأصلح للابن المتزوج إذا أراد أن يسكن بمفرده
السؤال
إذا أراد الشخص أن يتزوج وأن يسكن بمفرده وترك والديه هل يجوز له ذلك أما ماذا يفعل؟
الجواب
إن أمكن أن يكون الإنسان قريباً من والديه وغلب على ظنه السلامة من الفتن فإنه لا شك أنه أولى وأحرى، فكل ساعة يرى الإنسان فيها والديه فيها بر لهما لو لم يكن في الدخول عليهما إلا السلام لكفى، فإن الوالدين إذا كنت قريباً منهما سألاك واحتاجا إليك، وكنت قريباً من حوائجهما، ولكن إذا ابتعدت عنهما فاتك من البر خير كثير، فالذي يوصى به كل إنسان إذا تزوج أن يكون قريباً من والديه ما أمكن، فإن لم يتيسر له ذلك أو غلب على ظنه أن القرب قد يوقعه في المشاكل أو قد يتسبب في حصول بعض الإحن والفتن، فإنه قد يكون من السلامة أن يبتعد عن والديه، فيبتعد ابتعاداً لا ينقطع عنهما به، فيجعل وقتاً لزيارتهما وتفقد أحوالهما، والسلام عليهما والجلوس معهما، فلهما حق كبير على الإنسان في ذلك، والله تعالى أعلم.(41/27)
حكم رفض الابن إخبار الأم عن حالته المادية إذا سألته
السؤال
والدتي تطلب مني أن أخبرها بأحوالي المادية فأرفض أن أخبرها حيث أنني إذا أخبرتها فسيضايقها ما أنا فيه من حال، فهل يجوز لي أن أخبرها أم أرفض، وكيف يكون برها في ذلك؟
الجواب
أخبرها ويجب عليك إخبارها؛ لأنها سألتك، ولا يجوز لك ردها، أما ما اعتذرت به من كونها يؤلمها حالك فإن الله تبارك وتعالى سيجعل ذلك الألم سبباً في دعائها لك، وما الذي يدريك أنها إذا تألمت رفعت الكف وأنت غائب عنها فسألت الله أن يغنيك من فقرك وأن يسدك من ضعفك، ما يدريك أن الله يسخرها لك حتى تدعو لك بظهر الغيب، فاحتسب عند الله فإذا سألتك فأخبرها، لكن إذا أردت أن توري وأن تأخذ بالتورية فهذا أمر يرخص فيه بعض العلماء؛ ولكن الذي تطمئن إليه النفس أن تخبرها والله تعالى سيجعل في إخبارك لها خيراً، والله تعالى أعلم.(41/28)
من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس
السؤال
والدي تارك للصلاة ووالدتي عكس ذلك ولله الحمد، وعندما استقمت أنا وهداني الله علمت أن هذا خطأ عظيم، ولا بد من الفراق، فنصحت والدي عدة مرات بالصلاة وبينت له عظم هذا الأمر، ولكن رفض وأبى حتى وصل الأمر إلى طلبت والدتي منه الطلاق ولكنه رفض، فأوصلت الأمر إلى المحكمة وتم الفراق ولله الحمد، ولكن من ذلك اليوم ووالدي يقول: قد تبرأت منك؛ لأنك هدمت المنزل، وحاول بشتى الوسائل إيذائي، ولكن ما زال الأمر على ذلك وهو دائم الدعاء عليَّ، وحاولت عدة مرات أن أدخل الأقارب في هذا ليكون صلحاً ولكن لم يزل الأمر كما هو، أرشدني أثابك الله لما فيه الصلاح والصواب؟
الجواب
أولاً: أما أنت فقد عاملت الله ومن عامل الله فإنه لا يخيب، فمفاتيح الدعاء وأبواب السماء بيد الله جل جلاله، ولو دعا عليك آناء الليل وأطراف النهار وكان الله معك فإنه لا يضرك دعاؤه بإذن الله، ولو أصابتك منه دعوة فإن الله يعظم بها أجرك ويرفع بها قدرك ويحسن العاقبة لك، فأبشر بخير، فوالله ما عامل عبد ربه فخاب يوماً من الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس) فأنت أرضيت الله مع سخط أقرب الناس إليك، ولم تبال مع وجود القرابة ووجود الصلة أن تصدق مع الله حتى أقمت حكم الله عز وجل، ولا شك أن الرجل الذي لا يصلي بالكلية لا يحل لمرأة أن تبقى تحته، فيجب عليها أن تطلب الطلاق وأن تسعى في فكاك نفسها، فإما أن يستقيم على شرع الله وإما أن تتركه والله يعوضها خيراً منه.
الأمر الثاني: ما فعلته من طلب الصلح والأخذ بالأسباب من كونك سألت القرابة أن يدخلوا بينك وبينه فقد أخذت بالأسباب، فاستدم ذلك فلعل يوماً من الأيام أن ييسر الله لك الأمر، وأن ييسر لك هذا الذي تطلبه، فيشرح صدر أبيك فيصبح محسناً لا مسيئاً إليك، فلا تيأس من روح الله، فإن الله تعالى معك ويعينك، فأحسن الظن بالله جل وعلا، وإني لأسأل الله العظيم أن يعجل بتفريج كربتك، وأن يرزقك رضاهما، وألا يتوفاهما إلا وهما راضيان عنك، بيض الله وجهك وجزاك الله خيراً، والله تعالى أعلم.(41/29)
التفصيل في شراء حاجيات المنزل على الابن الذي ابتلي أبوه بشرب المخدرات
السؤال
والدي مبتلى بشرب المخدرات؛ أريد أن أبر والدي بشراء بعض مقاضي المنزل التي يحتاجونها، ولكن إذا فعلت ذلك سوف يرتاح هو من مصاريف المنزل ثم يشتري بماله ما شاء من المخدرات، أرجوك فضيلة الشيخ! أن تدلني إلى الطريق السليم الذي أبر فيه والدي، كما أرجو منك فضيلة الشيخ! أن تدعو لوالدي؟
الجواب
أسأل الله العظيم في هذا المجلس أن يشرح قلبه وأن يهديه وأن يصلحه وأن يزيل عنه ما ابتلاه به، وأن يقر عينك به عبداً صالحاً.
أما ما سألت عنه من كونك تقوم بمصاريف البيت هذا فيه تفصيل: إذا أمرك الوالد بذلك فما عليك إلا بره، وتقوم بتذكيره وتخويفه بالله جل وعلا لعل الله أن يشرح صدره على يديك، فينجيه من هذا البلاء، ولذلك من أعظم حقوق الوالدين على الابن أن يدلهما على الخير كما فعل أنبياء الله، كما أخبر الله عن نبيه إبراهيم، فتحرص على دلالة أبيك على الخير سواء كان ذلك في عقيدته أو كان في معاملته، فاحرص -أخي في الله- على تذكيره بالله عز وجل.
أما إذا كان أبوك لم يأمرك بذلك ورأيت أن من المصلحة أن تجعل مصاريف البيت عليه حتى يقل المال الذي بيديه فهذا أولى، بل قد يتعين إذا كنت إن كفيته المصاريف أعنته على الحرام، وبناءً على ذلك فالذي يظهر أنه يفصل فيه فإن أمرك بالمصاريف وجب عليك الإنفاق في حدود طاقتك ولا تلزم بشيء خارج عن قدرتك، وأما إذا لم يأمرك ورأيت المصلحة كما ذكرنا في أن تكون أعباء البيت عليه حتى يقل شراؤه لذلك الحرام فافعل ذلك ويلزمك، والله تعالى أعلم.(41/30)
كيفية نصح الوالدين وإرشادهم بالتي هي أحسن
السؤال
ورد في السؤال السابق كيف يرشد والده إلى ترك هذا المنكر ووردت أسئلة كثيرة في الطريقة السديدة في نصح الوالدين وإرشادهم بالتي هي أحسن؟
الجواب
أولاً: لا تذكر والديك إلا وأنت مخلص لوجه الله عز وجل، فلا تذكره حمية وتقول هو يشرب المخدرات ويفضحنا ونريد أن نكتفي عار الفضيحة، تذكره وليس في قلبك إلا الله، فإن الكلمة إذا خرجت من القلب استقرت في القلب، والكلمات الصادقات أبى الله إلا أن يجعلها في القلوب، فاصدق مع الله عز وجل بالإخلاص.
الأمر الثاني: أن تنظر إلى أفضل الأوقات التي يكون الوالد فيها مرتاح البال مستجم النفس خالياً.
الأمر الثالث: تقدم عليه في أفضل الأوقات وأنت تحس كأنك أمام غريق يريد الموت، وتحس أنك أمام إنسان عظيم الحق والقدر عليك، فتقدم عليه ولسانك يلهج بأن يشرح الله صدره وأن ييسر لك الأمر في نصحه، فتسأل الله العظيم أن يفتح لك قلبه فإن مفاتيح القلوب بيد الله جل جلاله، فاسأل الله أن يهديه، فإذا جلست معه فخذ بالكلام الطيب والموعظة الحسنة والقول الكريم وقل: يا أبت! إن الذي تفعله لا يرضي الله، إن الذي تفعله يسخط الله، يا أبت! إني أخاف عليك عذاب الله، يا أبت! إني أخاف أن يمكر الله بك، يا أبت! يا أبت وقل ذلك وقلبك يحترق عل الله عز وجل أن يشرح صدره بموعظتك.
فإن نبي الله إبراهيم ينادي أباه وهو على الشرك يقول له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] لم تعبد؟ ينكر عليه ذلك الأمر، حتى إذا رد عليه أبوه رداً غليظاً قال: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] قال بعض المفسرين: (ملياً) إلى الأبد لا تكلمني، هل قال له فعل الله بك وفعل، أنت ما فيك خير أنت ما تقبل النصيحة أبداً، قال: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] فقابل كل ما يكون من الوالد بكل حنان وبكل ذلة كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] اخفض له جناح الذل، فوالله إذا شعر الوالد أنك مشفق عليه فإن ذلك يؤثر فيه، وذلك له أثر عظيم على قلبه، فاصدق مع الله عل الله عز وجل أن يشرح صدره.
الوصية الأخيرة: إذا لم يفتح الله قلب الوالد لك فاطلب من يؤثر على الوالد من القرابة ومن غير القرابة كإمام الحي ونحوهم من أهل الفضل وأهل العلم والصلاح، وبث لهم ما تراه على الوالد من الأخطاء عل الله أن يوفقهم لنصيحة تؤثر فيه، والله تعالى أعلم.(41/31)
حكم الإلحاح على الوالدين
السؤال
نحن مجموعة من الشباب نجتمع دائماً على طاعة الله وفي بيوت الله، وفي بعض الإجازات نذهب إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة أو أي مدينة أخرى لطلب العلم، وأيضاً ترويحاً عن النفس، ولكن نفاجأ ببعض الشباب الذين لا يذهبون معنا والسبب في ذلك الأهل، فعندما نقول لهم: أبلغوا أهلكم يقولون: أبلغناهم، وإذا قلنا لهم: حاولوا مرة أخرى يقولون: تكفي مرة واحدة، فإذا قلنا لهم الثانية فإنهم يقولون: إنه يعتبر عصياناً لهم، فهل المحاولة مع الأهل لأجل الموافقة على الذهاب فرضاً لمحاضرة أو مجاورة، أو المحاولة معهم أكثر من مرة بطرق مختلفة يعتبر عصياناً لهم؟ أرشدونا، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتسأل -أخي في الله- عن هؤلاء الشباب الذين تطلب منهم أن يعيدوا مع الوالدين الكرة لكي يذهبوا معكم في هذا السفر، فهل ذلك من العقوق إذا حاولوا مع الوالدين أو ليس من العقوق؟ هذا الأمر كرهه بعض العلماء وقالوا: إن إلحاح الابن على الوالدين ليس من كمال البر؛ لأن الأم والأب على شفقة ورحمة، فإذا رأيا من الولد الإلحاح والإصرار أخذتهما الشفقة وأخذهما الحنان فوافقا على كره، ولذلك قالوا: لا ينبغي للابن أن يلح على الوالدين، ولذلك كان من كمال البر إذا عرض الأمر عليهما ألا يلح عليهما في ذلك الأمر، ولكن إذا تركت ذلك فإن الله يعوضك خيراً منه، وفي هذه الحالة فإن طلب الكمال أولى، وعدم حثهم على الإلحاح أولى إن شاء الله، ولعل الله أن يعوضهم خيراً من الخروج معكم، فإن الله تعالى قد يبتلي الإنسان ببر والديه فيطلب خيراً ويعلم الله أنه لو خرج قد يفتن فيعصمه الله من الفتنة بامتناع الوالدين، وهذا كثير، فلذلك أوصي بتركهم إن سألوا الوالدين وأراد الوالدان بمحض اختيارهما دون إلحاح عليهما فلا حرج، والله تعالى أعلم.(41/32)
التوحيد في الحج
خلق الله تعالى الثقلين وأمرهم بعبادته، وجعل للعبادة شرطاً لا تقبل بدونه، وهو الإخلاص والتوحيد، فالإسلام بكل شعائره وفرائضه مرتبط غاية الارتباط بكلمة التوحيد، ومن تلك الشعائر شعيرة الحج، والتي هي من أعظم الشعائر التي تحيي في قلب العبد توحيد المعبود سبحانه وتعالى؛ لكثرة الأعمال التي توقف الإنسان مع ربه موحداً متفكراً، تائباً من أي تقصير أو زلل.(42/1)
كل شعائر الإسلام تدور حول كلمة التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وفي بداية هذا اللقاء، أحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على عظيم نعمته، وجليل فضله وجميل منته، أن جمعني بكم في هذا البيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله فـ (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وكم من أقوام جلسوا لذكر الله فقاموا من مجالسهم وقد بدلت سيئاتهم حسنات (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ثم إنني أشكر بعد شكر الله عَزَّ وَجَلَ من كان له الفضل بعد الله في تهيئة هذا اللقاء من المشايخ الفضلاء، وأخص بالذكر الشئون الدينية في الحرس الوطني، أسأل الله العظيم أن يعظم أجور الجميع، وأن يتقبل منا ومنكم صالح القول والعمل.
أيها الأحبة في الله! أساس الدين والملة وقاعدة الإسلام العظيمة التي عليها صلاح الدين والدنيا والآخرة، والتي من أجلها أنزل الله كتبه، ومن أجلها أرسل رسله مبشرين ومنذرين، بل ومن أجلها كانت الدنيا والآخرة، ومن أجلها نصب الميزان، ونشر الديوان، وكانت الجنان والنيران.
إنها القاعدة العظيمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح والربح والخسارة، فمن قام بها وأداها على وجهها أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن ضيعها وأضاع حقوقها {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] إنه التوحيد والإيمان واليقين، والإحسان الذي هو أساس كل خير، ومنبع كل فضيلة وبر، من أصلح لله إيمانه وكمَّل توحيده وإخلاصه فتح الله له أبواب رحمته وزاده من عظيم بره وفضله، وإذا دخل الإيمان إلى القلوب اطمأنت بالله علام الغيوب.
إنه التوحيد الذي أخبر الله عَزَّ وَجَلَ أن ما من أمة إلا وبعث إليها رسولاً يأمرها {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
إنه التوحيد شهادة (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله) التي هي مدار الصلاح والفلاح في الدين والدنيا والآخرة.
جعل الله شعائر الإسلام كلها تدور حول هذه الكلمة، تغرس في القلوب الإيمان بالله علام الغيوب، وتغرس في النفوس اليقين بلا إِلَهَ إِلَّا الله، فكل ما في هذا الكون يدل على صدق هذه الكلمة، وكل ما في هذا الكون يشهد بمعناها (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله) ما من ليل ولا نهار ولا عشي ولا إبكار إلا وهو يؤذنك ويعلمك أَنّه لا إِلَهَ إِلَّا الله، إقبال الليل يذكر حينما كان الإنسان قبل ساعات وهو في ضياء النهار، فإذا به في ظلمة بقدرة الله جل جلاله، ثم يمضي الليل ويرخي سدوله، ويبسط العبد كفه فلا يراها من الظلمة، وما هي إلا سويعات قدرها الله جل جلاله حسبت بثوانيها ولحظاتها فإذا انتهت وانقضت آذن الله بالنهار: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] هذه الدلائل الزمانية والدلائل المكانية، أشجار وأحجار، وما على هذه البسيطة من جبال ووهاد ونجاد وسهول وهضاب، كلها تذكر بلا إِلَهَ إِلَّا الله، وعلى ذلك دارت شرائع الإسلام كلها، فالصلاة عمود الإسلام التي تحقق معنى لا إِلَهَ إِلَّا الله، ففي الدعوة إلى الصلاة شهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا دخل العبد إلى مسجده وأراد أن يؤدي فريضة ربه، استفتحها بقوله: الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، فيستفتح بالتوحيد، ويختم صلاته بالتوحيد، السَّلامُ عَلَيَّكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، وهي دعاء بالسلامة والرحمة على العباد.
تفتتح بالتوحيد وتختتم بالتوحيد، وتحتوي جميع أركانها على التوحيد، من قراءة القرآن والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك من الأذكار القولية والأفعال كلها تدور حول لا إِلَهَ إِلَّا الله.
وهذه الزكاة لا يدفعها العبد إلا وهو يعلم ويوقن بهذه الكلمة؛ لأنه يعلم أن المال مال الله، وأن الله أغناه من الفقر، وأعزه من الذل، وكساه من العري، وأطعمه من الجوع، وأغدق عليه هذا المال، فإذا قدم الصدقة خالصة من قلبه فقد حقق معنى لا إِلَهَ إِلَّا الله، أطاع الله جل جلاله وامتثل أمره وأدى زكاته طيبة بها نفسه، وأداها وطلب أصحابها فوضعها في أيديهم أمانة يلتمس بها مرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تحقيقاً لهذه الكلمة وإيماناً بما فيها.
كذلك الصيام فما جاعت الأحشاء ولا ظمئت الأمعاء إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، آثر العبد ما عند الله على شهوة نفسه ولذة كبده وطعمة بطنه ولذة فرجه لمرضاة الله ربه، جميع شعائر الإسلام تدور حول هذه الكلمة العظيمة.(42/2)
وقفات مع التوحيد في الحج
إن شعيرة الحج التي جعلها الله سبحانه وتعالى قاعدة من قواعد التوحيد، تدل على كلمة لا إِلَهَ إِلَّا الله من بدايتها إلى نهايتها، ومن مشعر إلى مشعر، ومن منسك إلى منسك، والعبد يدور حول كلمة التوحيد والإخلاص لا إِلَهَ إِلَّا الله.(42/3)
التوحيد في سعة الرحمة والحلم
ومن مشاهد التوحيد التي تدل على عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفضله وكرمه؛ سعة الرحمة وسعة الحلم، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفاته أنه حليم ورحيم، فأنت إذا قرأت الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) علمت علماً جازماً أن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين، ومن حلمه ورحمته أنه إذا وقف أقوام أبناء ستين وسبعين عاماً ببابه لحظة من اللحظات، أراقوا فيه الدموع، وأظهروا فيها الحسرات واللوعات على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فاستقالوا واعتذروا لربهم وتابوا واستغفروا فغفر الله ذنوبهم؛ بل وبدل الذنوب حسنات.
أي كرم وأي فضل هذا! والله لو تأمل الإنسان عظمة هذا الرب لأحس بقيمة هذه الحياة، فلا لذة لهذه الحياة إلا بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن عرف الله جل جلاله أقبل على الله صدق الإقبال، فأتم خشيته وهيبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحبه جل جلاله، هذا الرب الكريم، أمم تعصيه وتذنب وتسرف، ومع ذلك يبدل السيئات حسنات، فلا يغفر فقط بل يبدل الذنوب والسيئات حسنات سبحان الله ما أكرمه! لنا مليك محسن إلينا من نحن لولا فضله علينا تَبَارَكَ الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف فإذا علم العبد عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في حلمه ورحمته ومنه وفضله، أحس أنه لا يزال بخير ما كان مع الله جَلَّ جَلالُهُ، كذلك يحس أنه مادامت هذه الأمم كلها تنادي الله جَلَّ جَلالُهُ في لحظة واحدة والله يسمعها ويراها، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيرحمه كما رحمهم، وسيلطف به كما لطف بهم، ولكن ما عمل الإنسان إلا أن يوقن بالله جَلَّ جَلالُهُ وأن يسلم لله قلبه، فلا تضيق عليك أي ضائقة ولا تنزل بك أي ملمة إلا أحسنت الظن بالله عَزَّ وَجَلَ.
من الأمور التي يستفيدها الحاج في حجه: حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَ؛ لأنك إذا رأيت هذه الأمم كلها وتعلم علم اليقين أن فيهم المغفور والمرحوم ولربما -ونحن لا نستكثر على الله ولا نستبعد على الله وليس على الله بعزيز- أن يقول لأهل الموقف كلهم: انصرفوا قد غفرت لكم.
بغي من بغايا بني إسرائيل زانية -أعاذنا الله وإياكم- مرت على كلب يلهث الثرى فرحمته فملأت خفها وسقته، فشكر الله لها فغفر لها ذنوبها، فقط بشربة ماء، ورجل مر على غصن شوك، وهو مطروح في طريق المسلمين، أخذته الشفقة فأحب الإحسان، وقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين، فزحزحه عن الطريق فزحزحه الله عن نار جهنم، هذا الرب الكريم الحليم الرحيم، ليس هناك للعبد مثل حسن الظن بالله جَلَّ جَلالُهُ.
ولذلك في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له).
من ظن بالله شراً -والعياذ بالله- كالذين يعكفون على الأشجار والأحجار والقبور ويضغون بأصحابها، ويضيفون عليهم الألقاب والكلمات التي لا تليق إلا بالله جَلَّ جَلالُهُ، تعالى الله عما يقول المشركون علواً عظيماً.
هؤلاء في خيبتهم وخسارتهم لأنهم أساءوا الظن بالله عَزَّ وَجَلَ، ما عرفوا الله عَزَّ وَجَلَ، فلو عرفوه ما التفتوا إلى شيء سواه -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك إذا أحسن العبد ظنه بالله عز وجل تلقاه الله برحمته وفاز بعفوه ومغفرته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بذلك العفو والمغفرة.(42/4)
التوحيد في يوم النحر
من مشاهد التوحيد: إذا كان يوم النحر الذي وصفه الله عَزَّ وَجَلَ بيوم الحج الأكبر، هذا اليوم الذي يستفتح الناس فيه رمي جمرة العقبة، فيتذكرون موقفاً من مواقف التوحيد لإمام من أئمة الحنيفية صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ إبراهيم الخليل، هذا النبي الممتحن الذي امتحن في لا إله إلا الله فصدق مع الله فصدق الله معه، شعائر الحج تذكر به صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ في إيمانه وتسليمه، ومن ذلك يوم الحج الأكبر، هذا اليوم المبارك يستفتحه العبد إذا أشرقت شمسه برمي جمرة العقبة إذا تذكر خليل الله وهو يرى في الرؤيا أنه يقتل ولده ويذبحه، أي امتحان مثل هذا الامتحان، امتحنه الله في بلده ووطنه فخرج من بلده مهاجراً إلى الله، فأبدله الله الأرض المقدسة، ثم امتحنه الله عز وجل في عشيرته وقومه فتركهم لله، فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب.
ثم امتحنه الله عز وجل في ولده وفلذة كبده أن يذبحه {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] وانظروا كيف الذرية الطيبة وأهل التوحيد كيف يجعل الله عز وجل ذريتهم طيبة، قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34] {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ} [الصافات:102] انظروا كيف التوحيد والتسليم إذا جاءك أي أمر من أوامر الله أن تفعل شيئاً أو تترك شيئاً هذا وهو في صغره يسأل أن يضحي بروحه ونفسه {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] هذا التوحيد والإيمان ثم انظر إلى التوحيد {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102] ما قال: ستجدني واتكل على حوله وقوته، لا، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ، الله أكبر! تصور إذا قدمت روحك للموت استجابة لأمر الله كانت رخيصة لأمر الله جَلَّ جَلالُهُ، تسليم وتوحيد وانظر كيف يأتي الفرج مع كمال التوحيد.
يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] حتى جاء في الأخبار والسير أن إسماعيل يقول لوالده: يا أبتِ! لا تذبحني وأنا مقبل إليك، ولكن اكفني على وجهي حتى لا تنظر إلي فتدركك الشفقة، حتى الابن يعين على الإيمان والتسليم، لذلك تجد الأب إذا كان موحداً صالحاً أنشأ الله له الذرية الصالحة، والعكس أيضاً، ولذلك صلة بن أشيم كان له أربعة من الولد وتقدم للجهاد في سبيل الله فماذا قال هذا الأب الصالح أمام الغزو وأمام العدو- انظروا الشجاعة والإيمان التي ينبغي أن يكون عليها الموحد الموقن الذي لا يمكن أن يفلح في الدنيا إلا بهذا الإيمان الذي يورث الشجاعة- قال لأحد أبنائه وهو الكبير: تقدم يا بني! فإني أريد أن أحتسبك عند الله، أي: أريدك أن تموت أنت قبلي فأحتسبك عند الله عز وجل، ما جاء هو يتقدم فراراً من أن يرى ولده يذبح أمامه، هكذا كانت الأمة الموحدة الموقنة المخلصة، فإبراهيم عَلِيهِ الصَلاةُ وَالسَلام يقول له ابنه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] يقول الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أسلما: أي: استسلما، ومثله أن يأتيك أمر الله في بيتك وأهلك وزوجك، فحينما تستسلم وتنفذ أمر الله يأتيك الفرج، أما أن تذهب فتبحث عن الرخص فتتأول وتجتهد فبهذا يسلم العبد إلى حوله وقوته نسأل الله السَّلامة والعافية.
لكن إذا سلَّم وتوكل واعتقد في الله، فالله لا يخيبه، يقول الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:103 - 105] فجاءه الفرج من الله {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] ففداه الله جَلَّ جَلالُهُ من فوق سبع سماوات بالإسلام والاستسلام والتوحيد، فإذا رمى المسلم جمرة العقبة تذكر هذا الابتلاء، وتذكر أنه سيمتحن في أهله وماله ونفسه وفلذة كبده، فينبغي أن يقدم ما عند الله على ما عند نفسه، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان والتسليم.
كذلك أيضاً بعد رميه لجمرة العقبة يذبح إذا كان متمتعاً أو قارناً، فإذا ذبح هديه ذبحه لله جَلَّ جَلالُهُ وهذا مشهد من مشاهد التوحيد إراقة الدماء لفاطر الأرض والسماء، حتى إن الإنسان إذا أراق دم البهيمة قال: باِسْمِ اللهِ، الله أكبر، فسمى الله وكبر على بهيمته تأسياً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقرباً إلى الله عَزَّ وَجَلَ في هديه، وقع الدم عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وتأتي يوم القيامة بجلودها وشعرها وأظلافها وجميع ما فيها في ميزان العبد، لكن إذا كانت بالتوحيد كانت لله، ولم تكن لأي شيء سواه، لا تذبح لوثن ولا لشجر ولا لقبر ولا لولي، ولا تذبح خوفاً من الجن أو عند النزلة من أجل إرضاء الجن، لكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إخلاصاً وتوحيداً {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فهذا مشهد من مشاهد التوحيد.
كذلك أيضاً يقف الإنسان يتحلل من هذا النسك فيحلق شعر رأسه قربة لله عَزَّ وَجَلَ وطاعة لله جَلَّ جَلالُهُ، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتدور مناسك الحج وشعائر الحج كلها مع الإيمان والتسليم مع كمال اليقين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ذلك التسليم والإيمان.
وجماع الخير كله أن يكون عند العبد قلب حي، فإن الذكر والانتفاع بهذه العبادات يفتقر إلى نفس مؤمنة إلى قلب مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يتفكر ويتدبر ويتبصر، ويجد هذه المعاني الكريمة والآثار العظيمة التي تزيد من إيمانه ويقينه بالله جَلَّ جَلالُهُ.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وآخر دعوانا أن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(42/5)
التوحيد عند مفارقة الأهل والأولاد
أولها: ما يخرج من بيته لا يخرج ولم يخرج إلا وهو يعلم أن الله يسمعه ويراه، ولا يخرج من بيته مفارقاً لأهله وولده وحبه وزوجه إلا والله أحب إلى قلبه من الكل.
تتعلق به الصبية ترده عن مسيره يتعلق به الأبناء والبنات وتستمسك به الزوجات، فيعلنها صيحة طاعة لله فاطر الأرض والسماوات، فيفارق فلذات الكبد، ويفارق أرضاً وموطناً ربما كان في مشرق الأرض أو مغربها، كل ذلك عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الله أكبر من آثر ما عند الله على ما عند نفسه وعلى ما عند الناس.
الله أكبر يوم خرج الحاج المؤمن الموحد مؤثراً ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها، حتى إن من الناس من يخرج وهو في قمة الغنى والثراء، قد يكون في حياته كلها ما خرج من بلده ومن مسكنه، ولكن الله أخرجه والإيمان والتوحيد أخرجه، عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو أنفقت له الملايين ما خرج، ولكن خرج لأنه يؤمن بالله واليوم الآخر.(42/6)
التوحيد في الاغتسال والإمساك عن محظورات الإحرام
كذلك أيضاً يخرج العبد في مسالكه وشعبه والشعاب التي يطرقها في مسيره وهو مؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي أول لحظة من لحظات الحج يريد أن يدخل في نسك الحج فيغتسل ويتجرد، وإذا به يتذكر الآخرة في ذلك الاغتسال وذلك التجرد.
قال بعض العلماء: المؤمن في عبادة الحج يتذكر الآخرة في أكثر مشاعر الحج منذ أن يأتي ويخلع ثيابه عن جسده حيث يتذكر إذا خلعت منه بلا حول ولا قوة، ويتذكر إذا نزعت منه فغسل وكفن، فهو اليوم يغسل نفسه ويلبس رداءه وإزاره، ولكن ستأتي عليه ساعة لا محيص عنها، ولا مفر منها، فيتذكر أنه مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن قواعد الإيمان: الإيمان بالآخرة وما فيها من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، فالحج يذكر بذلك كله، فإذا خرج بحجه وعمرته أمسك عن محظورات الإحرام، فيمسك عن الطيب والنساء والشهوات والملذات طاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سبحان من أحل له تلك الشهوات وتلك الملذات قبل أن يدخل في حجه وعمرته، وأصبحت عليه حرام في نسكه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يحكم ولا معقب لحكمه عبادة توقيفية لا يستطيع الإنسان أن يقدم أو يؤخر بل يسلم تسليماً، ويؤمن ويوحد توحيداً كاملاً في العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(42/7)
التوحيد أثناء الطواف حول البيت
ثم إذا أراد أن يطوف بالبيت تذكر عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعزه وجبروته في هذا البيت الذي شرفه وكرمه وفضله، فهو إذا وقف أمام البيت تذكر من بناه إمام الحنفاء وقدوتهم صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ إبراهيم الخليل الذي بنى هذه القواعد من أجل التوحيد، وأرسى هذا البناء من أجل كلمة الإخلاص، ومن أجل أن يعبد الله وحده لا إله غيره ولا رب سواه.
ولذلك سأل الله عَزَّ وَجَلَ وابتهل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبه وذريته عبودية الأصنام، وسأل الله أن يجعل حياته كلها له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا لأي شيء سواه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35] فسأل الله الإخلاص وسأل الله التوحيد، فإذا وقفت أمام ذلك البيت تذكرت هذه القدوة الكاملة الفاضلة التي اختارها الله عَزَّ وَجَلَ لمن بعده إماماً في التوحيد والإسلام والاستسلام.
ثم إذا طاف العبد بالبيت تذكر أنه لا يطوف بهذه الحجارة إلا عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يطوف تعظيماً للحجر، ولا تعظيماً لهذا الجماد، ولكن تعظيماً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله هو الذي أمره وهو الذي أوجب عليه هذه العبادة فلا يسعه إلا التسليم {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65] ولذلك وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمام الحجر، فقال كلمته المشهورة: [أما إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك] أي: أن الدين كله قائم على هذا التسليم، إن جاءت العبادة سلم بها العبد وأتى بها على وجهها دون غلو أو شطط، ودون زيادة واعتقاد في الأحجار والأشجار والمواضع, وإنما يعتقد في الله وحده لا إله غيره ولا رب سواه.(42/8)
التوحيد في الدعاء
ثم إذا أدى شعائر الحج بين جموع المؤمنين، وعاش تلك الساعات واللحظات التي يقف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متذللاً متبذلاً خاشعاً متخشعاً تذكر عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن أعظم ما يذكر به العبد في عبادة الحج الدعاء، فمن أعظم المشاهد تأثيراً في النفوس وتأثيراً في القلوب مما يزيد العبد ثقة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإيماناً وإيقاناً فيه جل جلاله، إذا تأمل ونظر وادّكر واستبصر في هذه الأمم التي اجتمعت على اختلاف لغاتها، وتعدد لهجاتها، وتباين أقطارها وأمصارها، وإذا بها في لحظة واحدة ترفع أكفها إلى الله، فلا يخفى عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مكانها، ولا تخفى عليه أصواتها ولا لهجاتها، ولا تخفى عليه مسائلها ولا تعييه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حوائجها.
الله أكبر إذا عجت ببابه الأصوات، واختلفت المسائل والحاجات، وتباينت في اللغات واللهجات، ففتح الله أبواب سماواته، وتأذن بنزول رحماته ومغفراته وبركاته، فلم تعييه المسألة، ولم تعجزه حاجة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء، تقول عائشة رضي الله عنها: [والله إني لمن وراء الستر وخولة تجادل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجها يخفى عليَّ بعض كلامها فسبحان من وسع سمعه الأصوات] فسمعها من فوق سبع سماوات، امرأة مظلومة جاءت تشتكي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عائشة يخفى عليها بعض كلامها، وليس بينها وبين المرأة إلا الستارة، والله يسمعها من فوق سبع سماوات يسمع جميع هذه الأصوات فتقول: لا إله إلا الله، الله أكبر حينما يحتاج العبد حاجة والله يعلمها قبل أن يحتاج ومطلع عليها قبل أن تكون: علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، سُبْحَانَهُ جل جلاله وتقدست أسماؤه.
تضطرب كتفك بجوار الأكتاف، ويضطرب جسم الإنسان مع غيره من إخوانه وخلانه في الإسلام، ومع ذلك كله يسمع شكواهم ومسائلهم وحوائجهم، فيوقن بأنه لا إِلَهَ إِلَّا الله، هل طردنا الله عن بابه -حاشاه- حتى نقف على أبواب المشاهد والقبور؟ هل ردنا الله سبحانه عن دعائه حتى ندعو غيره ونتوسل بما سواه؟ هل عظمت حوائجنا على الله سبحانه وتعالى حتى تنزلها بغيره؟ لا والله {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته وما بلغته أمنيته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا ينقص من ملك الله جل جلاله شيئاً ولا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
تأمل رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يخرج المحتاج من أهله وولده وحِبه، والله ما أخرجه إلا لشيء أعظم وأفضل مما خرج منه، ولا يمكن أن يخرج الإنسان من تلك الشهوات وتلك الملاذ، ومن بين الأبناء والبنات إلا عوضه الله خيراً مما ترك؛ لأن الله كريم، فتؤمن بلا إله إلا الله وتوقن أن عند الله فضلاً ورضواناً، وأن الله ما أخرج هذه الجموع إلا لفضله ورحمته.
ولذلك أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله رضي لمن آمن به ووحده، ونزل في تلك المنازل موقناً مؤمناً مخلصاً، وأدى الشعائر على أتم الوجوه وأكملها، أن يرجع إلى أهله بلا ذنب ولا خطيئة.
أن يرجع إلى أهله كيوم ولدته أمه أن يرجع إلى أهله وولده نقياً من الذنوب والخطايا، فلربما رجع إلى أهله وولده وقد عتقت رقبته من النار، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
فإنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار من يوم عرفة) ومعنى العتق من النار: أنه لا يمكن أن يدخل العبد النار أبداً، مهما كان حاله، ولاشك أن هذه بشارة له أنه سيموت على التوحيد، ويموت على الإيمان، ويموت على خصال الخير والبر، ويختم له بخاتمة السعداء جعلنا الله وإياكم منهم.
يوقن العبد وهو يرى هذه المشاهد يرى هذه الأمم كلها جاءت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيزداد ثقة بالله جل جلاله ويتفكر ويتدبر هل حاجتي تعجز الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كلا والله، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فبمجرد أن ترى ذلك توقن إيقاناً كاملاً أن مسائلك وحوائجك لا ينبغي أن تنزل إلا بباب الله جل جلاله، فالدعاء والسؤال والحاجة لا يجوز أن تنزل إلا بالله وحده لا شريك له، ومن أنزل حاجته بغير الله زاده الله فقراً، ومن أنزل حاجته بالله تأذن الله له بالفرج العاجل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].(42/9)
الأسئلة(42/10)
حكم حج الرجل عن المرأة والعكس
السؤال
طلب مني أحد الإخوان الحج عن زوجته المتوفية وهو قادر للحج عن نفسه حجة الإسلام، وللعلم فإني كنت قد نويت الحج هذا العام فما حكم ذلك؟ وماذا يلزمني عند النية عندما أريد النسك إذا حججت عنها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
إذا كان الزوج لم يحج عن نفسه وسأل رجلاً أن يحج عن امرأته فلا بأس، يجوز للرجل أن يحج عن امرأة ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل، وفي الحديث: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراًَ لا يستقيم على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم حجي عنه) كما في الصحيح في حديث الخثعمية.
فقوله: (حجي عنه) فهو رجل وهي امرأة فدل على أنه يجوز أن يكون الوكيل رجلاً عن امرأة، وامرأة عن رجل، فلا بأس أن يحج سواءً كان أجنبياً أو كان قريباً لا بأس بذلك، ولاشك -إن شاء الله- أنك لو حججت عن امرأته ونويتها عن حجتها التي هي فرض عليها إن كانت قصرت وضيعت ووجب عليها الحج وحججت عنها، فهذا لاشك أنه من التعاون على البر والتقوى، ويكون زوجها إذا لم يحج عن نفسه حجته تلك عن نفسه، فتبرأ ذمة الميت المتوفى، والله تعالى أعلم.(42/11)
من انتقل من ميقاته إلى ميقات آخر أحرم من الثاني
السؤال
رجل يعمل في مدينة الرياض وأهله في منطقة تهامة، وأراد أن يحج هو وأهله هل يحرم من ميقات أهل نجد أم يحرم من يلملم؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب
إذا ذهب الشخص من الرياض إلى جهة الجنوب، ما دام أنه وراء الميقات الذي هو يلملم، فإنه يجوز أن يسافر من الرياض إلى جهة الجنوب، ويقضي جميع حوائجه ثم يحرم من ميقات الجنوب، لأن سفرته من الجنوب إلى مكة هي سفرة النسك، وسفرته الأولى من الرياض إلى الجنوب سفرة حاجة.
مثلاً: لو أنه سافر إلى الباحة أو سافر مثلاً إلى أبها فإنه في هذه الحالة ينتقل من ميقات الشرق إلى ميقات الجنوب، لأن المواقيت على الجهات الشمال مع الغرب، والشمال المحض، والغرب المحض، والشرق المحض، فلذلك جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (وقت صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الشام الجحفة ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) فهذه مواقيت جعلت على حسب الجهات؛ فإذا جاء من جهة المشرق وقصد المغرب أو قصد الجنوب أو قصد الشمال خارجاً عن حدود المواقيت فحينئذٍ يؤخر إحرامه إلى الميقات الثاني، ولا يحرم من الميقات الأول، وعلى هذا لا يلزمه أن يحرم من السيل، وإنما يحرم من يلملم إذا كان يمر بها وحاجته، وهكذا إذا كان من أهل المدينة وكانت عنده حاجة في ينبع، فإن ينبع ساحلية وميقاتها ميقات أهل المغرب والشام فيحرم من رابغ، ولذلك ثبت في الصحيح من حديث أبي قتادة أنه خرج من المدينة مع السرية التي بعثها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: (خذوا ساحل البحر) فأخذوا ساحل البحر فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم وأخر إحرامه إلى رابغ وهي الجحفة؛ لأنه عندما ذهب إلى الساحل أصبح ميقاته ميقات أهل الساحل، واختار الصحابة الأفضل فأحرموا من ذي الحليفة، وأخر أبو قتادة إلى محل الإجزاء، فدل على أن من انتقل من ميقات إلى ميقات أو سافر سفراً إلى ميقات آخر أخذ حكم أهله وألغى حكم الميقات الأول، والله تعالى أعلم.(42/12)
فضيلة إنفاق الحاج على نفسه وجواز إنفاق الغير عليه
السؤال
داعية طلبت من إحدى الحملات أن تكون مشرفة معهم في هذه الحملة، وتقول: إنها رصدت مبلغاً من المال لحج هذا العام وقد عرضوا عليها أن تحج معهم مجاناً، فما هو الأفضل أن تحج معهم بمالها هذا أم تستخدمه في شيء آخر نافع؟
الجواب
أسأل الله العظيم أن يعظم أجر الأخت السائلة وأمثالها من الصالحات نحسبهن ولا نزكيهن على الله، فلا تزال الأمة بخير مادام فيها النساء الصالحات، وفي النساء خير كما في الرجال، ولاشك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعد بالأجر المؤمنين والمؤمنات، وأثنى في كتابه على الصالحين والصالحات، وزكى من فوق سبع سماوات قلوباً خشعت له سُبْحَانَهُ من المؤمنات {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] فشهد الله من فوق سبع سماوات أنهن صالحات وقانتات وحافظات، فهذا فضل عظيم على الأمة أن يوجد في نسائها من يخاف الله ويتقيه خاصة في هذه الأزمنة، فنسأل الله العظيم أن يكثر من أمثالها.
أما الأمر الثاني أختي السائلة: فالخروج إلى الحج مع الرفقة الصالحة من الرجال والنساء معونةٌ على ذكر الله وطاعته، وإذا طُلب منك أن تحجي فلا تحجي إلا بمالك ولا تؤثري غيرك بالنفقة، فإذا كنت في حملة فقولي لتلك الحملة: أدفع كما يدفع غيري، ولا تجعل الداعية ولا يجعل الداعي ولا طالب العلم أجر علمه ونصحه أن يركب معهم فيطعم من طعامهم ويأكل من أكلهم، لا، إنما يجعل أجره لله والدار الآخرة: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال الله عن أنبيائه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] فأجر كل من يدعو إلى الله على الله سبحانه وتعالى، فأوصيكِ أن تقولي لهم: إما أن أدفع كما يدفع غيري، وأنت إذا قلتِ لهم ذلك إن شاء الله سيعينونك على هذا الخير، وأما بالنسبة للمبلغ الذي رصدتيه وأنت تنوين الخير والبر، فكما ذكرنا تبدئين بنفسك وتحرصين على أن يكون هذا الخير لك، لأنه لا إيثار في القربات، وتحجين معهم، إذا كان ذلك يعينك على الخير والبر وفيه معونة للغير على الخير، نسأل الله العظيم أن يتقبل من الجميع، والله تعالى أعلم.(42/13)
حج المرأة بدون محرم مسافة القصر
السؤال
ما حكم حج الخادمة في المنزل الذي لا يوجد معها محرم، وهل من استقدم هذه الخادمة يكون في محل المحرم لها، وهل حجها صحيح إذا حجت، أفيدونا حفظكم الله؟
الجواب
الأصل الشرعي الذي دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر لا للحج ولا لغيره إلا بمحرم؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم) فلا يجوز للمرأة أن تخرج من دون محرم.
وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجَّة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك) لا بد في حج المرأة من محرم ولا تسافر إلا ومعها ذو محرم، لكن لو كانت الخادمة في مكة، فليس بسفر؛ لأن المشاعر في مكة، لذلك يجوز في هذه الحالة أن تكون مع رفقة مأمونة يأخذها مع زوجته أو مع أخواته محتشمة محافظة، هذا لا بأس به؛ لأنه ليس بسفر إذا كانت في مكة، وإذا كان دون مسافة القصر من الحرم كما هو مقر في الأصل الشرعي، والله تعالى أعلم.(42/14)
عتق الله رقاب الحجاج يوم عرفة
السؤال
هل يوم عرفة للحاج فقط من ناحية المغفرة والعتق من النار، أم هو لعموم الناس على وجه المعمورة وخاصة المسلمين إذا تقيدوا بتعاليم الدين الإسلامي؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة) وهذا اللفظ من المعهود في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتبر لفظاً مطلقاً، وتارة تأتي السنة باللفظ المطلق وتريد التقييد، ويكون التقييد بالمعروف والمعهود، فكأنه حينما قال: من يوم عرفة مراده بذلك الحجاج الذين هم وقوف بيوم عرفة أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعتق رقابهم من النار، فهذا يدل على أن الفضل مختص بمن وقف بعرفة ولا يمتنع؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعتق رقبة الإنسان من النار بشيء غير هذا، فالله على كل شيء قدير.
الله سبحانه وتعالى قد يعتق رقبة الإنسان بصدقة واحدة، وقد يعتق رقبة الإنسان بدمعة واحدة يدمعها من خشية الله عَزَّ وَجَلَ، وقد يعتق رقبة الإنسان بكلمة طيبة بر فيها أمه أو بر فيها أباه، فالله على كل شيء قدير.
ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) نصف تمرة قد تكون وقاية لك من النار.
وفي الصحيح أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها تحمل صبيتين، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل صبية تمرة ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها فاستطعمتها إحدى البنتين هذه التمرة، قالت عائشة رضي الله عنها: فأخذت هذه المسكينة الأرملة التمرة وأعطتها لبنتها وآثرتها على نفسها، قالت: فعجبت من صنيعها، فلما دخل عليها رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرته خبرها، فقال لها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتعجبين مما صنعت! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك) تمرة واحدة، هذا فضل عظيم لو جاء الإنسان يتفكر ويتدبر في عظمة هذا الرب الكريم الجواد، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الجنة أدنى للعبد من شراك نعله والنار مثل ذلك).
أي: إذا اتقى الله وأحبه وأخلص لله ووحده وأطاعه، فإن الله سبحانه وتعالى يحجبه عن النار، فالعتق من النار -قيل: إن هذا اللفظ مطلق وقيد على أتم وجوهه وأكرمه، ولا شك أنه للحجاج على أتم الوجوه وأكملها، لكن لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى يعتق في يوم عرفة غير الحجاج؛ لأن فضل الله سبحانه وتعالى لا ينحصر بيوم عرفة ولا يقتصر على يوم عرفة بل يده سخاء الليل والنهار لا تغيظها نفقة، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفرح بتوبة التائبين، جَلَّ جَلالُهُ، وتقدست أسماؤه، والله تعالى أعلم.(42/15)
حكم ترك تقبيل الحجر الأسود
السؤال
أنا ذاهب إلى الحج والعمرة ولكني لا أُقبّل الحجر الأسود، والذي يمنعني من ذلك شدة الزحام فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
الجواب
اترك الأمور بالتساهيل، فالإنسان لا يقول من البداية: لا أُقبّل، أي شيء من السنن غير الواجبة إذا ترتبت عليه مفسدة أو ترتبت عليه مضرة، وما أمكن أن تطبق إلا بهذه المفاسد والأضرار فتترك؛ لأنه ليس بواجب، لكن لا تقل هكذا من البداية لا أُقبّل الحجر، قل: إن شاء الله، فإن الله ييسر ويسهل.
فإن استطعت أن تقبله ولو كان عليه زحام دون أن تؤذي أحداً ودون أن تضر بأحد، حتى تتمكن من الحجر فهذا فضل عظيم، وإذا لم يتيسر إلا بأذية وإضرار فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يمكن أن يعصى الله من حيث يطاع، ولذلك لا يقبل الحجر إذا كانت هناك أضرار ومفاسد أو فتن، بل على الإنسان أن يتق الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ومن ترك التقبيل لعذر فإن الله يكتب له أجر التقبيل، لأنك تركت التقبيل خوف الفتنة، فالله يكتب لك أجر من قبل؛ لأن عندك العذر، والله سبحانه وتعالى يكتب الثواب عند وجوده، والله تعالى أعلم.(42/16)
التلبية شعار التوحيد
السؤال
كثير من الحجاج لا يستشعر فضل وأثر التلبية والتكبير في المشاعر حتى تكاد لا تسمع صوتاً مرتفعاً بها إلا ما شاء الله، فهل من كلمة توجيهيه لمن أراد الحج حول هذا الشيء؟
الجواب
التلبية شعار التوحيد، ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أَهَلّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
لا إله إلا الله اجتمعت في لبيك اللهم لبيك؛ لأن لبيك اللهم لبيك إثبات، ولبيك لا شريك لك لبيك نفي، فلابد أن تثبت لله عَزَّ وَجَلَ ما أثبت لنفسه، وأن تنفي عن كل شيء سواه، ذلك الشيء الذي أثبته له عَزَّ وَجَلَ، ولذلك قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] فهذا جماع كلمة الإخلاص النفي والإثبات، فكلمة لبيك اللهم لبيك عهد بين الحاج وربه، قيل لبيك: من ألب في المكان إذا أقام، كأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك وتوحيدك إقامة بعد إقامة، وقيل: لَبَ من لُب الشيء وخالصه، أي إخلاصي وتوحيدي لك يا ألله إخلاصاً بعد إخلاص؛ لأن كل عبادة تتبع الأخرى، وقيل: لبى إذا واجه الشيء، فتقول: داري تلب بدارك: أي تواجهها، فكأنه يقول: وجهي وقصدي ووجهتي كلها إليك يا ألله، وجهة بعد وجهة، فهو يتجه إلى الله في الطواف، ثم بعده في الصلاة، ثم بعده في السعي بين الصفا والمروة، ثم بعده في المشاعر كلها، من مشعر إلى مشعر يتجه إلى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فكلمة التلبية تدل على التوحيد والإخلاص، لابد أن يستشعر معناها، والعلماء رحمهم الله قرروا أن العبادة إذا تلفظ بها الإنسان إذا كانت قولية من الذكر القولي فيتلفظ به الإنسان لا يعي معناه ولا يتدبر ذلك المعنى، ولا يقوله من قلبه، فإن ذلك لا ينفعه تمام النفع، ولذلك لابد أن يتدبر الإنسان معنى التوحيد في التلبية، وإذا قلنا: إن التلبية من لب: بمعنى أجاب، فإنه يقول: أنا مجيب لك يا ألله، إجابة بعد إجابة؛ لأن الله أمر إبراهيم أن ينادي بالحج، فكل معاني التلبية تدور حول الطاعة والعبودية والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليستشعر العبد معنى (لبيك اللهم لبيك) وكذلك قوله: (لبيك لا شريك لك لبيك) أمر مهم جداً، فالذي لا يبرأ من الشرك ويرضى بالشرك -والعياذ بالله- يكون له حكم أهله والعياذ بالله.
(إن الحمد) فالحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، سره وعلانيته في الدنيا والآخرة لله جَلَّ جَلالُهُ، ولذلك استفتح الله الأمور بحمده، فاستفتح أحبها وأشرفها إليه وهو كتابه ورسالته، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وختم الآخرة كلها، فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] فلله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد عشياً وإبكاراً، وله الحمد سراً وجهاراً، تَبَارَكَ اسمه، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره.
(والنعمة لك) النعمة كلها لله والفضل كله له، فإذا لبى المسلم بهذه التلبية واستشعر فيها هذا المعنى وأنه يعتقد أن الفضل كله لله وليس لأحد سواه، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] فالله هو صاحب النعمة وموليها، وكذلك أيضاً بالنسبة لبقية أذكار الحج.
وينبغي بالنسبة للتلبية رفع الصوت بها، ولذلك كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر أصحابه كما في الصحيح تقول: (لبيك اللهم) ترفع بها صوتك، فإذا سمع صوتك وأنت تلبي الحجر والشجر والمدر شهد لك بين يدي الله جَلَّ جَلالُهُ.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وأنت وحيد فأذن وارفع صوتك، فإنه لا يسمع صوتك جن ولا إنس ولا حجر ولا مدر إلا شهد لك يوم القيامة) كذلك إذا لبيت فإن الأرض تشهد وفي سنن ابن ماجة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا لبى المسلم لبى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض) كله يلبي، هذا الجماد يحب ذكر الله جَلَّ جَلالُهُ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يكثر من هذه التلبية، وأن يرفع بها الصوت.
نسأل الله العظيم أن يحيي بنا هذه السنة، وأن يعيننا على تطبيقها، ولا يستحي الإنسان، فالتاجر يصيح في تجارته بخمسة بعشرة بعشرين، ولا يحس أن في ذلك غضاضة؛ بل يتشرف ويفتخر بذلك، فكيف بمن يتاجر تجارة الآخرة، فكيف بمن ينطق بكلمة لا أصدق منها وهي كلمة التوحيد وما دل عليها، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يستحي أو يخجل من الناس، فإذا كنت بين قوم غافلين فارفع بها صوتك واعتز بدينك وربك، ينبغي للمسلم أن تكون فيه الحمية والقوة، لكن القوة ببصيرة، والقوة بالرحمة التي جاء بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يستحي الإنسان ولا يستنكف عن هذه الأشياء بل هي عزة له ورحمة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله أعلم.(42/17)
دور الموحدين في محاربة البدع
السؤال
يرى في مكة والمدينة بعض الحجاج يقعون في بدع وشركيات، ويلطخون عقيدتهم بالخرافات والخزعبلات، فما هو دور الموحدين، وما هي نصيحتك لهؤلاء؟
الجواب
بِاسْمِ اللهِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الله تعالى أكرم الحرمين وأنعم عليها -بل على الإسلام كله- بهذه الدولة المباركة التي حفظت حمى التوحيد، وحرصت كل الحرص على حماية جناب التوحيد من الشرك والخرافات، فمن يعرف المدينة والحرمين قبل هذه النعمة العظيمة، فإنه يعرف جليل ما أنعم الله على الإسلام والمسلمين، فقد كان الناس في كثير من الجهل والبدع والضلالات والخرافات، وكانت أموال الناس تؤكل بالباطل، وكانت تحيا بدع المضلين، وتمات سنن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن الله منّ على العباد بهذا النور وهذا الخير الذي تبددت به دياجير الظلم والظلمات، وأشرقت به أنوار التوحيد والرسالة، وعظم به الخير على هذه الأمة، وصلح حالها والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
إن وقع شيء من الإخلال من بعض الوافدين فينبغي أن يوجهوا وأن يعلموا، وأن يدلوا على ما هو أحكم، وعلى صراط الله عَزَّ وَجَلَ الأسلم الذي هو صراط التوحيد، نوصي كل من يرى أمراً من الأمور التي تخالف عقيدة التوحيد والإخلاص أن يبين الحق وأن يدل عليه؛ لأنه يتكلم بسلطان الحق، والله يؤيده ويفتح عليه، ويجعل له من أمره رشداً {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] فيحرص طلاب العلم والعلماء والدعاة وكل مؤمن موحد على التوحيد وينبغي أن يغار عليه، الهدهد جاء إلى سليمان وقد غار حينما رأى أهل الشرك يعبدون الشمس، وهو حيوان جاء طائراً يطير بجناحيه، غار على التوحيد والإيمان، والسماوات والأرض والجبال تكاد تنهد وتندك إذا دعي لله الولد لو أذن لها لانهدت واندكت {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:91 - 94] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا كانت الجبال تنهد غيرةً على التوحيد والإيمان، فكيف بقلب المؤمن الذي يخاف الله ويرجو رحمته، فإنه أولى وأحرى، وبين له بالتي هي أحسن أولاً أن يكون عندك علم وتقول: هذا لا يجوز وهذا شرك وهذا يخرج العبد من الإسلام، قد يكون بين الرجل والشرك كلمة واحدة يستغيث فيها بغير الله ويستجير فيها بغير الله والعياذ بالله، وقد تكون منه فعلة واحدة تخرجه من ربقة الإسلام فيشرك بالله {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] نسأل الله السَّلامة والعافية، فيحرص الإنسان على توجيه هؤلاء، وكثير من هؤلاء لا يفقهون ولا يعلمون، فهم أتباع كل زاعق وناعق كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبهم في نار جهنم، فالواجب نصيحتهم ودلالتهم إلى الخير، لكن ينبغي أن يحرص على الكلمة الطيبة والتوجيه المؤثر وبالتي هي أحسن ما أمكن، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ينقذ بك بكلمة عبداً من النار، فيكون ذلك أعظم لأجرك وأتقى لربك، واللهُ تَعَاَلَى أَعْلَم.(42/18)
المواعظ
الموعظة طريق لهداية الضالين، وسبيل لنجاة العاصين، والموعظة في المحيط الأسري مسئولية يشترك فيها الأب والأم، حتى إذا صلحت النواة الأولى للمجتمع -التي هي الأسرة- صلح المجتمع بأسره.
ولكن الموعظة لا تؤتي ثمارها اليانعة الطيبة، إلا إذا كان الواعظ عاملاً بما قال، ملتزماً بما وعظ.(43/1)
دور الموعظة في حياة القلوب واستقامتها
الحمد لله الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! إن للمواعظ أمراً عظيماً في القلوب، كم نبهت من غافلين، وكم أرشدت من حائرين، كم هدت ودلت إلى صراط الله المستبين، المواعظ زاد القلوب وطمأنينتها، وسلوة الصدور وانشراحها، أحبها الله وحببها للصالحين، فجعلها قرة عيون عباده المؤمنين المحسنين، يا لله كم من قلوب خشعت، وكم من عيون من خشية الله بكت، وكم من نفوس اهتدت، وكم من أرواح على طاعة الله ثبتت، يا لله كم من كلمات طيبات مباركات خشعت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات، وفُتِّحت لها أبواب السماوات! {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
الموعظة هي الكلمة الجامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، الموعظة وصية الله للأولين ووصيته للآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، شرف الله المواعظ حينما وعظ عباده المؤمنين، فذكرهم بحقوق الدين، أخذ بمجامع قلوبهم إليه فذكرهم بما يجب عليهم، ونهاهم عما حرمه عليهم.
المواعظ شرفها الله جل وعلا يوم جعلها رسالة الأنبياء والمرسلين، فصدعوا بالحق وبما أمر به رب العالمين، المواعظ زاد القلوب وسلوة الأرواح، وسبب ثباتها على طاعة الله جل وعلا، فكم من مجلس ذكر حضره عاق فعاد تائباً! وكم من مجلس موعظة حضره شقي طريدٌ بعيدٌ فقام منه سعيداً! وكم من مذنب خطّاء كثير الذنوب عظيم العيوب آوى إلى الله في مجلس يذكِّر بالله فقام وقد بدِّلت سيئاته حسنات! يا لله كم من كلمات طيبات مباركات صلحت بها أحوال المؤمنين والمؤمنات! ما أحوجنا إلى كل كلمة تقربنا إلى الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تذرف بها العيون من خشية الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تُخشع قلوبنا لذكر الله، ما أحوجنا إلى المواعظ إذا خرجت من قلوب صادقة وألسنة موقنة محقة.(43/2)
موعظة الأبناء مسئولية الوالدين
الأسرة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى الموعظة والنصيحة الجامعة، الأسرة المسلمة اليوم من الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوان والأخوات وآل كلٌ والقرابات هي أحوج ما تكون إلى الموعظة، تحتاج إلى الموعظة في زمان عظمت غربته، وجلت محنته، حتى أصبح المصلي بين أهله غريباً، والذاكر لله بين أهله كأنه يقول شيئاً عجيباً غريباً في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته؛ حتى أصبح فلذات الأكباد ربما يجهلون توحيد رب العباد في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته، حتى كثرت فيه الشهوات، وعظم فيه سلطان الملهيات والمغريات، فوقف المؤمن متعطشاً متلهفاً لكل كلمة تدله على ربه، وتأخذ بمجامع قلبه لكي تهديه إلى الصواب؛ فيكون من أهل طاعة رب الأرباب.
أيها الأحبة في الله! الواعظ في الأسرة يكون والداً شعر بالأمانة والمسئولية، وتكون أماً حنوناً مشفقة تخاف على فلذات كبدها من النار تخاف أن يفرّق بينها وبين أولادها في يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الموعظة كلمات طيبات يقوم بها الأبناء وتقوم بها البنات، كلمات طيبات هي أكبر من كل أحد إلا الله وحده، فكلنا يحتاج إلى الموعظة، فقد تكون من الوالد، وقد تكون من الولد، يوجه الوالد ولده آمراً له بطاعة الله، ناهياً له عن حدود الله ومحارمه، وكأنه يأخذ بحجزه عن نار الله وغضبه، والوالدة تأخذ بحجز أبنائها وبناتها بوصية جامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، والابن يرى أباه قد ضل عن السبيل، وجار فيما يكون منه من فعل وخيم، فتأخذه حميّة الدين والخوف من رب العالمين، فيذكِّر أباه وينصحه ويأخذ بحجزه عن نار الله كما فعل أنبياء الله، والبنت الصالحة ترى أمها قد جارت وحادت عن سبيل ربها، فتقف لها ناصحة مشفقة مبينة حتى تقودها إلى الله وتنتهي بها إلى رحمته، والأخ الصادق يرى أخاه قد تهاوى إلى الرذائل، وقد عميت بصيرته عن الفضائل، فيأخذ بحجزه عن نار الله وقد تفطر قلبه شفقة وحناناً عليه، يريد أن يرحمه برحمة الله.
فتخرج الكلمات الطيبات المباركات من الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، بعظات بالغات بينات، تخشع لهن قلوب المؤمنين والمؤمنات.(43/3)
وعظ الأبناء باتباع أوامر الشرع
أعظم الحقوق حق الله جل وعلا، ومن حقوقه سبحانه: أنه أحل الحلال وحرم الحرام، تنشئ ابنك من الصغر على أن يحل حلال الله وأن يحرم حرام الله، وأن يتبع شرع الله، وأن يقول كلما سمع أوامر الله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
تنشئ ابنك على محبة الدين، والاستسلام لرب العالمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فتعود أبناءك على محبة هذا الدين، وذلك عن طريق ربطهم بالعلماء وإتيان حِلق الذكر، وتعودهم أن يسألوا عن الصغير والكبير، والجليل والحقير، والخردلة والقطمير من أمر هذا الدين، فإذا عظمت وشيجتهم بالدين من خلال العلماء العاملين والأئمة المهديين؛ ألفوا الطاعات والباقيات الصالحات، وسمت أرواحهم إلى الخيرات، وزكت بفعل ما يرضي الله جل وعلا في الحياة وما يوجب حسن الختام عند الممات.(43/4)
وعظ الأبناء بالمحافظة على الصلاة
من الحقوق التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يعظوا أبناءهم بها: حق الله -كما ذكرنا- في الصلاة والزكاة، لأن الله يقول حاكياً عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] أمره بالصلاة، وأثنى على نبيه إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55 - 56]، من هذا الأب الموفق الذي يريد أن يكون عند ربه مرضياً؟ من أراد ذلك فليعظ أبناءه كلما أذن أذان للصلاة، فاعلم أنك تكون عند الله مرضياً إذا تفقدت أبناءك وبناتك -صغاراً وكباراً- في الصلاة، فأخذت كبيرهم إلى المسجد وتابعته فيما تعظه وتأمره به.(43/5)
وعظ الأبناء بتعظيم شعائر الله وخشيته
من حقوق الله جل وعلا، تعظيم شعائر الله في قلوب الأبناء والبنات، وغرس معاني الدين في نفوسهم، ومن ذلك: أن يحرص الأب على إبعاد أبنائه وبناته عن المحرمات والمفسدات والملهيات والمغريات، التي توجب سخط الله في الحياة والممات، تنشئ ابنك على الخوف من الله، والخشية منه في السر والعلانية، تعوِّده أن يخاف من الله جل وعلا ويخشاه ويتقيه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أنس بن مالك رضي الله عنه إلى حاجة -وكان أنس صغير السن خادماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فانطلق أنس، فرأى صبياناً يلعبون، فجلس يلعب معهم، فخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمسكه، وقال: يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك).
انظر كيف يُعلم الابن، ويعلم الصغير الخوف من الله، وعندها حين قال النبي هذه الكلمات -ماذا تتوقعون من أنس أن يحس في قرارة قلبه من هيبة الله جل وعلا عندما يعلم أن محبة الله وخشيته قد حالت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضربه؟! عوّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمة صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً وأطفالاً على تعظيم الله جل وعلا، والحذر من حدوده ومحارمه، ولذلك قال الله بعد ما نهى عن المحرمات: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] وعظنا الله، فحرم علينا محرمات ينبغي تعليمها للأبناء والبنات، ليس بعيب أن تجلس مع أولادك مع أبنائك وبناتك وتبين لهم ما الذي حرم الله عليهم، من: قول الزور، وغيبة المسلمين، والنميمة، والسب والشتم، وأذية المسلمين باللسان أياً كانت هذه الأذية، ليس بعيب أن تجلس مع أبنائك وبناتك فتذكرهم بحرمات الله التي نهى عنها في السمع والبصر، فتذكرهم أن الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فتجعلهم على خوف من الله جل وعلا.
فلا إله إلا الله! كم من عيون غضت للأبناء والبنات بالنصائح الطيبة من الآباء والأمهات، وكم من ابن وقف على حرمة من حُرَم الله ونظر إلى شهوة مغرية فتذكر وعظ أبيه فخاف من الله، ولربما كان أبوه ميتاً فصارت رحمة عليه بعد موته، كل ذلك بالموعظة الصالحة والكلمة والوصية النافعة.(43/6)
وعظ الأبناء بحق الله وتوحيده
أحب الكلام إلى الله ما ذكّر بالله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، تبتدئ الأسرة المسلمة موعظتها بأعظم الحقوق وأجلها على الإطلاق؛ وهو حق الله جل جلاله، حقه في توحيده وإفراده بالعبادة، والإخلاص لوجهه.
فالناصح والواعظ من الوالد والولد والوالدة يذكِّر من ينصحه بعظيم حق الله عليه، وجميل منته لديه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] قالها لقمان لفلذة كبده يذكره بالعقيدة والإيمان {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أخذ بمجامع قلبه إلى الله، وذكره بأعظم الحقوق وهو حق الله.
يا بني! يا فلذة الكبد! يا من هو كلحمي ودمي! لا تشرك بالله، نهاه عن أعظم نهي نهى الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) يذكِّره أن الله رضي له التوحيد والإيمان وكره له عبودية الأوثان، يذكره بالسماء ومن بناها، وبالأرض ومن طحاها، وبالجبال ومن أرساها، يذكره بشواهد التوحيد، ودلائل وحدانية العظيم المجيد.
كم من أبٍ ذكر ابنه في ظلمة ليل بمن جعل الظلام في ليله، فما أمسى الابن إلا وتذكر الله! وكم من أم صالحة ذكّرت بنتها بربها وأخذت بمجامع قلبها إلى خالقها، فوحدت وأسلمت واستسلمت! وكل ذلك في ميزان حسناتها.
يحتاج الابن أن تذكره بالله في كل لحظة وطرفة عين، تذكره بجبار السماوات والأرض تذكره بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؛ حتى يخوض الحياة مؤمناً ويعيش موحداً، حتى تقبض روحه مع السعداء والأولياء الحنفاء.
ينتظر ابنك -في كل لحظة وفي كل طرفة عين- أن تذكره بحق الله، حتى ولو بالكلمة العابرة، ومما تذكره بالله أن تذكره بحقوقه العظيمة، فتأمره بتقواه، وتحثه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتستجيب لأمر نبيك صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) الأب الصالح يذكر ابنه بالصلاة، ويعظه حتى يحبب إلى قلبه الوقوف بين يدي الله جل وعلا، والعبد الصالح يأخذ أبناءه إلى بيوت الله بالليل والنهار، والعشي والإبكار.
والله إنك ما علّمت ابنك الوضوء فصب الماء على يده أو جسده إلا كتب الله لك أجره، ووالله إنك ما علّمته الصلاة وكيف يقرأ فاتحتها، وكيف يحسن ركوعها وسجودها، وكيف ينتصب بين يدي الله فيها إلا كان لك مثل أجره كلما وقف بين يدي الله مصلياً، ولو علّم غيره كتب الله لك الحسنات، ورفعك إلى عظيم الدرجات، فالصالحات الباقيات، فمن أمر أبناءه بالصلاة وتفقدهم بالعشي والإبكار والصبح والمساء، أعظم الله أجره، وثقل ميزانه، وأورث في قلوب أبنائه حبه، فكم من آباء ربوا أبناءهم في الصغر على هذه الطاعة المرضية، فما كبروا إلا على حبهم وتقديرهم وإجلالهم لآبائهم، قال بعض العلماء: حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الأولاد بالصلاة، ومن عوّد نفسه أن يأمر أولاده بالصلاة، اعتاد أولاده من الصغر على السمع والطاعة، وقل أن تجد أباً كان يتفقد أبناءه في الصغر -حتى شبوا على حب الصلاة- إلا وجدته يحيا الحياة السعيدة يعيش بين أبنائه حميداً وليموتن قريراً سعيداً، وليدركن صلاح أبنائه إذا ضمته اللحود، وهجمت عليه الكروب، فرفع ابنه كفه إلى الله شافعاً، يسأل ربه أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، فمن وفى لله وفى الله له، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، لا يعرفنا الله بأحسابنا ولا بأنسابنا ولا بأموالنا، بل يعرفنا بديننا وإخلاصنا وتوحيدنا وقيامنا بحقوق ربنا، هذا الذي بيننا وبين الله.
ولما كانت الأمة راكعةً ساجدة، أبناؤها وبناتها كبارها وصغارها لا يضيعون حقوق الله؛ عزّت وسادت وكانت في رحمة من ربها، ولما تناسى الناس حقوق رب الجنة والناس، وأصبح الأمر بالصلاة تعقيداً وتضييقاً ونفر الناس منه؛ ضاعت كرامتهم، وعظمت بليتهم، فأصبح الوالد مجهولاً -والعياذ بالله- حتى عند فلذة كبده.(43/7)
الموعظة سبب سعادة العبد في الدنيا والآخرة
إنها المواعظ التي هي طريق إلى سعادة العبد، لا يستطيع الأب ولا تستطيع الأم أن تقوم بالموعظة إلا إذا كان هناك سلاح يتسلح به كل واحد منهما، ألا وهو العلم والبصيرة، والنور الذي يهدي الله عز وجل به من اتبعه سبل السلام {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16].
ما أحوج الآباء والأمهات إلى معرفة جملة من الأحكام والأمور التي تتعلق بتعليم الأبناء والبنات، وتوجيههم وتربيتهم، ما أحوجهم إلى أن يسمعوا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وإلى سيرته العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة، كيف كان يأمر بالتوحيد؟ وكيف كان يغرس العقيدة في قلوب الصغار؟ (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) الله أكبر! ما أعظمها من كلمات وقعت في قلب حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه! حتى أصبح إماماً من أئمة الدين، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمات التي هي من أسباب السعادة للعبد في الدنيا والآخرة.
(يا غلام! احفظ الله يحفظك) وهذا يجمع جميع أوامر الله ونواهيه، احفظ الله بفعل أوامره، واحفظ الله بترك نواهيه.
ثم يقول له عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) فالمخلوق بين أمرين بين رحمة وعذاب، وبين نعمة ونقمة، فإذا كان في نعمة اعتقد الفضل كله لله، وسأل ربه أن يبارك له فيها، وإن كان في نقمة علم علم اليقين أنه لا ينجيه منها إلا الله وحده لا شريك له، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء سبحانه وتعالى، وعندها تهون عليه مصائب الدنيا كلها.
إنها المواعظ التي تذكِّر العباد بالله وتهديهم إلى صراطه جل وعلا، إنها المواعظ التي ابتدأها خير الواعظين سبحانه إله الأولين والآخرين، فوعظنا وذكّرنا في كتابه المبين، وسار على هذا النهج المبارك صفوته من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(43/8)
افتقار المواعظ إلى القدوة الصالحة
أيها الأحبة في الله! المواعظ تفتقر إلى أمر عظيم، إذا وجدت في الأب والأم، فإن الله ينفع بها وتقع في القلوب كوقع الغيث على الأرض الطيبة، إنها تحتاج إلى قدوة صالحة، الأب الذي ينصح أبناءه وبناته لابد وأن يكون قد أقام نصيحته لأنه لهم قدوة، ولابد أن يكون إماماً هادياً مهدياً، حتى ينفع الله بنصيحته، وتكون كلماته مؤثرة في النفس عميقة الأثر في القلب؛ لأن الله جبل الأولاد على محبة الوالدين والتأثر بنصيحتهما، وأنهم يشعرون شعوراً عميقاً أن الأب لا يغش أولاده، وأن الأم لا تغش أولادها، فهم يتقبلون النصائح منهما، فيحتاجون إلى القدوة التي تدلهم مع القول بالفعل، فابنك إذا رآك إذا أذن المؤذن تخرج إلى المسجد مبكراً؛ سبقك إلى المسجد، وإذا رآك عند ذكر الله تفيض عيناك من خشية الله فاضت عيناه من خشية الله، وإذا رآك ابنك وقافاً عند حدود الله، لا تغتاب المسلمين، ولا تسب المؤمنين كان ابنك عفيف اللسان عن عباد الله المسلمين.
والبنت إذا رأت أمها قوّامة، صوّامة، ذاكرةً لربها، منيبة إلى خالقها، أحبت الله من كل قلبها، الله أعلم كم من ذريات صلحت بالقدوة الصالحة! الأبناء والبنات ينتظرون الفعل قبل القول، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فالإمامة في الدين والموعظة التي تذكّر برب العالمين تحتاج إلى الفعل قبل القول، قال بعض السلف: عظوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف نعظ ونحن صامتين؟ قال: عظوا الناس بأفعالكم وأخلاقكم قبل أن تعظوهم بأفواهكم.(43/9)
الرفق واجتناب الكلمات الجارحة في الموعظة
كذلك تحتاج الموعظة إلى كلمة صالحة صادقة مؤثرة، كالقول البليغ الذي يحكم الوالد اختياره؛ المهذب الذي لا يجرح القلوب ولا يؤثر في النفوس ولا ينفر في الدعوة، هذا الذي ينتظره ابنك وتنتظره ابنتك، فإذا رأيت الابن أو البنت مخطئاً، فعليك -رحمك الله- بالقول الكريم والموعظة الحسنة والكلمة المؤثرة استجابة لقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، فالقول البليغ والموعظة البليغة مؤثرة في النفوس؛ ولذلك كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق بياناً وأحسنهم كلاماً؛ فإذا وعظ الموعظة أثر في القلوب، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا)، فكانت مواعظه عليه الصلاة والسلام منتقاة، فعلى الوالد والوالدة أن يحرصا على عدم جرح المشاعر، فلا ينبغي تنفير الأبناء والبنات من الطاعة والدين، ولا ينبغي إذا أردنا أن ننصح أو نعظ أن ننفر أبناءنا وبناتنا من الخير والبِر، بل علينا -إذا رأيناهم أخطئوا- أن نقول الكلمة التي تقع في النفوس موقعاً بليغاً.
والدٌ يقول لولده أخطأ: يا بني! والله إنك أعز في قلبي من أن تقول هذه الكلمة التي لا ينبغي لمثلك أن يقولها، تصور يبكى الابن مباشرة، ويقول: يا أبتي! سامحني.
ووالد يقول لولده-أعاذنا الله وإياكم-: أيها السخيف! يا من لا تستحي! فنفر الابن وصد عن موعظته، فالله الله أن تكون حجر عثرة بين أبنائك وبين رحمة الله وتذكر وأنت تعظ، وتذكري -أيتها الأم الصالحة- وأنت تعظي أبناءك، وبناتك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) تذكروا -يا معاشر الآباء والأمهات- أن الدين رحمة وأن الإسلام رحمة، وأنه نور وهدى، تهدى به القلوب في الكلمات، وتهدى به القلوب في العبارات، لا تجرحوا به المشاعر، فقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الموعظة؛ لا ينفر من موعظته، ولا ينفر من قوله وهديه وسمته، فما أحوجنا إلى أن نتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.
كم من أبناء وبنات قرت عيونهم بالصلاح والاستقامة والفلاح بالمواعظ التي اشتملت على الكلمات الرقيقة المهذبة، والعكس بالعكس، فكم من قلوب نفرت، وكم من أبناء وبنات وذريّات صدّت بسبب الكلمات الجارحة، فليتق الله الآباء والأمهات في هذه المواعظ وفيما يختار لها.(43/10)
وعظ الأبناء بتعظيم حقوق العباد
مما ينبغي على الآباء والأمهات من النصيحة والموعظة للأبناء والبنات، التذكير بالحقوق العظيمة وهي حقوق العباد، فبعد أن يذكر الآباء والأمهات الأبناء والبنات بحقوق الله جل وعلا يذكرونهم بحقوق المسلمين والمسلمات.
المسلم له حق عظيم على أخيه المسلم، ما كانت تنشأ البنت في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرفت ما الذي لها وما الذي عليها تجاه أخواتها المسلمات، وما كان الابن ينشأ في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرف ما الذي له وما الذي عليه تجاه إخوانه المسلمين.
كانت الأمة تربي أبناءها وبناتها وفلذات أكبادها على تعظيم حقوق المسلمين، كان أبناء المسلمين وبناتهم ينظرون إلى أخوة الإسلام نظرة التقديس والإكرام، حتى إن المسلم ليقدر أخاه في الإسلام أكثر من تقديره لأخيه في النسب، وذلك حين كان الإسلام أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية رغبتهم وسؤلهم، فكانوا يعرفون حقوق المسلمين وعظمها، وكان الآباء والأمهات ينشئون الأبناء والبنات على معرفة ورعاية حقوق العباد، ومن أعظمها: حقوق الوالدين، فكان الوالد يأخذ ولده معه إلى زيارة جده، فيجلس ذلك الوالد بين يدي أبيه -الذي هو الجد- على مرأى ومسمعٍ من ابنه، مجلاً مكرماً لأبيه، لا يتكلم بحضور أبيه، ولا يمكن أن يرد لأبيه طلباً، ولا يعيي أباه في المسألة، خادمٌ له في حاجته، قائم له في سعيه، وإذا بالابن ينظر إلى أبيه وقد صار صغيراً، وقد رآه من قبل كبيراً، وذلك لأنه أمام أبيه، فيتعلم كيف يبره في الغد، فانظروا إلى الشمائل العطرة والأخلاق الجميلة الجليلة النضرة التي كانت تتربى عليها بيوت المسلمين، وهكذا الأم كانت تأخذ بناتها الصغار إلى الجدة فتجلس بين يديها بكل إكرام وإجلال وإعظام، لتعلم بناتها كيف البر.
كان الأب يأخذ أبناءه إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وآل كل والقرابات، ما كان يوجد بيت من بيوت المسلمين تمر عليه أيام فيها سعة أو إجازة إلا وخرجت جموعهم في السفر للسياحات والنزهات، لا والله.
بل يخرجون لصلة الأعمام والعمات وآل كل والقرابات؛ فكتبت الخطوات، ورفعت الدرجات، وتأذن الله برحمة المؤمنين والمؤمنات، يوم كانت الأمة في فقر وشدة وضعف، ولكن بارك الله لها في أرزاقها وأقواتها وأوقاتها، فقل أن تجد رجلاً مبتلى بمرضٍ في نفسيته أو في عقله أو نفسه؛ بسبب الصلة والرحمة التي رحم الله عز وجل بها الأمة.
كانت الأمة كالجسد الواحد تنشئ أبناءها وبناتها على معرفة الحقوق والواجبات، والقيام بالأمانة والمسئوليات، وكذلك ينشئون الأبناء على تعظيم حقوق أخوة الإسلام، ويبتدئ هذا بالمواقف، فأول ما يبدأ الأب والأم بالجار، فينشأ الابن والبنت على تعظيم حقوق الجيران، فمن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه عمراً طويلاً ما سمعه يوماً يسب جاره أو آذى جاره، أو اغتابه أو ذكره بسوء، ومن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه دهراً طويلاً، لم يحتج جاره يوماً إلى أحد -بعد الله- غير أبيه، فكان الجار ينزل حاجته بأبيه على مسمع ومرأى من الابن؛ فنشأ الابن على إكرام الجيران، وأصبحت شمائل الإسلام وأخلاق الكرام مغروسة في قلوب المسلمين بالأفعال قبل الأقوال، وذلك يوم كانت معتزة بدينها متمسكة بالإسلام، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن التأسي بهم، وما زال الخير -والحمد لله- موجوداً في الأمة، ولا زالت بقية باقية تشفق على أبنائها وبناتها وفلذات أكبادها، فتسعى لتنشئهم على طاعة الله عز وجل.(43/11)
الموعظة إذا كانت لله عظم نفعها
إن هذه المواعظ صلاح للأسر، وسعادة لها في الدنيا والآخرة، هذه المواعظ لا تكون نافعة ولا مؤثرة إلا بشرط واحد، وأساس واحد، أقام الله عليه هذا الدين كله، أقام عليه السموات والأرض، ومن أجله سيكون السؤال والحساب والعرض، وهو الإخلاص لله تبارك وتعالى.
اعلم رحمك الله تعالى أنك بين موقفين إما أن ترى ابنك أخطأ فتأخذك حمية الدين أو تأخذك حمية الجاهلية، فإياك أن تضيع على نفسك الأجر، لا تقل: فضحتنا وشهّرت بنا، ولكن قل: يا بني! {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] ذكره بالله، ولتخرج الكلمة من قلبك صادقة لوجه الله جل وعلا، فكل موعظة خرجت من قلب صاحبها والله يعلم أنه يريد وجه الله نفع الله بها، وكانت مباركة وبقيت مع من سمعها وعمل بها، فالكلام إذا أُريد به وجه الله طاب، وفُتِّحت له أبواب السموات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فالله الله في مواعظك أن تفتح لها أبواب السموات حينما تخلص لوجه الله.
إذا رأيت ابنك قد أخطأ، فلتأخذك حمية الدين ولتخف عليه من رب العالمين، وتقول: يا بني! والله لو عصيت ربك فإني لا أغني لك من الله شيئاً، واذكر وأنت تقول هذه الكلمات الطيبات المباركات، اذكر رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقفٌ أمام قريش أمام قرابته وبني عمه وبناته، يقول لهم: (يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنكِ من الله شيئاً) كانت الموعظة والنصيحة لله، فالذي يعظ أبناءه لله، وتخرج كلماته خالصة من قلبه، ليس خوفاً أن يعيّبه الناس أو من الفضيحة، ولكن خوفاً من فضيحة الأشهاد، خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم يُفرّق فيه بين الوالد وولده، والأب وابنه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يرى ابنه على معصية فيقول: إني أخاف من هذه المعصية اليسيرة أن تفرق بيني وبين ابني يوم القيامة، فيا بني! اتق الله، فإذا خرجت الكلمة من قلب صادق بارك الله فيها، فأبناؤك ينتظرون منك الإخلاص، وبناتك -أيتها الأم الصالحة- ينتظرن منك الإخلاص، ولذلك إذا وعظ الواعظ مخلصاً لله بارك الله في موعظته.
انظر إلى ذلك المثل الذي ضربه رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أصعب المواقف وأعظمها وأشدها، جعله عبرة لعباده المؤمنين: (امرأة فقيرة محتاجة جاءت إلى ابن عمها وهو مغرم بها، يساومها على الحرام وعلى نفسها وعرضها والعياذ بالله، فلما رأى حاجتها قال لها: لا أعطيكِ حتى تمكنيني من نفسكِ -وهي ضعيفة محتاجة وفي فاقة شديدة ولكنها عفيفة مؤمنة- فلما رأت أنها مضطرة وأعيتها الحيلة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -في هذا الحديث الصحيح- عن هذا الرجل: اللهم إنك كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها، وكنت أراودها عن نفسها فأبت حتى احتاجت يوماً من الأيام، فقلت لها: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فلما جلست منها، وفي رواية: فلما قعدت منها مقعد الرجل من المرأة، قالت: اتق الله، ولا تفضن الخاتم إلا بحقه)، الله أكبر! موقف تنهزم فيه المرأة مهما أوتيت من قوة، ولكنها خافت ربها واتقته، وطهُرت واستسلمت لخالقها، فقالت النصيحة من كل قلبها، قالت له: (اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه) فرعدت فرائصه من خشية الله، وترك المال لها وقام.
الله أكبر! ما أطيب الكلام إذا خرج لوجه الله وحده لا شريك له! ما كان لله عظُم نفعه وجلّت بركته في الدنيا والآخرة.
وإذا وقف العبد بين يدي الله جل وعلا -وكان ناصحاً واعظاً- لأهله وولده- فإنه يرى أمام عينيه تلك الكلمات التي خطها ملائكة حافظون، لا يغشون ولا يكذبون، يراها كاملة أمام عينيه في يوم ينفع الصادقين صدقهم، نعم، تجد الصادقين هم المخلصون، فإذا نصحت أبناءك وبناتك، فانصحهم بقلبٍ يريد وجه الله، بقلب ليس فيه إلا الله، ليس فيه أحد سواه، وكم من آباء نصحوا أبناءهم وبناتهم المرات والكرات دون فائدة؛ لأنهم نصحوهم خوفاً من الفضيحة، ونصحوا لعادةٍ أو تقليد، ما نصحوا لله ولا في الله، ولا ابتغاء الأجر عند الله، فالله الله في هذه الأساس.(43/12)
الصبر وارتباطه بالموعظة
عليك أن تعلم أن الموعظة أحب الكلام إلى الله جل وعلا، فالله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] فإذا أردت أن تعظ أسرتك المسلمة، فاعلم -أنك إذا كنت واعظاً- أن الكلام الذي تقوله هو أحب الكلام إلى الله جل وعلا، فإذا علمت أنه أحب الكلام إلى الله سبحانه وتعالى عظُم صبرك وتحمُّلك، فإذا سمعت كلمةً نابية أو رأيت صدوداً أو إعراضاً فلا تيأسن.
فمهما رأينا من الفتن التي أحاطت بأبنائنا وبناتنا، ومهما سمعنا من الحوادث والملهيات والمغريات، فإنا صابرون وعلى ربنا متوكلون وإنا على الصبر مرابطون، فتوكلوا على الله، وعليك أن تكرر النصيحة والموعظة، فالله يكتب أجرها ويحب سماعها، ولن يضيع عند الله ثوابها {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فاصبر رحمك الله ولا تيأس ولا تعجز.
واعلم أن قلب ابنك موقوف على رحمة من الله يهدي بها قلبه، فاجتهد في الدعاء في سجودك وتهجدك، وفي ليلك ونهارك، وصبحك ومسائك أن يهدي الله ذريتك، أَكثر من الدعاء لأبنائك وبناتك، فمهما رأينا أو سمعنا من أبنائنا وبناتنا، فلنستعن بالله ربنا، ولنعلم علم اليقين أن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولنعلم علم اليقين أن الكلمة أو الموعظة الصادقة كمثل شجرة: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]، فاجتهدوا -رحمكم الله- واصبروا وصابروا واعلموا أن الله سبحانه وتعالى معين لمن استعان به، ومؤيد لمن استنصر به، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمدنا بعونه وبتوفيقه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك، وهو رب العالمين.(43/13)
آثار المواعظ وثمارها(43/14)
رضا الله والنجاة من عذابه
أول آثار المواعظ: رضوان الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً، يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، فلربما دخلت على ابنك أو ابنتك فسمعت من أحدهما كلمة نابية، فقلت له: يا بني! اتق الله، وأنت لا تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضاه إلى يوم أن تلقاه، فتذكر هذا واعلمه علم اليقين، وما أطيبه من أثر! طابت به أحوال المؤمنين والمؤمنات! ومن آثار المواعظ: أن الله يكتب لك أجرها وثوابها، ويحسن لك ذخرها في الدنيا والآخرة، ولذلك قل أن تجد والداً كثير النصح لأولاده، وقل أن تجد والدة كثيرة النصح لأولادها إلا وجدت بركة النصح في بيتهما وأهلهما وولدهما.
البيوت التي تقوم على المواعظ تغشاها السكينة وتتنزل عليها الرحمة، وتجدها أصلح حالاً من كثيرٍ من البيوت.
من ثمرات المواعظ: أنك إذا أدمنت النصيحة، ثم نزل -لا قدر الله- عذاب على الأمة، أنقذك الله بفضله ورحمته، ثم بدعوتك وموعظتك، لا ينجو من العذاب إلا من وعظ وأخلص، ولذلك لما قالت أمة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] فأنجى الله الذي ينهون عن السوء في الأرض، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
فلو حلّت عقوبة أنقذك الله منها، ولذلك البيوت التي تنتشر فيها المنكرات والمحرمات، إذا نزل العذاب على العاصي، تجده ينتشر على البيت كله والعياذ بالله، فتجد قلوباً مغلفة وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً، نسأل الله السلامة والعافية.(43/15)
صلاح المجتمع واستقامته
ومن آثار الموعظة: أن البيوت إذا صلحت صلح المجتمع كله، والأسر إذا صلحت واستقامت؛ صلح المجتمع كله، وبارك الله في أمة تأمر بما أمر وتنهى وتزجر عما نهى عنه وزجر، يبارك الله في الأمة كلها، ولذلك لما كانت بيوت المسلمين تقوم على هذا الخير، كانت بيوت المسلمين لا تعرف الواجبات والمحرمات فقط، بل كانت تعرف المستحبات والفضائل، أما الواجبات والمحرمات فهذه البدهيات.
كان الطفل الصغير ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف حتى لربما مر على الرجل وهو يبيع في تجارته بعد الأذان، فيقول له: اتق الله وصلِّ.
كانوا يعظون أبناءهم، في الكمالات لصلاح الأسر؛ لأن الواجبات فصلت، والمحرمات تركت، ما هي الكمالات؟ كانت الأسر تعظ بإكرام الضيف، ونصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، والتضحية والإيثار، كانوا في مراتب الكمالات، ليس الواجبات أو المنهيات، كانت الأمة في هذا المكان العظيم والمنزلة الشريفة الكاملة، فعلينا أن نُصلح الأمة بصلاح الأسر، ولا تقل: من أنا؟ فلربما صلاح بيتك صلاح للأمة كلها، ولعل الله أن يوجد بيتاً في الحي، يقوم على الموعظة تتأثر به الأسر من حوله، فلربما جاءت امرأة زائرة لهذا البيت المسلم الذي قامت فيه الموعظة كما ينبغي أن تقام، فقالت: يا أم فلان: لِمَ لا تفعلين كذا وكذا؟ إن أبا فلان نهانا، وإن أبا فلان قال لنا كذا وكذا، فذكّرتها بالموعظة، فبكت وانطلقت إلى بيتها، فأخذت بحجزها عن نار الله وغضبه، فكم من خير انتشر، وكم من بر علا وظهر بفضل الله جل وعلا ثم بالموعظة لما نشرت.
الموعظة خيرها عظيم وبركتها عظيمة؛ بركتها حتى في اللسان الذي يتكلم بالموعظة، ويذكر بالله عز وجل، يطيِّبك الله به حياً وميتاً، فلماذا زكى الله الأنبياء والعلماء والأخيار والأتقياء والصلحاء؟ بفضله سبحانه ثم بما قاموا به من ذكره وشكره والدعوة إليه سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ} [فصلت:33] من هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، فثمرات الموعظة عظيمة وآثارها جليلة كريمة.(43/16)
الموعظة أجر مستمر
ومن ثمرات المواعظ: أنك ما ذكرت موعظة فسمعتها أذن وعملت بها جارحة إلا كُتب لك أجر صاحبها، وأن هذه الموعظة إذا تعلمها أحد، فعلّمها غيرك كان لك مثل أجره وأجر من اهتدى بها إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من دعا إلى هدى، كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيء) الله أكبر! ما أعظم آثار هذه المواعظ، وما أعظم أجرها وخيرها وبركتها عند الله سبحانه! ولذلك شرف الله المواعظ حتى شرّف مجالسها، فمن خرج من بيته إلى مجلس موعظة وذِكر، وإذا خرج المؤمن من بيته إلى محاضرة ومجلس ذكر أو موعظة أو إلى خطبة يريد وجه الله، كُتبت له خطواته، ووضعت الملائكة أجنحتها له رضاً بما يصنع، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) فمن يذهب إلى المواعظ فهو طالب علم، لأنه يريد أن يعلم من هو الله، وكيف يطيع الله، ويريد أن يعلم أين سيبل الله، فكم من مذنب خطّاء كثير الخطأ جاء إلى المواعظ لكي يُدل على الله ويُهدى إليه، فبشّره الله عز وجل برحمته، فأصبح سعيداً من ذلك المجلس إلى يوم القيامة، وهذا فضلٌ من الله ومن بركات وفضائل مجالس المواعظ.
ومن فضائل المواعظ: أن الله زكاها وشرفها، حتى إن العبد إذا حضر مجلس الذكر مرّ وجلس حتى ولو لم يقصد مجلس الذكر، إذا مر وجلس في مجلس الذكر؛ غفر الله له ذنوبه، وهذا فضلٌ عظيم، وخيرٌ كبير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم خذ بنواصينا لما يُرضيك عنا، واجمعنا مع الأنبياء والشهداء والصالحين، إنك ولي ذلك، وأنت أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(43/17)
الأسئلة(43/18)
كيفية استغلال المرأة المسلمة أوقات الفراغ
السؤال
كيف تقضي المرأة المسلمة وقت فراغها؟ وما هي الوسائل المعينة على قضاء الوقت فيما ينفع؟
الجواب
أولاً النساء يختلفن، فالمرأة ذات الزوج ليست كالمرأة التي لا زوج لها، فالمرأة أول ما ينبغي عليها هو أن تصرف وقتها في الواجبات والفرائض والحقوق، فإذا صرفت وقتها في الحقوق والفرائض، بارك الله لها في وقتها، ثم بعد ذلك تتدرج إلى الفضائل والمستحبات، وأفضل ما تنفق فيه الأعمار ويمضي فيه الليل والنهار هو ذكر الله الواحد القهار، أفضل ما قُضيت فيه الساعات ومضت عليه اللحظات ذكر الله جل جلاله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42] فاذكري الله قائمة قاعدة بالليل والنهار، والصبح والعشي والإبكار، وتذكرينه بالقلب الحاضر.
وأفضل الذكر تلاوة القرآن، ثم بعد ذلك قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي، لا إله إلا الله ... ).
وكذلك كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، -أيضاً- تقضي المرأة المسلمة وقتها في فضائل الأعمال من الإحسان والبر مما يقرب إلى الله عز وجل، وأعظم ما يكون الإحسان: أن تبدأ بالإحسان إلى نفسها بتعلم العلم النافع، فتبدأ بحفظ القرآن، ومذاكرة القرآن ومذاكرته ومراجعته، وتحاول أن تجعل لها ساعات معينة تحفظ فيها شيئاً من كتاب الله عز وجل أو تقرأ شيئاً من أحكام دينها؛ في صلاتها وزكاتها وحجها وعمرتها وصيامها وغير ذلك من أمور عبادتها.
كذلك عليها أن تبدأ بتعلم ما أوجب الله عز وجل عليها، فإن كانت متزوجة تعلّمت الحقوق الزوجية، وتعلمت كيف تربي أولادها، وسألت عن ذلك؛ لأن هذا ما يسميه العلماء العلم الفرض العيني، وهو العلم الذي يكون فرض عين على الإنسان، وهو أن الإنسان إذا تلبس بشيء وجب عليه أن يتعلم حكمه، فتتعلم المرأة المسلمة كل شيء فرض عليها، وتتعلم الحقوق والواجبات التي فرض الله عليها للأقربين، ثم بعد ذلك تحرص على أن تكون في أوقاتها بين أمرين: الأمر الأول: نفع دين.
والأمر الثاني: نفع دنيا، فإذا لم تستنفد الوقت في هذه الفضائل، استنفدته في شيء يعود عليها بالنفع في دنياها، وبما يعود عليها بالرزق الحلال، فتتعلم صنعة طيبة تستفيد منها لها ولأبنائها فتعف به نفسها عن الحرام، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن نبي الله موسى آجر نفسه عشر حجج على عفة فرجه وطُعمة بطنه) صلوات الله وسلامه عليه، فالمرأة تعف نفسها بالطعمة الحلال، فتتعلم حتى كل شيء يختص بالنساء من حياكة وغزل، ونحو ذلك؛ لتكون صنعة في يدها، تنفع بها نفسها وأولادها، فالمهم نفع الدين والدنيا، فالوقت إما أن يقضى في نفع ديني أو نفع دنيوي، فهذا هو الذي ينبغي على المرأة المسلمة أن تحرص عليه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمارنا وأقوالنا وأفعالنا، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.(43/19)
أخذ الناس بالظاهر والله يتولى السرائر
السؤال
رجل يشك في زوجته أنها لا تصلي، ولكن عندما يسألها تحلف له أنها تصلي عندما يذهب إلى المسجد، فهل برئت بذلك أم لا؟
الجواب
قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكل سرائرهم إلى الله) فإذا رأيت زوجتك تتوضأ وظهرت عليها آثار الصلاة ولم تر شيئاً يناقض هذا الأصل فلا يجوز الشك، وينبغي على المسلم أن يعلم أن هناك عدواً خفياً، وهو الشيطان الرجيم، الذي قعد للبيت المسلم ليفرق شمله، ويشكِّكُك في كل شيء حتى في أقرب الناس إليك، حتى في فلذة كبدك من أبنائك وبناتك: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] هذا من النزغ في القلوب، فاستعذ بالله عز وجل إذا جاءك الشيطان وشكَّكَك بأنها فعلت معصية أو تركت واجباً، فأنت تعظها وتقول لها: يا فلانة! هل صليت؟ تقول: نعم، ممكن أن تأخذ ببعض الأمارات والعلامات وتعمل بها، فإذا عملت بذلك فقد برئت ذمتك، أما إذا وضحت الدلائل، فالصلاة لها نور في الوجه، والمصلون لهم نور في وجوههم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة نور) ونورها لا يخفى، ولذلك كل إنسان مع زوجته يعرف حالها وهي في الحيض، وحالها إذا كانت تصلي، فوجهها في الصلاة غير وجهها في الحيض، وهذا معلوم ويدركه كل إنسان عنده فراسة، وعموماً إذا ظهرت واجتمعت القرائن على صلاتها لا يجوز الشك، فالشك لا خير فيه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) والله تعالى أعلم.(43/20)
دور الأمة عند فقد علمائها
السؤال
إن ذهاب العلماء ثُلمة في هذا الدين، فما هو توجيهكم لطلاب العلم تجاه هذا الموقف حتى تسد ثغرات هذا الدين؟
الجواب
إلى الله المشتكى، إي ورب الكعبة، ثُلمة في الدين ومصيبة في قلوب المؤمنين، لا يجبُر كسرَها إلا الله رب العالمين، العلماء أئمة الدين، الهداة المهتدون، جعل الله بقاءهم رحمة، وقبضهم إليه نقمة وعذاباً على العباد، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من علامات الساعة: (قبض العلماء)، يا لله كم من أمة أحبت ربها وأحبها ربها بسببهم، يا لله كم من أمة زكت وصلحت وأصلح الله بها بسببهم! يا لله كم من ضال -بإذن الله هدوه- وكم من تائه أرشدوه! وكم من غاوٍ دلوه! وكم من حائر أخذوا بحجزه إلى صراط الله! فقدت الأمة علماءها، وأصبحت في غربة في كثير من مسائل دينها، وكان من أعظم ما بلينا به ونشتكي إلى الله مصابه، فقد عالم الأمة وإمامها سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلف أهله في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه.
يبكيه طالب علم كان علّمه وتائه عن سبيل الرشد أرشده نبكي عليه جميعاً إن مفقده لم يبق من مسلم إلا وأجهده سحت على ذلك العبد الرضا ديم من الرضا وأنار الله مرقده رحمه الله برحمته الواسعة، وأنار قبره بأنواره الساطعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء، وفقدت الأمة كذلك العالم الحجة والإمام الصالح: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة، وأنار قبره ونور مضجعه، وجزاه عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء، فكم بين للأمة حديث رسولها صلى الله عليه وآله وسلم، وكم سهرت عيناه وخطت يداه -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- كي يبين للأمة الهدى من الضلال، والحق من الباطل، أسأل الله العظيم أن يُعظم أجره وأن يجزل مثوبته، وأن يلحقنا به غير خزايا ولا مفتونين، ونسأل الله العظيم أن يبارك لنا فيما بقي من علمائنا، وأن يعظم نفعهم، وسلوتنا وجود العلماء الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وأن يبارك في جهودهم وفي طلابهم، وأن يُعظم الأجر لهم في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة في الله! فقد العلماء ثلمة في الدين، ولذلك ينتشر الجهل والبلاء ويعم الفساد في الأمة إذا فقدت علماءها، والعالم الصالح الورع هو الذي ورث العلم عن أهله واتصل سنده إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، فنقصد مشكاة من مشكاة النبوة وعلماً من أعلام الدين، فالإنسان تنزل به النازلة في ظلمة الليل في أهله وزوجه لا يدري زوجته حلالٌ أم حرام، وتنزل به النازلة في متجره وسوقه لا يدري أكان المال حلالاً أم حراماً، وتنزل به النازلة وليس لها إلا الله ثم العلماء، ولا يعلم قدر ما يقدمه العلماء للأمة إلا الله وحده لا شريك له، فهو الذي يجزيهم ويتولى ثوابهم سبحانه، وهو الذي يعلم كم سهروا من أجل أن يحلوا المعضلات ويزيلوا اللبس والمشكلات، وهو الذي يعلم كم جاهدوا وجالدوا وصبروا واصطبروا؛ ولذلك قذف في قلوب العباد حبهم، وأورثهم المحبة التي ينفق الناس من أجلها الملايين من أجل أن يكتسبوها ولم يستطيعوا إليها سبيلاً، ولكن مقلب القلوب والأبصار أورث العلماء محبة الناس لعظيم حبه سبحانه لهم، فالله إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فأهل العلم هم أحباب الله وأولياؤه وصفوته من خلقه.
وأما وصيتي: أولاً: أن نحفظ حق العلماء الذين قُبضوا وأن نكثر من الترحم عليهم، ونذكر حسناتهم، ونكف عن سيئاتهم وعوراتهم، لا نذكرهم إلا بالجميل، فمن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ثانياً: الحرص على نشر علمهم وفتاويهم، وما بلغوه للأمة، فهذا من أعظم الوفاء وخاصة على طلاب العلم.
ثالثاً: على طلاب العلم أن يجدّوا ويجتهدوا وأن يتداركوا من بقي من علماء الأمة، وأن يحرصوا على طلب العلم عليهم، وأن يصبروا في ذلك ويصابروا، ويحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجبر كسرنا وكسركم، وأن يعظم الأجر لنا ولكم وللمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(43/21)
نشوز المرأة وعلاجه
السؤال
كيف يكون وعظ المرأة الناشز على زوجها؟
الجواب
المرأة لا يجوز لها أن تنشز على زوجها، والنشوز هو: الشيء المرتفع، العرب تقول: أرض ناشز، إذا كانت مرتفعة، كالهضبة ونحوها، فالمرأة في الأصل تحت الرجل، هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها؛ لأن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فشرفه بهذا الشرف ثم خلق منه حواء، وقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] هذه حقيقة ينبغي للمرأة المؤمنة أن تُسلم بها تسليماً، وألا يغرها هذه الدعاوى المغرضة لأعداء الإسلام أن المرأة والرجل سواء، هذه حقيقة ينبغي أن تعيها وتكون على بينة؛ لأنها نصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضحة جلية.
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت) فالمرأة الصالحة تدرك هذا، والحمد لله أن نساء المؤمنين يدركن هذا، ولا ينطلي عليهن ما يروجه أعداء الإسلام من مثل هذا، فالنشوز يأتي بسبب الدعاوى المغرضة من أعداء الإسلام لإغراء المرأة أن تكون متمردة على زوجها، وهذا من أسوأ ما وقع في المجتمع الإسلامي، بل في المجتمعات كلها، ولذلك ما صلحت الأسرة المسلمة إلا بهذه الحقيقة، أن تكون المرأة مع زوجها معينة له على كل خير وبر، فقد قادت الأمة العالم من المحيط إلى المحيط لما كانت المرأة مع زوجها كأكمل ما تكون المرأة مع بعلها، تحسن له التبعل، وتحسن له السمع والطاعة، وتحسن له القيام على ولده، وتحفظه في غيبته، فكانت الأمة بخير حال.
فلذلك النشوز شر وبلاء، ولخطر النشوز ذكره الله في كتابه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، المرأة تنشز عن زوجها بصور؛ إما أن تنشز في القول أو في الفعل، النشوز بالقول: ترفع صوتها عليه أو تخاصمه، وبدل أن يأمرها تأمره، بدل أن ينهاها هي التي تنهاه، يقول لها مثلاً: اخرجي من هنا، فتقول: اخرج من هنا أنت، تنشز بالفعل، يقول لها: هذا ضعيه هنا فتضعه في مكان آخر، هذا كله من النشوز، وقد تحدث حركات تدل على التهكم والاستخفاف، فإن فعلت ذلك واسترجلت على بعلها وعصت ربها؛ لُعنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله المترجلات من النساء).
فالمرأة الصالحة المؤمنة التقية النقية تراقب الله في حق بعلها، وأمور الأمة سائرة على هذا الأصل، ولا تظن المرأة أن هذا عيب أو نقص لا والله، بل كمال؛ لأن الله فضّل من فضّل، وجعل في المرأة ضعفاً وهو كمالٌ فيها، فهذا الضعف يحتاج إلى قوة، وهذه القوة هي التي تكون عليك، وهذه فطرة الله، لا تبديل لخلق الله، فإن نشزت المرأة خرجت على الفطرة وخالفتها وأصبحت هي التي تأمر وتنهى، والله يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34].
ونشوز المرأة قد يكون داخل البيت وقد يكون خارجه، فيكون داخل البيت بتغيير أمور ما أذن الزوج بتغييرها، أمرها زوجها في داخل بيتها بأمور -كما ذكرنا- فتخالفه وتعصيه، ويكون خارج البيت بالخروج من دون إذنه، وأيما امرأة خرجت من بيتها من غير إذن زوجها فقد نشزت وعصت، فإذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم يبين حق الرجل في الإذن للمرأة بالخروج من بيته، فقد ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد، فلا يمنعها)، فإذا أرادت أن تخرج إلى الصلاة فلا تخرج إلا بإذن زوجها، فكيف بما سوى الصلاة؟ هذا يدل دلالة واضحة على أن المرأة تقر في البيت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فالأصل أن المرأة لا تنشز عن زوجها ولا تعصي بعلها.
فإذا نشزت جعل الله عز وجل علاجاً لذلك: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ثلاثة حلول: أولاً: الموعظة، تقول لها: يا فلانة! اتقي الله، واعلمي أنك قد عصيت ربك، يا أم فلان! إن الله عظم حقي عليك، يا أم فلان ما هكذا تكون الزوجة، فيعظها ويذكرها بالله عز وجل ويخوفها من عقوبة الله العاجلة والآجلة، فإذا ذكّرها ووعظها المرة والمرتين والثلاث، فإنه يعظها بالقول المؤثر؛ لأن الإسلام فيه ترغيب وترهيب، الموعظة بالترغيب يقول لها: أنت أكمل من أن تكوني بهذه الحالة، كنت جميلة بعيني وأنت مطيعة، فكيف تغير حالك اليوم، ولا يقول لها: لست جميلة أو يذمها، يقول: والله إني أرى فيك اختلافاً، فأنت قد أحسنت بالأمس وكنت على كمال وإكرام! ما أجملك -بالأمس- وأنت مطيعة! فالمرأة تغار، فيحرك فيها المحبة بأكثر من أسلوب، فيبدأ بالأسلوب الأخف فالأخف، لأن أئمة الإسلام قرروا قاعدة أنه لا يجوز استخدام العقوبة الأعلى مع وجود ما هو أخف منها، والله عز وجل دل على هذا: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34].
بعض النساء يؤثر فيهن المدح، يقول لها: ما شاء الله كنتِ بالأمس من أحسن وأكمل النساء في نظري! -والمرأة من أحسن النساء في نظر زوجها؛ لأنه ما عنده غيرها- فتقول له: واليوم؟ فيقول: أنت أدرى.
هذا جواب واضح، وعتاب وتوبيخ مضمّن، وهذا أسلوب من أكمل الأساليب، فالإنسان الحكيم العاقل، يحاول ألا يصل إلى الوعظ بالذبح، بل يكون وعظه مهذباً كاملاً، كما ذكرنا في صفات الواعظ، فبدأ الله بالموعظة، ثم ذكر بعد ذلك الهجر في المضجع، ثم إذا أعيت الحيلة يضربها ضرباً غير مبرح، ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يعنف تعنيفاً يؤذيها، وإنما يضربها الضرب الذي يؤثر في مثلها، ويردعها عن غيها وخطئها، والله تعالى أعلم.(43/22)
خطوات في دعوة الأسرة
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو دور الابن تجاه إعراض الأسرة أو أحد أفرادها عن دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
إن الموعظة قد تكون من الابن لوالديه، وتكون منه لإخوانه وأخواته، والواجب عليه أن يترسّم النهج الذي ذكرناه، يبتدئ أولاً: بالإخلاص لله عز وجل.
ثانياً: يتعلم العلم النافع، ويسأل العلماء ما الذي يأمرهم به، وما الذي يبدأ به، ويبين لهم بعض الأخطاء الموجودة، ولا يقول: أبي يفعل وأمي تفعل، حتى لا يغتاب أباه أو أمه، بل يقول: هناك شاب له أب يفعل كذا وكذا، وهناك والد يفعل كذا وكذا، فيكون ذكياً حتى في سؤاله، حافظاً لحرمة والديه، لا يكشف ستر الله على أهله وأسرته.
ثالثاً: بعد تعلمه عن طريق العلماء وجلوسه في حلق الذكر وبعد علمه ما الذي ينبغي أن يبتدئ به؟ ينبغي أن يعلم أن الحق أكبر من كل أحد، وأن الله سبحانه وتعالى أمره إذا علم أن يُعلم غيره، فلا تأخذه هيبة الوالد والوالدة، فالحق أكبر وأعظم، وينبغي عليه أن يكون جريئاً على طاعة الله، ولكن مع الأدب، فإن إبراهيم يقول لأبيه: يا أبت ناداه بالأبوة، ما قال: يا فلان، وإنما ناداه بالأبوة اعترافاً بالفضل وبالجميل، والله يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] (إن جاهداك) أي: كانوا في جهاد من أجل إغوائك، ومع ذلك يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فينبغي على الابن أن يبدأ بنصيحته ولا يتهيب.
رابعاً: ينظر أقرب الأسرة إلى الخير، فبعض الأحيان تكون الأسرة عاصية ولكن قد يكون الأب والأم أقربها قلباً، وقد تكون الأخت أو الأخ، فيبدأ بأقربهم إلى الخير، ولا ينصحه أمام الغير، وإنما ينصحه على خلوة وانفراد ويعظه ويذكره بالله عز وجل، سواءً كان تذكيراً مباشراً، أو تذكيراً بواسطة شريط مؤثر أو موعظة بليغة ونحو ذلك مما يعين الله عز وجل ويبارك فيه.
وعليه -أيضاً- أن يحرص كل الحرص على عدم تنفير أهله وإخوانه؛ لأن الأقربين لهم حق عظيم، وأفضل ما تكون الموعظة موعظة الأقربين، وأعظم أجر وثواب للداعية إلى الله هو الداعي لأهله، ولذلك قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فالنصيحة والموعظة والدعوة إلى الله في الأقربين أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى من غيرهم، وواجب عليه أن يحتسب عند الله عز وجل الأجر، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل.
خامساً: مسألة القدوة، الابن الذي يأتي ويجلس بين يدي أبيه فيشعره بأنه أب وهو أولى بالتقدير، ويكون أحسن الأبناء في البيت براً وإحساناً، ربما يغير البيت بفعله قبل أن يغيره بقوله، كم من أب رأى ابنه تغير في تصرفاته واحترامه وإجلاله وتقديره، فقال له في يوم من الأيام: يا بني! ما الذي غيرك بهذا الشكل؟ فيجيب: يا أبت! جلست في مجلس الشيخ فلان فأثّر فيَّ، فقال له: اذهب بي إلى فلان، فهدى الابن أباه بدون أن يتكلم وأخذ بحجزه عن النار دون أن يعظ، وهذا كله من توفيق الله عز وجل للابن الصالح الموفّق الذي يؤدي حق والديه كاملاً، وحقوق إخوانه وأخواته أيضاً، ويظهر لهم التزامه وطاعته وهدايته، فيبدأ بالبشاشة والمودة والمحبة والهدية وتأليف قلوبهم للخير، فهذا هو الذي ينفع الله بدعوته، وتأتي الموعظة في آخر شيء فتكسر الأقفال وتلك القيود المغلقة والآذان الصماء حتى يفتح الله عز وجل ويتأذن برحمته وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.(43/23)
درجات إنكار المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فرضه الله؛ لكن لابد لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يتحلى بصفات، منها: الإخلاص لله تعالى دون ما سواه، واستشعار الأجر من الله، وأن يكون قدوة في القول والعمل، ولابد للداعية من شيءٍ مهم، ألا وهو التحمل والصبر على ما يجده من الناس في سبيل الدعوة إلى الله.
ولإنكار المنكر شروط ومراتب يجب مراعاتها، والإتيان بها وفق ما بينها الشارع، والأخذ بمراتبها حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة؛ حتى تتحقق المصلحة المرجوة من هذا الإنكار، وتقام الحجة.(44/1)
وصايا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفي بداية هذا اللقاء أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي فضيلة الشيخ كل خير, فإنه كان له الفضل بعد الله عز وجل في تيسيره والدعوة إليه, وأسأله تعالى أن يشكر سعيكم وأن يعظم أجركم وأن يجزل لنا ولكم المثوبة وأن يجمعنا جميعاً في دار كرامته.
أيها الأحبة في الله:(44/2)
الاهتمام بقضية القدوة الصالحة
وقبل أن نخوض في كيفية قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن نركز على أمر ثالث مهم جداً لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر, هذا الأمر هو: القدوة الصالحة.
فالإنسان إذا أراد أن يأمر بما أمر الله به, وأن ينهى عما نهى الله عنه, ينبغي أن يخاف ويخشى أن يمقته الله جل جلاله, وأن يجعله ممن -والعياذ بالله- يأمرون ولا يأتمرون, وينهون فيفعلون ما ينهون عنه -نسأل الله السلامة والعافية- أولئك الذين سمّى الله وحذر عباده منهم، فقال سبحانه وتعالى يعتب على بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أليس لديكم عقول تعقلكم وتحبسكم عن هذا الأمر الذي هو ضرب من الغي والهوى والضلال؟ نسأل الله السلامة والعافية.
لا يمكن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يضع الله له القبول في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى يكون قدوة, وهذه القدوة ظاهرة بينك وبين الناس, إذا أحب الناس العبد هابوه, والهيبة بالمحبة لها أثر في السلوك والتقويم والتوجيه.
ولذلك لما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام كمل أخلاقه وجمل آدابه وانعقدت القلوب على حبه, والشهادة له بالخير والصلاح والقدوة الحسنة, فكان يسمى بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
فإذا أراد الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فينبغي أن تظهر شمائل الإسلام وآدابه وأخلاقه ورحمته وفضله وبره وجميع ما فيه من خير من خلال أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته, فإذ سمع الناس كلام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, فإنهم أول ما ينظرون إلى أخلاقه وأفعاله وآدابه, فإن وجد التوافق بين القول والفعل أحبوه وهابوه, ووقع ذلك الكلام موقعاً بليغاً في النفوس, ليست القضية أن نتكلم ولكن القضية أن نكون دعاة ونحن صامتون, قال بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم وكان من العلماء العاملين، قال لطلابه يوماً من الأيام: ادعوا الناس وأنتم صامتون, قالوا: كيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: تأدبوا بآداب الإسلام, وتخلقوا بأخلاقه، وادعوا الناس بأفعالكم قبل أن تدعوهم بأقوالكم.
الرجل الكامل المهذَّب الفاضل، الذي إذا رأيته كأنما ترى أخلاق الإسلام وآدابه إذا سمعته أو تفقدت أحواله كأنك تذكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم, تظهر من خلال الأقوال والأفعال والسلوك والتصرفات، وتجده في مجتمعه محبوباً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محبوباً لا تنفر القلوب منه, ولا تمله ولا تسأمه, ومن رآه أحبه, إذا قابل الناس يقابلهم بالبشر والسرور، قال جرير بن عبد الله: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) , فالرجل إذا كانت آداب الإسلام في وجهه وأخلاقه وأفعاله أَثَّرَ, قال أنس رضي الله عنه وهو صبي صغير يقوم على شأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم, ولا قال لي يوماً قط: أف).
انظروا! هذا بالنسبة لصغار الناس ما قال له قط: أف، وهو أنس وناهيك عن أبي حمزة رضي الله عنه وأرضاه فضلاً ونبلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما بالنسبة لـ جرير فمن كبارهم, وأما بالنسبة لأهله وزوجه تقول عائشة رضي الله عنها: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وضع بين يديه) , ما كان يتكلم ولا يجرح المشاعر من كمال أدبه وأخلاقه وشمائله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
الإسلام والدعوة بالأعمال والأخلاق والآداب, الرجل إذا رأى شمائل الإسلام من خلال الأقوال والأفعال تأثر, بعض الناس يدعو ولو لم يتكلم, فالناس فيهم فطرة، وهذه الفطرة جبلوا فيها على حب الخير والقرب منه وتعظيم صاحبه, وعلى كراهية الشر والنفرة منه واحتقار صاحبه -مهما كان- مهما رأيت لأهل الشر من تعظيم فإنه في الظاهر, وأما في القلوب أو عن قناعة فلا, ومهما رأيت من خير فاعلم أن في الباطن تعظيمه وحبه؛ لأنها فطرة الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير, ولن تجد لها تحويلاً ولا تبديلاً.
فالقلوب تنتظر قبل الكلمة الفعل, فليحرص الإنسان على تطبيق شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه, فالسنة أصبحت اليوم غريبة بين الناس, حتى أصبحت غريبة بين الأخيار فضلاً عن غيرهم, فالناس إذا رأوا من هذا الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شمائل الإسلام, أحسوا عندما ينهاهم أنَّ وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه قلباً يخاف الله جل جلاله, وأن وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه حب الخير, وليس المراد به الشماتة والاحتقار والانتقاص والغفلة عن الذات والنفس, {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فلا يوفق إلا الله سبحانه وتعالى.
إذاً لا بد من أن نقدم بالقدوة الحسنة التي فيها التأثير, ويكون لها عمق الأثر في النفوس.(44/3)
الصبر والتحمل
الأمر الرابع: أن نهيئ أنفسنا للدعوة إلى الله, وتهيئة النفوس للدعوة إلى الله عز وجل تدور حول نقطة مهمة من أهم النقاط وهي: الصبر والتحمل, فإنك تقوم برسالة عظيمة وأمانة جليلة جسيمة تحتاج إلى صبر, ولذلك قال الله لنبيه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
الإسلام بشمائله وآدابه ومعاملاته وعباداته ثقيل, قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] يحتاج الأمر إلى صبر وإلى جلد.
أقوى وأعظم صبر هو صبر النفوس الذي يكون بتمالك النفس عند الغضب, وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فلا بد من الصبر والتحمل الذي أشار إليه لقمان وهو يوصي ابنه: {أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] أي: اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وراءه التعب والعناء والنصب, يكون التعب نفسياً؛ لأنك تتحمل هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مثلاً: لو كان في نطاق حيك أو مسئوليتك منكر فإنك ستحمل همين: أولاً: جمع النصوص والأدلة التي اعتنت بمعالجة هذا المنكر, فتتأملها وتنظرها وتبحث فيها، فهذا همٌ يحتاج إلى صبر على العلم والبصيرة التي تأمر بها وتنهى.
ثانياً: تحمل هم المواجهة: كيف تواجه؟ كيف تتكلم؟ كيف تقف في وجه الإنسان؟ ولذلك سأل موسى عليه السلام ربه أن يثبت قلبه لهمّ المواجهة، ولذلك قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] فلا نستطيع أن نفعل شيئاً إلا بالله جل جلاله، قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28] , فإذاً لا بد للإنسان أن يتحمل هذا الهم.
بعد ذلك تأتي النتائج والآثار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيأتيك السفيه بسفهه, والإنسان الغوي بغيه وفجوره, ويأتيك الناس على اختلاف طبقاتهم, وعلى اختلاف منازلهم في مجابهة الخير وكراهيته، والتنفير منه وسوء الظن بأهله, وهذا يحتاج إلى صبر, ونفس قوية وشكيمة وعزيمة.(44/4)
الإخلاص شرط العبادة وأساسها
هناك أمر هو أهم الأمور، به تطمئن القلوب وتنشرح الصدور, هو أساس الدين ووصية الله للخليقة أجمعين, هذا الأمر جعله الله قاعدة الفلاح ومنبع الخير والإصلاح, ما هدى الله قلب عبد إليه إلا سدده ووفقه, وأرشده ويسر له, هذا الأمر هو الإخلاص لله جل جلاله, فاتحة الأمور وأساس كل خير, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليخلصوا له وليوحدوه سبحانه وتعالى.
الإخلاص الذي جعل الله فيه السعادة والنجاة والخلاص, اختار الله منا قلوبنا فلن ينظر إلى ألواننا وأحسابنا وأنسابنا ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا, من تكلم وعمل لله أسعده ووفقه وسدده وثبته, وهي وصية الله للأولين والآخرين, التي عليها مدار كل خير, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه.
أول ما ينبغي أن نتواصى به جميعاً وأن يشد بعضنا من أزر بعض فيه؛ تصفية القلوب لله جل جلاله, الداعية المخلص لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لله في قوله فتح الله له القلوب, وشرح الله له الصدور، وأصبحت كلماته ومواعظه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه كالغيث لتلك القلوب, يحيي الله عز وجل به تلك القلوب بما نظر من إخلاصه وإرادة وجهه العظيم, قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله, وإذا عمل عمل لله] وقال بعض السلف: كم من عمل قليل كثرته النية.
الإخلاص خير وبركة ورحمة وهدى, إذا نظر الله إليك وأنت تأمر واطلع على قلبك فلم يجد فيه شيئاً سواه جل جلاله, بارك في هذا الكلام, وتلقته الملائكة في صحيفة عملك؛ لكي تراه خالصاً لوجهه الكريم، في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] هل أرادت وجه الله، أو أرادت أي شيء سواه؟ الإخلاص هو الوصية الأولى التي لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها عبدٌ صالح, ونحتاج دائماً أن نتواصى بهذا الأمر العظيم, نحتاج دائماً أن نكون مخلصين، فبمجرد أن تخرج من بيتك تخرج وليس في قلبك إلا ابتغاء وجه الله, وبمجرد أن تقعد في عملك تقعد وليس في قلبك إلا رجاء رضا الله, وإذا تكلمت جعلت الله نصب عينيك, وإذا عملت جعلت الله نصب عينيك, فيشرح صدرك وييسر أمرك {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] كم فتح الله بالإخلاص من القلوب! وكم أنار به من مناهج ودروب! كل ذلك بالإخلاص, ولما أخلص الأئمة والسلف الصالح جعل الله الخير في كلامهم ومواعظهم وأوامرهم ونواهيهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بالإخلاص لوجهه الكريم.
أيها الأحبة في الله: إنه والله لشرف عظيم, أيُّ أمانة حملتموها؟ وأي مسئولية قُلدتموها؟ حينما حملتم هذه الرسالة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هذه الرسالة التي تولى الله أمرها من فوق سبع سماوات, فأمر سبحانه بالمعروف ونهى عن المنكر, فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة على الله بعد هؤلاء الرسل, ولكي تقوم عليهم الحجة وتنقطع عنهم المعذرة, تولاها الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين, كانوا حملة النور؛ اطمأنت بهم القلوب وانشرحت بهم الصدور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كانوا يأمرون بما أمر الله به, وينهون عما نهى الله عنه, فرفع الله ذكرهم وأعز شأنهم وأبقى في القلوب حبهم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أهم الأمور وأعظمها في قلوب الأخيار والصالحين, فكما أنه رسالة الكتاب والسنة التي اعتنى بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد اعتنى بها العلماء والحكماء والأخيار والصلحاء, وإذا أردت أن تنظر إلى مقام الإنسان في دين الله عز وجل ومقدار تعظيمه لله سبحانه وتعالى فانظر إليه في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأنه إذا عظم الله في قلبه عظم أمره ونهيه, فكان وجهه يتمعر لله سبحانه وتعالى إذا انتهكت حرماته, وكان لسانه ينطلق بالتذكير والموعظة والتوجيه والإرشاد والدلالة على الله سبحانه وتعالى؛ لعظيم شعوره بعظمة الله سبحانه وتعالى وعظيم حقه جل جلاله.
ولذلك وصَّى لقمان ابنه فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فأمره أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر, فهي الرسالة السامية والمرتبة الشريفة الكاملة العالية، التي ينال الإنسان بها الفلاح، قال سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
فشهد الله أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه مفلح، وإذا شهد الله لعبد أنه مفلح فهو المفلح, فلا أصدق من الله حديثاً ولا قيلاً.
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مرحوم في رحمة الله, متى ما تكلمت بما أمر الله به ومتى ما نهيت عما نهى الله عنه, فأنت تخوض في رحمة الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أي: لما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فإني سأرحمهم, ولذلك تجد الإنسان كلما أقام حجة الله على عباده أصابته الرحمة, وجعل الله عز وجل في قلبه من الطمأنينة والثبات واليقين، ولا يزال المبلغ لرسالة الله الآمر بما أمر الله الناهي عما نهى الله عنه لا يزال له من الله معين وظهير متى ما كان مخلصاً لوجه الله سبحانه وتعالى.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من الخسارة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فلذلك -أيها الأحبة في الله- نحمد الله من كل قلوبنا, ونشكره على عظيم فضله علينا حينما يسر لنا وسهل لنا أن نبلغ رسالته, وأن نقيم حجته, وإنه لمن دلائل حب الله للعبد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يضع له القبول في الأرض, فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لوجه الله عز وجل، وعلم الله من قلبه أنه يريد وجهه ويريد ما عنده؛ فتح له أبواب الخير, ويسر له الدعوة، ووضع له القبول في الأرض, ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه).
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ذلك الرجل.
تصور! لو أنه نودي في السماء: إني أحب فلاناً باسمك، أليس هذا شرفاً عظيماً ومقاماً كريماً؟ قال: (فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً -باسمه- فأحبوه, فيحبه أهل السماء، قال صلى الله عليه وسلم: ثم يوضع له القبول في الأرض).(44/5)
استشعار فضل مقام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
الوصية الثانية بعد الإخلاص الذي كان حديثنا عنه في النقاط الماضية: أن نستشعر فضل هذه الرسالة وفضل هذا المقام, فنحن إذا أخلصنا لوجه الله وشعرنا بأن الله نفحنا برحمته, ووهبنا نعمته, أجللنا هذه النعمة وأحسسنا بعظيم فضلها, فشعر الإنسان أن عليه واجباً لله سبحانه وتعالى, وعندها يستطيع أن يقوم بهذه الأمانة على أتم وجوهها.(44/6)
دعامتا الصبر
ثم إذا يسَّر الله عز وجل للإنسان الصبر فإنه يحتاج إلى أمر مهم يقوي قلبه على الصبر, هذا الأمر يتلخص في نقطتين: الأولى: عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة.
والثانية: ما ينتظرك عند الله جل جلاله, فلربما أنك هذا اليوم تهان وتسب وتشتم فتغيب عليك الشمس وقد كتب في صحيفة عملك: يوماً من الأيام أوذيت فيه في الله.(44/7)
عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة
أما أمر الدنيا فإن الله تكفل لك بالعاقبة, لن يقف أحد يبلغ رسالة الله جل جلاله فيؤذى ويهان إلا جعل الله عاقبته أفضل العواقب, وأسماها وأشرفها، ولو احتقره الناس, ويظهر ذلك جلياً من قوله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يعني: لا تنظر إلى حالك الآن، ضع النظرة إلى الغد، ولا تنظر إلى حالك فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُمي الساحر والأفَّاك والأبتر والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين, واسمه صلى الله عليه وسلم يقرن بالنداء: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] , ليس المهم أن تهان الآن, وليس المهم أن يسخر منك الرجل اليوم, ولكن الأهم ما هي العاقبة؟ ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ أذكر حادثةً لطيفةً يقول فيها عروة بن الزبير رحمة الله عليه -هذا الإمام العظيم من أئمة السلف- كلمة تنبه على هذه النقطة: [والله ما من عبد يقف موقفاً لله فيهان فيه، إلاَّ أوقفه الله موقفاً أعز منه وأكرم] وتوضيح ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فريد في قلة وضعف من أصحابه, والرسالة أيامها سرية، والدعوة سرية، فجاءه أمر الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] , فوقف عليه الصلاة والسلام على الصفا فنادى في قريش فعمم وخصص أي: نادى بطون قريش كلها, فجاءت بطون قريش بقضها وقضيضها ووقفت بين يديه, فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال كلمته المشهورة: (قولوا: لا إله إلا الله) هذه الكلمة التي قامت عليها السماوات والأرض، ومن أجلها سيكون الحساب والسؤال والعرض, هذه الكلمة العظيمة التي من أجلها خلقوا ومن أجلها بعثوا، لما قالها لهم كان جواب أبي لهب عليه لعنة الله أن قال له على رءوس الأشهاد: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ تصوروا -أيها الأحبة في الله- النبي صلى الله عليه وسلم على رءوس الناس, ثم يقول له على رءوس الملأ: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ وهو عمه, وحينما تأتي الأذية من قريب لك تكون الأذية صعبة جداً, فظلم ذوي القربى أشد من ظلم الأبعدين؛ لأن القريب لا تستطيع أذيته؛ لأنك إن آذيته كأنما آذيت نفسك, فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! فاحتقره وسفهه وآذاه.
ثم تمضي الأيام وتتابع السنون والأعوام، فيوقف الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الصفا -التي بالأمس شتم عليها وأهين- ومعه مائة ألف من أمته وأصحابه، كلهم يقول: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رده الله إلى مكة عزيزاً كريماً رفيع الذكر, يقول أنس: [أنظر أمامي فإذا الناس مد البصر, وأنظر وراءي فإذا الناس مد البصر, كلهم يقولون: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] ولذلك لما رقى على الصفا كأنه ذكر ذلك اليوم الذي كُذِّب فيه على الصفا فكان أول ما رقى عليها قال: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) عظمت عنده، فالعاقبة من الله مضمونة, فالذي يقوم برسالة الله ويؤدي حجة الله على العباد، مهما جاءه من المهانة والمذلة فمهانته كرامة, ومذلتة معزة, لا تنظر إلى كلام الناس واحتقارهم وأذيتهم ولكن انظر إلى عاقبتك عند الله جل جلاله.
فهذا فيما يكون في الدنيا, ولذلك كلما وجدت الإنسان يقوم لله بحجته ويبلغ لله عز وجل عظيم رسالته، وجدت الله عز وجل يضع في قلوب العباد حبه والهيبة منه والقبول له، ووجدته في أسمى المنازل, الناس تشتري السمعة بالأموال, ولكن العلماء والدعاة إلى الله والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر نشر الله ذكرهم, وأبقى في العباد حبهم بما قدموا لله جل جلاله من صالح القول والعمل.
لا تنظر إلى كلام الناس ولا يهمك أن يتكلم من تكلم, فإن اللسان الذي يتكلم على الحق أخرس، ولو كان صاحبه أبلغ الناس, واللسان الذي يقف في وجه الحق مقطوع ولو بعد حين, ولذلك قطع الله دابر المجرمين, وقطع الله دابر المفسدين, وجعل العاقبة للمتقين, فهذا أمر مهم جداً لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.(44/8)
عاقبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
أما بالنسبة للعاقبة التي تكون، فإن الإنسان إذا أهانه أحد أو تكلم عليه أو عنفه أو وبخه فما عليك، فأنت بريءٌ من المسئولية إذا كنت تسير على نهج الله عز جل, مثلاً: لو مررت على رجل فأنكرت عليه منكراً أو غيرت منكراً, فقال: يا ظالم أو قال يا كذا فسبك وشتمك وأهانك فإنما يتسلط على الحق, ولا يتسلط عليك؛ لأن الذي فعلته هو أمر الله جل جلاله, والذي نهيت عنه هو نهي الله جل جلاله, فالشتم الذي يكون منه والأذية ليس في عرضك منه شيء, وأنت في سلامة منه، ولكن الله هو الذي يتكفل بأمره, ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يهين أحداً من أولياء الله عز وجل والدعاة والهداة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يسلم من سوء الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- وقل أن تجد إنساناً يحتقر العلماء أو يتنقصهم أو يذمهم أو يحاول دائماًَ أن لا يمكنه من دعوته إلى الله عز وجل أن يسلم كذلك من سوء الخاتمة كما يحصل لبعض الفساق حينما يؤذيك بلسانه أو يحتقرك أو يشيع في حيه أنك شديد وأنك عنيف كل هذا لا تبالي به, لكن المهم للداعية والآمر بالمعروف أن يوطن نفسه على هذه الأمور حتى يصبر؛ لأنها عزيمة على الرشد، وتقوي النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى, وتقويها على محبة الله جل جلاله.
ثم لنا قدوة في الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم، حينما أوذوا في الله, وكان لهم ما كان, فأعظم الله أجرهم, قال الله تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
الأولى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69] وهنا أذية، ومعناها: إذا أوذي موسى فإننا سنؤذى، هذا هو الأصل الذي نتكلم عليه أولاً.
ثم قال تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] فالذي برأ موسى سيبرئك؛ لأن الرسالة واحدة والمصدر واحد.
الثانية: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] قال بعض العلماء: من أمر بطاعة الله ونهى عن معصية الله فأوذي؛ فإنه وجيهٌ عند الله سبحانه وتعالى, وله كرامة عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.(44/9)
شروط إنكار المنكر
إذا علمنا هذه الأمور التي ينبغي أن يوطن بها الداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر نفسه فالمنكر الذي أمامنا لا بد فيه من أمور:(44/10)
أن يدل دليل على أنه منكر
أولها: أن يدل دليل الكتاب أو دليل السنة الذي هو الدليل الشرعي على كون هذا الأمر منكراً, فإذاً لا بد من ثبوت الدليل على كونه منكراً, فإذا ثبت الدليل على كونه منكراً؛ فحينئذٍ توجه الخطاب علينا: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) , وهذا الحديث فيه نقاط مهمة: النقطة الأولى: علمنا أنه لا بد أن يكون منكراً, فكون الشيء -مثلاً- مختلفاً فيه ويرى الشخص أنه جائز وحلال وهناك -مثلاً- عالم من أهل العلم مشهود له بالعلم عنده دليل وحجة على كونه حلالاً، وأنا أعتقد أنه منكر لكن كونه هو يقلد عالماً يعرف بتمسكه بالكتاب والسنة ويفتيه بأنه ليس بمنكر وليس بحرام فهو يتعبد الله بما ظهر له، فهذه مسألة مهمة جداً.(44/11)
التثبت من وجود المنكر
النقطة الثانية: قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا) ومعنى رأى أي نتأكد, ونتحقق, ونتثبت, لا نعجل في الناس، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فقط التبين والتثبت, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إلا أن تروا منكراً عندكم فيه من الله برهان) جمع بين الأمرين, كوننا نرى فلا نتتبع الظنون, وكونه يكون منكراً عندنا فيه من الله حجة وبرهان.
وهذه أصلاً طبيعة إنكار المنكرات، فكل إنسان إذا ابتلي بعمل فسيتأثر من خلال عمله, وكانوا يقولون -مثلاً- القاضي من كثرة ما يمر عليه من جرائم الناس والفحش وما يقع منهم من مصائب، ربما يصبح عنده نوع من ردة الفعل؛ لأنَّ الإنسان ضعيف والنفس البشرية ضعيفة قد يتعجل وما يتحمل فيقول: لا يسلم من الناس إلا القليل, بسبب ما يرى وقد يرى أناساً سيماهم الخير ويقعون في المنكرات.
فطبيعة معالجة المنكرات والوقوف فيها قد تجعل الإنسان يصل إلى درجة يتحسس فيها أكثر من اللازم, وهذا نبه عليه العلماء في إنكار المنكرات, فكوني أتعامل مع المنكرات، يقتضي مني ألا أتعجل، والسبب في ذلك أن أعراض الناس محرمة, وقد قرن الله العرض بالدم، ففي خطبة حجة الوداع يقول صلى الله عليه وسلم في الخطبة المشهورة التي ما قام النبي صلى الله عليه وسلم في أمته مقاماً مثلها, وقد جمع الله فيها الأمة عليه صلى الله عليه وسلم، وما جمع الله مجمعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم مثل حجة الوداع، فكان فيها أن قال للأمة: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم) فجعل العرض مقروناً بالدم, فكما أن دم المسلم حرام وماله حرام كذلك عرضه حرام.
ولذلك عظم الله أمر العرض، وقطع بالكلام في الأعراض شهادة الشاهد, فالذي يقذف -والعياذ بالله- بلسانه غيره بالزنى ولا يقيم البينة ولو كان من الصحابة فإنه يجلده؛ لأن الله خاطب به الصحابة، يقول العلماء: ولو كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقم أربعة فإنه يجلد, كما فعل عمر رضي الله عنه بأبي بكرة رضي الله عن الجميع, ليس هناك مجاملة في أعراض الناس, أعراض الناس محترمة، ولذلك عظم الله عز وجل ذلك في كتابه فنهى عن الظن: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] ومعنى هذا: أن القليل من الظن يصيب، والكثير فيه خطورة, وخلل على الإنسان ينبغي أن يتنبه له, توضيح ذلك: أن الإنسان لا يقدم على تتبع شيء إلا إذا احتفت قرائن قوية على وجود هذا الشيء وظهرت القرائن فالشريعة تُعمل القرائن القوية, لكن إذا لم يكن هناك دليل بين وواضح فالأصل في المسلم سلامته, وعدم المساس بعرضه إلا بحجة ودليل, ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تتبع العورة فقال: (إنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) , فإذاً الأصل أننا نقول في المسلم: أنه سالم حتى يدل الدليل على وجود خلل فيه أو نقص.(44/12)
ضرورة إنكار المنكر
(من رأى منكم منكراً) إذا ثبت عندنا أنه منكر، وتحققنا أن هذا مما لم يأذن الله عز وجل به ورسوله عليه الصلاة والسلام ورأينا واطلعنا, قال صلى الله عليه وسلم: (فليغيره) فالأصل عندنا في المنكرات أن لا تبقى، وأنه ينبغي أن نهيئ كل السبل والأسباب للقضاء على المنكر؛ لأن المنكر فساد في الأرض، والله لا يحب المفسدين, وكذلك المنكر حجر عثرة دون الخير, فما من بدعة تظهر إلا وماتت مقابلها سنة, وما من شر يظهر إلا ومات مثله من الخير, ولذلك ضرب الله القلوب بعضها ببعض حين غفلت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فالأصل أن المنكر يغير, وهذه قاعدة وأساس في الدين, جعله الله سبباً في فلاح هذه الأمة، بل وفي نجاتها كما في حديث السفينة الذي تعلمونه.
فإذاً (فليغيره) يدل على أن الأصل في المنكر أنه يغير.(44/13)
مراتب تغيير المنكر
ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا التغيير قال: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فكون النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأمور مرتبة يدل على فائدة مهمة وهي: أن قضية تغيير المنكرات لم يسندها الله لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل, بمعنى: أنه لا يتحكم فيها أحد باجتهاده, ولكن أوحى إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بهذه الثلاث المراتب: تغيير باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب, (وليس وراء ذلك مثقال خردلة من إيمان) إذا لم يغير باليد، ولا باللسان، ولا بالقلب فليس وراء ذلك مثقال خردلة من إيمان.(44/14)
الإنكار بالقلب
النقطة الأخيرة التي هي التغيير بالقلب, فالقلب هو آخر المراحل, فالإنسان إذا أعيته الحيلة أن ينكر بيده أو ينكر بلسانه، فإنه لا يجوز له أن يتخلى عن الإنكار في القلب, فإن الحب في الله والبغض في الله, من أوثق عرى الإيمان فتحب في الله ولو كان أبعد الناس منك نسباً، تحبه لأنك تراه على طاعة الله والاستقامة, وتبغض في الله ولو كان أقرب الناس منك، فما نفع ابن نوح بنوته لنوح عليه الصلاة والسلام, ولا نفع زوجته كونها زوجة له، ولذلك تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه لما أشركوا بالله عز وجل, ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة من حديث أنس في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب الرجل لا يحبه إلا في الله ... ) فهذه قاعدة الولاء والبراء, بمجرد أن تعلم أن إنسان يتعاطى المنكر تبغض فعله, أما هو فهو مسلم وأخوك في الإسلام, ولا تيئس ولا تقصر في دعوته وهدايته وإرشاده, وتبذل كل ما تستطيع لكن كما قيل لـ أبي ذر: [أتبغضه؟ قال: لا.
إنما أبغض عمله] يعني فعله هو الذي يبغضه.
ولذلك ربما ترى إنساناً يشرب الخمر -والعياذ بالله- أو يزني ولكن فيه خير, ابتلاه الله سبحانه وتعالى بهذا الابتلاء فلم يخرج من دائرة الإسلام, يشهد بذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما جلد شارب الخمر سبه الصحابة وعابوه, فقال صلى الله عليه وسلم: مه -كلمة زجر وتوبيخ- لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم إنه يحب الله ورسوله) , وفي هذا يقول العلماء: فيه دليل على تعظيم أعمال القلوب, فإن ظاهره فيه إساءة, لكن لما انعقد باطنه على حب الله ورسوله عظَّم الله هذا منه, ولذلك الرجل الذي قتل مائة نفس آخرها عابد -نسأل الله السلامة والعافية- ملوثة يده بسفك الدماء البريئة, حتى إذا كان في آخر عمره خرج بنصيحة العالم الذي قال له: ما يمنعك من التوبة هو إن قريتك قرية سوء, وقرية بني فلان بها قوم صالحون فارتحل إلى تلك القرية, فخرج في آخر عمره، لكن خرج بقلب تائب إلى الله جل جلاله, فحضره الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, ملائكة العذاب تقول: قتل مائة نفس آخرها عابد, وملائكة الرحمة تقول: إنه تاب إلى الله, يقول بعض العلماء: فعظمت عند الله نيته الصالحة؛ لأنه تاب وأناب وأقبل على الله سبحانه وتعالى, حتى الخطوات التي خطاها قربه الله بها إلى رحمته, ما وُجد قريباً إلى قرية الصالحين إلا قدر شبر, وفي رواية: فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي, وإلى هذه أن تقاربي.
معناه: أنه كان قريباً إلى قرية الشر, فانظروا إلى رحمة الله بعباده، وقد قال تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وهذا خطاب للعصاة والمذنبين الذين أسرفوا على أنفسهم.
فالمهمة والهدف أن نأخذ بالقلوب إلى الله جل جلاله.
والوصية الأخيرة التي أختم بها هذه الكلمة: أن نعمة من الله سبحانه وتعالى يتذكرها الإنسان إذا حجز عبد عن النار بسببه, تصور لو أن الله قيضك لإنسان في غيه وفجوره وانتزعته هذا الفجور إلى رحمة الله سبحانه وتعالى.
التنبيه على نقاط مهمة مثل: جذب الناس إلى حلق العلماء, فلا نقتصر على الأداء العملي, لا بد من التوجيه, قد ترى أمامك إنساناً عاصياً فتدله على حلقة عالم, تدله على من يعينه على تجديد التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى, فلا نقتصر على الإجراء الشكلي, بل ينبغي أن يكون عندنا توجيه, ويكون عندنا إرشاد، ودعوة إلى الخير ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, وأن يجعلنا ممن وفق للقول السديد والعمل الصالح الرشيد, إنه ولي ذلك وهو على كل شيء شهيد, وأسأل الله العظيم أن يجزي المشايخ ويجزيكم كل خير على ما تكبدتم من مشقة الحضور.
وختاماً أسأل الله أن يجعل ما قلناه وعملناه خالصاً لوجهه الكريم ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/15)
درجة بين الإنكار بالقلب والإنكار باللسان
قال العلماء: يدخل في التغيير بالظاهر أحياناً أن تغير منكراً ولا تتكلم, وهي الدرجة التي بين القلب وبين اللسان, مثلاً: تغير الوجه، والعبوس في وجه المبتدع, والعبوس في وجه الضال, فشخص تراه صاحب بدعة نصحته وذكرته لكنه أبداً ما استجاب ولا تستطيع أن تغير بدعته باليد؛ لأنها بدعة عقدية, ماذا تفعل؟ تعبس في وجهه؛ لأن هذا العبوس قربة إلى الله عز وجل وطاعة؛ لأنه غيظ لله, ولذلك جعل الله إغاظة العاصي قربة إليه سبحانه وتعالى, وكان عليه الصلاة والسلام لا يغضب لنفسه إنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله عز وجل, تقول عائشة رضي الله عنها: (فكان لا يسب ولا يصخب وإنما يُعرف في وجهه).
وهذا من أفضل ما يكون عليه الإنسان الداعية الموفق، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, وهذه ميزة الأخلاق الحميدة, فإنك تكون مع الناس بأسلوب يدل على كمال الإسلام وأخلاقه الجميلة، لكن بمجرد أن تعبس أو يتغير وجهك كل الناس يسألون: ما الذي غير فلاناً؟ لأنهم اعتادوا منك الأخلاق الطيبة والأخلاق الحميدة.
فإذاً هذا نوع من التغيير وهو التغيير بالصفات والملامح بالعبوس والإعراض والصد.
وذات مرة دخل يحيى بن معين ومن معه على الإمام أحمد رحمة الله عليه، وكانوا قد أجابوا في فتنة القرآن بالتورية، فلما دخل على الإمام أحمد أعرض عنه الإمام, فصار يحيى يقول: حديث عمار حديث عمار والإمام أحمد يعرض ولا يجيبه ولا يتكلم معه, حتى قام يحيى، ومراد يحيى: أن عماراً أكره على الكفر، فقال الكفر وعذره الله عز وجل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] لكنَّ الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو إمام أهل السنة في زمانه لم يرض بهذا فلما خرج ابن معين وقف على الباب وأنصت ليسمع ماذا يقول الإمام أحمد، فسمع الإمام أحمد يقول: يقولون حديث عمار، إنما عمار مُسَّ بعذاب وهؤلاء لم يمسوا بعذاب.
أي: لم يراه مكرهاً إلا بعد الأذية ويحيى لم يؤذ, فقال: كيف تجيب قبل أن تؤذى؟ فقال يحيى: ما تحت أديم السماء أفقه منه.
أي: من الإمام أحمد رحمة الله عليه, فالشاهد: الإعراض، ولذلك أمر الله بالإعراض عن الجاهلين, والإعراض من إنكار المنكر؛ لأنه احتقار وازدراء.(44/16)
الإنكار باليد
التغيير باليد ضرب له العلماء رحمة الله عليهم أمثلة مثل: تكسير آلات اللهو, وكذلك أيضاً تكسير النبي عليه الصلاة والسلام الأوثان كما ثبت حينما دخل إلى مكة فإنه كسر الأوثان, وكذلك إبراهيم: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] , يقولون في التغيير باليد: إنه يقطع دابر الشر؛ لأن به ينعدم هذا المنكر ويزول, وبناءً على ذلك فالأساس والقاعدة التي هي الأصل في التغيير, أنه متى ما أمكن للإنسان أن يغيره بيده فليغير بيده, هذا الأساس والقاعدة, ولذلك قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها, ولا تمثالاً إلا كسرته, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) هذا من التغيير باليد؛ لأنه إذا استشرفت القبور عُظِّمت, فكانت ذريعة إلى الشرك والعبادة, فالمقصود أن التغيير باليد سنة وهدي, وهو أول المراتب، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم, كما في حديث القرام؛ والقرام ستارة كانت على سهوة حجرة عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح مسلم - فرأى عليه التصاوير فأخذه بيده عليه الصلاة والسلام ونزعه وهتكه.
فهذا يدل على التغيير باليد.
وهناك أمور ينبغي التنبيه لها: قد يكون الإنسان وهو في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنده ضوابط معينة لتغيير المنكر, فمثلاً: لو كان هناك توجيه بأن لا تكسر هذا المنكر الآن من أجل أمور، مثلاً: لإقامة دلائل يحتاج إليها, فلو فرضنا أن الإنسان بمجرد أن جاء وكسر المنكر, كيف ندين صاحب هذا المنكر ما دام المنكر أزيل؟ إذاً تكون مهمتي أنا كوني أحفظ هذا المنكر لكي يصل إلى الجهة المختصة يعتبر من إنكار المنكر؛ لأنه وسيلة إلى إزالته وإلى تكسيره؛ لأن البعض يقول: كيف أكون آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وأنا لم أكسِّر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فليغيره بيده)؟ نقول: إن الوسيلة إلى التغيير تغيير, كونك تحفظ هذا المنكر لكي يكون حجة ودليلاً في بعض الأحيان، مثلاً: لو فوجئنا بمكان لصنع الخمر -لا قدر الله والعياذ بالله- فيكون إنكار هذا المنكر أن أكسره وأن أزيله بالكلية، وهذا لا شك فيه, لكن -مثلاً- لو أردنا أن نعرف مَنْ أصحاب الجريمة الذين قاموا بهذا العمل؟ من الذين يتعاونون مع هذا الشخص؟ من الذي يأخذ منه ويعطيه؟ قد تكون -مثلاً- بيئات أخرى تتعامل مع هذا المصنع للترويج، فعندما نتريث قبل أن نكسر, هذا من مصلحة الأمر بالمعروف, وهذا من تغيير المنكر, فالوسائل آخذة حكم مقاصدها كما يقول العلماء, فليست القضية لتغيير المنكر أن يكون الإنسان مباشراً ما دام أن هناك تنظيماً يقصد من ورائه الوصول إلى معالجة المنكرات بأفضل الأساليب.
أيضاً هناك نقطة: قد يكون من المصلحة أن لا نغير الآن باليد، قد يكون هناك أمور وظروف وملابسات معينة يكون التوجيه للإنسان فيها أن يقتصر فقط على مراقبة هذا المنكر, فقد يقول الإنسان: كيف أراقب المنكر وأراه أمامي وبعيني ولا أفعل ولا أقدم؟ فنقول: قد تكون هناك مصالح، بمعنى أنه قد تقع مفسدة أعظم لو أنه أزيل هذا المنكر باليد.
ولذلك أنا أقول: لا بدَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حسن الظن، ولا يمكن أن يتم بين الإخوة والأحبة والمشايخ وطلاب العلم ذلك إلا بالتعاون وبحسن الظن, مثلاً: إذا جاءني توجيه من فوق بأن أتريث في هذا الأمر فلا داعي لسوء الظن: هذا تقصير هذا تساهل, لا, قد قال عليه الصلاة والسلام: (فليغيره بيده) لكن نحن نظن ونحسن الظن بمن يأمرنا بهذا الشيء -إن شاء الله- أنه يريد التغيير, لكن كيف؟ ما هو الأفضل؟ ما هي الطريقة؟ هذا أمر بينه وبين الله عز وجل، ولذلك من أمثلة هذه: لو أن عندنا أفراداً وعندنا -مثلاً- من فوق الأفراد ومن له التوجيه الأعلى, فلو أنك أتيت في حي فيه منكر، قد ترى بعض الناس يتعاون معك في القضاء على هذا المنكر من عامة الناس, ترى إنساناً -مثلاً والعياذ بالله- قد فتح بيته للحرام منزلاً أو دعارة -والعياذ بالله-, فشره متعدي، فإذا جئت لإنسان متعاونٍ متحمسٍ ويريد الخير -ولا شك أن هذا الحماس وراءه خير, وهذا أمر نحب أن ننبه عليه- فينبغي أن نحسن الظن به لكن نوجهه, فهذا الفرد حينما تأتي وتقول له: يا أخي انتظر, ولا تعجل؛ لأنك أنت تريد أن تصل إلى ما وراء هذا المنكر، من الذي يأتي به؟ قد يأتيك مباشرة ويقول لك: قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى من منكم منكراً فليغيره بيده) الآن تدخل هذا تقاعس هذا تأخير لماذا؟ لأنه لا يعلم ولا يعرف ما هي المصلحة، ما هي الأهداف التي تنظر إليها أنت, كما أن هذا يقع منك كفرد؛ فإنه يقع مع عامة الناس وتقول له: يا أخي تغيير المنكر يحتاج إلى بصيرة وإلى تجربة؛ لأنك أنت مرت عليك أمور دعتك إلى هذه الحكمة وهذا التروي, وكذلك من هو فوقك إذا كان أكثر تجربة وأكثر بصيرة, فالأصل أن الإنسان يحسن الظن, ولا يعجل, وقد تكون هناك ظروف تحكم عليك بأنه ليس من المصلحة تغيير هذا المنكر مثلاً بالكلية, فهذا أمر مهم جداً, في قوله: (فليغيره بيده).(44/17)
الإنكار باللسان
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يستطع فبلسانه) ويقول بعض العلماء: التغيير باللسان مقدم على التغيير باليد ولهم عليه دليل صحيح، وهو حديث عائشة رضي الله عنها, وحاصل هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من غزوة تبوك -على قولٍ عند بعض أهل الحديث- قدم عليها فوجد القرام هذا وفيه صورة فقال لها أولاً: (أميطي عنا قرامك هذا) هذا أول ما قال لها، فكأن عائشة -كما يختار جمع من العلماء- نسيت أن تزيله, فدخل عليه الصلاة والسلام فإذا بالقرام في وجهه فأمسك القرام وهتكه.
يقول العلماء: أول ما يبتدئ الإنسان بالتوجيه؛ لأن كون الشخص بنفسه يزيل المنكر هذا نوع من الإيمان والتسليم, ولذلك يتربى الناس على التسليم, بمعنى: أن كونه بنفسه يأخذ الشيء ويكسره، كما أنه هو الذي أوجده هو الذي يكسره، هذا من أرفع الدرجات، ولذلك يقول العلماء: من أهم ما يكون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقناع الناس، بأن هذا منكر فيجتنبوه وهذا معروف فيفعلوه ويأتوه.
ولذلك الحرص على إقناع الشخص بكونه منكراً أولى, وقد فعل الصحابة ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو طلحة لـ أنس: انظر، فخرج فنظر فإذا بمناد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس! إن الله حرم الخمر.
فأمره أن يريقها فجرت بها سكك المدينة.
من الذي أراق الخمر؟ الناس لما اقتنعوا، (لما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا).
ثم يقول العلماء: انظر إلى أسلوب القرآن! ما قال الله: انتهوا، بل قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] وهذا كما يقول المفسرون: من أرفع أساليب الإقناع؛ لأن الشخص تقول له: ليتك تفعل كذا, أو هل تفعل كذا, فتحدث عنده شوقاً للامتثال, فلما نزلت هذه الآية بمجرد الانتهاء كما في صحيح مسلم صاح عمر: (انتهينا انتهينا) أي: ما لنا بعد أمرك ونهيك سبحانك وتعالى, وانتهينا أي: كففنا عن هذا الأمر.
(فليغيره بلسانه) كيف تغير بلسانك؟ الشخص الذي أمامك يتعاطى المنكر وفيه جانبان: جانب داخلي الذي هو الباطن, وجانب ظاهري, الجانب الداخلي قناعته بالمنكر, والجانب الظاهري وجود المنكر, ويتعامل مع هذا المنكر, فأعظم ما يكون من التغيير أن تصل إلى سويداء قلبه, فتجتث من قلبه الشر، (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) , فتحرص على أن تجعل في قلبه قناعةً كاملةً بحرمة هذا الشيء, وتعتمد على أساليب من أهمها أسلوبان: أسلوب الترغيب، وأسلوب التنفير, وكلاهما أسلوب القرآن.
ولذلك تجد الله عز وجل في كتابه ينهى عن الحرام ثم يذكر عواقبه الوخيمة في الآخرة من عذاب جهنم وسخطه وغضبه -نسأل الله السلامة والعافية-, هذا أسلوب الترهيب, وكذلك استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا ... ) , فالمقصود أن تستخدمه فتأتي -مثلاً- أمام صاحب المنكر وتتلو عليه آية من كتاب الله, وحديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتوجيه، فتأتي بالتوجيه بالأسلوب المؤثر المقنع؛ لأن الناس يختلفون, يقول العلماء: هناك آيات للترغيب وهناك آيات للترهيب, فإذا كان الذي أمامك من النوعية التي لا ينفع فيها الترغيب؛ لأن فيها قسوة وفيها نوعاً من الكبرياء بالباطل، تقرعه بآيات الزجر وآيات التخويف؛ لأنك إذا جئته بآيات الترغيب كان ضعفاً, ولذلك ينبغي أن تظهر عزة الدين وترفع من المعروف الذي تأمر به وتحقر من المنكر الذي تنهى عنه, فتذكره بقوارع التنزيل, وتذكره بالجنة والنار, وتقول له: يا أخي خف الله عز وجل أمامك قبر أمامك حساب أمامك صراط أمامك جنة ونار، وتذكر له من الكلام الذي يدل على الترهيب، فلما تأتي هذه الكلمات المضيئة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تصادف قلباً فارغاً وإن كان فيه الشر, لكن الله سبحانه وتعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] , فتبدأ بالتقريع، فمثل هؤلاء النوعية التي تتعاطى المنكر بنوع من الكبرياء والعزة يصلح لها أسلوب التوبيخ والتقريع، ويكون الكسر للمنكر في عينه وفي وجهه أبلغ في إهانته وزجره, وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك حينما حصلت قضية عمرو بن أمية الضمري فذهب إلى بني النضير؛ وكانوا يهوداً بالمدينة، وبينه وبينهم عهد, فجاء يريد أن يأخذ منهم المعونة على الدية, فجاءهم عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكر وأهل كيد، فقالوا له: انتظر تحت الحائط حتى نعطيك الدية, وأرسلوا سفيهاً من سفهائهم لكي يرمي عليه حجراً فيقتله صلوات الله وسلامه عليه, فلما جلس جاء جبريل بالوحي وأخبره بما يكيدونه به، فانطلق عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ومعه أصحابه لا يدرون ما الخبر, ثم أرسل إليهم: أن اخرجوا من دياركم, قالوا: نخرج, فكتب عبد الله بن أبي بن سلول قائلاً لهم: لا تخرجوا أنا أنصركم على عادته من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر:11] خدعةً, فبقوا, فلما بقوا آذن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فخرج إليهم بالقوة فحاصرهم خمسة عشر يوماً من ربيع الأول -صلوات الله وسلامه عليه- فلما حاصرهم قالوا: نخرج, قال: أما الآن فلا.
انظروا كيف عزة الإسلام! جاءهم أولاً فقال لهم: اخرجوا, ثم قال بعد أن رفضوا: أما الآن فلا, الآن أنتم تحت قهرنا وقوتنا ولا تخرجون إلا وأنتم صاغرون, فأذلهم عليه الصلاة والسلام وكانت ما أفاء الله على رسوله وكانت نعمة من الله عز وجل على نبيه حتى خير أن يضع أمواله وغنائمه حيث شاء, فكانت كسراً لشوكة الأعداء بقوة.
كذلك أهل الباطل والغيظ، لما تأتيه باللين في مقام لا يصح فيه اللين، فإنه ليس من الحكمة في شيء قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه, فتبدأ بتغييره باللسان بأسلوب التقريع والتوبيخ إذا كان الذي أمامك عنده أنفة وله سوابق وجرائم وهو إنسان مستفحل في الشر, فهذا يقرع ويوبخ ويؤنب، ويبين له عاقبته وما ينتظره من العاقبة الوخيمة في الآخرة.
أما لو كان إنساناً لا سابقة له, إنسان خُدع وغُرر به وما إن دخلت عليه حتى أصابته الذلة, وترى من دلائل الحال والقرائن أنه نادم وأنه متأثر فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) قال العلماء: ذوي الهيئات هم الذين لم تعرف لهم سوابق, يكون من أسرة طيبة وبيت طيب ولكن قرناء السوء زجوا به إلى هذه العاقبة الوخيمة, فلتقف على مثل هذا وتقول له: يا فلان أين أبوك؟ أنت ابن من؟ حتى لو كانت الذكرى بالأمور الدنيوية فتذكره ببيته وبشرفه, تقول: ماذا جنيت؟ وتجعله يؤنب نفسه, هذا من التغيير باللسان.
فالتركيز على قضية الترغيب والترهيب لاجتثاث الشر من القلوب؛ لأنه ليس من تغيير المنكر أن نأتي ونكسر المنكر، والرجل مقتنع قناعة كاملة بأن هذا معروف؛ لأنك إذا كسرته اليوم سيعيده في الغد، وإذا كان لا يفعله في الظاهر فسيفعله في الباطن, وإذا كان يتقيك في العلانية فإنه لا يتقيك في السر, ولكن إذا اجتثثت الشر من قلبه وذكرته بالتغيير باللسان وأصبح عنده القناعة، فإنه يغير ظاهراً وباطناً، وسراً وعلانية كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن أكمل التغيير باللسان, استخدام أسلوب الترغيب والترهيب, وينبغي على من يستخدم هذا الأسلوب أن يراعي الحال ومناسبة الحال, فمن صلح فيه الترغيب لا يعطى أسلوب الترهيب؛ لأن الذي تجد عنده انكساراً هو شخص رأيته وقع في جريمته ثم وجدت عنده الانكسار الكامل, فلو جئت تزيد عليه بالآيات ربما يصل به الخوف إلى درجة اليأس من رحمة الله, وهذا أمر مهم جداً.
ولذلك تجد بعض العصاة والمذنبين -وهذا يمر علينا من فتاوى الناس وأسئلتهم- يشعرك أنه لا رحمة تنتظره عند الله جل جلاله -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا لأنه أوغل في جانب الخوف, ولذلك يقول العلماء: في عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا بد من الخوف والرجاء, فلا يغلب جانب الخوف ولا يغلب جانب الرجاء, لأنهما جناحان, جناحا السلامة كما يقول بعض الأئمة، وينبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتبه, وهذا صريح الكتاب كما قال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] , لا نستطيع أن نأتي بالتخويف فقط، ولا نأتي أيضاً بسعة رحمة الله، ونلين مع الناس حتى تذهب هيبة الإسلام والعمل والمحتسب, لا بد من الوسطية, فإن كان المقام يقتضي الترغيب رغبنا, وإن كان المقام يقتضي الترهيب رهبنا.(44/18)
الأسئلة(44/19)
كيفية النصيحة التي تبرأ بها الذمة
السؤال
فضيلة الشيخ! لي جيران لا يؤدون الصلاة في جماعة فهل تبرأ الذمة بإرسال شريط أو فتوى أو كتاب للجيران, أو لا بد من المناصحة؟
الجواب
لا بد من المناصحة, لا بد أن تنصحهم وتشعرهم أنك غير راضٍ عما هم عليه، تأتيهم وتزورهم, أو تدعوهم إليك ليزوروك وتجلس معهم, وتقول لهم: أنتم جيران وحقكم كبير عليّ, ومن حقكم عليَّ وحقي عليكم: أن نتناصح، وأن يذكر بعضنا بعضاً، فالصلاة مع الجماعة واجبة قال صلى الله عليه وسلم للأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم, قال: أجب فإني لا أجد لك رخصة ... ) , وهو أعمى وتكون الظلمة والمطر.
ومن حديث ابن عباس: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) , فهذا أمر عظيم جداً فيبين لهم وينصحوا ويذكروا, فإذا أقمت الحجة عليهم فقد برئت ذمتك، والله تعالى أعلم.(44/20)
كيفية التعامل مع المنكرات المنتشرة
السؤال
فضيلة الشيخ! هناك منكراتٌ تفشت وعمت مثل: حلق اللحى، وإسبال الثياب، وشرب الدخان، فكيف يكون الإنكار في مثل هذه الحالات؟
الجواب
تنكر بقدر ما تستطيع, مثلاً: لو رأيت إنساناً يحلق لحيته، وجئته بأسلوب مؤثر وقلت له: يا أخي! النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب، وذكرته وبينت له هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أجر وقربة, كذلك أيضاً إذا كان إعراضك عنه يؤثر فيه؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه, فتنكر عليه على قدر ما تحمله من طاعة الله.
يا إخواني! من أهم الأمور التي ينبغي للإنسان أن يجعلها نصب عينيه أن يعامل الله سبحانه وتعالى, ربما يجلس إنسان أمامك يشرب الدخان -أكرمكم الله- في وجهك، تصوروا! أولاً: لم يستح منك, ولم يهابك, ولم يجاملك, ماذا بقي له؟ ماذا تنتظر؟ هو على شره، وقد أظهر الشر في وجهك ولم يبال ولم يستح ولم يقدر, فأنت أقم عليه حجة الله، لا نقول: تضربه, أو تؤذيه, بل أقم حجة الله عليه وقل له: يا أخي! اتق الله أولاً في نفسك هذه التي تعذبها, وثانياً: اتق الله في مالك الذي يسألك الله عز وجل عنه, يا أخي! تذكر لو أنك الآن في قبرك هل ترضى أنك تشرب هذا البلاء؟ نقطة ثانية: بدل أن تأتيه مباشرة بالتخويف ممكن أن تقول له: أسأل الله العظيم أن يعافيك من هذا البلاء, لما تبدأ بالمودة وتقول له: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء يحس أنك تراه كالغريق، يقول لك: آمين، وربما لا يجيبك, فتقول له: يا أخي! خفف من هذا البلاء بدل من أن تشرب عشرة اشرب خمسة, وأعطه الحل، ولذلك يقول العلماء: لا تبين المنكر دون وضع حل له, ولذلك قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:54] فهذا تبيين المنكر, {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54] ما اقتصر على تبيين المنكر؛ لأنك إذا بينت له المنكر ولم تبين له الحل يقف حائراً, ولذلك ينبغي أن تبين له الحل وتقول له: يا أخي! خفف, يا أخي! ارفق بنفسك, لا تعذب نفسك، هذا أمر مهم جداً, هذا بالنسبة لمن يتعاطى المنكر خاصة في وجهك فتصدع بالحق وتبين له وتعذر إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، فإذا لم تعذر إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فإنه سوف يتعلق بك يقول: يا رب سل هذا رآني على المنكر ولم ينصحني, فالإنسان قدر ما يستطيع يبلغ رسالة الله بالأسلوب الطيب والتوجيه السديد, لعل الله عز وجل أن يعظم له الأجر بذلك، والله تعالى أعلم.(44/21)
ضرورة مراعاة المصلحة في الإنكار
السؤال
يقول كثير من الناس: إن التغيير باليد مقتصر على رجال الهيئة، فهل يكفي هذا إذا وجدت منكراً أن أتصل بالهيئة وتبرأ ذمتي بذلك؟
الجواب
لا شك أنه إذا كانت الهيئة تقوم بمهمتها -وهذا هو الظن بها- أن تتعاون معها، خاصة وأنك إذا غيرت بيدك, قد يحصل أمور لا يحمد عقباها, افرض لو غيرت بيدك وجاء الرجل وجعلك معتدياً عليه واستعدى عليك, فحينئذٍ يكون هناك جهاز مختص بتغيير المنكر فإذا أمكنك أن تتصل به وأن تنسق معه فهذا أمر مطلوب, فيحاول الإنسان بقدر الاستطاعة حتى لا يؤذى أهل الحق, ولا يتسلط أهل الباطل عليهم, فلذلك يتصل الإنسان بالهيئة لتغييره, لكن لو كان الأمر ممكناً للإنسان في حدوده أن ينكره ويغيره بيده وبلسانه مباشرة فليفعل, لكن في الأمور التي تترتب عليها مفاسد أو تكون منها أضرار أو تفتح لأهل الشر سبيلهم، فإنه ينبغي أن يتقيها, يعني: قدر المستطاع، ويدل على هذا قوله تعالى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] انظر هارون أمام عجل يعبد من دون الله, لكنه انتظر مجيء موسى الذي قال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97] وأخذ بالقوة حتى أخذ هارون ينكر عليه هذا, قالوا: إنه إذا تيسر الإنكار باليد بوجود من يقوم به، فالإنسان يتعاون مع الهيئة ويتصل بهم، وقد تكون هناك مصالح في هذا الأمر, لكن نترك الأمر بالمعروف نهائياًَ بناءً على وجود هيئة الأمر بالمعروف فلا, إنما يقوم الإنسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر استطاعته, فإذا أمنت المفاسد وتحققت المصالح فثم شرع الله, تبدأ وتنكر وتبين بغض النظر عما سيكون من العواقب الحميدة أو الوخيمة، وأما إذا تيسر وجود من يقوم بهذا الأمر فإن الإنسان يحرص على إقامته, والله تعالى أعلم.
أسأل الله العظيم أن يجزيكم كل خير, وأن يجمعنا في دار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/22)
حِكَمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصالحه
السؤال
فضيلة الشيخ! يصاب المسلم بشعور الإحباط عندما يرى كثيراً من المحرمات والكبائر, وكذلك يجد من يورد عليه بعض أحاديث الفتن ويقول: هذا زمان الفتن، فيكون في عمله ضعف ويقل عمله, فما هو توجيهكم؟
الجواب
أما بالنسبة لكثرة المنكرات أو وجودها فهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].
ثم إن وجود المنكر فيه حِكَم لله سبحانه وتعالى: أولاً: استدراج لأهل الفساد؛ لأنه يستدرج، والله سبحانه كيده متين: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
ولذلك يستدرج الله العبد من حيث لا يحتسب, حتى إنك ربما تمر على صاحب المنكر وهو يفعل المنكر بكل طمأنينة وارتياح فاعلم أنه مستدرج, إذا رأيت صاحب المنكر أنه بلغ به أن يظهر منكره وهو مرتاح مطمئن النفس لا يحس بشيء، فاعلم أن هذا من الاستدراج لله جل وعلا وكيده به؛ لأنه لو خاف لقل المنكر, لكن يتركه الله سبحانه وتعالى ويعطيه القوة ويعطيه الجلد.
الأمر الثاني: أن ظهور المنكر يكون بحكمة لله سبحانه وتعالى بسبب انطفاء الإيمان من القلوب، وقد ذكر بعض العلماء عن رجل أنه كان يسفك الدماء -والعياذ بالله- وكان معه رجل يعرفه في الخير, وكان الرجل مستقيماً في أول أمره -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا- وفجأة -والعياذ بالله- أصابه فساد فانتهك في الخمور حتى أصبح -والعياذ بالله- مصراً على البغي والفجور, الشاهد: قال العالم للرجل: أرأيت حينما قتلت أول مرة؟ قال: نعم, قال: ماذا أصابك؟ قال: أصابني خوف, قال: وفي الثانية؟ قال: لم أبالِ, وفي الثانية والثالثة لم يبال كذلك، هذا أمر عجيب! يقول بعض العلماء: لأنه لما نزع الإيمان من قلبه -نسأل الله السلامة والعافية- أحس بالضيق؛ لأنه كان في سعة فانتقل إلى الضيق, فالمرة الأولى كُبت عدو الله بسبب خروجه -نسأل الله السلامة والعافية- من كمال الإيمان (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ورد في الحديث: (أن الإيمان يخرج منه حتى يصير كالظلة ثم يرجع إليه ناقصاً على قدر ما انتهك من حدود الله) فالشاهد: أن كثرة المنكر استدراج من الله سبحانه وتعالى لأهل الشر.
ثالثاً: قوة لأهل الخير, لأن هذا الأمر مسلَّم, حتى الحكماء يقولون: قوة الخير بوجود ما يضاده.
ولذلك انظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فجعل الله في وجهه المشركين, وانتقل إلى المدينة فوجد الأنصار والرجال والعدد والعدة وكل شيء يحتاجه بين يديه, بين أمة تفديه بأرواحها, الأنصار كانوا يحبونه وكانوا لا يرضون بأن يمس بأذى صلوات الله وسلامه عليه, ومع ذلك سلط الله عليه اليهود والمنافقين أن يكونوا بجواره, فجمع الله له الكفر بين طائفتين: طائفة تظهر وطائفة تسر, حتى نعلم شعائر الإسلام، نعلم كيف نعامل, يعني: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من عجائب ما مر -وهذا في الصحيحين - أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم على مجلس من مجالس الأنصار فاختصموا فيه حتى هموا أن يضربوا بعض والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, فهذه فتنة بحضور النبي صلى الله عليه وسلم, وتقع الفتنة ابتلاء من الله واستدراجاً.
قضية الإفك عرض النبي صلى الله عليه وسلم, خاض فيها من خاض, وهذا يدل على أن الشر وجد ابتلاءً، حتى يظهر إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين, وتنكشف حقائق الناس, ولذلك لا بد من وجود هذا الابتلاء وكثرة المنكرات.
الأمر الرابع: فيه خير لأهل الخير، فافرض أنك خرجت من بيتك فرأيت منكراً ماذا سيكون في قلبك إذا كان هناك إيمان؟ ستتألم ويتمعر وجهك وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل, هذا الغيظ الذي في قلبك قربة إلى الله سبحانه وتعالى, وعمل صالح، وشهادة منك أنك غير راضٍ على هذا.
وقد يكون وجود المنكر أيضاً ينبه, فالآن لما ترى المنكر تخاف على نفسك وتخاف على أهلك وولدك.
وآخر ما أختم به مثالاً من الأمثلة: لو أن الناس في سفينة, والسفينة هادئة دون أمواج وهي على البحر دون أن تجد أي شيء يعكر صفاها, هل يشعرون بمقدار النعمة التي هم فيها؟ قد يغفلون, لكن حينما يمرون بهذا الوضع فيرون أمام أعينهم سفينة تغرق وأناساً تتلاطم بهم الأمواج ماذا سيفعلون؟ سيحمدون نعمة الله على ما هم فيه.
فلذلك كثرة الفتن لا تدعو الإنسان لأن يتقاعس أو يضعف أو يجبن, لا.
والذي يهمنا -أيها الإخوة- أن نبلغ رسالة الله, وأن نؤدي أمانة الله، وهذه الأيام وإن عظمت فتنها لكن الأجر فيها عظيم, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (للعامل فيهن مثل أجر سبعين, قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً وهم لا يجدون على الحق أعواناً) يقول العلماء: مثل أجر سبعين من الصحابة قالوا: نعم, توضيح ذلك قالوا: في أيام الصحابة لو جئت تنكر منكراً كل الناس معك, وكل الناس تقول: أنت على حق, وهذا منكر وجزاك الله خيراً، ويقفون معه ويشدون من أزره, لكن الآن إذا جاء إنسان ينكر منكراً قالت له الزوجة: لا تنكر, ما نحتاج إلى مشاكل, وقال له الأولاد: لا تنكر, وقال له الأخ: لماذا أنت تؤذي الآخرين؟ مالك ومال الناس؟! ثم جاءه المجتمع: ما هذا؟! يا فلان لماذا تؤذي الناس؟ لماذا تضيق على الناس؟ إذا تكلمت الزوجة وضيقت عليك فلك أجر, إذا تكلم الابن وضيق عليك فلك أجر، والمجتمع كذلك, فتأخذ الأجر من هنا ومن هنا حتى تبلغ أجر السبعين, وهذا يدل على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الزمان, خاصة إذا كان الإنسان جمع بين العلم والعمل والدعوة الصادقة الخالصة لوجه الله الكريم.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
والله تعالى أعلم.(44/23)
حكم انتظار الشكر والثناء على العمل من البشر
السؤال
هل تذمر الرجل من تجاهل أعماله، وعدم الشكر على أعماله, وظهور ذلك في نفسه رغبة للشكر, هل يطفئ من إخلاصه وينقصه؟
الجواب
إذا كنت تعمل لله فانتظر شكر الله جل جلاله, فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] فشهد الله من فوق سبع سماوات أن من عمل له عملاً صالحاً، أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً, فتحرص -بارك الله فيك- على أن لا تنتظر إلا ثناء الله, ولا تنتظر إلا مدح الله عز وجل, فإذا فعلت ذلك فإن الله سيجمع لك مدح الدنيا والآخرة, وفي الحديث -وقد حسنه بعض العلماء- يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للعبد صيتين -أي: سمعتين- صيتاً في السماء وصيتاً في الأرض, فإذا عظم صيته في السماء وضع له في الأرض) وتجد العلماء لهم في الأرض محبة وذكر, حتى إن كثيراً من العوام يسمع بالشيخ فلان فيحبه ولو لم يره, قد يكون يحبه ولو لم يسمع منه كلمة, ولكن مما سمع من أقواله وأفعاله, لماذا؟ لأن الله وضع له صيتاً في السماء ثم وضع له في الأرض.
فأنت إذا عملت ابتلاك الله, ومن ابتلاءات الله أنه قد ينسي من فوقك أن يشكرك, قد يكون الله يحبك؛ لأنه لو شكرك فتنت, فأصبحت تعمل للشكر, فقد يريد الله أن يصطفي قلبك له جل جلاله, فلا يجعل أحداً يحمدك ولا أحداً يشكرك, فتصبح واضعاً بصرك في الأرض مطأطأ الرأس كأنك مغمور لا أحد يشعر بك, والخفي له مكانة عند الله سبحانه وتعالى, هذا العبد الخفي: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه إن كان في الساقة ففي الساقة …) إن قالوا له: تقدم، تقدم, قالوا: تأخر، تأخر, المهم أن يعمل في طاعة الله عز وجل.
الأمر الثاني: إحسان الظن, فهو من الأمور المهمة سواء في أمور الدين أو الدنيا، إذا أحببت أن يتسع العيش, وكانوا يقولون: من سعادة الإنسان -دائماً- أنه إذا وجد شيئاً يعتبر خطأ ممن هو فوقه أو من هو مثله أو ممن هو دونه, التمس له مخرجاً, سبحان الله! إذا حصل شيء كأن لم تشكر فقلت: إنهم نسوني, أو مشغولون, لو كنت مكانهم لشغلت, ثم هذا واجب عليّ فلا أنتظر فيه شكراً, لما تلتمس له مخرجاً يتسع قلبك, لكن بمجرد أن يضيق الإنسان، هؤلاء ما يشكرون, ويبدأ يتذمر فيدخل الشيطان عليه فيقول له: أنت لا أحد يشكر عملك, إذاً لا تعمل، ويبدأ -والعياذ بالله- تنحل عقد الخير منه عقدة عقدة, وتنحل عزيمته على الخير عقدة عقدة؛ لأنه يعمل للناس لا لرب الناس -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من أعظم الابتلاء.
فانتظر شكر الله واحمد لله جل جلاله أن صرف عنك فتنة المدح خاصة في أمور الدين, الإنسان يحرص على أن ينتظر ثناء الله سبحانه وتعالى لا ثناء أحد سواه, فأنعم بها، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى, ولله حِكَم, بعض العلماء قد يعيش في زمانه لا يحمده أحد, شيخ الإسلام ابن تيمية -لو تقرأ سيرته- كان أعداءه وخصومه من كل حدب وصوب، ولما توفي وضع الله له القبول من الذكر والتعظيم, حتى إذا قيل: شيخ الإسلام؛ ما يُنصرف إلا إليه, هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى, قد يعلم الله أنه لو وضع لك الشهرة أمام الناس تفتن, سبحانه! ما أحلمه! وألطفه! وارحمه بعباده.
نسأل الله العظيم أن يجعل قلوبنا له, وأن يجعل شكرنا منه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.(44/24)
كيفية تحصيل الإخلاص
السؤال
فضيلة الشيخ! تكلمت عن الإخلاص فكيف نحصله؟
الجواب
الإخلاص لله عز وجل نور يقذفه الله في القلوب, ومن أعظم الأسباب التي تعين على الإخلاص أن تكثر من دعاء الله عز وجل أن يجعل أقوالك وأعمالك خالصة لوجهه الكريم, فإننا لا نستطيع بحولنا وقوتنا أن نكون مخلصين، ولكن التوفيق من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88].
فإذا افتقرت إلى الله أغناك, وإذا علم الله أنك تحب الإخلاص وفقك إليه ويسره لك، ولذلك أكثر من دعاء الله: اللهم إني أسألك الإخلاص في القول والعمل, اللهم اجعل عملي خالصا لوجهك, دائماً تكثر منها, إذا خرجت من بيتك في الصباح تكثر من هذا الدعاء, إذا كنت في السجود بين الآذان والإقامة التي ثبتت بها الأحاديث الصحيحة، تدعو الله أن يجعل قلبك مخلصاً لوجهه الكريم, وتعتذر إلى الله من كل رياء ومن كل شرك في عملك وقولك حتى ينفحك الله برحمته وييسر لك هذا الأمر العظيم.
الأمر الثاني مما يعين على الإخلاص: كثرة قراءة القرآن مع التدبر والتأمل {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فالإخلاص من عمل القلوب, ويحتاج الإنسان إلى هاد يهديه وهو القرآن, فإنه قل أن تجد إنساناً يكثر من تلاوة القرآن إلا عمر الله قلبه بالإخلاص؛ لأن القرآن فيه الوعد والوعيد والبشارة والنذارة والتخويف والتهديد فيكسر القلوب لله جل جلاله, والقرآن يخرجك من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة, وينزعك من مراقبة العباد إلى مراقبة رب العباد سبحانه لا إله إلا هو, ولذلك إذا أردت الإخلاص أكثر من تلاوة القرآن.
ثالثاً: زيارة المقابر، فتجعل لك ولو في الأسبوع مرة واحدة تزور فيها المقابر، وتنظر إليها حتى تحتقر هذه الدنيا التي أنت فيها، فتصبح أعمالك وأقوالك لهذا الذي أنت مقبل عليه, وتذكر دائماً أنك في مثل هذه اللحظة ستمر عليك وأنت رهين الأحداث والبلاء, لا مال ولا بنون, لا يكون للإنسان إلا ما عمل وأراد به وجه الله جل جلاله.
فلذلك من الأمور التي تعين على الإخلاص كثرة ذكر الآخرة، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] كأن سائلاً سأل: ما هي؟ فقال: {ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] هذه من خاصة ما يصطفي الله عز وجل, فإذا ملأ الله قلبك بذكر الآخرة أخلصت لله سبحانه وتعالى.
ولذلك لا تجد إنساناً قلبه مليءٌ بالدنيا ويخلص أبداً, القلب وعاء إما دنيا وإما آخرة, فمن الأسباب التي تعين على الإخلاص كثرة ذكر الآخرة.
ومن الأمور التي تعين على الإخلاص: قراءة سير العلماء، فعندك كتب مثل: سير أعلام النبلاء , وكتاب البداية والنهاية لـ ابن كثير , وغيرها من الكتب، فقراءة التاريخ, وقراءة سير السلف الصالح؛ لأنها تحيي في النفوس الهمة العالية للخير, ثم تضعك أمام قدوة، ولذلك قال الله عز وجل: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فقصص الصالحين تثبت الفؤاد, وتثبت القلوب.
فمن الأمور التي تعين على الإخلاص قراءة سير العلماء، قال الإمام أبو حنيفة: سير العلماء أحب إلينا من كثير من مسائل الفقه.
هذه من الأمور التي تعين على الإخلاص, فيحرص الإنسان دائماً على قراءة هذه السير.
النقطة الأخيرة: استشعار عاقبة الإخلاص، تصور لو أنك واقف بين يدي الله جل جلاله, وعرض على الله جميع ما قلت وما عملت, فقال الله لك سؤالاً واحداً: هل أردت بهذا وجهي أو غيري؟ فهو أمر عظيم, والله يا إخوان إنه أمر عظيم، كان بعض السلف إذا قيل له: حدثنا، يقول: حتى تأتينا النية, لا يستطيع أن يحدث حتى يستشعر أنه يتحدث لله سبحانه وتعالى, فلذلك يقول سفيان الثوري إمام العلم والعمل في زمانه: ما وجدت أشد عليّ من نيتي إنها تتقلب عليّ, أي: ما قابلت شيئاً أعظم ولا أشد من قلبي.
إنها تتقلب علي, أي: تارة أصرفها للآخرة فتنقلب إلى الدنيا وإلى الناس, حتى لو غيرتَ المنكر يأتيك يقول: ما شاء الله سار الناس يذكرونك, وأنت كذا، وهذا شيء طيب، وتسمع الذكر في المجالس ابتلاءً, وتمحيصاً, وقد تجد الرجل يخلص ويخلص إلى آخر لحظة فيأتيه شخص ويقول: ما شاء الله فعل الله بك كذا, وصنع الله بك كذا, فيعجب فيهلك, قال مطرف رحمه الله: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أبيت قائماً وأصبح معجباً].
فلذلك ينبغي للإنسان أن يخاف, وإياك وفتنة المدح والثناء, خاصة الذي يمدحك في وجهك، فاتق الأمور التي تحول بينك وبين الإخلاص، والله تعالى أعلم.(44/25)
حياة القلوب
اللسان نعمة من الله تعالى على العبد، يجب عليه أن يشكر الله عليها، وذلك باستغراقها في ذكره سبحانه وتعالى وشكره، وتسبيحه وحمده، وتوحيده وتكبيره.
ومن نعم الله على المؤمن أنه لا يطمئن قلبه، ولا ينشرح صدره إلا بذكر الله عز وجل وما والاه، أما صاحب القلب القاسي فعكس هذا تماماً، فتراه يكثر من فضول الكلام ولغط الدنيا، حتى إنك تجده في غفلة عن الآخرة والعياذ بالله.(45/1)
أسباب كثرة الحديث في لغط الدنيا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: إخواني في الله: اللسان نعمة من الله تبارك وتعالى على العبد، وهذه النعمة تستوجب من العبد أن يشكرها لا أن يكفرها، وأن يسخرها في محبة ربها ومولاها سبحانه وتعالى، ويكون ذلك باستغراقها في ذكر وشكر يرضي الله عز وجل، فإذا كان الإنسان قد أراد الله عز وجل له التوفيق ألهمه استدامة الذكر، ولذلك من ذكر الله كان في حصن حصين من عدوه وهو إبليس لعنه الله، والعكس بالعكس.
ولن تجد الإنسان قد انشرح قلبه واطمأن فؤاده، وأصبحت نفسه طيبة مطمئنة إلا وجدته محافظاً على ذكر الله عز وجل، والعكس بالعكس، فالذين يكثرون الكلام في فضول ولغط الدنيا غالباً ما تجدهم قد قست قلوبهم، وكذلك تجدهم في بعد وغفلة عن آخرتهم، ولذلك نصح العلماء رحمهم الله باغتنام الحديث فيما يرضي الله عز وجل، وحذر العلماء والأخيار من فتنة القول التي توجب قسوة القلب.
فالمقصود: أن الإنسان إذا كان مبتلىً بكثرة الحديث في لغط الدنيا ننظر في الأسباب، الأمر الأول: أحياناً يكون السبب القرناء الذين تجلس معهم، فإذا كان القرناء الذين يجلس معهم الإنسان أقوام شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وألهتهم فضول الدنيا عن الآخرة، وعن التجارة الرابحة مع الله تبارك وتعالى، فالعلاج أن تلتمس قرناء أخيار أهل ذكر وشكر وعبادة وطاعة وإنابة إلى الله عز وجل، هذا إذا كان السبب الخلطاء، وهذا هو من أعظم الأسباب: القرناء.
الأمر الثاني: قد يكون السبب ضعف الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا ضعف إيمانه اتجه إلى ما هو ضد ذلك، وهو فضول أحاديث الدنيا، والاشتغال بلغط هذه الأحاديث التي قد تنتهي به إلى ما لا تحمد عقباه.
الأمر الثالث: هذا الضعف -ضعف الإيمان- علاجه: أخذ الأسباب التي تعين على قوة الإيمان بدرجة يكثر فيها ذكر العبد لربه، وكذلك اغتنامه للسانه في طاعة الله عز وجل، قد أفلح والله من رزقه الله لساناً ذاكراً، وأفلح والله من رزقه الله لساناً شاكراً، وما الذي يجنيه الإنسان من هذه الحروف والكلمات، إما كلمة له وإما كلمة عليه، كلمة تسره إذا لقي الله عز وجل، ويبيض بها وجهه، ويثقل بها ميزانه، وتنصع بها صحيفة عمله عند ربه يوم القيامة، فالإنسان يحافظ على أن يكون من أهل ذكر الله عز وجل، ويحافظ على مرتبة السلامة وهي الصمت، فإذا لم يجد من يعينه على ذكر الله يقتصر على الصمت.
الحلم زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا ما إن ندمت على السكوت بمرة ولقد ندمت على الكلام مرارا والكلمة إذا خرجت من الفم لن تعود أبداً، فهي إما للإنسان وإما عليه، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمسك بلسان نفسه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] كم كلمة تلفظت بها فاشتريت بها رحمة الله، وكم كلمة تلفظ بها العبد أوجبت سخط الله وغضبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) تتكلم بكلمة واحدة تثني بها على الله عز وجل.
كنت جالساً لوحدك فتذكرت آلاء الله عز وجل، وقلت: كنت محروماً فأعطاني الله، وضعيفاً فقواني الله، وجاهلاً فعلمني الله، وخائفاً فأمنني الله وكنت وكنت هذا الكلام التي تتلفظه وتثني به على الله عز وجل يكتب الله لك به الرضا، وقد تكون هذه الحروف تلفظها وتتكلم بها لا تلقي لها بالاً تصعد إلى السماء، هذا الكلام اليسير الذي تثني به على العلي الكبير يصعد إلى الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] تصعد فتفتح لها أبواب السماء، لكي تنتهي إلى ذلك المكان الذي شاء الله أن تنتهي إليه، لماذا؟ لأنها كلام يحبه الله ويرضاه.
والعكس بالعكس -والعياذ بالله- قد يتكلم الإنسان بالكلمة لا يلقي لها بالاً يكون فيها غيبة، أو نميمة، أو لمز، أو انتقاص للناس، يهوي بها في سفال -والعياذ بالله- وليأتين عليه يومٌ يتمنى فيه أن أمه لم تلده حتى لا يتكلم بتلك الكلمة.
والعبد قد ينجو بكلمة صالحة، وقد يهلك بكلمة طالحة، ينصب للعبد ميزانه وينشر له ديوانه ويقال: هات ما عندك من صلاح وطلاح، فيأتي بأعماله الصالحة لكي توزن، ويأتي بأعماله السيئة لكي توزن، فتستوي كفة الحسنات والسيئات، وتأتي تسبيحة واحدة أو تحميدة أو استغفارة توجب نجاته من عرصات يوم القيامة وهي كلمة واحدة.
فالمقصود: أن العبد إذا تكلم أو كان في مجلس أن يحرص على أحد أمرين: إما أن تكون من أهل الكمال -رحمك الله- بالكلام الطيب، والتذكير بالله عز وجل، وتقريب القلوب إلى الله عز وجل، أو على الأقل تكون صامتاً وهو حال أهل السلامة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك قال بعض السلف: [من علم أن الله يسأله عن كلام فيه؛ قَلَّ قوله إلا فيما يعنيه] من علم أن الله سيسأله عن قول فيه، يعني: الكلام الذي تكلمه بفمه، قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه.
ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله حريصين على عدم كثرة الكلام، والثرثرة فيما لا يرضي، خاصة إذا كانت فيما لا يرضي الله عز وجل، الآن بعض الشباب الأخيار يصلون ويخرجون من تلك البيوت الطاهرة ثم نزل بهم القدم إلى الوقوع في ذلك، فأنت إذا صليت في مسجد من المساجد تخرج بانشراح عجيب، وطمأنينة غريبة، حتى إذا جلست المجلس ونطقت بكلمة واحدة من غضب الله وإذا بالقلب يضنك، وإذا بذلك الانشراح يخلفه انقباض، وذلك النور تعقبه الظلمة، فإذا بالقلب قد تغير، وإذا بالنفس التي كانت مطمئنة متلهفة على طاعة الله إذا بها على العكس أو الضد من ذلك والعياذ بالله.
فالمقصود: لا بد من مراقبة اللسان والكلام الذي يتفوه به، فهذا من علامة السعادة والتوفيق -جعلنا الله وإياكم من أصحابها- ولذلك ذكروا عن بعض السلف أنه كان يحصي عدد الكلمات التي يتكلم بها من الجمعة إلى الجمعة، ولذلك يقول بعض الفضلاء: لو أن إنساناً جرب يوماً من الأيام أن يكتب بعض كلامه لأخذ صفحات كثيرة، فكيف بكل الكلام.
فالمقصود: أنه ينبغي الحذر من هذا، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم لساناً ذاكراً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(45/2)
الأسئلة(45/3)
علاج العجب والرياء والوسوسة
السؤال
هناك مجموعة من الأسئلة عن الرياء والعجب، وسائل يعاني من الوسوسة في الرياء، وسائل يسأل: عن معنى قول الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: إن الرجل ليعمل العمل أمام الملأ من الناس وهو أخلص ما يكون، ويعمل العمل في خفاء عن أعين الناس وهو من أقبح الرياء؟
الجواب
هنا قضيتان وردت في السؤال: القضية الأولى: قضية العجب، والقضية الثانية: قضية الرياء في العمل الصالح.
أما قضية العجب فهو: شعور من النفس يجعل الإنسان مدلياً على ربه -والعياذ بالله- كأنه يعتقد أنه استوجب الطاعة على الله، وأنه ذاك الرجل الذي قد بلغ ما بلغ من طاعة الله ومرضاة الله بحوله وقوته، نسأل السلامة والعافية.
العُجب من أعظم البلايا وأشد الرزايا، وقد يكون الإنسان من أصلح خلق الله قولاً وعملاً، ولكنه عند الله في سفال بسبب عجبه بعمله، وقد يكون العبد من أقل الناس عملاً، ولكن عنده شعور بالتقصير، وعنده ندم في حق العلي الكبير، ومحبة لأن يكون مكملاً لذلك النقص، وإذا به يرفعه الله بهذا الشعور إلى أعلى الدرجات، إن الندم الذي يصحب التقصير نعمة من الله عز وجل، وإن كان المفروض أن الإنسان يشحذ نفسه إلى الكمال.
لكن المقصود: أن الإنسان قد يغتر بكثرة الصلاح والعمل، وقد بين الله تعالى ذلك حينما قص لنا خبر ذلك الذي عجب بصلاحه وقوله، فأورده الله عز وجل الموارد، وكانت نهايته خسارة الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176] انظر ماذا كانت النهاية, النهاية أن جعل بمثابة الكلب -والعياذ بالله- لا يحفظ الخير لربه.
فلذلك يبكى على هذا العبد، أعطاه الله عز وجل ما أعطاه، وبلغه ما بلغه وآتاه، فأدلى على الله بعمله، وكان في عجب من صلاحه حتى تأبى على الرسالة حينما عرضت عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أرجو أن أكون ذلك الرجل، فعجب بنفسه؛ فأورده الله السفال -والعياذ بالله- كان آتاه الله عز وجل من آياته ما أعطاه، فكانت كلماته عجيبة في التذكير بالله عز وجل، ثم كانت الخاتمة -والعياذ بالله- خاتمة سوء، بماذا؟ بسبب الغرور والعجب.
ولذلك مواضع عديدة ذكر الله عز وجل فيها خاتمة الذين كفروا وقرنها بالغرور، فلذلك الإنسان الصالح الموفق يجاهد نفسه في ترك الغرور، إذا دخل الغرور للداعية أفسد الله دعوته، وإذا دخل الغرور لتالي القرآن حبطت قراءته وذهب أجره، وإذا دخل الغرور للإمام هلك في أمانته، وإذا دخل الغرور للشاب الصالح تلف في صلاحه، الغرور لا يدخل في شيء إلا أهلكه، قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً وأنا أرى نفسي أحقر القوم إلا رفعني الله فكنت أعلاهم، ولا دخلت مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا جعلني الله أسفلهم.
ولذلك كان من سما ت السلف الصالح رحمهم الله أنهم ما كانوا يغترون، ولذلك تقرأ في قصصهم وتراجمهم، فتجد أن من أبرز الصفات التواضع واحتقارهم لأنفسهم، كان إبراهيم النخعي هو المرجع في الفتوى في الكوفة، ذلك الإمام الجليل والعابد الصالح، وكان آية في الفقه والفهم، ومع ذلك كان لا يجلس تحت سارية في مجلس بعينها خوف الغرور والشهرة، كان يخاف أن يجلس تحت سارية حتى لا يقصده الناس في ذلك الموضع رحمه الله، وهو إمام جليل ذو قدم راسخة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، حتى أثر عنه أنه مكث ثلاثين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام رحمة الله عليه، ومع ذلك يحتقر نفسه هذا الاحتقار.
كان سفيان الثوري رحمه الله وهو من أئمة السلف والمحدثين الأجلاء، إذا جلس في المجلس وهو إمام وأي إمام، صلاح وديانة واستقامة وعفة، كان إذا جلس في المجلس ضم ركبة إلى ركبة، وأدلى بعينيه بين ركبتيه أو على ركبتيه، كأنه من الجلاس فيجلس في أطراف المجلس؛ من التواضع واحتقار النفس.
من كمال الرجل وصلاحه إذا ازداد من الخير لا يغتر بل ينزل إلى الناس.
إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى كريم الأصل، من كثرة الخير الموجود فيه يتواضع للناس ولا يغتر، ما يريد من الناس أن تقوم له وتقعد وتبجله، ويأخذ الدنيا كلها سمعةً ورياء، لا، ما يريد هذا، يريد فقط مرضاة الله عز وجل، ثم تجده يتدلى للناس مثل غصن الشجرة إذا جاء الثمر فيه ماذا يفعل؟ كلما ثقلت الثمرة ماذا يفعل الغصن؟ ينزل، وصف الله الجنة فقال: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23].
فلذلك هكذا أهل الخير والصلاح، إذا كنت على صلاح واستقامة تواضعت للناس، الشاب الصالح الذي أصلح الله قوله وعمله ليس عنده غرور لا في القول ولا في العمل، إذا جئت قلت له: الناس يفعلون الجرائم وكذا.
يقول لك: أنا المجرم، المسيء، المقصر في جنب الله عز وجل.
ما يقول: فعل الله بهم وفعل، يغتر بنفسه، تقول له: الناس.
يقول: دع الناس، أين أنا وأنت من رحمة الله عز وجل؟ أين أنا وأنت من طاعة الله؟ ويتهم نفسه بالتقصير، هذا شأن أهل الصلاح والفلاح -ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم- فلذلك من طريق الكمال وطريق أهل الكمال احتقار النفس حتى تسمو إلى درجات الرضا.
الأمر الثاني الذي ورد في السؤال: الرياء: وهو لا يأتي إلا بسبب ضعف الإيمان، والله تعالى أشار إلى أن الرياء من صفات أهل النفاق، وجعل من علامة النجاة منه تحقيق التوبة بثلاثة أمور: فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146] إذاً تابوا وأصلحوا، الذي هو تحقيق التوبة، فأصبحا بمثابة الشرط الواحد، واعتصموا بالله فأصبح معاذاً لهم وملاذاً، وأخلصوا دينهم لله.
إذاً كيف ينجو الإنسان من الرياء؟ بهذه الأمور: التوبة من الرياء، وإصلاح العمل، بعد أن كان يرائي يصبح ما يرائي؛ لأنه من دلائل التوبة الصادقة، واعتصموا -الاعتصام بالله- والمراد بذلك: الاعتصام بكتاب الله، فيقدم ويؤخر الرجل وفق تقديم القرآن وتأخيره، ثم الأمر الأخير: وأخلصوا دينهم لله، فيرجع إلى الإخلاص، إخلاص الديانة والعبودية لله، فالرياء بلاء من الله تبارك وتعالى يبتلى به العبد، وسببه -كما قال العلماء-: ضعف الإيمان، ولذلك يجعل الله عز وجل في ضد أهل النفاق أهل الإيمان، ولما ذكر الله توبة المنافقين قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146].
ولذلك بعض المفسرين يأتي بعبارة لطيفة يقول: فأولئك مع المؤمنين، ولم يقل الله تعالى: في المؤمنين؛ لأن تحقيق النجاة من الرياء أمر من الصعوبة بمكان، فقال: مع المؤمنين، ولم يقل: في المؤمنين، ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] ما قال: وسوف نؤتيهم أجراً عظيماً، وهذه نكات لطيفة في القرآن أشار إليها الإمام القرطبي وغيره في تفسيره.
المقصود: أن الإنسان إذا أراد أن ينجو من الرياء، ينظر أولاً: ما سبب الرياء؟ الرياء ما يمكن أن يدخل القلب إلا إذا ضعف فيه الإيمان، فالجاهل بربه هو الذي يرائي، ولذلك عظم عنده الشيطان، ومحبة رؤية بني الإنسان له في طاعته وذكره وشكره، وهان عليه ألا ينظر الله إليه -نسأل الله السلامة والعافية- ما عرف الله عز وجل، لو عرف من هو الله الذي يتعبده كان بكل قلبه يتمنى فقط أنه يقف بالطاعة وليس أن يرائي في الطاعة.
فذلك أول طريق للعلاج من الرياء: الإيمان، أن تتعرف على الله عز وجل، ولذلك جرب، سبحان الله! إذا قرأت شيئاً من صفات الله عز وجل الواردة في القرآن أحببت الله، وأحببت أن تعمل العمل بينك وبين الله، ولذلك من دلائل النجاة من الرياء: أن تجد العبد أحب ما يكون إليه أن يكون العمل بينه وبين الله، لا ترمقه عين، ولا تسمع به أذن، بل بعضهم يتمنى ذلك، ويفرون من رؤية ومعرفة الناس، كل ذلك خشية الفتنة.
وهذا هو شأن السلف الصالح رحمهم الله، إن كانوا علماء عجبت لفرارهم من الرياء، حتى إن الواحد يدخل بين الناس كواحد منهم.
عبد الله بن المبارك رحمه الله لما أراد أن يستقي من البئر قال له أحد تلامذته: نسقيك يا إمام! فقال: رويداً هلم بنا ندخل مع الناس.
فدخل مع الناس، هذا ضربه، وهذا أصاب من ثوبه ما أصاب من طشاش الطين، فتغيرت ثيابه، وتغير لونه من الزحام، فلما خرج قال له تلميذه: قد كنا نكفيك المئونة، أي: هلاّ تركتنا نكفيك المئونة؟ قال: ما طاب لنا العيش إلا بهذا، دخلنا مع الناس وخرجنا مع الناس.
أي: كواحد من الناس.
فهذه من دلائل أهل الصلاح، والله إذا دخل الصلاح إلى القلب تمنى الواحد أنه في عافية من أن يراه أحد، العبد الصالح شأنه عجيب، والله تعالى وصفه بذلك فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا} [القصص:83] لمن يا رب؟ {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فالعلو هو شأن أهل الرياء، يحبون أن يرتفعوا إلى الأنظار، ويكسبوا تمجيد، وثناء، ومدح الناس، يريد أن يكون ذلك الرجل الذي يشار إليه بالبنان، ولكن العبد الصالح لا يريد هذا.
والله إنه يبلغ بالعبد في الإخلاص أنه يكره أن الناس تعرفه، ويمقت ذلك، ويحاول أن يتهرب منه، بل إنني أذكر بعض العلماء رحمة الله عليهم ذات مرة في موقف من المواقف حصلت قضية فبكى وكان في مجلسه وكان مع بعض الطلاب وكنت معهم، فقيل له: ما هذا؟ قال: هذا من البلاء الذي بليت به، أصبحت معروفاً بين الناس، يا ليت أن الناس ما عرفوني.
هذه فتنة، هذا بلاء، وجلس ي(45/4)
شرح حديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)
السؤال
هذا سائل يطلب شرحاً موجزاً لحديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)؟
الجواب
لكل عمل شرة: الإنسان إذا أقبل على العمل الصالح والطاعة وجد في نفسه -خاصة في بدايته- أنه شره، وأنه يريد أن يستغرق الطاعة بكل ما يستطيع، وهذا من نعم الله تبارك وتعالى، فالخير دائم إليه، ومحبب إلى القلوب والنفوس، ففي البداية تجد أنك تريد أن تقبل على الخير بكليتك، وهذا أمر موجود، تجد بعض الشباب إذا ابتدأ الهداية يود أن جميع حركاته وسكناته في طاعة ومرضاة الله من لذة وحلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه.
لكن هذه الشرة لها فترة تعقبها أحوال، بمعنى: يضعف فيها الإيمان، ويضعف فيها القلب عن محبة الرحمن، وهذه سنة من الله عز وجل له فيها الحكمة البالغة، أحياناً تجد من نفسك في بداية شهر رمضان أنك لو استغللت كل لحظة وثانية من هذا الشهر في محبة الله عز وجل، هذا كمثال بسيط كنا فيه منذ أيام قليلة، فلما دخل الإنسان ونافس في الأيام الأولى والثانية والثالثة فألف الطاعة، فتأتيه الفترة، هذه الفترة لله فيها حكم، من الحكم: أنه يظهر فيها صدق الصادق، بعض الناس إذا جاءته الفترة استمسك، وأصبح في ابتهال ودعاء وإنابة إلى الله عز وجل، وخوف أن يسلب منه ذلك العمل الصالح، وهؤلاء هم الأخيار، وهم أعلى الناس مقاماً في العمل الصالح، وتجده يتألم، يكون محافظاً على قيام الليل والنوافل والطاعات، حتى إذا أصبح منه -ولو شيئاً يسيراً- من التقصير في أمور ليست بالواجبة يتألم ويضجر، ويحس أنه قد فقد حياته؛ لأنه من حياة قلبه يحس أن مصيبته كل المصيبة دينه، وأنه إذا أصيب بنقص في دينه أنها هي الخسارة، عبد طائع منيب لله يحس أنه ينبغي أن تستغل الحركات والسكنات والأوقات في محبة الله.
هذه الحلاوة إذا جاءت في بداية العمل لا بد من وجود ضعف بعدها؛ لأنه لو كان الإنسان دائماً في طاعة واستقامة فإنه قد يخرج عن الحد المألوف، وقد يتجاوز إلى مقام التنطع والغلو في الدين، ولكن الله يبتلي العبد بنوع من الضعف، ويكون لهذا الضعف حكمة بحيث يشوق بعد ذلك إلى الخير أكثر، فبعض الأخيار يكون -مثلاً- على طاعة، ثم يسلب الطاعة، فتأتيه فترة، فإذا جاءته الفترة والضعف استمسك بالفرائض، لكن عنده شوق إلى العمل الصالح، فلو عاد للعمل الصالح مرة ثانية يعود أكثر شوقاً وأكثر حرصاً.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله عز وجل إذا سلب أي شيء من الطاعة، وأن يدمن سؤال الله عز وجل أن يعيدها إليه، والله تعالى أعلم.(45/5)
كيفية التأثر بالقرآن
السؤال
هناك أكثر من سائل يسأل عن قراءة القرآن، وأنهم لا يجدون التأثر الذي وجده السلف الصالح، فكيف يعيش مع القرآن، ويصبح له ذلك الأثر الكبير، ويكون لهم منطلقاً إلى تغيير حياتهم إلى ما هو أفضل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أما التأثر بالقرآن، ووجود نفعه في القلوب، وحياة الإنسان، فهذه منحة من الله عز وجل يختص بها من شاء.
القرآن له رجال، وله صفوة اختارهم الله عز وجل له، فهم أهل القرآن العالمون به العاملون بأحكامه وشرائعه -جعلنا الله وإياكم منهم- والله ما دخلت محبة القرآن إلى قلب عبد فأعقبها تطبيق هذا القرآن إلا كان أشد الناس تأثراً به، وإن من دلائل السعادة والإيمان الحقة محبة القرآن، ومحبة سماعه وتلاوته والحياة، والعيش معه، هذا هو الذي سعد به السلف الصالح، ونالوا به مراتب الفوز والكرامة، وأذاقهم الله به حلاوة الإيمان، فعاشوا عيشة طيبة هنيئة راضية، ما بين ذكر وشكر، وكلام مستقيم، وفعل قويم، كل ذلك حينما كانوا مع القرآن.
من كان مع القرآن كان الله معه، ومن عاش مع القرآن أحيا الله قلبه بالقرآن، وما حييت القلوب بشيء مثل القرآن، ولا استنارت ولا أشرقت بشيء مثل كلام الرحمن، وإذا لم تسعد القلوب للقرآن فلأي شيء ترتاح، وإذا لم تهتد بالقرآن فبأي شيء تهتدي؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أي حديث هذا؟ القرآن الذي هو الآية العظمى، والهداية الكبرى، والمنحة الجليلة من الله، هدىً وأي هدى.
هذا القرآن ما عرفنا قدره؛ ولذلك لما عرف قدره السلف الصالح رحمهم الله اكتحلوا السهر، فباتوا مع القرآن، وظمئوا الهواجر وهم يتلون القرآن، ما وجدوا فترة ولا ضعفاً ولا خوراً مع القرآن، وكان الواحد منهم من مجلس قرآن إلى مجلس قرآن، يجلس في بيته يتلو القرآن، حتى إذا خرج للناس قضى حوائجه فإن وجد الغفلة من الناس تلا القرآن، بل أعرف أخياراً إلى عهد قريب والله يمشون في السوق وألسنتهم تلهج بتلاوة القرآن.
هذا القرآن من عاش معه حيي مع السعادة، وعاش والله الحياة الطيبة المباركة، جرب وحافظ على تلاوة القرآن، فتالي القرآن لا يعرف قسوة القلب، وإحياء الليل بالقرآن يلين القلب، وإن كان في البداية وجد قسوة القلب بعد فترة والله يلين قلبه، هذا القرآن لا يمكن أن تبقى معه قسوة، قال تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] يعني: القرآن {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23] فلذلك إذا عشت وحييت مع القرآن والله أصبت الحياة الطيبة.
ولما كانت هذه الحياة عزيزة، فهي لا تكون حياة طيبة إلا إذا استجمعت صفة واحدة، يعني: لن تكون حياتك مع القرآن كاملة إلا استجمعت صفة وعقب هذه الصفة أثر، ما هي الصفة؟ الصفة: التأثر بالقرآن، أن تقف مع كل آية من القرآن بل تقف مع كل كلمة، تقف معه لكي تتدبره وتتأمله كما نزل رحمك الله، وهذا الكتاب ما نزل من فوق سبع سماوات إلا لكي نقف معه المواقف الصادقة، ونتدبره ونتأمله ونجد فيه الذكرى، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] هذا أول شيء التدبر، ثم بعد ذلك {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فهناك ثلاث مراحل: اقرأ القرآن، وأثناء القراءة تدبر، ثم بعد التدبر يأتيك أثر يسمى الذكرى، فإذا جاءت الذكرى جاء لها أثر ثالث وهو العمل الصالح سواء كان قولاً أو فعلاً، خذ سورة من القرآن اقرأها، ثم قف مع الكلمة الأولى والثانية، والسطر الأول والثاني موقف المتأمل المتدبر، سرعان ما تمضي لحظات يسيرة تلامس فيها هذه الآيات القليلة شغاف قلبك، وتلامس هذه الحروف والكلمات فؤادك وروحك، وإذا بك بعد هذا التدبر تحس أنك وجدت أثراً.
ولذلك تجد بعض الأخيار الصالحين إذا تلا القرآن أو الآية أحياناً لا يستطيع أن يكملها، يقف فيتأثر فما يستطيع أن يكمل، وبعضهم تغرورق عينه من الدمع، وبعضهم يبكي ويجهش بالبكاء، هذا من أثر التدبر، والتدبر يكون أثناء القراءة أو السماع قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83] ثم قال تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] (من) سببية كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25] أي: بسبب خطيئاتهم، فقوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] معناها: أن إفاضة العين بالدمع كانت بسبب معرفة الحق.
إذاً: إذا وجد السماع مع المعرفة التي تكون عن طريق التدبر والتأمل تأتي الذكرى، وترى بعدها عجباً عجاباً، إذا دخلت الآية إلى القلب واستقرت فيه لا بد لها من أثر، وكونك تشكي أنك لا تجد الأثر فإن هذا أمر لا بد له من أسباب، لكن ما من إنسان يقرأ ويجمع هذه الثلاثة الأمور: القراءة مع التدبر، والتهيؤ للذكرى، للعمل، إلا وجد أثر القرآن، ما من آية من كتاب الله تقرأها وتتدبر فيها، وتدخل إلى سويداء قلبك والله لن تصنع ذلك إلا بقيت في قلبك ما شاء الله أن تبقى.
ولذلك العبد الصالح يقرأ القرآن، وإذا به ينجو من السيئات بالقرآن، وكيف هذا؟ مثلاً: قرأ سورة، خذ من أيسر السور مثلاً سورة القارعة: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 - 11] قرأ هذه السورة الكريمة، فعلم نهاية الدنيا، وانتهاء كل شيء فيها، من جبال تسير كالعهن المنفوش، ثم علم أن العاقبة ميزان حسنات أو سيئات، ثقل بحسنات أو ثقل بسيئات، ثم رأى منظرين: عيشة راضية، ونار حامية؛ فلما علم هذا دخلت قلبه.
هذه الآيات لما تدخل القلب ثم تأتي المعصية لن تجد مع هذه الآيات مكاناً في القلب، وإذا جاء داعي الهوى وهذه الآيات في القلب لن يجد مكاناً معها، فسرعان ما تجده يمتنع من محارم وحدود الله بآيات من القرآن، بعض الأخيار تأتيه الشهوة، ويأتيه موقف من المواقف العصيبة التي يمتحن بها في دينه، والله تردعه آية واحدة من كتاب الله عز وجل، تردعه آية في ذكر الجنة، أو النار، أو العرض، أو الحساب، أو الميزان قرأ هذه الآية منذ أمد، فجاءته الشهوة وتزينت له وتجملت، فتحركت هذه الشهوة ودخلت إلى القلب، فلما دخلت القلب جاءت تحرك الآيات الموجودة فيه، فجاءه ذكر تلك الآيات، فتذكر آيات الصحف: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:7 - 9] فإذا بلذة الآخرة تنسيه لذة الدنيا، وإذا بعظة الآخرة تصرفه عن عظة الدنيا، وإذا بالإنسان قد اتجه إلى الله عز وجل.
فالمقصود: لماذا نقرأ ولا نجد الأثر؟! لأننا ما جمعنا هذه الثلاث الصفات: قراءة مع التدبر، مع الأثر الذي يعقب التدبر.
إذاً: ما هو العلاج؟ العلاج إذا نظرت إلى أي آية في كتاب الله انظر إليها نظرة المتفكر والمتدبر، انظر إليها وأنت تحس أن الله يخاطبك بها، المشكلة أننا نقرأ القرآن ونظن أنه يخاطب به غيرنا، السلف الصالح رحمهم الله يقرءون القرآن بقلوب ترى كأنها هي التي تعاتب، وكأنها هي التي فعلت وأسرفت، يقرأ صفات في النكال والعذاب يحس أنه من أصحابها، ويقرأ صفات في النعيم والخير يحس أنه ليس من أهلها؛ وهذا من احتقار النفس في جنب الله.
ولكننا على العكس: نقرأ آيات في ذكر النار فنحملها على غيرنا، ونقرأ آيات في ذكر الجنان فنعد أننا قد قطعت لنا تلك المنازل، فرق كبير، قال بعض السلف: [والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددت نفسي من الراسخين في النفاق] ليس منافقاً فقط، بل من الراسخين في النفاق، هكذا كانت حياة السلف رحمهم الله، كانوا يقرءون القرآن بقلوب حية تتفاعل مع هذا الكتاب المبارك.
فاقرأ وتأمل، واعرض نفسك وعملك وأقولك وأفعالك على القرآن، سرعان ما تعيش معه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حلاوته وتلاوته، وأن يجعلنا وإياكم من المهتدين المرحومين به، والله تعالى أعلم.(45/6)
مراتب الكياسة وكيف تكتسب
السؤال
الناس في الكياسة مراتب، فمن الناس من دان نفسه، ومنهم من أتبع نفسه هواها، ومنهم من كان بين هذا وذاك، فما هي الوسائل التي يتبعها الإنسان ليملك زمام نفسه ويسخرها في طاعة الله؟
الجواب
أما بلوغ درجة الكمال في الكياسة فهذه منحة ربانية، وعطية إلهية يمنحها سبحانه وتعالى لقلوب تعرفه، وجوارح تتعبده، الإنابة إلى الله عز وجل إلى درجة يكون الإنسان فيها كيساً يحفظ نفسه عن محارم الله، ويشحذ همته لطاعة الله عز وجل، هذه مرتبة وأي مرتبة، مرتبة أهل الفلاح، والصلاح، والفوز والنجاح، فإن أنبياء الله تمنوا وسألوا الله أن يجعلهم من أهلها، حتى قال نبي الله سليمان الذي له المكانة عند الله، يقول الله له تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25] هذا النبي الكريم يضرع إلى الله يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالِحِينَ} [النمل:19].
إن مرتبة الكياسة توجب صلاح القول والعمل، وهي مرتبة عظيمة، ويستطيع الإنسان بلوغها إذا شاء الله له ذلك، فيدعو الله عز وجل أن يجعله ممن حفظ قوله وعمله عن أن يصيب محارم الله، الإنسان الكيس هو: الذي يحسن القول والعمل، والمعاملة لله تبارك وتعالى، وتجد حاله حال حزم وانتقاص موجب للكمال، حال حزم بمعنى: أنه لا يعطي نفسه هواها، ولا يتمنى على الله الأماني، ولذلك قالوا من الحكمة: الكيس -ويروى أيضاً أثر- من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت.
دان نفسه أي: أهانها وأذلها في الظاهر لطاعة الله عز وجل، ولكن في الباطن أكرمها، من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز أي: الذي فقد الكياسة، من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، من أتبع نفسه هواه: مسترسل في غيه وهواه، وفجوره وبعده عن تقواه.
فإذاً: الكياسة تستوجب من الإنسان الحزم، ومن أمثلتها: العبد مثلاً يقول: أريد أن أصوم اليوم، فيأتيه الشيطان ويقول له: لا.
إلى غد، الحياة طويلة وأنت شاب.
فيقول: لا.
الآن أصوم.
إذاً هو أخذ بالحزم، وعمل لما بعد الموت، لكن إذا كان عاجزاً محروماً من الكياسة يقول: نعم.
الحياة طويلة، إذاً إلى غد.
كذلك عندما يريد أن ينفق من المال، مر على مسكين أو محروم أو بائس أو أرملة أو يتيم أو جاءه إنسان {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38].
ويأتيه إنسان يقول له: عندنا قضية تحتاج إلى مساعدة، تحتاج إلى سخاء وجود، فيأتيه الشيطان ويأتيه الهوى، يقول له: يا أخي! أنت الآن ما تزوجت، أنت ما فعلت كذا ولا كذا، ابنِ مستقبلك -كما يقولون- فيأتيه هوى وحظوظ النفس، لكن إذا كان كيساً حازماً ماذا يقول؟ يقول: أليس الكون كون الله، والمال مال الله، والفقر والغنى من الله؟ فما الذي تغنيه عني أموالي لو شاء الله أن أكون فقيراً؟ وما الذي يضرني لو أني أنفقت في طاعة الله عز وجل؟ وكما قال الشاعر: أروني بخيلاً طال عمراً ببخله وهاتوا جواداً مات من كثرة البذل فإذا تحركت في النفس معالم السخاء والجود والعطاء في محبة رب الأرض والسماء؛ جاء الحازم لكي يقوي تلك الهمة، ويشحذها على طاعة الله، ولكن جاء العاجز فقال: كيف أضيع مستقبلي وأبني مستقبل غيري؟ كيف أهدم حياتي وأصلح حياة غيري؟ فيعيش مع أشجان يعمرها بسوء الظن بالله عز وجل.
الكيس عبد صالح يعرف كيف يعامل الله عز وجل، مثلاً جاءه حديث نفس بالطاعة، الآن أنت جالس فجاء حديث النفس بالطاعة، لو قمت وتوضأت وصليت ركعتين، فإن كان كيساً قال: ركعتان كم فيهما من حسنات؟ فقام مباشرة وتوضأ وصلى ركعتين، وناجى ربه وناداه، وسأله من خيري الدنيا والآخرة، هذه كياسة حرص على الطاعة شحذ همة، ولذلك بعض الأخيار إذا جئت تدعوه إلى أي عمل خير، ما ينتظر، كل شيء يحتمل التأخير إلا طاعة الله.
من الكياسة: حسن المعاملة لله عز وجل.
والعكس بالعكس -والعياذ بالله- إنسان خامل، نائم، يريد أن يصل إلى الدرجات العلى وهو في شهوات وملهيات، وتسويف في طاعة رب البريات، شتان ما بينهما، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] كلا والله، الله عدل لا يمكن أن يساوي بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين.
فالمقصود: لا بد للإنسان أن يشحذ همته إلى الكياسة، وأن يحاول أن يستجمع من نفسه ما يدعوه إلى كسب الوقت في طاعة الله ومرضاة الله عز وجل، جاءك حديث نفسك، فقال لك: هناك محاضرة لشيخ داعية.
فيأتي الشيطان يقول: ما هو عنوان المحاضرة؟ الصبر، سمعنا عن الصبر كثيراً.
عاجز، خاذل، لكن بعض الأخيار لو سمع عن الصبر مائة مرة، كلما سمع كأنه أول مرة يسمع، يقول: يا الله، محاضرة كي نذهب.
يريد أن يشغل وقته في طاعة الله.
عندنا مجلس فيه إخوان يقرءون كتاباً مفيداً يتذاكرون العمل، يقول: بسم الله، يا الله.
حازم، ما يسوف ولا يضيع في طاعة الله -جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل- والله إنها لحياة القلوب، ونسأل الله أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بذكره وشكره، والله تعالى أعلم.(45/7)
سبل التخلص من الذنوب التي يصعب على النفس تركها
السؤال
أكثر الأسئلة يشتكي أصحابها من عدم قدرتهم على الابتعاد عن معاصٍ معينة، فعلى سبيل المثال: هذا سائل يقول: أنا شاب كلما تبت إلى الله رجعت إلى المعاصي، فقل لي شيئاً ما إن تمسكت به لن أرجع إلى هذه المعاصي بإذن الله؟ وآخر يقول: كيف أخلص نفسي من تعلقي بمعصية وشهوات كثيراً ما بكيت منها ولا أستطيع تركها، أرشدوني أثابكم الله؟
الجواب
يقول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40].
أخي في الله: هو طريق واحد، إما أن ينتهي إلى الجنة أو إلى النار، والله تعالى بين أنك لن تنجو ولن ينجو عبد من النار إلا بأمرين: أحدهما يتركب من الآخر، ما هما الأمران؟ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] يتركب على الخوف من المقام والموقف بين يدي الله {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] ما هي النتيجة؟ {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] هذا هو الطريق الوحيد الذي تنجو به من عذاب الله وسخط الله.
يا هذا! الأيام مراحل تطوى بك لكي تقربك إلى الله عز وجل، كل يوم تصبح فيه فتأتيك دواعي المعاصي، تذكر يا أخي ما هذا اليوم؟ هذا اليوم خطوة إلى الله عز وجل خطوة تقربك إلى الله سبحانه وتعالى خطوة تدنيك من الله عز وجل، إذا كانت الأيام والليالي لا تزيد العبد صلاحاً فوالله لا خير في العيش، لماذا نطلب الحياة، ونطمع فيها؟ والله والله لقد تنكد العيش، ولم يعد للعبد أمل في العيش إلا أن يزاد فقط له من الحسنات، والله ثم والله ثم والله! لو علم العبد أن الحياة لا تزيده من الله قرباً لسأل الله الموت؛ لأنه لا ينجو، الحياة ملئت بالفتن وبالمعاصي وبالمحن، كلما وقف الإنسان في سبيله إلى الله جاءته هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، من القريب والبعيد، ممن يعرف وممن لا يعرف.
إذاً أخي في الله! هو طريق واحد: طريق الناجين، ووالله لا نجاة في غيره أبداً، طريق واحد، قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
فلذلك أخي في الله! هذه المعصية كل يوم تصبح فيه تفكر وانظر، أولاً: أدعوك أن تقطعها بالكلية، أصبحت اليوم فجاءك الشيطان يحدثك بهذه المعصية فاجتهد وجاهد أن تترك هذه المعصية لله عز وجل.
وأوصيك بأمور وبوصايا: الأمر الأول: إذا أصبحت فاعتبر كأنه آخر يوم لك من الدنيا، ووالله لا أضمن أن أقوم من مجلسي هذا، وليس أن أنتظر الصباح، لا أحد يضمن، الإنسان لا يضمن نفسه في طرفة عين.
بينما امرؤ بين يديك حيا إذ صرت لا تبصر منه شيئا في طرفة عين فقط، تأتي -سبحان لله! - إلى البيت الصباح تخرج منه ترى جارك، يمكن أحياناً ساعات وإذا بصراخ وعويل، ماذا هناك؟ فلان مات، حادث أو ما شابه، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما يملك أحد لأحد من الله شيئاً.
إذاً: هذه الحياة مطايا تقربنا من الله عز وجل، إذا أصبحت أول شيء تحدث نفسك كأنه آخر يوم عهدك من الدنيا، فإذا استطعت أن تترك المعصية بالكلية فوالله قد فزت، استعن بالله ثم بالدعاء، أكثر من الدعاء، كذلك أيضاً ذكر الله عز وجل حتى تكون في الحصن الحصين، الفرار إلى الأخيار، إلى مجالس الذكر، تستجمع هذه الأسباب في يومك ذلك.
ابتعد ما استطعت أن تبتعد، ولا أظن إن شاء الله إذا فعلت هذه الأسباب إلا وسيوفقك الله عز وجل، ولا تستلم، المشكلة أن الإنسان إذا اعتقد أنه ضعيف خذله الله عز وجل، لكن إذا اعتقد أنه قوي بإذن الله، وأحسن الظن بالله يوفق.
الأمر الثاني: إذا كان لا سمح الله ما استطاع الإنسان أن يكبح جماح الشهوة، فما هو الحل؟ يحاول أن يقلل منها، حولها من معصيتين إلأى واحدة، وإذا كانت أربع إلى اثنتين، قدر ما يستطيع، فإن تقليل المعصية جزء من التوبة إلى الله عز وجل، ويعتبر جزء إنابة إلى الله سبحانه وتعالى، تخفف من المعصية.
الأمر الثالث: انظر إلى الأسباب التي تحرك المعصية، إن كان النظر اكسر النظر بخشية الله وارمه في الأرض، وإن كان الخلوة لا تجلس لوحدك، بعض المعاصي تتحرك بالخلوة، يختلي الإنسان فيقوى سلطان الشيطان عليه فيتحرك لفعلها، إن كان مثلاً النظر إلى أشياء أو سماع أشياء لا تستمع، المهم تتعاطى الأسباب التي تعينك على البعد من هذه المعصية، وجماع الخير: أن تتذكر أنك إلى الله عز وجل صائر، وأنك ستسأل عن هذه الروح التي أنفقت لياليها وساعاتها في معاصي الله عز وجل.
ثم سل النفس: ما الذي جنيته؟ كم من شهوات أصابها العاصي ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ وكم من رحمات أصابها المطيع فماذا بقي من تعبه؟ بالأمس القريب كنا في رمضان، كان هناك صيام وقيام وعناء في طاعة الله، ما الذي بقي من التعب؟ ذهب النصب والتعب وثبت الأجر إن شاء الله، فلذلك الواجب على الإنسان أن يعزي نفسه ويسليها بذلك، وأسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] ولذلك يقول بعض العلماء: إن في هذه الآية دليل على أن العبد إذا تحركت نفسه إلى المعصية، وكان يستدمن الخوف من الله عز وجل فإنه غالباً ينجو منها؛ لأن الخوف من الله أثره ترك الهوى، والمعصية مما تهواه النفوس وتميل إليه.
فلذلك علاج ترك المعاصي والطريق الأمثل: الخوف من الله، ولذلك أكثر من ذكر الله عز وجل، واعرف من هو الله الذي تريد أن تعصيه، وبإذن الله عز وجل سيكون ذلك أعظم زاجر لك عن معصية الله، والله تعالى أعلم.(45/8)
الإنسان بين داعي الخير ومضلات الفتن
الحقيقة أود أن يكون ختام حديثي لهذا المجلس المبارك كلمة.
أقول وبالله التوفيق: إن الله تبارك وتعالى قد جعل العبد مخيراً بين سبيلين: سبيل هدىً وسبيل ضلال، سبيل رحمة وسبيل عذاب، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] فالعبد مخير بين السبيلين، وهو مذكر بالداعيين: داع إلى الجنة، وداع إلى النار.
والله عز وجل إذا أراد بالعبد خيراً ألهمه أن يصغي بسمعه لداعي الخير ومحبة الله عز وجل، وإذا أراد به شراً -والعياذ بالله- أصغى بسمعه إلى داع الهوى والردى.
إخواني في الله: كلمة أذكركم ونفسي بها بالله عز وجل: في هذا الزمان الذي عظمت فتنته، واشتدت محنتة، وأصبح العبد في محنة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، قد كنا نصلي ويقول الإنسان في دعائه كما في الدعاء المأثور: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) كنا ندعو بهذا الدعاء، وكما قال بعض العلماء من الفضلاء المعاصرين، قال: كنت أدعو وأقول كما ورد الحديث: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) وأنا بقلب منصرف، ولا أحس بقيمة هذه الدعوة كما ينبغي، فلما رأيت فتناً عظيمة، ومحناً جليلة، أدركت عظيم هذه الدعوة، حتى إذا قلتها أصبحت أقولها وقلبي يستشعر معناها.
كلما تأخر الزمان جاءت الفتن وعظمت المحن، حتى أصبح الإنسان مخيراً بين الداعيين على الحقيقة، العبد يكون على صلاح واستقامة، فيخرج من بيته فيبلى بفتنة في السمع، والبصر، والقول، والعمل، وإلى الله المشتكى.
كسر لا يجبره إلا الله، ونقص لا يكمله إلا الله عز وجل، إنها (فتن كقطع الليل المظلم، يمسي العبد فيها مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! فخير ما يوصى به المؤمن: أن يحس أنه لا نجاة ولا فلاح إلا بالاعتصام بالله تبارك وتعالى، والرجوع إلى كتاب ربنا، والاحتكام إلى أهداب شرعنا، وتحكيم ذلك في كل صغير وكبير، والسير على وفقه في كل جليل وحقير.
إخواني! تنكد العيش، وتنغصت الحياة، ووالله لم يعد للعبد صوان إلا بطاعة الله تبارك وتعالى، أظلمت الحياة وكانت قبل منيرة حينما كان الخير أكثر من الشر، ولكن عم البلاء وطم، وأمر لا يشتكى إلا إلى الله عز وجل.
المخرج: أن يحاول الإنسان قدر استطاعته أن يلوذ بالله تبارك وتعالى، وأن يعوذ بالله سبحانه وتعالى فإن الفتن وقعها على القلوب أشد من وقع الجمر على الجسد، إنها تكوي القلوب فتظلمها من بعد النور، وتعميها من بعد البصيرة، وتصرفها عن الخير إلى الشر.
ولكن أحبتي في الله! من أراد الله عز وجل له السعادة والتوفيق ألهمه أن يستبصر بالثقلين والنورين المباركين: كتاب ربنا، وسنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
والله إن من دلائل النجاة -خاصة في هذا الزمان- الوقوف عند القرآن، والتأدب بآدابه، والالتزام بحدوده، ولا يغرنك قلة السالكين، وندرة الثابتين، فالموعد عند رب العالمين، وما على الإنسان إلا أن يسعى في فكاك نفسه من عذاب إله الأولين والآخرين.
من أراد الله عز وجل أن يغيثه من هذه الفتن والمحن شرح قلبه بالقرآن، فعاش مع آياته وعظاته، وارتاح لما فيه من الذكرى والعظة من رب العالمين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصدُورِ} [يونس:57] فمن أراد أن يشفي الله صدره من الفتن، وأن يغيثه من المحن، فليلتزم بهذا الشفاء والدواء، ثم سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، يتعلمها الإنسان، ويعلمها الغير، ويلتزم بها قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تثبت قلوبنا على طاعتك، وأن تشرح صدورنا لمرضاتك، وأن تجعلنا من خاصة عبادك المتقين، من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن توفقنا لكل عمل يرضيك عنا، وأن ترزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، اللهم إنا نعوذ بك من حياة تبعدنا عنك، ومن حياة توجب غفلتنا عن ذكرك وشكرك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.(45/9)
الأخوة الإيمانية
الأخوة في الله منحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يشاء من عباده، وهي من أعظم وأوثق عرى الإيمان ومما يوثق هذه العلاقة ويجعلها سبباً لنيل الأجر؛ أن تكون لله وفي الله، لا لأحد سواه، وأن تكون قائمة على التناصح بين الإخوة، ومن لوازم الأخوة أن يكون الأخ كريماً مع أخيه، مساعداً له في قضاء ما يستطيع من حاجاته.(46/1)
آثار الأخوة الإيمانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفي بداية هذا اللقاء أزجي عاطر الشكر والثناء لهذه الجامعة المباركة جامعة أم القرى بفرعها بالطائف أن كانت سبباً في هذا الجمع المبارك الكريم, وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي القائمين عليها خير الجزاء, وأن يعظم لنا ولكم المثوبة منه إنه فاطر الأرض والسماء.
أيها الأحبة في الله! خلة من الخلال وخصلة من أطيب الخصال, خلة من خلال المتقين وعباد الله الأخيار الصالحين, وخصلة من خصال المهتدين, إنها الحب والأخوة في الله والدين، إنها الأخوة الإيمانية التي قامت على الآيات والعظات القرآنية, أرسى دعائمها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, وسار على نهجها أولو النهى, حتى خبطت أقدامه في الجنة مع الرضا, إنها الحب في الله, هذا الحب الذي أقسم النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي من أصحابه أنه يجده في قلبه, ففي الحديث الصحيح عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي وقال: يا معاذ! والله إني لأحبك) , فنعم المحب ونعم الحبيب.
إنها الأخوة الإيمانية والمحبة المبنية على الشريعة المرضية.
إنها الأخوة التي إذا سكنت في القلوب هدى الله عز وجل أهلها, وأصابهم بالزكاة في قلوبهم وطهرها.
إنها الأخوة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه الأخيار, من المهاجرين والأنصار، فسطروا بها في دواوين المجد والعز صفحات البذل والإيثار, كانوا قبلها متباعدين, فأصبحوا بها -بفضل الله- متقاربين, كانوا متعادين فأصبحوا بها متآخين, كانوا متباعدين متباغضين متدابرين {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] ولكن من غيره سبحانه يجبل تلك القلوب على المحبة، ويقلبها على الصفاء والمودة، فانقلبت تلك القلوب من الشحناء والبغضاء إلى المودة والحب والصفاء، فلا إله إلا الله من يوم اجتمعت فيه قلوب أولئك الأخيار, ولا إله إلا الله من يوم آخى المصطفى فيه بين المهاجرين والأنصار.
إنها الأخوة التي حملت رسالتها هذه الأمة جيلاً بعد جيل, ورعيلاً بعد رعيل, حب وصفاء وود وإخاء, يتألم المؤمن لآلام إخوانه, ويحس بإحساسهم ويشعر بأشجانهم.
إنها الإخوة التي صورها النبي صلى الله عليه وسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, فكم عين للمسلم سهرت لآلام المسلمين, وكم من قلوب فارقتها الراحة في المضاجع لآلام المؤمنين.
إنها الأخوة التي يحس فيها المؤمن أنه من أخيه ولأخيه على الطاعة والدين, فوالله ما فتحت قلبك لحب في الله، إلا تأذن الله لك بحبك من فوق سبع سماوات، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: وجبت -ثبتت واستقرت- محبتي للمتحابين فيّ, وللمتجالسين فيّ, وللمتزاورين فيّ).
الله أكبر! محبة انتصبت من أجلها أقدام الراكعين والساجدين, وجرت بها دماء الشهداء المجاهدين, محبة ظمئت من أجلها أحشاء الصائمين, وتألمت لها قلوب العابدين الخائفين, كل ذلك طلباً لهذه المحبة من الله, وجبت حينما تفتح قلبك لأخيك لله وفي الله, ما أعظمها من محبة توجب عند الله الزلفى والقربة، ما أعظمها من محبة, إذا فتحت قلبك لها تأذن الله بحبك، فأي يوم أعز وأشرف من يوم تغيب فيه الشمس عليك والله قد أحبك؟ وأي يوم أجل وأشرف حينما يكون الله محباً لك؟ كل ذلك لهذه المحبة حينما تفتح سويداء قلبك لإخوانك لله وفي الله, ألم تعلم أنك لو خرجت من بيتك يوماً من الأيام, فاطلع الله على فؤادك وقلبك أنك خارج لأخيك لله وفي الله ناداك منادٍ من الله: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة نزلاً, وبهذا الخروج وبهذه الزيارة ترفع الأقدام إلى الله، وتكتب الخطا عند الله, فقد أوجب الله الحب منه للمتزاورين فيه, ولكن فيه سبحانه, (والمتجالسين فيه) فلئن فتحت باب بيتك يوماً من الأيام لإخوانك وخلانك وقلبك ولسانك على الحب سواء, فلئن فتحت باب دارك، فلقد فتحت باب رحمة الله عليك، ولئن جلست معهم تثبتهم وتسليهم وتذكرهم بطاعة باريهم فنعم والله المجلس، حينما تقوم والله راضٍ عن جلوسك وعن إخوانك.(46/2)
دعائم الأخوة الإيمانية
إن الحب الخالص والصادق يكون لوجه الله, وهذا الحب وهذه الثمرات الكريمة لا تكون إلا بقواعد ودعائم أرساها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.(46/3)
قضاء حاجة المحتاج
أما العلامة الثالثة التي تدل على الحب في الله فهي أعلى مراتب الحب في الله, وهي: مرتبة الكمال, حينما تكمل الدين بالدنيا, حينما تستر عورة أخيك أو تفرج كربته أو تؤنس وحشته, فتكون خير أخ وعضد له بعد الله جل جلاله, الأخ يحتاج إلى أخيه, تمر به الظروف والفتن والمحن, يحتاج إلى من يقف معه ويمده بمال أو يواسيه في شدة الحال, فقف مع إخوانك, فكم من إخوان بذلوا أوقاتهم لإخوانهم في الله ففازوا بمرضاة الله جل وعلا, ما الذي تأخذه من الدنيا غير تفريج الكربات، ورفعة الدرجات لما تسديه إلى الأرامل والبائسين والمحتاجين من إخوانك المؤمنين.
إن من أعظم القربات وأعلاها عند الله قدراً تفريج كربات المسلمين, فاحتسب إذا سمعت أن أخاك بحاجة إلى مال؛ أن تعينه بالمال إذا استطعت, لا يكون المال أعز عليك من أخيك في الله, ابذل المال لوجه الله, فوالله ما أنفقت لأخيك مالاً ترجو به رحمة الله إلا أصابتك دعوة الملكان: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) فلك الخلف من الله, كم من يد مدت إلى أخيها تعينه في شدة الظروف, والله يعلم أنها آثرت بهذا المال نفسها وأبناءها فعوضها الله إيماناً, وعوضها خشوعاً فأصابت خيري الدنيا والآخرة, الخلف من الله مضمون, والربح منه مضمون, فليكن مصداق الحب في الله تفريج الكربات عن الإخوان في الله, كم من رجل يقول لك: أحبك في الله وهو يعلم أنك محتاج إلى ماله, ولا يمد لك شيئاً منه، كيف يطيب العيش للغني المسلم وقد كشفت عورة أخيه المسلم؟! وكيف يلذ العيش للغني المسلم وقد تقرحت أحشاء وأمعاء الأيتام والأرامل من المسلمين؟! كيف يلذ العيش للمؤمن الصادق وهو يعلم أن أخاه يتضور جوعاً؟! ذكروا عن بعض الصالحين أنه كان غنياً ثرياً كثير المال, جاءه رجلٌ يوم من الأيام في شدة البرد, وكان هذا الرجل قد بسط الله له من الخير شيئاً كثيراً, فجاءه هذا الرجل -والناس بعضهم دليل خير ومفتاح خير- جاءه ولم يأته لغرض من الدنيا, ولكن جاءه لحاجة إخوانه المسلمين, فقال له: إن بموضع كذا وكذا أسرة فيها أيتام وأرامل ليس عندهم طعام ولا لباس يقيهم البرد, فنادى ذلك الرجل حاجبه -والرجل الذي يقوم على أمواله- فلما دخل عليه قال: انتظر, قال: فدخل إلى غرفته ولبس ثياباً خفيفة في شدة البرد, ثم دخل على حاجبه وقال: إنه قد بلغني أن بموضع كذا وكذا أيتام وأرامل، وأنهم قد آلمهم البرد فلا طعام معهم ولا كساء, اذهب إليهم فأطعمهم واكسهم واملأ أيديهم من المال, وإني في ملاءتي هذه أجد من البرد ما يجدون حتى تعود إليّ.
إنها قلوب تحس بما يحس به إخوانه المسلمين.
توفي علي زين العابدين ففقد أكثر من ثلاثين بيتاً كان بالليل يقرع الباب عليهم بالصدقات والطعام, لا خير في المال إذا لم تستر به عورات المسلمين, وتفرج به كربات إخوانك المؤمنين, أيُّ خير للملايين إذا اكتنزتها، وخرجت منها صفر اليدين من رحمة الله والعياذ بالله, ما الذي تستفيده من المال إذا أسرك فأصبحت أشجانك وأحزانك معه فخرجت صفر اليدين من المعاملة مع الله, فلقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقيم العبد يوم القيامة بين يديه، فيقول له: عبدي! ألم أسودك؟ ألم أعطك؟ ويذكره بالنعم, ثم يقول: فماذا عملت لي؟) فلو وقفت بين يدي الله وسألك الله عن إخوانك في الله, عن مكروب في دينه علمت أنه مديون فلم تفرج كربه, وعن مكروب علمت أنه بحاجة إلى من يثبته فلم تثبته, فليس تفريج الكربات يختص بالأموال, ولكن يكون بحسن المقال, إذا لم يكن عندك المال وعلمت أن أخاك مهموم أو مغموم، فابذل إليه كلمة، فكم من كلمة من أخ فرج الله بها الهموم, الأخ يحتاج إليه أخوه بكلمة تثبته خاصة في الأحزان والأشجان.
ولذلك شرع الله عيادة المرضى وشرع تشييع الجنائز والتعزية، كل ذلك لكي يتثبت الله بها قلوب المؤمنين بكلمات إخوانهم المؤمنين, فلذلك ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى أعلى مراتب الأخوة, وأن يفضل إخوانه على نفسه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الحب فيه, والولاء فيه, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا ممن وجبت محبتهم لك يا ذا الجلال والإكرام, اللهم إنا نسألك أن نحب بحبك من أحبك, وأن نعادي بعداوتك من عاداك, وأن تجعلنا سلماً لمن سالمت، وحرباً لمن حاربت, عوناً لأوليائك, حرباً على أعدائك, يا ذا الجلال والإكرام, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.(46/4)
الإخلاص في المحبة
أول دعائم الحب في الله: إخلاص العمل لله, أن تفتح القلب وأن تشعر أن الله يسمعك ويراك, فيرى هذا العمل من القلب وليس لأحد له فيه حظ ولا نصيب, تفتح قلبك لا لجمال, ولا لمال, ولا لحسب, ولا لنسب, ولكن لله جل جلاله, حينما تحب المسلمين ولو كانوا عنك بعيدين, وحينما تحبهم ولو خالفتهم لوناً أو مرتبة أو عزاً أو شرفاً فلا فضل إلا بالتقوى.
إنه الحب الخالص لله، وما الذي ضر كثيراً من الشباب اليوم غير دخول الدواخل في المحبة لله, فكم من شباب في بداية الهداية والاستقامة فتحوا القلوب لله جل وعلا حتى وجبت لهم المحبة من الله والرضا، فما مضت الأيام إلا والمجالس عامرة بذكر الله الملك العلاَّم, وكم من شباب -في بداية الهداية- وجدوا طعم الأخوة ولذة الحب في الله, لما كانت القلوب خالصة لله علام الغيوب، يوم خرج الشاب من بيته يتعطش لأخٍ يواسيه أو يسليه أو يثبته على طاعة باريه, فخرج من البيت صادقاً محتسباً مخلصاً لله جل جلاله, ولكن تغيرت القلوب فغير الله عز وجل ما بها من الخير إلا أن ينيب العبد أو يتوب.
لذلك أيها الأحبة في الله! الوقفة الأولى مع الحب في الله: أن يكون خالصاً لله جل وعلا, الحب في الله عبادة تعلقت بالقلوب، فكما أن اليد والقدم والجوارح تتقرب إلى الله، كذلك للقلب أعمال تكون عبادة بينه وبين الكريم المتعال, ومن أعمال القلوب التي يجب إخلاصها لله علام الغيوب: الحب في الله جل وعلا أشرف وأعز مطلوب.
أما الوقفة الثانية: فإنك إن أخلصت لله جل وعلا فاعلم أن إخلاصك في الحب لله له أمارات وعلامات ومن أجلها وأشرفها: أن تحس أن قلبك اتجه لأخيك طاعةً لباريك، لا لأي شيء سوى ذلك, أن تتجه شُعب هذا القلب إلى الإخوان والخلان, إما لطاعة من ذكر أو شكر أو عناء أو عبادة أو خوف أو إنابة أو خشوع, ترى أخاك يوم تراه راكعاً فتحبه لركوعه, أو ساجداً فتحبه لذلته وخضوعه, أو يده سخاء على الأيتام والأرامل فتحبه من خلال ما يحبه الله من القول والعمل, تحبه من جهة الأعمال الصالحة والقربات والطاعات, ولذلك أحق من يحب في الله, وأحق من يتأذن الإنسان بأخوته في الله هم العلماء والدعاة إلى الله, لأنهم أعظم الناس خيراً وأعظمهم طاعة وبراً, إذا نظرت إلى العالم استهوى قلبك ما فيه من الخير الكثير والفضل المستطير, ذلك الخير الذي نفع الله به القلوب فأنار به السبل والدروب, فتحب العالم يوم تحبه, وكأن لسانك يقول: أحبك يا عالم الأمة من سنة أحييتها, أو بدعة أمتها, أو شعيرة أقمتها؛ تحبه حينما تتذكر، فكم من تائه أرشده, وكم من طالب علم علمه, وكم من ليل اكتحل السهر فيه لكي يحل للأمة معضلة, أو يكشف لهم مدلهمة أو مشكلة, تحبه من قلبك لأنه على ثغر من ثغور الإسلام, حتى إذا نظرت إلى ذلك الداعية إلى الله, نظرت إليه يوم نظرت وقد تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه وبيانه, تجذب القلوب إلى الله, وتنير الدروب في محبة الله لا يرجو الثواب إلا من الله, فيتجه قلبك إليه لله وفي الله, حتى إذا فعلت ذلك أحبك الله بحب أوليائه، وتأذن لك بذلك الحب الذي لم يستوجبه عبد إلا وفق للخير كله.
حب العلماء وحب الدعاة والهداة إلى الله سمة من سمات الصالحين, فكلما كان الإنسان صالحاً مستقيماً براً سائراً على نهج ربه فإنه يحب العلماء من كل قلبه, كلما تمكن الإيمان من القلوب كلما اتجهت إلى أولئك الصلحاء وأولئك الأخيار, الذين تأذن الله لهم بالحب في الأرض والسماء, فوضع لهم القبول بين العباد ونشر خيرهم بين الحاضر والباد, فهذه من أعظم الدلائل على الحب في الله.
ولقد ضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الصادق حينما أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم صدق المحبة, أحبوه للنبوة, أحبوه لعظيم بلائه للأمة, أحبوه حينما رأوا ذلك الخير العظيم والنفع العميم الذي أجراه الله على لسانه صلوات الله وسلامه عليه.
بعثت قريش رجلاً يوم الحديبية لكي يكشف خبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتفاوض معه في صلح الحديبية، فخرج سهل حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم, فهاله ذلك المنظر المهيب من حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, فلما رجع قالوا له: ما وراءك يا سهل؟ ما الذي رأيته؟ ما الذي سمعته؟ فقال سهل: والذي يحلف به سهل من اللات والعزى لقد دخلت على كسرى وقيصر فما رأيت أشد حباً من أصحاب محمد لمحمد, والذي يحلف به سهل ما رفعوا أبصارهم إليه إذا حدثهم, ولا تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه، رضي الله عنهم وأرضاهم, وتأذن بأعالي الفردوس مسكناً لهم ومثواهم، إنهم الصحابة الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أصحابه.
ولقد ورث التابعون هذا الحب الصادق فأحبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فما كان الرجل من التابعين يرى عالماً من علماء الصحابة إلا كاد أن يرفعه على رأسه لعظيم حبه له في الله جل جلاله.
دخل أبو إدريس الخولاني رحمه الله على الجامع بدمشق , فرأى رجلاً براق الثنايا يجتمع الناس حوله, إذا اختلفوا رجعوا إليه, فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه, فسألهم وقال: [من هذا الرجل؟ قالوا: معاذ بن جبل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم, يقول رحمه الله: فلما كان اليوم الثاني بكرت وهجرت -أي: جئت مبكراً إلى المسجد في الهجير, وذلك بعد صلاة الظهر لكي يدرك صلاة العصر- قال: فلما دخلت المسجد وجدت معاذاً قد سبقني إليه] رضي الله عنه وأرضاه, كانوا أئمة ومشاعل نور في القدوة الصالحة- قال: فلما قضى صلاته أتيته من قبل وجهه وقلت له: إني أحبك في الله.
قال: آلله, قلت: آلله -أي: أحبك في الله- قال: آلله, قال: والله-أي إني أحبك في الله- فقال رضي الله عنه وأرضاه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, وللمتزاورين فيّ, وللمتجالسين فيّ) فكان التابعون رضوان الله عليهم يحبون علماء الصحابة ويجلونهم، وما زالت هذه الأمة تعظم علماءها ودعاتها وأهل الخير بينها, ولن تجد الأمة ترفع من شأن العلماء وتحب الدعاة والصلحاء إلا جمع الله بهم الشمل, فاتحدت بهم الكلمة وحصل الخير العظيم والنفع العميم, فكم من أزمنة خلت وأيام مضت كانت الأمة في أوج عزها، حينما أكرمت العلماء وأعزت الدعاة والهداة إلى الله لعلمهم أنهم دعاة الخير, وهداة الخير وأهل السداد والرشاد, فطوبى لمن أحبهم في الله, وتأذن بالحب من الله.(46/5)
النصيحة أو التناصح
أما العلامة الثانية التي تدل على حبك لله وفي الله, فثمرة من ثمار الخير تدل على حسن الطاعة لله والبر, ثمرة ما كانت في المؤمن إلا دلت على دينه واستقامته وحبه لله جل وعلا, وحبه لعباده الصالحين, أتدرون ما هذه الثمرة العظيمة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماداً في الدين؟ إنها النصيحة, فإذا أردت أن ترى أخاك الصادق فانظر إلى ذلك الناصح المشفق, الذي ينظر إليك نظرة الغريق, ويعطف عليك بكل حنان وبر وإحسان، وحسن كلام وبيان, ينتشلك من النيران والعصيان, لكي يواسيك أو يسليك أو يثبتك بتلك النصيحة الصادقة على طاعة باريك.
إنها النصيحة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة, الدين النصيحة, الدين النصيحة, قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فإذا وجدت أخاك يأخذ بحجزك من النار فإنه الأخ الصادق, والأخ المشفق، والمحب الذي برأ من الخسارة وتأذن بالربح مع الله في التجارة {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] آمنوا ثم عملوا الصالحات ثم تواصوا, والغالب في أخيك الذي ينصحك أنه لا ينصحك إلا بعد دين, يتغلغل في قلبه حتى يغار عليك إذا رآك على خطيئة أو معصية, إذا سمعت أخاك ينصحك أو يوجهك أو يرشدك، فاعلم -والله- أنه يريد لك الخير من الله, أخوك الصادق الذي يبذل لك الكلمات المشرقة المضيئة من قلب صادق, فهذه من دلائل الحب في الله.
ثم إذا أردت أن تنصح أخاك وأن توفي هذه العلامة حقها وقدرها فهنا أمور: أولاً: أن تنصح أخاك وأنت مخلص لله جل جلاله, تكلمه وأنت تستشعر أن الله يسمعك ويراك, تكلمه وليس في قلبك إلا الله جل جلاله, تشتري رحمة الله بهذه الكلمات, والله ما من نصيحة خرجت من قلب إلا وقعت في القلب شاء صاحبها أم أبى, أن تخرج النصيحة من قلبك الصادق المخلص لوجه الله جل جلاله تعامل الله، فكم من كلمات صادقة خالصة قد لا ينفع الله بها في حينها ولكنها تبقى في القلوب, تقرع أصحابها ولو بعد حين, قد تنصح أخاك اليوم ولكن لا يستجيب، وقد يستهزئ ويسخر وقد يسفه رأيك أو يستهجن قولك، ولكن تمضي الأيام تلو الأيام, وتأتي تلك الساعة التي يتأذن الله فيها بدخول تلك النصيحة التي لا زالت عند سمعه حتى تدخل إلى سويداء قلبه يوم تدخل, فينجيه الله بها من النار, فيكون في ميزان حسناتك.
كم من إخوان أحبوا في الله أمضوا أوقاتهم في النصيحة والدلالة على سبيل الله, خطوا في دواوين الحسنات أجوراً, وخطوا في دواوين الحسنات مثاقيلاً منها، فطوبى لهم وحسن مآب.
أخلص لله عز وجل في نصحك وتوجيهك, والتمس أفضل الأوقات، وليكن نصحك بتعاهد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم, وإياك والإكثار من النصيحة، قال الصحابي رضي الله عنه وأرضاه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة) التمس أفضل الأوقات, والتمس أفضل العبارات، وأخرجها من قلبك ولو استطعت أن تلفظ الدمع من عينيك إشفاقاً على أخيك, كل ذلك لكي تفوز بطاعة باريك.(46/6)
الأسئلة(46/7)
الدال على الخير كفاعله
السؤال
أشهدك بالله يا شيخنا الفاضل، أني أحبك في الله وأستمع لمحاضراتك عن طريق الأشرطة, وسؤالي هو: أني أرغب في أن أسمع منك محاضرة عن اليتيم، لما يعايشه في مجتمعنا -في بعض المجتمعات- من معاملة بعض زوجات الأب, والذين هم تحت رعايتهم, وما يعايشه من معاملة قاسية من زوجة الأب؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني من أجله, وأرجو الله أن يوفقني لما سألته وطلبته ولك أجره بالدلالة عليه, والله تعالى أعلم.(46/8)
حكم قطيعة الرحم وأسبابها
السؤال
ما هي الوسيلة المناسبة لدعوة قاطع الرحم, حيث أنه يوجد هناك من هم على نسب، لكنهم متقاطعين لا يتزاورون في الله, بل بلغ الأمر بهم أنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض, وحتى السلام لا يلقيه بعضهم على بعض ولا حول ولا وقوة إلا بالله, وما هو الطريق الصحيح لإصلاح القلوب من الحسد والبغضاء؟
الجواب
من أعظم وأنجع وأنجح الأدوية أن تذكرهم بالدار الآخرة، فلا يهذب سلوك المؤمن ويقوم طريقه شيء -بعد توفيق الله- مثل ذكر الآخرة, من ظن وأيقن أن أمامه دار اللحود والبلاء, وأن بين يديه الموقف بين يدي الله جل وعلا, فإنه يدعوه ذلك أن يراقب الله في كل صغيرة وكبيرة.
قطيعة الرحم من أعظم الكبائر , وأعظم الذنوب وأجلها معصية لله علام الغيوب, ولذلك ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا جلس في المجلس يقول: [أحرج بالله على قاطع رحمٍ, ألا يجلس معنا, وأن يقوم من مجلسنا هذا] فيقول: إني سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم) إذا كان هذا فيمن جاور قاطع الرحم فكيف بقاطع الرحم -والعياذ بالله- ولذلك قال الله عز وجل فيمن قطع رحمه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
يقال: إن الإنسان إذا قطع رحمه يصيبه الصمم وعمى البصيرة, بمعنى أنه لا ينتفع بموعظة يسمعها بأذنه -والعياذ بالله- ولا يعتبر بآية يراها بعينه, فيختم عليه تماماً والعياذ بالله, فهذه من ثمرات قطيعة الرحم.
ومن ثمراتها: أنك تنال إثم من قطعت وذلك إذا كان قريباً ولم تصله, فإن الله يحاسبك عن قطعه, لمَ قطعته؟ كذلك أيضاً من ثمرات قطع الرحم: أنك إذا قطعت الرحم فورثه الابن أو الابنة حملت وزره والعياذ بالله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] فاتق الله في الرحم، خذ ابنك وعوده زيارة الأقارب, وإذا كان رحمك لا يسلم عليك ويغضب عليك؛ فصله فكأنما تسفه المل كما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني, وأحسن إليهم ويسيئون إلي, قال: إن كان كما قلت، فكأنما تسفهم المل) , فاعلم أنك الرابح وأنهم الخاسرون, وأنك الناجي وهم الهالكون.
أما الطريقة التي تعظ بها من قطع رحمه، أن تنظر إلى الأسباب التي من أجلها قطع الرحم, فإن كانت الدنيا فاقطعها من قلبه, وعلق قلبه بالله جل جلاله, وذكره بالأخوة وبالقرابة, قل له: أخوك وابن عمك وابن أختك وابن خالتك أوصاك الله جل وعلا به وهو من البر, تقطعهم من أجل شبر من الأرض يفرق بين الأخ وأخيه, ويفرق بين ابن العم وابن الخال وابن الأخ وابن الأخت، كل ذلك على شبر من الأرض, أصبحت القلوب مليئة بهذا كله, كان الرجل يتنازل عن بيته لأخيه المسلم فضلاً عن قريبه, يراه بحاجة إلى بيت فيتنازل عن ذلك البيت, فإنا لله وإنا إليه راجعون من ضعف الإيمان في قلوب الناس, ما بُلي الناس بهذه المصائب والجرائم إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوبهم, فانظر إلى السبب الذي من أجله قطعت الأرحام, وذكرهم بالجنان والنيران, والموقف بين يدي الواحد الديان, وأعلمهم أنها حقوق لا يرضى عنها الرحمن, إلا إذا أديت على الوجه الذي يرضيه سبحانه الديان.
فكن -أخي في الله- على بصيرة في تذكيرهم بالله جل وعلا, فكم من نصائح تبذل لقطعة الرحم لا تفيد شيئاً, ثم خذ بالأسباب من اختيار الوقت الذي تؤثر فيه النصيحة والأسلوب المؤثر, نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل, وأن يوفقنا في القول والعمل, والله تعالى أعلم.(46/9)
حكم من يريد الحج وعليه دين
السؤال
عليّ ديون لإخوة لي في الله، ولست مطالباً بتسديدها في وقت معين, بل إن بعضهم أعطاها دون أن يفكر في أن ترجع إليه, وأنا أريد الحج فما الحكم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من كان عليه دين فلا يجوز له أن يحج إلا بعد أن يستأذن صاحب الدين, ولكن إذا كان الدين أقساطاً على الشهور وأدى الإنسان قسط آخر شهر كذي القعدة فإنه يجوز له أن يحج, ولذلك لا يجب الحج على المديون, لأنه لم يستطع إلى البيت سبيلاً, وإنما يجب على من يجد فضلاً عن قوته من زاد وراحله, فالمقصود أنك لا تحج إلا بعد استئذانهم.
وأما ما ذكرته من أن بعضهم لا يفكر في رجوعه فإياك أن تتساهل في الدين, إذا أخذت أموال الناس فلا يغرك اليوم أنه لم يبالِ بك ولكن خذها وفي عقيدتك أن تردها, قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فإياك أن تأخذ الدين وأنت تفكر ألا ترده, ولذلك نفس المؤمن مرهونة بدينه, حتى إن الشهيد يستشهد في سبيل الله فيحبس ويرهن -قيل: عن النعيم في قبره- حتى يؤدى الدين عنه, ولذلك لما تحمل أبو قتادة الدينارين, قال: (يا رسول الله، هما عليّ قال: فما زال يلقاني النبي صلى الله عليه وسلم في سكك المدينة ويقول: أديت عنه؟ فأقول: لا بعد, حتى لقيني يوماً فقال: أديت عنه؟ قلت: نعم, قال: الآن بردت جلدته) أموال الناس عظيمة, ولذلك جعل الله حرمة المال كحرمة الدم, فإياك أن تتساهل في الدين, وأن يكون همك قبل أن تنام أن تفكر دائماً في سداد الدين, ولذلك استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) فاستعن بالله عز وجل في أداء حقوق الناس, ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الخلاص من حقوق العباد والله أعلم.(46/10)
حكم الاقتداء بالحي
السؤال
هل يجوز أن يقتدى بالحي؟
الجواب
أما الحي فإن كان على صلاح واستقامة فهو قدوة, لأن الله عز وجل أمرنا أن نقتدي بمن أحب, وقال عن عباد الله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] قال بعض العلماء: بمعنى أكثر الخير منا حتى يرانا الناس فيقتدون, ما حيت الأمة إلا بالأحياء, من الذي يبث الخير غير العلماء والدعاة الذين إذا نظرت إليهم ذكرك بالله منظرهم, وإذا استمعت إليهم ذكرك بالله مخبرهم, الحي قدوة إذا كان صالحاً في قوله وعمله, ولا حرج على الإنسان أن يقتدي بحي ولكن لا ينبغي الغلو في الصالحين, ولا ينبغي التنطع واعتقاد صلاح إنسان بعينه, بمعنى أنك تزكيه في جوهره, بعض الناس يطعن أخاه ويقطع رقبته, فيقول: فلان من الصالحين, يا فلان أنت من الصالحين فادع لنا, لا يجوز للإنسان أن يزكي على الله جوهر الإنسان، فيقول: فلان من الصالحين، ولكن يقول: أحسبه ولا أزكي على الله أحداً, أرجو أن يكون صالحاً, أرجو أن يكون فيه خير, أرجو أن يكون رجل خيراً, ونحو ذلك من الكلمات التي لا يتحمل مسئوليتها أمام الله عز وجل.
ولذلك إياك أن تزكي أحداً على الله، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ولذلك لا يجوز التبرك بآثار الصالحين, ولا شرب فضلتهم على اعتقاد صلاحهم, ولا التمسح بثيابهم ولا أماكن صلاتهم, ولا عبادتهم لأن ذلك يفضي إلى الشرك -والعياذ بالله- والكفر والخروج من الملة, ومن اعتقد فيهم الاعتقاد الذي يصل إلى الغلو فإنه يكون مشركاً قد حرمت عليه الجنة خالداً في النار مخلداً فيها والعياذ بالله.
فإياك والغلو في الصالحين, تأخذ القدوة ولكن لا تبالغ فيه, فإن الأمور بالخواتيم, كان عمران بن حطان آية في علم الحديث وفي الصلاح, تزوج ابنة عمه وكانت خارجية، فقال: أنصحها حتى تتوب، فأصبح خارجياً والعياذ بالله, ونسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله العظيم بعزته وجلاله إذا رزقنا الصلاح أن يثبتنا عليه, وأن يزيدنا منه إلى لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(46/11)
حكم الكلام في أعراض المسلمين
السؤال
لي صديق قديم وأخ كريم دخل على قلبه داخل شك في أهل قبلته ومشاعل دعوته, فكرهني لحبهم, أقترب إليه وهو يهرب مني, أذكره بالخير ويذكرني بالشر, ألقاه مبتسماً ويلقاني عابساً مقطباً جبينه, ولقد قررت أن أزوره وأخشى أن يسمعني ما أكره أو يغتاب عالما ً أو داعية نكاية بي, فكيف أتأدب في زيارته وأبين له ظلامته، شكر الله لكم وحفظكم؟
الجواب
هذه المسألة ينبغي للمسلم أن يلتزم فيها بما أمر الله بالتزامه, إذا اختلفت أنت وأخوك في أمر فاعرضه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وخذ ما ينتقده على من شاء, فاعرض كلامه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, فإن وجدت حقاً قبلته, فالحق أحق أن يتبع, وإن وجدت باطلاً نصحته ووجهته، فإن كان من الذين لا يستمعون النصيحة ويحرصون على الأذية والفضيحة، فإنا لله وإنا إليه راجعون وإلى الله المشتكى, وهو حسبنا وكفى.
فينبغي للإنسان أن يعرض الخلاف بينه وبين أخيه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, لا يمنعك إذا خطأك أخوك أن تصغي بإذنك إلى خطئه فلعل الصواب معه, وكذلك أيضاً لا يمنعك إذا رأيته على خطأ وخلل أن تسدي إليه النصيحة.
أما ما ذكرته من كونه يصر ويعاند، فالأصل المقرر عند العلماء أن الإنسان إذا كان ممارياً كثير المراء والجدل لا تنفع معه النصيحة, فإن الأولى تركه وعدم الاشتغال به, يا هذا إن العلماء لا يضرهم كلام من تكلم فيهم, يا هذا إنه قد تُكلم فيمن هو خير وأحب إلى الله منا، هذا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أوذي، ولذلك لما كانت وقعة حنين قال بعض الصحابة: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم, وقال بعضهم: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله, تقال في النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بلغت مقالته النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) هذا النبي موسى عليه الصلاة والسلام يقول الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69]-ثم ماذا بعد هذا- {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} [الأحزاب:69] الله هو الذي يتولى أمر الصلحاء والعلماء والدعاة والأخيار، هو الذي يبرؤهم, وكم من خيِّر شاع وذاع بطعن الإنسان, خيِّر شاع خيره وذاع خبره بسبب كلام الناس فيه, انظر إلى أبي هريرة حافظ من حفاظ الصحابة يقول فيه الإمام ابن حجر: حافظ الصحابة ووعاء من أوعية العلم, جاء في آخر السنة السادسة من الهجرة إلى المدينة فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر , انظروا إلى حرص هذا الصحابي وفضله على الأمة, ما استطاع أن يجلس ولكن سافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، لم ينتظره أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولكن سافر ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة حتى كان رضي الله عنه كما يصف: [لقد كنت أصرع من الجوع بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته, فيأتي الرجل ويضع قدمه على عنقي يظن أن بي الجنون, وما بي الجنون ولكن بي الجوع] يقول: كنت أصحبه على ملئ بطني, يجوع من أجل ألا يفوته مجلس من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم, اللهم ارض عنه, اللهم أرضه وارض عنه واجزه عنا خير الجزاء, خلال سنوات يسيرة حفظ الآلاف من الأحاديث, تعرفون هذا الحفظ وهذا العناء والتعب ماذا كانت عاقبته؟ عندما أصبح يحدث بالأحاديث قال بعض الناس: أبو هريرة يكذب على رسول الله, صحابي جليل يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (اللهم حببه إلى عبادك المؤمنين) يقولون: يكذب على رسول الله, إذا كان أبو هريرة يقال فيه: إنه يكذب, فأين نحن؟ يقول رضي الله عنه ذات يوم في مجلس: [يا أهل الكوفة -ويقبض لحيته- أنا أكذب على رسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم يقول: الله الموعد] فالموعد بين العلماء وبين من يتكلم بهم في سائر الأزمنة والأمكنة الله، والله الحكم العدل الذي بين يديه تجتمع الخصوم وعندها ينصف الظالم للمظلوم.
فلذلك إياك أن تدخل في خلاف العلماء, ولذلك قالوا: العالم مع العالم إذا اختلف كطرفي المقص من دخل بينهم قضم, لا تدخل بين العلماء, ولذلك يا ليت العلماء يختلفون ويرد بعضهم على بعض, الخلاف موجود من قديم, ولكن البلاء ثم البلاء لهؤلاء المتطفلون الذين يورثون الأحقاد بين العلماء, وينقلون الكلام بينهم, وإلا فإن علماءنا أخيارنا وقدوتنا وعلى رءوسنا وأعيننا, ولكن البلاء في نقل الأحاديث من المغرضين، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم وأن يكف بأسهم عن المسلمين.
فالمقصود -أخي في الله- أن الكلام في العلماء قديم ليس وليد اليوم, شيخ الإسلام ابن تيمية إمام من أئمة العلم وديوان من دواوين العلم والعمل والدعوة والجهاد والصدع بالحق ونفع المسلمين، وكم نشر الله به من السنن, وأحيا به من الشرائع, ومع ذلك رحمة الله عليه آذاه أعداؤه, فقالوا: يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه, ويبغض الصالحين وحاشاه, فجعل الله كلام أعدائه سبباً في رفعة ذكره إلى يوم القيامة, فاعلم -أخي في الله- أن للعلماء رباً تولى أمورهم, وأن للدعاة والهداة خالقاً لا يضيعهم, وأنها إذا خرجت الكلمات منهم فالله ظهيرهم وهو حسبهم ونعم الوكيل.
فلذلك الذي أوصي الإنسان أن يتقي الله في نفسه, لا تسمع لمزاً في العلماء, لا ينظر الله إليك وقد أصغيت بإذنك لإنسان يقع في العلماء, ولذلك إذا أعرضت عن العالم ضررت بنفسك ولم تضر العالم شيئاً, كما قال بعض السلف: يا بني لا تعرض عن العالم, فإنك إن أعرضت عنه أضررت نفسك ولم تضر العالم شيئاً, ولن تضر إلا نفسك, وقال الجد رحمه الله: فمن صد عنا بحسبه اللوم والقلى ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته يجلس الناس يتكلمون في العلماء وهم أوعية علم فتجلس والله فلان فيه، وفلان فيه وفيه، وتحرم طلب العلم والانتفاع والرواية وأخذ الخير عنه حتى يأتي اليوم الذي ينتقل فيه إلى رحمة الله فتعض على أصابع الندم, وتقول: آه لقد غشني فلان وفلان, وتحمل على ظهرك الأثقال والأوزار بغيبة ولمز العلماء, فلنتق الله عز وجل، ونسأل الله العظيم أن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن, ونسأل الله العظيم أن يصلح أحوال المسلمين وأن يجمع بين قلوبهم, وأن يؤلف بينهم على طاعته ومرضاته والله تعالى أعلم.(46/12)
الإقبال على الله بالتوبة والندم ينجيان العبد من أن يؤخذ بذنبه
السؤال
إني شاب ضائع منغمس في المعاصي، وأنا والله لم أكن أقصد حضور هذه الجلسة، ولكن شدني صوتك من خارج هذا المخيم, وأخبرك أيها الشيخ أني فعلت المعاصي, وأنا أشهد الله أني تائب لله على يديك، ولكن أرجوك أن تدعو الله لي في هذا الجمع المبارك والله يحفظك؟
الجواب
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا وعليك, وأن يتولى إساءتك بالعفو والصفح, وأن يجعلنا وإياكم وإياه من عباده المنيبين.
أخي في الله! أبشر برحمة الله وأحسن ظنك بالله, فما خاب عبد أحسن ظنه في الله, فما ضرته معصيتك ولا نفعته طاعتك, وأبشر بالخطا التي خطوتها إلى هذا المجلس من الذكر, فإن عبداً تاب إلى الله وقد قتل مائة نفس, جاء إلى عالم فقال له: إن قريتك قرية سوء فامض إلى قرية كذا وكذا فإن بها قوماً صالحين, فخرج إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: إنه قد جاء تائباً إلى الله, وقالت ملائكة العذاب: إنه قتل مائة نفس آخرها عابد, فأوحى الله إليهم أن يقيسوا ما بين القريتين, وفي رواية: بعث ملكاً إليهم أن قيسوا بين القريتين, وفي رواية: فأوحى الله إلى هذه أن تقاربي أي: قرية الصالحين, كانت بعيدة ولكن قربتها رحمة الله بعباده وحلمه بخلقه, فعزت عند الله تلك الخطوات حتى غفرت دماء مائة نفس من الله جل جلاله, مائة نفس غفرت من خطوات لله جل جلاله، خطوات التوبة العزيزة عند الله جل وعلا, يوم تخطو إلى المسجد تائباً من ذنب بينك وبين الله جل وعلا, يوم أن تخطو إلى حلقة ذكر وأنت منكسر وتحس أنك أحقر الناس بذنبك الذي أصبته, فأبشر برحمة الله.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا وعليكم بالتوبة النصوح, وأن يجعلنا وإياكم من عباده المهتدين, والله تعالى أعلم.(46/13)
حكم التعلق بالأشخاص وكيفية علاج ذلك
السؤال
هناك ظاهرة التعلق بالأشخاص فما هو علاجها والسبيل إلى النجاة منها؟
الجواب
أما التعلق فبلاء وأي بلاء! ذلك البلاء الذي تتألم وتتأوه منه القلوب, فحق عند الله ثابت لا مرية فيه, معلوم بسنته أن من أحب لغير الله عذبه الله بحب شيء سواه, كل من أحب شيئاً لغير الله عذبه الله بذلك الحب, ولذلك تجد أشد الناس عذاباً أهل العشق, وتجدهم يهيمون في أودية الدنيا، يرتعون ويعذبون ليجمع الله لهم بين عذابي الدنيا والآخرة وهم يفتنون.
أعظم البلايا تعلق القلوب بغير الله جل وعلا على وجه لا يرضي الله, إن التعلق اتجاه القلوب إلى الصور والمناظر والجمال, ويجلس الإنسان طليق الوجه حسن العبارة لا لله جل وعلا, وتخرج منه الكلمات المنمقة المعسولة المكذوبة، الفاجرة الجائرة الخارجة عن منهج الله وصراطه, هذا من أعظم البلايا وأشد الرزايا، فلذلك ينبغي للإنسان أن يعلم من قرارة قلبه أن من أشد البلايا وأعظمها انصراف القلب لغير الله جل جلاله, فإياك أن ينصرف قلبك أو شعبة من شعب قلبك إلى غير الله جل جلاله, واجتهد من الليلة أن تجعل قلبك لله, تمسي وليس فيه إلا الله, وتصبح وليس فيه إلا الله, تتفقد حالك ما الذي فعلته من الطاعات فتشكر الله جل جلاله, وما الذي فعلته من المعاصي فتندم وتتوب وتريق الدمعة الصادقة بينك وبين الله جل جلاله, تجعل القلب لله فإن القلب مخلوق لله, وما خلقه الله إلا لعبادته جل جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ما خلق الله هذه المضغة إلا لكي تسكن بتوحيده وحبه وتعظيمه وتمجيده، واليقين فيه وإخلاص العمل له جل جلاله, ما خلقت لكي تهيم في تلك الأودية السحيقة المليئة بعذاب الدنيا والآخرة.
ولذلك كم من شباب ذاقوا حياة التعب والنصب الذي لا يعلمه إلا الله، حتى وصل بأحدهم أنه فتن في صلاته وعبادته نسأل الله السلامة.
أما الحل والعلاج والدواء ففي أمور: أولها: دعوة صادقة تهدها في دياجير الظلمات في الأسحار إلى المليك القهار مقلب القلوب والأبصار, تسأله أن يصرف قلبك إليه جل جلاله, وقل: يا رب أذنبت, يا رب هاأنا بين يديك أسألك أن تخلص قلبي لك وحدك لا شريك لك، هذا أول أمر.
الأمر الثاني: أن تأخذ بأسباب حب الله جل وعلا, لماذا تحب؟ ولماذا تتعلق بمخلوق ضعيف لا يغني عنك من الله جل وعلا شيئاً؟ عذاب ونصب يؤذيك ولا يرضيك, يضرك ولا ينفعك بإذن الله جل جلاله, فما الذي تريد منه؟ هل إذا مرضت يشفيك؟ هل إذا ضللت يهديك؟ هل يطعمك ويسقيك؟ لا يغني عنك من الله ولا من باريك شيئاً, فاتق الله.
ينبغي للإنسان أن يحس أنه لا ينفعه ذلك شيئاً عند الله جل وعلا, فخذ بالأسباب التي من أعظمها الدعوة الصادقة أن يخلص الله قلبك له وحده لا شريك له.
السبب الثاني الذي يعين على انصراف القلب عن التعلق -وهذا من أقوى الأسباب-: ألا يقع التعلق إلا بسبب خلل في الصلوات الخمس, خذوها قاعدة لن يقع شاب ولا شابة ولا رجل ولا امرأة ولا صغير ولا كبير في معصية إلا بسبب التفريط في الصلوات الخمس, فإذا أردت أن يعصمك الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن فأعط هذه الصلوات الخمس حقها وقدرها, دليل ذلك قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} [البقرة:45]-يا عبادي يا من آمنوا بي، استعينوا بماذا؟ استعينوا بالصبر إذا ابتلاك تصبر {بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] , وقال تعالى في الآية الثانية: {أَقِمِ الصَّلاة} [الإسراء:78] أقمها خالصة صادقة، {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] ما قال: والصلاة، إنّ: حرف توكيد يثبت الأمر ويحتمه, {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] أي: إذا أعطيتها حقها وقدرها، {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] بمجرد ما تعطي الصلاة حقها في الوضوء والطهارة, بدل أن تأتي في الركعة الأخيرة تأتي مع تكبيرة الإحرام أو تأتي عند الأذان, بل تأتي قبل الأذان فلا يؤذن إلا وأنت في المسجد, فتخرج يوم تخرج من المسجد وأنت آخر من يخرج, فتنادي بتلك الدعوة وتصعد إلى السماء: حفظك الله كما حفظتني, دعوة من عبادة تفتح لها أبواب السماء تذهب هدر, ولذلك جرب والله ما من صلاة تتم طهارتها وركوعها وسجودها إلا حفظك الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن كالصلوات الخمس.
ثم إذا أردت أكمل من ذلك فأكثر من النوافل, فإن وجدت قلبك يحب زيداً وعمراً لجمال أو لمال أو لحسب أو لنسب فقم واركع بين يدي الله جل وعلا, واصرف هذه اللحظات لله جل وعلا, واجعل في آخر الصلاة لك دعوة, فإن من مظان الإجابة أدبار الصلوات, فاجتهد في الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يخلص قلوبنا بالحب له جل جلاله, وألا يبتلينا بحب أحد سواه.
ثم هناك أسباب دنيوية، فانظر إلى هذا الشخص الذي تعلق قلبك به, يحب غيرك ويتعلق بغيرك, فلماذا تعلق القلب به؟ ثم انظر إليه في أشنع الصور, انظر إليه في أحقر الصور, انظر إليه نائماً ذليلاً، إذا نام سال لعابه على وجهه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً, مخلوق ضعيف تافه حقير لا يغني عن نفسه من الله شيئاً, تصرف شُعب قلبك الذي هو نجاتك وهلاكك إلى هذا العبد المسكين, فلذلك ينبغي للإنسان أن يجتهد في هذه الأمور.
ومن الأسباب التي تدفع التعلق كثرة غشيان حلق الذكر, والتأثر بالمواعظ, وعرض القلوب على الآخرة من مشاهدها ومن زيارة القبور وتفقد مجالس الصالحين, والفرار من الجلوس مع المرد, إياك أن تجلس مع الأمرد إذا وجدت فتنته في قلبك, إياك أن تختلي به, إياك أن تحرص على مجالسه, إياك أن تحرص على زيارته, ولكن تفر منه فراراً من الله إلى الله, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.(46/14)
الأخوة الصادقة.
والأخوة الدنيوية
السؤال
ما رأيك فيمن تصاحبه في الله ويعرض عنك لا لشيء، وإنما لأشياء دنيوية ليس لها ذلك الشأن, فأرجو أن توجه تلك النصيحة لهؤلاء الشباب الذين يفعلون مثل ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: أنت تشتكي -يا أخي في الله- من تغير قلوب بعض إخوانك وخلانك الذين يحبونك في الله، ثم يعرضون لأمور من الدنيا، هذه من البلايا التي تكون في الحب في الله, أن يعرض الإنسان عن أخيه لفقر يده أو مسكنته أو رثاثة حاله, فكم من أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره, قال بعض العلماء: من أسباب إجابة الدعاء ثلاثة أشياء: 1/ رثاثة الإنسان, كأن يكون فقيراً لا مال عنده.
2/ رفعه الكف إلى السماء.
3/ طول السفر.
استنبطوا ذلك من الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, أما رثاثة الثوب فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فالله لا يزن الناس بثيابهم, ولا مناظرهم, ولا ألوانهم, ولكن بقلوبهم وأعمالهم, فإذا أحببت أخاً في الله ورأيت عليه رثاثة المنظر وصدق العبودية لله فأحبه من كل قلبك, فإن الحب لله لا لشيء سواه.
وأما الصفة الثانية وهي: طول السفر, والصفة الثالثة وهي: رفع الكف, فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (.
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنىّ يستجاب لذلك) فذكر أبلغ صفات الدعاء والتضرع فجمع الثلاثة الأوصاف, فالمقصود أنه لا يُلتفت إلى المظاهر, فكم من مظاهر رثيثة لا يعبأ بها الإنسان ولكنها تبطن جواهر عزيزة عند الله جل وعلا, كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد الواحد منهم في الصلاة بدت عورته من وراء ظهره, رضي الله عنهم وأرضاهم.
وخرج مصعب بن عمير من الدنيا بشملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه, وإذا غطوا بها قدميه بدا بها وجهه, فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه, واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر) هذا الذي خرج به من الدنيا, صحابي جليل شهير قتل في سبيل الله, وخرج من الدنيا بشملة, فلو رأيت هذا الصحابي في حالة رثاثته ومنظره، كيف يكون الحال؟ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] نزلت حينما قال أعيان قريش والأغنياء والأثرياء: يا محمد، نحِّ السفهاء عنك -هؤلاء السفهاء الذين هم أذلاء حقراء في الدنيا نحهم عنك- حتى نجلس معك, فأنزل الله عز وجل عليه: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] وقال في الآية الثانية لنبيه: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52] فلا تعرضن عن أخيك في الله ليكن قلبك قلباً حياً مؤمناً بالله جل جلاله, يعامل الناس بإيمان صادق, لا بالمظاهر ولا بالصور ولا بالدنيا ولا بالغنى ولا بالمراتب ولا بالوظائف ولكن لله جل جلاله, ينظر الله إليك عبداً مؤمناً صادقاً تلقى أخاك قلبك كقالبك، تبشّ بوجهه وتبدي له السرور ولو كان حقيراً في منظره, حقيراً في ثوبه, وفي ذاته, ولكن تكرمه لله جل جلاله, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ -من هم الأغنياء أو الأثرياء أو الرفعاء؟!! - أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً) , ما معنى الموطئون أكنافاً؟ أناس متواضعون إذا جاءهم الذين فيهم ذلة المنظر أقبلوا عليهم كما يقبل على من عز منظره, وقد يقبل الإنسان المؤمن الصادق على أخيه في الله ذي المنظر الرث أكثر مما يقبل على الغني.
فهذا أمر أطلت فيه للحاجة الماسة، فكم من أواصر حب في الله تغيرت حينما أحس أخوك أنك تحبه للدنيا, فرآك تهش لأخ ثري أكثر مما تهش لإنسان فقير ضعيف, فزن إخوانك بالدين, وليكن مبدؤك وميزانك مبدأ رب العالمين, والميزان الذي نصبه للعالمين {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن أحب فيه صادقاً، والله تعالى أعلم.(46/15)
كلمة أخيرة
هذه رسالة من هيئة الإغاثة الإسلامية بالطائف أحب منكم أن تستمعوها, يقول: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, يشاء الله أن يعيش المسلمون اليوم مرحلة حرجة جداً لعلها بإذن الله تمثل آخر الليل الذي خيم على الأمة الإسلامية، والذي سيعقبها بإذنه تعالى فجر جديد من العمل والأمل, ولعله لم يعد خافياً على أحد تلك المآسي الرهيبة، وصنوف الهوان التي تلحق بالمسلمين في أماكن كثيرة من العالم، كالبوسنة والهرسك وليبيريا وكشمير والهند والصومال وموزمبيق وبورما وكردستان وفلسطين وأماكن كثيرة, حتى أصبح اللاجئون تزيد نسبتهم عن (90%) في العالم, وأمست الأقليات المسلمة تعاني من هدر لحقوقها في حين تواصل المنظمات الأجنبية عمليات تهجير للأطفال والأيتام.
خلاصة الأمر: أعينوا إخوانكم أعانكم الله، وابذلوا فإنه لا يضيع البذل عند الله.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(46/16)
وصايا لطلبة العلم
العلم كالغيث للقلوب، يحيي الله عز وجل به الأفئدة بعد موتها، ويوقظها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، وهذا العلم لا يكون رحمة حقيقية للإنسان إلا إذا كان خالصاً لوجه الله، مع العمل به في أرض الواقع والحقيقة.(47/1)
قواعد ووصايا لطلبة العلم
الحمد لله العظيم الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن الشبيه والمثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله هادياً ودليلاً، فنعم الهادي والدليل، اللهم صل وسلم عليه، وعلى آله، وأتباعه إلى يومٍ تصير فيه الجبال كالكثيب المهيل.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي بداية هذا اللقاء فإنني أشكر بعد شكر الله عز وجل جامعة أم القرى، ممثلةً في عمادة شئون الطلاب، أن هيأت هذا اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة المباركة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكتب لنا ولكم الخُطا، وأن يجعلها موجبةً عنده للمحبة والرضا.
أيها الأحبة في الله! يا معشر طلاب العلم! يا من اختاركم الله عز وجل من بين الناس، لكي تأخذوا مشاعل النور والهداية، فيفتح الله بكم إذا شاء قلوباً طالما أُغْلِقت، وأسماعاً قد صُمَّت، وأعيناً طالما عَمِيت، والله على كل شيء قدير، فلِلَّهِ في أهل الخير نعم، ومن أجلِّها أنه شرفهم بالخير وجعلهم هداةً وحَمَلةً له، وأنتم يا معشر طلاب العلم! يا من فتح الله قلوبكم بكتابه، ونوّر أبصاركم وبصائركم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كم نحن بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحق العظيم، وهو حق طلب العلم، وكم يحتاج طالب العلم دائماً إلى من يذكره بجليل هذه النعمة وعظيم هذا الحق، فلذلك كانت هذه الكلمة، التي أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا فيها القول السديد، وأن يجعلها نافعةً لنا ولكم يوم البأس الشديد.
أيها الأحبة في الله! إن العلم كالغيث للقلوب، يُحيي الله عز وجل به الأفئدة بعد موتها، ويُوقظها بعد غفلتها، وينبهها من بعد منامها.
هذا العلم لا يكون رحمةً حقيقيةً للإنسان إلا إذا أخلص فيه لوجه الله الكريم، فأول ما يُوصَى به طالب العلم، أن يكون قلبه لله جل جلاله، أن تكون السريرةُ سريرةً تقيةً نقيةً، تراقب اللهَ جل جلاله، وتريد ما عند الله عز وجل، في كل صغيرٍ وكبير، وفي كل جليلٍ وحقير.(47/2)
الإخلاص لله سبحانه وتعالى
القاعدة الأولى التي تقوم عليها هذه العبادة الجليلة، وهي: عبادة العلم: الإخلاص لله سبحانه وتعالى:- أن نتجه إلى الله بقلوبٍ ليس فيها أحدٌ سواه، فيأخذ طالب العلم هذا النور وهذه الرحمة وقلبه يريد ما عند الله جل جلاله، يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمةٍ يسمعها ويقولها، فتكون أشجانُه وأحزانُه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تخطو به في صحيفة عمله الحسنات، ويستوجب بها عند الله رِفْعة الدرجات.
الإخلاص الذي رفع الله به شأن العلماء، وجعل عبادتهم بريئة من غير الله عز وجل، وهو السر الذي فضَّل الله به سلف هذه الأمة على خَلَفها، ولذلك قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو: الدين الذي لا يقبل الله سواه.
فلا قبول لهذا العلم، ولا قبول للتعلم والتعليم إلا إذا أراد الإنسان وجه الله الكريم.(47/3)
فتح الأسماع والقلوب للعلم
الوصية الثانية: أن نفتح لهذا العلم أسماعنا وقلوبنا، وأن نحس أن هذه الأسماع -حقيقةً- تتشرف وتتكرم بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:- أن ينطلق طالب العلم وهو يشتعل قلبه شوقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيفتح قلبه وقالَبه لماء الوحي، حتى إذا نزل ذلك الماء على ذلك القلب كان كالغيث الطيب على الأرض الطيبة؛ وما من إنسان يُعطِي العلم سمعه وقلبه، إلا نفعه الله بهذا العلم، ولذلك كانت أول وصيةٍ من الله لموسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13].
وأن نستمع للعلم، وأن يكون عندنا الشوق والتلهف إلى مجالس العلماء، وإلى حِلَقِ العلماء، وأن ننطلق إلى رياض الجنة ننافس فيها إخواننا، ونسابق فيها خلاننا، حتى نكون على أفضل ما يكون عليه المجد في طاعة الله عز وجل.
إن هذا العلم رحمةٌ من الله عز وجل، وكلما ازداد الإنسان من هذه الرحمة رفع الله قدره، وأجلَّ مكانه، وأعلى ذكره.
وأن نفتح لهذا العلم أسماعنا، وأن نفتح له قلوبنا، وكان بعض السلف يقول: [من استمع للعلم وأعطاه قلبه، فإن الله ينفعه لا محالة بهذا الاستماع للعلم].
وأن نفتح لهذا العلم كل جوارحنا.
فإذا وفق الله طالب العلم لكي يكون عنده الشوق إلى مجالس الذِكر ومجالس العلماء ورياض العلماء؛ فإنه لا يلبث بعد فترة حتى يجمع خيراً كثيراً.(47/4)
ترجمة العلم إلى الواقع
الوصية الثالثة: أن يُتَرْجِم هذا العلم للواقع:- أن يخرجه الإنسان من قرارة القلب إلى القالَب، أن نخرج الأقوال والهدي الذي نسمعه إلى الواقع، فبعد أن يتأثر طالب العلم بالوحي، ويسكن في قرارة قلبه يستمسك به، ويطبقه، ويلتزمه، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] قال: استمسك، ولم يقل له: أمْسِك، وإنما قال له: استمسك؛ فالاستمساك بهذا الدين: إذا تعلم طالب العلم سنة أو حكمة تمسك بها، وعمل بها، وأشهد الله على أنه من أهلها؛ فإذا سمعتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سنة أو يدعو إلى خيرٍ وهدى؛ فكن عاملاً بذلك العلم، كن مطبقاً له، تترجمه على جوارحك، ولذلك إذا وفق الله طلاب العلم إلى العمل بعد العلم، جعلهم قدوة، قال الله في كتابه عن علماء بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
ترجمة العلم إلى الجوارح فيه حياة العلم، وكم من سننٍ حيت لما خرج طلاب العلم، فنشروها أمام الأمة بلسانٍ يذكرُ الله وجوارح تترسم هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطبيقُ العلم وترجمتُه بالعمل، وإخراجِه إلى الواقع حتى تراه الناس، فحينما تراك ترى السنن في أقوالك، وترى السنن في أفعالك، فبعض طلاب العلم إذا رأيته تذكرت هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلاب العلم من شرح الله صدره للعلم والعمل، حتى إذا رأيته ذكرت الله، إذا رأيته قد عمل بما عَلِم.(47/5)
الصبر والتحمل واحتساب الأجر
الوصية الرابعة والأخيرة التي أختم بها هذه الكلمة هي: الصبر والتحمل واحتساب الأجر: طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله فيها ابتلاء واختبار وامتحان، ولا بد لطالب العلم أن يَجِدَ الشدائد، وأن يَجِدَ المحن، وأن يَجِدَ من يثبطه ومن يخذِّله.
فأول صبرٍ يُوصَى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان: فإن الشيطان لن يدع لطالب العلم باب خيرٍ يطرقه إلا وجاءه من كل حدبٍ وصوبٍ حتى لا يَبْلُغَه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يُخَلِّي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلىً، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمنٍ العامِّي، فلا بد أن يكون مبتلىً، تعيش مع نفسك في الوساوس، فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذِّله، يقول له: مَن أنت؟! من أنت حتى تطلب العلم؟! فلستَ بعالم، ولا أبوك بعالم، ولستَ من بيت علم، حتى يخذِّله عدو الله، ويجعلَ في قلبه اليأس من رحمة الله، والقنوط من روح الله.
فما على طالب العلم إلا أن يُحسن الظن بالله، وأن يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
فمَن فهَّم سليمان وعلَّم داوُد قادرٌ على أن يفهِّمك ويعلِّمك؛ فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكم من طلاب علمٍ كانوا على جاهلية وبُعْدٍ من الله تبارك وتعالى؛ ولكنهم أحسنوا الظن بالله! فما مضت الأيام ولا انقضت الأعوام إلا وهم أئمة هدى، ومشاعل خيرٍ وحب لله ورضا، فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكن قوي العزيمة على طاعة الله، وقد تأتيك المحن التي تحتاج إلى الصبر في أهلك وذويك؛ فتجد من يخذِّلك عن طلب العلم، ويجعل العوائق بينك وبين طلب العلم من حاجات الناس، وحاجات الأهل وأغراضهم، فاستعن بالله، فإنه نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
لا بد من الامتحان والاختبار حتى في طلب العلم، ولا يزال طالب العلم يُبتلَى ويمتحَن، حتى أنه يبتلَى وهو في مجلس العلم، ويُختبَر حتى في العلم الذي يتعلمه، ولذلك إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجدته من أول لحظةٍ في الوحي إلى آخر لحظةً من الدنيا وهو يتقلب في البلاء صلوات الله وسلامه عليه.
فأول لحظةٍ في الوحي: أخَذَه جبريل فغَطَّه حتى رأى الموت.
وآخر لحظةٍ من الدنيا قال فيها: (آه! إن للموت لسكرات).
فلا بد من البلاء، ولا بد من الامتحان، ولذلك حكمةٌ من الله عز وجل أنه جعل الدنيا دار بلاءٍ وعناءٍ وعِنَّةٍ على المؤمن؛ ولكن هذا البلاء رفعةٌ للدرجات، وتكفيرٌ للسيئات، ومضاعفةٌ للأجور والحسنات، وكم من إنسانٍ صُبَّ عليه البلاء فأمسى يوم أمسى وصحيفته مملوءةٌ بأجورٍ لا يجدها بكثير صلاةٍ ولا صيام.
فاصبر على طلب العلم واحتسب البلاء الذي تجده، واحتسب عند الله ما يقال عليكَ أو يقال لك، فقد يُبْتَلى الإنسان حتى بمدح الناس وَثنائهم، فإن الجاه والسمعة والشهرة قد تقتل الإنسان من حيث لا يدري، فما على الإنسان إلا أن يجاهد ويحتسب عند الله عز وجل أن يثبته وأن يوفقه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم أئمة هدى، هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
أحبتي في الله: إن العلم مسئوليةٌ عظيمة، وواللهِ ما من جماعةٍ انفردوا بهذا العلم وأخذوا على أنفسهم أن يكونوا طلاب علم إلا تحملوا المسئولية بين يدي الله عن ذلك، ولذلك كل طالب علمٍ دخل إلى جامعة، أو جلس في حلقة، أو لازمَ شيخاً فليعلم أنه بمجرد دخوله وبمجرد ملازمته قد وَضَع قدمه على عتبة المسئولية بين يدي الله جل جلاله، وأنه سيحمل على ظهره أمانة يُوقف بها بين يدي الله، إما أن تشقيه وإما أن تسعده وترضيه.
فاعلموا إخواني أن التخصص في العلم وحل هذه الحِكَم من الكتاب والسنة ما هي إلا حجج تكون للإنسان أو على الإنسان.
جاء بعض السلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان يسألها المسائل، فقالت له يوماً من الأيام: [أَيْ بُنَي، أَكُلَّ ما عَلِمْتَه عَمِلْتَ به؟! فقال: يا أماه، إني مُقصر.
وجلس يشتكي من تقصيره، فقالت له: يا بُنَي! لِمَ تستكثر من حُجَج الله عليك؟!].
فينبغي لنا أن نستشعر أن هذا العلم الذي نتعلمه حُجَجٌ لله علينا، وأن وراءنا أمم تنتظر هذا الوحي بفارغ الصبر، وراءك أهلُك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك حيُّك ينتظر هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك أهلُ بلدتك وعشيرتك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، فاتقِ الله فيما تعلمتَ، وكن غيوراً على هذا الدين، وبُث الحِكَم من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
فاحتسبوا -إخواني- الأجر عند الله، واعلموا أن هذا العلم لا يُراد به الدنيا، وإنما يُراد به ما عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرِح رائحة الجنة).
اللهم إن نسألك الإخلاص في العلم والعمل، ونسألك بعزتك وجلالك أن تجعل هذا العلم حجةً لنا لا حجةً علينا.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.(47/6)
الأسئلة(47/7)
حث للشباب وطلبة العلم على الاهتمام بقضايا الأمة والمسلمين
السؤال
نطلب من فضيلة الشيخ كلمةً -تحثُّ الشبابَ- عن دور طالب العلم نحو قضايا هذه الأمة والمسلمين، علماً بأنه يوجد في هذا المخيم معرض عن أحوال المسلمين في أنحاء العالم.
فكلمةً نودُّها من شيخنا الفاضل لإخوانه ولطلابه تحثهم على الاهتمام بهذا الأمر، وعلى جمع التبرع لإخواننا المسلمين، علماً بأن هناك مكتباً خاصاً لهيئة الإغاثة قد عمل معرضاً في هذا؟
الجواب
الله المستعان! وإلى الله المشتكى، ماذا يقول الإنسان -حقيقةً- في جراحٍ لا تزداد إلا نزيفاً؟! لكن نسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم.
الحقيقة: عَظُمَت الفتن والمحن، وخاصة في هذا الزمان، وتكالَب أعداء الله ورسوله على أولياء الله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] تكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوب على أولياء الله، يقتِّلونهم، ويشرِّدونهم، وييتِّمون أطفالهم، ويرمِّلون نساءهم، وكان من البلاء ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله.
فالذي أوصي به إخواني في خضم هذه الفتن والمحن ما يلي: أولاً: التعلق بالله جل جلاله واليقين بِهِ سبحانه: فما يقف المؤمن أمام الفتن والمحن بشيء مثل وقوفه باليقين بالله جل جلاله، وهذا اليقين يغرس في قلبه إيماناً كاملاً بأن الكلمة كلمة الله، وأن الدين دين الله، وأن الرسالة رسالة الله، وأنها ستَبْلُغ ما أراد الله أن تَبْلُغ وإن رَغِمَت الأنوف، وذلت لله جل جلاله.
فأول ما أوصي به: ألا تكون هذه الفتن سبباً لتحبيط الهمة، وضعف النفوس؛ ولكن تكون سبباً لقوة الإيمان بالله، وقوة التعلق بالله، والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
فينبغي أن يكون عندك يقين بأن أعداء الإسلام مهما فعلوا فإن الله وراءهم، ولهم الرصد، وهو {بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120].
عندما دخل التتار على دولة الإسلام وخلافة المسلمين وضعوا تراث الأمة في نهر دجلة، حتى ساح بلون المداد، تراثُ أمةِ قرونٍ عديدة وُضِع في النهر؛ لكي تسير الخيول عليه لتعبر نهر دجلة، حتى أصبح ماء دجلة متلوِّناً بلون المداد، فهل انتهى الإسلام؟! أبداً، بل عاد يُمَكَّن أقوى مما كان عليه، فالإسلام دين يَغْلِب ولا يُغْلَب، ويَنْفُذُ ولا يُرَدُّ، لا يستطيع أحدٌ أن يقف في وجهه.
جاءت سخينة كي تغالب ربها وليغلبن مغالب الغُلابِ مَن هذا الذي يستطيع أن يقف أمام ملك الملوك؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يطفئ نور الله جل جلاله؟! إن هذه الفتن لَمَّا نسمعها تؤلم القلوب؛ ولكن الذي نخشاه أن شباب الصحوة أو الشباب الأخيار قد تخور قواهم أمام هذا السيل الجارف من الكيد للإسلام والأذية لعباد الله؛ ولكن صبرٌ جميلٌ، فإن الله بالرَصَدِ، والله يُمْهِل ولا يُهْمِل، والقوة لله، والأرض أرضُ الله، والكون كونُ الله، والخلق خلقُ الله، والأمر أمرُ الله، ولَيُنَفَّذَنَّ أمرُ الله جل جلاله.
فعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كان من عجيب ما يقع غالباً أنه إذا اشتدت الفتن والمحن يجعل الله فَرَجَها من حيث لا يدور بالحسبان، فكل ما اشتدت الفتن على المؤمنين خاصةً الفتن التي يراد بها الدين يأتي الفرج منها غالباً من حيث لا يحتسب المؤمن.
فانظر في غزوة بدر، حيث التقى المسلمون بالكفار، فكانت الغلبة للمسلمين؛ لكن القتال قتال ماذا؟! قتالٌ حِسِّي.
لكن يوم الأحزاب قال الله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ.
} [الأحزاب:10] الله أكبر! نبي الله والصحابة الذين هم صفوة الأمة يقول الله عنهم: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.
} [الأحزاب:10]! وماذا بعدها؟! {.
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] ما معنى {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]؟! معناه: أنه بلغ بالصحابي، مرتبةً مِن كيد الشيطان، سبحان الله العظيم! قد يدخل الشيطان على الإنسان بشيء من الهم والغم ما يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى! يقول الله عن هذا الأمر العظيم: {هُنَالِكَ.
} [الأحزاب:11] ما قال: هناك؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى {هُنَالِكَ.
} [الأحزاب:11] أي: في ذلك المقام العظيم من الابتلاء والامتحان، {.
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ.
} [الأحزاب:11] ليس ابتلاءً واحداً، بل {.
وَزُلْزِلُوا.
} [الأحزاب:11] انظر كيف يكون الزلزال إذا ضرب أرضاً! فكيف بزلازل القلوب؟! فكذلك تُزَلْزَل مثلما زُلْزِلَ الصحابة، {وَزُلْزِلُوا.
} [الأحزاب:11] كما قال الله عن الأنبياء وصفوة الأنبياء في ذلك الأزمنة، قال: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11] إذا كان الله زلزل الصحابة زلزالاً شديداً؛ فكيف بنا نحن الفقراء؟! فالكُفْرُ مِثْلَما مَرَّ، الحق هو الحق، والباطل هو الباطل، وإن تغير الستار، وتبدل الشعار؛ فهو ملة الكفار، شئنا أم أبينا؛ وإنما هي أيامٌ تَمُرُّ؛ ولكن الحقيقة واحدة، حقٌّ وباطل.
فإياكم ثم إياكم أن تكون هذه المآسي المؤلمة -ولا شك أنها جارحة للقلوب ومؤلمة للقلوب- لكن لا ينبغي أن تكون سبباً للتخذيل، بل ينبغي أن تكون سبباً لقوة الشكيمة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] إنه اليقين، فما تقف أمام الشدائد والمحن والفتن بشيء أقوى من اليقين بالله جل جلاله، وأن يكون عندك قوة ثقة بالله سبحانه وتعالى في أن الكلمة ستَنْفُذ، وأن الأمر سيمضي، إن عاجلاً أو آجلاً.
الأمر الثاني: ينبغي أن نأخذ بالأسباب: وهي: إلهية، وكونية، أي: شرعية، وكونية.
فالشرعية هي: ما أمرنا الله عز وجل بها، ومن أعظمها: الدعاء:- أن نكثر من الدعاء لإخواننا، فأقل ما فيه أنك في السحر إذا أوترت ودعوت لإخوانك تترجم عما في قلبك من أنك بذلت شيئاً لإخوانك، فتدعو لهم، وتذكَّر -أخي- أرملة من المسلمين فقدت زوجها من أجل لا إله إلا الله! تصوَّر أنها لو كانت قريبتك أو كانت أمك أو أختك أو ابنتك فكيف يكون حالك؟! هل يهنأ لك العيش؟! هل يهنأ لك البال؟! هل ترتاح؟! فلذلك يجب أن تدعو لهم وأن تستشعر أن إخوانك يفتقرون منك الدعوة الصالحة، والدعاء سلاح المؤمن، فيجب أن نكثر من الدعاء لإخواننا، وأن نجعل هذا الدعاء أشجاناً وأحزاناً مع أشجان إخواننا وأحزانهم.
والكونية هي: الأخذ بالأسباب التي نؤمر بها في الدين:- بأن نعد لأعدائنا ما أمر الله بإعداده، فمن استطاع أن يعين بنفسه فليُعِن بنفسه، ومن استطاع أن يعين بماله فليُعِن بماله، ومن استطاع أن يعين بالكلمة التي تدل على افتقاره وحاجته للوقوف معي فليَقُل.
فينبغي أن نكون مع إخواننا، فنعيش أشجانهم وأحزانهم، ولذلك لما بلغ خبر مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أبي حميد الساعدي قال: [اللهم لك عليَّ ألاَّ أضحك أبداً] وذلك من شدة ما سمع من مصاب أخيه في الله عثمان الخليفة الراشد، فكيف بأعراض تُنْتَهك! ودماء تُسْفَك! وغيرِ ذلك مِن نساءٍ للمسلمين يُرَمَّلْن! ويُيَتَّم أطفالهن؟! وإلى الله المشتكى.
فالذي نحب أن نقوله: أنه ينبغي أن نوطِّن أنفسنا، وأن نعد العدة لأعداء الله عز وجل -وذلك لِمَا ذكرنا-، على قدر استطاعة الإنسان ووسعه، فيبذل كل ما يستطيع لإعانة إخوانه والوقوف معهم، ويقف الوقفة الصادقة.
الأمر الأخير: الإخلاص:- إذا أردنا أن نقف مع إخواننا يجب أن نقف بإخلاص، ولَمَّا يتحدث الإنسان في هذه القضايا يجب أن يتحدث بإخلاص، فلا يتحدث من أجل غَلَبَة شخصية، أو حَنَقٍ شخصي أبداً، بل يجب أن يتحدث من واقع إسلامي وبشعور إسلامي نابع من القلب يريد وجه الله، حتى تكون الكلمات هادفةً ومؤثرةً وبالغةً إلى القلوب.
اللهم إن نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعجِّل لإخواننا بالفرج.
اللهم انصر المستضعفين من عبادك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أجمعين.
اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بأعداء الدين.
اللهم يتِم أطفالهم، ورمل نساءهم، وشتت شملهم، وفرق جموعهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد على القوم الظالمين.
اللهم إنا نسألك ثباتاً في هذه المحنة يرضيك عنا يوم لقائك.
اللهم ثبت قلوبنا بتثبيتك.
اللهم إنا نسألك اليقين بك، والتوكل عليك، وصدق الالتجاء إليك.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم إنا نسألك لإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها أن تشفي مُصابهم.
اللهم اجبر كسرهم.
اللهم أطعم جوعاهم.
اللهم اسقِ ظمآهم.
اللهم ارحم موتاهم.
اللهم ارحمهم برحمتك الواسعة.
اللهم أنزل عليهم من الصبر والسلوان والثبات أضعاف ما أُنْزِل عليهم من البلاء.
اللهم أزل عنهم العناء.
اللهم اكشف عنهم البلاء.
اللهم كفر بذلك ذنوبهم.
اللهم ثقل به موازين حسناتهم، وارفع به درجاتهم، وتقبل شهداءهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(47/8)
مواقف من حياة والد الشيخ/ محمد الشنقيطي
السؤال
نرجو من شيخنا الكريم أن يعطينا بعض الأشياء عن حياة أبيه، وبعض المواقف! وهذه أمنية كل طالبِ علمِ سَمِعَ بأبيكم ويريد أن يعرف هذا الشيخ العالم الرباني، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
والله إن هذا سؤالٌ مفاجئ، والمشكلة أن الشخص إذا فوجئ بالسؤال لا يكون مستحضراً، فالله المستعان.
من أهم الأمور التي كنتُ ألمسها في الوالد -رحمة الله عليه-: قضية الإخلاص: فقد كان أهم ما يعتني به -عليه رحمة الله- قضية إخلاص العمل لله جل جلاله، وأذكر أني ذات مرة راجعتُه في مسألة، وكان فيها دَخْلٌ من الدنيا؛ فقال لي: يا بني! إن الله عليم بذات الصدور.
واللهِ إن هذه الكلمة إلى الآن في قلبي، كلَّما وجدتُ شيئاً مِن دَخْل الدنيا تذكرتُ قوله: إن الله عليم بذات الصدور، فقال: بذات ولم يقل: بالصدور: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43] أي: بحقائق ما فيها من إرادةِ وَجْهِهِ، أو إرادةِ الدنيا.
كذلك مما أذكره فيه -رحمة الله عليه-: كثرة العبادة الخفية: فقد كان يجلس مع الناس ولا تَظْهَر عليه كثرة العبادة؛ ولكن ما إن يخلو بجوف الليل حتى أسمع نشيجه وبكاءه من غرفته رحمة الله عليه.
وأذكر أنه كان كثير القيام في الليل: حتى إنني أذكر ذات مرة أنه كان هناك أحد المشايخ يستبعد أن يختم الشخصُ القرآنَ في ليلة، ويقول: إنه بعيد جداً.
فجئت إلى الوالد رحمه الله، وكنت حينها في السنة الثانية من الكلية، وقلت له: إن هناك مَن يستبعد ختم القرآن في ليلة، وأنا -في الحقيقة- قلت للشيخ: هذا ليس ببعيد -أي: أثناء إلقائه للمحاضرة-؛ لأن الشخص خلال ربع ساعة أو اثنتي عشرة دقيقة يكون قد انتهى من الجزء، هذا إذا كان في ليالي الشتاء، فمن الممكن أن يختم في ليلة واحدة.
فالشاهد أنني ذهبت إلى الوالد رحمة الله عليه فذكرت له ذلك.
فقال: هذا بسيط، ختم القرآن في ليلة بسيط، وهو خلاف السنة -فكما تعلمون أن السنة ألا يُخْتَم القرآنُ في أقل من ثلاث ليال-؛ لكن الشاهد أنه قال: هذا سهل جداً.
فما زلتُ به رحمة الله عليه، فقلت له: كأني أشكِّك، وكأني مع الشيخ إذْ يقول: إن هذا بعيد.
حتى قال لي: واللهِ يا بني! الحمد لله، مرَّت علي في بداية الطلب سنوات، لا أستفتح بعد العشاء بالقرآن إلا ويأتي السحر وأنا في آخر القرآن.
رحمة الله عليه.
وكان معروفاً عنه أنه ما كانت عنده صبوة إلى الحرام.
وكان أهم شيء عنده الوقت: حتى أنه كان في أيام الطلب -كما يذكر لي أحد كبار السن الموجودين الآن عن خالٍ له كان قريباً من الشيخ الذي ارتحل الوالد لأخذ العلم عنه- يقول: كان يقْدُمُ وما يخالط أحداً من طلاب العلم؛ لأنه كان رحمة الله عليه لا يحب الاختلاط بالناس إلا إذا كان فيه فائدة، ولا يأنس بكل أحد، ولا يرتاح لكل أحد، فهو حريص على شغل الوقت بالفائدة.
فمن أهم ما لاحظتُ فيه: الحرص على الوقت، كان إذا دخل البيت -كما ذكرتُ- أولَ ما يستفتح بالصلاة، وما أذكر في حياته أنه دخل المنزل وجلس، حتى والله في المرض يصلي جالساً؛ لا يدخل البيت إلا ويستفتح بما كتب الله له، ثم ينقلب مباشرة إلى فراشه، وأمام فراشه ما لا يقل عن عشرين كتاباً، فمكتبته فيها ما لا يقل عن أربعة آلاف أو خمسة آلاف كتاب، والمكتبة الأساسية في البيت التي كان جمعها رحمه الله ليس فيها كتاب إلا وقرأه من جلدته إلى جلدته، رحمة الله عليه، فقد كان كثير القراءة والمطالعة بشكل عجيب جداً! وعنده خصلة وجدتها فيه، في مسألة العلم: أنه لا يمكن أن يتكلم في شيءٍ يجهله: فأي شيء يجهله لا يتكلم فيه أبداً ولو كان الأمر ما كان، ولو كان من أوضح الواضحات إلى الله، فالشيء الذي لا يعرفه يمسك عنه، وكان يستشهد بقول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] فيقول: هذا هو التكلف.
ويستشهد أيضاً بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
فلا يتكلف في شيء لا يعرفه، وهذا -في الحقيقة- من أجلِّ نعم الله على طالب العلم إذا رزقه الله هذا العلم، وهو أنه لا يتكلم في شيء يجهله؛ فإن هذا من دليل أمانته، ولذلك هما العالِم وطالب العلم إذا كانا وقَّافَين عند حدود الله، لا يتكلمان في شيء يجهلانه! أيضاً من الخصال التي وجدتُها فيه رحمة الله عليه: عدم مبالاته بالدنيا؛ أقبلت أو أدبرت: حتى أنني أذكر أنه ذات مرة -وهذه قَصَص عادية؛ لكن لعل الله أن ينفع بها- حفر بئراً، وكان قد كلَّفه ما لا يقل عن مائتين وخمسين ألفاً، ولم يشأ الله أن يخرج فيه ماء، فجاء هذا الذي حفره وقال: والله يا شيخ! إن هذا يُحْتَمل أن يكون شيئاً قد سد الماء الجاري.
يريد أن يخفف الصدمة على الوالد.
أي: الظاهر أن الماء الجاري قد سده شيء ما أثناء الحفر، وإن شاء الله ربما في المستقبل يتحسن.
فقال: يا بني! والله لو أن هذه المزرعة كلها ذهبت فإني راضٍ عن الله.
كان لا يبالي أبداً بهذه الدنيا، سواءً أقبلت أو أدبرت، وقلَّ أن يُسأل شيئاً فلا يعطيه، رحمة الله عليه.
دخلت عليه ذات يوم فوجدته يبكي، فلما رآني قلب وجهه إلى جهة الأخرى للفراش، ومسح الدموع، ثم جلس عادياً، وكان قليل البكاء رحمة الله عليه، إلا أني لا أذكر أني رأيته يبكي غالباً إلا في فقد عزيز، أو في عبرة، أو في الليل؛ لأني كنتُ أدخل عليه في بعض الساعات في جوف الليل.
فنَشَجَ ثم جلس معي كأنه ما به شيء، وأنا قد رأيته يبكي؛ فخشيتُ أن يكون جاءه شيءٌ يسوءُه، فنزلتُ به وقلت: يا شيخ، خيراً إن شاء الله! قال: لا.
خير، ماذا تريد؟! يريد أن يصرفني عن الشيء الذي رأيته، فألححت عليه وقلت: يا شيخ رأيتك تبكي، وكنتُ أحب أن أعرف السبب! فقال لي -والله بهذا الحرف-: ما لي لا أبكي وأيتام فلان توفي أبوهم، وليس عندي شيء أرسل لهم.
أي والله قال هذه الكلمة.
وأذكر فيه -رحمة الله عليه- أنه كان يعودنا على الرأفة بالمساكين والأيتام: وهذه كانت فيه خصلةً عجيبة! حتى أنه كان يقول لي: إذا مررتَ على المرأة تسأل فلا تجاوزها حتى تعطيها شيئاً، ولو أن تعطيها غُتْرَتَكَ التي على رأسك.
فكأني استعجبتُ من هذا الكلام.
فقال: لأنك تعرف المرأةَ إذا احتاجت ماذا تفعل؟! لأنها إذا احتاجت قد تقع في الزنا، وهي عورة من عورات المسلمين، فلا يليق بك أن تمر بها إلا وقد كفيتها، فلو كانت كاذبة فإن الله يأجرك على حُسْن النية، ويعاملك على حُسْن نيتك.
فكان -رحمة الله عليه- عطوفاً، ربما كان راتبه أكثر من سبعة آلاف أو ثمانية آلاف في ذلك الزمان، فما كان يأتي عليه منتصف الشهر إلا وقد استدان رحمة الله عليه.
الدنيا هذه سواءً أقبل منها أو أدبر عنها لم ينفعه الله بها كثيراً، فإذا أراد الله أن يفرِّغ طالب العلم للعلم نَزَعَ من قلبه الدنيا، ولذلك تجده أغنى ما يكون بالله، وأفقر ما يكون لله جل جلاله.
فهذه من بعض المواقف التي تَحْضُرني.
الموقف الأخير: وأقوله لعله أن يكون سبباً في الترحُّم عليه: فإني أشهد الله العظيم -والله شهيدٌ على ما أقول- أنني دخلتُ عليه قبل أن يتوفى بقرابة ثلث ساعة أو نصف ساعة واللهِ العظيمِ لا أذكر أنني رأيته أشرق وجهاً ولا أبهج نفساً من تلك الساعة، رحمة الله عليه.
أسأل الله العظيم أن يجمعنا به في مستقر رحمته.(47/9)
موقف خطيب وإمام يتهم في عقيدته من قبل بعض الشباب الملتزمين
السؤال
أنا إمام وخطيب في أحد الجوامع، ولقد اتُّهِمْتُ في عقيدتي من بعض الشباب الملتزمين، والذي أعْلَمُه من نفسي أني أعتقد معتقد أهل السنة والجماعة -وإن كنتُ لا أعلم في مسائل العقيدة كثيراً-! فماذا أفعل معهم؟! وما هي نصيحتكم إليهم؟
الجواب
الذي تفعله: أن تدعو هؤلاء الذين يتكلمون في عقيدتك، وأن تجتمع أنت وإياهم بين يدي إنسان من أهل العلم، فيعرضوا ما عندهم من الشبه والمآخذ، وتتقي الله فيما يقولون؛ فإن كانوا صادقين صَدَقْتَ وبيَّنْتَ حجتك بكلامك، فما كان من صوابٍ قَبِلْتَه وما كان من خطأٍ رددتَه.
فإن كان القوم قومٌ بُهْتٌ، وأصحابُ استعجال وأغراضٍ وأهواء فاصبر أخي في الله؛ فإنه لا بد من الابتلاء، يقول الله عز وجل عن نبيه موسى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] الله أكبر! قال: {آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69] فَلَمْ يتركْه، بل قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} [الأحزاب:69].
فكل من تقلَّد إمامة أو منصباً دينياً، وطُعِنَ فيه، فالله هو الذي يتولى أمره، {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] فما ذكر صلاة موسى، ولا عبادته؛ ولكن ذكر بلاءه، وطَعْنَ الناس فيه، ثم قال بعده: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
فإذاً: على طالب العلم أن يعلم أن الوجاهة التي يريدها سوف يجد أمامها الطعنَ في عقيدته، والطعنَ في منهجه، والطعن في رأيه.
ثم إننا نقول لكل طلاب العلم: اتقوا الله في أنفسكم، فإن الله ما أرسلنا حَفَظَة على العباد، وما أرسلنا متتبعين لعورات الناس: (فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر بيته).
فعلينا أن نتقي الله في عورات المسلمين، وأن نتقي الله في أعراض المسلمين، وأن نتقي الله فيما نقوله في إخواننا، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نكره لهم ما نكره لأنفسنا، فهذا من دلائل الإيمان، وليس معنى هذا أن نترك الحبل على الغارب لأهل البدع والأهواء، لا؛ ولكن انتقدْ ببَيِّنة، وإذا رأيت إنساناً من أهل البدع فاذهب إليه، وانصحه، وذكِّره بالله، وأقِمِ حجة الله عليه.
فيا أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى عبدة الأوثان، فيقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم قومٌ لا يعلمون) فكيف بإنسان قد يكون عنده خطأ أو شبهة، ولعل الله أن يشرح صدره على يديك؟! ولذلك فإن من أفضل ما تكون الدعوة: الدعوة إلى سلامة المعتقد، فمِن أَحَبِّ الدعواتِ إلى الله، ومِن أَحَبِّ العلمِ وأشرفِه وأكرمِه: علمُ العقيدة، فإذا كان الإنسان يحس بجلالة هذا العلم وفضله وعظيم منزلته عند الله فينبغي أن يكون أفضل الناس في غرسه في قلوب الناس، فتكون عنده المنهجية السديدة، فلا ينفِّر الناس، بمعنى: أنك بمجرد أن ترى خطأ على شخص لا تجلس فتثلِّب فيه حتى يكره الحق، فهذا صعب -يا أخي- ولكن هيئ له أمراً يدعوه إلى ترك هذه البدعة، وترك هذا الهوى، زُرْه -مثلاً- المرة الأولى، والمرة الثانية لوحدك، والمرة الثالثة مع طلاب العلم، والمرة الرابعة مع شيخ؛ وأوصي بالعلماء الذين يعرفون نصحه.
فابذل كل ما تستطيع وكأنك أمام إنسان غريق، فإن الله عز وجل قد ينقذه على يديك.
وهذا أمر مهم جداً؛ أن نكون ناصحين، وأن يكون النصح لعامة المسلمين، وأئمة المسلمين، وعلمائهم، بالشكل الذي يُرَغِّب في الحق لا الذي يُنَفِّر منه.
إن التُّهَمَ هذه التي تقال والتي تحاك لا يجوز لمسلم أن ينقلها بلسانه إلا على بيِّنة، فلو أنك سمعتَ عن إنسان يقال عنه: أن في عقيدته كذا، فإن هذه الكلمة -ولو نقلتها نقلاً فقط- فإنك تحاسب عنها بين يدي الله، ويكون هذا الشخص خصماً لك بين يدي الله، واللهِ إنك ما تقول عن إنسان في عقيدته شيئاً إلا جاء يوم القيامة يخاصمك بين يدي الله عز وجل، فيقول: يا رب، سَلْ هذا، فقد قال فيَّ كذا وكذا: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] هذا إذا كان عظيماً في القذف وفي الإفك، فكيف في العقيدة؟! سبحان الله! فقد أخبر الله أن ((الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] هذا في ماذا؟! هذا في ما إذا قذف في العرض، فكيف بمن يقذف في الأفكار والمناهج! فيقال: فلان ضال في منهجه، وفلان زائغ في منهجه، وفلان كذا، فلا يُتَحَرَّى؟! نحن لا نفتح الباب -بما نقول- لأهل البدع والأهواء، فلا مانع أن تحذر من أهل البدع، وأن تبين خطأهم، وأن تبين ما هم عليه؛ ولكن على بيِّنة.
والمراد: أن نتقي الله في أعراض المسلمين الذين تقال فيهم الشائعات من العلماء والدعاة والأخيار والأئمة دون بيِّنة، فهذا ليس من شأن المسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وفي قراءة: {.
فَتَثَبَّتُوا} [الحجرات:6].
وجاء في الحديث: (ألا إن التَبَيُّن من الله، والعجلة من الشيطان) وهو حديثٌ مُتَكَلَّمٌ في سنده؛ لكن معناه صحيح، فإن العجلة من الشيطان؛ لأن الشيطان يريد نقل الشائعة بسرعة، ولذلك تجد من ينقل هذه الشائعات مريضَ القلب يعتني بسرعة نقلها، وواللهِ إنه ليبلغ ببعضهم أنه يفرح أن يجد على الداعية أو على الشيخ مآخذاً، فيكون -نسأل الله السلامة والعافية- كالذباب؛ لا يقع إلا على النجس والخبث -والعياذ بالله-، وهذا من آفات القلوب وأمراض القلوب، نسأل الله أن يسلمنا منها.
وهذا كلام عام للناس جميعاً، واللهِ لا نعني به طائفة ولا أمة؛ ولكن نعني به كل مَن خالف هذا المنهج الذي قامت عليه نصوص الكتاب والسنة.
فينبغي علينا أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن يكون عندنا الحرص على توجيه الناس أكثر من تنفيرهم، يقول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وأبي موسى وهما ذاهبان إلى قومٍ كافرين من أهل الكتاب: (يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا).
فالإنسان المُعَسِّر لَمَّا يأتي ليدعو فإنه يُنَفِّر غيره بالأسلوب، يقول عبادة بن الصامت: [يُحْكَى عن معاذ رضي الله عنه كلمة حكيمة: إنكم تسمعون الزلة عن العالم، فلا تعجَلوا عليه -لا يوجد أحد كاملاً، بل لا بد للعالِم أن يقع في الخطأ، فلا تعجَلوا عليه- فإنه أحرى أن يراجع نفسه].
أي: أن العالم إذا جئتَ إليه فلا تقل له: قال فلان، وقال فلان، فتُهَيِّئَ له وَضْعاً يجعله يُصِر على خطئه؛ لأنك بهذا تكون قد أسأت في حقه؛ لكن لا تعجَل عليه، بل تراجعه وتذكره بالله، وتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وإذا بك تجده قد استفاق وانجلت عنه العماية؛ فيدعو لك بخير؛ فتكون سبباً في توجيهه، وهذا من حق العالِم علينا.
المقصود من هذا كله: أن هذه الأمور ينبغي التنبُّه لها.
وأما ما ذكرتَه -أخي السائل- فإني أوصيك بشأنه أن تَعْرِض ما أنت فيه وتَعْرِضهم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت منهم إعراضاً ووجدتهم قوماً لا يعتنون إلا بأذيتك، ولمست منهم الحسد فاصبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لك فيه أسوةٌ حسنة، فقد قيل عنه: الساحر، والأفاك الأثيم، والمجنون، والأبتر، والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين.
والله إن الله سيضعك في مرتبةٍ إذا أحبك، ولو أن الخلق كلهم أرادوا أن ينزلوك عنها شعرة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وإذا غضب الله على العبد وأراد الخلق كلهم أن يرفعوه درجة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلا تأبه بهم.
يقول الشاعر: إن يحسدوك فلا تعبأ بقائلهم هم الغثاء وأنت السيد البطلُ قيلت هذه في الإمام الحافظ/ عبد الغني المقدسي -رحمة الله عليه- واقرأ في التاريخ، وابدأ بصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كنتُ أقرأ في سيرة أبي هريرة، فوقفتُ أمام عبارة عجيبةٍ مِن القِدَم! عجيبةٌ والله! أبو هريرة يُتْرَك بلا طعام ولا شراب -كما في صحيح مسلم- وكان يُصرع حتى يأتي الرجل ويضع قدمه عليه، ويظن أنه مجنون، وما به إلا الجوع، رضي الله عنه وأرضاه، يُصرع من أجل ماذا؟! من أجل أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْثِراً به على ملء بطنه؛ لأنه يريد أن يحفظ لنا سنته -رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الخلد مثواه ومأواه-.
هذا الصحابي الجليل يلقبه الحافظ ابن حجر بحافظ الصحابة، أسلم يوم خيبر، ومع ذلك حفظ ما لم يحفظه مَن كان قبله في الإسلام مِن كثرةِ حفظه وملازَمَتِه للنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الصحابي لَمَّا حفظ أتعرفون ماذا جرى له؟! جاء في الخبر عنه رضي الله عنه أنه في يوم من الأيام -تعرفون أنه كان يحدِّث بالأحاديث، فلما أَكْثَرَ أصبح الناس يشكِّكون في الكلام الذي يقوله- فقال ذات يوم: [يا أهل الكوفة! أنا أكذب على رسول الله؟! أنا أكذب على رسول الله؟! اللهُ الموعد] وقَبَضَ على لحيته! سبحان الله! نظرتُ إلى هذا فعلمتُ أن لطلاب العلم أسوة بهذا الصحابي الجليل، فأنت تحفظ العلم، وتتجند للدعوة إلى الله، ثم تجد فلاناً يطعن في رأيك، وفلاناً يطعن في منهجك، وفلاناً فيه -أقل ما فيه- أنه إذا وجدك صالحاً قال: فلانٌ ليس عنده علم؛ حَسَداً منه، المهم عنده أنك لا تأخذ أحداً، ولا يجلس معك أحد.
فأقول لمثل هذا: لماذا يا أخي؟! ينبغي التآلف والتكاتف، وأن يحس الإنسان أنه يشد على يد أخيه! فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من أمراض القلوب، وأن يصلح الحال، وأن يوجب لنا من عصمته فيما عند الله تعالى.(47/10)
حكم الدخول في الجماعة الثانية والجماعة الأولى ما زالت في التشهد الأخير
السؤال
إذا دخلتُ المسجد ووجدتُ الجماعة في التشهد الأخير، وهناك جماعة أخرى تتوضأ، فهل أدخل في الجماعة الأولى أم أنتظر الجماعة الثانية؟ وهل لو دخلتُ في التشهد الأخير في الجماعة الأولى أكسب أجر الجماعة، أم الأفضل أن أنتظر الجماعة الثانية؟
الجواب
هذه المسألة أحب أن أنبِّه عليها؛ لأن فيها سُنَّةً عن النبي صلى الله عليه وسلم أضاعها كثير من طلاب العلم اليوم، وقد يوجد من يقول: إنه بهذا القول -الذي يُعْتَبر خلاف السنة- يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فقال عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم) أي: أيَّ شيءٍ أدركتموه، حتى لو أدركتم الإمام قبل السلام ولو بلحظةٍ واحدة فكبروا، ولا يجوز لأحد دخل المسجد أن ينفرد عن الإمام، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين اللذين صَلَّيا مُفْرِدَين قال: (ألستما بمسلمَين؟! ما منعكما أن تصليا في القوم؟!)، والإسلام يحارب الشذوذ، هذا الشذوذ الذي ينفرد فيه عن جماعة المسلمين يحاربه، ولذلك قال: (ألستما بمسلمين؟! ما منعكما أن تصليا في القوم؟!)، فدل على أن كل من دخل إلى المسجد ينبغي عليه أن يدخل مع الإمام، حتى أنهما قالا: (صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) كل هذا من أجل ألا ينفرد الإنسان عن إخوانه؛ لأنه إذا انفرد ساءت به الظنون، وفُتح بابٌ لأهل الأهواء والبدع أن يتركوا أهل السنة ويحتجون بجواز ذلك في الشرع.
فالمقصود: أنه لا يجوز لأحد دخل المسجد أن ينفرد عن الإمام، وإنما ينبغي الدخول معه.
المسألة الثانية: إذا دخلتَ مع الإمام وأدركتَ التشهد، وكان أحد بجوارك، فقل له: إذا سلم الإمام فأْتَمَّ أنت بي.
هذا لأنك منفرد، فإذا سلم الإمام قُم فكبِّر ويكبر معك، واقرأ وصلِّ به كأنكما لم تدركا شيئاً مع الإمام، أي: كأنكما منفردين، هذا إذا كنتما أدركتما الإمام في التشهد الأخير، أو أدركتماه بعد رفعه من الركعة الأخيرة، هذا كله تعتبر أنت فيه منفرداً يجوز للغير أن يأتم بك.
فالمسألة التي ذكرتَها هي: أن تكبر معه.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن فضل الجماعة يُدْرَك بالتسليم، فمن أدرك الإمام في التشهد، فسلم الإمام وقد دخل في الصلاة، قالوا: فقد أدرك الفضل؛ فضلَ الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن خمساً وعشرين ضعفاً من الأجر يكون على المشي إلى المسجد، فأنت مدركٌ لفضل الجماعة.
وبناء ًعلى هذا فإنه لا يجوز الانفراد، ولا يجوز الوقوف إلى أن تدخل الجماعة الثانية، وإنما يكبر الإنسان ويدرك الإمام.
أما أيهما أفضل: الجماعة الأولى أم الثانية؟ فأقول: تكبِّر؛ لأن تكبيرة الإحرام منك قد وقعت في وقتٍ سابقٍ للجماعة الثانية، ولذلك فإن العبرة بتكبيرة الإحرام، فمن كبر تكبيرة الإحرام -مثلاً- في الساعة الثانية، وصلى ولو مع واحدٍ جماعةً أفضل مما لو انتظر جماعةً كثيرةً إلى الساعة الثانية وعشر دقائق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة، وما يصليها في وقتها، ولما فاته من وقتها خيرٌ له من الدنيا وما فيها) فقوله: (ولما فاته من وقتها) أي: قليلاً كان أو كثيراً.
فاحرص على فضل الوقت، فإنه لا شك أن دخولك مع الجماعة الأولى مع إحداث جماعةٍ ثانية بعد السلام أفضل من بقائك وانتظارك.
والله تعالى أعلم.(47/11)
علاج من ابتلي بحب المردان
السؤال
كيف يفعل من ابتلي بحب المردان؟ وكيف يعالج نفسه من ذلك؟
الجواب
عليه أن يدعو الله، ويأخذ بالأسباب: فيدعو الله عز وجل أن يعافيه من هذا البلاء، ولا يجلس معهم، ولا يحرص على مجالسهم، وإذا وجد الفتنة يقوم، ولا يحل له أن يجلس في مجلس يجد فيه الفتنة مِن أمرد، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من صحبتهم، والجلوس معهم.
فعليه أن يدعو الله، ويأخذ بالأسباب، فإذا وفق الله الإنسان للدعاء والأخذ بالأسباب -التي مِن أعظمِها: أنه لا يكثر من مجالستهم ولا صحبتهم ما أمكن- فإن الله يعصمه.
أيضاً القضية الثالثة: أن المحبة والتعلق سببها ضعف الإيمان، فالغالب أن الإنسان لا يتعلق ولا يحب محبة غير شرعية إلا بضعف الإيمان -والعياذ بالله-، والذي يريد من الله عز وجل أن يشفيه من هذا عليه أن يعالِج هذا البلاء بقوة الحب لله جل جلاله؛ لأن القلب هو وعاء الحب، فإذا مُلِئ بمحبة الله وأصبح مليئاً بحب الله لم يجد حبُّ ما سواه مكاناً في ذلك القلب، ولذلك لا بد أن تحاول دائماً على هذا، فهو من أهم ما ينبغي أن يعتني به الشاب المهتدي، أول ما يعتني به بعد التوفيق للهداية أن يقوي الإيمان في قلبه، وذلك بمحبة الله المحبة الصادقة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
فالذي يريد أن يكون على كمال الإيمان عليه أن يملأ قلبَه حباً لله، فإذا جاءت محبة مَن سواه هانت عليه؛ لأن أمامه محبة الله جل جلاله، فإن كان يحبه لجمال؛ فإن الله جميل، لِمَا ثبت في الحديث الصحيح: (وإذا كشف الحجاب عن وجهه لأهل الجنة نسوا النعيم الذي هم فيه، وتركوه، واشتغلوا بذلك الجمال، ورؤية ذلك الجمال، ثم ينقلبون إلى أهلهم - كما في صحيح مسلم - فيقولون: لقد ازددتم بعدنا جمالاً، فيقولون: والله لقد ازددتم بعدنا جمالاً).
من جمال النظر، يقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] النضرة هذه كمال النعيم والبهجة والسرور الذي تراه في وجه الإنسان، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] لكن هذه النضرة بماذا؟ {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23].
فإذا كنت تحب الجمال فالله كمال الجمال والجلال جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
وإن كنت تحب المال فالله بيده خزائن السماوات والأرض، بيده سحاء الليل والنهار لا تُغِيضُهَا نفقة.
تَفَكَّر في أي شيء أنت تحب من أجله أحداً، وانظر إليه في جوار الله جل جلاله، ستجده لا يُعَدُّ شيئاً، فالإنسان الذي يريد أن ينصرف قلبُه عن الخلق إلى الخالق جل جلاله يُعَظِّم في قلبه حبَّ الله، فيصبح القلب مملوءاً بحب الله، فإذا امتلأ القلب بحب الله أتت المرحلة الثانية وهي أن القلب لا يتجه إلى حب شيء إلا من خلال حب الله، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء، وأن الحب في الله والبغض في الله مِن أوثق عُرَى الإيمان، لماذا؟! لأن معناه أن القلب قد امتلأ إيماناً إلى درجة أنه لا يتجه إلا إلى حبيب الله، ولا ينقبض إلا عن عدو الله، كما قال الله عن هؤلاء: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22] ثم انظر إلى تعبير القرآن! قال: {كَتَبَ} [المجادلة:22] كأن الإيمان نُقِش في هذه القلوب، الله أكبر! {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22].
فالإنسان الذي يريد ألا يتجه قلبه إلى حب شيء غير الله عليه أن يملأ قلبه بحب الله، فحب المردان والتعلق بالمردان جاء من فراغ، وهذا الفراغ هو ضعف الإيمان، فنسأل الله العظيم أن يكتب لنا ولكم السلامة والعافية.
ثم ماذا تستفيد؟! هب أنك نظرت إلى مَن جَمَّل الله صورتَه! ما الذي تستفيده؟! ما الذي تجده؟! ما هي الفائدة؟! ما هو الأثر؟! هل يزداد إيمانك؟! لا والله، حتى إن بعض السلف لما نظر إلى أحد الناس وهو ينظر إلى الأمرد قال: [والله لتَجِدَنَّ غِبَّةَ هذا ولو بعد حين]، فمكث عشرين سنة، وذات ليلةٍ أُنْسِيَ القرآنَ فيها -والعياذ بالله-.
فالإنسان لا يأمن مكر الله عز وجل؛ ولكن يأخذ بالأسباب التي تعينه، فإذا نظر اللهُ إليك وأنت في معصية؛ ولكنك تأخذ بالأسباب التي تريد أن تنجو بها من هذه المعصية، وتفر من الله إلى الله، فأبشر بكل خير.
ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياك السلامة والعافية.
والله أعلم.(47/12)
نصيحة لشارب الدخان
السؤال
إني أُشْهِد اللهَ العلي العظيم أني أحبك في الله.
وسؤالي يقول: أنا إنسان منَّ الله عليَّ أن هداني منذُ سنوات ولله الحمد، إلا أنني أرتكب معصيةً في الخفاء، وهي شرب الدخان، ولا أستطيع تركه، فما توجيهكم لي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أُشْهِد الله على حبكم جميعاً فيه، وأسأل الله العظيم كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في مستقر رحمته {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] وأحبك الله الذي أحببتني من أجله.
وأما ما سألتَ عنه من معصية الدخان، فأسأل الله العظيم -أمِّنُوا- أن ينزع من قلبك حبَّه، وأن يوفقك إلى تركه، وأن يعجِّل لك بالفرج.
أخي في الله! إن كل شيء يشربه الإنسان أو يطعمه يحاسِبه الله عز وجل عليه، ففي كل لحظة يشرب الإنسان فيها هذا البلاء يكوِي نفسه بنار؛ نار الدنيا قبل نار الآخرة، ولو كان الإنسان -والعياذ بالله- مبتلىً بالدخان، فإن هذه الصغيرة قد تكون وسيلة للكبيرة؛ لأن الإنسان -كما يقول العلماء- إذا داوم على الصغائر قد تنتهي به إلى الكبائر، والذي جعلك تهجر فراشك في جوف الليل إذا سمعتَ المنادي ينادي إلى الصلاة، والذي جعلك تخرج في شدة النهار، وفي شدة الحر والقَرِّ للعبادة والصلاة، وهذا الجهاد الذي جاهدت به نفسك، واهتديت والتزمت به، أهونُ منه تركُ الدخان؛ ولكن الشيطان خبيث، يقول لك: لن تستطيع، وهذا أمر صعب، فأنت داومتَ عليه سنوات؛ ولكن أقول: اعزم، فوالله الذي لا إله إلا هو ما من إنسان يصاب بذنب ويَصْدُق مع الله إلا صَدَق الله معه؛ لكن المهم الصدق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (وأسألك العزيمة على الرشد).
فالأمر يحتاج إلى عزيمة فقط: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] فالمشكلة في العزم، وإلا لو أنك عقدتَ العزم على ترك الدخان، فأول ما تجد المعونة والتوفيق مِن الله جل جلاله، وأول ما تجد الحب مِن الله؛ لأنه بمجرد ما تجد في نفسك الكراهية لهذا الشيء فإن الكراهية تعتبر من أعمال القلوب، وقُرْبَةٌ بينك وبين الله، يقول الله: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فإذا علم الله في قلبك أنك تكره الدخان أعانك؛ لكن اصْدُق مع الله.
وأوصيك بوصية ثالثة حتى تترك الدخان: إذا أصبحت فاجعل آخر عهدك بالدنيا غروب الشمس، وهذا أمر خطير جداً، حتى أن بعض العلماء قال: لا آمن على من شرب الدخان مسٌ -والعياذ بالله-، فهَبْ أنك ستموت عند غروب الشمس، واللهِ -بإذن الله عز وجل- ستجد معونة من الله في تركه، وهذا يكون في أي معصية، فاعتبر أن غروب الشمس هو آخر أمد لك، وهذا من أعظم العون الذي يعين على الطاعة، ويعين على ترك المعصية، فقصِّر الأمل في الدنيا، فالدخان مَن ابتلي بمرض من أمراضه ومات منه ربما يكون قاتلاً لنفسه -والعياذ بالله-، فلا آمَنُ عليه من ذلك، وهذا -حقيقة- فيه شبهة، أعني أن هذا الحكم ليس ببعيد؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] فإذا كان هو يعلم أنه سبيلٌ للسرطان، والسرطان سبيلٌ للموت -والعياذ بالله-، أو سبيل للأمراض الخطيرة في الرئة، فكأنه يعلم أن هذا السم الذي يتحسَّاه ينتهي به إلى نار جهنم، ولذلك ثبت الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تحسَّى سُمَّاً فمات منه فهو في نار جهنم يتحسَّاه خالداً مخلداً فيها) -والعياذ بالله-.
فالأمر خطير جداً -يا إخوان-، فمسألة الدخان يقرر بعض العلماء أنه لا يُؤمَن على الإنسان إذا بُلِي بمرضٍ بسبب هذا الدخان أن يكون قاتلاً لنفسه! وتُحْكَى حول هذا الأمر عِبَرٌ عن الثقات، ينبغي للإنسان أن يعتبر بها: فقد بلغ ببعضهم أنه وُجِّه إلى القبلة ولم يتوجه -نسأل الله السلامة والعافية- وما عُرِفَ عنه إلا شرب الدخان.
ومنهم من كان -والعياذ بالله- يشرب هذه البلاء التي تسمى الشيشة، فيقول مُلَحِّده: فلما وضعتُه في القبر وجدتُ رائحتها في قبره، نسأل الله السلامة والعافية.
فالأمر خطير جداً؛ لأن هذه الأرواح أمانة، فالله سبحانه وتعالى يحاسب صاحبها عليها.
فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من ذلك، وأن يعافينا وإياكم وذرياتنا من هذا البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً).
والله تعالى أعلم.(47/13)
كيفية الوقاية من الشيطان
السؤال
إني أحبك في الله، ثم ما هي الوقاية من الشيطان؟
الجواب
الله المستعان.
أما الوقاية من الشيطان فقد بيَّنها الله عز وجل في قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200].
فمِن أعظم الحرز، ومِن أعظم الحفظ، ومِن أعظم الحياطة: كثرةُ ذكرِ الله جل جلاله.
فالذي يريد أن يكون في مأمَن من الشيطان عليه أن يُكْثِر من ذكر الله، وألا يفْتُر لسانه عن الاستغفار، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، فإن ذكرتَ الله ذَكَرك الله، فإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه، وإن ذكرته في مَلَأٍ ذكرك في مَلَأٍ خير من الملأ الذي ذكرته فيه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
فالذي يريد من الله أن يعصمه من الشيطان ويحفظه من الشيطان: يكثر من ذكر الله، خاصة تلاوة القرآن، فإن العبد إذا كان تَلَّاءً للقرآن هابه الشيطان وخافه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: عن عمر رضي الله عنه أنه قدم على امرأةٍ كان عندها ابنٌ به مس، وقال لها: [انظري إلى نجي صاحبك، فاسأليه عن أبي موسى -غاب عليه خبر أبي موسى، وكان أبو موسى من أكثر خلق الله تلاوةً للقرآن هو ومعاذ بن جبل كما هو معروف من سِيَرهم- قالت: أتسألني عنه؟! ذاك الذي يخرج منه كالشهب لا أستطيع أن أقربه؟!] تعني: لا أستطيع أن اقترب منه، والشهب هذا هو: القرآن؛ لأن القرآن على الشيطان مثل الشهب، لا يطيق كلام الله عز وجل، ولذلك لا يستطيع أن يمكث في البيت الذي تُقْرأ فيه سورة البقرة ثلاثة أيام، فهو في حرز من الله أن يدخله الشيطان.
فالقرآنُ وكثرةُ تلاوتِه يورث انشراح الصدر، والذي يريد أن يكون من الصالحين والسابقين إلى الخيرات عليه أن يكثر من ذكر الله، واللهُ قد أثنى على هؤلاء فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] والله يا إخوان إن هاتين الآيتين ما يقرأهما الإنسان إلا ويتفطر قلبه حزناً، إن الله يوصيك من فوق سبع سماوات أن تذكره، وهو غنيٌ عن الذكر وأنت أفقر ما تكون إلى هذا الذكر؟! وإذا أمسى الواحد نظر في صحيفة عمله كم ذكر الله جل جلاله! فلا يجد إلا أذكار الصلاة، هذا إذا كان يحافظ على أذكار الصلاة، فأين تلاوة القرآن؟! كم جزءاً قرأ؟! ثم كم تسبيحه؟! كم استغفاره؟! كم تهليله؟! كم تحميده؟! كم تكبيره؟! لا يجد إلا القليل.
هذا من الرزايا.
ولذلك ليس غريباً أن تجد الشخص سَمْتُه سَمْتٌ صالح؛ لكن قلبه خاوٍ، وذلك لأن ذكر الله قليل.
فلا تنشرح الصدور إلا بذكر الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ولا ترتاح النفوس، ولا تبتهج إلا بذكر الله جل جلاله، والذي يريد السعادة والأنس يأنس بالله، ولذلك واللهِ تجد إنساناً ولو كان وحيداً فريداً مع كتاب الله تجده كأن الدنيا بين يديه حقيرة؛ لكثرة ذكر الله، يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في جبلٍ قريبٍ منَّا، هنا بجوار منطقة خليص اسمه: جمدان وهم مسافرون، يقول لأصحابه: (سيروا، هذا جمدان، سبق المفرِدون، قالوا: وما المفرِدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) سبقوا، ولذلك تأتي يوم القيامة فتجد الصالحين قد سبقوك بمراحل كثيرة، وناساً كانوا يتقلبون أناء الليل وأطراف النهار مع كتاب الله، ومع الاستغفار، ومع الدعوة إلى الله، ومع الذكر، وفي الخيرات، يُشْغِلُون أنفسهم بطاعة الله.
فالذي يريد أن يكون في عصمةٍ من الشيطان، وحفظٍ من الشيطان عليه أن يكثر من ذكر الله، فإن مَن ذَكَرَ الله ذَكَرَه الله، ومَن ذَكَر الله فنِعْمَ -واللهِ- الحالُ حاله، نسأل الله العظيم أن يعيننا على ذلك، وأن يجعلنا من أهله.
والله تعالى أعلم.(47/14)
كيفية نصح من لا يصلي
السؤال
في يوم من الأيام وأنا أتحدث مع أحد زملائي وأسأله عن أحواله قال لي: متضايق ومضطرب.
فقلت له: صل ركعتين، وبإذن الله سيزول هذا الاضطراب.
وكان هذا في وقت الضحى، فأريد أن أنصحه بفائدة ركعتي الضحى.
فقال لي عبارة: لا تتعب معي، هل تعرف من متى أنا لَمْ أصلِّ؟! منذُ رمضان العام الماضي.
فأُصِبْتُ بالذهول، فنصحته أن يبدأ من هذه الصلاة؛ من صلاة الظهر.
فأريد منك يا فضيلة الشيخ! توجيهي كيف أبدأ مع هذا وهو زميلٌ لي؟!
الجواب
يقول الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] فمِن أعظم الرزايا والبلايا على الإنسان: تركُ الصلاة، ولذلك لا يُؤمَن على الإنسان الذي يترك الصلاة غالباً، لا تُؤمَن له سوء الخاتمة؛ لأنها هي الصلة بين العبد وربه، وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: [إذا حضرت الصلاة فلا تشتغل بشيءٍ سواها؛ فإن من ضيعها فهو لما سواها أضيع] تأسياً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن صلحت صلح عمله، وإن فسدت فسد عمله).
فالمقصود: أن ترك الصلاة مصيبة عظيمة، والذي أراه أن تداوم على نصح هذا الشاب.
الأمر الثاني: أن تنقله من بيئته إلى بيئة صالحة، فكثيرٌ من الشباب يكون فيهم خير؛ ولكن الشر يأتيهم من البيئة الفاسدة، فخذه وانتشله من بيئة الضلالة إلى بيئة الهدى، وخذه إلى الأخيار ومجالس الأخيار حتى يدخل النور إلى قلبه؛ فينشرح صدره، ويطمئن فؤاده، وبإذن الله عز وجل سيجد خيراً كثيراً.
وإذا لم تتمكن من أخذه لانشغالك أو نحو ذلك فمن الممكن أن توصي أحد الأخيار أن يتعاهده، وتتعاهده أنت، وأوصيك أن تحتسب، فلعل هذا العبد إذا أنقذه الله على يديك أن يكون لك طريقاً إلى الجنة؛ لأنه ما من إنسان يهتدي على يديك إلا كانت صلاته وزكاته وعبادته وطاعته كلها في ميزان حسناتك، وهذا فضل عظيم.
فأوصيك أن تجتهد، فهذه تجارة رابحة، ولذلك فإن الأخيار والدعاة الصادقين يفرحون لَمَّا يرون مثل هذه النماذج؛ لأنهم يعاملون الله جل جلاله، يفرحون؛ لأنها تجارة رابحة مع الله، صلاته وعبادته كلها في ميزان حسناتك.
ولذلك ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن العبد إذا قام يوم القيامة جاءت أعماله كالغمامات، يُنشر له ديوانه، ثم تأتي أعماله كالغمامات يقول: يا ربِّ! ما هذا؟ فيقول: سننٌ هَدَيتَ أو دَعَيتَ إليها كان لك مثل أجور من عمل بها).
فيحتسب الإنسان في هذا.
ونسأل الله العظيم أن يشرح صدره على يديك، وأن يهدينا وإياه إلى سواء السبيل.
والله تعالى أعلم.(47/15)
حكم الخروج إلى الجهاد مع رفض الوالدين
السؤال
لا أجد في نفسي القدرة على الاستيعاب للعلم، وأنا طالب في الجامعة؛ ولكني أريد الجهاد، وأبي يرفض هذا الأمر! فكيف الحل؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فَهْم العلم وضبطُه يحتاج إلى تفريغ القلب له، وقلبُك مشغولٌ بما أنت تحبه، وإذا تعلق القلب بحب شيء انصرف عن كل شيءٍ سواه، فلعل ضعف فَهمك وإدراكك سببه أنك لم تعطِ العلم ما يستحقه من الإقبال ومن العناية، ولذلك لم تجد له أثراً في نفسك، فأنت تحب شيئاً غير العلم، وقلبك منصرفٌ إلى هذا الشيء، و {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
فإذا كنت تريد العلم فأعطِ العلم كُلَّك يعطيك بعضَه، فكيف إذا لم تعطِه شيئاً؟! الأمر الثاني: قضية الجهاد: فلا يجوز لمن كان عنده والدان أو أحدهما أن يخرج إلى الجهاد إلا بعد استئذانهما، ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) هذا الحديث الصحيح فيه فوائد: أولها: أن الرجل جاء يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، كما ورد في الروايات الأخرى في السنن، وفي روايةٍ في السنن أيضاً صحيحة: (قال: يا رسول الله! أقبلتُ أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما) رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أريد أن أهاجر وأكون معك، وأجاهد، مِن أفضل ما يكون: عِلْمٌ وجهادٌ، فقال له: (أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: بل كلاهما، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما).
وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلتُ من اليمن -أكثر من ألف كم- أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحَيَّةٌ أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها فإن الجنة ثَمَّ).
فالذي يريد رحمة الله عز وجل إذا وجد الوالدان فإن حقهما مقدمٌ على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
ثانيها: أخذ العلماء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم حُكْماً شرعياً، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابي: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم) لم يسأله: أهما كافرَين أم مسلمَين؟ أهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة إليك؟ أعندك إخوة أو ليس عندك إخوة؟ بل سأله: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
والقاعدة في الأصول: أن (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال).
ترك الاستفصال، أي: لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منه.
في مقام الاحتمال، أي: في مقام يحتمل أن يكون الوالد بحاجة أو ليس بحاجة.
ينزل منزلة العموم في المقال، أي: الْزَمْ والدَيك سواءً كانا بحاجةٍ إليك أو لم يكونا بحاجة إليك.
السبب في هذا أنه ليست القضية قضاء حاجة الوالدين أبداً، القضية تقوم على حكم جليلة: منها: أن الوالد والوالدة لا يستطيعان فراق الابن، وهذا شيء لا يملكه الوالد ولا تملكه الوالدة، نبي من أنبياء الله، يعقوب عليه السلام يعلم أن ابنه سيعود إليه، يقول تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] فهو نبي من أنبياء الله، ويعلم أن ابنه سيعود إليه وتبيضُّ عينه من البكاء، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] فكيف بغيره؟! هذه نماذج وقصص ما ذكرها الله في القرآن عبثاً، ذكر لك نموذجين للأب والأم: الأب: في يعقوب.
والأم: يقول تعالى عن مريم: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ …} [مريم:23] أي: ألجأها {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] كأن الله يقول: إذا كان هذه التي يقال لها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فمع هذه العناية الإلهية تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فكيف بالأمهات الأخريات؟! هذه نماذج ذكرها الله من حنان الوالدَين وعطفهما وعظيم حقهما، حتى يعلم الإنسان أن القضية ليست قضية كونهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة، القضية قضية العاطفة، ولذلك قد يخرج الابن للجهاد دون استئذان والدَيه، فيبلغ استشهاده الوالدان، فيتسخطان على القدر، فينجو الابن ويهلك الوالدان، ويكون ذلك أعظم ما يكون من العقوبة، وهذا ذكره العلماء في الحِكَم المترتبة على استئذان الوالدَين.
ولعل الله له حكمة؛ يعلم أن خروج الإنسان للجهاد في هذه الفترة فيه فتنةٌ له، أو أنه لا يخلُص، أو أن هناك أمامه أمورٌ تعيقه عن أن تكون شهادته مقبولة، فيبتليه الله بالوالدين، يقول له الوالد: لا، لا تخرج، وتقول الوالدة: لا تخرج، فيصبر ويحتسب حتى يبلغ رضا الوالدين، ثم يجمع الله له بين الحسنيين، فوالله ما أرضى أحدٌ والديه وترك الجهاد إرضاءً لهما إلا جعل الله له باب شهادة قريبة أو بعيدة، فيحتسب الإنسان، ما دام النص يقول: بالاستئذان، ما نخرج إلا بعد الاستئذان، لا اجتهاد مع النص، ولا آراء مع النصوص، ونقف مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للقضية الثانية وهي: قضية خروج الإنسان للجهاد: حبذا لو يسبقه علمٌ أو تسبقه درجة من العلم حتى يكون أرفع ما يكون؛ لأن: أعلى المراتب عند الله: مرتبة النبوة.
ثم بعد مرتبة النبوة: مرتبة العلم.
ثم بعد مرتبة العلم: الشهادة.
ثم: الصلاح.
أربع مراتب جمعها الله في قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ.
} [النساء:69] هذه أعلى درجة من الجنة {.
وَالصِّدِّيقِينَ.
} [النساء:69] تعرفون مَن هم الصديقون؟ إنهم العلماء العاملون {.
وَالشُّهَدَاءِ.
} [النساء:69] بعدَهم {.
وَالصَّالِحِينَ.
} [النساء:69].
وإنما علت مرتبة العلماء؛ لأنها وراثة وخلافة تلي مقام النبوة، ولذلك كان مقامها أعلى من مقام الشهادة.
المقصود: أن يحتسب الإنسان إذا أبى والداه، وينبغي أن يُعلم أنه ينبغي للإنسان إذا أبى والداه عن الاستئذان ألا يلح عليهما، ولذلك قرر طائفة من العلماء على أنه لو ألح على والديه وأحرجهما بالإذن أنَّ الإذن وجوده وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه لم يأخذ برضاهما، وإنما أَخذ بكُرهٍ لهما.
فينبغي للإنسان أن يحتسب، إذا وجد الرضا فليعلم أن الله قد اختار له الرضا، وإن لم يجد فما عليه إلا أن يصبر والله يأجره، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم وادياً -يقول هذا وهو في طخوم الشام، في غزوة العسرة- ولا قطعتم شِعباً إلا كانوا معكم، إلا شاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله، وكيف وهم في المدينة؟! قال: حبَسهم العذر).
فإذا امتنع الوالدان من الإذن لك فقد حبَسَك عذرٌ شرعي، فاعلم أن الله يأجرك، وأن الله يبلغك مراتب المجاهدين.
والله تعالى أعلم.(47/16)
أهمية الحرص على الوقت وترتيبه لطالب العلم وحكم القول بالمجاز في القرآن
السؤال
ما هي وصيتكم لطالبٍ علم لا يقيم لوقته موعداًً محدداً، بل يجعل الظروف هي التي تحركه مع أنها تكون في مرضاة الله؟ وما حكم القول بالمجاز في القرآن؟ كما يطلب الدعاء منكم لنا!
الجواب
أما بالنسبة للمسألة الأولى: فإن ترتيب الوقت عاملٌ مهمٌ جداً في الاستفادة لطالب العلم، يُرتب طالب العلم الوقتَ، والأفضل والأكمل بل هو الأصل أن طالب العلم يلتزم بشيخ، ويكون شيخه عالماً عاملاً ملتزماً بالكتاب والسنة، يلتزم به، ويصحبه، ويرافقه، يتأسى بالسلف رحمهم الله، فإذا لازم هذا العالِمَ كان معه، ورتب وقته على حسب دروس هذا العالم، وعلى حسب مجالسه.
وأما بالنسبة لإضاعة الوقت فهذا من أعظم المصائب التي تكون على طالب العلم، أعز شيء يملكه طالب العلم: الوقت، والذي يريد العلم يحفظ وقته.
وكان الوالد رحمه الله إذا ذُكر عنده أحد -أعني: من طلاب العلم- يقول: نِعْم طالب العلم؛ لأنه يراه حريصاً على وقته، وإذا رأى إنساناً كثير الزيارة للناس، كثير الاشتغال بفُضول الدنيا لا يَعُدُّه طالبَ علم؛ لأن مفتاح طلب العلم: الحفاظ على الوقت.
ولا أعرف مثله رحمه الله في حرصه على الوقت، وأذكر أنه كان بمجرد ما يدخل البيت يستفتح بالصلاة، فيصلي ما كُتِب له، ولا أذكر أنه دخل وجلس على فراشه في حياته كلها معي، أو أنه دخل وجلس على فراشه قبل أن يصلي، إلا إذا كان وقتَ نهي، فيدخل، ثم ينقلب على كتبه، ويقرأ فيها ما شاء الله أن يقرأ، حتى إنه في بعض الأحيان يستمر إلى قرابة منتصف الليل، وإذا دعي إلى مناسبات أو ولائم يأخذ كتابه معه، فإن وجد في هذه المناسبة الفوائدَ أو مجلسَ ذكرٍ وعلمٍ جَلَسَ، فإن وجدهم فلانٌ قال وفلانٌ قال، أخذ كتابه وذهب في ظل شجرة يقرأ حتى يحضر وقت الغداء فيتغدى، ثم يمضي.
فطالب العلم أعز شيء عنده الوقت، خاصة إذا كان خرج من مدينته لطلب العلم في مدينة ثانية، وما ترك والديه، ولا ترك إخوانه، ولا قرابته عبثاً، فينبغي للشخص الذي يسافر عن أهله أن يحترق في قرارة قلبه على كل ساعة؛ لأنه حَرَم والديه رؤيته، فينبغي أن يكون الشيءُ الذي من أجله فارقهم أعزَّ من الشيء الذي يكون من أجله موجوداً بينهم.
فينبغي الحرص على الوقت، وإضاعةُ الأوقات في القيل والقال والتراهات من أعظم الآفات التي تُضَيِّع على طالب العلم الخيرَ الكثير.
فأهم شيء: الحرص على الوقت.
ومن الحرص على الوقت أيضاً: إذا جلس طالب العلم مع عالم أو مع طالب علم، فإنه يستفيد، أعني: إذا جلس مع طلاب العلم لا يجلس هكذا صامتاً، بل يسألهم مسألة إن كانوا دونه في العلم، ويطرح عليهم مسألة، ثم يفيدهم بها، وإن كانوا أعلى منه ذاكَرَهم وتواضَعَ للعلم، فهو دائماً يكون في مذاكرةٍ للعلم، فإن مذاكرة العلم عبادة، والإنسان يشتري رحمة الله في طلب العلم في كل لحظاته وحركاته، ويحتسب، حتى إذا جلس مع الناس فإنه يستفيد أو يفيد.
هذه رسالة لطالب العلم.
أما قضية المجاز في القرآن: فهذه مسألة خلافية: من العلماء من قال: لا مجاز في القرآن.
ومنهم من قال: فيه المجاز.
والصحيح: أن المجاز موجودٌ في القرآن في غير أسماء الله وصفاته، والدليل على وجوده: أنه لا يستطيع أحد أن ينكر وجود المجاز في اللغة، فالمجاز موجودٌ في اللغة، وهو بلسان العرب، قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] فهل يوم القيامة يعبس على الحقيقة؟! وقال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] هل القلوب بلغت الحناجر حقيقة؟! لا، إنما هو كناية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] تَمسوهن: كناية عن الجماع.
فهذا كله تجوُّزٌ في العبارة.
ولكن في أسماء الله وصفاته ليس هناك مجاز.
والسبب الذي جعل العلماء يقولون: بنفي المجاز عموماً في القرآن إقفال باب التأويل على الأشاعرة؛ ولكن من الممكن أن نُقْفِل عليهم باب التأويل بأن نقر بوجود الأسلوب؛ ولكن في أسماء الله وصفاته نناقشهم بالطريقة التالية وهي: نقول لهم: إن مما اتفق العلماء عليه: أنه إذا تعارضت الحقيقة والمجاز، فإن الأصح حمل الدلائل في الكتاب والسنة على الحقيقة ما لم يدل الدليل على المجاز، فلما قال الله: {بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: يديه، حملناها على الحقيقة، فلما لم يوجد دليل من الكتاب والسنة على صرف اللفظ عن الحقيقة بقينا عليها، فقلتم: بالصرف - أعني: الأشاعرة - بدلالة العقل، ولا نعتبرها دليلاً كافياً للعدول عن ظاهر القرآن، فمن الممكن مناقشة الأشاعرة -حينما قالوا بالمجاز في الأسماء والصفات- مناقشةً بهذا الأصل، وهذا الأصل قرره الأصوليون في باب تعارض الحقائق.
وعلى العموم فإن القول بوجوده أو عدم وجوده يقرر بعض العلماء أنه خلاف لفظي؛ لأنهم يقولون: الأسلوب موجود؛ ولكن اختلفوا هل يُسَمى مجازاً أو أن العرب تكلمت به على هذه الصفة؟! لأن الكلام موجود، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ثكلتك أمك) ما معنى ثكلتك أمك؟! معناها: فقدتك، هل يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الفَقد؟! (رَغِم أنف امرئ أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة) هل رَغِم المراد به الرُّغام حقيقة؟! كل هذا كنايات؛ لأن اللغة العربية لغةٌ واسعة، وهذا هو الذي يعتبر من سماتها وهو: سعتها، فإنه قد يراد ظاهر اللفظ وقد يراد غير اللفظ.
فالمقصود أن الأسلوب موجود، قال صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى! أحابِسَتُنا هي؟!) عقرى حلقى، معناهما: عَقَرَها الله، حَلَقَها الله، كناية عن مصيبة، هل يراد أن المصيبة تصيبها؟! ليس المراد ذلك، إنما المراد كناية، كل هذا كنايات، ويعتبر من التجوُّز في العبارة.
والله تعالى أعلم.(47/17)
علاج الفتور في مراجعة القرآن
السؤال
أحفظ شيئاً من القرآن؛ ولكني لا أراجعه، كلما بدأت في المراجعة فما أنتهي من جزءٍ حتى أنشغل ويصيبني الفتور في المراجعة، وهكذا كلما بدأت، فأعطني علاجاً بارك الله فيك؟!
الجواب
أكثر من الاستغفار، فهذا سببه ذنب، فمن وجد أنه في طلب العلم يحال بينه وبين العلم فليعلم أن هناك ذنباً حال بينه وبين العلم.
فأكثِر من الاستغفار حتى يرحمك الله عز وجل، ولذلك قال تعالى: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46].
والأمر الثاني: أن تأخذ جدولاً مرتباً للمراجعة، فترتب ختمك للقرآن كل ثلاثة أيام أو عشرة أيام، كل ليلة ثلاثة أجزاء، أو كل يوم ثلاثة أجزاء، ثم تحافظ على هذا ولو بلغ الأمر مبلغه، فلو أنك كل يوم تقرأ جزءاً ولو حدث ما حدث فلا تترك هذا الجزء، وبإذن الله بعد فترة يقوى حفظك، ويسهل عليك القرآن، هذا مِن تَعاهُدِ القرآن، أقل شيء: أن تجعل لك في اليوم جزءاً، ولو حدث ما حدث لا تترك هذا الجزء، واللهِ إن الأمر يسير، فالآن لو خرجتَ من هذا المكان إلى البيت، جرِّب وابتدئ بجزء، فما تصل إلى نصف الطريق إلا وأنت خاتِمُه؛ لكن مَن يعمل؟! الأمر يسير؛ لكن مَن الذي يعمل؟! فلذلك الإنسان يجاهد، يجعل له برنامجاً أو يرتب له وقتاً معيناً لمراجعة القرآن، ويكون ترتيبه للمراجعة على قدْرٍ يتناسب مع ظروفه.
هذا بالنسبة للمراجعة، أمْثَلُ طريقة: أن يحدد له جزءاً أو قدراً معيناً من القرآن يراجعه خلال شهر أو خلال عشرة أيام أو خلال ثلاثة أيام، وهذا أكمل.
ولذلك الإمام الشافعي لما جاءته امرأة وسألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟! لأنه كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، فلما كانت الليلة الثالثة كَبَّر في السحر؛ لأنه بلغ قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وهذا إنما يكون في الثلث الأخير من القرآن.
فهكذا كان السلف، ولذلك لما تقرأ كتب السلف تجد عندهم شواهد عجيبة من القرآن، أحياناً يأتيك بآية يستنبط منها معنىً لطيفاً، تستعجب كيف استحضروا هذه المسألة! لماذا؟! لأنهم قوامون الليل بالقرآن، فيختم أحدهم كل ثلاثة أيام، فالمسائل التي تنزل به خلال الثلاثة أيام وهو مشغول بتلاوة القرآن تمر عليه الحجج، وكل شيء كان عندهم يعرضونه على كلام الله، وكان الإمام الشافعي يقول في كلامٍ معناه: أنه ما من معضلة إلا وقد جعل الله حلها في القرآن، فكانوا مع هذا القرآن.
فالإنسان يجعل له برنامجاً معيناً يختم فيه القرآن، وبإذن الله يعينه على ذلك.
والله تعالى أعلم.(47/18)
حكم ترك الدعوة بحجة قلة العلم
السؤال
كثير من طلبة العلم يقفون عن الدعوة بحجة أنه ليس لهم علم، فيقصِّرون في هذا الجانب، فما رأيكم؟
الجواب
لاشك أنه لا بد للدعوة من العلم؛ ولكن -يا إخواني- ينبغي أن يُفَرَّق بين قضيتين: الدعوةُ إلى أصولِ الدين، والقواعدِ العامة، أو النهيُ عن المنكرات العامة الواضحة التي لا تحتاج إلى كثيرِ علم.
والدعوة الخاصة.
فالدعوة العامة: مثل الدعوة إلى التوحيد، شخصٌ أمامك يعبد الوثن، لا تقل: أنا لن أدعوه حتى أتعلم؛ لأن هذا أمر يستوي فيه عامة المسلمين وهو الدعوة إلى أصل الدين، ويعتبر فرض عين على كل إنسان رأى إنساناً يعبد غير الله أن يدعوه إلى توحيد الله جل وعلا، ولا يُعْذَر أحد بترك هذا الأصل؛ لأنه أمر من الواضحات، أعني: لا يقول أحد: لا، أنا لن أدعو أحداً كائناً من كان حتى أتسلح بالعلم الكامل! كذلك أيضاً: لو رأيتَ إنساناً على الزنا، أو على شرب الخمر -والعياذ بالله- فإن الزنا وشرب الخمر منكران واضحان لا يحتاجان إلى كثيرِ علم، فالنهي عنهما أو التحذير منهما لا يحتاج إلى كثيرِ علم، فهذان يستوي في الدعوة فيهما العلماء والعامة، ولا يُعذر أحدٌ بتركهما.
الأمر الثاني: وهو الدعوة إلى خصوصيات الأحكام والمصائب التي تنزل بالناس، ويحتاج فيها إلى علم، وبصيرة، ونور، ومعرفة، فهذه للعلماء، ولا يقف أحد أمام الناس يتكلم في مسألة أو حكم شرعي إلا على بيِّنة: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57].
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] لا بد من نور الوحي.
هذا في الدعوة إلى المسائل والأحكام الخاصة.
أما بالنسبة للدعوة العامة، فهذه يستوي فيها كل أحد.
ومن هنا ندرك خطأ بعض الناس، حيث يقولون: كل واحد يدعو، وإذا شئت تقول: تتكلم بما فتح الله عليك أمام الناس، فقد يأتي هذا الجاهل حديث العهد بالجاهلية ويقف أمام طلاب علم، وأناس لهم معرفة؛ لكي يتكلم بما فتح الله عليه، فيخبط خبط عشواء.
هذا من التفريط ومن الإفراط.
فأما التفريط: أن نجد -مثلاً- من يقول: نترك الدعوة حتى يكتمل علم الإنسان؛ فلا يزال الشخص قابعاً على الكتب وعلى العلم، تاركاً المنكرات عن يمينه ويساره، ومن أمامه وخلفه، قرير العين عليها يقول: لا بأس، حتى أنتهي من العلم كاملاً ثم أدعو الناس، لا.
القضية وسطية، فالمسائل التي لا يُعذر أحدٌ بجهلها ومسائل أصول الدين مثل شخص لا يصلي فكل إنسانٍ مطالب بدعوته، شخص -مثلاً- لا يزكي كل إنسانٍ مطالب بدعوته.
هذه أمور واضحة.
أما المسائل الدقيقة فهذه تُعطى لطلاب العلم، وتترك للعلماء، ويُترك القول الفصل فيها لأهل العلم.
والمقصود: أن كون طالب العلم يبقى ويقول: أنا لا أدعو حتى أنتهي من طلب العلم، فهذا تقصير، ويتحمل التَّبِعَة، بل يدعو على قدر علمه، ونحن لا نطالِب أن يدعو بما هو فوق علمه؛ ولكن نطالبه بالدعوة على قدر علمه، فطالب العلم -مثلاً- الذي تعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل، حتى ولو كان في أحكام العبادات، فيا أخي! لو قام بعد صلاة العصر كل يوم يتكلم عن هدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو طالب علم، أو يتحدث عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، هل هذا صعب؟! أو يتحدث عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال السنة! ويبين للناس، فما يتعلم أحد سنة منه إلا كان شريكاً له في الأجر، ولا يدل إنساناً على هدي إلا كان لك مثل أجره، ولو أن هذا الإنسان علم أبناءه وبناته وأهله أو جيرانه أو نطق بهذه السنة كان له مثل أجرهم، فهذا فضلٌ عظيم! فلذلك أقول: إن طالب العلم يعلِّم؛ ولكن على قدر علمه.
القضية الثانية: أنه ينبغي أن يصحب هذا العلم شيءٌ من القدوة الحسنة ما أمكن.
والله تعالى أعلم.(47/19)
الألفة بين الزوجين
إن من المهم في الحياة الزوجية دوام الألفة بين الزوجين، وذلك يكون بعدة أمور، منها: الشعور بالأمانة والمسئولية، مع وجود الرحمة والرفق بينهما، وأن يعي كل من الزوجين رسالته على الوجه الصحيح، يضاف إلى ذلك المحافظة على العهود التي بينهما، ثم أن يؤدي كل من الزوجين للآخر حقه، مع الغض عن الإساءة والتقصير الذي يقع.(48/1)
الوصية الأولى: الشعور بالأمانة والمسئولية
الحمد لله الذي خلق الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الجلال وله الأسماء الحسنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده رسوله الذي اصطفي واجتبي، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي النهى، وعلى جميع من سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العظيم الكريم في بداية هذا المجلس المبارك أن يبارك لأهل هذا الزواج في زواجهم.
اللهم بارك لكلا الزوجين في زواجهما، اللهم بارك لهما وعليهما، واجمع بينهما في خير، اللهم ارزقهما الذرية الصالحة التي تقر بها الأعين.
أيها الأحبة في الله: هذا الموضوع -موضوع الألفة الزوجية- موضوع عظيم، يحتاجه أهل الإسلام؛ لكي يعي المسلم عظيم هذه الرسالة النبوية، وهذه الشعيرة المحمدية التي بعثه الله عز وجل بها رحمة للعالمين، ونعمة لخلقه إذا اتبعوه أجمعين.
إن الحياة الزوجية تبتدئ رسالتها من أول لحظة يعقد فيها الإنسان على المرأة، حيث يحس فيها أنه قد تحمل المسئولية أمام الله، وأنه قد وضع في عنقه أمانة عظيمة يقف بها بين يدي الله جل جلاله.
إذا كتب عقد القران فمعنى ذلك أنها مسئولية وأمانة بين يدي الرحمن، فلذلك يحس الإنسان أنها حياة مبنية على أسس وواجبات شرعية، فليست هي اللذة والشهوة وقضاء الوطر، ولكنها مبادئ كريمة، وأسس عظيمة أرساها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكي يسير المسلم في حياته الزوجية السيرة الحميدة، فيبني للأمة بيتاً يقوم على طاعة الله، وأسرة تحيا لمحبة الله ومرضاة الله.
ففي هذه اللحظة الأولى يصبح الإنسان بسببها مسئولاً عن بيت كامل، وعن امرأة، إما أن تكون له طريقاً إلى الرحمة أو طريقاً إلى العذاب، فكم من عقود عقدت انتهت بأصحابها إلى محبة الله ومرضاة الله، وكم من زواجات انتهت بأهلها إلى الجنات والمرضاة، تلك القلوب التي دخلت بيوت الزوجية، وهي تحس برسالة ربها، وتعظيم الأمانة الملقاة على عاتقها، فقامت بواجباتها خير قيام، فربت الأسرة على محبة الله، ومرضاة الله، ودخلت الزوجة على زوجها لكي يقودها إلى رحمة الله، ولكي تقوده إلى مرضاة الله وعفوه.
هذه الرسالة العظيمة التي رحمنا الله عز وجل بها، فحصنت بها الفروج، ودلت بها على منهج العفاف والكفاف، هي منهج النبي صلى لله عليه وسلم، ومنهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وفي كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم مناهج ربانية، وسيرٌ نبوية، تقود المسلم إلى الحياة الزوجية السعيدة.
فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أساساً عظيماً ينبغي لكل زوج بعد أن يدخل بيت الزوجية أن يحسه ويستشعره.
فأول شعور تحس به: الأمانة، وثاني شعور يرثه الإنسان بعد الشعور بالأمانة: أن يكون خير الأزواج لزوجه، ولذلك كم فاضل الله بين الأزواج، فكم من زوج خير بر كريم حليم رحيم أحبه الله بلطفه لأهله، وعطفه وشفقته على زوجه وولده، وكم من قلوب رحيمة بنت بيوت الزوجية على المحبة والمودة والرحمة فرحمها الله بتلك الرحمة، ولذلك صدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (خيركم خيركم لأهله) كما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
خيركم أي: أعظمكم مقاماً عند الله، وأرفعكم قدراً عند الله، من كان خيراً على أهله، ومن كان رحمة لزوجته ولم يكن عذاباً عليها، ومن كان نعمة لها لا نقمة عليها، ومن كان حكيماً حليماً رحيماً يغزو قلب تلك المؤمنة بالمحبة فتهابه حباً لا كرهاً، وتهابه رغبة لا رهبة ولا أذى ولا إضراراً.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم له تسع نسوة، ما اشتكت واحدة منهن يوماً من الأيام منه صلوات الله وسلامه عليه، تسع نسوة على محبة له وصفاء، وعلى إجلال له وكرامة ووفاء.(48/2)
الوصية الثانية: الرحمة والرفق
الوصية الثانية بعد الشعور بالأمانة والمسئولية بين يدي الله عن الزوجة وعن هذا البيت: أن يكون الإنسان براً رحيماً، وقد وصانا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية التي أخبر أنها الخير، وأنها الرحمة والبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه).
فإذا وقفت -رحمك الله- أي موقف مع زوجتك، وأي موقف مع أولادك وأهلك، فأنت بين طريقين: إما طريق رحمة ورفق، وإما طريق عنت وشدة وأذية وإضرار، فإذا وقفت أمام أي موقف فاعلم أنك مخير بين السبيلين، وأن أمامك هذين الداعيين، فاختر أحبهما إلى الله الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه زين ورحمة: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانة، ولا نزع من شيء إلا شانه).
فتقاد بيوت المسلمين وتقاد نساء المؤمنين بالرفق، ولا يقدن بالعنف والأذية والقسر والإكراه، إلا ما أمر الله عز وجل به، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما فيه أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته -إن ذهبت تقومه بالقوة والعنف كسرته ففسدت عليك المرأة، وإن ذهبت باللين والرفق فقد أبقيتها على عوج- فاستمتعوا بهن على عوج) إن أبقيتها استمتعت بها على عوج.
ولذلك بعض الناس أو بعض الرجال يشمت بالمرأة، ويقول: أنتِ خلقت من ضلع أعوج، لا والله لم يكن ذلك قصد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قصده من هذه الأحاديث أن نشمت بنساء المؤمنين، لا والله! وحاشاه! فالإسلام أرفع من هذا كله، ولكن المقصود أن يقول لك: إن الذي أمامك يصعب أن تقصره على أمر، فخذه باللين، وخذه بالرحمة وخذه بالمحبة والوفاء، وهذا مجرب.
فإن الرجل إذا وفقه الله إلى الكلمة الحليمة الحنونة والمعاملة اللطيفة، ملك قلب المرأة، واستطاع أن يستمتع بها مع هذا العوج، فهذه وصية نبوية، أن نأخذ بالرفق في البيوت الزوجية، وأن يكون المسلم في معاشرته مع أهله، يقيم بيته على الرفق، وعلى الحنان والعطف ما أمكن.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا في مواقف عديدة منها: حين أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن فضل الرجل على المرأة، وأخبر أن المرأة ناقصة عقل ودين، لكن ليس معنى هذا أن الإنسان يتخذ من هذا الحديث شماتةً للمرأة، بل كأنه يقول لك: إن الله خلقها على النقص -ولله الحكمة البالغة- فإن هذا النقص فيه لين ورحمة، جبر الله به خشونة الرجل.
فتصور لو أن المرأة كانت كاملة العقل مع كامل العقل، كيف تكون الحياة؟ يقول لها: اذهبي، فتقول: لا أذهب، فيأتيها بعذر فتأتيه بثلاثة أعذار؛ لأن عقلها كعقله، ولكن الله حليم أنقصها في العقل، وجعلها نصف الرجل، وأعطى الرجل القوة، وأعطاها الحنان، وأعطاها اللين والرحمة لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا كسر هذا، فإذا جاء الابن في موقف يحتاج إلى اللين مال إلى أمه، وإذا جاء إلى موقف يحتاج إلى الشدة مال إلى أبيه، فسبحان الحكيم الخبير! سبحان من هذا خلقه، وهذا تدبيره وأمره! فليعلم أن بيوت الزوجية، وأن نساء المؤمنين يقدن بالرحمة والعفاف والكرامة، أبلغ من أن يقدن بالشدة والعنف.(48/3)
الوصية الثالثة: أن يعي كل من الزوجين رسالته
الوصية الثالثة: ينبغي أن يعي الرجل وتعي المرأة، كل منهما رسالته في البيت، فإن الله أعطى الرجل خصائص لم يعطها المرأة، وأعطى المرأة خصائص لم يعطها الرجل، ولا يمكن للبيوت أن تقوم إلا بما قلناه: أن يقوم الرجل برسالته، ويهيئ لزوجته ما أمر الله عز وجل من تهيئته، وتقوم المرأة برسالتها في البيت، حتى تهيئ لذلك الرجل المؤمن الصالح بيته على خير ما تهيأ عليه بيوت المسلمين.
وبما أن الرجل مطالب باللين مع المرأة، فكذلك هي مطالبة بأن تكون تحت الرجل، وهذه المطالبة -كونها أسفل من الرجل- كرامة للمرأة، فإن المرأة إذا شعرت أن القوامة للرجل، وأن بيتها لها تدير أبناءها وترضع صغيرها وتحفظ عورة زوجها، وتحفظ بيته وأسرته، وتربيهم على الأخلاق الكريمة، كمَّل الله عز وجل ما نقص من بيت الزوجية.
وكما أن الرجل مطالب بالرحمة على الزوجة، كذلك الزوجة مطالبة بأن تعي مكانة الزوج، وحق الزوج عليها.
ولا ينبغي للرجل أن يتدخل في أمور المرأة، ولا ينبغي للمرأة أن تتدخل في أمور الرجل، فليس من العشرة بالمعروف التي أوصانا الله عز وجل بها أن يكون الرجل فضولياً إذا دخل البيت، فيتدخل في كل صغير وكبير، ويناقش في كل جليل وحقير حتى يدخل في أمور الزوجية التي لا يفقهها ولا يفهمها، بل هذا من الخطأ الذي لا ينبغي للإنسان المسلم العاقل أن يكون عليه.
ينبغي للرجل أن يكون عنده عزوف عن الأمور التي لا تليق به، فالمرأة راعية في بيت زوجها، كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) ما معنى راعية؟ معناه أن لها حقاً أن تتفقد أمور البيت، وأن يكون لها حق النظر في شئون البيت وأموره في الحدود الشرعية، فليس من حق الرجل أن يتدخل في كل أمورها، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
كذلك المرأة ليس من حقها أن تخرج من نطاق بيتها؛ لكي تسأل زوجها عن كل ساعة قضاها خارج البيت، وتتدخل في كل صغيرٍ وكبيرٍ من شأنه، حتى تسأله عن الضيف الذي دخل وخرج، فهذه من الأمور التي يمقتها الله عز وجل قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كره لنا قيل وقال وكثرة السؤال) فكثرة السؤال من فضول الكلام الذي ينبغي للمسلم أن يبتعد عنه، بل هو مكروه، بل قد يكون ذلك مما يوجب الحرج.
فقد يستاء الرجل من تدخل زوجته، فإن بعض الرجال يكون فيه لين ورقة إلى درجة تقوى معها الزوجة، فتتدخل في شئونه الخاصة.
فلتتق الله المرأة المسلمة، ولتحفظ لزوجها كرامته، ولتحفظ لزوجها رجولته، ولا تتدخل في هذه الأمور.
فإذا أعطى كل واحد من الزوجين حق الآخر، وقدر كل منهم للآخر قدره، فإن الله يحفظ بيوت المسلمين.
ولتتصور المرأة مكانة الزوج حينما تعطيه حقه وهو خارج البيت، وليتصور الرجل حينما يدخل بيته، وقد أعطى رسالة البيت للمرأة تربي صغيرها، وترضع طفلها، وتقوم على ما يكون فيه الخير من شأن بيتها، كيف تكون البيوت؟ الرجل إذا دخل البيت ولم يتدخل في الشئون الخاصة، وأخذ يعين زوجته على تربية أولادها، وإدارة شئون بيتها قويت نفس المرأة وحمدت من زوجها ما كان منه.(48/4)
الوصية الرابعة: حفظ العهد بين الزوجين
الوصية الرابعة التي يوصى بها كلا الزوجين: حفظ العهد، فإن حفظ العهد من الإيمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الإيمان، وقد فعل ذلك عليه صلوات الله وسلامه، فكان حتى بعد وفاة خديجة حافظاً لعهدها صلوات الله وسلامه عليه، حينما دخلت عليه هالة أخت خديجة فقام يجر رداءه صلوات الله وسلامه عليه.
وما ذكر خديجة إلا وأثنى عليها, فكانت عائشة رضي الله عنها، تغار حتى أنها قالت: (أليس قد أبدلك الله خيراً منها؟ فقال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي وكفر بي الناس، وأعطتني ومنعني الناس) سبحان الله! زوجة ميتة ومع ذلك يحفظ حقها صلوات الله وسلامه عليه، فمن شيمة أهل الإيمان أنهم يحفظون حقوق الزوجات.
فحفظ الحق هو الذي يصلح الله به البيوت، ويكون في كل صغير وكبير من أمور الزوجية، حتى عندما تدخل البيت، وتراها قد هيأت لك طعامك، فقلت لها: جزاك الله كل خير بارك الله فيك لا شلت يمين منك أي كلمة طيبة، يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83].
أيها الإخوة: هذه أمور قد تكون يسيرة، لكن نذكركم بها؛ لأن الله يأجر عليها، تراها في تعب ونصب، فتأتيها في الظهيرة والقائلة وأنت عليك الهموم والغموم فتضع بين يديك الطعام لكي تذكرك معروفها، فتقول من شيمتك ووفائك لها: جزاك الله كل خير لا شلت يمينكِ حفظكِ الله نِعم ما صنعتِ كلمة يسيرة أوصانا الله بها، فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] الله أكبر وقولوا للناس! كيف بالأهل والزوجات؟! فالله أمرنا أن نقول الكلام الطيب، وأن نبوح بالكلام الطيب، لكن تصور لو جئتها بعد تعبها ونصبها، وقد صنعت لك الطعام وغسلت لك الثياب، فقلت لها: ما الذي صنعت؟ هذا الطعام فيه كذا وكذا، وأخذت تعيب طعامها، كيف يكون حالها؟ كيف يكون حال هذه المرأة الضعيفة التي سخرها الله لك، وقد كان الإنسان عزباً يغسل ثوبه ويطبخ طعامه، ثم قيظ الله له امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تهيئ له طعامه، فيقابل هذا المعروف بالإساءة؟!! ولذلك ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ما عاب طعاماً وضع بين يديه صلوات الله وسلامه عليه (ما عاب طعاماً قط) صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أن الحياة الزوجية لا بد أن تقوم على الصبر، إن وجدت شيئاً طيباً أثنيت ومدحت، وإن وجدت شيئاً غير طيب غضضت وسترت، فإن غضضت عنها، فقد يغض الله عز وجل عنك يوم يقوم الأشهاد، وإن غفرت لها يغفر الله لك يوم يقوم الأشهاد، مع أنك قوي وهي ضعيفة، وتستطيع أن تؤدبها وتستطيع أن تؤذيها، لكن ترفع يديك وتقول: يا رب! إني أخاف منك، وإني قد أعرضت عن خطئها لوجهك، فكم يكون لك عند الله عز وجل من الأجر، فهذه من الأمور المهمة: أن يكون كلا الزوجين حافظاً للعهد.
وكما نقول هذا للزوج نقوله للزوجة؛ هذه أمور قد تكون تافهة، لكنها مهمة جداً، فكم من مشاكل زوجية بسبب كلمات خرجت من الألسن في مثل هذه المواقف الحساسة، يأتي الزوج من التعب والنصب لكي تقابله المرأة في ذلك التعب والنصب فتناقشه عن أمر من الأمور، أو تريد أن تصل معه إلى حل قضية من القضايا التي تحتاج إلى راحة ودعة واستفراغ للذهن.
فهذه من الأخطاء التي يقع فيها كثير من النساء -أصلحهن الله- فينبغي أن تعلم المرأة أن الله يحاسبها عن زوجها، وأن الله سيوقفها بين يديه، لكي يحاسبها على كل ما فيه أذى لزوجها.
وإن باتت وزوجها عليها غضبان، باتت الملائكة تلعنها من عظيم حق الزوج عليها.
كوني كبعض النساء الصالحات التي إذا أحست من غضب زوجها عليها بقيت عند قدمه تسأله أن يعفو عنها، كل ذلك خوفاً من أن يغضب الله عز وجل، أو يبيت الذي في السماء ساخطاً عليها.
فالمرأة المؤمنة تخاف الله، والمرأة المؤمنة قلبها رقيق، فمن شيمة أهل الإيمان أن قلوبهم رقيقة، وأن قلوبهم لا تتحمل ما فيه سخط الله عز وجل وغضبه، فهذا أمر مهم ينبغي للمرأة المؤمنة أن تعطيه حقه، وأن تقدر للزوج قدره.
ومن الأخطاء الشائعة من النساء خاصة، إذا عظم الأمر فكان الرجل كبير السن، ذي شيبة مسلم: تهزأ به أمام أطفاله، أو تسخر به أمام أولاده، وكم من امرأة فعلت ذلك في مشيبها فأحبط الله به عمل شبابها، وكم من امرأة سودت صحائف أعمالها بعد أن بيضتها بالأعمال الصالحة، صبرت على زوجها حتى بلغ المشيب والكبر فأهانته وآذته، فختم لها بخاتمة السوء في حياتها الزوجية والعياذ بالله.
وكم من امرأة كانت على أذية لزوجها، وبُعدٍ عن تقديره وإجلاله في بادئ أمرها، فلما شاب ورق عظمه، وابيض شعره، حفظت حقه ووداده، فغفر الله لها سيئات العمر التي مضت.
فينبغي للمرأة أن تخاف الله، وأن تراقب الله خاصة في الكبر.
وكذلك الزوج ينبغي عليه أن يرعى حق الله في الزوجة، وأن يحفظ حقها وعهدها خاصة في الكبر، فمن العيب القبيح أن تجد الرجل ذي الشيبة يجلس مع أطفاله وامرأته على كبر ومشيب، فيستهزئ بامرأته أو يسخر منها، أو يسميها باسم فيه سخرية، فإن هذا مما لا يرضي الله عز وجل، فإن السخرية والاستهزاء ليست من شيمة أهل الإيمان، فإن الله لا يحب سفاسف الأمور، ولكن يحب معاليها.
إذا شاب شعرك، ورق عظمك، وشاب شعرها ورق عظمها، فليس هناك إلا ختم الأعمال بالصالحات، وذكر الله عز وجل بالمرضاة التي توجب المحبة من الله ورفعة الدرجات، ليس بعد المشيب والكبر إلا الأخلاق الفاضلة، والسكينة والوقار التي يتربى عليها أبناء المسلمين، هذه أمور ينبغي أن نتواصى بها، وأن يشد بعضنا أزر بعض، وأن نتقي الله عز وجل في هذه البيوت، وأن نختم حياة الزوجية بمرضاة الله جل جلاله.(48/5)
الوصية الخامسة: أن يؤدي كلا الزوجين للآخر حقه
الوصية الخامسة التي يوصى بها في رعاية الحياة الزوجية: أن يؤدي كلا الزوجين للآخر حقه، وذلك في الحقوق التي أمر الله بها ومنها: - حق المبيت: يؤديه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، فلا يعرض أهله للحرام.
- حق النفقة: ينبغي للزوج أن يعطي الزوجة حقها في النفقة على الوجه الذي يرضي الله بالمعروف: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فمن كان ضيق اليد ينفق على قدر ضيق يده، ومن كان واسع اليد ينفق على سعة يده، ما لم يبلغ الإسراف في إنفاقه، فيكرم زوجته ويعطيها المال الذي يحس أنه يجبر خاطرها به.
ولذلك يتصور الإنسان لو أنه أعطى زوجته نفقة، وجاء في يوم من الأيام وزوجته على غفلة، وقال لها: هذا المال هدية مني لكِ، أنتِ لكِ عليَّ معروف كثير، أنتِ لكِ عليَّ فضل -المرأة لها فضل أين ما كان، الله عز وجل يقول بعد الطلاق: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] الله أكبر! حتى بعد الطلاق! فكيف إذا كان الإنسان يعاشر زوجته؟! - فيجبر خاطرها - حق التجمل: فبعض النساء صالحات قانتات عابدات، لكنها تهمل التجمل لزوجها، وهذه قضية ينبغي طرحها، فإن الله أعطى حقاً للزوج كما أعطاه للمرأة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].
فصلاح المرأة لنفسها، أما الزوج فله حق ينبغي أن تظهر له ما يرغبه فيها، ويكسر عينه عن غيرها، أما أن تبقى صالحة عابدة مهملة لحق زوجها فهذا مما لم يأذن الله عز وجل به، فإن حق الزوج فرض، والنوافل والعبادات طاعة وقربة ليست بواجبة، ولا يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما افترضه عليه، فأول ما تفكر فيه المرأة الصالحة التي تريد الصلاح بعينه أن تكسر عين زوجها، وذلك بما أمر الله به من التهيؤ للزوج.
وكذلك الزوج، فبعض الرجال على صلاحه وعلى ديانته واستقامته -لكن صلاحه لنفسه- يهمل حق التجمل للمرأة.
أيها الإخوة: دين الإسلام عظيم، حتى في أمور الزوجية، ليس من الحياء أن الإنسان ينكف عنها؛ لأنها حقوق وشرف لك أن تبين هذه الحقوق، وأن تدل عليها؛ لأن بيوت المسلمين تهدم عندما تضيع هذه الحقوق.
ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن جلس ذات مرة مع أصحابه وجاء بالمرآة فجعل يكتحل ويسرح شعره، ويقول: [أتجمل لها، أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب أن يتجملوا لي] وهو حبر الأمة وترجمان القرآن.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدخل بيت الزوجية ماذا كان يفعل؟! تقول عائشة: (كان يبدأ بالسواك) حتى لا يشم أهله منه الرائحة الخبيثة صلوات الله وسلامه عليه.
فدين الإسلام دين طهارة، ودين سمو، ودين عفة، فهذه الأمور ينبغي العناية بها.
المرأة الصالحة صلاحها لنفسها، لكن ينبغي عليها أن تؤدي حق زوجها، وأن تسعى في كل شيء يغض نظره عن الحرام، ولذلك أباح العلماء الاستمتاع بالمرأة، ونصوا على ذلك من خلال نصوص الكتاب والسنة، لئلا يتعرض الزوج للحرام ولا تتعرض المرأة للحرام، هذه أمور ينبغي التنبه لها.
- حق الزواج ينبغي إعطاؤه على الوجه الذي يرضي الله، فكثرة السهر والتفريط في الفراش، هذه أمور ينبغي الحذر منها والبعد عنها وتقوى الله عز وجل فيها، فكم من فراش فسد بضياع حقه، وكم من امرأة تعرضت للحرام بغفلة زوجها عنها، وكم من زوج تعرض للحرام والنظرة المسمومة بغفلة زوجته عنه، فهذه أمور ينبغي التنبه لها.
- حق الترويح: أن يحاول الإنسان أن يجعل للزوجة وقتاً للترويح وذهاب ما بها من ضيق، فالمرأة بشر ضعيف إذا جلست بين الأربع الجدران طيلة العام لا شك أنها في يوم من الأيام ستسأم.
فإذا أكرمك الله عز وجل بامرأة صالحة قانتة عابدة بعيدة عن الأسواق، بعيدة عن الخروج والتبرج، فليكن من وفائك وشيمتك وعهدك أن تأخذها يوماً في الأسبوع أو يوماً في الشهر، لتروح عنها فتزور أقاربها.
أعرف أناساً من أهل العلم والفضل بل من العلماء كانوا يأخذون أهليهم مرة في الشهر، أو المرة أو المرتين في السنة، يخرجون بأقربائهم.
وبعض الأزواج لا يخرج زوجته إلا إذا طلبت، وبعض الأزواج قد لا يخرجها حتى لو طلبت، ومن المؤسف أن بعض الزوجات تقول لزوجها: أريد أن أزور عمتي، فيقول لها: ماذا عمتك؟ لا.
اقعدي في البيت، وإذا قالت له: أريد أن أزور أمي، قال: لا.
ماذا أمك؟ كل قليل تذهبين إلى أمك؟ -وقد تكون لها عن أمها شهوراً- سبحان الله! تسألك صلة رحم أمر الله بها أن توصل.
كانت هذه المرأة الصالحة تنتظر منك في يوم من الأيام أن تأتي إليها وتقول: يا زوجتي! طال العهد بك ولم تزوري أمك، وأمك لها عليك حق فاذهبي إليها، لو عرضت عليها كيف يكون وقع ذلك في قلبها؟ والله لو أن الزوج ابتدأ زوجته بمثل هذه الأخلاق لملك قلبها.
فإن الزوجة لو جئت في يوم من الأيام تقول لها: أمك لها عليَّ حق، ولها عليكِ حق، وأبيك له عليَّ حق، وله عليكِ حق، فلنذهب لزيارتهما، كيف يقع ذلك في قلبها؟ ولو أنها يوماً من الأيام قالت لك: يا فلان! والدك له عليّّ حق، ووالدتك لها عليَّ حق، أريد أن أزورهم، كيف يقع هذا في قلبك؟ يقع موقعاً كبيراً، فبمثل هذه الأخلاق وبمثل هذه الأمور يكون الترويح وتكون الصلة التي أمر الله بها.
أيضاً تكون بركة لك؛ لأن المرأة الصالحة التي تصل أمها وأباها وتصل قرابتها مباركة؛ لأن صلة الرحم بركة: (من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، وأن يزاد له في عمره، فليصل رحمه).
فإذا وفقك الله بامرأة تبحث عن قرابتها وتصلهم، فكن أول من يعينها على طاعة الله ومرضاته، فصلة الرحم من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها.
تصور لو أنك في يوم من الأيام جئت إلى والد الزوجة أو والدة الزوجة، وقلت: أريد منكم أن تأتوا عندنا، وتذبح لهم شاة تقصد بها وجه الله، وتقصد بها صلة الرحم، كم يكون لك فيها من الأجر؟ فوالد الزوجة له حق كبير عليك، فقد اختارك ورضِيَكَ من بين الناس لابنته، أو رضِيَك لأخته، هذا شيء ليس بالسهل ولا تستطيع أن تكافئه إلا بالدعاء، فكن خير زوج لأبي زوجتك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] فصلهم وبرهم ولو مرة في العام.
هل أحد يتصور زوجاً على ديانة واستقامة لم يدع أهل زوجته إلى طعام في بيته يوماً من الأيام؟! ينتظرهم يزورونه، وقد يحرجونه، فيجلسون إلى ساعات متأخرة! والله إن بعض الزوجات تقول: إن أبي وأمي يأتيان ويجلسان إلى ساعة متأخرة في الليل، وينصرفان من عندي بدون عشاء! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
لما أراد علي أن يتزوج فاطمة قام عليه الصلاة والسلام خطيباً، فذكر أبا العاص - زوج زينب وأبا أمامة - رضي الله عنه وأرضاه فأثنى عليه خيراً، وسبب ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه، أنه لما أخذ أسيراً يوم بدر، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقه من الأسر، قال: أطلقك من الأسر لكن تبعث لي زينب، فمضى إلى مكة ووفى للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث له ابنته زينب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حافظاً لهذا العهد، فأثنى عليه خيراً.
فبيوت الزوجية لا بد أن تقام على مثل هذه المعاملة، أن تكون خير زوج لابنة من زوجك، وخاصة إذا كان الشخص ملتزماً أو ينتسب إلى الهداية، فإنه محل نظرة إجلال، ولذلك تجد بعض الرجال يقول: فلان يفعل بي كذا، وقد يكون الزوج الثاني غير ملتزم يفعل أشد منه، ولكن يقول لك: هذا ملتزم، هذا مهتدٍ، كيف يفعل هكذا؟ إذا كان الإنسان على استقامة ينبغي أن يكون خير الأزواج لوالد زوجته.
فهذه أمور مما يوصى بها، فإن العناية بالأرحام تحقيق لما أمر الله عز وجل به، فهذا من صلة الرحم، ومن إدخال السرور على الأهل، وقد يدخل الإنسان السرور على زوجته فيكون قربة بينه وبين الله، ولذلك يقول العلماء: "العادات تنقلب عبادات بالنية".
فإن إدخال السرور على أهل الزوجة عادة، لكنها تنقلب عبادة باحتساب الأجر عند الله.
فكن -أخي- ذلك الرجل، كن ممن يدخل السرور على المرأة، كما أنك تحب أن تدخل السرور على نفسك، فأدخل السرور على نساء المؤمنين، وكن وفياً كريماً.(48/6)
الوصية السادسة: الغض عن الإساءة
الوصية السادسة: من الأمور التي يوصى بها للألفة في الزواج: الغض عن الإساءة: فإن الله عز وجل يتجاوز عن عباده، فقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن رجلاً كان يدين الناس المال، وكان يقول لوكلائه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل فقال الله: نحن أحق بالتجاوز منك، تجاوزوا عن عبدي).
فينبغي لك -أيها الإنسان- أن تتجاوز عن أهلك، فإن أحق من تعفو عن زلته، وتغفر خطيئته زوجتك، والمرأة أحق من تغفر له هو زوجها؛ لأن الإنسان بشر، والبشر قد يزل لسانه وقد تزل يده، فإذا كنت حليماً رحيماً ترحم من أخطأ وتعفو عنه لوجه الله، وجب لك الخير، وكم من كربات فرجها الله عن أناس عاملوا الناس باليسر، وعاملوهم بالغض عن الإساءة، ولذلك ورد في الحديث: (أنه ينادي منادِ الله يوم القيامة، في ذلك اليوم العصيب الرهيب: من كان أجره على الله فليأته -أي: من كان له دين على الله في الأجر فليأته- تقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب) لأنه عفا عن ذنب لوجه الله، فإذا عفوت عن أقرب الناس إليك، وهم أهلك عفا الله عنك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
والله ما ترى عينك إنساناً يرحم الناس إلا وجدته مرحوماً، وما ترى إنساناً يعفو عن زلات الناس ويتسع صدره لأخطاء الناس، إلا وجدته أكثر الناس انشراحاً، وأكثر الناس طمأنينة، وتجد لطف الله عز وجل به في نفسه وفي أهله، وحيثما توجه يجد من الله لطفاً، إن الله يرحم من عباده الرحماء، ويحب من عباده الرحماء، فإذا جئت في يوم من الأيام على زلة وخطيئة للمرأة تستطيع أن تؤذيها، وتستطيع أن تضيق عليها، وتستطيع أن تربيها، وإذا بك تتذكر قدرتك عليها، ثم تتذكر قدرة الله عليك، وتتذكر أنها كما أخطأت أنك أخطأت في الله أكثر مما أخطأت، وأنك إن رحمتها رحمك الله، فقلت في نفسك: عفوت عنها، وأنت تريد ما عند الله عز وجل، فنعم والله ما صنعت.
وكم من أزواج أفضوا إلى ما يلقونه من قبل بعثهم ونشورهم في القبور، ولا زالت النساء يذكرن تلك القلوب الرحيمة بكل خير.
وأذكر ذات مرة أنه اتصلت إحدى النساء تسأل عن خطأ أخطأته في حق زوجها، فتقول: إني أخطأت في حق زوجي، ولكن تقول: أشهد لله أنني ما رأيت أوسع صدراً منه، رحم الله مجالسته، ما استسمحته إلا سامحني، ولا رأى مني زلة وقلت له: اغفرها لي إلا غفرها لي، وقعدت تبكي ما استطاعت أن تكمل السؤال؛ لأن ذلك الزوج أسر قلبها بالمعروف، وجدته رحيماً حليماً حنوناً.
فلعلك أن تكون مثله، بل لعلك أن تكون خيراً منه، إن الهداية والاستقامة تكسر القلوب لله، والمهتدي دائماً تجده رقيق القلب، تجده حليماً رحيماً، لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أهل الجنة: (إن من أهل الجنة من يدخل الجنة قلوبهم كأفئدة الطير) من الرقة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
تصور أخي! لو أن الزوجة أخطأت فجئت وأقمت الدنيا وأقعدتها وسببت وشتمت، ما الذي تريده؟ هل هذا يصلح؟ هل هذا يقوم؟ قد تزداد المرأة تعنتاً، وقد تزداد -أيضاً- إصراراً على الخطأ، فيشاء الله في يوم من الأيام أن يتسلط عليها الشيطان بالغفلة فتقع في نفس الخطأ، وقد يحدث طلاق والعياذ بالله.
لأنك تأتي في وقت الغضب، وتقول: ربيتها وضربتها وآذيتها وتفعل هذا؟! معنى هذا أنها تكرهك، فيأتي الشيطان عليك فيستزلك بالكلمة التي تهدم البيت كله والعياذ بالله.
لكنك إذا أخذت الأمور بالسهولة والحلم والرحمة، ووسع قلبك أخطاء الناس، وقلت: كما أن لهم أخطاء فلي أخطاء، فلعل الله أن يغفر لي كما غفرت لعباده، فقد يرجع لك من الله خير.
وإنه لمن المحزن أن تجد الواحد منا من أحلم ما يكون وأرحم ما يكون بالناس؛ لكنه إذا دخل بيته يحاسب عن كل صغيرة وكبيرة، وهذا موجود، فالله الله أن تضيق على أمة من إماء الله، فيضيق الله عليك في الدنيا والآخرة.
وإني أعرف أناساً يحاسبون الناس على كل صغيرة وكبيرة، والله يعاملهم بمثل ما يعاملون الناس، تأتيهم أمور سهلة ويعسرها الله عليهم: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60] {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
ذكروا عن أحد الخلفاء أن رجلاً أخطأ في حقه، فجيء بهذا الرجل المخطئ، فقال الخليفة لجلسائه: ما تقولون؟ قالوا: اضرب عنقه، وإذا برجل حكيم جالس في آخر المجلس، قال له: ما تقول يا فلان؟ قال: أما إنك لو قتلته فإن غيرك كثير قد قتل، ولكن إن عفوت فغيرك قليل فاعف رحمك الله، فعفا عنه وغفر.
فلذلك العفو والمغفرة خير وبر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حكمة عظيمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا) هذا الحديث نظرت فيه وإذا به عندما تنظر إلى الواقع تجده من أبلغ ما يكون من الكلام؛ لأنك إذا أتيت تعفو يأتيك الشيطان، ويقول لك: إذا عفوت أهانتك المرأة، وركبت على رأسك، وفعلت بك، وفعلت بك، فأصبح العفو عن الناس سلطان الشيطان على القلوب، فهو يصور أنه ذلة، فكذب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الظن، فقال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا).
فلذلك عندما يأتيك الشيطان ويقول لك: إذا عفوت ركبت عليك المرأة، كما تقول العامة، تقول: لا.
أنت تقول هذا، ولكن الله يقول على لسان رسوله: إننا نزداد عزاً.
ولذلك انظر عندما تعفو عن خطيئة المرأة، تكسر عينها أمامك، وتحس أنك ملكت قلبها بالمعروف، ولعلك أن تأتي يوماً من الأيام، وأنت ضجيع اللحد والبلى، وتذكر منك هذه الحسنة فتدمع عينها وتذكرك بدعوة صالحة، فإن الله يجزي على الإحسان إحسانا، هذه من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها كلا الزوجين.
كما أن الزوج ينبغي أن يعفو، فكذلك الزوجة لا تتابع زوجها في كل خطأ، وبعض الزوجات يخطئن التصرف في بعض الأمور، فتجدها بمجرد ما تحصل الغلطة تشيعها في كل مكان، وتذهب إلى أبيها وأمها وأخيها وأختها، بل قد تشيعها عند القرابة، وعند الجيران، وعند الأجانب والأغراب عنها، وهذه من الأخطاء الشائعة الذائعة التي ينبغي أن نتقيها، وأن يتقيها إماء الله، وأن يبتعدن عنها.
فينبغي للمرأة أن يتسع صدرها، وأن تحس أن عورة زوجها عورة لها، وأن تغفر هذه الزلة، وأن تعفو عن هذه الخطيئة، ولا تكون حريصة على محاسبة زوجها في كل صغيرة وكبيرة، وكما قلنا للزوج في فضل العفو، نقول كذلك للزوجة.
وكم من نساء صالحات تجدهن يُضطهدن ويُظلمن ويؤذين، والله يعلم ما خرجت منهن كلمة إلى أقرب الناس إليها فضلاً عن أبعد الناس عنها، وأعرف بعض النساء يتصلن عليَّ في بعض المشكلات، وتقول: والله يا شيخ! ما أحد علم بهذه إلا أنت، من صبرها وتحملها، وتمر عليها السنوات وهي صابرة متحملة لوجه الله جل جلاله، فبيض الله وجوههن، وأسأل الله أن يكثر في المجتمع من هذه الأمثال.
المرأة إذا زينها الله بالصبر وسعة الصدر باحتمال أذية زوجها وتقصير زوجها، فإن الله يعوضها خيراً، وكم رفع الله من درجات، وكفَّر من خطيئات لنساء صبرن على البلايا، وما تزال المرأة تؤذى وتؤذى حتى يرفع الله درجتها بهذه الأذية، وتبتلى حتى يرفع الله درجتها بهذا البلاء، ولعل الله في يوم من الأيام أن يعوض صبرها خيراً.
ولذلك قل أن تجد امرأة تصبر على أذية زوجها إلا جعل الله العاقبة لها خيراً، والغالب في الزوج أن ينقم عليها في آخر حياتها، وهذا له نظائر ووجدت له حوادث، فلذلك نوصى المرأة المسلمة بالصبر والتحمل، إن الله هو الذي يعلم بلاءها، وهو الذي يعلم شكواها.
ولذلك لا يفرج همها أحد سواه جل جلاله مقلب القلوب، فلعل زوجها يكون قاسي القلب عليها سنين، وفي طرفة العين يقلب الله عز وجل قلبه حناناً وشفقة عليها، فلا تشتكي إلا إلى الله، ولا تعول في تفريج كربها وهمها وغمها إلا إلى الله، وأيما امرأة آذاها زوجها وأهانها واضطهدها، فلتعلم أن لها نصيراً من الله.(48/7)
نصيحة لأقارب الزوجة
ينبغي في هذا الباب أن نوصي قرابة الزوجة بتسوية الزوجات، فمثلاً لو جاءتك الأخت تشتكي يوماً من الأيام، أو جاءتك البنت تشتكي زوجها في يوم من الأيام، فينبغي أن يكون الإنسان حكيماً حليماً رحيماً، يوسع صدر الزوجة، ويقول لها: إنه زوجك اتقي الله يا فلانة! الأخت والبنت إذا جاءت تشتكي ووجدت من أبيها وأخيها الكلمة الطيبة التي تثبتها غالباً أنها ترضى، ولعل الله أن يجمع شملهم بك، لكن بمجرد أنها تأتي تشتكي وتقول: فعل بي وفعل، وتأتي تغتاب زوجها ولعل الزوج مظلوماً بهذا الكلام، فينبغي أن يصبر الإنسان وأن يتحمل.
أذكر رجلاً من أهل الفضل يحكي لي قصة غريبة لأبي زوجته، يقول: إنه ذات يوم كان رجلاً كريماً رحمة الله عليه، كان من حفاظ القرآن ومن أهل الفضل والأعيان في بلده، كنت أعرفه بالكرم، وقلَّ أن يجلس على غدائه إلا والفقراء عليه، وقلَّ أن يأتي رمضان بساعة الإفطار إلا تجده في الحرم يبحث عن الضعفاء والفقراء حتى يأخذهم إلى بيته -رحمة الله عليه، وأسكنه فسيح جناته- فكان رحيماً بالضعفاء، فجاء يوماً من الأيام ودخل على زوجته لأجل الطعام فوجد الطعام قليلاً، فغضب عليها وضربها حتى كسر يدها من شدة الغضب -كان شديد الغضب وكما يقولون بالعامية: حار، من شدة الحرارة والغضب كسر يدها- فخرجت في الظهيرة تشتكي إلى أبيها، فلما جاءت إلى البيت لم يكن أبوها موجوداً فجلست عند أمها، وجلست تشتكي، فلما دخل أبوها البيت قال: من هذه؟ قالوا: فلانة جاءت تشتكي، فأخذ عصاه وضربها، وما سمع منها شكوى، فقال لها: قومي، لا بيت لك إلا بيت الزوج، فقامت في الظهيرة، تمسك ولدها باليد الثانية، واليد الأولى مكسورة من زوجها، كلما تعبت دفعها من ورائها، يقول الزوج: فما شعرت إلا والباب يقرع بشدة، فهو يقرعه بالعصا، وقد كان يمشى على عصا يتوكأ عليها، فلما قرعه بشدة، يقول: دخلني الرعب أن عمي فلاناً قد جاء، يقول: وتوقعت أنه سيضربني، يقول: فلما فتحت الباب وإذا بالمرأة ومعها طفلها -أكبر أبنائه- قد دفعها إلى داخل البيت، فقال لي: خذ زوجتك، يقول: ما استطعت أن أرفع بصري في وجهه من الخجل، وعدت أنا وزوجتي على خير ما يرام، وما عادت لذلك الفعل بعدها.
ويذكرون عن رجل كان من الصالحين، ومن العباد الأخيار جاءته ابنته تشتكي من زوجها، وتذكر عيوبه، فلم يجبها بشيء، فباتت عنده الليلة الأولى، فلما أصبح جلس يبكي أمامها كالطفل، فقالت له: ما بك يا أبتِ؟! قال لها: -وكانوا في بادية وليسوا في مدينة- إبريق الماء الذي أتوضأ به انكسر بالأمس، فقالت: أحضر إبريقاً آخر، فقال: إبريقي يرى عورتي ولا يحق أن أحضر إبريقاً عليه.
حفظ الحق بجماد، كأنه يقول لها: ما حفظتِ حق زوجك، وأنا حفظت حق جماد، فانكسرت عينها وأخذت عباءتها ورجعت إلى بيت زوجها، فهذا من أمور التربية.
ويخبرون عن رجل آخر أنه جاءته ابنته تشتكي من زوجها، فقال لها: أنت في كرامة وعزة، فقال لزوجته: إياك أن تغسلي الثياب، وإياك أن تطبخي الطعام، وفي اليوم الأول قال لابنته: نريد أن نأكل من يدك فطبخت، وقال لها: نريد أن تغسلي لنا الثياب بيدك الطيبة فغسلت، وفي اليوم الثاني عمل معها كما عمل في اليوم الأول وكذلك في اليوم الثالث، في اليوم الرابع فرت البنت إلى بيت زوجها.
لو أن الرجل ذهب -بمجرد ما جاءته ابنته تصيح- إلى زوجها وجلس يسبه ويشتمه، ثم يقال الكلام الذي لا ينبغي أن يقال، وتفضح العورات، ونشتكي ونفعل بك وأنت ما فيك خير، هذا كلام أهل السفلة، وكلام الذين لا خلاق لهم، أما أهل العقل والحكمة، فإنهم يعالجون الأمور بالتي هي أحسن، ويجمعون ولا يفرقون، ويؤلفون ولا يباعدون.
نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ونسأله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالبيوت التي ترضينا عنه، ويهبنا وإياكم قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً.
وأختم هذه الكلمة بما بدأنا به: اللهم بارك لأهل هذا الجمع في جمعهم، اللهم بارك لكلا الزوجين في زواجهما، اللهم بارك لهما وعليهما واجمع بينهما في خير، وارزقهما ذرية صالحة تقر بها الأعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(48/8)
رسالة إلى مضطر
الدنيا هي دار البلاء والمصائب، والمؤمن بحاجة إلى من يواسيه في هذه الدار ويقف إلى جانبه، فإذا حدث لشخص شيء من هذه البلايا فعليه عدة أمور، أهمها: أن يرضى عن الله، وأن يعلم أن الذي أنزل البلاء لا يدفعه أحد سواه، وهو الله وحده، يضاف إلى ذلك الصبر على هذا البلاء الذي نزل، مع استشعار الأجر الجزيل الذي يوفاه الصابرون يوم القيامة.(49/1)
الدنيا دار ابتلاء
الحمد لله مفرج الهموم، الحمد لله مبدد الأحزان والأشجان والغموم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملاذ الهاربين، وعدة الصابرين، وسلوان المصابين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله الأمين، قدوة الصابرين، وإمام المحتسبين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين, ومن سار على نهجهم المبارك واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: سلامٌ على كل مؤمن مهموم سلامٌ على كل مؤمن مبتلى مغموم سلامٌ على كل مؤمن مبتلى ضرير سلامٌ على كل مؤمن مجروح أو كسير سلامٌ على أولئك الذين فُجعوا بأهليهم سلامٌ على أولئك الذين فجعوا بأحبتهم وذويهم سلامٌ على من فارق الآباء والأمهات سلامٌ على من ودع الخلان والأصحاب والأخوات سلامٌ على من فجع بالأبناء والبنات.
سلامٌ عليك إذ ودعت أباً كريما طالما مد يد المعروف إليك سلامٌ عليك إذ فجعت بتلك اليد التي طالما أحسنت بعد الله إليك سلامٌ عليك إذ ودعته دار البلى، وأسلمته إلى يد الردى، فكان آخر عهدك به إذ ولاك قفاه مشتغلاً بما أقدم عليه من الله جل وعلا.
سلامٌ عليك إذ رجعت إلى دارك ففقدت صورته وحنانه سلامٌ عليك إذ رجعت إلى دارك فانقطع صوته بينك وبين أبنائك.
سلامٌ عليك إذ ودعت أماً حنونا طالما أسدت يد المعروف إليك سلامٌ عليك إذ فجعت بها وقد كان ثديها لك سقاء وبطنها لك وعاء، وحجرها لك حِواء، أسلمتها إلى يد الردى والبلى وما وفيت شيئاً من معروفها عليك، أسلمتها إلى دار البلى وما أديت حقوقها من البر عليك.
سلامٌ عليك إذ ودعت الأصحاب والأحباب، وخلفوك في هذه الدنيا وحيداً فريداً مع الذكريات سلامٌ عليك إذ فجعت بهم وعظم مصابك بهم سلامٌ على كل مؤمن مهموم مغموم طريح البلاء، طريح الأذى سلامٌ على من نزل به البلاء في نفسه سلامٌ على من نزل به البلاء فعظم عليه البلاء سلامٌ على من بات طريح الأسرة البيضاء سلامٌ على كل مؤمن فجع بالأعضاء سلامٌ على كل مؤمن ذي عين عميت أو عورت سلامٌ على كل مؤمن له عضو قطعت أو شلت سلامٌ على كل مؤمن ذي قدم بترت أو حسمت سلامٌ على أهل البلايا من عباد الله المؤمنين.
عظم الله أجركم، وجبر الله كسركم وعوضكم خيري الدنيا والآخرة على ما فقدتم، فمن لكم غير الله يجبر كسركم؟! ومن لكم غير الله يبدد أشجانكم وأحزانكم؟! ومن لكم غير الله يؤنسكم من الوحشة ويعيد إليكم ما فقدتم من النعمة؟! من لكم غير الله إذا دفعتم عن الأبواب إلا بابه؟! ومن لكم غير الله إذا صرفتم وخاب الرجاء فيمن سواه إلا رجاءه؟! من لكم غير الله أعز مطلوب وأشرف مرغوب؟! سلامٌ عليكم من الله ورحمات سلامٌ عليكم من الله ورضوان ومغفرات عدد ما سكبتم من العبرات، ولفظتم من الآهات والأنات والصيحات.
أحبتي في الله: إنها الدار وأي الدار، دار الدنيا والدناءة، إن أضحكتك يوماً أبكتك أياما، وإن سرتك يوماً ساءتك سنين وأعواما، هي الدار التي جعل الله عز وجل شرورها أعظم على المؤمن من شرورها على من كفر، هي الدار التي جعل الله بلاءها على من بر أعظم من بلائها على من فجر، فالمؤمن فيها غريب، والمؤمن فيها ليس منها بقريب، فالمؤمن فيها غريب حتى يلقى الله، فهو ابن للآخرة وليس ابن لهذه الدنيا الدنيئة، تعضه بأنيابها وتقلقه بفواجعها، لكنه وإن آلمته بأشجانها وأحزانها وضرته بأسقامها وآفاتها، فله من الله ألا يخيب رجاء في الله ولا يخيب صاحبه، وله في الله ركن لا يضيع صاحبه، إليه المفزع وفيه المطمع، له من الله سلوان من الكروب، وله من الله رحمة من تلك البلايا والخطوب.
إنها الدار المؤلمة إنها الدار المحزنة التي صب الله عز وجل البلايا فيها على المؤمن، لذلك فإن خير ما يحتاجه العبد المؤمن في هذه الدار إذا عظمت مصيبته، وجلت كربته أن يجد من يعينه على أشجانها وأحزانها، أحوج ما يحتاجه المؤمن إلى كلمة من أخيه تثبته، أو رسالة من محب تسليه، أو كلمة صدق عن البلاء تعزيه يحتاج المؤمن إلى إخوان يواسونه في الأشجان والأحزان، ويبددون عنه ما حصل وما كان.
يحتاج المؤمن إلى الكلمة الصادقة النابعة من الأخ المشفق، ولذلك شرع الله عز وجل عيادة المرضى، ووعد الله تبارك وتعالى من عادهم بجليل الرضا، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عاد مريضاً فهو في خُرفة الجنة حتى يعود) من خرج لوجه الله عز وجل إلى أخ يواسيه في مرضه، أو يسليه من بلائه، فخطواته في سبيل الله، ولحظاته وأنفاسه في طاعة الله ومرضاة الله.
وكان بعض السلف إذا خرج لعيادة المريض يقارب الخطى حتى يطول زمانه في رحمة الله من عيادته.
وشرع الله عز وجل تشييع الجنائز، لما في تشييعها من تسلية للمصابين، فالمؤمن قوي بإخوانه، شديد بأعوانه، فإذا وجد هذا يسليه وهذا يثبته وهذا يعزيه هان عليه ذلك الخطب الذي يجده، ويسر الله عز وجل عليه ذلك البلاء الذي يعانيه.
لذلك أحبتي في الله! سلوان المصابين وتثبيت قلوب عباد الله المؤمنين المفجوعين المنكوبين، من أجلِّ القربات، وأعظم الحسنات والطاعات التي يحبها الله تعالى.
وانطلاقاً من هذا كله فإليك أخي المهموم والمكروب والمغموم كلمات من الأعماق، أسأل الله تبارك وتعالى أن يبدد بها أشجانك، وأن يزيل بها أحزانك، وأن يجعلها خالصةً لوجهه نافعة يوم لقائه.(49/2)
الوصية الأولى: الرضا عن الله
أول وصية أوصيك بها إذا فجعت في نفسك أو أهلك وولدك أن ترضى عن الله، فوالله ما رضي عبد عن الله إلا أرضاه الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء على عظم البلاء، وإذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) من رضي عن الله أرضاه الله في دنياه وأخراه.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يوصيه ويذكر له تلك الوصية النافعة؛ فاستفتح كتابه رضي الله عنه بقوله: [أما بعد: فاعلم أن الخير كله في الرضا عن الله]، إن الخير كله أن ترضى عن الله.
اعلم أخي في الله! أنه إذا أصابك البلاء فرضيت عن الله أرضاك الله في الدنيا والآخرة، وأقر الله عينك وأثلج صدرك، فكم من مصيبة عادت نعمة من العبد إذا رضي عن الله تبارك وتعالى، وكم من بلايا رضي أصحابها فزادتهم من الله قربا ومن الله رضاً وحبا.
أول وصية أن ترضى عن الله تبارك وتعالى، ولهذا الرضا دلائل: أولها: طيب الكلام، وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، ومن ثم قال العلماء: "إن العبد إذا رضي عن الله وهبه اليقين في مصيبته" قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال رضي الله عنه: [يهدي قلبه: أن يهبه اليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه].
فإذا كان الإنسان راضياً عن الله تبارك وتعالى، وعنده الإيمان واليقين الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه، ثبت الله جنانه، ولذلك كان بعض السلف إذا أصيب بالمصيبة أظهر الرضا لله.
قام أحدهم بين أناس فجالت يده فقطعت فضحك، قالوا: سبحان الله!! تصاب في يدك فتضحك، قال: "إني ذكرت ثوابي عند الله عز وجل فضحكت".
وسار الفضيل رضي الله عنه في جنازة ابنه، فلما سار معهم تبسم رحمه الله، قالوا: لم تبسمت رحمك الله؟! قال: احتسبت مصيبتي عند الله فذكرت ما لي عند الله فسلوت وضحكت.
فكلما كان اليقين في قلب العبد وجدته أثبت جنانا، وأشرح لله عز وجل صدرا، والله ما رضي عبد عن الله إلا جعل له من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيق مخرجاً.(49/3)
الوصية الثانية: العلم بأنه لا يدفع البلاء إلا الله
فإذا حصل الرضا فإن بعد الرضا أمر مهم لا بد من وجوده وهو علمك بأنه لا يدفع البلاء إلا الله، وأنه لا يدفع هذا العناء الذي تجده إلا الله.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه؛ فأوصى البراء بن عازب رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه أن يقول: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبةً ورهبةً إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) أول ما يحس الإنسان بالبلاء إذا أراد أن يفرج الله كربه وهمه، أن يحس من أعماق قلبه أنه لا ينجيه أحد من هذا البلاء إلا الله عز وجل.(49/4)
جزاء الضارعين إلى الله عند البلاء
قال بعض العلماء: ما أصاب الكرب والخطب عبداً فضرع إلى الله تبارك وتعالى إلا أعطاه تفريج الكرب ومع تفريج الكرب زيادة فضلٍ من الله؛ ولذلك تجد بعض الناس يفجع بأهله ويفجع بولده فيعوضه الله حلاوة إيمانٍ تبقى معه إلى لقاء الله عز وجل.
أصيب رجل بولده وكان ذلك الرجل من أفجر خلق الله والعياذ بالله تاركاً للصلاة منتهكاً للحدود والمحارم أقسى ما يكون قلباً والعياذ بالله، فشاء الله يوماً من الأيام بعد صلاة العشاء، جاءه ابنه يضحك ويسلو، وشاء الله تبارك وتعالى أن يودعه ذلك الابن فتكون آخر عهده بذلك الابن، فخرج الابن وما هي إلا لحظات حتى جاءه الخبر بأن ذلك الابن انتقل إلى جوار الله.
وهذه حال الدنيا، تتمتع بالنظر إلى الابن في الصباح فإذا بك تفجع به في المساء، وتتمتع بالنظر إلى الأب في المساء فإذا بك تفجع به مع بزوغ الصباح، وسبحان من هذا ملكه! وسبحان من هذا أمره! فلما فجع بذلك الابن طاش عنه عقله وعزب عنه رشده، فشاء الله تبارك وتعالى أن يقيض له طالب علم موفق، فذكره بالله بالكلمة تلو الكلمة حتى شرح الله صدره، وآنس الله قلبه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم شاء الله تبارك وتعالى أن يخشع يوماً فيوما، حتى سمعته ذات يوم يقول: والله إني أصبت بابني وإنها نعمة من الله عليَّ إذ ابتلاني بذلك الابن، عرفت الله وكنت له منكرا، واقتربت من الله وكنت منه بعيداً، وآويت إلى الله وكنت منه طريداً، في كلام هذا معناه، مصيبةٌ قربتني من الله تبارك وتعالى.
فالله منه العوض، ما رجاه أحد فخاب، ولا أيقن عبد بربه فخسف الله به الأرض من تحت قدمه أبدا.
ولذلك قال بعض العلماء: "إذا أراد الله أن يجمع للعبد بين المصيبتين.
ابتلاه وسلبه اليقين فيه" والعياذ بالله، إذا ابتلى الله العبد ولم يلتجئ إلى الله بعد البلاء فاعلم أنه والعياذ بالله مستدرج، ولذلك البلاء كل البلاء على الكافر الذي إذا أصابته المصيبة لا يدري أين يذهب، ولا يدري أين يتجه، ولكن المؤمن له باب يقرعه ورب لا يخيب يرجوه.
فلذلك أحبتي! كان من لوازم البلاء اليقين في الله عز وجل! أصيب بعض السلف بمصيبة وعظمت عليه هذه المصيبة وكانت آفةً في جسده، وما زال يعرض نفسه على الناس رجلاً بعد رجل حتى يأس من علاج هذا الداء، وقنط أن يشفى من ذلك البلاء، فدخل يوماً من الأيام فإذا رجل يتلو كتاب الله فسمعه يتلو قول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فقال: اللهم إني مضطر وأنت مجيب، فما قام من ساعته إلا وهو معافى، إذا دخل اليقين إلى قلب العبد لا يمكن أن يبرح وحاجته في قلبه، بل إن بعض الناس يمسي المساء وحاجته تضايقه، وكربته تؤلمه فيتضرع إلى الله بالدعوة الصادقة حتى يعز على الله أن يصبح وحاجته في قلبه فيفرج عليه قبل أن يصبح؛ وهذا من عظيم لطف الله بالعباد.(49/5)
إبراهيم عليه السلام ويقينه بالله
هذا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أوذي في الله فصبر، فجمع له قومه ذلك الوادي العظيم من النار حتى إذا تأجج ذلك الوادي بناره، واصطلى بجحيمه وسعيره، أُلقي عليه الصلاة والسلام، حتى إذا صار مقبلاً على ذلك البلاء العظيم مسلماً لله عز وجل فيما ابتلاه، فلما قدم قال له جبريل: هل لك من حاجة؟! ذلك الملك الذي لو أذن الله له لخسف الأرض ومن عليها بجناحه، قال: يا إبراهيم! هل لك من حاجة؟! قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] قال بعض العلماء: "لو قال الله يا نار كوني برداً لأهلكته من بردها"، ولكن قال: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ثم خرج عليه الصلاة والسلام طريداً عن قومه، مهاناً من عشيرته، وحيداً لا مال لا بنون لا إخوة لا أصحاب لا أحباب، فخرج من داره مؤذىً في الله مضطهداً، فلما ولّى وجهه قال عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100] فخرج من دار فعوضه الله أطهر من الدار التي خرج منها، عوضه الله الأرض المقدسة، وجعل ذريته ذرية النبوة والصلاح، وجعل فيها ميراث الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك باليقين بالله.
فكل إنسان أصابته مصيبة فعلم أنه لا ينجيه منها إلا الله عز وجل فرَّج الله همه وغمه.
ثم أمره الله تبارك وتعالى أن يخرج بـ هاجر مع صبيها ورضيعها، أن يخرج من دارٍ كلها جنات وأنهار إلى دارٍ لا ماء فيها ولا أشجار، فجاء فوضعها في ذلك الوادي الذي لا أنيس فيه ولا جليس، فتعلقت به تلك المرأة المفجوعة، وقالت: يا إبراهيم! إلى من تدعنا؟! فولى وجهه عليه الصلاة والسلام قبل الدابة، فتعلقت به ثانية وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! امرأة ضعيفة وصبي ضعيف ليس معهم أحد، تقول له وتتعلق به: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! فلما كانت المرة الثالثة، تعلقت به وألحت فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! فقال: لله، فقالت: إذاً لا يضيعنا الله، ورجعت إلى صبيها وقلبها كله يقين بالله تبارك وتعالى، فتولى عليه الصلاة والسلام، حتى إذا نزل في الوادي وتغيب عن نظرها رفع كفه إلى الله فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] الله أكبر!! إلى يومنا هذا والقلوب تحن وتئن إلى رؤية البيت العتيق، إلى يومنا هذا والنفوس تشتاق إلى رؤية البيت العتيق، فلما جلست تلك المرأة المفجوعة مع صبيها، وعاينت ما هي فيه من البلاء، جاءت تلك الساعة التي صاح فيها الصبي يطلب الماء، وعندها خرجت لكي تلتمس الأسباب، فرقت على الصفا فصاح صبيها فلم تر أحدا، ثم مضت إلى المروة وتعلقت بالله عز وجل تدعوه وترجوه، حتى إذا كانت المرة السابعة أبى الله إلا أن يفرج همها بالصبي نفسه، فجعل تفريج الكرب من تحت قدم الصبي الذي دحس برجله الماء! من أيقن بالله تعالى جعل الله فرجه في نفسه قبل أن يكون بعيداً عنه!(49/6)
أيوب عليه السلام ويقينه بالله
نبي الله أيوب مكث طريح الفراش أكثر من سبع سنين، كان ذا مال وثروة ونعمة وجاه، قال إبليس: اللهم سلطني على عبدك أيوب، فسلطه الله على ماله فأحرق جميع ماله، فلما رأى ذلك البلاء في ماله قال: الحمد لله، حمد الله تبارك وتعالى وقال في كلام معناه: اللهم وهبتني المال، وأنعمت علي بالمال حتى شغلني عن ذكرك فها أنت قد فرغتني لذكرك وشكرك فلك الحمد رب العالمين! رضي عن الله تبارك وتعالى، وشاء الله تبارك وتعالى أن لا يبقى البلاء عند هذا، وإذا بذلك العدو يسأل الله أن يسلطه على أهله وولده، وشاء الله تبارك وتعالى أن يمكنه من ذلك، ففقد فلذات كبده وفقد أهله واحداً تلو الآخر حتى فجع بهم جميعاً إلا زوجةً واحدة، بقيت هذه الزوجة مع ذلك النبي المصاب، ومع ذلك العبد المبتلى تواسيه وتسليه، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله رب العالمين، وشكر الله على البلاء الذي أصابه، فقال إبليس عليه لعنة الله: اللهم سلطني على نفسه، فقال: لك كل شيء إلا لسانه وقلبه، فبقي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفتر له لسان عن ذكر الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يفتر له جنان عن حسن الظن بالله تبارك وتعالى، تولى عنه الناس حتى أصبح أنتن ما يكون رائحة، وتركوه إلى جوار المزابل -كما ورد في الأخبار- ولم يبق معه إلا زوجته التي بقيت معه تهتم به، فلما بلغ به الأذى مبلغه، وأصابه ما أصابه من الضر والبلاء؛ عندها تذكر الله تبارك وتعالى، وأحس بعظيم البلاء الذي يجده، فقال الله تعالى يصور ساعة اليقين من ذلك القلب الموقن {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84] لما أراد الله أن يفرج كربه أمره بكلمةٍ واحدة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] ما أمره أن يقوم وما أمره أن يذهب إلى أحد، وما أمره أن يسأل أحداً أن يفرج كربه، ولكن أمره بأمر واحد: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] فجعل تفريج كربه من تحت قدمه، فلا إله إلا الله رب العالمين!! في طرفة عين تفجرت العين ثم اغتسل منها فما بقي به مرض في جسده وما بقيت به عاهةٌ في بدنه فقام عليه الصلاة والسلام قوياً سوياً من لحظته وساعته، الله أكبر!! ما أيقن أحد بالله فخاب في يقينه، ولا رجاه أحد فخاب في رجائه، ثم أعاد الله تبارك وتعالى عليه أهله وذريته، قال عبد الله بن عباس: [أعاد إليه الأهل والذرية بأعيانهم، فرد عليه الزوجات ورد عليه الأبناء والبنات، ثم رد عليه أضعاف ما كان فيه من النعمة].(49/7)
حسن الظن بالله أهم باعث لليقين بالله
ومن الأمور التي تبعث باليقين حسن الظن بالله تبارك وتعالى، والله ما أحسن عبد ظنه بربه إلا كان الله عند حسن ظنه، إذا أصابتك المصيبة فأحسن الظن بالله، وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، من قالها فقد أوجب الرضا من الله تبارك وتعالى، ولذلك أحرص ما يكون الشيطان في بداية المصيبة أن يسيء ظنك بالله عز وجل، ولذلك إذا جاءت المصيبة في النفس، أو جاءت في المال، أو جاءت في الولد، جاءك الشيطان فقال لك: لو كان الله يحبك ما ابتلاك! ولو كان الله يحبك ما أصابك بابنك فلذة كبدك! ولو كان الله يحبك ما أفقدك مالك على كبر سنك! ولو كان الله ولو كان الله.
، فهو أحرص ما يكون على أن تكون على سوء ظن بالله عز وجل.
فالله الله! أن يسوء ظنك بالله عز وجل، بل قل: الحمد الله، وليكن قلبك مطمئناً بالفرج من الله تبارك وتعالى، فمن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجا ومن كل ضيقٍ مخرجا.
أخي! الملك لمن؟ والكون لمن؟ والتدبير لمن؟ من الذي يجير ولا يجار عليه؟ ومن الذي يغيث ولا مغيث سواه؟ والله لو علم المكروب سعة رحمة الله عز وجل ما تألم من كربه، ولو أيقن المكروب بحلم الله به لا يمكن أن يصيبه بلاء في نفسه، وأضرب لك مثلاً يسيراً: لو أنك يوماً من الأيام سئلت عن أرحم الناس بك وأحلمهم عليك؟! لقلت: أبي وأمي، ولكان في قلبك يقين أن لا أرحم في الناس من أبيك وأمك، والله ثم والله لرحمة والديك بك لا تأتي مثقال ذرة في رحمة الله عز وجل بك، وللطف الله عز وجل وحنانه وحلمه ورحمته وأنت تقاسي الآلام وتكابد الأسقام، أشد من رحمة والديك بك، ولكن يريد أن يرفع درجتك، ويحط عنك خطيئتك، ويريد أن تخرج من هذه الدنيا وأنت صفر اليدين من السيئات والخطايا، حتى إذا وافيته وافيته بوجه أبيض مشرقٍ من تلك البلايا، وإنَّ من عباد الله من هو والله حبيب لله، لا يبتليه الله عز وجل إلا لكي يدنو منه، يبتليه لكي يسمع صوته: يا رب! يا رب! إلهي سيدي مولاي يسمع إخباته وإنابته فتكون أصدق شاهدٍ على توحيده لله تبارك وتعالى.(49/8)
سر ابتلاء الله تعالى لعباده
هذه البلايا وهذه الفتن والرزايا بسطت لك لكي تكون سلماً إلى رحمة الله عز وجل، شعرت أو لم تشعر، وكان بعض السلف إذا نزلت به المصيبة ووهبه الله اليقين عليها والصبر عليها تسلى بالدعاء، حتى أثر عن بعضهم أنه كان يكثر الدعاء ويلح في المسألة حتى يقول: يا ليت أن الله لا يفرج عني كربي حتى تستديم هذه الحلاوة لمناجاته ومناداته.
فإذا دخل اليقين إلى القلوب هانت عليها البلايا والخطوب، إذا دخل اليقين إلى الأفئدة تعلقت بالله وحده لا شريك له، ما ابتلاك الله لكي تفزع إلى زيد وعمرو لا والله، وما ابتلاك بالأسقام حتى تتعلق بغيره سبحانه وتعالى، فوالله لو صبت البلايا على العبد لا يمكن أن يجد الفرج والمخرج إلا بالله سبحانه وتعالى، فلذلك يكون الإنسان على يقين بالله تعالى، فلا ملجأ ولا منجى من الله تبارك وتعالى إلا إليه.
وقع أحد الناس في ضائقة واشتدت عليه هذه الضائقة، كان مبتلى بمس، وكان هذا المس يقلقه ويزعجه ويؤلمه واشتد عليه ذلك الخطب، وفي يوم من الأيام جاء إلى أحد طلاب العلم واشتكى إليه مما يجده، وقال: والله يا شيخ قد عظم علي البلاء وإني أصبحت مضطراً أفلا يجوز لي أن أذهب إلى إنسان يفك عني هذا البلاء الذي أجده؟! ألا ترخص لي في ساحرٍ أو كاهنٍ يعلم ما أصابني فيكشف عني ما أصابني؟! يقول ذلك وهو في حرقة وألم وشدة وشجن لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فوفق الله طالب العلم فقال له كلمات ثبت الله بها جَنان ذلك المؤمن، وقال له كلمات شرح بها صدر ذلك العبد المبتلى فقال له في آخر الكلام: إني لأرجو من الله عز وجل إن استعنت بأمرين أن يفرج عنك الكرب والبلاء: أحدهما الصبر والثاني الصلاة.
يقول الرجل -وهو أيضاً من طلاب العلم-: فقمت من عنده بيقين قوي في الله عز وجل فصليت ركعتين أحسست أني مكروب، وأنه قد أحاطت بي الخطوب، فاستعذت بالله واستجرت، وإذا بي في سجودي أحس بحرارة شديدة في قدمي ما إن سلمت إلا وكأنه لم يك بي من بأس.
أحبتي في الله! هل الساحر يغيثك من دون الله؟! هل الكاهن يجيرك من دون الله؟! الأمر أمره، والقدر قدره، خط عليك هذا البلاء قبل أن تكون وقبل أن توجد {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50].
كتب الله البلايا قبل أن يخلق العباد، ففي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال: اكتب! قال: يا رب! ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة) ولذلك ركب عبد الله بن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه هدية، وأن يمنحه تلك العطية فقال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فمن هذا الساحر ومن هذا الكاهن الذي يستطيع أن يتخطى أمر الله عز وجل؟ ومن هذا العبد الذي يستطيع أن يقضي الوطر لنفسه قبل أن يقضيه لغيره من خلق الله عز وجل؟ فالله الله! أن ينظر الله عز وجل عليك في البلاء، وقد رفعت كفك إلى غير الله.
الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلقت بغيره جل في علاه.
الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد صرفت شعبةً من شعب قلبك تعتقد فيها في أحد سواه.
الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلقت بغيره وعذت بأحد سواه، فوالله إن وليت عن الله خسف الله الأرض من تحت قدمك، وكم من أقوام استعاذوا واستجاروا بغير الله ففرج الله عنهم الكربات امتحاناً واختبارا، واستدرجهم منه علماً وحكمةً واقتدارا، ثم ابتلاهم بالبلاء الذي هو نهايتهم من حيث لا يحتسبون.
ذكروا عن رجل أنه كان يقرب ساحراً، وكان يثق بهذا الساحر ثقةً عمياء، وكان هذا الساحر بزعم ذلك المبتلى يفرج همه، وينفس كربه، والله يستدرجه اليوم تلو اليوم، حتى قوي اعتقاد ذلك الرجل في ذلك الساحر -والعياذ بالله- وقوي اعتقاده في ذلك الكاهن من دون الله -نسأل الله السلامة والعافية- فشاء الله عز وجل لما عظم يقين هذا العبد أن يسلط عليه الساحر فيؤذيه والعياذ بالله بسحره.
فلذلك -أحبتي في الله! - من وثق بالله، وأيقن بالله تبارك وتعالى، أحس في قرارة قلبه أن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، إن فقدت الأموال فإنك لم تفقد ربها، وإن فقدت الأبناء والبنات فإنك لم تفقد من أوجدها ومن خلقها، وإن فقدت الآباء والأمهات، فإنك لم تفقد من جبل قلوبهم إلى الحنان فأحسنوا إليك ووهبوا يد المعروف إليك.
فالله الله! أن يخيب ظنك في رجائه، أو تكون من عباده الذين ضل سعيهم بالرجاء في غيره.(49/9)
الوصية الثالثة: الصبر على البلاء
الوصية الأخيرة: التي أوصي بها كل مفجوع، وأوصي بها كل مؤمن مفزوع؛ وصية وصى الله عز وجل بها في كتابه وذكرها في أكثر من ثمانين موضعاً من كتابه، إنها الصبر على البلاء، قال الله تعالى يوصي نبيه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] وقال لعباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] وقال مثنياً على نبيه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:44].
إذا أنزل الله عليك البلاء فأصبحت صابراً قانتاً لله ينعم الله عليك، فيقول: نِعم العبد أيوب، حينما أصيب في نفسه، وفي أهله وولده فصبر لوجه الله، قال الله تعالى عنه: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] فإذا أردت أن ينعم الله عليك فاصبر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبره الله) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطي عبد عطاءً أفضل من الصبر) ولذلك جرب في أي بلية نزلت بك أو مصيبةٍ -لا قدر الله- أحاطت بك، إذا صبرت وسلوت وتعزيت أحسست بنوع من الارتياح، وأحسست بطمأنينة وانشراح وذلك عاجل ما يكون للصابرين.
أما العاقبة التي تجنيها، فقال عمر رضي الله عنه عن عاقبة الدنيا: [وجدنا ألذ عيشنا بالصبر]، ما طابت الحياة ولا لذت الحياة بشيء مثل الصبر، إن أصابتك المصيبة تعلقت بالله فسلوت فأصبحت لا تقلق ولا تجزع، تحس أن الله تبارك وتعالى سيحسن لك العاقبة، إما أن يزيلها أو يعظم لك الأجر فيها.
ولذلك ورد في بعض الأحاديث -ولكن تكلم العلماء في سنده إلا أن معناه صحيح- يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إذا لقي أهل البلاء ربهم يوم القيامة فوجدوا ثوابهم على الصبر تمنوا أن حياتهم كلها في بلاء) والله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] قوله: بغير حساب من الله، ليست بالهينة.
وقال بعض العلماء في هذه الآية الكريمة: "إن العبد إذا عظمت مظالم العباد عليه فإن الله عز وجل يوفي المظالم بالصبر"، ولذلك في الصيام قال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء: "لأن الصيام صبر واحتساب"، فإذا بلي الإنسان بمظالم الناس، وجاءته البلايا فصبر ضاعف الله أجره في الصبر حتى تأخذ المظالم منه حسنة حسنة، ولا يزال الصبر يضاعف أجره حتى يأخذ أجر العمل كاملا، فيوافي الله عز وجل برحمة منه ورضوان.
الصبر أعظم خصلة في المؤمن والله تعالى وعد أهلها بقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66] فمن صبر صبره الله عز وجل ومن ثبت ثبت الله عز وجل جَنانه وقلبه، ولذلك أُثر عن بعض الصالحين من السلف والماضين أنهم كانوا يجدون اللذة بالصبر فكان الواحد منهم إذا صبر لا يشتكي إلى أحد، ولا يطلع أحداً على بلائه إلا إذا اطلع من دون علمه، وأذكر بعض العلماء الفضلاء من مشايخنا رحمة الله عليهم، ابتلي ببلاءٍ في جسده فمكث ثلاث سنوات لا يعلم أبناءه بذلك البلاء حتى أنتفخ جلده وتقرح ذلك الجلد، من قوة صبره ويقينه بالله.(49/10)
أعلى مراتب الصبر
ولذلك الصبر على مراتب، أعظمها وأجلها: ألا تشتكي الله إلى خلقه، وأن لا تبث أشجانك وأحزانك إلا إلى الله وحده لا شريك له، وهذا هو خُلق الأنبياء، قال الله عن نبيه يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فأكمل ما يكون الصبر إذا كتم العبد غيظه، وصبر على بلائه، ووافى الله تبارك وتعالى محسن الظن به، فهذه أكمل درجات الصبر.
وليس معنى هذا أنه يحرم على الإنسان أن يبث أشجانه وأحزانه إلى الناس، لا.
إنما المقصود أن يكون الإنسان على الأكمل فلا يشتكي إلا إلى ربه، ولا يعول في تفريج كربه إلا على خالقه, ولذلك جعل الله تبارك وتعالى ثمرات الصابرين خيرا.
وكان بعض السلف رحمهم الله إذا اشتكى إليه أحد مرضه قال له: "اتق الله! أتشتكي من يرحم إلى من لا يرحم"؟ أي: هل تشتكي الله إلى خلقه؟! فأكمل ما يكون الصبر إذا تعزى العبد بربه، وبث أشجانه وأحزانه إلى خالقه.
نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل لنا ولكم من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيقٍ مخرجا، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين.
اللهم فك أسرى المأسورين، وارحم عبادك المعذبين، وسلِّ عبادك المصابين.
اللهم إنا نسألك يقيناً تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.(49/11)
الأسئلة(49/12)
معنى سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة
السؤال
كيف نوفق بين أن ابتلاء المؤمنين سنة من سنن الله وأن المؤمنين لهم السعادة في الدنيا والآخرة؟
الجواب
السعادة ليست في الصور والأشكال السعادة ليست في المناظر وليست في زهرة الحياة الدنيا، السعادة سعادة القلب ولله در الشاعر إذ يقول: ولم أر السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد الراحة والطمأنينة والسعادة التي وعد الله بها المؤمن في قلبه وفؤاده، ولذلك تجد الإنسان فقيراً مدقعاً لا طعام عنده ولا شراب ولا كساء وتقول له: كيف حالك؟! يقول لك: الحمد لله في نعمة وفضل من الله، وتجد الرجل طريح الفراش مشلول اليدين مشلول القدمين أعمى أصم فتخاطبه ويسمعك فتقول له: كيف حالك؟! فيقول لك: الحمد لله.
والله إن أحد الشباب من الأخيار أصيب منذ عهد قريب فأصبح -والعياذ بالله- مشلولاً لا يتحرك، لكن كل من يدخل عليه يعجب من قوة إيمانه وثبات جنانه، ويقول: ما رأينا أشرح صدراً من ذلك الرجل، ليست السعادة في المناظر، وليست السعادة في هذا الزهرة، السعادة في التعلق بالله تبارك وتعالى، المؤمن له السعادة؛ لأن عنده اليقين الذي يتعلق به بالله عز وجل.
لذلك تجد أغنى الناس أشقى الناس بغناه، تجد له قلباً هنا وقلباً هناك وقلباً مع التجارة وقلباً مع السيارة وقلباً في العمارة، في همٍ ونكدٍ لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، تجده يركب أحسن وأفره السيارات، ولكن داخل قلبه من الجحيم والقلق والاضطراب النفسي ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، مع أنه في عز وكرامة ومال وجاه لكن فقَدَ السعادة الحقيقية، فقَدَ الإيمان بالله والصلة والثقة بالله عز وجل.
وأضرب لك مثلاً أوسع من ذلك كله: انظر إلى أغنى الناس تجده أكثر الناس مرضاً، تجده أغنى الناس ولو طلب أي طعام يلبى له، ولكن عنده مرض في السكر، وعنده مرض في الضغط، وعنده مرض في عينه ومرض في قدمه بسبب هذه الأموال والهم الذي أصابه من هذه الأموال، ومع ذلك لا يستطيع أن يأكل إلا طعاماً معيناً، ولا يشرب إلا بطريقة معينة؛ لأنه حرُم السعادة الأبدية، ولذلك قد تجد الإنسان فقيراً مدقعاً حوله أبناءه لطف الله به من حيث لا يشعر.
هب يا أخي الكريم: أن الله أعطاك الأموال فعظمت تجارتك وكثرت أموالك وأصبح عندك في كل وادٍ تجارة، وفي كل مدينة تجارة، يتشتت قلبك ويتشتت ذهنك، حتى إن أبناءك يتشتتون بهذه الأموال التي لك، يوماً يسافر ويوماً يغادر ويوماً في مكان كذا ويوماً في مكان آخر، ولا يمكن أن يتمتع الغني، سله متى يتمتع بأبنائه؟ ربما يمر عليه العام الكامل لا يرى ابنه أو ربما يراه يوماً أو يومين، ومع ذلك يظن أنه في سعادة، أي سعادة هذه؟ المال الذي يظن الإنسان أنه سعادة قد يكون سبباً في تدمير حياته كلها، فإن قارون أشقاه الله بماله.
ولذلك ذكر لي الوالد رحمه الله قصةً عجيبة، يقول: قامت الحرب العالمية فجئت ذات يوم والطعام قد أصبح شغل الناس، حتى إنه بيع بيت في ساحة المدينة بكيس أرز، نسأل الله ألا يبتلينا بمثل تلك الأيام.
الشاهد على هذه العبرة العظيمة يقول: تاجر دخلت عليه عند قيام الحرب -وكان قد اشترى سفينة من الأرز- فجاءه الخبر أن الأرز قد ارتفع وأنه غلي سعره في السوق، فمن شدة الصدمة خر ميتاً من فوق كرسيه، ثم مرت الأيام تلو الأيام واحتجت أن أشتري أرزاً عند انتهاء الحرب، فوقفت على تاجر أيضاً قد اشترى سفينة من الأرز وجاءه الخبر أن السوق قد كسد، فسقط ميتاً من ساعته، فسبحان الله!! أحدهم عند غلاء السوق والثاني عند كساده، ما نفعت الأموال ولا نفعت التجارات، الأموال والتجارات إذا لم تقرب من الله عز وجل فلا خير فيها.
إن أيام البلايا التي تكثر فيها التضرع لله عز وجل إذا كشفت كرباتها تتمنى أن تعود لك تلك الأيام التي كنت تناجي فيها الله عز وجل من حلاوة المناجاة وحلاوة مناداة الله عز وجل، هذا كله هو السعادة الحقيقية، فالبلاء الذي يصيب المؤمن يصيبه في الظاهر أما الباطن فلا يصيبه؛ لأن قلبه مع الله ويقينه بالله.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهبنا وإياكم اليقين، وأن لا يبتلينا بشيء لا نطيقه، وأن يجعل بلاءنا وإياكم في السراء والشكر عليها، وأن يجعلنا من الشاكرين والله تعالى أعلم.(49/13)
علاج قسوة القلب
السؤال
إني إذا قرأت القرآن لا تدمع عيناي وإذا صليت لا أخشع في صلاتي، فهل هذا من قسوة القلب؟ وما هو العلاج جزاكم الله خيرا؟
الجواب
أما إذا كان الإنسان يسمع القرآن ولا تدمع عينه فإنه واحد من رجلين: إما أن يجمع الله له بين المصيبتين فلا يخشع قلبه ولا تدمع عينه، فإنه من القاسية قلوبهم عن ذكر الله الذين توعدهم الله عز وجل بالعذاب والشقاء، فقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
وأما إذا كان الإنسان لا تدمع عينه ولكن قلبه يخشع، ويجد للآيات أثرا فيذل لله عز وجل ويخضع، فما عليك إذا خشع قلبك أن لا تدمع عينك، فإن الله تبارك وتعالى إذا أعطى العبد خشوع القلب فقد أعطاه الخير كله، ولذلك بين الله تعالى بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
المقصود من القرآن أن تتدبره وتتأمله وتتأثر بتلك الآيات التي تتلى عليك، وتقرأه بين يديك، فإذا وجدت لهذه الآيات أثراً في قلبك فذلك هو المقصود، فإن دمعة عينك فضل على فضل، وإن لم تدمع عينك فالمهم خشوع القلب، ودمعة العين فضل من الرب من أعطاه أعطاه لحكمة، ومن منعه منعه لحكمة، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا من أصحاب الفضلين.
ولكن لعلك أن تتألم فتقول: لماذا لم يجمع الله لي بين الخشوعين: خشوع القلب وخشوع العين؟! فأقول لك: ارض عن قسمة الله، لعل الله علم أن لو خشعت عينك فدمعت أن يصيبك الغرور، ولعل الله علم أنه إذا دمعت عينك أن تصبح مرائياً في عبادتك فتخرج صفر اليدين من صلاتك وقراءتك، فلطف الله بك من حيث تشعر أو لا تشعر فارض عن الله فيما قسم، واسأل الله عز وجل الفضلين والإخلاص في كلا الحسنيين والله تعالى أعلم.(49/14)
حكم ترك التداوي بحجة طلب الأجر من الله
السؤال
ما حكم من أعرض عن التداوي ولم يطلب الدواء بحجة أن المرض مأجور عليه وأنه لا يلجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتسأل أخي في الله! عن رجل يزعم أنه لا يتداوى؛ لأن الله تبارك وتعالى يدفع عنه ذلك البلاء وذلك الداء.
فأقول: هذا الظن خاطئ ومخالف لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما كتاب الله: فإن الله لما أمر أيوب أن يركض برجله دل ذلك على الأخذ بالأسباب في العلاج، وكان في الإمكان أن يقول الله: قد شفيتك يا أيوب، ولكن أمره أن يركض برجله حتى يعلم العباد أن سنة الله في الكون أن للداء دواء، وأن للبلاء شفاء.
وكذلك ثبتت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه قوم من الأعراب، كما روى الترمذي وغيره في السنن فقالوا: (يا رسول الله أنتداوى؟! فقال عليه الصلاة والسلام: تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أنزل لكل داء دواء علمه من علمه، وجهله من جهله) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إمام المتوكلين، وقدوة الصابرين، وأسوة المحتسبين، وكان يأخذ بالدواء وكان يتداوى.
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذات طب ومعرفة بالطب، قال لها عروة ذات يوم: [يا أماه! أما علمك بالكتاب والسنة فذلك ليس بغريب، وأما علمك بأشعار العرب فليس بغريب، ولكن الطب من أين أخذته؟ فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض فجاءه الحكماء فأخذوا يصفون له الدواء فمن ثم]، يعني تعلمت الطب بوصفهم.
فدل هذا على مشروعية الأخذ بالأسباب، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الطب، بل قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا تداوى كان ذلك من الإيمان بالله، وقالوا: إن التداوي يعين على الإيمان بالله؛ لأنك إذا أخذت شجرةً مثلاً كانت دواءً لمرض فشربتها فزال عنك السقم قلت: لا إله إلا الله، سبحان من جعل شفاء دائي في هذه الشجرة! ولذلك جعل الله عز وجل شفاء الأسقام في الأعشاب، وجعلها في غيرها من الأدواء، كل ذلك لكي يكون حكمةً وعلماً للعباد وبصيرة، فمن أنكر الداء فإنه مخالف للسنة ولهدي نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو التواكل المذموم، وإنما ينبغي للإنسان أن يأخذ بالسبب وأن يتوكل على الله عز وجل.
كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: [ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى، قالوا: وما ثلث العلم؟! قال: الطب، ثلث العلم الطب؛ لأن فيه شفاء الأسقام.
] وهذا الأثر عن الشافعي رحمه الله رواه عنه البيهقي بسنده.
لماذا ثلث العلم؟! لأن علم الشرع على ضربين: علم يتعلق بالاعتقاد، وعلم يتعلق بالأبدان والجوارح، فأصبح علم بالظاهر وعلم بالباطن، علم التوحيد وعلم الفروع التي هي محققة للتوحيد، فهذان علمان فهما طب الروح والجسد، بقي طب البدن من الظاهر وهو العلم الثالث، فقال رحمه الله من فهمه وفقهه: [ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى] يعني احتاجوا إلى اليهود والنصارى.
فالمفروض على المسلم أن يتعلم الطب، وأن يتداوى، فالذي أنزل الداء أنزل الدواء، ومن أنزل البلاء أنزل الشفاء، فلذلك كان من الإيمان بالله الأخذ بالأسباب والتداوي بها والله تعالى أعلم.(49/15)
هموم المخدرات
المخدرات نار تأكل الأخضر واليابس، تنشر العهر والفساد، وتفتح أبواب الشر، وتغلق أبواب الخير والصلاح.
مع المخدرات وهمومها ومخاطرها كانت هذه المحاضرة للشيخ حفظه الله، حيث ناقش فيها ضرر المخدرات وأسباب السقوط في حمأتها، وكيفية علاج ذلك.(50/1)
أضرار الخمر والمخدرات والتحذير منها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف بإذن الله عن العباد الغمة، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وصاحب رسالةٍ عن أداء رسالته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفي بداية هذا اللقاء أزجي عاطر الشكر والثناء للجمعية الفيصلية الخيرية، ولمكتب الدعوة بمدينة جدة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي الجميع خير الجزاء، وأن يتقبل منا ومنهم ما يكون من خير في هذا اللقاء.
أخواتي المسلمات! شكر الله مسعاكن، وثقل في موازين الحسنات خطاكن، إذ خرج النساء إلى الدنيا الفاتنة وخرجتن تبتغين الله والدار الآخرة، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثيبكن على هذا الخير العظيم.
أخواتي المسلمات! إن الله وعظكن فأحسن وعظكن، وأدبكن فأحسن تأديبكن، وعلمكن الخير وهداكن، هذا كتاب الله بين أيديكن؛ لا تنتهي مواعظه ولا تنقضي آياته وعبره، يقود المؤمنة بالله إلى صراط من الله ورضوان من الله، يقودها إلى محبة الله ومغفرة الله، إنه الكتاب الذي هدى الله به الأولين والآخرين، فيه ذكر الصالحات والقانتات والعابدات والصادقات والصابرات، فيه ذكر الخيرات والحسنات، أقبلت عليه المؤمنة ترجو به غذاء روحها، وسبيل ربها، والتقرب والتحبب إلى فاطرها، فكم قرب الله قلوباً منهن إلى الله! وكم أجرى منهن المدامع من خشية الله! إنه الكتاب الذي هدى الله به إلى الصواب، وأقام به على منهج السداد، وطريق الرحمة والرشد في الأولى والمعاد، هذا الكتاب العظيم فيه الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، والبشارة والنذارة، فيه النداءات إلى الطاعات والخيرات، أو ترك الفواحش وهجر المنكرات، ومن هذه النداءات التي تفتحت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات نداء في سورة كريمة نادى الله عز وجل به القلوب المؤمنة الرحيمة، ناداها بذلك النداء لكي يكون سبباً في نجاتها من البلاء، إنه البلاء وأي البلاء! بل الشقاء وأي الشقاء! نادى الله عزوجل به المؤمنين فكسرت من أجله أواني الخمور، وهجرت به أسباب الغي والشرور، فأريقت في سكك المدينة قربة لله، وفراراً من الله إلى الله، هاتان الآيتان الموعظتان الكريمتان تنزلتا من الرحمن لكي يفر بها المؤمن من سبيل الشيطان، ومن داعية الفجور والفسوق والعصيان إلى داعية الحب والطاعة لله الرحمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الوقفة الأخيرة مع الشهوة التي مالت إليها النفوس، فأريقت من أجلها الدنان وكسرت الكئوس، وفرت إلى الله جل وعلا بقلوبٍ وعقولٍ سليمة لا يتسلط الشيطان عليها بالعواقب الأليمة والوخيمة.
هذه الآية الكريمة أراد الله أن يرحم بها هذه الأمة، فلو كانت الأمة تشرب الخمور، ولو كانت الكئوس باقٍ حلالها فكيف يكون حال الأمة أم كيف مآلها؟! لو تصورنا بقاء حل الخمور كيف يكون حال الناس في الفسق والفجور؟ إنها النعمة التي رحم الله بها هذه الأمة فكشف بها سبباً من أعظم أسباب البلاء والغمة، رحم الله هذه الأمة الطاهرة، هذه الأمة العابدة القانتة الصالحة، فأنقذها يوم حرم الخمور فأريقت في سكك المدينة خوفاً من البعث والنشور، إنها النجاة من ذلك البلاء العظيم والخطر العميم، إنها النجاة من الجحيم وأي جحيم؛ جحيم المسكرات، جحيم المخدارت الذي من أجله انتهكت الأعراض، وسفكت الدماء، وانتشرت الأسقام والأمراض، فيا لله كم من أم عذبت بهذا البلاء! ويا لله كم من آباء لقوا العناء! ويا لله كم فرق بين الأحبة والأصدقاء! إنها الكأس المهلكة والحبة المفنية، إنها الكأس والحبة التي تلتذذ بها النفوس ساعة وتتعذب دهوراً، إنه الجحيم الذي لم يرحم دموع الأمهات، ولم يرحم دموع الأبناء والآباء والبنات، إنه الجحيم الذي وقفت الأم تريق بسببه دموعها على صبيها أو صبيتها يوم أن فارقها في حوادث مؤلمة، إنه الجحيم الذي وقفت فيه الأم تريق دموعها وبينها وبين ابنها وفلذة كبدها قضبان السجون وقد أريقت الدموع على فراقه، إنه الجحيم الذي نظر فيه الأبناء والبنات إلى رب الأسرة وقد انتهك الحدود، وغشي المحرمات؛ فلا يرحم صغيراً لصغره ولا أرملة ضعيفة بين يديه، كم سهر من أجل هذا الجحيم؟ سهرت عيون تكابد شقاءه، وتعاني عناءه، فلا راحم إلا الله ولا مفر منه إلا إلى الله.
إنه الجحيم والعذاب الأليم، كأس تقود إلى كئوس، وتعذب الأرواح والنفوس، وحبة تجلب الحبوب، وتنتهي إلى الهموم والغموم والكروب، فيا لله من قلوب سقمت، وأرواح تعذبت وحارت! ويا لله من عقولٍ ذهبت، وأجسادٍ خارت، وشباب غض طري طمس نور وجهه وذهب البهاء من رؤيته، كل ذلك عناء تعانيه الأمة، وويلات تجنيها من هذه الغمة.
إنها الكئوس المهلكة، والحبات المردية القاتلة، إنها الحبة التي لعن الله حاملها والمحمولة إليه وبائعها، لعن الله مروجها، لعن الله آخذها ومتعاطيها، إنها الإبرة التي لعن الله حاقنها والمحقونة فيه، وواجد لذتها، وصانعها، وبائعها، وشاريها، وآكل ثمنها؛ كل أولئك لعنهم الله {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:52].
والله ما من حبة حملت في كفٍ إلا حمل حاملها وزرها، وما من حبة تسببت في ذهاب عقل إلا حمل صاحبها إثم ذلك العقل، وما من حبة تكون سبباً في ذهاب نفسٍ إلا حمل حاملها وزر تلك النفس التي هلكت بسببها، إنها الحبوب التي تجنى بها الأوزار وتوجب سخط الجبار، ونقمة القهار، وسطوة الواحد القهار، إنها الحبة المهلكة المردية المشقية.(50/2)
المخرج من بلاء المخدرات
أخواتي المسلمات! وقفة مع هذا العناء وهذا الجحيم وهذا البلاء، يوم تفشى بين قلوبٍ كانت بريئة، ونفوس كانت رحيمة أصبحت من بعده تعاني عناءه وتجد شقاءه وبلاءه، وما المخرج؟ يوم أصبحت الأم ترى ابنها وقد تردى في مهاويها.
ويوم أصبح الأب يرى الابن والابنة قد تعاطت كأسها وخارت قواها وتردت في بلائها.
ما المخرج من هذا البلاء العظيم، وهذا الضنك الأليم؟! المخرج من ذلك: الفرار إلى الله بالتوبة الصادقة والدعوة الصادقة والإنابة إلى الله، المخرج الأول الذي إذا حققه الإنسان أنجاه من هذا البلاء وما فيه من وعيد: أن تنظر المؤمنة وينظر المؤمن إلى بعده عن ربه، وطول غيبته عن خالقه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فيا أيتها النفس التي تعذبت بهذا البلاء! هذا نداء فاطر الأرض والسماء: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] فأجيبي النداء، وهلمي إلى طاعة الله جل في علاه، هلمي ولو نادت النفس سبحان الله! أيغفرها بعد كئوس شربت وحبوبٍ أخذت؟ أيغفر تلك الليالي المظلمة وما فيها من السيئات والخطيئات؟ أيغفر تلك الكئوس وما تبعها من الخطيئات؟ نعم والله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
الإنابة إلى الله، التوبة الصادقة إلى الله بقلب صادق منيب إلى الله، فما وقف عبد ولا وقفت أمة بباب الله فنحيت عن رحمة الله، إنها التوبة الصادقة التي تبدل بها سيئات الكئوس حسنات، وتغفر بها السيئات والزلات والهنات، التوبة الصادقة قبل أن يدهم الأجل وينقطع الأمل ويجد القلب الوجل، التوبة الصادقة إلى الله جل جلاله الذي يقبل توبة التائبين، ويمحو بفضله ذنوب المسيئين، فلتطو صحيفة الماضي، ولتطو دواوين الماضي، ولتودّع المؤمنة الصادقة زماناً ولى بسيئاته، ولتنب إلى الله جل وعلا منكسرة بين يديه.
الوقفة الثانية: أن تصحح المؤمنة مسارها، وأن تكون خير معينة للنجاة من هذا البلاء والعناء، فتهدي إلى صديقاتها ومن بلي بعنائها وبلائها، الكلمات المؤثرة والنصائح الغالية الثمينة، فما أحوج كثير من المسلمات إلى النصيحة البالغة المذكرة بالله فاطر السماوات! ذكري بالله لعل الله أن ينظر إلى تلك الكلمات، لعل الله أن يسمع تلك العبارات فيوجب الحب والرضا والقرب منه جل وعلا، أن تحاول المؤمنة الصادقة أن تغفر زلة الماضي بإصلاح أخواتها وصديقاتها.
الوقفة الثالثة مع تلك المرأة المهمومة المغمومة؛ مع ابن تربى في هذا البلاء، أو بنت عاينت هذا الشقاء، أو زوجٍ هوى في هذا البلاء: أن تقف المرأة الصادقة أمام الابن والبنت والأخ والأخت والزوج وغيره، أن تقف بالصبر والتحمل واحتساب الأجر، فيا أيتها الزوجة المظلومة! يا أيتها الزوجة التي تعاني عناء هذا البلاء في زوجٍ تردى فيه، أو ابن كان من متعاطيه! اصبري واحتسبي وذكري بالله جل جلاله، وإياك والضعف والخور، ابذليها كلمات صادقات من قلبك الصادق لعل الله أن يفتح بها القلوب، وينير بها السبل والدروب إلى رحمة الله علام الغيوب، اصبري واحتسبي الأجر، واعلمي أن الله يسمعك ويراك.
إن هذه الهموم التي تعيشينها في ظلمة الليل أو ضياء النهار، إن هذه الهموم التي تجدينها بالعشي والإبكار يراها ويسمعها الواحد القهار.
يا أمة الله! ابذلي النصائح، واستري الفضائح؛ استري زوجك إن كان مبتلىً بها، وحاولي أن تنتشليه من هذه الغمة، وأن تميطي عن عينيه اللثام فتنجلي الغمة، اصبري وذكري ولو طال الزمان فمن الله التوفيق وعظيم الأجر في الجنان.(50/3)
أسباب تعاطي المخدرات وعلاجها
الوقفة الثالثة: ما هي أسباب هذا البلاء الذي يتردى فيه الرجال والنساء؟ وما هو العلاج لهذا الداء؟ ثلاثة أسباب إذا تهيأت فقد فتح للمخدرات والمسكرات الباب: أولها: الفراغ.
وثانيهاً: قرين السوء.
وثالثها: وجود الهموم والغموم؛ ثلاثة أسباب.(50/4)
السبب الأول: الفراغ
أما الفراغ: فإنه السم القاتل الذي يدعو إلى السوء والرذائل، ما من امرأة يعظم فراغها إلا رأت بلاءً في دينها، ولذلك لا يأتي بلاء المسكرات والمخدرات إلا إذا فرغت المرأة وفرغ الرجل، حينما ترمي المرأة رسالة بيتها وراء ظهرها فتصبح خراجة ولاجة، حينما تنسى حقوق أبنائها وبناتها فتدمن الخروج إلى أسواقها ومتاجرها، إذا فعلت ذلك وأصبحت تجد الفراغ هنالك، هنالك تكون الحبة القاتلة أو الكأس المردية والعياذ بالله.
علمت يا مجاشع ابن مسعده أن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده ولقد عالج الإسلام هذا الفراغ فليس في حياة المؤمنة فراغ، ينبغي للمرأة الصالحة إذا وجدت فراغاً في وقتها أن تسخره في محبة ربها، فتكثر من ذكر الله وحسن الطاعة لله، الفراغ يقتل بالأعمال الصالحة كما قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: فراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك) الحديث، الفراغ يقتل بالأعمال الصالحة، أو بالمنفعة التي تعود على المرأة في دنياها بالخير العظيم، تقتل المرأة فراغها إما بخصلة من خصال دينها أو دنياها.(50/5)
السبب الثاني: قرينات السوء
أما السبب الثاني الذي يقود إلى هذه المخدرات، ويوجب الوقوع في هذه البليات: فالقرينات السيئات، من الذي زين كأس الخمر حتى شربت؟ من الذي زين حبة المخدر حتى أخذت؟ إنها الكلمات المعسولة من ذلك الصديق أو تلك الصديقة التي لا تخاف الله، ولا تراقب الله في إماء الله، إنها الصديقة التي لا تصدق في مودتها، إنها القرينة التي كتب الله الشقاء لمن جاورها وصادقها، فينبغي للمرأة المؤمنة أن تفر من قرينات السوء إلى القرينات الصالحات، إلى مجالس الذكر مع الطائعات القانتات العابدات، أن تفر إلى هذا الرعيل الطيب الصالح فتعمر أوقاتها بالجلوس معهن والتواصي بطاعة الله، والشد على ذلك من أسرهن.(50/6)
السبب الثالث: وجود الهموم والغموم
أما السبب الثالث الذي يقود إلى هذه المهلكات والمرديات: وجود الهموم والغموم.
المرأة قد تجد زوجاً يؤذيها، أو ابناً يعذبها، فتلتفت هنا وهناك مهمومةً مغمومةً وقد أطبقت عليها الدنيا بالهموم والغموم، فتجد من لا خير فيه من تلك القرينات السيئات، تجد من يقول: حبة تنسي الهموم، حبة تنسي الغموم، حبة تزيل الكروب.
وعندها تتناول تلك المرأة المهمومة المغمومة شعرت أو لم تشعر ذلك البلاء القاتل؛ لذلك فإن العلاج لهذا البلاء قد بينه الله جل جلاله.
فيا أمة الله! إذا ضاقت عليك الحياة بهمومها، أو عضت عليك بأنيابها، إن وجدت الزوج يكفر النعم، إن وجدت الابن يجلب النقم ففري إلى الله بكفٍ ضارعة تشتكي إلى الله.
يا أمة الله! إن البلاء يفرجه الدعاء.
يا أمة الله! إن البلاء يزيله فاطر الأرض والسماء، فاصدعي بتلك الكلمات، واجأري بتلك الدعوات مع إيمان بالله فاطر الأرض والسماوات، فستجدين الله حليماً رحيماً، وتجدينه جواداً كريماً، فكم من هموم فرجها، وكم من غموم نفسها، وكم من مؤمنة صادقة رفعت كفها إليه فما خابت في دعائها ولا ظلت في رجائها، فاصدقي مع الله، واعلمي أنه لا يبدد الهموم والغموم أحدٌ سوى الله، ناديه وناجيه فللدعاء أثر في القدر، واصدعي بالدعوات بقلب يوقن بالله جل جلاله أنه مفرج الكربات، ناديه حتى تجدين المعونة وكفاية المئونة، ناديه فإنه يحب الدعاء ويجزي عليه عظيم الجزاء.
إن الدعاء إيمان وتسليم وإذعان، الدعاء يدل على التوحيد وحسن الظن بالله الحميد المجيد، فاصدعي بالدعوات واجأري إلى الله بها في السجود وفي الصلوات، وخذي بالأسباب الموجبة لمغفرة رب الأرباب، أكثري من الصدقات، وأكثري من الإحسان إلى الأيتام والأرامل، إن أصابك الهم في الزوج والعشير فابذلي بيدك حسنة ترجينها في عورة تسترينها أو كربة عن مؤمن أو مؤمنة بإذن الله تزيلينها.
إذا علم هذا فإنه ينبغي أن يعلم أن المخدرات والمسكرات من أعظم البليات، وأعظم المصائب التي تهتك بالأفراد والمجتمعات، ومن أراد أن يعرف خطرها، وأن يرى بأم عينيه عظيم بلائها فليزر دور المرضى، ولينظر إلى تلك العقول التي سلبت والأفهام التي أخذت، ولينظر إلى تلك العلل التي حلت بتلك الأجساد التي ظلمت، ولتأخذ المؤمنة عبرة من غيرها فتكون أبعد ما تكون عن هذا البلاء في نفسها وذرياتها.(50/7)
وصية عاجلة للنساء
الوصية الأخيرة: يا أمة الله! إن الله حملك المسئولية والأمانة، حملكِ المسئولية عن الأبناء والبنات، حملكِ المسئولية عن هذه الذريات كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).
الله الله يا نساء المؤمنات! الله الله في الأبناء والبنات! الله الله في هذه الرسالة العظيمة التي يُنتظر منكن أداؤها، ويُنتظر منكن القيام بعبئها! لا تتركي الابن والبنت إلى خادمة أو غيرها، أنت الأم، وأنت الحانية، وأنت المربية، وأنت المعلمة، وأنت الموجهة، إلى أين تخرجين؟ وأبناؤك لمن تتركين؟ خذي بأسباب رحمة الله فلعلك أن تعرضي عن الأبناء والبنات فيفتح الله عليك بذلك الإعراض باب البليات، اتقي الله في الأبناء والبنات، واحملي رسالة البيت على أتم الوجوه وأكملها، تقربي إلى الله بغرس الإيمان، بغرس توحيد الرحمن في تلك القلوب البريئة حتى تنشأ على أحسن ما يكون التوحيد والإذعان.
يا أمة الله! إن رسالة التربية في عنقك شئت أم أبيت، أخذت أو فررت، فلتقفن بين يدي الله، وليسألنك الله جل جلاله عن الأبناء والبنات، اتقي الله في الذريات، إياك وترك الأبناء والبنات دون تربية تحسين فيها بأداء الرسالة على أتم الوجوه وأكملها.
إن كثيراً من الأبناء والبنات إنما تردى في المسكرات والمخدرات بسبب غفلة الآباء والأمهات، ولذلك جعل الله عذاب الآباء والأمهات إذا وقع الأبناء والبنات في المخدرات عظيماً، وتجد الأب وتجد الأم يعاني عناء الابن والبنت حين يقع كلٌ منهما في هذا البلاء؛ لأنهما السبب، السبب الذي نشأ عن تفريطهما وتساهلهما في أداء رسالتهما.
فاتقي الله يا أمة الله، واعلمي أنه لا بد من المصير إلى الله، واعلمي أن الله سيسألك عن هذه الأمانة العظيمة، فخذي بمجامع قلوب الصبية إلى محبة الله جل جلاله ومرضاته، كم من ابن وكم من بنت فرت عن هذه البليات بسبب وصية وقعت في القلوب من الآباء والأمهات! إن الأم الصالحة التي غرست في تلك القلوب البريئة المعاني السامية لن تجني من تلك الذرية إلا خيراً، وأبى الله لامرأة تربي صغيرها وتربي بنتها على طاعة الله إلا أن يقر عينها بذلك الخير الذي غرسته، فاحتسبي عند الله في القيام بهذه الرسالة على أتم الوجوه وأكلمها.
أسال الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا وإياكم من هذا البلاء العظيم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترفع عن هذه الأمة بلاء المسكرات والمخدرات، اللهم ارحم العقول التي ذهبت، وارحم الأجساد التي سقمت، اللهم إنا نسألك أن يرتفع هذا البلاء، وأن يزول هذا العناء، ونسألك اللهم أن توفق من تسبب في إزالته، اللهم إنا نسألك أن تخذل من كان سبباً في نشره، اللهم اطمس على سمعه وقلبه وبصره، وخذه أخذ عزيز مقتدر يا ذا العزة والجلال والعظمة والكمال، ونسألك أن توفق كل من أراد قفل بابه لكل خير، وأن تعظم له الأجر في الدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.(50/8)
الأسئلة(50/9)
حكم مرافقة المحرم الصغير
السؤال
ما حكم مرافقة المحرم الصغير، مثلاً: عمره في الثانية عشرة؟
الجواب
أما بالنسبة للمحرم فله حالتان: الحالة الأول: أن يكون في السفر، فينبغي أن يكون بالغاً يدفع عن المرأة لو حصل اعتداء عليها، وعلى هذا فلا يجتزأ بالصبي الذي في السن الثانية عشرة، وإنما ينبغي أن يكون على قدر يمكن معه أن يدفع عن المرأة لو كان لها ضرر.
وأما بالنسبة للحالة الثانية: فهو يكون معها داخل البلد كأن يكون مانعاً للخلوة، كأن تركب في السيارة ويكون معها، فهذا إن شاء الله يعتبر رافعاً للخلوة إذا كان في هذا السن؛ لأنه سن التمييز؛ وسن التمييز تبتدئ في السنة السابعة لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) فدل هذا على أن سن التمييز هو السابعة من العمر.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترفع عن هذه الأمة بلاء المسكرات والمخدرات.
اللهم ارحم العقول الذي ذهبت، وارحم الأجساد التي سقمت، اللهم إنا نسألك أن يرتفع هذا البلاء، وأن يزول هذا العناء، ونسألك اللهم أن توفق من تسبب في إزالته، اللهم إنا نسألك أن تخذل من كان سبباً في نشره، اللهم اطمس على سمعه وقلبه وبصره، وخذه أخذ عزيز مقتدر يا ذا العزة والجلال والعظمة والكمال، ونسألك أن توفق كل من أراد قفل بابه لكل خير، وأن تعظم له الأجر في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.(50/10)
حكم شرب الدخان والصلاة خلف من يشربه
السؤال
تقول الأخت السائلة: شرب الدخان والسجائر هل يجوز؟ وهل يجوز الصلاة وراء إمام يشرب الدخان؟ وما هو الدليل الشرعي في القرآن والسنة على التحريم؟ وما رأي فضيلتكم فيمن يبيعه في المحلات؟
الجواب
أما بالنسبة لشرب الدخان فهو محرم، ودليل تحريمه من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى وصف نبيه بقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والخبائث: جمع خبيث، والدخان خبيث وليس من الطيبات.
أما الدليل الثاني على تحريمه: فوجود الضرر فيه، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشريعة جاءت بجلب المصالح ودفع المفاسد، ودفعت عن الناس أفراداً وجماعات مفاسد الدين والدنيا والآخرة، فهذا الدخان يفسد الإنسان فيؤذيه في قلبه، ويؤذيه في رئته وفي تنفسه، ويؤذيه ويؤذي من شم رائحته؛ وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فلو أنه لم ترد آية في كتاب الله بتحريم الدخان ووجدت هذه الدلائل لكانت كافية في تحريمه؛ لأن وجود الضرر فيه يشعر بحرمته؛ لأن الله لا يحل ما فيه ضرر على الناس، ولذلك لو لم تدل الآية على تحريمه لدل وجود الضرر فيه على حرمته فلا يجوز شربه.
وأما الصلاة وراء إمام يشرب السجائر فالإمامة منصب شريف، ومقام عظيم منيف؛ ينبغي أن يتقلده الأخيار الذين يخافون الله جل جلاله وتكون فيهم القدوة الحسنة، والسيرة المرضية، والسريرة السوية، ينبغي أن يكون الإمام صالح العقيدة صالح الظاهر، مستقيماً على هدي الكتاب والسنة، وإذا تقلد الإمامة الأخيار انتشر الخير، وعظم النفع للناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فلا يجوز للناس أن يقدموا إنساناً يعلمون أنه شارب دخان، ولكن لو تقدم وهو يشرب الدخان فالصلاة صحيحة، ولا يضر الإنسان إذا صلى وراء من يشرب الدخان؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم -يعني: الأئمة- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم، فلا تزر وازرة وزر أخرى.
وأما السؤال أو النقطة الثالثة من السؤال: من يبيعه في المحلات؛ كل شيء يضر الناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم لا يجوز تعاطي الأسباب لنشره، ومن يتعاطى السبب في نشره فإنه يأثم على قدر ما يكون من ضرره، ولا شك أن بيعه محرم، ومن باعه فإنه يأثم، ولو أن هذه السيجارة بيعت فكانت سبباً في سكتةٍ قلبية لعبد حمل -والعياذ بالله- إثمها.
وهكذا لو كانت سبباً في مرضه أو سقمه، فمن باع الخير يجني الخير من بيعه، ومن باع الشر يجني الشر من بيعه.
وأما السؤال أو الجزئية الأخيرة: ما رأيكم فيمن يبيح شرب الحشيش على أساس أنه غير مسكر ولا يوجد تحريم عليه؟ قال بعض العلماء: من استحل الحشيش فإنه يعتبر كافراً -والعياذ بالله- الحشيش محرمة باتفاق المسلمين، وقد نقل الإجماع على ذلك الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وكذلك نقله الحافظ ابن حجر الهيتمي في الزواجر، وأشار العلماء رحمهم الله إلى حرمته ودخولها في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، وللإمام الزركشي رحمه الله رسالة قيمة زهرة العريش في تحريم الحشيش ذكر فيها أكثر من مائة مفسدة دينية ودنيوية وأخروية في الحشيش، فلا يجوز للإنسان أن يقول بحلها، ومن أحلها فالله الموعد، وسيحمل وزر من تعاطاها، والله تعالى أعلم.(50/11)
حكم تعاطي القات
السؤال
تقول الأخت السائلة: أريد أن أعرف هل القات محرم مع أنه غير مذهب للعقل، وما وجه التحريم فيه؟
الجواب
أول مرة أسمع أن القات لا يذهب العقل، وقد يكون هذا إنساناً ليس عنده عقل فيشرب القات فيستوي ذهاب العقل ووجوده.
أما القات فهو محرم لما جاء في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن كل مسكر ومفتر) والقات فيه الهزة والنشاط والطرب الذي يوجد في الخمر، وصاحبه إذا تعاطاه فإنه مستعد لأن يقوم بالأعمال التي تخرجه عن طوره، ولا يفعلها في حال يقظته وإفاقته، وهو محرم، وللعلماء رحمة الله عليهم كلام نفيس في القات وغيره من المخدرات أشار إليه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم من المتقدمين، وانعقدت الكلمة عند المحققين على أن القات في حكم المخدرات، ويعتبر ملعونٌ حامله، وملعون المحمول إليه، وبائعه وشاريه، وكذلك أيضاً آخذه ومتعاطيه، فلا يجوز حمله ولا بيعه ولا تعاطيه، وقد يقول القائل: لا شيء فيه كما ورد في السؤال، فلتتق الله المرأة وليتق الله القائل في مقالته، إن فيه أشياء كثيرة وذلك بشهادة أهل الخبرة، وقد تكلم الأطباء في بحوث قيمة ومن أنفسها ما كان في المؤتمر العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات، فقد اطلعت على بحوث قيمة للأطباء تدل على أنه في حكم الخمر والمخدرات، وأنه عظيم الأثر، ولذلك يكون صاحبه عصبي المزاج يثور عند أقل كلمة، وقد يبتلى بالصرع -والعياذ بالله- وقد يبتلى بأشياء مضرة.
وهنا أقول: ينبغي للإنسان إذا نظر في الشيء فأراد أن يعرف أنه حلال أو حرام أن يتقي الله في نظرته، وأن يعلم أن الأحكام الشرعية لا تحكم بالأهواء، ولا تحكم بالتقاليد ولا بالأعراف، ولكنها تحكم بحكم الله الواحد الديان، ينبغي أن يعلم أن هذا البلاء -أعني القات- مضر بالنفوس، مضر بالعقول، ومفسد للدين، ويورث الأسقام والعلل، فمن قال: إنه حلال.
فإنه يخشى عليه الفتنة، فينبغي أن يتقي الله الإنسان.
ومن يأكل القات أو يتعاطاه وهو يعلم أو يعتقد أنه حرام ويتعاطاه ونفسه منكسرة ويقول: إني مسيء.
أهون عند الله من الذي يتعاطاه مستحلاً له -والعياذ بالله- من يتعاطاه ويقول: ليس فيه شيء؛ فهذا والعياذ بالله على خطر، ومن دلائله الإدمان، فإن صاحبه إذا تعاطاه وأدمنه بمجرد أن يتركه تختل أعصابه، ويختل عقله، وقد يفقد العقل والعياذ بالله، أليست هذه الأمور كلها كافية في تحريمه؟! فالمقصود: أنه حرام، وهذا الذي ظهر بعد الاستقراء، وإن كان وجد من يقول بحله، ولكن الذي يظهر بعد قراءة بحوث العلماء ورسائلهم فيه أنه محرم ولا يجوز تعاطيه، والله تعالى أعلم.(50/12)
زوجي مدمن للمخدرات
السؤال
هذه امرأة تشكو حالها وتقول: إن لها زوجاً يأتيها في آخر الليل وهو مدمن للمخدرات -والعياذ بالله- وإنها عانت العناء الشديد منه، فماذا ترشدها هل تترك بيتها وتطلب من القاضي أن يفرق بينها وبينه؟ أم بماذا تنصحها؟
الجواب
أسأل الله العظيم أن يفرج همها وغمها ويفرج هموم كثير من النساء اللاتي بلين ببلائها، أسأل الله العظيم ذلك، وإن كان والحمد لله هذه تعتبر من الأمور اليسيرة أو الظواهر التي ليست متفشية، فالخير لا زال في المجتمع، ولا زال الخير كثيراً، وإنما يخشى على الثوب النقي من الدنس القليل.
أختي المسلمة! أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، احتسبي عند الله جل جلاله في إنقاذ زوجك من النار، وقد يأتيك الشيطان يخذلك عن هذا الصبر فاحتسبي الأجر عند الله جل جلاله، ألم تعلمي أن كل نصيحة تقولينها وكل كلمة تلفظينها أن الله يشكرها لك؟ احتسبي عند الله جل جلاله، فكما أنك تركعين وتسجدين قربة لله فكذلك صبرك على زوجك وأنت تخوفينه في الله وتذكرينه بالله في ميزان حسناتك.
الوصية الثانية: كثير من النساء ينصحن الأزواج ولكن لا تنفع النصيحة، والسبب في ذلك -والله أعلم- ضعف الإخلاص، بعض النساء ينصحن الأزواج من وازع الغيرة أو وازع الشعور بالفضيحة، لكن لو أن المرأة انطلقت من وازع الإيمان واحتساب الأجر عند الرحمن فإن الكلمة تخرج من القلب والجنان، ولا شك أنها ستستقر في الآذان حتى يأذن الله بدخولها إلى ذلك القلب والجنان، الكلمة التي تخرج من القلب تقع في القلب، فلتصدق الأمر بالتذكير بالله جل جلاله، تحاول قدر استطاعتها أن تكون صادقة في تذكيرها بالله جل جلاله، لا تنظر إلى أنه زوج أو قريب أو أنها تخشى الفضيحة لا، إنما تنطلق من منطلق الإيمان، تتكلم وهي تشتري رحمات الله بكلماتها، وتعظ وتنصح وهي تشتري رحمة الله بنصائحها، ذكريه بالله جل جلاله وانصحيه على قدر الاستطاعة.
الوصية الثالثة: انظري إلى أقرب الناس إلى الزوج، أو أقرب الناس إليك، إنساناً حليماً عاقلاً حكيماً، ومريه أن ينقذ هذا الحائر التائه من بلائه، تحاول المرأة أن تنظر إلى أقارب زوجها أو أقاربها الصالحين فتعرض عليهم مشكلتها وتحاول قدر استطاعتها أن تستحث هممهم لانتشال ذلك الغريق من بلائه هذه وصية ثانية.
أما طلب الطلاق من القاضي فهذا فيه تفصيل: إذا كان هذا الزوج ضرره مقتصراً عليه ولا يتعدى إلى الغير فينبغي الحرص على الدعوة والتذكير والصبر ما دام أن شره بعيداً عنك، وأما إذا كان ضرره متعدياً إليك كأن يأتي سكراناً -والعياذ بالله- أو مخدراً أو مخموراً تخافين على نفسك، على أولادك، على بناتك، أو غلب على ظنك أن الذرية تتأثر به في المستقبل، أو غلب على ظنك أنه سيودي بالبيت إلى كارثة أو بلاء فحينئذٍ يشرع لك طلب الطلاق من القاضي، والله تعالى أعلم.(50/13)
دور المرأة المسلمة في مكافحة المخدرات
السؤال
ما دور المرأة المسلمة في مكافحة المخدرات؟
الجواب
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن مكافحة المخدرات والوقوف في وجهها من أعظم الحسنات، وإذا احتسبت المرأة المؤمنة فإن الله يعظم أجرها، ويثقل في الميزان ثوابها، واجب المرأة المؤمنة: أولاً: إسداء النصح والتوجيه، فإذا علمت أن هناك من يتعاطاها، أو أن هناك من يروجها من صديقاتها فإنه ينبغي عليها ويجب عليها أن تخوفها بالله جل جلاله، أن تذكرها بالله، إن كثيراً ممن يتعاطى المخدرات والمسكرات أو يروجها في غفلة تامة عن آخرته، فيحتاج من المرأة المسلمة أن تذكر تلك القلوب الغافلة بالله جل جلاله، ذكري تلك القلوب الغافلة بلقاء الله وسؤال الله عن كل ما ينشأ من هذه الأضرار، وما يكون من البليات والأخطار.
أما الأمر الثاني: فإن ارتدع فالحمد لله وخير له من الله، وإن لم يرتدع فيجب على المرأة المسلمة أن تسعى في ردعه بالتبليغ عنه، ولا يجوز السكوت على من يروج المخدرات، وأيما إنسان ذكراً كان أو أنثى علم بمن يتعاطى المخدرات فسكت عنه فإن سكوته يعتبر معونة على الإثم والعدوان والعياذ بالله، فإن سكت عنه وعظم شره كنت مشاركاً له في الإثم؛ فينبغي التناصح، وقد قيض الله عز وجل رجالاً فيهم الخير الكثير، فقد قفل الله بهم أسباب الشر، وقفل بهم أسباب البلاء، وأسأل الله العظيم أن يعظم لهم الأجر في الدنيا والآخرة، وأن يكلل مساعيهم بالتوفيق والسداد.
إن الوقوف أمام هذا البلاء فرض محتم على كل فرد من أفراد المسلمين كلٌ على قدر استطاعته، فينبغي النصح والتوجيه أولاً، وإذا كان الإنسان قد ردعته النصيحة فالحمد لله، وإذا لم يرتدع فسوط الله بخلقه لا شك أنه سيردعه عن حدود الله ومحارم الله.
الوصية الثالثة من وصايا المرأة المسلمة تجاه هذا البلاء: أن تنصح أخواتها، فإذا رأت أختاً بريئة وقعت في براثن من يروج الحبوب والمخدرات فينبغي نصحها، ولتحاول أن تكون تلك المرأة المشفقة التي تنقذ الغريقة من غرقها، فتأخذ بذلك القلب البريء عن ذلك العناء العظيم، فلعل الله عزوجل أن ينقذ بك أختاً ترفع الكف إلى الله أن يعظم الأجر فيشكر حسنتك، إن الله شكر شربة ماء سقتها بغيٌ من بغايا بني إسرائيل لكلب فشكر الله لها فغفر ذنوب العمر، فكيف بامرأة تنتشل قلباً بريئاً من هذا البلاء العظيم؟! الوصية الرابعة التي ينبغي التواصي بها: الشعور بالمسئولية، وأن الخطر لا يقتصر على متعاطي المخدرات، بل إنه ينتشر عن اليمين والشمال، ويفتك بهذا وذاك.
إن بلاء المخدرات لا يقتصر على من يتعاطاه بل يتعداه إلى غيره، فينبغي الشعور بهذا الخطر، فاليوم إذا سكت الإنسان عن ابن الجار وبنت الجار فلا يأمنن غداً إذا هتكت أستاره ودخل ذلك البلاء إلى أبنائه وبناته والعياذ بالله.
فينبغي الشعور بهذا البلاء وهذا العناء، إن البعيد إذا تعاطى المخدرات لم تأمن أن يقتلك على قارعة الطريق، ولا تأمن أن ينتهك العرض على قارعة الطريق، فينبغي الشعور بهذا الخطر العظيم والبلاء العميم، وألا تكون المرأة أنانية في إحساسها، بل ينبغي أن تنطلق من منطلق الشعور بالمسئولية أمام الله جل جلاله، ولقد أمر الله المؤمنين والمؤمنات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل خيرية الأمة وهدايتها مقترنة بذلك، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للعمل بهذه الوصايا، والله تعالى أعلم.(50/14)
الإيمان
الإيمان أفضل الأعمال عند الله تعالى، ولذا كان لأهله مقام رفيع عند الله؛ لكن لابد لمن ادعى الإيمان من علامات، منها: توحيد الله والتوكل عليه، وفعل الطاعات، وله ثمرات، منها: دخول الجنة، ورضا الله عن عبده، وثبات القلوب، وأمن أصحابها في الدنيا والآخرة، وكذلك توفيق العبد لكثرة الطاعات.(51/1)
فضل الإيمان ومقام أهله عند الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إخواني في الله: الحمد لله الذي جمع قلوبنا بالقرآن، وألف بين أرواحنا بالطاعة والإيمان الحمد لله الذي خشعت له قلوبنا، وذلت له رقابنا، وتعفَّرت بالسجود له جباهنا الحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لمدر ولا لبقر ولا لقبر الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الحمد لله كالذي نقول، والحمد لله خيراً مما نقول.
إنه الإيمان، أن تعبد الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وتخشى عذاب الله، تعيش به حميداً، وتموت به قرير العين سعيداً، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال سبحانه وتعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:25 - 27].
إنه الإيمان الذي غفر الله به الذنوب والعصيان إنه الإيمان الذي أخرج أصحابه بالروح والريحان، ورب كريم راضٍ غير غضبان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) الله أكبر! ما أعظم مقام أهل الإيمان عند العظيم الرحمن! إنه الإيمان الذي بشر الله أهله بالخير والرحمات والجنان، فقال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] بشر المؤمنين بالرحمات، وبشرهم بالعفو والمكرمات، ويقول مخاطباً نبيه عليه من الله جميل الصلوات: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47].(51/2)
علامات الإيمان
والإيمان له أمارات، وله علامات وغايات وثمرات، فهو قول باللسان، واعتقاد في الجنان، وعمل صالح في الجوارح والأركان، أما القلوب فأسكنت التوحيد لله علَّام الغيوب، أما القلوب فإنها أسلمت لله ولم تسلم لأحد سواه، أن تعلم علم اليقين أن لا خالق إلا الله ولا رازق سواه، خلق الإنسان من طين وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، فسبحان من علمك وأنت في أصلاب الرجال وترائب النساء! سبحان من خلقك وصورك وأنت في الظلمات في ذلك الظلام من الأرحام، فلا طعام ولا شراب ولا كلام، ولا يسمعك ولا يراك إلا هو سبحانه العلَّام! سبحانه ما أحكمه! خلق الإنسان فصوره وشق سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين، ما من شيء في الوجود إلا وهو دليل على أنه الواحد المعبود.(51/3)
حسن الخلق
المؤمن كريم الخلال، جميل الخصال تجده على أكمل ما يكون عليه الرجل في كلامه، وفي فعله وإحسانه إلى الناس، يفشي السلام، ويطعم الطعام ويصل الأرحام، يكون على خير الخلال وجميل الخصال؛ لكمال إيمانه بالله الكريم المتعال.
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شمائل المؤمنين الكريمة؛ من العفو عمَّن زل لسانه أو زلت جوارحه وأركانه، واحتساب الأجر عند الله.
المؤمن يعفو عمن ظلم، ويعفو عمن أساء، يحتسب الأجر عند الله في عفوه.
ومن كريم خلال المؤمنين وجميل خصالهم أمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن حدود الله ومحارمه، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيحيون شعائر الله، ويميتون شعائر أعداء الله، كل ذلك علامة للمؤمنين، ودليل صادق على حب الله رب العالمين.(51/4)
توحيد الله في ربوبيته
أن توحده في ربوبيته، إياك أن تظن أن الطبيعة أوجدت، أو أن الصدفة قد خلقت، أيُّ طبيعة يزعمون، أُفٍ أُفٍ لهم وما يفترون، فليخرس الأدعياء، ما كانت الطبيعة رازقة، وما كانت يوماً من الأيام موجدة ولا خالقة، الله خالقنا، الله رازقنا، الله ربنا، لا إله لنا غيره.
هو الذي بث الأرواح في أجسادها، خلق الخلق فأحصاهم عددا، وقسم أرزاقهم فلم ينس منهم فردا، ما كانت الطبيعة يوماً من الأيام رازقة، بل الله هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
سبحانك يوم خلقت! سبحانك يوم كنا في العدم وأخرجتنا وأسبغت الآلاء والنعم! سبحان من خلق آدم بيده فشرفه وكرمه، وأسجد له ملائكته، خلق الإنسان من طين وجعل نسله في سلالة من ماء مهين.
حملته أصلاب الرجال وغيبته ترائب النساء، وقذف في تلك الأرحام في ذلك البهيم من الظلام، والتقت النطفة على قدر قد كتبه الله لها {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، نعم القادر على خلقه، ونعم القاهر لكل شيء، الباسط للجميل من رزقه.
الله خالقنا وخالق كل شيء، جرت الشمس بقدرته، ونوّر القمر بقدرته، وأظلم الليل بقدرته، وأضاء النهار بعظمته، سبحان مدبر الوجود، سبحان الواحد المعبود، سبحان من له الملكوت والجبروت، الحي الذي لا يموت.(51/5)
توحيد الله في ألوهيته
الله إلهنا، فإن نزلت بنا الشدائد وأحاطت بنا الصعوبات والمكائد فالله ملاذنا، والله معاذنا، والله حسيبنا من الإيمان، إذا نزلت بك المصائب وأحاطت بك الشدائد والكربات، أن تصدع إلى الله بصالح الدعوات، فلا مغيث ولا مجير سواه، ولا إله غيره ولا مجيب عداه.
سبحان من فتحت السماء أبوابها لرحمته! فكم من دعوة أجابها، وكم من كربة كشفها، وكم من هموم وغموم أزالها! سبحان من لا تحصى نعمه، ولا يكافأ فضله ولا كرمه!(51/6)
امتلاء القلب بتعظيم الله وحبه وإجلاله
ومن الإيمان بالله: أن تملأ القلوب تعظيماً لله وإجلالاً له، فتعلم أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فهو العليم بخلقه لا تخفى عليه خافية، السر عنده علانية، أقرب إلى العبد من حبل الوريد، يعلم ولا يخفى عليه شيء، يحصي ويبدي ويعيد.
ومن الإيمان بالله: أن تملأ القلوب بالحب لله، ومن الإيمان بالله صدق الحب لله والشوق إلى رحمة الله، فإن المؤمنين على حب لله رب العالمين.
من علامة الإيمان حب العظيم الرحمن، وكيف لا تحبه وما من طرفة عين إلا وله النعم، وله الفضائل والمنن؟! ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمه وفي جوده وفي فضله وكرمه.(51/7)
الصبر على البلاء وشكر النعماء
ومن الإيمان بالله: أن تصبر على البلاء، وأن تشكر النعماء، وأن تعتقد الفضل لله رب السماء.
الصبر على البلاء من الإيمان بالله واحتساب الأجر عند الله عز وجل، فما صبر إلا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، أعد للشدائد صبره، أعد للنكبات والفجائع والنائبات أعد لها الصبر واحتساب الأجر.(51/8)
حسن الظن بالله والتوكل عليه
ومن الإيمان بالله: حسن الظن بالله والتوكل على الله سبحانه وتعالى، قال إبراهيم وهو بين السماء والأرض لجبريل وقد أتاه قائلاً: يا إبراهيم! هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، من كمل إيمانه في الرخاء ذكره الله في الشدة والبلاء، فمن الإيمان بالله التوكل على الله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].(51/9)
عمارة بيوت الله
ألا وإن للإيمان خلالاً، وللمؤمنين خصالاً أثنى عليهم ربهم بها، فالمؤمنون عمار بيوت الله، أهل ذكر الله وطاعته ومحبته {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] المؤمنون {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].
الإيمان ذلة لله، وعبودية خالصة لوجه الله.(51/10)
إيتاء الزكاة والإحسان إلى عباد الله بالصدقات
ومن الإيمان بالله: إيتاء الزكاة والإحسان إلى عباد الله؛ بالصدقات، وتفريج النوائب والكربات، فمن كمل إيمانه كمل جوده وعطاؤه وسخاؤه، من كان مؤمناً بالله حقاً هانت عليه الدنيا وبذلها لآخرته، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر كفكف دموع اليتامى، ورحم البائسين والثكالى، واحتسب الأجر عند الله جل وعلا.
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فمن علامة المؤمنين أنهم يقولون خيراً أو يصمتون، أعفة في اللسان عن أعراض المسلمين، قولهم ذكر أو شكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71].(51/11)
سلامة اللسان واستقامة الكلام
من علامة الإيمان: سلامة اللسان واستقامة الكلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) لسانك يحرسه ويلزمه قلبك وجنانك، فإن كان قلبك يخاف الله كان ذلك اللسان عفيفاً عن عباد الله، وإن كان قلبك يخاف الله كان ذلك اللسان بعيداً عن عيوب عباد الله قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
إذا كمل إيمان العبد حسن نطقه وسلم لسانه، فالإسلام أن يسلم المسلمون من يدك ولسانك، وزلات جوارحك وأركانك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).(51/12)
استقامة الجوارح على طاعة الله
ومن علامة الإيمان استقامة الجوارح على طاعة الله، يوم يأخذ العبد بدين الله، يأخذ به كله لا ببعضه، فيستقيم على شريعة الله، ويلتزم بحدود الله، ويكون حافظاً لما أمر الله بحفظه، بعيداً عما نهى الله عن اقترافه، فمن كمال المؤمنين أنهم لحدود الله حافظين، ولمحارمه مجتنبين، فإذا كمل إيمان العبد كمل تقواه لله عز وجل، فكان إيمانه كاملاً بالاستقامة الحقة، يوم يلتزم بدين الله، ويتمسك بعروة الله، ويسير على نهج الله وطاعته، حتى إذا جاءه الموت كان ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:30 - 33].
فإذا كمل إيمان العبد استقامت جوارحه على طاعة الله، وكان على منهج الله ومرضاته، إذا استقامت القلوب لله بالإيمان استقامت الجوارح والأركان بأطيب الخلال، وأجمل الخصال، فمن علامة المؤمنين أنهم على أكمل الأخلاق وأحبها وأحسنها وأجملها، قال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).(51/13)
ثمرات الإيمان وعواقبه(51/14)
حلول الجِنَان والروح والريحان
ومن عواقب الإيمان: أن الله ينزل أهله الجنان، ويسبغ عليهم منه الرحمة والرضوان، قال صلى الله عليه وسلم: (يطلع الله على أهل الجنة ويقول: هل رضيتم؟ قالوا: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا؟! قال: ألا أزيدكم؟ أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).
فمن عواقب الإيمان حلول الجنان والروح والريحان، وما يكون من العفو والصفح والغفران، ومن عواقب الجنان دخولها والتنعم بسرورها، فالله أكبر! إذا وطئ العبد بابها، الله أكبر! إذا حل بين خيامها، الله أكبر! إذا دار عليه غلمانها وحورها، الله أكبر! إذا ارتشف من رحيقها، الله أكبر! إذا جاور النبيين والصديقين فيها، الله أكبر! إذا رأى منازل الجنان، وزال عنه الهم والغم وما كان من الدنيا من كدر، الله أكبر! إذا انتهت عند باب الجنة الهموم، وزالت عن أهل الطاعات الغموم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تكمل إيماننا، اللهم كمل إيماننا، اللهم كمل إيماننا، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، وعملاً صالحاً ورزقاً طيباً، اللهم ثبتنا على الإيمان واختم لنا بخاتمة الصفح والغفران يا كريم يا منان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(51/15)
حب الله ورضوانه
ولهذا الإيمان ثمرات أعظمها وأجلها أن الله يحب أهله، ولقد أخبر الله جل وعلا أن أكبر شيء وأعز شيء إذا رضي الله عن العبد، قرضاه أعظم مقصود وأشرف مأمول، فمن أعظم آثار الإيمان وأجلها وأكرمها رضوان الله عن العبد، قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وقال عن أهل الإيمان: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] وهل الخشية إلا الإيمان.
إذا رضي الله عن العبد أرضاه، وأسعده وأولاه، وثبت قلبه على الصراط المستقيم، وجعل الخير له حيثما توجه، يرضى الله عنك في الدنيا ويرضى عنك عند الممات، ويرضى عنك في الآخرة، فإذا كمل إيمان العبد كمل رضوان الله عنه، وإذا رضي الله عنه أرضى عنه خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).(51/16)
الأمن والأمان
ومن آثار الإيمان، ومن أعظم خيراته: أنه أمن وأمان كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] المؤمنون آمنون في الدنيا؛ لكمال خوفهم من الله، آمنون في الآخرة تتلقاهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، {َتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:103 - 104] فتتلقاهم في ذلك اليوم العظيم بالبشائر والرحمات، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] أولئك هم الآمنون في الدنيا الآمنون في الآخرة.
اللهم إنا نسألك إيماناً تؤمننا به في دنيانا وأخرانا، وتوجب به العفو عنا يا أرحم الراحمين.(51/17)
ثبات القلوب
ومن ثمرات الإيمان، ثبات القلوب، فإن من أعظم المصائب وأجلها في الدنيا تقلب القلوب عن طاعة الله، وأعظم ما يكون ذلك التقلب بالانتكاسة عن دين الله وعن شريعته، فإذا كان العبد مؤمناً ثبت الله قلبه بالإيمان {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
المؤمنون أهل ثبات وأهل يقين، لا تقلبهم الفتن، ولا تضرهم المحن، ولكنهم على الثبات، عضوا على حبل الله بالنواجذ، واستمسكوا بعروة الله الوثقى، فالجنة والنار نصب أعينهم، والآخرة كأنها قريبة منهم، يثبت الله بذلك قلوبهم، ويشرح بذلك صدورهم، حتى يكونوا على صراط الله ومنهجه.
إذا كمل إيمان العبد كملت استقامته وثبتت قدمه، واستمسك بعروة الله الوثقى إلى لقاء الله جل وعلا، حتى إذا جاءه الموت جاءه على خصال الخير، جاءه الموت راكعاً أو جاءه ساجداً، أو جاءه صائماً، أو جاءه في الليل قائماً، أو جاءه حاجاً أو معتمراً أو مزكياً أو واصلاً للرحم أو باراً لأمه وأبيه، يأتيه الموت على أحسن الحالات وأشرف الساعات، لكي يتم الله رضوانه عليه، يثبت الله بالإيمان القلوب، فهذا من ثبات القلوب.
أما إذا ضعف الإيمان اختلجت القلوب عن الطاعات، وتلبست بالمعاصي والسيئات، حتى لا يبالي الله بها في أي أودية الدنيا هلكت، إذا ضعف إيمان العبد فإنه يتزلزل وسرعان ما ينتكس قلبه {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].(51/18)
الهداية والرحمة
ومن ثمرات الإيمان: الهداية والرحمة، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] وإذا هدى الله قلب العبد وفقه وألهمه، فلا يلتبس عليه الحق بالباطل ولا يلتبس عليه الظلام بالنور، يعلم صراط الله، ويستبين شريعة الله، ويستمسك بعروة الله، فمن بشائر المؤمنين أن الله يهدي قلوبهم أجمعين، اللهم إنا نسألك هدايةً تثبت بها قلوبنا وتشرح بها صدورنا.(51/19)
التيسير للطاعة
ومن ثمرات الإيمان: أن العبد كل ما كان على طاعة دعته أختها إليها، قال تعالى: {أَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] فلا يزال ميسراً للطاعات، منشرح الصدر للقربات، لا تفتر له همة، ولا تضعف له نفس، حتى يبلغ بذلك الخير أعالي الدرجات، ويستوجب من ربه جزيل الرحمات.(51/20)
حياة القلب
ومن آثار الإيمان وعواقبه الحميدة أن الله يحيي به قلب الإنسان، فتصبح أشجانه للآخرة، وأعماله لطاعة الله ومحبته، فمن يؤمن بالله فإنه للآخرة كثير الذكر، كثير التعلق بها، كثير النظر في حالها، فإنه لا يفتر عن ذكر الله جل وعلا بقلبه، يذكر الآخرة في مشاهدها وأهوالها وشدائدها كأنه في ضجعة لحده، موسد في قبره، وكأنه قائم على صراطه، وكأنه واقف بين يدي الله ربه، حتى إذا جاءته الطاعة واشتاق إلى رحمة الله نظر إلى عواقبها الحميدة، فجعل الآخرة نصب عينيه فكأنه ينعم بخيراتها، ويرى ما يكون من جزيل عواقبها.(51/21)
الأسئلة(51/22)
من ابتلاه الله فعليه بحسن الظن بالله والصبر والدعاء
السؤال
أنا مصاب باضطراب في الشخصية، ورجفة في جميع أعضاء الجسم، وخوف شديد، أرجو أن تدعو الله لي بالشفاء العاجل على تأمين إخواني المسلمين وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أسأل الله أن يشفيك ويشفي كل مكروب ومنكوب، أخي في الله أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، وقد مرت عليك الأيام والليالي، ومرت عليك الأسابيع والشهور، الله أعلم كم كتب في ميزان حسناتك من خيرات، الله أعلم كم مرت عليك ساعات وأنت ترتجف وتتأوه، لو تعلم ما لك من الله من المثوبة لتمنيت أن حياتك كلها في هذا، فنعمت عيون المبتلين إذا لقوا الله رب العالمين، ورأوا في دواوين الحسنات الأجور والدرجات، فنعمت هناك عيونهم، وبهجت قلوبهم وارتاحت نفوسهم، ورضوا عن الله ورضي عنهم ربهم.
فأوصيك بالصبر، فما أطيب العيش بالصبر! قال عمر رضي الله عنه: [وجدنا ألذ عيشنا بالصبر] حينما تنزل في السمع أو في البصر أو في السكر أو في الضغط أو في غير ذلك من المصائب والمتاعب، فتتأوه في ليلك وعليك الملك، لا تتأوه إلا كتب آلامك وأحزانك وأشجانك، ولا يتألم أهلك وزوجك ووالداك إلا كتب الله لهم أجر ذلك، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا كتب الله عز وجل ما كان من عناء ونصب وبلاء، حتى ورد في الحديث: (إذا رأى أهل البلاء يوم القيامة ما لهم عند الله من الأجر، تمنوا أن حياتهم كلها بلاء) إذا رأى أهل البلاء ما لهم عند الله من الأجر في البلاء تمنوا أن حياتهم كلها بلاء، تبتلى نفسيتك يأتيك الضيق النفسي والألم فأوصيك بالصبر.
ثم اذكر الله ذكراً كثيراً كما أمرك الله عز وجل أن تذكره، وبذكر الله يطمئن قلبك، وتثبت شخصيتك؛ لأن الله يثبت بالإيمان ويثبت بذكره القلب والجنان، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، وإياك أن تشكي الله إلى خلقه، فاجعل شكواك إلى الله، فهو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى وكاشف كل ضر وبلوى، فهو المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، قال يعقوب عليه السلام: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، وقال عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فرد الله ولده إليه وأقر عينه به، وأراه ذلك اليوم الذي اطمأنت فيه نفسه وارتاح فيه قلبه، فاصبر واحتسب الأجر عند الله ولا تشكِ إلا إلى الله.
واعلم -رحمك الله- أنك كلما كظمت غيظك، وكتمت سرك، واشتكيت إلى الله جل وعلا، كلما كان ذلك أرفع لدرجتك، إلا أن تشتكي طلباً للدواء، فإنه يجوز للإنسان، بل ينبغي للإنسان إذا وجد طبيباً أن يصارحه بآلامه، وذلك لا يضر في التوكل، فإن سيد المتوكلين وإمام الصابرين صلوات الله وسلامه عليه كان يقول: (وا رأساه) فاشتكى عليه الصلاة والسلام، فلا حرج أن تشتكي ولكن اشتكي إلى الله، واعلم أن الداء والدواء من الله منزل الداء ومنزل الشفاء.
الأمر الرابع الذي أوصيك به حسن الظن بالله، لعلَّ الله أن يأتي بالفرج، لعلَّ الله أن يأتي بالمخرج، ثم أحسن الظن بالله فإن الشيطان دائماً جرب لا يأتيك أقل شيء ولو شوكة تشاكها حتى يأتيك الشيطان ويقول: الله لا يريدك الله يكرهك؛ لأن الشيطان لا ينفث إلا الخبث، ولا ينفث إلا سوء الظن بالله، ولا ينفث إلا الأمور الخبيثة، فإياك أن يسوء ظنك في البلاء، إذا جاءك المرض والسقم وجاءك إحساس في نفسك أن الله يمقتك ولا يحبك فاعلم أنه من الشيطان واتفل عن يسارك وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم تعلم سري ونجواي أشكو إليك وأنت أرحم الراحمين، فالله أرحم بك من أمك وأبيك، فإن أيوب لما أصابه البلاء قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] ما ساء ظنه بالله عز وجل أبداً، فلا يأتيك سوء الظن ولو أصابك الضيق النفسي والاكتئاب والتعب والأمراض الشديدة في ضيق النفس وهي من أصعبها، فلا يسوءن ظنك بالله.
فينغاظ عدو الله لما يراك وأنت تملأ قلبك بالمحبة لله، وأنت تحسن الظن بالله، وكأن الله ينظر إلى ذلك القلب في خضم البلاء، وينظر إليه في شدة الضيق والكرب وهو مسلم إلى الله لا إلى شيء سواه.
القلوب يا إخوان لها أعمالٌ صالحةٌ، وقال بعض العلماء: أعمال القلوب في بعض المواقف أعظم عند الله من أعمال الجوارح، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذُّروا نصفي في البر ونصفي في البحر فلئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ذلك فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك، وأوحى إلى البر أن اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله جل جلاله) سُحق حتى صار كالرماد، فأين الذين يقولون الآن: إنه إذا انفجرت بالإنسان قنبلةٌ من يعيده؟ يعيده الذي أنشأه أول مرةٍ وهو بكل خلقٍ عليم، سف كالسفساف وسفته الرياح فأخذه البحر وأخذته الصحراء في فيافيها، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال: (ما الذي حملك على هذا يا عبدي؟ قال: خوفك، قال: قد غفرت لك).
قالوا: كمال الإيمان، وكمال الخوف من الله من أعمال القلوب العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فاملأ قلبك بحب الله ولو انصبت عليك الشدائد والمصائب والمتاعب، فاملأه حسن ظن بالله، وتذكر أنه اللطيف والرحيم والكريم والحليم وقل: يا رب أسأت، ولو عذبتني لكنت عدلاً في عذابك، ولكن أرجو رحمتك التي وسعت كل شيء، وأسأله أحد الأمرين: إما أن يعطيك صبراً أضعاف ما أعطاك من البلاء، أو يعطيك كشف الضر والعناء، أما أن تتسخط عليه أو تشكي إلى الناس فلا، واملأ قلبك بهذه العقيدة فإن الله يرفع بها درجتك ويعظم بها أجرك.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يلطف بنا وأن يرحمنا برحمته الواسعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله وصحبه أجمعين.(51/23)
من المقولات الخاطئة: (ساعة لقلبي وساعة لربي)
السؤال
بعض الناس هداهم الله عندما ننصحهم يقولون: ساعة لقلبك وساعة لربك، وبعض الناس يستدل بالحديث: (روحوا القلوب ساعة وساعة) فكيف نردُّ على ذلك، وجهنا أثابك الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالنصيحة خير لمن تكلم بها وخير لمن سمعها وعمل بها، النصيحة -في الحقيقة- ما هي إلا حجةٌ تلقى من الله عليك، وستأتي بين يدي الله عز وجل، ويسألك عن هذا الكلام الذي سمعته هل عملت به أو لم تعمل؟ ويقول الله لك: يا عبدي! فعلت كذا؟ فقلت: يا رب فعلت، فيقول الله: ألم ينصحك عبدي فلان، ألم تبلغك حجتي مع فلان؟ فتكون النصيحة حجة لك أو عليك، ليست النصيحة كما يظن الناس أنها مجرد كلام يقال ممن يتكلم به، لا والله! ما هي إلا حجة قيضها الله لكي تلقى في هذه الأذن، فتشهد بين يدي الله عز وجل أنها سمعت، وتلقى في تلك القلوب فتشهد بين يدي الله أنها أصغت وأنها وقرت، فهذه النصيحة ما هي إلا حجة لك أو عليك.
فالإنسان الموفق الصالح إذا سمع النصيحة يقول لمن نصحه: جزاك الله خيراً، نعم إنني مقصر وأسأل الله العظيم أن يوفقني، فيرد الرد الجميل الذي يدل على خوفه من الله وخشيته لله سبحانه وتعالى، أما أن يتهرب أو يتهكم أو يعتذر لنفسه فهذا على خطر حينما يقول: ساعة لربك وساعة لقلبك! ما هي الساعة التي للقلب؟ هل المراد بها الساعة التي تنتهك بها حدود الله وتغشى بها محارم الله؟! فبئس -والله- الساعة، لا والله لا يملكها القلب، ولا يرضى بها قلب يؤمن بالله عز وجل.
أما إذا كانت من الترويح والاستجمام، والمراد بها الأمور المباحة التي يوسع الإنسان فيها عن ضيق نفسه فلا حرج، كون الإنسان إذا أصابته السآمة والملالة خرج إلى نزهة، أو لاطف أخاه أو مازحه أو ضحك معه بالمعروف لا حرج، كان محمد بن سيرين -سيدٌ من سادات التابعين- إذا جن عليه الليل سُمع البكاء من بيته، يقوم بكتاب الله عز وجل فتبكيه آيات القرآن، وإذا أصبح الصباح سُمع الضحك من بيته، إذا جن عليه الليل أعطى حقه لله، وإذا جاء الصباح والنهار آنس الناس وأدخل السرور على طلابه وأدخل السرور على أحبابه وزواره، وهذه من الأمور التي وسع الله بها على الأخيار، فديننا دين رحمة، ودين تيسير، ولكن بشرط ألا يبالغ في هذه الأمور.
وكما مثل العلماء للمرح واللهو بأنه كالملح في الطعام، فإذا كان اللهو مباحاً والمرح مباحاً وزاد عن حده كان كملح في الطعام أفسده، وكذلك طاعة الإنسان الملتزم إذا أكثر في المزاح والعبث والضحك واللهو، ذهب بهاء الهداية وذهب بهاء الإنسان الملتزم بدين الله وشريعته، ونظرت إليه العيون نظرة انتقاص بقدر ما يكون منه من زيادة في هذا الأمر، ولكن إذا أخذ بالمعروف، وبالقدر المعتبر، فإن ذلك خير ولعل القلوب أن تتقوى على الطاعة بما يكون من المباحات، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا وجد السآمة في مجلس العلم رمى بالطرفة والنكتة التي يضحك بها القوم، وهي من المباح ومن الأمور التي أحلها الله عز وجل دون أن يكون فيها أذية لمسلم أو هتك ستر الله عليه أو نحو ذلك من الذنوب والمعاصي والله تعالى أعلم.(51/24)
حكم كشف وجه المرأة
السؤال
يا فضيلة الشيخ، كثير من النساء يخرجنَ من البيت كاشفات للحجاب ثم يذهبن إلى الخياطين وإلى الأسواق، فنريد منك كلمةً للنساء بأن يتمسكن بالحجاب الشرعي؟
الجواب
على المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل في وجهها، كما أنها تتقي الله في سائر جوارحها، فلتتقي الله في هذا الوجه، لتتقي الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تتقي الله عز وجل في جمالها، وتتقيه في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليها، وإن المعاصي تطفئ نور الإيمان من القلوب وتذهب جمالها وبهاءها، فلتتقي الله المرأة المسلمة في حجابها ولتدنِ عليها الحجاب وترخه عليها فإنه أتقى لربها، وأبعد لها عن حدود خالقها، وأيما امرأة تساهلت في حجابها وكشفت حجابها للناس؛ فنظرت إليها عين مسمومة ففتنت في دينها، نالت إثمها ووزرها والعياذ بالله.
وينبغي على المرأة المسلمة أن تتقي الله في حجابها، وأن تخشى الله عز وجل من أن تفتن عباد الله عز وجل بالنظر إليها، فإن أحبت أن تتمادى في غيها فالله الموعد إذا ضمها لحدها وقبرها، والله الموعد إذا وقفت بين يدي الله ربها وتعلق بها من فتن بالنظر إليها.
الوجه عورة وكشفه بلاء وفتنة، فينبغي للمرأة المسلمة أن تخاف الله وتتقيه خاصةً إذا كانت شابة، ولذلك أجمع العلماء على أن المرأة الفاتنة الشابة يجب عليها أن تغطي وجهها، والخلاف في الوجه والكفين الذي يتذرع به البعض محله أن لا تكون هناك فتنة، أما إذا وجدت الفتنة بالنظر إليها، وكانت جميلة فاتنة؛ فإنه -بالإجماع- ينبغي عليها أن تستر وجهها وأن تغطي ذلك الوجه، والله تعالى أعلم.(51/25)
الخوف والرجاء مطلبان للمؤمن لابد من الجمع بينهما
السؤال
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنه يغلب عليَّ جانب الرجاء على جانب الخوف، وإذا راجعت نفسي على هذا الخلل أقول لنفسي: إني خيرٌ من كثير من الناس، فما توجيه سماحتكم؟
الجواب
الله المستعان، أنت على خير، فهل صمت النهار وقمت الليل وبلغت ما بلغه الصالحون الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون؟! أخي في الله: انظر في الطاعات إلى من هو أكثر منك، ولا تنظر إلى من هو دونك، فإذا نظرت إلى من هو أكثر منك احتقرت نفسك وأخذت بأسباب بلوغ الكمال، أما تعظيم الرجاء؛ فإنه لا ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك وهو على خطر عظيم، فإن تغليب الرجاء أمنٌ من مكر الله، ولا ينبغي للمسلم أن يكون على هذه الحالة، وكذلك تغليب الخوف قنوطٌ من رحمة الله، ولا ينبغي للمسلم -أيضاً- أن يكون على هذه الحالة، بل ينبغي له أن يجمع بين الأمرين: خوفٌ من الله ورجاءٌ في رحمة الله، وقال العلماء: هما جناحا السلامة لمن يطير إلى رحمة الله جل وعلا، ولذلك ذكر الله أهل الجنة بهاتين الصفتين -يدعوننا خوفاً وطمعاً- فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
فينبغي الجمع بين هذين الأمرين، وكون الإنسان يقول: إني أُغلِّب جانب الرجاء والله حليم رحيم، لا يأمن أن يقع في حدود الله عز وجل، وكون الإنسان يقول: الله شديد البطش عظيم القوة عظيم السلطان، لربما أهلكني وأنا مقصر في ذنوبي وما كان مني تجاه ربي لربما غلب عليه فيأس وقنط من رحمة الله عز وجل، والعياذ بالله.
فينبغي أن تجمع بين الأمرين كما جمع بينهما أصحاب نبيك عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم أجمعين فإن جمعت بينهما سعدت وأفلحت ونجحت وكنت على هدي السلف الصالح، والله تعالى أعلم.(51/26)
لا بد بعد الإيمان من الابتلاء والتمحيص
السؤال
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، نرجو من فضيلتكم تفسير هذه الآية {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]؟
الجواب
يقول الله تعالى: {الم} [العنكبوت:1] الله أعلم بالمراد بهذه الحروف، ذكر الله عز وجل هذه الحروف للعرب وهي تتكلم بلسانها؛ لكي يعجزهم ويقول: هذه الحروف من كلامكم، ولا يستطيع أحد أن يدرك حقيقتها إلا بوحي من الله جل وعلا، ولذلك نقول: الله أعلم بالمراد بقوله: {الم} [العنكبوت:1]، وكذلك قوله: {الر} [يونس:1]، وقوله: {المر} [الرعد:1] وقوله: {كهيعص} [مريم:1].
وأما قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت:2] أي: أظن الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، فالناس لفظ عام يشمل المؤمنين والكافرين، ولكنَّ المراد بهذه الآية المؤمنين خاصةً لقوله بعد ذلك: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] أن يتركوا بدون تمحيص من الله، وابتلاءٍ واختبارٍ منه عز وجل، كلَّا.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] لابد من الامتحان، ولابد من الاختبار، ولابد من الابتلاء الذي يظهر به حال العبد، فهذه الفتن في قوله تعالى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا)) [العنكبوت:2] فدل على أن الإيمان قول باللسان كما أنه عقيدة في الجنان وعمل بالجوارح والأركان كذلك هو قول باللسان {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: لا يختبرون من الله عز وجل، فسبحان من يختبرهم! وطوبى لمن اختبر فنجح في اختباره مع ربه، فأظهر لله خلوص قلبه، وصدق إيمانه وصلاح قوله وعمله.
أما الفتن التي يفتن الله بها العبد فهي تنقسم إلى قسمين: فتن في دينه، وفتن في دنياه.
أما فتنه في دينه فهذه ترجع إلى ما يحدث من الشبهات والأذية؛ مثل ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من كلام كفار قريش لهم ومجادلتهم لهم ومعاداتهم لهم، كل ذلك من فتن الدين، أي: أن الله افتتنهم وامتحنهم بهذه الفتن؛ لكي يظهر صدق إيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتلاهم بالشدائد من فتن الدين، ولذلك لما جاء يوم الأحزاب قال الله عز وجل عنه: {إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] معناه أنه إذا وجد الإيمان وجدت الزلزلة ووجد الابتلاء ووجد الاختبار والامتحان من الله عز وجل، فزلزل الله الصحابة زلزالاً شديداً، ولكنَّ هذا الزلزال أظهر كمال إيمانهم وكمال إحسانهم وصدق إنابتهم إلى الله سبحانه وتعالى {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
والله يبتليك في نفسك ببلايا الدنيا، فهي -أيضاً- من الفتن، يلتزم الإنسان بدين الله فإذا به يفتن في نفسه فيجد الهموم ويجد الضيق النفسي والقلق والألم والحيرة وكل ذلك؛ لكي يقول: يا ألله، لكي يقول: اللهم إني أرجو رحمتك، لكي يفر إلى الله، ويلتجأ إليه، فيعود هذا البلاء رفعةَ درجةٍ وخيراً له في دينه ودنياه وأخراه، يبتليه في جسده فيفقده السمع ويفقده البصر فيقول: الحمد لله، ما دام ديني سالماً فإنني بخير، قال بعض السلف: ما ابتلاني الله ببليلة إلا كان له عليَّ فيها ثلاث نعم.
الأولى: أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنه لم يبتلني بما هو أعظم منها، والثالث: أنه رزقني الصبر عليها.
فلذلك يحمد الإنسان ربه ويسترجع فيصبح امتحان الله له وفتنته له دليلاً على إيمانه.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] لا والله بل إنهم يفتنون ويختبرون ويمتحنون من الله عز وجل؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة.
قال بعض العلماء: مثل الفتن والمحن لقلوب المؤمنين كالذهب، إذا حك ازداد لمعانه واشتد ضياؤه وحسن بهاؤه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل وأن يلطف بنا وبكم في الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.(51/27)
موقف المؤمن من إقبال النفس على الطاعة
السؤال
فضيلة الشيخ، هذا سؤال ذو شقين الأول يقول: ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان من ناحيتي الزيادة والنقصان، الثاني: كيف يتعامل الإنسان في مرحلتي الإقبال على الله في الطاعة والعكس؟
الجواب
أما بالنسبة لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان اعتقاد في الجنان وقول باللسان وتحقيق بالجوارح والأركان، تزيده الطاعة وينقصه العصيان، والدليل على زيادة الإيمان بالطاعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] فأخبر سبحانه وتعالى أنه يزيد المهتدين هدى، وقال تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] فأهل الإيمان دائماً في زيادة وفي كمال وعلو من الله جل وعلا، فدلت هذه النصوص على أن الإيمان يزداد بالطاعة.
وأيضاً ينقص بالمعصية كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).
فالإيمان ينقص بالمعصية وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بالنسبة لنقصان الإيمان وزيادته.
أما بالنسبة لما سألت عنه من حال الإنسان في حال إقباله على الله، ونشاط نفسه على طاعة الله، وفي حال إدباره عن الله وضعف نفسه عن طاعة الله، فإذا أقبلت نفسك على طاعة الله فجد واجتهد، فتلك رحمة من الله لطف الله بك حينما أعطاكها.
فاغتنم الأوقات واغتنم اللحظات إذا وجدت في نفسك انشراحاً للخير فاغتنمه بطاعة الله، وأما إذا وجدت من نفسك التقصير فأوصيك بوصيتين أوصى بها العلماء في حالة الفتور والضعف: الأولى: حدود الله لا تقربها.
الثانية: حقوق الله وواجباته لا تضيعها.
فإذا حفظت هذين الحقين: الواجبات أديتها والمحارم اجتنبتها؛ فأنت على خير -بإذن الله عز وجل- إذا أصابك الضعف فإياك أن يصل بك إلى تضييع واجب أو فعل محرم، فإذا كنت في هذه الحالة -في حال ضعف النفس- محافظاً على واجبات الله وفرائض الله، بعيداً عن حدود الله ومحارم الله فأنت على خير.
فهذا مما ينبغي على المسلم أن يعتني به في حال ضعف إيمانه، وكمال إيمانه، لكن ينبغي على الإنسان إذا ضعفت نفسه أن يتفقد نفسه فيرى ما هي الأسباب -كما ذكرنا فيما قبل- وأن يأخذ بالأسباب التي تزيد في إيمانه لعلَّ الله أن يرحمه بها، والله تعالى أعلم.(51/28)
وسائل معينة لترك العادة السرية
السؤال
أنا شاب في السابعة عشر من عمري، أحب الإيمان والدعاة إلى الله، ووالله الذي لا إله إلا هو إني أحبك في الله، ولكن قد ابتلاني الله بابتلاءٍ، -أسأل الله أن يعافيكم مما ابتلاني به- ألا وهي العادة السرية التي كلما فعلتها أحس بنقص في الإيمان، وبعدها أندم وأجزم بأن لا أعود، ولكن يعاودني الشيطان والنفس الأمارة بالسوء فأمارسها، فما هي الأسباب وما العلاج؟ علماً بأني ملتحقٌ بحلقة تحفيظ للقرآن الكريم، وقد يؤثر علي ذلك في حفظي لكتاب الله، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً أحب أن أنبه على أن الأخ ذكر أنه ملتحق بحلقة التحفيظ، وبعض الناس إذا سمع أن إنساناً مطيعاً يفعل معصيةً ربما يسيء الظن بمن ينتسب إليهم، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فإن الإنسان إذا وقعت منه المعصية قد تقع في حال ضعف، وقد تقع ابتلاءً من الله له بسبب ذنب بينه وبين الله، أو ذنب بينه وبين عباد الله، فأراد الله أن يعاقبه في الدنيا قبل الآخرة، وقد يكون مستدرجاً من الله، نسأل الله أن لا يجعلنا ذلك الرجل، فإن المستدرج لا يزال يبتلى بالعادة تلو العادة حتى يستدرج إلى الزنا ثم يختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله- لكن أسأل الله جل وعلا ألا يجعل صاحبنا ومن ابتلي بها من أهل الإيمان ذلك الرجل.
أخي في الله، أوصيك أولاً بأمور: أولاً: أن تدعو الله عز وجل فسبحان من بيده القلوب! فإن قلبك إذا استقام، استقامت جوارحك، فسل الله جل وعلا أن يهبك قلباً خاشعاً يطمئن بذكره وينفر عن عصيانه، سل الله؛ فإن الله يجيب من دعاه.
أما الأمر الثاني: فخذ بالأسباب، لا تجلس لوحدك، ولا تأت إلى فراشك إلا عند النوم وأنت تَعِبٌ.
الأمر الثالث: أن تشغل وقتك بطاعة الله، فإن الطاعة تدعو إلى أختها، وإذا عمّرت وقتك بطاعة الله وذكر الله؛ أمنت الفتنة وسلم لك دينك وعصم الله عز وجل نفسك من معاصيه.
والأمر الرابع: أوصيك -أخي في الله عز وجل- إذا ابتليت بهذه المعصية وضعفت نفسك أن تديم الاستغفار، وأن لا تقنط من رحمة الله عز وجل ولو عدت إليها ملايين المرات، حاول قبل الوقوع فيها أن تجاهد نفسك، فإن غلبك الشيطان وفعلتها فحاول أثناء فعلها أن تنزع، فإن ذلك خوفاً من الله، فإن غلبك وفعلتها فأرق من عينك دمعة الندم، وبث من قلبك الأشجان والألم لعل الله عز وجل أن يمن عليك بالعفو وهو أهل الكرم.
فكن على إحدى هذه الثلاث المراتب، أولاً: أن تجاهد نفسك فإن الله يسمعك ويراك، ويطلع على سرك ونجواك، ويعلم تلك اللحظة وأنت في الصراع في داخل قلبك -أأقدم أو لا أقدم، أقدم أو أحجم- وأنت تصطبر وتتألم وتتأوه، فإذا نزعت في هذه الحالة فهي أكمل الحالات وأحبها إلى الله وأقربها زلفى عند الله، أن تأتيك المعصية فتبقى في جهاد مرير فتكون العاقبة أن تنجو بنفسك منها، لأنَّ الله لا ينجي العبد أثناء الوقوف أمام المعاصي وتيسر أسبابها إلا إذا أحبه، ولذلك يلطف الله بأحبابه كما لطف بيوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإنه لما وقف أمام المعصية لطف الله به؛ لأنه من عباده المخلصين، فهذه المرتبة الأولى أن تجاهد نفسك، وعود نفسك على ذلك.
ثم الأمر الثاني: فإن اقتربت منها فاقترب متذمراً، واقترب ساخطاً متألماً، ولا تقترب ضاحكاً مسروراً، فإنَّ الله يمقت هذا الضحك والسرور، ولربما عاقبك الله على أُنسِك بها فغضب عليك، فإذا وقعت فيها وذقت أول لذاتها فاستشعر شيئاً من الآخرة فلعلَّ الله عز وجل أن يلطف بك، وينزعك عن هذه المعصية، فإن نزعت عند بداية العصيان، وعند بداية الذنب، فتلك رحمةٌ من الله جل وعلا، ولك عند الله منزلة، فإنَّ الله يبدل هذه الإساءة منك إحساناً، ويكون انتزاعك منها أثناء تلبسك بها في بدايتها دليل على حبك لله عز وجل، والله سبحانه كريم إذا أتيته بالعقبى التي فيها الإنابة محا ما كان من الإنسان في الأولى من الإساءة، فلعل الله -إذا رأى منك أنك تنزع أثناء المعصية- أن يغفر لك ما كان من العصيان.
الأمر الثالث: فإن تمردت النفس وعتت، وطغت وبغت وتلذذت بهذه المعصية، وذقت حلاوتها فبمجرد أن تنزع عنها تب إلى الله وقل: أي شيء فعلت؟! وأي ذنب اقترفت؟! وما يدريني فلعل الله أن يكون غاضباً علي، وأكثر من الندم والاستغفار والتوبة إلى الله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وإذا أصبحت كلما فعلت العادة ترجع إلى الله بتوبة، وكلما يمكر الشيطان بك ويوقعك في هذه المعصية، تريق دمعة الندم وتتوب إلى الله، أبدل الله سيئاتك حسنات، وأغاظ الله عدوك الشيطان، فأصبح ما يكون منك من عصيان، رفعة درجة لك في العاقبة، وهذا من رحمة الله عز وجل، ولكن بالتوبة الصادقة، فإذا تبت إلى الله توبة صادقة بدل الله سيئاتك حسنات.
فهذا مما أوصيك به، وأسأل الله العظيم أن يسلمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.(51/29)
الجمع بين حديث: (أيكون المؤمن زانياً؟ قال: نعم) وحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)
السؤال
فضيلة الشيخ سائل يسأل يقول: ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن المؤمن يكون زانياً ويكون سارقاً فأجاب بنعم، ويكون كاذباً فأجاب صلى الله عليه وسلم بلا، وكيف نوفق بين هذا الحديث والحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)؟
الجواب
أما بالنسبة للحديث الأول والذي سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق؟ قال: نعم، قالوا: أيشرب الخمر؟ قال: نعم، قالوا: أيكذب؟ قال: لا) قال العلماء: لأن أعظم الذنوب التي يعصى الله عز وجل بها الكذب، حتى إن الشرك فيه كذب على الله عز وجل، وافتراءٌ عليه، ولذلك تبوأ الكذب هذه المكانة -والعياذ بالله عز وجل من السوء والإثم- ولأن الكذب يتضمن فساد الظاهر والباطن، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن كذاباً، وقال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كذب وألف الكذب قل أن يستقيم له لسان -والعياذ بالله- على طاعة الله عز وجل، إذا كان لسانه دائم الكذب فإنه يلعنه الله عز وجل، فلا يستقيم له لسان على طاعة الله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكذب من علامة المنافق، فقال: (إذا حدث كذب) فالكذب لا خير فيه، فلعظيم ما فيه من النفاق والتدليس والغش بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن الصادق لا يتلبس به.
وأما بالنسبة للزنا وشرب الخمر والسرقة، فإنه قد يسرق الإنسان وهو مؤمن، قد يسرق لوجود الحاجة ووجود الضرورة إلى المال، أو يسرق لغلبة الفتنة بالدنيا، ولكن مع هذا لا يصل إلى ما يصل إليه الكاذب، وهكذا بالنسبة للزنا، وصحيح أنه انتهاك للأعراض واقتراف لفراش المسلم، وأذية له، خاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر أن يزاني الرجل بحليلة جاره -والعياذ بالله- فالزنا ذنب عظيم، وقد وصفه الله عز وجل بأنه: {فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، ولكن لا يصل إلى ما يصل إليه الكذب؛ لأن الكذب يمكن أن يكون في مرحلة من المراحل سبباً في سفك الدماء، فلو جاء إنسان وكذب على قبيلة، وكذب على قبيلة أخرى، وأوقع بينهم الشحناء لسالت دماء بكذبة واحدة، فلذلك الكذب بلاؤه عظيم وشره كبير، وعظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمره وأخبر أنه لا يصل إلى ما يصل إليه الزنا من الإثم والخطيئة.
فقال العلماء: لعظيم ما يكون من الكذب إلى درجة أنه قد يكون سبباً في الشرك والكفر بالله عز وجل، نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن، بخلاف المعاصي التي لا يسلم الإنسان منها في بعض الأحيان؛ لضعفه وغلبة الشهوة عليه.
أما الحديث الثاني وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وقوله في هذا الحديث: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم) فالجواب عن هذا كما يقول العلماء رحمة الله عليهم: أن قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي أنه لا يمكن أن يفعل الزنا وفي قلبه الإيمان بالله عز وجل، حتى ورد في الخبر أنه يخرج حتى يصير كالظلة عليه، فإذا انتهى من زناه وذنبه -والعياذ بالله- رجع ناقصاً عليه بقدر ما أصاب من الذنب، فلا يمكن أن يقع في حدِّ الله عز وجل من الزنا وإصابة هذا الحد العظيم إلا وعنده ضعف في الإيمان، ولذلك قالوا: لا يزني وهو مؤمن، أي: وهو يستشعر عظمة الله ويستشعر هيبة الله عز وجل، وهذا صحيح؛ لأن الله عز وجل أخبر أن أهل تقواه {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
فهذه الأحاديث كل حديث منها على وجه، والقاعدة في الأصول أنه لا يحكم بالتعارض بين النصين إلا إذا استويا دلالةً وثبوتاً ومحلاً، فمحل الحديثين هنا مختلف، حديث الذي ينفي الزنا من المؤمن -أي: أثناء الزنا- أن يكون مؤمناً مستشعراً لعظمة الله، والحديث الذي يثبت أنه يكون منه الزنا بحسب ما يكون منه من ضعف إيمان وتلبس بالعصيان، والله تعالى أعلم.(51/30)
علاج مرض الشبهة والشهوة
السؤال
كيف نعالج قلوبنا من مرض الشبهات والشهوات خاصة بالقرآن الكريم أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما مرض الشبهة فإنه مرضٌ يأتي بسبب ضعف الإيمان، فالشبهات ترد على الإنسان بضعف إيمانه، فيغذي إيمانه، أولاً: بسؤال الله أن يصرفها عنه وأن يثبته على الإيمان الذي يحول بينه وبين هذه الشبهات، فأول علاج لمن بلي بالشبهات والشكوك والوساوس والأذية في قلبه وفي صدره، أن يستعيذ بالله جل وعلا، لأن الله يقول في كتابه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] فأمر الله بالاستعاذة إذا حصلت الشبهة، فأكثر من الاستعاذة فإن الله يعيذ من استعاذ.
أما الأمر الثاني: فأن تأخذ بالأسباب التي تبعد الشبهة عنك، فإذا كانت الشبهة من جليس سوء فابتعد عنه وإياك أن تجلس معه؛ لأن الله أمرك أن تقوم إذا ذكر الله بما لا يليق به في مجالس الظالمين {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]؛ فلا يجوز للإنسان أن يجلس في المجالس التي تثار فيها الشبه ويضعف فيها الإيمان.
أما الأمر الثالث من الأسباب التي تعين على انصراف الشبهة: أن تأخذ بالأسباب التي تزيد في الإيمان، ومن أعظم ذلك تلاوة القرآن وتدبره، أن تختار لتلاوة كتاب الله أنسب الأوقات، وأن تقبل على كلام الله وأنت تحس كأن الله يخاطبك، وكأن الله يناديك، وكأن الله يوصيك، فإذا استشعرت بهذا الشعور دخلت الآية إلى سويداء قلبك وتغلغلت إلى جنانك وكان لها أطيب الأثر على جوارحك وأركانك، وكف الله بها عنك الوساوس والشكوك، القرآن فيه الحجج وفيه الآيات، وهذه الحجج والآيات تقوي القلب، وتجعل فيه الحصانة والقوة من هذه الشبهات التي ترد على القلب.
أما مرض الشهوة فابتدئ بأسبابها، فما كان من أسباب تثير الشهوة فابتعد عنها، غض البصر عن الحرام، وعن استماع الفحش والآثام، واجعل جوارحك سليمة عن مظان الريب والفتن؛ فإن ذلك يعصم الله به قلبك، فإن الإنسان إذا حفظ سمعه وبصره صانه الله عن الشهوات، ولم يجد الشيطان عليه سبيلاً أن يعلق قلبه بها، ثم خذ بالأسباب التي تزيد في إيمانك حتى تقوى على البعد من الشهوات، وقال بعض العلماء: إن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من أعظم الأسباب التي توقع الإنسان في الانتكاسة بشهوة أو شبهة، فيبتعد الإنسان عن عقوق الوالدين وأذية الوالدين, وقطع الأرحام، لأن الله يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] قال: أصمهم فلا ينتفعون بموعظة، وأعمى أبصارهم فلا يهتدون ببصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- وكل ذلك بسبب قطيعة الرحم، فأكثر ما يقع الإنسان في شهوة أو شبهة إما بذنب بينه وبين الله وإما بذنب بينه وبين عباد الله.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.(51/31)
الرياء وحب الشهرة
السؤال
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا طالب علم وعندي رغبة شديدة في الطلب -ولله الحمد- إلا أنني أجد ميلاً إلى الشهرة وأن يشار إلي بالبنان، ويعلم الله أني أكره هذا الشعور؛ لأنه ينافي الإخلاص، وحاولت دفعه عن نفسي فلم أستطع فهل من نصيحة ينفعني الله بها؟ أعظم الله لكم الأجر.
الجواب
الشهرة مصيبة، وحب النظر فتنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء -وفي رواية: أو ليصرف وجوه الناس إليه- فليتبوأ مقعده من النار).
فالعلم يراد به وجه الله، ولا يراد به أي شيء سواه، وكان بعض السلف إذا أراد أن يحُدث قيل له: حدثنا، قال: حتى تأتي النية، كانوا يخافون من النيات وحب الشهرة وحب الظهور، وقال سفيان الثوري رحمه الله: [ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، إنها تتقلب علي] وهو إمام من أئمة السلف في الصلاح والورع.
فحب الظهور، وحب الشهرة، وحب التفاف الناس ونظر الناس فتنة، ويأتي صاحبها يوم القيامة بين يدي الله وقد عمل الصالحات والأعمال الطيبات، (فيقول الله: ماذا أردت بهذا، فيقول: يا رب أردت وجهك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، إنما تعلمت وليقال فلان عالم وقد قيل، اذهبوا به إلى النار) نسأل الله السلامة والعافية.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا حدَّث بهذا الحديث غشي عليه ولربما يغشى عليه ثلاث مرات، يغشى عليه فيفيق، ثم يغشى عليه فيفيق، ثم يغشى عليه فيفيق رضي الله عنه وأرضاه من شدة أمر الإخلاص في العلم.
لذا ينبغي على الإنسان أن يوطن نفسه بالإخلاص قبل العلم، وقد يصاب طالب العلم في بداية طلب العلم بحب الشهرة، ولكن إذا أراد الله به خيراً كسر قلبه في آخر العلم، ولذلك قالوا: أول العلم طفرة وغرور وآخره إنابة إلى الله جل وعلا وخشية.
فالعلم قد يكون في أوله شيء من الزهو، فينبغي على طالب العلم ألا يسترسل مع هذه الآفات؛ لأنه ربما يجد من يزكيه ويثني عليه، فلا تغتر بهذا، تعلق بالله فإنه نعم المولى ونعم النصير، والله! إذا رضي الله عنك، وسخطت عنك الخليقة كلها لم يضرك سخطها، وإذا سخط الله عنك ورضيت عنك الخليقة كلها، لم ينفعك شيء أن تكون راضية عنك، تعلق بالله، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه، والغرور والزهو لا فائدة فيه، تصوَّر لو أن الأنظار رفعت إليك والأسماع أصغت إليك ثم انتهى كل شيء، ما الذي تجنيه من نظر الناس واستماعهم والتفافهم حولك إلا أجرٌ ترجوه لآخرتك، فالإنسان العاقل الحكيم لا يلتفت إلى مثل هذا، فالغرور والشهرة وحب الظهور والعجب بالنفس من آفات القلوب، ولذلك قال مطرف بن عبد الله الشخير وهو من أئمة السلف: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً].
فالإنسان الحكيم العاقل لا يلتفت إلى الدنيا فمتاعها قليل وما عند الله خير وأبقى، إن العمل القليل الذي يراد به وجه الله أعظم لأجرك، والعمل الكثير الذي لا يراد به وجه الله لا خير فيه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فالله الله أن تجعل علمك وتعليمك هباءً منثوراً، الله الله أن تذهب عليك ساعات ليلك وساعات نهارك دون أن تجني بها حسنة عند ربك، نسأل الله العظيم أن يسلمنا من هذه الفتن وأن يعيذنا منها، والله تعالى أعلم.(51/32)
الإحسان إلى الوالدين واجب مع الصبر عليهما
السؤال
أنا شاب أحب الخير لنفسي وللناس، ولكن والدي يسرف على نفسه بالمعاصي من استهزاء بالدين وإطلاق القبيح من السباب والألفاظ ولا يتورع عن ذلك، ومع ذلك فأنا أخاف عليه خوفاً شديداً حتى أنه أحياناً يأمرني بأشياء لا ترضي الله، فماذا أفعل تجاه هذا الأب، رغم أني إنسان مقصر في جنب الله أيضاً؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
أما ما ذكرته -أخي في الله- من تذكيرك بالله ودعوتك إلى الله؛ فلا خرس لسان منك داعياً إلى الله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] لا أحسن مما تقول ما دام أنه ذكر لله، ولا أطيب مما نطقت به ما دام أنه دعوةٌ إلى الله، فلا أحسن من هذا الكلام الذي تتكلمه، فأسأل الله العظيم أن يعظم به الأجر لنا ولك ولجميع المسلمين.
فالدعوة إلى الله عماد الدين، وهي الخير لعباد الله المؤمنين، فاستدم على ما أنت عليه ثبت الله قلبك ولسانك.
أما الوصية الثانية: فلا يضعفك تقصير الأب في جنبك وجنب الناس، وإياك أن يأتيك شيطان الإنس والجن ويقول: أنت تعظ الناس وأبوك في غفلة، فما ضر عكرمة كفر أبيه، ولا ضر الصحابة رضوان الله عنهم ما حصل من تقصير من عشيرتهم ومن قرابتهم، عليك نفسك والله حملك أمرها، فإن استجاب الناس لك فالحمد لله، وخير من الله، وإن لم يستجيبوا؛ فألق الأحمال وأعذر إلى الله الكبير المتعال، وسر إلى الآخرة وقد بلَّغت رسالة الله، وأديت شريعة الله إلى عباد الله، فلا تضعف بتقصير الوالد.
وأما ما كان من أذية من أبيك؛ فاصبر رحمك الله على أذيته، واصطبر على ما كان من بليته، فإن الله يعظم أجرك، ولا تقصرنَّ في بره، فإن أبلغ البر إذا آذاك أبوك، ولعلك من التزامك وطاعتك لربك وهدايتك سلط الله عليك أباك؛ لكي يرفع من درجاتك ويعظم من حسناتك، ويكفر ما كان من خطيئاتك وزلاتك، فاصبر رحمك الله، وكثير من الأخيار إذا التزموا أوذوا من الآباء وأوذوا من الأمهات ومن الإخوان والأخوات وهذه الأذية كلها ابتلاء من الله جل وعلا، فاصبر واصطبر ولا يمنعك أذية الوالد لك أن تبره، فإن سعداً رضي الله عنه وأرضاه لما عصت أمه ودعته إلى الكفر وامتنع من ذلك أنزل الله عز وجل عليه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
فبر أباك وأحسن إليه ولعل الله أن يجعل من برك له سبباً في هدايته وصلاحه، نسأل الله له ولجميع المسلمين التوبة والإنابة والله تعالى أعلم.(51/33)
حكم كشف الطبيبة على الرجال والطبيب على النساء ونصيحة للنساء
السؤال
نريد منك نصيحة للنساء أو موعظة.
وهل يجوز للطبيب أن يكشف على المرأة؟ وهل يجوز للطبيبة أن تكشف على الرجل؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأما ما ورد في السؤال من حكم كشف المرأة على الرجل وكشف الرجل على المرأة فإنه إذا وجدت الحاجة فلا حرج في ذلك، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر النساء بخروجهن معه في الغزوات، قالت أم عطية رضي الله عنها كما في الصحيح: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداوي الجرحى ونسقي المرضى).
لا حرج في كشف الرجال على النساء والعكس إذا وجدت الحاجة، أما إذا وجد الطبيب من الرجال للرجال، ووجدت الطبيبة من النساء للنساء، فحرام على المرأة أن تذهب إلى الرجل، وحرام على الرجل أن يذهب إلى المرأة، فلا يجوز كشف الرجال على النساء، ولا كشف النساء على الرجال إلا من ضرورة وحاجة، وتتحقق الضرورة أولاً بوجود المرض، وبوجود الشكوى من المريض، أما إذا لم توجد الشكوى وكان الفحص فحصاً فضولياً أو كمالياًَ فإنه لا يجوز لها أن تكشف ولو لم تجد رجلاً.
الأمر الثاني بعد وجود الحاجة: أن تؤمن الفتنة من ذلك الكشف، فيكون الكشف بالوجه المعروف الذي أذن الله عز وجل فيه، فيكشف الطبيب عن المحل المحتاج لعلاجه، ويتقيد بالنظر على قدر الحاجة دون زيادة في الزمان ودون توسع في المكان، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة إذا كشفت على الرجل، أما إذا وجد البديل فإنه كما قلنا يحرم على الرجال أن يكشفوا على النساء ويحرم على النساء أن يكشفن على الرجال.
أما ما سألتيه من تذكير أخواتك المسلمات فاعلمي أختي المسلمة أن الله يرضى لك الطاعة ويكره لك المعصية، استقيمي على طاعة الله فإن الله يحب المطيعين، وأكثري من ذكر الله فإن الله يحب الذاكرين، وخذي بخصال الخير التي توجب رحمة الله وأعظمها بر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى ما عندك من الأبناء والبنات، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار) فأحسني إلى أبنائك وبناتك، واتقي الله في ليلك ونهارك، وأحسني إلى بعلك، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة: (فأيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) فأحسني إلى البعل وأكرمي العشير، فما رأيت من خير فاحمديه، واشكري الله عز وجل على ما كان منه من خير، وما رأيت من شر وسوء فاستريه لعل الله أن يسترك في يوم تنكشف فيه السرائر والفضائح.
أحسني إلى الجيران فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أحسني إلى الجيران بالإحسان إليهم بالمال بالإحسان إليهم بالدعوة إلى الخير بستر عوراتهم وتفريج كرباتهم، واحتسبي عند الله الجميل.
الوصية الأخيرة: أن تكفي اللسان، فإن اللسان مطية إلى النيران: (قال: يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!) أمسكي عليك اللسان، وإياك والقيل والقال، وما اشتمل عليه من الغيبة والنميمة، ولا تلمزي إماء الله، واتقي الله عز وجل في أخواتك المسلمات وثبتي القلوب على الطاعات تستوجبي من الله جزيل المكرمات والله تعالى أعلم.(51/34)
قسوة القلب
رقة القلوب مهمة في حياة الداعية وطالب العلم وغيرهما؛ لذلك جاءت هذه الكلمات النيرة لتوضيح وتفصيل الأمور التي تيسر السبيل إلى رقة القلوب، فلتلتزم علّ الله أن ينفع بها.(52/1)
أهمية القلوب التي في الصدور
الحمد لله علام الغيوب، مفرج الهموم والغموم ومنفس الكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب الأبصار والقلوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي بعثه بالهدى ودين الحق فأنار به السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك، ما آذنت شمس بغروب.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: إخواني في الله: في الجسد مضغة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها أنها (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) هذه المضغة هي محل نظر الرحمن، ومنزل التوحيد والإيمان، اختارها الله تبارك وتعالى لكي تكون محط الإيمان به، الذي هو أعز وأشرف صفة يتخلق بها عبد الله في هذه الحياة، وما قامت السماوات والأرض ولا كان الحساب والسؤال والعرض إلا لأجل الإيمان.
هذه المضغة: هي محل هذا الأمر العزيز عند الله عز وجل، ولو وجد الله في الجسد مضغة أعز عليه منها لجعلها مسكناً للإيمان والتوحيد.
لذلك أحبتي في الله كم نظر الله عز وجل إلى هذه القلوب، فأحبها وأحب أهلها، وكم نظر إلى هذه القلوب، فآذنها بغضب منه وعذاب.(52/2)
القلوب محل نظر الرحمن
القلوب هي محل نظر الرحمن، فكم من أمة اجتمعت على طاعة بينها كما بين السماء والأرض صلاحاً وفلاحاً بسبب القلوب، كم من أناس جمعتهم المساجد، وقاموا مع كل قائم وركعوا مع كل راكع وسجدوا مع كل ساجد، ولكن بينهم كما بين السماء والأرض؛ لأن القلوب اختلفت والأفئدة تباعدت، فأفئدة لا تعرف إلا الله، وقلوب ما سجدت إذ سجدت إلا لوجه الله، وقلوب ما انتصبت أقدامها إلا وهي ترجو رحمة الله، وقلوب ما نطقت بذكره ولا لهجت بشكره إلا وهي ترجو رحمة الله، إنها قلوب المخلصين، إنها قلوب المتقين العابدين، التي استقر فيها الخوف والخشية من إله الأولين والآخرين.
القلوب وما أدراك ما القلوب! هي الميزان عند الله عز وجل، حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد شارب الخمر الذي عصى الله ورسوله فطفق الصحابة يسبونه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم إنه يحب الله ورسوله) إنه يحب الله ورسوله، فظاهره الفسوق، وباطنه المحبة لله عز وجل، فكم من ظواهر تبطنت جواهر لا يعلمها إلا الله عز وجل، ورب أشعث أغبر ذي طمرين، إذا رأيته احتقرته في ملبسه، واحتقرته في منظره وهيئته، تبطن قلباً وأي قلب! له عند الله مكان وجلال وهيبة، لو أقسم على الله لأبره، ولو كاده أهل السماوات والأرض لأعزه الله وما أذله.
إنها القلوب التي اختارها الله عز وجل لكي تكون معادن الإيمان والإخلاص للرحمن، لذلك كم تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات، وكم حذرت في الكتاب والسنة وعلى المنابر من عظات باللغات، تقود هذه القلوب إلى الله وتدلها على رحمة الله، وتريد منها استكانة وخشوعاً وخضوعاً وذلة لله عز وجل.(52/3)
القلوب هي الميزان في صلاح العمل
أحبتي في الله: القلوب هي الميزان في صلاح العمل، هي الميزان في القرب من الله عز وجل والتعلق في الله عز وجل، حتى ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أبي بكر الصديق، الإمام الجليل، والصحابي الكريم، أفضل الصحابة وأعلاهم عند الله عز وجل مكاناً وشأناً، فدى رسول الله بروحه وماله، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مثواه، هذا الصحابي الجليل نال هذه المرتبة العظيمة بفضل الله، ثم بشيء وقر في صدره، وبإيمان ثبت في قلبه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنه لم يسبقكم بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في القلب) وما هو ذاك الشيء سوى اليقين والتعلق بالله رب العالمين، والاستكانة والذلة والإخلاص في العبودية لله إله الأولين والآخرين.
وليس هناك قضية يحتاج المؤمن إلى علاجها وصلاحها وإصلاحها مثل قضية قلبه وفؤاده، نحتاج إلى وقفة مع هذه القلوب، نحتاج إلى وقفة مع هذه الأفئدة التي طال بعدها عن الله وعظمت غربتها عن الله، فكم من شابٍ اهتدى واستمسك بسبيل المحبة والرضا، ولكن في قلبه من القسوة ما لا يشتكى إلا إلى الله جل وعلا، كم من شباب تفطرت قلوبهم وأفئدتهم حزناً يتمنون قلباً رقيقاً، يتمنون من الله عز وجل أن يرزقهم قلوباً تذل لوجهه وترق لجلاله وعظمته، حتى إذا ذكرت بالله اطمأنت وإذا بصرت بالخير اهتدت، فهي أمنية عزيزة عند عباد الله الأخيار.
صلاح القلوب ولينها ورقتها وخشوعها لله علام الغيوب، أعز أمنية وأشرف مطلوب.(52/4)
ضرورة الاعتناء بترقيق القلوب
لذلك أحبتي في الله! قسوة القلب ولينه، رقة القلب وغلظه، أمر عظيم، حتى إن الله عز وجل أخبر نبيه، أن صلاح أمور الدعوة إلى الله تقوم على رقة الداعية إلى الله، قال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولو كان قلبك قاسياً لانفضت هذه الجموع الرقيقة الرفيقة من حولك يا رسول الله.
لذلك أحبتي في الله! رقة القلوب يحتاجها أحب العباد إلى الله وهم أنبياؤه والهداة والدعاة إلى الله، وطلاب العلم، وعامة الناس وخاصتهم، وإذا لم تلن القلوب لله فلمن تلين القلوب؟ وإذا لم تذل القلوب لله فلمن تذل القلوب؟ وإذا لم ترق القلوب لكلام الله فلمن ترق القلوب؟ فبأي شيء تلين تلك القلوب؟ أحوج ما نحتاجه أن تكون هذه القلوب رقيقة، حتى إذا قيل لها: قال الله، خشعت واطمأنت وخضعت وأذعنت لله عز وجل، نحتاج إلى رقة القلوب حتى إذا وقف المؤمن تلك الوقفة التي تحتاج إلى القلب الرقيق عل الله أن يرفق به كما رفق بعباده، فيجد من الله نفحة من رحماته.
ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن: (أن الراحمين يرحمهم الله) وهل رحمة القلوب إلا بلينها؟!! بل ثبت في الحديث الصحيح عن المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم: (أنه مر عليه الأقرع بن حابس وقد وضع صبيه في حجره يقبله صلوات الله عليه وسلامه من حنان قلبه وفؤاده ولينه، فقال له: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت واحداً منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) أي أيُ شيء أملكه ما دام الله قد نزع الرحمة من قلبك.
فلين القلوب يحتاجه الوالد مع ولده، وتحتاجه الوالدة مع ولدها، أمنية عظيمة وغاية سامية كريمة، لا تصلح الأحوال إلا بها بإذن الله عز وجل، ومتى وجدت الأب ذا حنانٍ ورحمة بابنه وبابنته، وجدت ذلك البيت ترفل فيه السعادة، ومتى وجدته حليماً رحيماً بأهله وزوجه رحمه الله، فجعل بيته تضفي عليه السعادة خيراً كثيراً.
وكذلك إذا وجدت تلك الأم المسلمة المؤمنة الحقة تضفي على أبنائها حنان القلب النابع من رقة الفؤاد وجدت صلاح ذلك البيت وفلاحه، ومن هذا كله نعلم أن رقة القلوب وذلتها لله، نحتاجها في جميع شئوننا وفي جميع أحوالنا، حتى مع أهلينا وبناتنا.
يحتاجها الداعية إلى الله في دعوته، حينما يكون رحيماً بالناس رفيقاً بهم كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم، يحتاجها طالب العلم، حتى إذا جلس في مجالس العلماء، جلس بقلب يجل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهل توجد حلاوة طلب العلم إلا بعد ذلة القلوب ورقتها؟ ومتى وجدت طالب العلم يجلس في مجالس العلم، بقلب خاشع رقيق ذليل لله عز وجل، وجدت فيه سكينة ووقاراً وبهاء.
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [كان الرجل إذا طلب العلم ظهر ذلك في وجهه وفي يده وفي لسانه وفي تخشعه] أي: أصبح خاشعاً لله عز وجل.
إذاً: لا بد من رقة القلوب، ولذلك إذا عزبت هذه الخصلة الكريمة وغابت هذه الصفة التي هي صفة رحيمة عن الإنسان وأصبح قلبه بخلاف ذلك تدمرت حياته، وتنغص عيشه، وتكدر خاطره، وكان من العناء والبلاء ما لا يعرفه إلا رب الأرض والسماء، فما الذي أفسد الدعوة على الداعية إلا غلظه على العباد، وما الذي أفسد الزوجة على زوجها والزوج على زوجته إلا القلوب القاسية التي لا تراقب الله في المعاشرة الزوجية.
وكذلك ما أفسد الأبناء وجعل أبناء المسلمين يعيشون ليلهم في حيرة وقلق، حتى ضاع الأبناء وضاعت البنات عن الحنان والرقة والرحمة الأبوية، إلا فوات هذه الخصلة الكريمة، خصلة الكرام وأهل الإسلام: رقة القلوب وإنابتها إلى الله عز وجل.
أحبتي في الله: إذا غابت عظم البلاء واشتد العناء، وشهد الله عز وجل من فوق السماء، أنها سبب في البلاء وأي البلاء، بل إنه توعد من فقد هذه الخصلة بوعيد شديد، وعذاب من الله أكيد، فقال سبحانه وتعالى وهو الحميد المجيد: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] ويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، ويل لقلوب تسمع القرآن ولا تخشع عند سماعه، ويل لعيون ذكرت بكلام الله فلم تسح بالبكاء من خشيته، وويل لأسماء ذكرت بوعد الله ووعيده فلم تصغ لكلامه، ويل في الدنيا وويل في الآخرة.
ولذلك تجد أصحاب القلوب القاسية في عذاب من الله وعناء، ولو كان الواحد منهم على الفراش الوثير وفي العز والنعمة والخير والجاه والغنى، لكنه يحس أنه في قلق نفسي واضطراب شخصي، لا يقر قراره ولا ترتاح نفسه بسبب هذه الخصلة التي لا يحبها الله.
إذا قست القلوب وعد الله عز وجل أهلها بنكد العيش ونغصه وعذابه.
لذلك -أحبتي في الله- صفات القلب الحبيبة إلى الله، من أجلها ذلتها ورقتها وخشوعها لله، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل الله وضرع إلى الله أن يعيذه من قلب لا يخشع لوجهه، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع).(52/5)
الأسباب التي تعين على رقة القلوب
متى بلي الإنسان بقسوة القلب، تنغص عيشه بوعد من الله عز وجل.
لذلك -أحبتي في الله- يحتاج المؤمن إلى من يذكره بما يعين على رقة قلبه وفؤاده وما لانت القلوب بشيء مثل سؤال الله ملك القلوب أن يقلبها على الرحمة والرقة، فلذلك كلنا يسأل: كيف السبيل إلى رقة القلوب؟ وكيف السبيل حتى تكون القلوب رقيقة حليمة رفيقة، قريبة من الله، ترجو رحمة الله، وتخشع عند كلام الله، علها تفوز برضوان الله.(52/6)
السبب الأول: الدعاء
إن أعظم الأسباب التي تعين على رقة القلوب وذلتها لله: الدعاء، وما شرح الله صدر عبد بالدعاء إلا أعطاه مسألته، حتى قال بعض السلف: إني لأعرف متى يجيب الله دعائي، إذا شرح صدري لدعائه.
فالله من كرمه لا يشرح صدرك لدعائه إلا وهو متفضل عليك، فليكن أول ما يراه الله من العبد الذي يريد رقة قلبه وفؤاده أن يرفع الكف الصادقة إلى الله، ويسأله أن يهبه قلباً رقيقاً، فكم من أقوام كانت قلوبهم أقسى من الحجارة، ولكن ضرعوا إلى الله عز وجل فلانت، وما أعظم لينها! ولقد كان الرجل في الجاهلية الجهلاء من أعتى الناس وأشدهم فسقاً وفجوراً واعتداءً لحدود الله، ولكن ما إن رحمه الله برحمته ونفحه بفضله إلا وأصبح من أرق الناس قلوباً.
عمر بن الخطاب، كان رضي الله عنه في الجاهلية شديداً على الإسلام قوياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجاءت لحظة واحدة قلب الله قلبه، فأصبح من أرق الناس قلوباً، وكان رضي الله عنه إذا قام في الصف يتلو آيات الله خنقته العبرة حتى يُسمع نشيجه من ثالث الصف أو آخر القوم، وما ذلك إلا بفضل الله.
فأول ما يفعله الإنسان الذي يريد أن يكرمه الله برقة قلبه وفؤاده أن يدعو الله في صباحه ومسائه، وفي مظان الإجابة أن يرقق قلبه لذكره ويهبه القلب الرقيق الذي تستدر به رحمات الله، وتنال به الدرجات من عند الله عز وجل، قل: اللهم إني أسألك قلباً رقيقاً، واستعذ بالله عز وجل من قلب لا يخشع.(52/7)
السبب الثاني: تذكر منازل الآخرة
أما السبب الثاني الذي هو من الأسباب التي تعين على خشوع القلوب وذلتها لله تبارك وتعالى: أن يتذكر الإنسان منازلاً لا بد من نزولها، ومواطن لا بد من حلولها، أن يصير الإنسان من هذه الدنيا إلى دار قريبة ومنازل عجيبة، يعيش أشجانها وأحزانها، وبين أهلها في أتراحها وأفراحها، أن يزور المقابر وأن ينظر إلى أهل تلك المقابر بعين متفكرة متأملة، في تلك القبور المتدانية، والمنازل المتقاربة، والتي بينها من النعيم والجحيم ما لا يعلمه إلا الله.
كم من قبور تقاربت بينها وبين الرحمة والعذاب ما لا يعلمه إلا الله، قبور في أعالي النعيم، وقبور في دركاتٍ من الجحيم ينادون ولا مناد، ويستغيثون ولا مغيث، ويستجيرون ولا مجير، فينظر في أحوالهم ويتذكر كيف لو صار إليهم، وزف بين العباد إلى منازلهم، كم من قبور في الظلمات، وفي الكهوف ملئت أنواراً ورحمات، وكم من قبور حولها الناس يضحكون ويلعبون، ويسرحون ويمرحون، فيها العويل والصراخ، وفيها الفزع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ما نظر المؤمن إلى هذه المنازل ولا تفكر في هذه المواطن إلا جاءه قلبه خاضعاً وفؤاده من خشية الله ذليلاً خاضعاً والعين من خشية الله دامعاً.
أحبتي في الله: ما دخل ذكر الآخرة إلى قلب إلا لان لله عز وجل، فالمؤمن الصادق لزيارة المقابر حظ عنده، يزورها ما استطاع زيارتها، ويقف عندها وكأنه من أهلها، ينظر إلى الإخوان والأخوات، ينظر إلى الأحباب، والأصحاب والخلان، والآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد، وينظر إلى ما هم فيه، ويتفكر كيف هم فيه، عله أن يكسر الله عز وجل قلبه من خشيته، فوالله ما استقر ذكر الآخرة في قلبٍ إلا أناب إلى الله، وما الذي أقض مضاجع الصالحين فكانوا {قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] غير ذكر الآخرة، تذكروا منازلها، وعاشوا بين أهلها، فكان حظهم من الليل قليلاً، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ لعلمها أنها ستضطجع في تلك المضاجع.
لذلك أحبتي في الله: فإن كان القلب قد وجد الرقة في هذا المشهد وتذكر هذه المنازل وعاش بين أهلها في السرور وفي الشرور، عندها يجد الإنسان رحمة الله بلين قلبه، فإن أصر القلب على العناد واستمر في القسوة عن ذكر رب العباد فخذه إلى منزلة من هذه المنازل، وذكره بصيحة تفزع فيها تلك القبور، وتبتدأ عندها معالم الهول والنشور، ذكره بتراب ينفض عن الأجساد، وبخروجهم من بين تلك الأحجار والأشجار والأعواد فرادى إلى الله، مرتهنين بالأقوال والأعمال، عله أن يرق من خشية الله ويخضع وينيب إلى الله، فإن أبى وأصر! فذكره بمقام طويل وشمس تدنو على الرءوس، ويذكر الجسد بحر شمس الدنيا علَّه أن يحس ببعض لهيبها، لعله أن يتذكر طول القيام بين يدي الملك العلام، فعندها يأبى ذلك القلب إلا خضوعاً وذلةً لله عز وجل، فإن أبى فذكره بالصراط وزلته، والحساب وشدته، والسؤال ومؤنته، وذكره بذنوب خلت في أزمنة مضت، لا يدري المؤمن هل كفي حسابها، وهل ستر عقابها.
ذكره بالخطايا والذنوب والرزايا، عله أن يعي مكانه عند الله، ويعلم أن المقام بين يدي الله شديد عليه، فيذل لله عز وجل وينطرح بين يديه، ذكره هذه المشاهد، وأقم له هذه المواقف، عله أن ينكسر من خشية الله، ووالله ما استقر خوف الآخرة في قلب عبدٍ إلا أناب إلى الله عز وجل.
وما أخبار السلف وأخبار من مضى من الصالحين هذه الأخبار العجيبة ما كانت ولن تكون بشيء أعظم من توفيق الله عز وجل ثم ذكر الآخرة.(52/8)
السبب الثالث: تلاوة القرآن مع التدبر
وأما السبب الثالث الذي يعين على رقة القلوب: فـ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، كتاب لو نزلت آياته على الجبال لاندكت ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، عرضت أماناته وعباداته ومعاملاته على {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
هذا الكتاب الذي سمعته الجن فقالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2].
هذا الكتاب ما إن تصغي أذن إليه وتستحضر مجلساً يذكر به العبد بآياته وعظاته إلا وأثر في الفؤاد، ولذلك أخبر الله عز وجل عن حال من تدبر هذا القرآن وتفكر به، وأنه يجني ثماره الخيرة في دينه ودنياه وآخرته، فقال تقدست أسماؤه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] ما استطاع الواحد منهم أن يتمالك دمع عينه؛ بسبب ما وقر في قلبه من كلام الله عز وجل، كتاب الله حبله المتين، الذي ما تمسك به أحد إلا نجا، جعله الله شفاء لما في الصدور، وموعظة من الله عز وجل الجليل الغفور.
هذا الكتاب إذا أردت أن يخشع قلبك ويلين لله عز وجل فأكثر من تلاوته، وإذا تلوت القرآن فاعمل ما يأتي: أولاً: تتلوه وأنت ترجو رحمة الله عز وجل، إذا وضعت القرآن في حجرك فضعه وليس في قلبك إلا الله، ضعه وأنت تحس أن الله يخاطبك، ضعه وأنت تحس بأنها رسالة جاءتك من ملك الملوك، حتى إذا وضعته بذلك القلب المخلص الذي لا يريد إلا رحمة الله، لو أن الخلق أمامك فإنك تتمنى لو قرأت القرآن بينك وبين الله من إخلاصك وعمارة قلبك بالإخلاص.
فأول خصلة لمن يريد أن يخشع قلبه لذكر الله أن يكون مخلصاً في تلاوته.
ضع القرآن وأنت تتفكر وتستشعر عظمة هذه الرسالة وعظمة من أُرسل بها وعظمة من أرسله، حتى إذا جلست بهذا الشعور وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أحسست أنك بحاجة أن يعصمك الله عز وجل من عدوك اللدود، فجاءك من الله التيسير والفتح، فأصبحت في حرز وحصن من الله، تستفتح الآية الأولى وأنت تتدبرها وتتفكر فيها، وتستشعر معانيها، والله إن الآية من كتاب الله، إذا تليت بقلب يستشعر معناها ويحس ما فيها، والله قد تبقى مع الإنسان سنين عديدة، آية واحدة من كتاب الله: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11].
كل الآخرة يجمعها لك في آية واحدة، وكل الدنيا خيراً وشراً نفعاً وضراً في آية واحدة، فإذا قرأتها وأنت تستشعر عظمة هذا الكتاب وتتفكر في هذه الآية التي تتلوها، فإنه في بعض الأحيان إذا كان الإنسان يستشعر لذة هذا القرآن وحلاوة آياته لا يستطيع أن يجاوز آية واحدة.
والله لو أن القلوب صادقة في تلاوة كتاب الله، لما استطاعت أن تجاوز آية من الوعد والوعيد من كلام الله عز وجل، ولذلك كان بعض السلف يستفتح قيام الليل بآية لا يزال يرددها والبكاء يغلبه.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه استفتح قيام الليل فقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] فما استطاع أن يكملها وهو يرددها من البكاء ويغلبه النشيج {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] عن أي شيء يتساءلون، فسمت نفسه إلى عالم غير العالم الذي هو فيه {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:2 - 5] من يقرأ هذه الآيات؟ كيف يكون أثرها في قلبه؟ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 - 11].
أبان لك عاقبة الجماد والحي؟ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:1 - 4] هذا هو الشخص المطلوب {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة:4] الأمة المحشورة والمنشورة، أول قضية هي قضية العبد المسئول.
ثم كأن سائلاً يسأل: عرفنا مصير الخليقة فما مصير هذا الجماد؟ قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] ولذلك ما نظرت عين إلى الجبال فنظرت طولها وارتفاعها في عنان السماء إلا احتقرتها عند عظمة الله عز وجل، حينما تتذكر هذه الآية: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] كالعهن المنفوش أي: كالصوف المنفوخ الذي لا يستقر حاله.
هذه الجبال الراسيات حينما يتذكر الإنسان في هذه الآيات اليسيرة كيف لا يرق قلبه، وكيف لا يخشع فؤاده، والله إن قلباً يقرؤها ولا يجد أثرها إنه من القسوة بمكان، إذا قرأها الإنسان ولم يجد لها أثراً في فؤاده فليبك والله على قلبه وفؤاده.(52/9)
الاستكثار من الصالحات وذكر رب البريات
وأما السبب الرابع الذي يعين على رقة القلوب وقربها من الله عز وجل: الاستكثار من الصالحات وذكر رب البريات، فوالله ما أدمن عبد طاعة الله إلا شرح الله صدره لطاعته، وكم من أناس اهتدوا وابتدءوا طريق الالتزام وهم في قسوة وبعد عن الله، وما زالوا يتدرجون في الصالحات حتى أصبح الواحد منهم إذا تلا الآية لا يتمالك عينه، ولذلك يستكثر الإنسان من خصال الخير، فإن الاستكثار منها تنشرح به الصدور، وتطمئن بها للحليم الشكور.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم رقة القلوب وخشوعها، وإنابتها لوجهه وخضوعها.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن علم لا ينفع، نعوذ بك من هؤلاء الأربع.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(52/10)
الأسئلة(52/11)
أفضل الكتب المرققة للقلوب
السؤال
ماذا تنصح من الكتب في أحوال القلوب جزاك الله خيراً؟
الجواب
هناك كتاب حبذا لو أن الإخوان يكتبونه وينتبهون إليه ويحصلون عليه وهو القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي أضعناه يا عباد الله! نبحث عن كتب القصص والأحداث والأخبار وكلام العباد، ولدينا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
يا ليتنا نحس بقيمة هذا الكتاب، وبأثره، الذي إذا لقيت الله وقد أوصيتك به وأنا أحس أني أوصيتك بركن شديد وأمر رشيد، وأسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهله.
إذا كنت من أهل القرآن فأبشر، يصلح حال قلبك، ويصلح حال قالبك، فلا نعطيك حال القلوب فقط، بل نعطيك ما يصلح القلوب والقوالب، وذاك في كتاب الله عز جل.
وأما كتب السلف فهي كثيرة، وقصص السلف وأخبار السلف، تعين أيضاً على رقة القلوب وسير أهل الصلاح والفلاح وتقوى الله عز وجل فيها خير كثير، وكلما كان الإنسان حريصاً على قراءتها وتدبرها كلما كان أحظ الناس بالانتفاع بها، والله تعالى أعلم.(52/12)
كيفية استغلال الوقت
السؤال
ما هو البرنامج العملي للمسلم حتى يكون مستغلاً وقته في كل وقت وفي كل حين؟
الجواب
أما البرنامج العملي الذي إذا فعله الإنسان كان من أسعد الناس وأحظ الناس كسباً لوقته وحاز رضا الله عز وجل فهو يتلخص في جملتين: الأولى: لا يراك الله حيث يحب أن يفقدك.
الثانية: لا يفقدك الله حيث يحب أن يراك.
أمران: لا تكن في موضع يحب الله أن لا يراك فيه، وتحب أن تقدم على الله في الآخرة وأنت سالم من هذا المرض، ولا يفقدك في موضع يحب أن يراك فيه.
أما أن أضع لك برنامجاً عملياً في الأقوال والأعمال، فهذا من الصعوبة بمكان، فالناس يختلفون، فالعامي ليس كطالب العلم، وطالب العلم ليس كالعالم، ثم العامة أنفسهم على مراتب، فوضع برنامج معين من الصعوبة بمكان، ولكن كلمة واحدة: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
واحفظ وصايا الله التي أوصاك بها فيما بينك وبينه، ووصايا الله التي أوصاك بها فيما بينك وبين عباده، ووصايا الله التي أوصاك بها سراً وعلناً، ليلاً ونهاراً، إذا فعلت ذلك فهذا هو البرنامج الذي يرضي الله عنك، وكله ينحصر في هاتين العبارتين التي عبر بها بعض السلف في تحصيل التقوى فقال: لا يفقدك حيث يحب أن يراك، ولا يراك حيث يحب أن يفقدك.
وكل ساعة مرت عليك تذكر لو أنك واقف بين يدي الله هل يسرك أو يسوءك أنك جالس هذا المجلس، فإن كان يسرك فاجلس رحمك الله وطاب مجلسك، وإن كان يسوءك فقم عن ذلك المجلس لوجه الله، خائفاً من عذاب الله، والله تعالى أعلم.(52/13)
كيفية الخشوع في الصلاة
السؤال
ما هي أفضل الطرق لجعل قلوبنا خاشعة وخاصة إذا تليت عليها آيات الله في الصلاة؟
الجواب
يذكرون ذات مرة أن رجلاً حكم القاضي عليه بالحجر؛ -الحجر: أن يمنعه من التصرف في ماله- وكانوا إذا حكم القاضي بالحجر على أحد، يدورون به في السوق، ويقولون: لا أحد يدين هذا ولا يعامل، أي لا يعامله مالياً، فإن عامله أحد بعد ذلك فلا يلوم إلا نفسه، واستأجروا له -أكرمكم الله- حماراً، وداروا به يومه كله، ينادون ويناد المنادي: لا أحد يقرض فلاناً فإن القاضي قد حجر عليه، فلما أمسى المساء جاءه صاحب الحمار وقال له: أين الأجرة؟ قال: ما أجهلك! ما الذي كنا فيه من الصباح؟! حاشاك أخي في الله! لا والله لا أقول: ما أجهلك! ولكن أقول: ما أحبك في الخير! وما أرجاك لرحمة الله والمزيد من ذكر الله! بارك الله فيك وكثر الله أمثالك، ولكن العلاج الذي كنا فيه، وقد يكون الأخ معذوراً، بأن يكون جاء متأخراً ويريد أن نعيد المحاضرة، ولكن على كلٍ هذا الذي كنا فيه وهو ما تنشرح به الصدور وتنيب به إلى الغفور الشكور، فإن الإنسان إذا وفقه الله إلى تحقيق الخصال التي ذكرناها والآداب التي أشرنا إليها، فإنه بتوفيق الله سيكون قلبه خاشعاً.
أما مسألة الصلاة فذكر العلماء رحمهم الله: أن الخشوع في الصلاة لا يكون بشيء مثل التدبر في نفس الآيات التي تتلى، عجيب أمر إنسان لا يخشع في الصلاة! إذا قال الإمام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] تذكر العالمين، هذا الوصف الذي وصف الله عز وجل به نفسه، رب العالمين الأولين والآخرين الذي رباهم وغذاهم وأولاهم تفضلاً منه وتكرماً، فإذا قال القائل أو قلت بلسانك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أحسست بعظمة هذا الذي يحمد وأحسست بجلال هذا الذي يحمد، فإذا قيل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] تذكرت من يرحمك وأنت على معصيتك، فيسترك ولو أذن للأرض أن تنخسف بك لانخسفت، ولو أذن للسماء أن ترسل عليك قاصفاً لأرسلت، فتقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] بقلب يستشعر معنى هذه الآية.
وعندما تقول {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وإذا بك تنتقل إلى عالم آخر {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ذاك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا أحساب ولا أنساب، ولا إخوان ولا خلان ولا أحباب {فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
فإذا قيل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] خرجت إلى ذلك العالم، وأحسست بعالم الآخرة، من الذي يملك الأمر فيه، من الذي يأمر وينهى فيه، من الذي إذا قال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] لن يستطيع أحد أن يقف بين هذه الكلمة وبين تنفيذها، في طرفة عين لا يمكن أن يرد حكمه، أو يعقب قضاؤه، يحكم ولا معقب لحكمه، وإن قال: خذوه إلى درجات النعيم صدق عبدي، فما أسعدها من لحظة وما أبهجها من ساعة! لن يستطيع أحد أن يحول بينك وبين ذلك النعيم المقيم، الذي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله.
ولذلك أخي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] لو كان في الصلاة ما يقال إلا: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فإنه يكفى والله.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لك نذل وبك نستعين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] من الذي تشكو إليه إذا جاءتك الهموم والغموم في ظلمات الليل يكون بجوارك الناس فلا تستطيع أن توقظ زوجتك التي بجوارك على الفراش، ولم تستطع أن تشكو بثك وحزنك إلى ابنك القريب منك، من الذي تناديه؟! ومن الذي ترجوه لتفريج الآلام التي تعانيها والأشجان التي تجدها غيره سبحانه وتعالى؟! وكيف تجده حينما تناديه؟ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] بالاستغاثة والاستجارة وسؤال خيري الدنيا والآخرة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ونعم والله المعين.
كم من وقفة وقفت فيها وحيداً فريداً كان الله معيناً لك وكان الله سنداً لك، فكيف وجدته جل شأنه، ضاقت بك الدنيا في أموال فسخرها الله لك من حيث لا تحتسب، وضاقت عليك في هموم وغموم، فاستعنت به فكان نعم المعين، فأعانك وأولاك.
فإذا قلت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تذكرت ديوناً لله ما قضيتها، وهموماً وغموماً لله ما شكرتها، فتقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأنت تحس بعظمة الله تعالى رب العالمين.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فتذكر أن بلاءك وعناءك يقف على شيء واحد: صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، والله لو كتب الله للعبد الضلال لن يستطيع أن يهتدي، ولو كان من أصلح العباد قلباً فيختم له في آخر لحظة بخاتمة السوء، ولو أراد الله الهداية وكان العبد في دركات الجحيم والغواية، لانتشله الله منها فختم له بخاتمة السعادة والفوز العظيم.
إذاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هي سعادتك في الدنيا والآخرة، وهي التي من أجلها نزل القرآن.
الهداية إلى الصراط المستقيم، من أجلها نزلت الكتب، وأنزلت الرسل.
وإني أفسر هذه الآيات حتى أدلك كيف تخشع في الصلاة، تخشع لأن ما عندنا قلوب نتفكر، كتاب الله يتلى ولا أحد يعي، نعم هذه الآيات لو تليت بقلوب تتفكرها وأفئدة تتدبرها وجدت حلاوتها، وسرعان ما تخشع لله.
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] من هم يا رب الذين أنعمت عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، قل لي بربك: لو شرح الله صدرك، فأصبحت تسير على نهج الرسول في قولك وفعلك وعملك واعتقادك: أي سعادة أعظم من هذه السعادة؟! اللهم إنا نسألك هذا المقام وهذه المكانة العظيمة، فلذلك تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقلبك كله أمل في الله أن يبلغك هذا الأمر، صراط أولياء الله وأحباب الله حتى تكون أطيب الناس كلاماً وأطيبهم فعلاً وأكملهم استقامة في الظاهر والباطن لله رب العالمين.
ثم تقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وقلبك يرجف من خشية الله {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم اليهود الذين لعنهم الله في الدنيا والآخرة فأصمهم وأعمى أبصارهم، فكانت الآيات تنزل عليهم وما تفيدهم شيئاً، قال الله عنهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] (أو) هنا بمعنى (و) فهي تأتي في لغة العرب بمعنى الواو أي: وأشد، فالله تعالى قال: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] والله تعالى لا يشك، فمعنى قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] أي: وأدنى، ومعروف في لغة العرب أن (أو) تأتي بمعنى: (و) فقال تعالى: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] فتقول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وأنت تتعلق بالله أن لا يبتليك بما ابتلاهم من الضلال.
ثم تقول: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فرطوا وغلوا، وكم من أمة غلت في أنبيائها وفي الصالحين من أهلها حتى أصابهم غضب الله وسخطه -والعياذ بالله- ولذلك قال الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:1 - 5] نسأل الله السلامة والعافية.
وقف عمر رضي الله عنه على عابدٍ راهبٍ في كنيسة يتعبد فدمعت عينه، فقالوا له في ذلك وعتبوا عليه الدمعة، يظنون أنه رق لعبادة النصراني، قال: لم أرق لعبادته، ولكني ذكرت قول الله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:1 - 4].
فلذلك يقول الإنسان: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالين الذين زين لهم سوء أعمالهم فكانوا على الضلال: ضلال في الهدى، وفي الأهواء، فالضلال يكون أكمل ما يكون على الكفر والزندقة، ويكون على ما دون ذلك، وهو مراتب منها: البدعة والأهواء، فتجد الشخص يعمل البدعة وهو يظن أنه أقرب الناس إلى الخير، نسأل الله أن لا يطمس لنا ولكم بصيرة، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاهتداء بهدي السلف الذي هو صراط الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
فإذا تدبرت هذه الآيات ووقفت مع هذه العظات لان قلبك، ثم ما جاء بعد ذلك من فضل، وجاء من الزيادة من كلام الله، زادك خشوعاً إلى خشوعك.
ويحاول الإنسان الذي يريد أن يخشع في صلاته قدر استطاعته أن يتعاطى الخشوع، ولو أن يتكلف ذلك بالضغط على نفسه.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم كمال الخشوع بين يديه، والله تعالى أعلم.(52/14)
أسباب زيادة الإيمان ونقصانه
السؤال
ما هي أسباب زيادة الإيمان ونقصان الإيمان؟
الجواب
مذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا كان الإنسان من الله قريباً محافظاً على حدوده ومحارمه، ازداد إيمانه وقوي في الله يقينه.
وأما إن كان بعيداً عن الله مضيعاً لحقوق الله منتهكاً لمحارم الله ضعف إيمانه -نسأل الله السلامة والعافية-، ومن ثم ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال بعض العلماء: لأنه لا يفعل ذلك إلا وقد انتقص الإيمان من قلبه -والعياذ بالله-، فإذا أردت أن يزداد الإيمان في قلبك فلا طريق أمثل من تلاوة كتاب الله وتدبره، ولذلك أخبر الله عز وجل في كتابه: أن القرآن يزيد الذين آمنوا إيماناً ويزيد الذين اهتدوا هدىً وصلاحاً، فإذا أحببت أن يزيد الله في إيمانك فاتل كتاب الله مع التفكر والتدبر.
أما الأمر الثاني: فهو فعل فرائض الله وترك محارم الله، تحرص كل الحرص إذا جاءك أمر عن الله أن تفعله، فإذا كنت من أسبق الناس وأحرص الناس على فرائض الله، ازداد إيمانك، وجرب من الليلة كلما دعيت إلى خصلة من خصال الخير كنت من أسبق الناس إليها وإذا بك بعد فترة معلق بطاعة الله عز وجل، وبالإيمان شعلة تضيء في قلبك، لا ترتاح إلا للخير، حتى تبلغ المنزلة التي نسأل الله العظيم أن يبلغنا جميعاً إياها، أن تذوق حلاوة الإيمان، فيكون الإيمان أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، ولا تكون إلا بحفظ أوامر الله وترك محارم الله.
من الليلة إذا دعيت إلى أي فريضة، تحرص على أن تكون أسبق الناس إليها، تدعا إلى الصلاة فتبكر إليها، تحافظ على وضوئها وطهارتها وخشوعها وركوعها وخضوعها وأذكارها وسننها وآدابها، بقدر ما تحرص على هذه الأوامر كلما كنت أقرب الناس إلى الإيمان، وأعظمهم حظاً في الإيمان.
وكذلك حقوق الله التي أمرك الله بها في العباد من صلة الأرحام، وأداء حقوق الموظفين والعمال الذين تحت يدك تؤديها على أكمل ما يكون عليه الأداء، إنك إن فعلت ذلك لم تمض فترة إلا والإيمان تخالط بشاشته قلبك، ولذلك ما من إنسان يحافظ على فرائض الله إلا كان أقرب الناس إلى طاعة الله.
الأمر الثاني: أن تكون أعف الناس عن الحرام، وأبعدهم عن معصية الله عز وجل، إذا أردت الإيمان أن يكمل في قلبك، وأن تكون ممن ذاق حلاوته ووجدت أثره في فؤادك فكن أبعد الناس عن الحرام.
إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد نظرت ومتعت النظر في حد من حدوده أو عورة من العورات التي لا يجوز لك النظر إليها.
إياك إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد أصغيت بسمعك إلى أمر لا يأذن الله لك أن تصغي إليه.
إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد خبطت قدمك على الأرض إلى حد من حدوده أو حرمة من محارمه.
إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد امتدت يدك بمال لا يحل لك تمدها به، أو قبضتها على مال لا يحل لك أن تقبضها عليه.
إياك إذا أردت حلاوة الإيمان تكون على عفة عن الآثام والحرام، فما أطفأ الإيمان شيء مثل المعصية، ولا أظلم الإيمان في القلوب مثل المعصية، ولا تزال المعصية تلو المعصية حتى يستدرج العبد فيسلب الإيمان كله -والعياذ بالله-.
لذلك كان السلف يخافون من المعصية، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: (إياكم -أي احذروا، وهذا أسلوب عند العرب يعتبرونه أسلوب التحذير- ومحقرات الذنوب) ذنب وراء ذنب، حتى يهلك الإنسان بتراكم الذنوب عليه.
تشرب شيئاً يسيراً من الحرام، وتقول: هذه واحدة، وإذا بالواحدة تدعو إلى أختها، ثم الأخت إلى أختها، ثم إلى كأس من حد من حدود الله، وبعد الكأس سفك للدماء وانتهاك للأعراض، واسترسال في حدود الله ومحارمه، وعندها لا يبالي الله بك في أي أوديته هلكت.
فلذلك يحذر الإنسان الذي يريد الإيمان أن يبقى في قرارة قلبه فليحرص على هذين الأمرين: التزام الفرائض ويكون أسبق الناس إليها وأحرص الناس في فعلها وتطبيقها على هدي الشرع، فتعلم سنن النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه رجلاً كان أم امرأة، ويكون الرجل وتكون المرأة على أكمل ما يكون عليه المؤمن وتكون عليه المؤمنة، فالإيمان يحتاج إلى هذا العمل.
الأمر الأخير في الإيمان: اعلم أن الإيمان يريد رجالاً صادقين، يريد أمة تعرف قيمة المعاملة مع الله عز وجل، أهل الإيمان لا يعرفون الخور والضعف والوهن، يبقى الإنسان أسيراً أمام معصية يقال له: اتركها لوجه الله.
يقول: ما أستطيع، هذا ليس بإيمان؛ فالإيمان رجولة كاملة، والله تعالى يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] قالبه في الأرض وقلبه في السماء، يدور مع أوامر الله عز وجل، إن تكلم كان أصدق الناس كلاماً، وإن سمع كان سمعه أعف ما يكون عن محارم الله، وإن تقدم أو تأخر أو أقبل أو أحجم على خير ما يكون عليه حال المرء.
هذه هي خصال الإيمان مع دعوة الرحمن وسؤال الواحد الديان، أن يجعلك من أهل الإيمان، ونسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم كماله، وأن لا يسلبنا وإياكم حلاوته إلى لقائه، والله تعالى أعلم.(52/15)
ويؤثرون على أنفسهم
الأخوة في الله من أجل القربات إلى الله، لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس هذه الأخوة في مطلع دعوته، فكان أصحابه خير قدوة لنا في هذا الأمر، ثم سار على ذلك النهج التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وتظهر أعلى مراتب الأخوة بالإيثار الذي هو علامة على صلاح المجتمع.(53/1)
فضل الأخوة في الله وصفات المتآخين فيه
الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، وصرف قلوبهم في طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار من مهاجرين وأنصار، وعلى جميع من سار على نهجهم واقتفى آثارهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: الحمد لله الذي جمعني معكم في هذا البيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله.
الحمد لله الذي شرح بالقرآن صدورنا، وأنار بالإسلام قلوبنا.
الحمد لله حمداً وهو أهله، والشكر لله جميعه وكله.
يعلم الله حبي لكم في الله وشوقي إلى هذا المجلس من مجالس ذكر الله، شَكَرَ الله مسعاكم، وقرن بالجنة طيب خطاكم.
وأسأل الله العظيم أن يجمعنا بكم في جنان النعيم حيث الحفاء والتكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إخواني في الله: إن الأخوة في الله والدين من أوثق عرى الإيمان بالله رب العالمين.
إنها الأخوة بكل ما تدل عليه من معاني الحب والوفاء والود الصادق والإخاء.
إنها الأخوة التي سار عليها سلف هذه الأمة من الماضين من العلماء العاملين، وطلاب العلم الصادقين، والأخيار والصالحين، ساروا على نهجها متحابين متآلفين، ساروا على نهجها متعاطفين متراحمين، ساروا على نهجها متناصرين متآزرين، يوم كان المسلمون كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)! يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه! يوم كان القرآن وكان جيله! يوم كانت عيون المسلمين تسح بالبكاء والدموع لدموع إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها! يوم جمع الله القلوب على هذا الكتاب العظيم، وعلى هذا النور الكريم! فسبحان من جمع شتاتها! وسبحان من ألَّف بينها! وسبحان من وحَّد كلمتها! سبحانه! ما أعظم شأنه! يوم كان الإسلام وكان رجاله! يوم كان القرآن وكان رعيله وأجياله!(53/2)
صور من أخوة الصحابة وإيثارهم على أنفسهم
ولقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة الصادقة في قلوب المهاجرين والأنصار، يوم وقف الأنصاري أمام أخيه المهاجر فقال: أخي! هذا مالي بيني وبينك، هذه دنياي! نصفُها لي ونصفها لك، هاتان زوجتاي! انظر إلى أحسنهما أطلقها وهي لك.
فالله أكبر! ما أعظم سلطان الإيمان على القلوب! والله أكبر! ما أعظم سلطان القرآن على القلوب! والله أكبر يوم استجابت! والله أكبر يوم أذعنت وأسلمت! يوم كان المسلم مسلماً مستسلماً لله منقاداً ذليلا طائعاً! يوم كان ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً شديداً على الكفار وأعداء الدين، يوالي في الله رب العالمين، إخوته على نهج الإيمان والدين! يوم كان أولئك الأجيال يوم كان أولئك الأبطال يوم كان أولئك الرجال الذين زكاهم الكبير المتعال من فوق سبع سماوات.
وقف رجل من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء في ظلام الليل، في زمانٍ شديدٍ أَمْرُه فقال: يا رسول الله! إني مجهود -أي: بلغ بي الجوع والظمأ ما بلغ- فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين وزوجة من أزواجه -رضي الله عنهن أجمعين-: هل عندكم طعام؟ فأرسلت إليه: والله ما عندنا شيء إلا الماء، فلما رجع رسولُها أرسله إلى زوجة ثانية، فقالت: والله ما عندنا من شيء إلا الماء، فأرسله إلى الزوجة الثالثة، فقالت: والله ما عندنا شيء إلا الماء، حتى انتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -فصلوات ربي وسلامه عليه يوم خلا بيته من الطعام، ومُلِئ حكمةً وإيماناً من القرآن- فلما جاء الرسول من عند آخر زوجة وأخبره بأنه لا طعام، قام في أصحابه فقال: مَن يستضيف هذا أو يطعمه رحمه الله؟ فقام أبو طلحة، وأخذ بضيف النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى طعامه وطعام أهله وزوجه، وقرع الباب على تلك المؤمنة الصالحة فقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم -فرحَّبَتْ وابتهَجَتْ وسُرَّت- وقالت: والله ما عندنا من طعام إلا طعامي وطعامك وطعام الصبية، فقال لها: أطفئي السراج ونوِّمي الصبية، فلما أُطْفئ السراج ودنا الضيف إلى الطعام جعل أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه يتظاهر بالأكل، كأنه يأكل حتى أتى الضيف على الطعام كله، وبات أبو طلحة جائعاً، وباتت زوجه جائعة فلما غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -غدا إليه جائعاً، غدا إليه مُقْفِر الأحشاء طاوياً؛ ولكن غدا إليه بقلب يحب الله ورسوله، غدا إليه بإيمان، وببر وطاعة وإحسان، غدا إليه بالإيثار- ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، تهلَّل وجه النبي صلى الله عليه وسلم بالبشر والسرور فقال لـ أبي طلحة تلك البشارة العظيمة: (عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة!) الله أكبر! ملك الملوك وجبار السماوات والأرض يعجب من الإيثار! يعجب من الأخوة الصادقة من الأنصار! يوم جاعت الأحشاء والأمعاء؛ ولكن مُلِئت القلوب بحب الله فاطر الأرض والسماء! عجب الله -والعجب صفة من صفاته كما يليق بجلاله وكماله- عجب الله من الإيمان! وعجب من التسليم والإذعان! وعجب من الصدق والبر والإحسان من أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه! وما هي إلا لحظات حتى ينزل جبريل من السماوات بثناء الله جل وعلا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على ذلك الصادق الطاهر، وذلك الذي تبطن في قلبه الجواهر من تلك المعاني السامية، {وَالَّذِينَ تَبَوَّئُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
هنيئاً بهذه الشهادة! هنيئاً بمن شهد الله له بالإيثار! وشهد له بالصدق في المحبة والعبودية لله الواحد القهار! طبتَ وطاب غناك! وطبت وطاب ممشاك! وطبت وطاب بذلك لله جل جلاله! إنها المعاني الكريمة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبِ الصحابة؛ قلوبِ أولئك الأخيار من المهاجرين والأنصار، قال يوماً من الأيام للأنصار: (هلمُّوا أعطيكم مالاً من البحرين، فقالوا: لا والله حتى تقسمه بيننا وبين المهاجرين) يميناً وطئت بها الدنيا بالأقدام المؤمنة، أولئك الذين آمنوا، أولئك الذين صدقوا، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج من الدنيا إلا والصحابة قد تغلغل في قلوبهم هذا المعنى الكريم، تغلغل في قلوبهم حب المؤمنين، والتذلل لعباد الله المتقين، تغلغل في قلوبهم ذلك المعنى الذي أخبر الله بحب أهله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54].
فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والأخ يشد أزر أخيه، وفي طاعة الله يثبته ويواسيه.
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم محافظون على الأخوة وعَهْدِها، محافظون على الأخوة وبِرِّها وودادِها، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه يقول: [والله إني لأدعو لسبعين من أصحابي؛ أسميهم رجلاً رجلاً في سجودي] هذا هو الحب الصادق، والحب في الله، والموالاة في الله يوم أن كانت الدنيا تحت أقدامهم.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: [أُهْدِي إلى رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأسُ شاة وهو جائع ومحتاج، فلما وضع الرأس بين يديه قال: اذهبوا به إلى فلان، فوالله إنه لأحوج إليه مني، فحُمِل ذلك الرأس إلى أخيه، فلما وُضِع أمامه نظر إليه والجوع يكويه فقال: اذهبوا به إلى فلان فوالله إنه لأحوج إليه مني، ثم انتقل إلى الرجل حتى عاد إلى الصحابي الأول، قال رضي الله عنه وأرضاه: سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتداولونه].
كانوا -يوم كانوا- يؤثرون الآخرة! كانوا وكأنهم في السفينة الماخرة إلى لقاء الله والبرزخ والدار الآخرة، فقد هانت عليهم الدنيا، وكان الإيمان في قلوبهم أسمى وأسنى وأعلى وأبهى من حطام الدنيا الزائل، ومتاعها الفاني الحائل.(53/3)
صور من الأخوة والإيثار عند التابعين
ولقد غرس أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الكريمة، والمعاني الجليلة في قلوب التابعين الأخيار، فهذا إمام من أئمتهم يقول: [والله لو جُمِعَت لي الدنيا في لقمة واحدة، وجاءني أخ في الله لوضعتها في فمه ولا أبالي].
وهذا علي زين العابدين؛ إمام من أئمة التابعين، وسيد من سادات العلماء المجتهدين، كان رحمه الله طيباً بن طيب بن طيب؛ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين؛ عنه وعن أبيه وعن جده {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34].
يسمونه: زين العابدين؛ لِزَيْنِ عبادته، وكمال خشوعه بين يدي ربه.
كان إذا توضأ احمرَّ وجهُه واصفرَّ وتغيَّر، فقيل له ذات مرة: [ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون مَن أناجي؟! ألا تدرون مَن أقف بين يديه؟!] وهو الله جل جلاله.
وكان إذا أراد الحج والعمرة ولبس إحرامه فقال: [لبيك] خرَّ مغشياً عليه، وذات مرة قال: [لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، ثم أفاق، فقال: لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، فلما كان في الثالثة قيل له: ما هذا يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك!].
وكان حَيَّ القلب، نقيَّ العبادة، نقيَّ الجوهر رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الإمام الجليل كان إذا جنَّ الليل، حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام في شدة الظلام؛ ليشتري به رحمةَ الله جل جلاله، وكان يتَلَثَّم فلا يعرفه أحد، فلما توفي -رحمه الله- فَقَدَ أكثرُ مِن ستين بيتاً من بيوت المسلمين وضعفائهم رجلاً كان بالليل يطرق عليهم بالطعام.
هذا الإمام كان وحده -رحمه الله- يحمل الطعام على ظهره، فلما أُرِيْدَ تغسيلُه وتكفينُه جُرِّدَ من ثوبه، فانكشف ظهرُه، فإذا فيه أثر الأكياس التي كان يحملها في الظلام، رحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وسلامٌ على قلوب ضمَّت أشلاؤهم! وسلامٌ على قبور ضمَّت أجسادهم! يوم أن صدقوا مع الله جل جلاله، وباعوا الدنيا من أجل إخوانهم المسلمين، وكانوا أحبةً في الله والدين، فكانت الدنيا عندهم حقيرة ذليلة مهينة.
كان الواحد إذا لقي أخاه تلقاه والبشر على صفحات وجهه، والسرور على ظاهره، يشعره بالأخوة في الدين، وكان الإمام والعالم منهم لا يستطيع الواحد أن يعرفه بين الناس من التواضع وترك الرياء، رحمة الله عليهم أجمعين، وكانوا إذا دخل بعضهم على بعض أَكْرَموا وتنافسوا للخير وتسابقوا.
فهذا عبد الرحمن بن أبي ليلى، أدرك أكثر من مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عنه ابن أبي زياد: والله ما دخلنا عليه إلا حدثنا بأطيب الحديث، وأطعمنا بأحسن الطعام.
وكان الحسن البصري رحمه الله سيداً من سادات التابعين، فقد كان رحمه الله إذا دخل عليه أخوه قام فأكرمه بنفسه، وهو الإمام في العلم والورع.
كانوا مؤثِرِين للأخوة في الله والدين، وأحبة في الله متراحمين متواصلين متباذلين، يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه، يوم كان القرآن دليلَهم، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامَهم وأمامَهم، يوم كانوا عاملين بكتاب الله، ثابتين بكلام الله، يوم وَصَفَهم الله بأنَّهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فكم من عيون منهم سَحَّت بالبكاء لبكاء عيون من المسلمين! أين هذه النماذج الكريمة؟! أين هذه الأمة الطاهرة البَرَّة الرحيمة؟! أين هذه القلوب العظيمة؟! أين هي من نماذجِ اليوم؛ يوم صاح الأيتام، وصاحت الأرامل، فلم تجد لها مغيثاً غير الله جل جلاله؟! أين هذه القلوب الرحيمة؟! أين هذه الأمة الكريمة؛ يوم قَطَّعَت الأرحام، فضلاً عن أخوة الإسلام، حتى اقتتل الرجلان على شبر من الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله! يوم سَبَّ المسلمُ أخاه، وانتهك عرضَه، واستباح غَيْبَتَه على متر أو مترين من الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون! يوم أصبح الإسلام اسماً على الظواهر، بعيداً عن القلوب والجواهر، وأصبح العبد يوالي في الدنيا، ويعادي في الدنيا، فالناس بها عنده مراتب، نسأل الله السلامة والعافية من حال أهلها.(53/4)
حقيقة الإيثار وأسبابه
أيها الأحبة في الله: الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! رحمةٌ من الله الكريم الغفار رحمةٌ أسكنها قلوب المؤمنين، فبذلت وضحت لوجه الله رب العالمين، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسبغة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، قلوبُ أهلها رقيقة لينة حليمة رحيمة، لا تحتمل فواجع المسلمين، بل تهتز لدعاء المصابين والمنكوبين.
الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! أن تجعل القبر أمام الأنظار، فتسعى إلى رحمة الله الكريم الغفار، في إجابة دعوةٍ مِن أرملة، أو دعوةٍ مِن بائسة، أو دعوةٍ مِن مكروب، أو دعوةٍ مِن مهموم أو مغموم، أو كربة تفرِّجها على مديون ومعسر.
الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! رحمة الله الكريم الغفار، يوم تُخَطُّ في الدواوين الحسنات، ويوم تُرْفَع به لأصحابه الدرجات، ويوم يستوجب من الله عظيم المغفرات، فكم مِن أيدٍ لهم سَخَتْ آناء الليل وأطراف النهار، فغُفِرَت معها ذنوبُ العمر، ومُحِيَت بِها سيئاتٌ وخطيئات! فالله أكبر! ما أعظم فوز أهله! يوم خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، واستقبلوا الآخرة أمام عيونِهم!(53/5)
الإيمان بالله وإخلاص العمل له
لا إيثار إلا بأمور: أولها وأعلاها وأسماها وأشرفها وأبهاها: الإيمان بالله، وإخلاصُ العمل لله: حينما يسعى العبد حثيثاً إلى الله مُجِدَّاً لا متريثاً، حين يسعى إلى الآخرة، فلا يفتُر عن حسنة يبذلها، أو قُرْبَة بإذن الله يكسب بها إيماناً.(53/6)
الرحمة واللين
ثانيها: الرحمة: فلا إيثار إلا برحمة، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مؤثراً إلا إذا رزقه الله قلباً رقيقاً ليناً رحيماً، وإذا رَحِمَه الله من قسوة القلوب، فأصبح قلبُه يتفطر للأشجان والأحزان، فلا إيثار إلا بهذه الرحمة التي سماها الله: رحمة، وهي لين القلوب.
فما أَبْعَدَ مَن قَسا قلبُه عن الإيثار! وقاسي القلب لا يعرف الإيثار إلى قلبه سبيلاً ولا دليلاً.
أما لَيِّن القلب فما أحراه بالإيثار! فلِيْنُ القلب الذي هو رحمةٌ من الله علام الغيوب امتنَّ الله بها على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال جل جلاله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
إن الإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيق، يحتاج إلى صاحبٍ صِدِّيق رفيق، وإلى ذلك القلب الذي ما إن يبثُّ إليه المهموم هَمَّه حتى يتفطر حزناً وألماً، يحتاج إلى قلبٍ يتسع لهموم المسلمين وغمومهم، وإلى قلبٍ صاحبُه إذا ابتدره المصاب بشكواه دَمَعَت قبل النهاية عيناه، فالإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيقٍ رفيق.
فاسألوا الله لين القلوب؛ فَبِهِ يُرْحَم الإنسان، وبه يُكْرَم بالله الكريم المنان.
سلوا الله لين القلوب، فبه يُكْسَى العاري، وبه يُطْعَم الجائع، وبه يُمْسَح على رأس اليتيم، وبه يغدو العبد إلى المسكين، وبه يُفَرِّج كربات المنكوبين والمعسِرين بإذن الله رب العالمين.
سَلِ الله القلب الرقيق، فإن الله إذا أكرمك بهذا اللين، وأكرمك بهذا القلب الرفيق فتح لك أبواب رحمته، وفتح لك أبواب الخير منه، فلا ترى منكوباً إلا أعنته، ولا ترى مهموماً مغموماً إلا واسَيته، كن رحيماً بعباد الله، كن ليناً بعباد الله المؤمنين، فإن الله وصف المؤمنين بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
فلا إيمان إلا برحمة، وإذا انتُزِعت الرحمة من القلوب فمَن يسمع ويُصغي لشكوى الأيتام والأرامل والبائسين؟! إذا نُزِعت الرحمة من القلوب، فمن يسمع صيحات المتأوهين ونكبات المفجوعين؟! سل الله أن يجعلك رحيماً، فإن الله يرحم الرحماء.
سل الله أن يجعلك رحيماً فإن الله يعطف على الرحماء.
سل الله أن يجعلك رحيماً فكم لَطَفَ اللهُ بالرحماء! وكم صرف عنهم من شدائد الدنيا وأهوالها ونكباتها لَمَّا رحموا عباده وما ينتظرهم في الآخرة من رحمات القبور، ورحمات هول البعث والنشور أجلُّ وأسمى وأسنى.
فالرحمة واللين إذا دخلتا إلى القلب أصبح صاحبهما يتوهج حنيناً وشوقاً إلى الأعمال الصالحة، يريد مرضاة الله، يبيع نفسه لله مبتغياً الأجر والمثوبة من الله، قال الله في هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ.
} [البقرة:207] أي: ليس كل الناس {ومَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
{يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207] أي: يبيع نفسه.
{ابْتِغَاءَ} [البقرة:207] أي: طلب مرضاة الله.
يبيع نفسه ويبيع ليله ويبيع نهاره ويبيع تجارته فيأتيه الشيطان فيقول له: هذا مالٌ سعيتَ عليه آناء الليل والنهار، فهو تجارتك وأموالك التي كدحت عليها ونصبت من جمعها، ثم تعطيها لخامل لَمْ يسعَ في تحصيلها؟! فجاهد وصابر واصطبر، وأعطِ لوجه الله جل جلاله إيماناً وتسليماً، فإذا سكنت الرحمة في القلوب فسل الله أن يرزقك القلب الرحيم، فإن الله إذا رزق العبد قلباً رحيماً عَفَّ وكَفَّ عن أذية المسلمين، وكان صاحبه أحرص ما يكون على نفع عباد الله المؤمنين.
بهذه الرحمة تصغي إلى من أراد أن يحدِّثك.
وبهذه الرحمة يألفك الكبير ويألفك الصغير، حتى إن المهموم يأتيك، ولا يجد بينك وبينه حاجزاً برحمتك به.
الرحمة هي الطريق للإيثار.(53/7)
ذكر الموت
السبب الثالث، وهو من أعظم أسباب الإيثار، ومن أعظم الأسباب التي تعين المسلم على أن يحفظ نفسه عن أذية المسلمين، وأن يسعى بكل حرص في بذل الخير إليهم طلباً لمرضاة الله رب العالمين، هذا السبب الذي تفطرت به قلوب الصالحين: ذكرُ الموت والبِلَى، وقرب المصير إلى الله جلَّ وعلا: أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مغموم بين الْجَنادل والْحَفائر، فما ذُكِر الموت في كثيرٍ إلا قلله، ولا في جليلٍ إلا حقَّره.
أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مضموم بالأجداث والبلى والجنادل، حتى إذا ذُكِر ذلك هانت عليه دنياه، وعَظُم عليه ما هو مستقبلٌ له من أخراه.
تذكر الموت وسكرته! تذكر القبر وضجعته! تذكر القبر وضغطته! بكيتُ لما علاني الترب منجدلاً صار التراب فوقي فآلمني في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب ولا أخ ولا صديق يؤنِّسني يوم أن يصير الإنسان وحيداً، قد سار إلى الله ذليلاً حقيراً فريداً، يومئذٍ تهون عليه تجارته، وتهون عليه أمواله، ويهون عليه أولاده، يريد الفكاك، والنجاة، والخلاص! فمَن ذَكَرَ هذه المنازل، وذَكَرَ هذه الجنادل هانت عليه الدنيا، وسَخَت يدُه بالإنفاق لوجه الله، وأخرج المال العزيز على قلبه ليشتري به رحمة الله، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:9 - 12].
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم.
فمَن أكثر مِن ذكر هذه المنازل هانت عليه الدنيا التي قَطَع من أجلها رحمه، ومن تذكر هذه المنازل هانت عليه هذه الدنيا التي والى من أجلها وعادى! ما الذي يأخذه الإنسان من تجارته؟! وما الذي يجنيه من سوقه وعمارته؟! وما الذي يخرجه من الدنيا غير زاده وكفنه؟! إنا إلى الله صائرون، وإنا إليه راجعون، وبين يديه مختصمون: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31] يوم يتعلق بك الذليل الذي أذللته، ويتعلق بك أخوك في الإسلام فيقول: يا رب! سَلْ أخي، إنه أهانني يا رب! سل أخي، إنه ما عَظَّمَ أخوة الإسلام التي بينه وبيني، يومها يحس الإنسان بحقارة نفسه وذله بين يدي الله ربه.
تذكروا هذه المنازل، فإنها تعين على الجود والسخاء، وتعين على الأعمال الصالحة المقربة إلى الله فاطر الأرض والسماء.
تذكَّرْ يوم تَقْرَع القوارع، وتَفْزَع الفوازع، ويُبَعْثَر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، يوم أن ينادي عليك منادِ الله أن تخرج من قبرك حافياً عارياً إلى لقاء الله، فتخرج ذليلاً حقيراً يوم تخرج إلى الديان وحيداً فريداً يوم أن تصير إلى الله بلا حسبٍ ولا نسب يوم أن تصير إلى الله بلا مالٍ ولا ولد، يومئذٍ تهون عليك تجارتك، وتصغر في عينك عمارتك، يومها تعرف حقارة الدنيا، وذل مقامك بين يدي الله جل وعلا.(53/8)
ضرورة الحذر من الاعتداء على حقوق المؤمنين
أيها الأحبة في الله: ما ذكر العبد هذه المواقف إلا هانت عليه الدنيا، وأحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، وسعى في خلاص نفسه وفكاكها من ذنوب العباد، فما أشقى مَن عَظُمت مَظالِمُه! وما أشقى مَن عَظُمت مآثِمُه! فويلٌ لمن كثرت خصومته بين يدي الله جل جلاله! وويلٌ لمن آثر الدنيا على الإخوان، فظلم هذا، وأكل مال هذا، وانتهك عرض هذا! وويلٌ لمن أطلق لسانه في غِيبة فلان وعلان، فجاء يوم القيامة وحيداً فريداً بين يدي الله الواحد الديان، وتعلق به صاحبه وقال: يا رب شتمني هذا، يا رب اغتابني ونَمَّني هذا.
فالفكاك الفكاك من هذه الحقوق العظيمة، ومن هذه المواقف الجليلة يوم لا حسب ولا نسب ولا جاه إلا الجاه عند الله يوم لا مقرِّب إلا التقوى يوم تنفصم الأمور فلا تبقى إلا العروة الوثقى.
اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير، اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير.
ما أعظم النجاة إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين! يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة! فكم لك من يدٍ عند الله جل جلاله، إذا نادى منادِ الله فقمتَ إلى تلك المشاهد في ظل صدقتك التي تصدقتَ بها! فما أطولها! وما أعرضها! وما أنعمها! وما أبركها! يوم أن تتلقاكَ الملائكة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
فيا أيها الأحبة في الله: ما أعظم الخصومة بين يدي الله في المظالم، يوم يحشر الإنسان من سبع أرضين، قد اختنق حاله في شبر من الأرض ظَلم أخاه فيه! يوم يتعلق به الخصوم، ويُنْصَف منه المظلوم، ويُعطى منه المحروم! ويقول الله كما في الحديث القدسي: (يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أتركك ألم أسوِّدك؟ ألم أرفعك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ماذا عملت لي؟) ثم يقول جل جلاله: (يا بن آدم! استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت ربي؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت ربي؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا بن آدم! مرضتُ فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربي؟! قال: مرض عبدي فلان فلم تعدْه، أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي؟).
الله أكبر من يومٍ عظُمَت حسناتُه! الله أكبر من مشاهد قَرَعَت قلوب المؤمنين فـ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
الله أكبر من مواقف أقَضَّت مضاجع الصالحين! الله أكبر من مواقف وقوارع حفَّزَت همم عباد الله مِن السلامة من ظلم عباد الله! فمن أراد السلامة فليبتعد عن المظالم.
اتقِ الله في لسانك الذي تطلقه في أعراض إخوانك.
اتقِ الله يوم تلمز فلاناً في نسبه؛ فتقول: فلان فيه كذا، وفلان من بني كذا، وتعيِّره وأنت ضاحك باسمَ الثغر، فوالله لك يومٌ موعود، ولقاء مشهود، يبدو إلى الله جل وعلا ما لفظه لسانك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
إن عورات المسلمين محرمة، واللهُ يغار عليها، فلا يسمعنَّ اللهُ منك كلمة تؤذي بها مسلماً غائباً أو حاضراً، احفظ لسانك، فكم من لسانٍ كبَّ صاحبَه على وجهه في النار، قال معاذ: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخِرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!) حصائد هذه الألسنة: يوم افتخرتَ بقبيلتك، ويوم افتخرتَ ببني عمومتك، فجئت يوم القيامة لم تنفعْك الأرحام، ولا الأحساب، ولا الأنساب، {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3] فلا جاه إلا جاه أهل التقوى، ولا عز إلا عز أهل الدين والهدى.
جعلنا الله وإياكم منهم.
اللهم آمين.
من أحب أن يُسَلِّمه الله من هذه المواقف العظيمة، ومن هذه المشاهد الجليلة فليحفظ لسانه وسِنانه وجوارحه وأركانه عن أذية المؤمنين، إذا سَلِم المسلمون من أذيتك، واجتهدتَ في طاعة الله على قدر وسعك، فأنْعِمْ عند الله وأكْرِمْ بها حياة! ولتخرُجَنَّ من هذه الحياة طيباً مطَيَّباً، فلا تُذْكَر إلا بخير.
عُفَّ لسانك عن أعراض المسلمين، عُفَّ لسانك عن إثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين، فمِن أشد الجرائم وأعظمها أن تُقْطَعَ هذه الأخوة وتُقْطَعَ أواصرُها بكلمة من عبدٍ لا يخاف الله ولا يتقيه، يوم أن يُخْرِج تلك الكلمات التي يوغر بها صدور عباد الله بعضِهم على بعض، فهم يصلُّون في المسجد الواحد أمة واحدة يؤمنون جميعاً ويركعون جميعاً ويسبحون ويمجدون ويستقبلون قبلة واحدة ويدْعون رباً واحداً وما إن يخرجوا من باب المسجد حتى يتلقفهم هذا الشرير بشره؛ لكي يبث إلى هذا كلمةَ عداوة، ولكي يبث إلى هذا ما يوجب البغضاء والشحناء.
فويل له إذا حمل بين يدي الله وزرها، وويل له ثم ويل له إذا طُبِع عليه، فصار هَمَّازاً مهيناً مَشَّاءً بنميم، لا مكانة له عند الله رب العالمين، والله يقول في كتابه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: لا تطع أهل النميمة، ولا تصغ بسمعك لهم، واحفظ جوارحك عنهم، فإن الله يسلمك من هذه المشاهد العظيمة.
احفظ جميع ما وهبك الله من حولٍ وقوة، واستغله في طاعة الله جل جلاله.
فإن سَلِمْتَ من ذنوب الناس، وأصبحتَ خفيف الحمل من ذنوب الناس فأنْعِمْ برحمة الله جل جلاله.(53/9)
العفو والصفح عن المسيء من موجبات رحمة الله
الوصية الأخيرة: أن نشتري مرضاة الله جل جلاله بخصلة من خصال أهل الإيمان: وهذه الخصلة ما حافظ عليها أخٌ مع أخيه إلا عامله الله بها في الدنيا والآخرة! أتدرون ما هي؟! إنها العفو عن المظالم، العفو عن المسيء، العفو عمَّن أساء، فإنها موجبةٌ لرحمةَ الله جل جلاله، يوم أن تقف أمام أخيك الذي يزِلُّ عليك بلسانه، أو يزِلُّ عليك بجوارحه وأركانه، فيأتيك ابن عمك فيقول: يا أخي! خذ بحقك، إنك ذليلٌ إن عفوتَ، وإنك حقيرٌ إن صفحتَ، وإنك كذا، وإنك كذا، فيخذِّلك عن طاعة الله جل جلاله؛ لكن يأبى إيمانُك، ويأبى يقينُك وعلمُك بلقاء الله ربِّك إلا العفوَ والصفحَ لوجه الله جل جلاله.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فطأطأت له رءوسُ الكفار، وذلَّت له أعناقُ الأشرار، وأصبح يومَها المُلْكُ لله الواحد القهار! وقف صلى الله عليه وسلم يوم الثاني من الفتح وقريش تحته كلُّها، وجاء وقتُ الثأر، وجاء أخذ الحق والقصاص يوم سُفِكَت دماء أقاربه، يوم قُطِّعت أشلاء أصحابه وأحبابه! وقف صلى الله عليه وسلم على رءوسهم والماضي ماثل بين يديه بما فيه من الفجائع، وبما فيه من الأمور التي تُقِضُّ المضاجع! فوقف صلى الله عليه وسلم ساعة الثأر، وأخذ بعضادَتَي باب الكعبة وقال: (يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟! -ما الذي يخطر ببالكم الآن بعد أن أعزني الله وأذلكم، ورفعني ووضعكم، وجبرني وكسركم؟! - فقالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍِ، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
الله أكبر ما أوسع صدور المؤمنين في الحلم والرحمة! الله أكبر ما أوسع قلب المؤمن! لأنه رجل كامل، والرجل الكامل: هو الذي يعفو ويصفح، ولذلك قال الله عن أهل العفو: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
فعندما يَزِلُّ عليك أخوك في الإسلام بكلمة، فيأتيك الشيطان، وتأتيك حمية الجاهلية أن ترد عليه بعثراتها، وأن تُخْرِس لسانه بأسوأ منها؛ عند ذلك اذكُر الله جل جلاله، وتذكَّر أن هذا اللسان ما يلفظ بكلمة إلا وهي مخطوطة في الديوان، وأنك ستَلْقَى الله جل وعلا؛ لتنتهي بك إما إلى جنانٍ أو إلى نيران، وقل: أستغفر الله لي ولك.
جاء رجل إلى الحسن فقال: [إن فلاناً يشتمك، قال: والله لَأُغِيْظَنَّ مَن أَمَرَه بذلك: اللهم اغفر لي ولأخي].
وجاء آخر إلى الحسن فقال له: [فلانٌ يقول فيك كذا وكذا، فقال: أما وَجَدَ الشيطان رسولاً غيرك؟!].
أي: أما وجد الشيطان رسولاً ينقُل الأحاديث على لسانه غيرك؟! فلا بد أن يحاول الإنسان أن يكون سمحاً، وأن يكون حليماً.
فإن مَن رَحِمَ الناسَ وعفا عنهم عفا الله عنه، وأنت أحوجُ ما تكون إلى عفوه! ولَئن رحمتَ الناسَ لَيَرْحَمَنَّك الله، وأنت أفقر ما تكون إلى رحمته! فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الله).
وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وبرحمة الإنسان وعفوه عمَّن أساء تَعْظُمُ الخيرات، وتَنْزِل من السماء البركات، ويكون للناس خيرُ الدين والدنيا في الحياة وبعد الممات.
فليحاول الإنسان أن يشتري رحمة الله عز وجل بالعفو والصفح، إياك أن تأخذك حمية النفس للانتقام! فإنك إن عفوت عن إنسان لوجه الله عفا الله عنك في عرصات يوم القيامة.
ولذلك ورد في الحديث أنه: (إذا جُمِع الناس في عرصات يوم القيامة نادى منادٍ على رءوس الأشهاد: من كان أجره على الله فليَقُم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذُلٍّ).
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم.
ألا وإن من أفضل العفو وأطيبه وأكرمه: أن تعفو عن المديون المعسر إذا جاء يريد سداد دينه، فإذا نظرتَ إلى أخيك المكروب المعسر، وتجاوزت عنه لوجه الله، تجاوز الله عنك في عرصات يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل يداين الناس، وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم رجلاً معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما لقي الله قال الله: يا ملائكتي، إن عبدي تجاوز عن عبادي، ونحن أحق بالعفو عنه، تجاوزوا عن عبدي).
فمن تجاوز عن المعسر والمديون والمكروب كان أحرى أن يرحمه الله، وهو المكيال الأوفى الذي يوفي اللهُ لصاحبه الأجر بغير حساب.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترزقنا إيماناً يرضيك عنا.
اللهم انزع من قلوبنا الشحناء، والبغضاء لعبادك المؤمنين.
اللهم هب لنا قلوباً تقيةً نقية.
اللهم سلِّمنا وسلِّم منا، وتب علينا وتجاوز عنا.
اللهم آمِنَّا يوم الوعيد، اللهم أمِّنْ في يوم الوعيد رَوْعَنا، اللهم استُر فيه عوراتنا، اللهم أمِّنْ فيه روعاتنا، اللهم اغفر لنا فيه، ولآبائنا، وأمهاتنا، ومن حضر مجلسنا، وغاب عنا.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله.(53/10)
الأسئلة(53/11)
حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ
السؤال
ما حكم وضع المرأة لشعرها ما يسمى بـ (الميش)؛ وهو صبغ الشعر بألوانٍ مختلفة، الأشقر منها والبني وغيرهما، مع العلم بأنها مواد كيميائية؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الميش لا يجوز؛ لأنه تغيير للخلقة، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشرة والمستوشرة، والمتفلجات بالحُسْن المغيرات خلق الله).
فعَلَّل النهي بتغيير خلق الله تعالى، وهذه مواد كيميائية لا تُؤْمَن، فحتى لو لم تُحَرَّم بهذا اللعن لَحُرِّمت من جهة الإضرار؛ فإن الخِلْقة إذا كانت سوداء وجاءت المرأة وقالت: أريده أشقر أو أسود أو نحو ذلك فتغير الخلقة فكأنها بذلك التغيير لم ترضَ عن عطاء الله جل جلاله، ولذلك استحقت اللعنة.
لماذا ورد اللعن؟ لأن الذي يغير لون الشعر لا يرضى بقسمة الله عزوجل، فيقول: لا.
الأصفر أجمل، والأشقر أبهى، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما أعطاه الأجمل، وما أعطاه إلا القليل، فيطلب الكثير؛ فاستحق اللعن والعياذ بالله من هذا الوجه.
فلا يجوز استخدام (الميش)، ومن فعله سابقاً فليتُب إلى الله جل وعلا، بل ينبغي دائماً الحفاظ على نساء المؤمنين، وخاصة طالبات العلم والخيِّرات والصالحات، فيبتعدن عن هذه الأمور التي لا تليق بهن.
والله تعالى أعلم.(53/12)
السنة في العقيقة
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يجوز أن أذبح العقيقة وأدعو إليها بعض الأصدقاء، أو أتصدق بثلثها وأهدي ثلثها وآكل ثلثها؟
الجواب
أما العقيقة فالأصل فيها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحديث سمرة بن جندب -رضي الله عنهما وأرضاهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلامٍ مرهونٌ بعقيقته تُذْبَح عنه يوم سابعه) وجاء في حديث عائشة: (تُقََطَّع جدولاً) وجدولاً بمعنى: لا يُكسَر فيها عظم، قال بعض العلماء: وردت السنة بذلك حتى يكون تفاؤلاً بسلامة المولود، والفأل يحبه الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الفأل، ويكره الطِّيَرَة والتشاؤم) فالفأل الحسن محمود وغير مذموم؛ لأن فيه حُسْن ظن بالله جل جلاله، فلا يُكْسَر فيها عظم وإنما تُقَطَّع من مفاصلها، ثم أنت بالخيار بين أمور: الخيار الأول: إن شئت طبختها وأحسنتها وهيأتها:- فإذا فعلت ذلك فادعُ إليها الفقير والغني، وخُصَّ بالدعوة قرابتك، فإن أحق مَن يُدْعَى إليها الأقرباء، فيدعو الإنسانُ إليها قرابته من النسب، وقرابته من الأصهار، والأرحام كأقارب الزوجة.
وهذا مِن أفضل ما يكون كونك تهيئها للمساكين والمحتاجين وتدعوهم وتكرمهم؛ ولكن لا تدعوهم فتهينهم، فيجلسون في أضعف المجالس، فهذا لا ينبغي، إنما ادعُهم واحمد نعمة الله جل وعلا، قال بعض السلف: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان! سفيان إمام عالم، كان إذا حضر عنده الفقراء أجلسهم في صدر المجلس، فكانوا يشعرون بالعزة والكرامة وهم ضعاف يحتقرهم الناس.
فإذا أعطاك الله عز وجل نعمة ودعوتَ لها فادعُ إليها الفقراء، وأنا أنبِّه على هذا الأمر؛ لأنه يحصل فيه خطأ شائع ذائع، حيث يُنْزِل الإنسانُ أقرباءه وأبناء عمومته ويجعلهم في الصدر، ويأتي بالفقير لكي يَكْسِر خاطره ويهينه فيجلسه في أضعف المجالس ويحتقره وربما رمى له بالكلمة الجارحة، فبئس والله ما فعل! ولربما عاد بذنوبٍ أكثر من الأجور.
فاتقِ الله، وليكن عندك من حب الله والولاء في الله ما يردعك عن هذه الأمور التي لا ترضي الله من حمية الجاهلية وضعف العقول، نسأل الله السلامة والعافية.
الخيار الثاني: أن تقطِّعها جَدْولاً وتقسِّمها: قال بعض العلماء: اقسمها ثلاثاً فتعطي الأغنياء الثلث، وتعطي الفقراء الثلث، وتعطي أهلك الثلث، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فالقانع: هو الغني الذي فيه قناعة، والمعتر: هو المُعْتَوِر السائل الذي يَعْتَوِرُك بالحاجة.
قالوا: فاقسمها إلى ثلاثة أقسام: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36] الثلث.
{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} [الحج:36] الثلث.
{وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] الثلث.
وهذا هو الهدي، فألحقوا العقيقة به بجامع أن كلاً منهما دم لازم القول بالوجوب.
والله تعالى أعلم.(53/13)
وصايا في غض البصر عما حرم الله
السؤال
لقد انتشر في هذا البلد ما يسمى: بالبث المباشر.
أرجو منكم نصح أهل هذه البلاد جزاكم الله خيرا.
ً
الجواب
ما أظن -إن شاء الله- أنه موجود، وأسأل الله عز وجل أن لا يوجد هذا الشيء.
وأوصي بأمور: الأمر الأول: تقوى الله الذي لا إله غيره:- وأن يعلم كل إنسان أن {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]، وأن البصر بريد الزنا، وطريقٌ إلى الحرام، وأنه لا يزال العبد يُمَتِّع بصره بالمناظر الخليعة حتى يَمْقته الله جل وعلا، ويطفئ نور الإيمان من وجهه، ولذلك قال العلماء: الغالب أن صاحب النظرات المسمومة والمحرمة لا يأمن الفتنة في دينه.
وأُثِر عن بعض السلف: أنه رأى رجلاً من حفاظ القرآن ينظر إلى شابٍّ أمرد نصراني فقال له: والله لتجدن غِبَّ هذه النظرة ولو بعد حين! أي: لا تَخْرُج من الدنيا حتى يعاقبك الله على هذه النظرة المسمومة، فمكث عشرين سنة، وبعد عشرين سنة نام ليلته، فأصبح لا يحفظ من القرآن حرفاً واحداً، نسأل الله السلامة والعافية.
كل الشرور مَبداها من النظرِ ومُعْظَمُ النار من مُسْتَحْقَر الشررِ كم نظرة فتكت بقلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتَرِ والمرء ما دام ذا عينٍ يقَلِّبُها في أعين الغِيْد محفوفاً على خطرِ يَسُرُّ مُقْلَتَه ما ضَرَّ مُهْجَتَه لا خير في سرور قد جاء بالضررِ ويلٌ لهم من الله إذا نشرت بين يدي الله النظرات! ويلٌ لهم من الله جل جلاله يوم تُكْشَف بين يدي الله تلك النظرات! ويَحْمِل صاحب ذلك البث المسئوليات والتَّبِعات عن الأبناء والبنات! ويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمن أدخل البلاء على أهله وولده ففُتِنَت تلك القلوبُ البريئةُ عن صراط الله وطريقه! ويلٌ له من الله يوم يحمل بين يدي الله وزرهم! {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، يفر مخافة هذه المظالم التي جناها عليهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأعظم بلاء يُدْخِله الإنسانُ على أهله: ما فيه فتنةٌ لهم.
الأمر الثاني: كل من أَدْخَل فتنةً فاقتدى به غيره فإنه يحمل وزر كلِّ من جاء بعده إلى يوم القيامة:- فلو أن شخصاً كان الأول في إدخال الفتنة، فاقتدى به أحدٌ، فوالله ما مِن أحد يُدْخِل إلى هذا البلد أو إلى هذا المكان من هذا شيء إلا حَمَل إثمه ووزره بين يدي الله إلى يوم القيامة والعياذ بالله: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا يَنْقُص من أوزارهم شيء).
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
ثم يا أخي: اتقِ الله في البصر! الله نوَّر لك نور البصر! كم من أعمى كفيفٍ لا يرى، واللهُ قد أعطاك هذا النور الذي والله لو قُبِض هذا النور لا يستطيع أطباء الدنيا أن يعيدوه لحظة من اللحظات! هل سمعت أن إنساناً كفَّ بصرُه فاستطاع الأطباء أن يردوه إلا إذا كان مرضاً عارضاً؟! إذا سلب الله البصر، وإذا ختم الله على السمع والقلب والفؤاد فلا يستطيع أحد أن يغني لصاحبه من الله شيئاً: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] نسأل الله السلامة والعافية.
هذا البصر أعطاه الله لك، وكلُّ لحظة مكتوبة، وكل ثانية محسوبة، لم يعطِه الله لك عبثاً، بل أعطاه لك لكي تتقرب إليه، وتشتري رحمته! فتنظر في ملكوته فتقول: لا إله إلا الله! وتنظر إلى السماء فتقول: سبحان مَن {بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]! وتنظر إلى الأرض فتقول: سبحان مَن {دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:30 - 31]! وتنظر إلى ملكوته وجبروته وعزِّه! وتمر على الديار الخالية فتقول: لا إله إلا الله! سبحان مَن جعلها خراباً بعد أن كانت عزاً وجاهاً.
وتمر على ديارٍ كانت خرِبة، فأصبحت عُمراناً وخيراتٍِ وحساناً فتقول: لا إله إلا الله! مخرج الحي من الميت! سبحانه لا إله إلا هو! كل هذا حتى تشتري رحمات الله بهذه النظرات.
هذا هو الذي تشترى به الرحمات، فالصالحون يفوزون برحمات الله بالأبصار، والفاسد يتهاوى ببصره في الجحيم ودركات العذاب المقيم، اللهم سلِّمنا وسَلِّم مِنَّا.
ثم الأمر الثالث والوصية الأخيرة: قلَّ إنسان ينظر إلى هذه المحرمات فيرجع إلى دينه سالماً والعياذ بالله:- فالغالب فيمن يشاهد الأفلام الخليعة والمناظر الفاتنة ألا يرجع إلى دينه سليماً إلا أن يرحمه الله، ويحتاج إلى توبة وبكاء وتضرع صادق، وهذا بالتجربة.
فسل الله العافية، فإذا عافاك الله إياك أن تقترب منها! فإنها السم القاتل للدين لا للدنيا، إياك أن تقترب ولو للحظة، فإذا قال لك الشيطان: انظر لحظةً.
فقل: الله الله أخشى أن تمتد بي هذه العين إلى أن أسَقط! وإن قال لك: انظر لِلَحظة.
فقل: أخشى العماية في الحشر: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
فالله الله في هذا البصر! واتق الله، فإن الإنسان إذا نظر إلى هذه المفاتن الغالب أنه لا يَسْلَم، وإذا حفظتَ البصر حفظ الله دينك، فإنك إذا غضضتَ فإن العين لا تبكي يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكيةٌ أو دامعةٌ يوم القيامة إلا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله ... ) إذا جلستَ بعد العشاء فتذكرتَ ذنوبك وأنت خالٍ وحيدٌ في غرفتك فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أعظم ما فعلتُ! أحسنَ اللهُ إليَّ وأسأتُ! وأكرمني وأهنتُ! واستغفر وتُب، وفِضْ بالدمع، حتى يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، (.
إلا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله.
وعين سهرت في سبيل الله.
وعين غضت عن محارم الله).
حتى وأنت في الطريق إذا مرَّتْ عليك عورة من عورات المسلمين فقل: أستغفر الله العظيم! فإن هذا الغض يُكْتَب لك حسنات عند الله، فلا تزال هذه في صحيفة عملك حتى توافى بها يوم القيامة، فالناس يبكون في عرصات يوم القيامة، وعينك لا تبكي بهذا الغض.
نسأل الله أن يحفظ أبصارنا، وفروجنا، وجوارحنا.
والله تعالى أعلم.(53/14)
حكم الإيثار في القربات
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: هل الحديث: (لا إيثار في الطاعة) صحيح أو ضعيف؟
الجواب
هذه قاعدة من قواعد أهل العلم: (لا إيثار في الطاعة) وبعضهم يقول: (لا إيثار في القُرْبة) ومعنى هذه القاعدة: أن الإنسان لا يفضل غيره في الدين.
توضيح ذلك: أن الصف الأول -مثلاً- قُرْبة وطاعة، فلا يحق لك أن ترجع عن الصف الأول وتدخل غيرك ولو كان أخاً لك في الله؛ لأنه زُهْدٌ في الأجر، ولا يجوز للمسلم أن يزهد في الأجر.
واختلف العلماء في هذه المسألة: فقال بعض العلماء: يجوز الإيثار في الطاعات، ولهم أصلٌ في ذلك.
ولكن الصحيح والأقوى: أنه (لا إيثار في القُربة) وأن الإنسان ينبغي عليه أن يحرص على القربة، وقد دل على ذلك دليل السنة: فإن ابن عباس كان يوماً من الأيام جالساً عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره الأشياخ، فأُتِي بشرابٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى منه أعطاه للذي عن يمينه وهو ابن عباس وقال قبل أن يعطيه: (يا غلام! أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه -النبراس، والقبس الوهاج علماً وحكمة-: ما كنتُ لأوثر بنصيبي منك أحداً -أي: لا أفضِّل في الدين، هذا محل الشاهد- فأخذه فتله بيمينه صلوات الله وسلامه عليه) فهو أقرَّه، واعتبرها قربة؛ لأنه لم يؤثِر بهذا الأمر الذي هو طاعةٌ وقربةٌ لله جل جلاله.
فأصح الأقوال: أنه (لا إيثار في القربة).
والله تعالى أعلم.
ولكن استثنى بعض السلف مسألة، منها: استثناء الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس؛ إمام دار الهجرة، في قوله: أحب لأهل المدينة إذا حضر الحجاج أن يتقاصروا عن الروضة.
الحجاج من الآفاق يقدمون وساعاتهم وأيامهم قليلة، فأحَبَّ لهم التقاصر، ففَهِم بعض أصحابه رحمة الله عليه: أن هذا يدل على أنه يجيز الإيثار في القربة؛ ولكنها مسألة خاصة لا تقتضي التعميم.
والله تعالى أعلم.(53/15)
حكم صيام التطوع في السفر
السؤال
أنا أدرس بكلية البنات بالخرج، وأصوم يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، فهل يُعَدُّ صيامي هذا من التكلف والمشقة، لأنني سمعتُ بأن هذا فيه مشقة على النفس، أرجو توضيح ذلك، مع العلم أن الخرج تبعد عن الحوطة بـ (85) كيلو متراً.
وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأنتِ تسألين عن حكم صيام التطوع في السفر، وهل يعتبر صيامكِ للإثنين والخميس من الغلو والكلفة والمشقة أو لا يعتبر؟ فأصح أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: أن الناس يختلفون: فمن كان منهم مُطِيقاً للصوم ولو كان مسافراً فإنه يُشْرع له أن يصوم، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي أن يصوم وذلك في السفر.
قال العلماء: لأنه يطيق السفر.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس مِنِ امبر امصيام في امسفر) فهو محمول على المشقة، ولذلك قال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون).
فإذا كان صيامك في السفر يلحق بك المشقة، وقد يحول بينك وبين الواجبات، ويحصل به تعذيبٌ للنفس وعناءٌ فإن الأفضل تركه.
وقال بعض العلماء بكراهيته في هذه الحالة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس مِنِ امبر امصيام في امسفر).
وأما إذا كان صيامكِ قد ألِفْتِيه واعتدتيه، ولم يؤثر عليكِ في السفر، ولا يؤثر على طاعةٍ واجبةٍ عليكِ، فهنيئاً لهذا الفضل والخير الذي حباك الله به، واستديمي الصيام على خير.
والله تعالى أعلم.(53/16)
الخوف من الرياء حكمه وأنواعه
السؤال
إني عند قيامي ببعض الأعمال: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخشى من الرياء والسمعة، فأرجو توضيح ذلك! مع العلم بأني أعاني نفسياً من أن تكون أعمالي فيها سمعة ورياء، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
نعم النفس المؤمنة الخائفة التي تتهم نفسها بالتقصير دائماً! قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال المؤمن الصالح يتهم نفسه].
فقول القائل: هذا العمل ما أردتُ به وجه الله، هذا القول: (ما أردتُ به وجه الله) يعني به أنه يتهم نفسه بالتقصير في الإخلاص.
فإن كان شعورك بالتقصير يحول بينك وبين العمل فهذا من الشيطان، وإن كان شعورك بالتقصير يدفعك إلى المبالغة والصدق في الإخلاص فنِعْم والله الشعور! فهو شأن عباد الله الأخيار؛ ما فعلوا طاعة إلا احتقروها، قال بعض السلف: [المؤمن يحمل الهم في الأعمال الصالحة في مواقف حمل هم الصواب، فإذا وُفِّق للصواب حَمَل هم التوفيق لعمل الصواب] فكم من صوابٍ تعملُه ولا يوفِّقِ الله لفعله، فقيام الليل مَن منا يقوم الليل؟! وصيام الإثنين والخميس من منا يصومهما؟! وصيام يومٍ وإفطار يومٍ من منا يفعله؟! فأولاً: الصواب.
ثم التوفيق لعمل الصواب.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أسألك العزيمة على الرشد) فإذا وُفِّقَ العبد لعمل الصواب، وتهيأ لعمله حَمَل هم الإخلاص فيه، وألا يريد به إلا وجه الله جل جلاله، فإذا وُفِّق للإخلاص وختم عملَه وكان صواباً خالصاً لوجه الله حَمَل هَمَّ القبول من الله جل وعلا، ولا يزال هَمُّ القبول في قلب المؤمن حتى يلقى الله، فتنكشف الحقائق له؛ هل عملُه مقبول فيهنأ، أو غير مقبول فيحزن، فإن العبد يُنْشَر له عمله، فيقول الله جل جلاله: (قد جعلتها هباءً منثوراً) فتُنْشَر له الحسنات والأثقال؛ ولكن ما أراد بها وجه الله.
وجاء في الخبر: (إن العبد تُنْشَر له الحسنات والأعمال الصالحة، فيقول الله له: اذهب فخذ أجرك ممن راءَيْتَ له) اذهب إلى جماعتك الذين كنت تريد منهم الفخر والرياء وتحب أن يمدحوك، اذهب وخذ منهم الأجر اذهب إلى قرابتك إلى الناس إلى مسئولك إلى مديرك إلى والدك إلى والدتك إلى ابنك إلى زوجك إلى كل من راءَيْتَه، فخذ أجرك منه، فإن هذا العمل لم يُرَدْ به وجهُ الله جل جلاله.
فأما إذا كان هذا الحديث يدعوكِ إلى ملازمة الإخلاص فهو حديثُ خير، يَحْمِل على الطاعة والبِر، وهو مَحمود غير مذموم.
أما إذا كان يمنعكِ عن العمل الصالح، وأصبح الإنسان كلما أراد عملاً صالحاً جاءه الشيطان وقال له: أنت لا تخلص فيه؛ فهذا من الشيطان؛ ولكن اجتهدي واعملي العمل، فإن وجدتِ فيه الرياء فقولي: أستغفر الله وأتوب إليه.
فإن الله يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
والله تعالى أعلم.(53/17)
حكم لبس الحجاب الذي فيه زينة
السؤال
صدَرَت فتوى من الشيخ ابن عثيمين -جزاه الله خيراً- عن لبس العباءة التي فيها زينة من (قيطان) و (كِلْف) بأنها لا تجوز؛ لأنها تجعل الحجاب زينة في نفسه، فهل ينطبق الحكم على الغطاء المسمى: شِيْلَة، حيث أني أرى كثيراً من الأخوات يلبسن غطاءً به (كِلْفٌ وقيطان) أرجو توضيح ذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
جزى الله سماحة الشيخ الوالد محمد العثيمين -رحمه الله- كل خير على هذه الفتوى، وهي قولٌ سَبَقَ أن نبَّه عليه العلماء، فقد ذكر أهل العلم رحمهم الله: أن المرأة يحرم عليها أن تُظْهِر الزينة فيما ظهر من بدنها؛ لأن الله جل وعلا نهى عن إبداء الزينة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] فحرامٌ أن ترى هذه الزينةَ عينٌ غير عينِ الزوج.
وتشمل تلك الزينة: الحلي.
والخلاخل.
والأسورة.
ونحوها مِن التي تُكْشَف عند مشي المرأة، أو عند أخذها أو عطائها فهذه من الزينة.
كذلك: الزينة الباطنة، كزينة الوجه من كحل ونحو ذلك، كل هذه من الزينة المحرمة.
ومما ذكره العلماء من الزينة المحرمة: الزينة في اللباس، فقد نص العلماء على تحريم الزينة في اللباس؛ لأن المرأة إذا نُقِشَت عباءتُها قد ينظر الرجل إليها فيَرى النقوش، فينظر أولاً من أجل النقوش، فيجره ذلك إلى النظر إلى مفاتن المرأة، وقد تقول المرأة: إن وجود النَّقْش في العباءة ليس بزينة، فنقول: نعم، هو ليس بزينة في الظاهر؛ ولكنه يقود إلى استرسال النظر، وإلى الوقوع في المحظور، والوسائل آخِذَةٌ حكم المقاصد كما هو مقرر في قواعد الشريعة، والله تعالى أعلم، فلا يجوز وضعها في الحجاب، ولا في الشِّيْلات، ولا في كل لباس ظاهر.
أما اللباس الباطن الذي لا يطَّلع عليه الرجل من الخارج فهذا لا حرج فيه، ولا عُتْبى على المرأة في وضعه على شرط أن لا تراه عينٌ ممن حرَّم الله رؤيتها إليه.
والله تعالى أعلم.(53/18)
الحث على الدعوة إلى الله
السؤال
يا شيخ! إني أحبك في الله، وأرجو يا شيخ أن تحث شباب الصحوة على الدعوة في هذه المنطقة بالذات؛ لأنهم يهتمون بأنفسهم فقط دون غيرهم من الشباب الغافلين عن ذكر الله، من حيث النصيحة ونشر الشريط الإسلامي وغيرهما من أساليب الدعوة! جزاكم الله خيراً.
الجواب
جزاك الله خيراً، وأسأل الله أن يكتب لك الأجر، ويعلمُ الله كم سُرِرْتُ حينما لقيتكم، ويعلم الله شوقي إلى لقائكم.
وأسأل الله أن يكثر الخير فينا وفيكم، وأن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين وأوليائه المتقين، وأن يكثر فينا وفيكم الصالحات والصالحين.
إخواني في الله: أفضل الأعمال وأحبُّها إلى الله: كلمةٌ تَهدي القلوب إلى الله كلمةٌ تدل بها على السبيل كلمةٌ تكون بها دليلاً ونعم الدليل! يوم تَهدي إلى الله العظيم الجليل.
ولقد شهد الله في كتابه أنَّ أحبَّ الكلام إليه من أوليائه كلامٌ هَدَى إليه سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فـ (مَنْ): بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله جل جلاله! فأطيب الكلام بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم: كلام يهدي إلى الله جل جلاله.
تكلم فلعل كلمة تُذَكِّر غافلاً! تكلم فلعل كلمة تنبِّه وتوقظ نائماً! تكلم بالكلام الطيب ولو لم يكن لك شرف إلا أن تكون من خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نبوَّتَه وَرِثَها العلماء والصلحاء في كل زمان ومكان، فكُنْ من أولئك المشاعل للنور والهداية.
أيها الأحبة في الله: أولُ ما ينبغي على الداعية: أن يكون قدوة في نفسه.
فحاول قدر استطاعتك أن لا تسمع بأمر من أوامر الله إلا فعلته، وألا تسمع بنهي من نواهي الله إلا اجتنبته وتركته.
وأن تكون فيك الأخلاق والآداب الإسلامية التي تدل على أنك مسلم حقاً ومؤمن صدقاً، فإذا أصبحتَ بهذه المثابة، فوالله إنك لداعٍ ولو لم تتكلم بلسانك.
قال جعفر الصادق لأصحابه -ذلك الإمام من أئمة أتباع التابعين- قال لهم: [ادعوا وأنتم صامتون، قالوا: رحمك الله! كيف ندعو ونحن صامتون؟! قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وآدابكم قبل أن تتكلموا بألسنتكم].
فالآداب والأخلاق والشمائل الحميدة لا يزال الشاب الصالح الوضيء المشرق وجهه من طاعة الله يدعو بها ولو لم يشعر.
فالوصية الأولى: الأخلاق: أن تلتزم بآداب الإسلام، وتكون نفسك تواقة إلى معالي الأمور، فتسعى وتسمو إلى حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتبيع نفسك في مرضاة الله، فتجلس في المجالس، وتشتغل بذكر الله، وإذا سمعت أحداً يغتاب آخر تقول له: يا أخي! اتقِ الله! وإذا سمعت أحداً ينقل نميمة تقول له: يا أخي! اتقِ الله! وإذا سمعت أحداً يتكلم فيما لا يعنيه تقول له: يا أخي! اتقِ الله! فلا تزال الكلمة تخرج منك تلو الكلمة، وتخط لك الأجور التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله.
ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له به رضاه إلى يوم يلقاه) فتَمُرُّ على رجل شاربٍ للدخان فتأتيه بالنصيحة الثمينة وتقول له: يا أخي! أي نفس تعذبها؟! وأي روح في مهدها تقتلها؟! أما تتقي الله في نفسك؟! يا أخي! اتقِ الله في هذا المال الذي أعطاك الله إياه، وحرمه الفقير غيرك! أما تتقي الله أن تسعى في هلاك نفسك؟! فقولك: (أما تتقي الله) وأنت لا تبالي بهذه الكلمة يَكْتُبُ الله لك بها رضاً لا سخط بعده إلى يوم القيامة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ... ).
وقد تجلس في البيت فترى المنكر، فتنصح النصيحة، وتخرج منك غيرة على دين الله وحدوده ومحارمه فيكتب الله لك بهذه الغيرة رضاً لا سخط بعده أبداً.
فمَن بذل نفسه للدعوة إلى الله، واشترى رحمات الله بالكلام الصالح والتذكير بالله فأنْعِم به مِن رجل! وأنْعِم به مِن داعية ومِن متكلم! وما الذي يأخذه الناس من المجالس غير كلمة تقرب القلوب إلى الله؟! وما الذي نأخذه من الدنيا غير طاعة الله جل جلاله؟! {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
سبحانه! لا إله إلا هو! فالله لا يريد منا شيئاً إلا العمل الصالح، والذي بيننا وبين الله هو: العمل الصالح، وأفضل الأعمال وأحبها: الدعوة إلى الله.
والوصية الأخيرة: لن يكون هناك شاب تائهٌ ضائع تعرفه وتقصر في دعوته، إلا كان لك خصماً بين يدي الله جل جلاله:- فإذا مررتَ على جارك وعرفتَ أنه لا يصلي، فسكتَّ عنه، أتى يوم القيامة يتعلَّق بك وهو يقول: يا رب! سَلْ جاري، فإنه ما دعاني إلى الصلاة يوماً من الأيام! فإذا رأيت جارك على منكر أو معصية فقلت: ما لي وله، وما لي وللناس؟ فهذه كلمة يسيرة؛ لكنها عند الله عظيمة، فإذا وقفتَ بين يدي الله، علمتَ هل هذا من شأنك أو ليس من شأنك! كذلك تذكير الغافلين، فالناس فيهم خير، خاصةً في هذه البيئات المسلمة، الناس على الفطرة، واللهِ إن فيهم خيراً مهما عملوا من سيئات وذنوب، واللهِ إن العبد تجده على أشد ما يكون من معصية لله جل جلاله، وما إن تقرعه بآية من كتاب الله إلا ويطأطئ رأسه ذليلاً ويقول: جزاك الله خيراً.
فهذا نعمةٌ وخيرٌ في الأمة المسلمة؛ لكن الإنسان إذا كان شاباً وبه طيش وغرور يحتاج منك إلى يد حانية، ونصيحة غالية، ثم إذا نصحتَ إياك أن تكون حجرة عثرةٍ عن سبيل الله وصراط الله، بل انصح بالتي هي أحسن، انصح باللين والرفق، وأشْعِر الذي تنصحه، كأنك يدٌ تريد أن تنتشل غريقاً، ولستَ بصاحب تشهير ولا أذيةٍ ولا تعيير؛ ولكن صاحب بِرٍّ ودعوةٍ وإحسانٍ وصلاح.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
والله تعالى أعلم.(53/19)
الأسباب التي تؤدي إلى لين القلوب
السؤال
السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله.
ما هي الطرق التي تؤدي إلى لين القلوب؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأحَبَّكَ الله الذي أحببتني من أجله، وأُشْهِدُ الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بكم جميعاً في دار كرامته {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
أخي في الله: أنت تسأل عن الأسباب التي تلين القلوب! أعظمُ هذه الأسباب وأجلُّها: أن تسأل الله أن يرزقك قلباً ليناً، وأن تستعيذ بالله من القلب القاسي:- فإن الناس لضعف قلوبهم وعقولهم يظنون أن قوة القلوب هي الرجولة والفحولة؛ ولكن أقول: لين القلوب هو الرجولة الكاملة، والإيمان الكامل.
فسَلِ الله أن يعطيك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاءٍ لا يُسْمع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع).
سَلِ الله أن يعيذك من القلب القاسي، وسَلِ الله أن يرزقك قلباً ليناً رقيقاً رفيقاً بعباده، فإنه سبحانه وحده مقلِّب القلوب والأبصار، وهو وحده الذي يستطيع في لحظة واحدة وطرفة عين أن يقلِّبها فتصير أذل ما تكون لعباد الله المؤمنين، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
جعلنا الله وإياكم منهم.
اللهم آمين.
السبب الثاني الذي يعين على لين القلوب: كثرة ذكر الآخرة:- أن تتذكر أنها ستمرُّ عليك مثل هذه اللحظة وأنت ضجيع القبر والبِلَى، والله لَتَمُرَّنَّ عليك ولو بعد حين! وكم من ضاحكٍ منا قد نُسِجت أكفانُه وهو لا يدري! فكثرة ذكر الموت والدار الآخرة وقُرب المصير إلى الله يلين القلوب، ويجعل الإنسان في همٍّ وغمٍّ من الآخرة وحدها حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره.
أما السبب الثالث -وهو داخلٌ في السبب الثاني-: زيارة المقابر: زُرِ القبور، وقِفْ بين أهلها، وانظر إلى حال أغنيائها وفقرائها! إنهم جيرانٌ لا يتزاورون! وسكانُ لَحْدٍ وشِقٍّ منه يبعثون! ينادُون ولا مجيب! ويَسْتَعتبون ولا مُعْتِبٌ ولا مستجيب! قد زالت فوارقهم! وذابت أنسابهم! وصاروا إلى الرفات.
صاحِ هذه قبورنا تملأ الرحبَ فأين القبور من عهد عادِ؟! خفِّف الوطء! ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجسادِ انظر في الأمم التي مضت وانقضت وولَّت! كم بينها أناسٌ آكَلُوك! كم بينها أناسٌ شارَبُوك! كم بينها أناسٌ زاوَرُوك! كم بينها أناسٌ بينك وبينهم المودة والمحبة قد انقطعوا إلى الله، وصاروا إلى لقاء الله، وانقطعت عنهم الحيلة، وأصبحوا رهناء بما قالوا وما فعلوا! فمَن تذكَّرَ هذه المنازل هانت عليه الدنيا، وأصبح لَيِّن القلب يفكر في نجاته من لقاء ربه جل جلاله.
ومن الأسباب التي تعين على لين القلوب: زيارة المرضى وعيادتهم: واسمع إلى هذا يتأوه! واسمع إلى هذا يشتكي! واسمع إلى هذا قد كُسِرت ساقه! وهذا قد قُطِعت يده! وهذا قد كُفَّ بصره! وقل: الحمد لله الذي عافاني؛ لكي تحس أنك حقيرٌ ذليلٌ تحت سطوة الله جل جلاله، حتى يذهب الغرور الذي يرفع الإنسان عن قدره ومكانه، حتى تعرف من أنت تحت رحمة الله جل جلاله وسطوته ونقمته، فإن العبد تراه قوي البدن صحيح الجسم ما أن يبتليه الله بسقمٍ خفيف في عضو من أعضائه حتى يَخِرَّ كالميت مجندلاً يتأوه من سقمه ومرضه.
الله أكبر! ما أعظم سلطانه إذا أخذ! وما أعظم سلطانه إذا نزل! فهذا يلين القلب ويعرِّف الإنسانَ بقدره.
ومما يلين القلوب: زيارة الصالحين، وحب الصالحين، وغشيان حِلَق الذكر، فهم القومُ لا يشقى بهم جليس:- فلا تزال تزور حِلَق الذكر، وتسمعُ المحاضرات والندوات، حتى يُلَيِّن الله قلبك؛ لأن الوحيَ وكلامَ الله وكلامَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلامَ الصالحين وكلامَ الدعاة والهداة كالغيث للقلوب، يُلَيِّنها ذلك بإذن الله جل جلاله.
فأكْثِر من سماع الذكرى، وأكْثِر من سماع المواعظ، فإنها تقرِّبك إلى الله جل جلاله.
ومن الأمور التي تلين القلوب: البُعْد عن أهل الغفلة الذين يكثرون من ذكر الدنيا فإن عاشرتهم قسا قلبُك، وإن عاشرتهم نسيتَ ربَّك ولَهَوْتَ مع اللاهين، وجَرُّوك إلى ويلات، وأخَذْت ترتع في أودية الدنيا السحيقة، ولن يكون لك منها إلا ما قسم الله لك، ولن تخرج إلا بما كتب الله لك من الرزق، فلا تزال تلهث معهم، ولا يزال الإنسان يشتغل بأحاديثهم؛ باع فلانٌ، واشترى فلانٌ، وقَضَى فلانٌ، وعُمِّر فلانٌ، وهَدَم فلانٌ، حتى تأتيه قاصمة الله فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
نسأل الله السلامة والعافية.
فإياك والجلوس مع أهل الغفلة! ابحث عن الصالحين، عن قومٍ إذا رأيتَهم ذكرت الله جل جلاله.
أما الوصية الأخيرة: فامسح على رأس اليتيم، وواسِ الأرملة والمسكين يلين الله قلبك، وصِلْ رحمك، واعفُ عمن أساء إليك، واتخذ من الصالحات سبيلاً: فإنك لا تزال تفعل الصالحات حتى تتغشاك الرحمة تلو الرحمة، حتى يصبح قلبك ليناً لله جل جلاله، حتى إنك لن تسمع آية إلا فاضت عيناك من الدموع لله سبحانه وتعالى.
والناس في لين القلوب على مراتب، فمَن كَمُلَت له هذه الأسباب، فإن قلبه يلين.
ألا وإن أعظم الأسباب وأجلها: تذكر كلام الله جل وعلا.
وكثرة تلاوة القرآن.
والاعتبار بمواعظه.
والوقوف أمام مشاهده.
فإن ذلك يلين القلوب.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يليِّن قلوبنا وقلوبكم، وأن يعيذنا وإياكم من القلب القاسي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.(53/20)
رحمة الضعفاء
إذا أراد الله أن يسعد عبداً من عباده ملأ قلبه رحمة، حتى يعظم خيره، ويضاعف أجره؛ فكم من رحماء توطنوا القبور وأمامهم بشرى ما قدموه من القول والعمل، فكم من أرملة ترفع كفها داعية بالخير لهم، وكم من يتيم ومحروم يسأل الله أن يملاً مضاجعهم مضاجع الروح والريحان.
إنها الرحمة التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وأن يكون من أهلها.(54/1)
من آثار الرحمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدٍ يخاف من لقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وعلى من سار على نهجه ومنواله.
أما بعد: فأحييكم بتحية الإسلام: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي بداية هذا اللقاء أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي المشايخ الفضلاء الذين تسببوا في هذا اللقاء خيراً، وأسأل الله العظيم أن يكتب لكم الخطا، وأن يوجب بها الحب والرضا، فإن الدنيا فانية وكل ما عليها زائل، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله، ومن ابتغى ما عند الله أقر الله عينه، والقليل من العبد في معاملته مع الله كثيرٌ عند الله بمنه وفضله وكرمه، فقد تكون الخطوة إلى طاعةٍ وبر موجبةً لمحبة الله للعبد محبةً لا يسخط بعدها أبداً، وقد تكون الكلمة من محبة الله لا يلقي لها العبد بالاً يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، فأسأل الله العظيم أن يجعل أعمالنا مقبولةً عنده، وهو أهل الفضل والتكريم.
أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة لعلمه سبحانه أن عباده أفقر ما يكونون إلى رحمته كتب على نفسه الرحمة وقسمها بين خلقه وعباده، فإذا أراد الله أن يسعد عبداً من عباده ملأ قلبه بالرحمة، حتى يعظم خيره، ويضاعف أجره، وتكفر خطيئته وترفع درجته.
إنها الرحمة التي قام عليها الإسلام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
إنها الرحمة التي لا تنزع إلا من شقي، قال: (يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً، قال: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!).
إنها الرحمة التي إذا دخلت إلى القلوب اطمأنت وانشرحت، وإلى الخير سابقت وأسرعت {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] من دخلت في قلبه الرحمة صار ليّن القلب يهش لطاعة الله، ويبش في مرضاة الله، سباقاً إلى كل شيءٍ يشتري به رحمة الله.
الرحمة هي: أمرٌ غيبي لا يعلمه إلا الله علام الغيوب، الله أعلم كم أسكن من رحمته في القلوب، فإذا أراد سبحانه بعبده خير الدنيا والآخرة جعل حظه من ذلك وافراً، فمن سكنت في قلبه الرحمة رحمه الله في الدنيا والآخرة.
رحمه الله في الدنيا فلطف به في النكبات، وأحاطه بلطفه ورحمته، كما رحم المؤمنين والمؤمنات {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60] ورحمه الله عند موته فلطف به في السكرات وأحسن له الخاتمة، قال بعض أهل العلم: أشهد أني ما علمت إنساناً رحيماً فساءت خاتمته.
فغالباً ما يكون المرحوم الذي ملئ قلبه بالرحمة قرير العين عن ربه، حتى في آخر لحظات عمره، إذا أسكن الله الرحمات في قلب عبده رحمه في لحده، ورحمه في قبره حتى بدعوات المؤمنين والمؤمنات.
فكم من رحماء توطنوا القبور وهم بشرى ما قدموه من القول والعمل، ماتوا وما ماتت مكارمهم، ماتوا وقد أتبعهم الله بصالح الدعوات، فكم من أرملة ترفع كفها إلى الله داعيةً بالخير له، وكم من يتيمٍ ومحروم يسأل الله أن يجعل مضاجعهم مضاجع الروح والريحان والنعيم والجنان.
إنها الرحمة التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وأن يكون من أهلها.(54/2)
المحتاجون إلى الرحمة(54/3)
الأيتام من أشد المحتاجين إلى الرحمة
أيها الأحبة في الله: أحوج الناس هم الضعفاء الأيتام، واليتيم قد انكسر قلبه بفراق أبيه، فهناك يتيمٌ لا يعرف أباه ألبتة، وهناك يتيم عاش مع أبيه أجمل اللحظات وقضى معه أفضل الساعات، وإذا به فجأة يختبئ عنه إذ صار في عداد الأموات، فأصبح منكسر القلب، مهموماً محزوناً يمضي مع الناس، فيرى كل ابنٍ مع أبيه، يمسح عليه ويحسن إليه، ويقف وحيداً فريداً كأنه يسائل أين أباه، وأين الرحمة التي أسدى إليه وأولاه، ولذلك إذا أراد الله بعبده الرحمة جاء إلى مثل هذا فمسح على رأسه، وجبر قلبه، وأحسن إليه بالقول والعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) فلليتيم حق ينبغي أن يحفظ، والله من فوق سبع سماوات يخاطب أفضل عباده وأشرفهم منزلةً عنده ويقول له: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9].
يقول العلماء: أعظم ما يكون القهر لليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والمسغبة منكسر القلب، مهموماً محزوناً فصفعته على وجهه فخيبت أمله، أصعب ما يكون على اليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والضيق ملتجئاً إليك بعد الله سبحانه أن تفرج كربته وأن تحسن إليه، والأمل منعقد بك، وإذا بك تخيب أمله -لا قدر الله- وترده، فذلك أعظم ما يكون من القهر وهو قادرٌ على أن يقوم بحاجته.
وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لا يمكن أن يوفق للخير إلا من أحب، ولذلك قال العلماء: إن السعي في حوائج الناس لا يكون إلا بقوة الإيمان، ورجاء ما عند الله سبحانه وتعالى.
لن تجد إنساناً حريصاً على إسداء الخير إلى الناس، وتفريج كرباتهم، والعطف عليهم، وإدخال السرور عليهم، إلا مؤمناً يرجو الله والدار الآخرة.(54/4)
العصاة والمذنبون من أحوج الناس للرحمة
وأحوج الناس إلى الرحمة هم العصاة والمذنبون، ولكنهم يحتاجون إلى رحمة التوجيه والهداية لطاعة الله، فإن الإسلام رحمة، والهداية والالتزام رحمة، وهناك أممٌ تنتظر منك أن تدلهم عليها، وأن تهديهم بإذن الله إليها، وأن تأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله، فتحببهم في طاعة الله ومرضاته، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة).
هذا الالتزام وهذه الاستقامة وهذه الهداية رحمة منحها الله لك، فإذا أردت أن ترحم بها عباده رحمك الله عز وجل، وبارك لك فيها، فما دعيت إلى هدىً إلا كان لك أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء.
الرحمة أفضل ما تكون بالدلالة على الخير، فكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ودلوا إلى المَعلَم والدليل فأصابوا رحمة الله العظيم الجليل.
والعصاة والمذنبون وإن أذنبوا وأخطئوا لكنهم ينتظرون الكلمة وينتظرون التوجيه والله يعينك ويسددك ويلهمك ويوفقك، ومن كان لله كان الله له، فقد تتكلم بالكلمة داعياً إلى رحمة الله، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم أن يلقاه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه) قد تمر على العاصي، وهو في غفلته وشهوته وسكرته فتوقظه من الغفلة وتنبهه من المنام، وتأخذ بمجامع قلبه إلى الله، فتقول له: اتقِ الله، واعلم أنك صائرٌ إلى الله، وأن الله سائلك ومحاسبك ومجازيك، فترعد فرائصه من خشية الله، وقد تخرج منك لا تلقي لها بالاً ويكتب الله عز وجل بها رضوانه.(54/5)
الوالدان والأقارب أولى الناس أن يرحموا
أحوج الناس إلى رحمتك أقرب الناس منك، وأولى الناس بذلك الوالدان {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا دخل على أمه قال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! رحمكِ الله يا أمي كما ربيتيني صغيراً، فكانت تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! رحمك الله يا بني كما بررتني كبيرة].
فأحوج الناس إلى رحمتك الوالدان، وذلك بقضاء حوائجهما، والسعي في تفريج الكربات عنهما، وإدخال السرور عليهما، حتى قال العلماء: من الرحمة أن لا تظهر لهما ما أنت فيه من الشجى والحزن، فإذا كنت مهموماً محزوناً فعليك أن تحرص كل الحرص ألا يريا منك الحزن وألا يريا منك الألم، فإنهما يتألمان أشد من ألمك.
الرحمة بالوالدين تكون بقضاء الحوائج في الدنيا، وكثرة الدعاء لهما في الآخرة، فإذا كانا أمواتاً فإنهما أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، أن تسأل الله أن يصب عليهما شآبيب الرحمات، وأن يجعل القبور لهم رياضاً من رياض الجنات، فتلك رحمة أودعها الله في قلوب الأبناء والبنات، لو أن الإنسان سبق والديه، فمات قبلهما لتفطر القلب من الوالدين، وللهجت الألسنة صباح مساء بالترحم عليه.
ومن أحوج الناس إلى رحمتك أبناؤك وبناتك، وإدخال السرور على الأبناء والبنات واللطف بهم والتيسير لهم، وإدخال السرور عليهم من أجلِّ ما تشرى به رحمة الله، ولذلك ثبت بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قصت عليه عائشة رضي الله عنها: (أن امرأةً دخلت عليها ومعها بنتان، فاستطعمت أم المؤمنين، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرة ثم أخذت الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها، فعجبت أم المؤمنين رضي الله عنها من صنيعها، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصت عليه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبين مما صنعت؟ إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك).
الرحمة بالأبناء والبنات حسنةٌ عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن، إلا كن له ستراً من النار).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إمام الرحماء بولده صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت عنه (أنه كان يقبل الحسن والحسين، فدخل عليه الأقرع فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك).
وتوفي ابنه إبراهيم ففاضت عيناه من الدمع صلى الله عليه وسلم، فقيل: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).
فمن أراد أن يكون رحيماً فليبدأ بأولاده، وليبدأ بأهله وزوجه، فإن الرحمة بالأقربين من أعظم الحسنات، ومن أجلِّ الطاعات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
أحوج الناس إلى رحمتك إخوانك وأخواتك، فيتفقد الإنسان حوائج الإخوان والأخوات، ويدخل السرور عليهم ابتغاء رحمة الله، لا من باب القرابة، ولكن من باب الطاعة والقربة والمحبة وشراء مرضاة الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن صدقة القريب: (إنها صدقةٌ وصلة) فكل ما تقدمه لإخوانك وأخواتك وقرابتك مما تُشْتَرى به رحمة الله، كل ذلك إنما يكون عن رحمة أسكنها الله في قلبك.
وكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ولكنهم في غفلة عن حقوق الإخوان والأخوات، فقد تجد الإنسان حليماً رحيماً بالغرباء، ولكنه فظٌ غليظ بالأقرباء، فأول ما يبدأ الإنسان بقرابته من أهله وولده ووالديه، وإخوانه وأخواته، فإذا انطلق المسلم من بيته حليماً رحيماً فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، من ابتدأ ببيته فكان والداً رحيماً، وكان أخاً رحيماً، وكان كذلك ابناً رحيماً بوالديه، فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، والله تعالى ييسر لليسرى من جاهد نفسه على ذلك.(54/6)
الضعفاء والمساكين والأرامل من المتعطشين للرحمة
ينبغي للمسلم أن يبدأ أول ما يبدأ بالقرابة، فإذا وفقه الله برحمة الأقرباء، نظر الإنسان إلى أحوج الناس للرحمة، وقد ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الإحسان إلى الضعفاء وإدخال السرور عليهم، وكما أن المسلم يرجو رحمة الله في سجوده وركوعه، فإنه يشتري رحمة الله في اللطف والإحسان بضعفة المسلمين، وقد ابتلى الله الأغنياء بالفقراء، وابتلى الأقوياء بالضعفاء، ورفع درجات بعضهم على بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
فالسعيد العاقل من تزيده نعمة الله تواضعاً لعباد الله، ومن تزيده نعمة الله توطئة للكنف لعباد الله وإماء الله، يشتري رحمة الله بالإحسان إلى الضعفاء والفقراء والبؤساء، فيكفكف دموع اليتامى، ويجبر قلوب الأرامل والثكالى، يشتري بذلك رحمة الله.
وقد أثر عن علي بن زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا جن عليه الليل حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام -وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين ومع ذلك تواضع لله عز وجل؛ لعلمه أن الله يحب منه تلك الخطوة، ولعلمه أن جبر تلك القلوب يجبر الله به كسر العبد في الدنيا والآخرة- فخرج رحمه الله في الظلام بعيداً عن الرياء والسمعة والثناء، يشتري بذلك رحمة الله سبحانه، فلما توفي رحمه الله فقدت تلك البيوت من كان يقرع عليهم في جوف الليل، وفي بعض الروايات: كان ما يقرب من ثلاثين بيتاً من ضعفة المسلمين، كان يمشي إليها بخطواته، فمات رحمه الله وما ماتت تلك الخطا، وسيراها بعينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها، فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله خلعوا ثيابه فوجدوا ظهره متشحطاً من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله برحمته الواسعة! كانوا أئمة في الإحسان وجبر القلوب، قد تمر على أرملة في ليلة ظلماء، وقد لا يكون عندها الطعام وهي في شدة الحاجة وشدة المسغبة، فتصيبها برحمة ساقك الله عز وجل بها من طعام أو مال، فتقف حائرة لا تدري ما الذي تقدمه لك، فلا تجد إلا أن ترفع كفها إلى الله داعيةً لك بخيري الدنيا والآخرة، فترجع إلى بيتك قرير العين عن الله، تقول: ربي إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير.
فجبر مثل هذه القلوب وإدخال السرور عليها عظيمٌ عند الله سبحانه: (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب فرأته في شدة العطش والهاجرة يلهث -يأكل الثرى- فنزلت فملأت موقها من الركية -أي البئر- وسقت الكلب، فشكر الله لها -أي أن الله أعظم منها هذه الرحمة- فغفر لها ذنوبها) وفي رواية: (فشكر الله لها -أي أن الكلب لا يدري كيف يجازيها فاتجه إلى الله جل جلاله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً فسأل الله أن يشكرها- فغفر الله لها ذنوبها).
الله أكبر! لن تجد ألذ من ساعة -بعد الإيمان بالله عز وجل وحلاوة مناجاته- مثل ساعة تحس فيها أنك أدخلت السرور فيها على محزون، أو نفَّست كربة مكروب، أو قضيت ديناً عن مديون تشتت ذهنه وعظم همُّه وظنه فأصابه ذل النهار وهمُّ الليل، فجئت بكل عزيمة إيمانية صادقة، والله مطلعٌ على قلبك، وأنت ماضٍ إليه تشتري رحمة الله لا تريد ثناءً ولا سمعةً ولا رياءً ولكن تريده سبحانه، فيعظم الله لك الثواب والأجر، إنها رحمات يوفق الله لها من أحب، أعطى الله الدنيا لمن أحب ومن كره، ولم يعطِ الدين والرحمة إلا لمن أحب، فالإحسان إلى الناس خاصةً الضعفاء والبؤساء أمرٌ عظيم.
ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الإحسان إلى الأرملة والقيام على حوائجها ينزل صاحبه منزلة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم: كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) وكان بعض العلماء يفضل السعي في قضاء حوائج المسلمين، حتى إن بعض أئمة السلف كان يفضل قضاء حاجة الأرملة على الاعتكاف في المسجد؛ لأنها إذا سألت ربها وابتهلت إلى خالقها سألت من قلب ودعت بصدق، فينال الإنسان بهذه الدعوة خيري الدنيا والآخرة.(54/7)
أمور تعين على الرحمة(54/8)
معاشرة الرحماء
كذلك أيضاً مما يحرك القلوب إلى الرحمة والإحسان إلى الناس: معاشرة الرحماء، فانظر في إخوانك وخلانك، فمن وجدت فيه الرحمة ورقة القلب وسرعة الاستجابة لله، فاجعله أقرب الناس منك، فإن الأخلاق تعدي، فإذا عاشر العبد الصالحين أحس أنه في شوق للرحمة، وأحس أنه في شوق للإحسان إلى الناس، ودعاه ذلك إلى التشبه بالأخيار، فكم من قرينٍ اقترن بقرينه، كان من أقسى الناس قلباً، فأصبح ليناً لان قلبه بصحبة الصالحين.(54/9)
قراءة سيرة السلف الصالح
ومن أعظم الأسباب التي تعين على الرحمة: قراءة سيرة السلف الصالح، الأئمة المهديين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والوقوف على ما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الكريمة، كل ذلك يحرك القلوب إلى الرحمة، ويجعل فيها شوقاً إلى الإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم، وقل أن تجلس في مجلس فيذكر فيه كريمٌ بكرمه، أو يذكر المحسن فيه بإحسانه إلا خشع قلبك.
فسير الرجال وسير الصالحين وسير الأخيار تحرك القلوب إلى الخير، والله تعالى يقول في كتابه: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فالله يثبت قلوب الصالحين على الصلاح والبر ما سمعوا بأمرٍ صالح وما سمعوا بسيرة عبدٍ صالح، نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم في ذلك أوفر العظة والعبرة.(54/10)
قراءة كتاب الله عز وجل
فمن أعظم الأسباب التي تعين على الرحمة وتيسر للإنسان طريقها: قراءة كتاب الله جل جلاله، قال العلماء: إن الرحمة لا تدخل إلى قلبٍ قاسٍ، والقلوب لا تلين إلا بكلام الله، ولا تنكسر إلا بوعد الله ووعيده وتخويفه وتهديده، فمن أكثر تلاوة القرآن، وأكثر من تدبر القرآن كسر الله قلبه ودخلت فيه الرحمة.(54/11)
تذكر مشاهد الآخرة
كذلك من الأسباب التي تعين على رحمة الضعفاء: تذكر الآخرة، فإن العبد إذا تذكر مشاهد الآخرة، وصور نفسه كأنه قائمٌ بين يدي الله تجادل عنه حسنته، ويقف بين يدي الله عز وجل وقد نشر له ديوانه، وبدت له أقواله وأفعاله، إذا تصور مثل هذه المواقف قادته إلى الله وحببت إلى قلبه الخير وجعلت أشجانه وأحزانه كلها في طاعة الله ومرضاته.(54/12)
نماذج من سير السلف في الرحمة
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشد الناس قلباً وأعظمهم صلابة، فلما كسر الله قلبه بالإسلام، كان من أرحم الناس بالمسلمين رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه عاشر رسول الأمة وإمام الرحماء فتأثر به، حتى قال العلماء رحمهم الله: كان أرحم الناس بالناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة.
عائشة رضي الله عنها وأرضاها يأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عن الجميع -وهي صائمة- ثلاثون ألف درهم وهي في أشد الحاجة، فتوزعها على الفقراء إلى فلان وآل فلان، ولم تبق منها شيئاً حتى غابت عليها الشمس، فالتمست طعاماً تفطر عليه فلم تجد.
الله أكبر! إذا نزع الله الدنيا من قلب عبده وملأه من آخرته، صارت أشجان الإنسان وأحزانه وهمومه كلها لله سبحانه.
أثر عن الحسن أنه خرج من ماله مرتين لله عز وجل، وخرج عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه للجهاد في سبيل الله فأعد فرسه وفيه ألف دينار نفقته للجهاد، وعليه عدته وزاده، فجاءه رجلٍ يبكي، وقال: [يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سبيل منقطع، قال: دونك الفرس بما عليه].
وجاء رجل إلى عرابة وكان من الأجواد والأخيار ومن أهل البر والإحسان، وكان آية في الإنفاق والجود والكرم إذا ما راية رفعت لمجدٍ تلقاها عرابة باليمين وقد كان عرابة في آخر عمره فقيراً، أصابه العمى فكف بصره رحمه الله برحمته الواسعة، جاءه رجل فقير مدقع، فقال له: يا عرابة! وهو ماضٍ إلى المسجد الحرام يتوكأ على عبدين من عبيده، وكانا آخر ما يملك، فقال: يا عرابة! ابن سبيل منقطع، قال: دونك العبدين، قال: إنما أردت أن أختبرك، قال: إن لم تأخذهما فهما حران لوجه الله، ثم رجع يتلمس البيت ويتلمس الجدار، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا أئمة ومشاعل خيرٍ وبر، وما زال الخير في الناس.
أثر عن بعض من سلف أنه كان محسناً كريماً لا يسمع بأرملة إلا تفطر قلبه على الإحسان إليها، ولا يسمع بأيتام إلا غشيهم وزارهم وأدخل السرور عليهم.
جاءه خبر أن في طرف المدينة بيتاً فيه أيتام، وهم في شدة الجوع والظمأ والبرد، لا يجدون طعاماً ولا لباساً، فقام رحمه الله وخلع ثياب الشتاء ولبس ثياباً رقيقة لكي يشعر بالبرد كما يشعرون، ونادى وكيله الذي يقوم على المال، وقال له: لقد بلغني أن بموضع كذا وكذا أيتاماً تعولهم أمهم، وهم لا يجدون الطعام ولا يجدون اللباس والكسوة، فاذهب إليهم وخذ شيئاً من مالي فأطعمهم واكسهم.
فكانوا أئمة خير، وكانوا مشاعل طاعةٍ وبر، نسأل الله أن يبلغنا ما بلغوه.(54/13)
وصايا للرحماء(54/14)
الصبر والاحتساب عند رحمة الضعفاء
الوصية الثانية: رحمة الضعفاء تحتاج إلى تعب ونصب وتضحية، ولابد للإنسان أن يصبر ويصابر، وأن يحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وكان بعض الأخيار ينشرح صدره إذا وجد في الطاعة تعباً ومشقة، حتى كان بعض العلماء يقول: يرجى القبول للإنسان إذا عظمت مشقته في الطاعة.
فأعظم الناس في الخير من عظم بلاؤه فيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ثوابكِ على قدر نصبكِ).(54/15)
الرحمة بالبهائم
وكما أن الرحمة تكون للعباد، تكون كذلك للبهائم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال عليه الصلاة والسلام: في كل كبدٍ رطبٍ أجر) وقد (دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، قال بعض العلماء: أخشى من هذا الحديث إنه ما نزعت الرحمة من قلب إنسان إلا ابتلي بالنار؛ لأنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع إلا من شقي).
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا بالرحمة، وأن يجعلنا من أهلها، وأن لا يجعلنا من الأشقياء والمحرومين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/16)
ضرورة الإخلاص
أيها الأحبة في الله: الرحمة في الضعفاء لا يقصد بها ثناء الناس، ولا مدح الناس، فإذا زكاك الله أغناك عن عباده، وإذا زكاك مولاك أغناك عن خلقه، فاجعل أعمالك بينك وبين الله، واجعل صفحات البر والإحسان التي تقدمها للضعفاء والفقراء أكره ما يكون أن يعلم بها أحد، فتكره أن تراها عين أو تسمع بها أذن، وليكن في قلبك الشعور أن أحب ما يكون: أن تعمل هذه الحسنة وتقضي وتسد هذه الخلة، ولا يعلم بك أحد إلا الله جل جلاله، أولئك الذين يرجون رحمة الله.
وإذا كان الإنسان يريد الرحمة على أتم وجوهها وأكملها، فليخلص لوجه الله، فما كان لله فإنه باقٍ إلى لقاء الله، وما كان لغير الله فإنه يزول بزوال الدنيا، ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يؤتى بالكريم الجواد يوم القيامة، فيقول الله له: عبدي ألم تكن فقيراً فأغنيتك) الله أكبر! ما أعظم مشاهد الآخرة! ما أعظمها من ساعة إذا أوقف الله عبده وحاسبه وسأله وذكَّره نعمته! فقال: (عبدي ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ ألم تكن وضيعاً فرفعتك؟ ألم تكن ألم تكن قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت لي؟ قال: أنفقت لوجهك، وفعلت وفعلت، ولم أترك باب خيرٍ إلا فعلته، فقال الله: كذبت، فقالت الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال فلانٌ جواد وقد قيل اذهبوا به إلى النار) نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وبصفاتك العلى، أن تجعلنا ممن قلت له: صدقت وبررت، وقالت الملائكة: صدقت وبررت (ويؤتى بالعبد الصالح فيعرفه الله نعمته، فيقول الله: ماذا عملت لي؟ فيقول: أنفقت لوجهك، وفعلت لوجهك، فيقول الله: صدقت، وتقول الملائكة: صدقت).
فعلى الإنسان أن يحرص إذا فرج كربات الناس وأسدى للناس، ورحمهم وتولاهم أن تكون حسناته بينه وبين الله جل جلاله، ولا ينتظر من أحدٍ ثناء، ولكن ينتظر ثناء الله عز وجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه (أن الله تعالى ينادي ويقول: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيوضع له القبول في الأرض) نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فلا يحبك الله إذا قدمت مثل هذه الحسنات إلا إذا رجوت بها وجهه سبحانه وتعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].(54/17)
الأسئلة(54/18)
نصيحة لمن أراد ترك طلب العلم والدعوة بسبب الذنوب والمعاصي
السؤال
أنا طالب علم وعندي رغبة في تحصيل العلوم النافعة، لكن في بعض الأحيان أتذكر ذنوباً ماضية، فأندم عليها أشد الندم، وأقول في نفسي: أنا لا أصلح أن أكون داعية، فضلاً عن أن أكون من العلماء، فيدخلني اليأس وتراودني نفسي على ترك الطلب، فما توجيهك لي حفظك الله؟
الجواب
والله كلنا ذاك الرجل، إذا ذكرنا ما سلف من التقاعس في طاعة الله والتفريط في جنب الله، أشفق الإنسان على نفسه، حتى إنه يخشى أن يكون مستدرجاً من حيث لا يحتسب، وهذا الذي سألت عنه شيء من الإشفاق والخوف والوجل، فإن العبد الصالح دائماً يبكي على ما مضى، ويخشى مما سلف وكان.
يحق لي يا عين أن بكيت أبكي لعلمي بالذي أتيت أنا المسيء المذنب الخطاء في توبتي عن حوبتي إبطاء من منا لم يذنب؟ ومن منا لم يسئ؟ إذا كان هذا الشعور الذي تشعره من الذنب والإساءة فيما سلف، وكان يحرّك الله به قلبك للإحسان وكمال العمل فهي رحمة من الله أسكنها في قلبك لكي تحتقر نفسك، وإذا احتقرت نفسك رفعك الله، إذا كان أهل العلم وطلاب العلم دائماً يشعرون بأنهم في الدون تواضعوا لعباد الله، وخرجوا للأمة مشاعل خير مليئة بقلوبٍ رحيمة حليمة بعباد الله وأوليائه، فعظم خيرهم وبرهم.
إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى فيكسر القلوب ما إن يتذكر الإنسان ما كان عليه ويقول: من أنا حتى أعلم الناس وأوجههم؟ فإذا صار هذا الشعور يمنعك من الزيادة في طلب العلم، ويريد منك عدو الله إبليس أن يخذلك عن مجالسة العلماء وطلاب العلم فاعلم أنه مكرٌ من عدو الله، وأنه استدراج منه يريد أن يخذلك، فقل له: اخسأ عدو الله، فإن رحمة الله فيما ضيقت عليَّ، وكم من إنسان أذنب وتاب وتفطر قلبه من الذنب فغفر الله له من أول لحظة، ثم جعل الله أشجانه وأحزانه على الذنب رفعة له في الدنيا والآخرة.
ولذلك يقولون: إن الذنب قد يعود برحمةٍ على الإنسان، وقد ذكر هذا غير واحدٍ من الأئمة، إذا استصعب هذا الذنب، ودائماً يجعله نصب عينيه لا من باب القنوط ولا من باب اليأس، ولكن من باب الاحتقار للنفس والازدراء بها والمحاسبة لها؛ فهذا شيءٌ طيب، أما أن يصبح الإنسان بمثل هذه المشاعر يقصر في الدعوة ويقصر في مجالس العلم، ولا يريد أن يحمل مشعل الخير للناس فلا، ويأبى الله ذلك؛ لأن هذا الشعور مكرٌ من الشيطان، ورحمة الله واسعة وفضل الله عظيم ومن منا لم يذنب.
وانظر إلى ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، في جاهليتهم ثم غفر الله لهم في طرفة عين، فأسلموا وأسلمت لله قلوبهم وقوالبهم، فأقر الله عيونهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبرفعة الإسلام، وعوضهم الله في الفتوحات والغزوات مشاهد صدقٍ كان لهم فيها حسن البلاء وعظيم الأجر من الله سبحانه.
فإياك ثم إياك أن يخذلك عدو الله، وكن مستصحباً هذا الشعور دائماً في مجالس العلم وتقول: يا رب كنت جاهلاً فعلمتني، وكنت ضالاً فهديتني، وكنت وضيعاً فرفعتني، فمن أنا لولا فضلك ولولا إحسانك؟! ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ، وتظهر ذلك لله، وقد قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً ورأيت نفسي أصغر الناس إلا خرجت وأنا أعلاهم، ولا دخلت مجلساً وأرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم.
وينبغي على طالب العلم دائماً أن يستصحب أنه وضيع إلا أن يرفعه الله، وأن يتواضع للناس، وأن يكون عنده مثل هذا الشعور الذي يحمله على مكارم الأخلاق وحسن المعاملة مع الله، والله تعالى أعلم.(54/19)
كيفية الجمع بين طلب العلم وبر الوالدين
السؤال
قدمت لطلب العلم الشرعي وتركت والديَّ في منطقتي، فأيهما أفضل: طلب العلم أم بر الوالدين؟
الجواب
الأفضل أن تطلب العلم وتبر الوالدين، فإن تيسر طلب العلم في بلدك مع بر الوالدين فهو أفضل، وأما إذا لم يوجد في بلدك من هو أعلم والناس بحاجة إلى علمك، فيجب عليك أن تخرج؛ لأنه تعلق بك حق أمة وأنت مسئول عنهم بين يدي الله، ولذلك قال الله في كتابه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] والله سائلك عن أمتك وجماعتك وأهلك ووطنك وقريتك ومن أنت معهم، فهذه مسئولية عظيمة.
فإذا تعين عليك طلب العلم فقد قال العلماء: هذا يستثنى من استئذان الوالدين، هذه من المواضع التي تستثنى ولا يجب فيها استئذان الوالدين، ولكن الأفضل والأكمل أن تتلطف في أخذ رضاهم، فهذا أمرٌ ينبغي عليك أن تسعى فيه وتحرص على الجمع بين الحسنيين.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، ويعلم الله سروري بلقاكم في هذا المجلس، وأسأل الله العظيم أن يجزي المشايخ كل خير، وأن يجزي مكتب الدعوة بعنيزة كل خير، فقد كان له الفضل بعد الله في الدعوة إلى مثل هذه المجالس الطيبة المباركة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله.(54/20)
نصيحة لاغتنام الفرص في مواسم الطاعة
السؤال
قبل الختام نطلب من فضيلة الشيخ أن يوجهنا بنصيحة، ونحن نستقبل بعد أيامٍ إن شاء الله تعالى عشر ذي الحجة، وهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأيام التي يحب الله فيها العمل الصالح من عباده، كما أطلب منه كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يخص بها أخواتنا النساء في معاشرتهن ومسلكهن ودعوتهن ولباسهن فجزاه الله عنا خير الجزاء ولو أثقلنا عليه؟
الجواب
أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى من واسع رحمته بهذه الأمة اختار لها أزمنة محدودة، ومواسم معدودة يتسابقون فيها للطاعات، ويشمرون فيها عن ساعد الجد في المرضاة؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فينبغي على الإنسان أن يهيئ نفسه لهذه المواسم.
وإذا أراد الإنسان أن يوفق في موسم الطاعة فليستقبله أول ما يستقبله بالتوبة، فيكثر من الاستغفار؛ لأنه غالباً يحال بين الإنسان وبين التوبة بسبب الذنوب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) فإن الذنب قد يحال بسببه بين العبد وبين الخشوع، وقد يحال بسببه بين العبد وبين منزلته في الجنة، فإياك ثم إياك أن تفتر عن ذكر الله بالاستغفار، والله تعالى يقول: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] فأكثر من الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل عما سلف وكان.
ثانياً: عليك أن تحس بقصر الأجل وقصر العمر، فهي من أعظم الأمور التي تعين على مواسم الخير، والإنسان ما بينه وبين الآخرة إلا قبض روحه، والموت يأتي الصغير فلا ينظر إلى صغره، ويأتي الكبير فلا ينظر إلى كبره، وكم من ممسٍ كتب عليه ألا يصبح، وكم من مصبح كتب عليه ألا يمسي، والله أعلم، فكم من إنسان يضحك وإذا به في طرفة عين قد صار في عداد أهل الآخرة، قال بعض السلف: كم من إنسان يضحك بملء فيه وقد نسجت أكفانه من حيث لا يدري.
فالإنسان إذا استقبل مواسم الخير وهو قاصر الأمل، يقول: لا أدري هل أعيش إلى الغد أو لا أعيش.
الأمر الثالث مما يعين على اغتنام مواسم الخير: دعاء الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح يومه فيسأله التوفيق للطاعة والبر، وكان يسأل الله خير يومه أوله وآخره وفتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، والله إذا رآك تقف في بابه تسأله من رحمته وهو الكريم سبحانه لا يرد من سأله، فقد تكفل الله لك أن يعطيك سؤلك أو يرفع عنك من السوء مثلما سألت، أو يدخرها لك بالآخرة في منزلة قد لا تبلغها بكثرة صلاةٍ ولا صيام.
يقف الإنسان بين يدي الله ويقول: اللهم إني أسألك التوفيق في الخير، وكلما دخلت في موسم خير وبر تسأل الله أن يجعلك أسعد العباد، تقول: يا رب لا تجعلني بذنبي شقياً ولا محروماً، ولا تحل بيني وبين المسابقة في هذا الخير بما كان مني، فإن كنت أنا المقصر وأنا المذنب فأنت الكريم الجواد، فتستشعر بأنك أحوج ما تكون إلى رحمة الله بالدعاء.
ثم تصور أخي في الله مما يلهب مشاعرك، ودعاء الله وسؤالك أن تخشى أن تكون أشقى الناس فتقول: يا رب لا تجعلني شقياً، امنن عليَّ بالتوفيق والتسديد والتأييد، ونحو ذلك من مسائل الخير المباركة.
الأمر الرابع: الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواسم، فأولى الناس بالرحمة والهدى والبر هو الحريص على التأسي بالكتاب والسنة، ولن تستطيع أن تنال الجنة ولا رحمة الله ولا محبته إلا من هذا السبيل الوحيد الفريد، صراط الذين أنعم الله عليهم، والذي اختاره الله لنبيه وختم به وأقفل جميع الأبواب، ولم يبق إلا باباً واحداً لا يدخله إلا من اتبع سنته وسار على نهجه وطريقته.
وتحرص في كل موسم أن تسأل العلماء: ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في القول والفعل؟! فإذا علمت هديه التزمت هذا الهدي فلم تزد عليه ولم تنقص منه، فإذا فعلت ذلك هديت، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فمن أراد أن يحبه الله فليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يكون من هديه.
وقد ندبنا صلى الله عليه وسلم إلى الاستكثار من الاستغفار في هذه العشر، فتستكثر من الخير في الأقوال والأفعال، فتبدأ أول ما تبدأ بعقيدتك، وهناك أعمال للقلوب من حب الله والخشوع والخضوع والبكاء من خشية الله، ونحو ذلك.
ومن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ما كان بين العبد وربه مما يزيد بتوحيد الإنسان وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، فهذه الأمور من أعظم الأمور وأحبها إلى الله، ولذلك ذكر غير واحد من العلماء وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أعمال القلوب تفضل كثيراً على أعمال الجوارح، وذلك لما فيه من توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، والله تعالى ابتلى عباده بالإخلاص والتوحيد، وكلما كان القلب مستشعراً لمثل هذه المعالم من محبة الله والخوف والخشية كلما عظم الثواب عند الله عز وجل.
فعندما تدخل المواسم عليك حاول قدر استطاعتك أن تكون أكمل الناس خوفاً من الله.
وقف بعض السلف في يوم عرفه فقال: والله لو نادى منادي الله: قد غفرت لأهل الموقف إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل، فالإنسان لما تدخل عليه مواسم الخيرات ويحس أنه حقير، وأنه مقصر، وأن الله عز وجل له هيبته وله جلاله جل جلاله، وأنه ينبغي أن يهاب ويخشى، فمثل هذه الأمور من أحب الأعمال إلى الله وأعظمها ثواباً عند الله.
الأمر الآخر: الأعمال الصالحة من الأقوال والأفعال، يحرص الإنسان عليها، فيبدأ كما ذكرنا بالوالدين والأقربين، ثم بضعفة المسلمين ليحسن إليهم ويتفقدهم ويقضي حوائجهم، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ثم يجتهد في الطاعات من ذكر الله، وكثرة تلاوة القرآن، فكل ذلك مما يحبه الله ويرضاه.
وأما نصيحتي لأخواتي المسلمات: فأوصيهن ونفسي بتقوى الله الذي يعلم السر والعلانية.
أخواتي المسلمات: إن الله أدبكن فأحسن تأديبكن بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى على الصالحات في كتابه فقال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
أختي المسلمة: سعادتك في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تكفل الله لمن اتبع كتابه بما يسعده فلا يشقى أبداً، وتكفل لمن اتبع كتابه بالنور والرحمة والشفاء والهدى والسداد في الدنيا والآخرة.
يا أَمَة الله: اسمعي لكلام الله فإن سمعتِه يناديكِ فبادري بالاستجابة وبادري بالتطبيق والعمل.
يا أَمَة الله: أحب الأعمال إلى الله إخلاص العبادة، فاحرصي على الإخلاص، وإياك والرياء والسمعة وطلب ثناء الناس، فما عند الناس يذهب ويبلى، وما عند الله يدوم ويبقى، وما كان لله قرت به العين بين يدي الله في يومٍ يبعثر فيه من في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير يوم تبلى السرائر.
يا أَمَة الله: إن الله فرض عليكِ حقوقاً لوالديك فقومي بها على الوجه الذي يرضي الله من البر والإحسان، فرض الله عليكِ حقوقاً لبعلكِ فأحسني المعاشرة له بالمعروف مستجيبةً لأمر الله، فإن أقر الله عينك بالزوج الصالح الذي يفي لكِ كما وفيت فاحمدي الله على فضله، واسأليه الثبات على طاعته، وإن رأيت غير ذلك من إساءة في العشرة أو إساءة في القول والعمل فاعلمي أن الله لا يضيع لكِ الثواب، وأنكِ تحتسبي عند الله الأجر والمآب، فلا تضعفي ولا تجبني ولا تسيئي إلى العشير.
أدي الأمانة إلى من ائتمنكِ ولا تخوني من خانكِ، فإن رأيتِ البعل يكرمكِ فأكرميه، وإن رأيته يهينك فإن الله لا يهينك، واعلمي أن الصبر على البعل في أذيته وإهانته وإذلاله لك فيه ثواب ومرضاة، فاحتسبي عند الله أجرها، والله تعالى مطلعٌ على ما يكون فاحتسبي الأجر عند الله، وكما إنكِ ترجين الثواب في ركوعكِ وسجودكِ فإن صبركِ على البعل فيه ثوابٌ لكِ.
يا أَمَةَ الله: إن الله فرض عليكِ حقوقاً لأبنائكِ وبناتكِ فاتقي الله في الأبناء والبنات، وأحسني تربيتهن والقيام على حقوقهن في الطعام والشراب والكسوة، وربيهن على طاعة الله ومرضاته، فكم من أمٍ صالحة هدت ودلت كتب الله لها ثواب ما هدت ودلت، وكم من عالم ثوابه في ميزان حسنات أمه، قالت أم سفيان الثوري وهو يتيم: يا بني اطلب العلم أكفك بمغزلي، رحمها الله برحمته الواسعة، كانت تشتغل بمغزلها وتطعم ابنها وهو يتيم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين، وديواناً من دواوين العلماء العاملين، وكل ذلك في ميزان هذه المرأة الصالحة.
يا أمة الله: إياك والنعرات والدعوات إلى السيئات والشهوات؛ فإن أهل الشهوة يريدون منكِ أن تميلي ميلاً عظيماً، يريد الله لكِ الطهر والعفاف، والخير والكفاف، فكوني لله يكن الله لكِ، اعلمي أن سعادتك في هذا الدين، فمهما رأيتِ من المهانة والمذلة فاعلمي أنها عزة وكرامة، وأن التمسك بالدين والاعتصام بحبل الله المتين قرة عينٍ لكِ في الدنيا والدين.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا سواء السبيل، وأن يقيم لنا المعلم والدليل إنه المرجو الجليل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/21)
حكم المزاح مع الوالدين
السؤال
إني أمازح والديَّ وأضحكهما وأرفع صوتي عندهما، وأعلم أنه يدخل السرور على قلبيهما، فهل عليَّ من حرج؟ وما ضابط المزاح مع الوالدين؟
الجواب
من الحياء أن الإنسان لا يستطيع أن يمزح مع والديه، لكن إذا كان الوالد هو الذي يؤذي وهو الذي يمزح فتذل له فلا بأس، أما أن تأتي أنت وتمزح معه وتبدأه، فهذا أمر من الصعوبة بمكان، لكن إذا هجم عليك ومازحك وليس باليد حيلة فما حيلة المضطر إلا ركوبها، فعندئذٍ لا حرج أن تمازحه إذا ما غلبت على أمرك.
وقد رخص العلماء في مزح الولد مع والده، وأنه لا حرج عليه في ذلك، لا سيما إذا علم أنه يدخل السرور عليه، ولكن الأفضل والأكمل أنه لا يبتدئ المزاح؛ لأن في ذلك إسقاطاً للهيبة، وذهاباً للحرمة، وقلَّ أن تمزح مع أحد كائناً من كان إلا وكان له بعض الأثر في نفسك.
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها تشريعاً للأمة، فالأكمل والأفضل أن الإنسان يحفظ لوالديه الهيبة، ويحرص قدر المستطاع أن يعوض عن هذه الكماليات بما هو أكمل وأفضل من القيام بحقيهما والرعاية لهما، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.(54/22)
حكم مساعدة الناس بقصد المجاملة
السؤال
أقوم في بعض الأحيان بتسليف بعض من يحتاج إلى المال، فيعرض عليَّ طلبه، فأقوم بتلبية حاجته، ولكن في بعض الأحيان أقوم بهذا العمل إما بقصد دعوي، أو بقصد المجاملة لهم، فهل أحصل على الأجر بالمجاملة لهم، مع العلم أن بعض المبالغ مضى عليها أكثر من ثلاث سنوات، وهل يجوز لي أن أنوي من الآن أنها تفريج ومساعدة، علماً إني أستطيع أن أذهب إليهم وأطلبهم ما سلفتهم إياه، وفقك الله ورعاك؟
الجواب
يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه: (إنما لكل امرئٍ ما نوى) قال بعض العلماء: فيه دليل على أنه لا يكون للإنسان إلا ما نواه، إن كان للدنيا فللدنيا، وإن كان للآخرة فللآخرة، فإذا جاءك أحد وأحرجك فاجعل نية الآخرة هي الأصل، واجعل نية الدنيا تبعاً، أي: تعطيه ولكن تنوي أنك تحتسب أجرها وثوابها عند الله، وتجعل نية المجاملة تبعاً، وهذا لا يضر فيه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] قال بعض العلماء: إنهم فضلوا أن ينالوا العير والغنيمة من المال، ومع ذلك كانت نيتهم في الأصل إغاظة العدو، وكسب مرضاة الله عز وجل، فلم يؤثر ما كان تبعاً.
فنية الدنيا إذا كانت تبعاً لم تؤثر، لكن الذي يظهر من السؤال أنك مجامل، وأنك مستحٍ منهم، فإذا كان الأمر كذلك فهي نية دنيا، ولكن إذا نويت من الآن أن تجدد النية، وندمت على ما مضى وسألت الله فإن الله كريم، وفضل الله عظيم، وكونك تقول: إنه بإمكانك أن تأخذ المال منهم الآن، ولكنك تحتسب عند الله التخفيف عليهم، فأنت كذلك مثاب، فاحتسب من الآن، واسأل الله عز وجل أن يعوضك عما سلف وكان، والله تعالى أعلم.(54/23)
ضرورة الصبر والاحتساب في الدعوة إلى الله
السؤال
من الرحمة أن أرحم أهلي وأن أعاملهم بالحسنى وأدعوهم إلى الله، ولكن كلما فعلت ذلك أجد منهم قسوة وعدم قبول، فماذا أفعل وفقك الله وفتح عليك؟
الجواب
أسأل الله العظيم أن يسددك ويسدد أمثالك بالخير والبر، المؤمنة الصالحة إذا صلح حالها نشرت الخير والصلاح في أهلها، وأقرب الناس منها، ورأت عظيم حق قرابتها عليها، فقامت بذلك الحق على أتم وجه، فقد زكى الله الصالحات من فوق سبع سماوات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
المرأة الصالحة يحترق قلبها على أهلها وذويها، مع ذلك لا تمل ولا تسأم ولا تضعف أبداً، بل إنها تشعر بالقوة، فكلما رأت الصدود والإعراض تقول: الله أكبر! الله فوق ذلك وأعظم وأجل من أن يخيبني، فيبقى عندها الشعور بحسن الظن بالله، وسيريها الله الساعة التي تقر فيها العين بهداية أهلها وذويها، وما ذلك على الله بعزيز، فإن لله حكماً عظيمة، فقد ترى قرابتك يعرضون عنك ولكن لحكمته سبحانه يؤخر هدايتهم، حتى يبتلي صبرك، ويبتلي صدقك، ويعظم أجرك، ويرفع من قدرك في الدنيا والآخرة.
فاحتسبي الأجر عند الله، وخذي من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره، بماذا آذوكِ؟ غاية ما يكون من الكلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج وجهه وسالت دماؤه، وقتل عمه وبقرت بطنه، فقال: (ربِّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) فلا يخيب ظن الداعية بالله أبداً، بل إنه يتلقى مثل هذه المواقف بنفسٍ أبية وقلبٍ ثابت يحسن الظن بالله، ويعول في نجاحه على الله، والله مع عبده، والله مع الصابرين.
فهذا من الصبر، بل قال بعض العلماء: ألذ ما وجدت من الصبر الصبر على الدعوة.
بما فيه من استشعار أن الله يحب منك هذا الصبر من الكلمات الجارحة، والعبارات القاسية، والتذكير بالماضي المؤلم، وغير ذلك من التحقير والتسفيه، ومع ذلك لن تخيبي عند الله، ولذلك قال عروة: [والله ما قام عبدٌ في دعوته إلى الله مقام ذلٍ إلا أقامه الله مقاماً أعز منه] فلن تجد امرأة تهان بين أهلها، وهي تدعوهم حتى يأتي اليوم الذي تكون فيه درة بين من كان يهينها.
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: (قولوا لا إله إلا الله) فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فسفهه على رءوس الأشهاد، فمضت السنون تلو السنين، فوقف بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم على الصفا معه مائة ألف من أمته وأصحابه يفدونه بأرواحهم وأنفسهم، وقد أعاده الله مقام عزة وكرامة، وهذا هو دأب الله، ولكن الأمر يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى احتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30].
ومن كمال الإحسان: كمال الصبر واحتساب الأجر، فلابد للداعية من الرجال والنساء أن يكون محتسباً للأجر، وقد كان بعض العلماء يفرح بتأخر التوبة، يقول: ربما لو تابوا خدعت بنفسي، واغتررت بإنهم تابوا بحسن أسلوبي، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يعصمني من فتنة، مع أن تذكيرك بالله واستدامة النصح له كله في ميزان حسناتك، فاثبتي ثبتكِ الله وثبت أمثالكِ على طاعته ومرضاته، والله تعالى أعلم.(54/24)
نصيحة لمن أراد التوبة من الذنوب والمعاصي
السؤال
أنا شخصٌ عندي بعض المعاصي والذنوب وأريد أن أتوب منها، وأرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فما نصيحتك لي جزاك الله خيراً؟
الجواب
أوصيك أخي في الله! أن تقبل على الله تعالى، وأن تعلم علم اليقين أن الله يفرح بتوبتك أشد من فرحك أنت بنفسك، فالله يفرح بتوبة عبده أكثر من فرح الإنسان نفسه بتوبة الله عليه، وهذا من كرمه وفضله، وهو أغنى ما يكون عنا: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً).
أشهد لله بذلك، أنه ما نفعته طاعتنا ولا ضرته معصيتنا، فما عليك إلا أن تشعر أن الله يحب منك هذه الخطوة، ويحب منك هذا الإقبال، وأن الله تعالى يرضى عما تقدم عليه من الإنابة إليه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] علم أننا عباده وأننا أفقر ما نكون إليه، وأحوج ما نكون إليه، فهو يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل.
اللهم لك الحمد على رحمتك، اللهم لا نحصي ثناءً عليك، كم من مسيءٍ مذنب إذا قال: أستغفر الله تلقاه الله بمغفرته، وكم من مخطئ عظمت عثرته وإساءته فقال: أستغفر الله من قلبه، فتلقاه الله برحمته، فليست هناك ساعة ألذ من ساعة التوبة والإنابة والشعور بالتقصير، فأبشر بخير.
واعلم -أخي في الله- أن الشيطان سيحول بينك وبين الله بما يذكرك من المعاصي، فأقبل على الله فإنك سعيدٌ بربك، ولن يستطيع أحد أن يدخل بينك وبين الله جل جلاله.
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يجعلنا من عباده المنيبين، والله تعالى أعلم.(54/25)
كيفية معاملة الخادم والأجير
السؤال
فضيلة الشيخ طيب الله مسعاك، وكتب الله خطاك في موازين حسناتك، وقد قطعت الفيافي والقفار فجزاك الله خير الجزاء، كيف يعامل الإنسان منا خادمه وأجيره وعامله الذي أتى به من بلاده، خصوصاً وأن مقالةً نسمعها أن خفض الجناح لهم واللين معهم يجعلهم يتكاسلون ويتهاونون في أعمالهم، إجابةً منك تنفعنا وإرشاداً منك يرفعنا جزاك الله خير الجزاء؟
الجواب
أشهد الله الذي لا رب غيره ولا إله سواه إني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته، ووالله ما قطعتها إلا وكأني بين أهلي وإخواني، والله أعلم مقدار سروري أن أراكم، وأن أجتمع بكم في بيتٍ من بيوته، وبعد فريضةٍ من فرائضه، وأسأل الله العظيم أن يمتعنا بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
أخي في الله: ما سألت عنه من الأجير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفهِ أجره، ... ) قال العلماء: في هذا الحديث دليل على عظم أمر الأجير، حتى إن الله سبحانه وتعالى صار هو الخصم لعبده، ومن كان الله خصمه فقد خصمه الله، ولذلك قال العلماء: السبب في هذا الحديث أن الأجير ضعيف، وغالباً إذا جاءه مستأجره، وقال له: افعل، أو اتفق معه على شيء لا يستطيع الأجير أن يقول له: أشهِد أو هلم نكتب؛ لأنه يخاف أن يذل أو يؤذى، ولذلك غالباً ما يجعل الله شهيداً وحسيباً على حقه، فتكفل الله جل جلاله أن يأخذ له بحقه في الدنيا والآخرة.
فإذا كان أخوك في الإسلام قد قدم إليك من بلادٍ بعيدة، فارحم غربته، وارحم ما فيه من الحزن والألم من فراق الأهل والأوطان والأحباب والخلان، والله تعالى إذا ابتلاك بمجرد أن تتعاقد مع أحد فاعلم أنها ساعة امتحان، قبل أن تكون ساعة كسبٍ وتجارة، فالدنيا بجميع حركاتها وسكناتها امتحانٌ وابتلاء للعبد، فما رزقك الله الحياة إلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال بعض العلماء: قال الله: {أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل أيكم أكثر؛ لأن الإحسان لا يرزقه إلا السعيد.
فإذا جئت تعامل الأجير فاتقِ الله أولاً في العقد الذي بينك وبينه؛ فإن الله يخاطبك من فوق سبع سماوات، ويوصيك ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فبينك وبينه الله في كل كلمةٍ تقولها، وفي كل شيءٍ تضعه بينك وبينه من شروط وحقوق، فتوفي ذلك على أتم وجه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [مقاطع الحقوق عند الشروط].
الأمر الثاني: إذا كلفته بالعمل فلا تكلفه فوق طاقته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في العبد المملوك وهو ملكٌ للإنسان: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحته فليطعمه مما يطعم، وإذا كلفتموهم فأعينوهم) حتى إنه ندب أن تعينه إذا كلفته بالعمل، هذا وهو ملكٌ لك، وملكٌ ليمينك وتحت أمرك، فكيف بالأجير الذي ليس بينك وبينه إلا العمل.
إياك ثم إياك أن تستطيل في عرض أخيك المسلم، إياك ثم إياك أن تظن أن كونه أجيراً يبيح لك عرضه؛ لأن الله حرم عليك ذلك، فلا تسبه ولا تشتمه ولا تهينه، ولا تخاطبه بالعبارة التي تحقره بها في لونه أو حسبه أو جنسه أو ذات يده، فإن الله مطلعٌ على ما في قلبك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) إياك أن تحتقره، أو تنظر إليه نظرة ازدراء وانتقاص، فإن الله يحاسبك، ولذلك يقول العلماء: هذه من أعمال القلوب التي يحاسب عليها العبد.
لأنك إذا احتقرته في قلبك تأثرت في معاملته، ونظرت إليه ضعيفاً فغلبته لضعفه، أو فقيراً فأذللته بفقره.
وعليك أن تعده أخاً لك في الإسلام، وتقوم معه على المعاملة التي بينك وبينه، وكن مسلماً كاملاً في إسلامك، قد سلم المسلمون من لسانك ويدك، إياك أن تمد يدك عليه بالسوء، أو تمد لسانك عليه بالسوء، فإن الله يأخذ الحقوق قصاصاً، وإن مما يهين ويدخل الرعب في قلوب الناس يوم القيامة ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجدون في صحائف الأعمال مثاقيل الذر من الأقوال والأفعال) أي: الأمور اليسيرة التي ما كانت تخطر لهم على بال، فلذلك يتقي الله الإنسان في مثل هذه الأمور.
الأمر الرابع: أن الإنسان لا يلزم الأجير بشيءٍ لم يلتزمه، بل ينبغي عليه أن يتقيد فيما بينهما وبين العمل، وأيضاً على الإنسان أن ينظر إلى حال الأجير، فإذا وجده مهموماً محزوناً أدخل السرور عليه، ويرفق به ويرحمه، فإذا كان فيه شدة ظمأ أو شدة هاجرة جاءه بماءٍ بارد احتسبه شربة عند الله عز وجل، وكذلك طعام يدخل به السرور عليه.
ولقد رأيت الوالد رحمه الله يأكل مع عماله في المزرعة، وهو عالم يشار إليه بالبنان في المدينة، ولا يحس بغضاضة، بل يشعر بانبساط وبمحبةٍ وألفة، وما سقطت هيبته من قلوبنا؛ لأن الناس يظنون أن هذه المباسطة ذلة، ويقولون: القوة والعبوس والأذية والجفاء صفات الرجولة الكاملة، وكذبوا؛ لأن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً) ولذلك إذا عفوت عن أي مظلمة يقولون: هذا ضعيف، هذا جبان، هذا ليس عنده كمال رجولة، أو ليس برجل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يكذب هذا فيقول: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً) يعني هذا الذي يظنه الناس ذلة هو عزة وكرامة لك.
ولذلك يخرج الأجير من عندك وهو شاهد عند خلق الله، وبين يدي الله أنك صاحب عزة وكرامة، (قال: يا رسول الله! كيف أعلم إني أسأت؟ قال: سل جيرانك)، فإن قالوا: أحسنت فقد أحسنت، وإن قالوا: أسأت فقد أسأت، لا تستطيع أن تعرف الرجل على الحقيقة في كمال أخلاقه وجمالها وبهائها وحسنها مثل معاملته للعمال.
نعم، كونه يكون حسن الأخلاق، كريم المعشر مع إخوانه وزملائه، هذا أمرٌ طبيعي؛ لأن القرين مع قرينه قد يخافه ويهابه، ولكن أين المحن وأين الابتلاء الصادق أن تسمع عماله يعطرون ذكره بالذكر الحسن، فهذا هو الذي يدل على أنه مؤمنٌ كامل الإيمان إن شاء الله.
نسأل الله أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.(54/26)
نصيحة للعاق لوالديه
السؤال
أنا طالب علمٍ ولكن بيني وبين والديَّ مشاكل، فتركتهم حتى إن أبي جاءني وبكى عندي فتركته، فما توجيهكم لي، وما الذي يكون عليَّ في هذه الحالة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد أخي في الله! اتق الله في أبيك، اتق الله قبل أن تحل بك نقمة من الله، فإن العقوق مفتاح للشر وسببٌ في سلب الخير والبر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أنه لا يدخل الجنة عاق) أيأتيك أبوك الذي تربيت بنعمته بعد نعمة الله؟ أيأتيك أبوك الذي وصاك الله عليه من فوق سبع سماوات أن تخفض له جناح الذل من الرحمة، وأن تقول: رب ارحمه كما رباني صغيراً؟ أيأتيك أبوك ويقف عليك، والواجب أن تأتيه وأن تذل عنده، وأن تخفض له جناح الذل، تشتري بذلك رحمة الله.
أخي في الله: تدارك نفسك ومن هذه الساعة تتوب إلى الله، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، وأحذرك من نقمة الله العاجلة، وعقوبته الآجلة أن تنزل بك، وعاهد الله من ساعتك هذه أن ترجع إليه، وأن تدخل السرور إليه، وأن تضحكه كما أبكيته، وأن تسره كما أحزنته، وأن تكرمه كما أهنته.
اتقِ الله في والدك، وأحسن إليه كما أمرك الله، والله تعالى يبدل الإساءة بالإحسان لمن وقف في بابه يرجو الصفح والغفران.
وأوصيك أخي في الله: أن تبادر بعد انتهاء الصلاة إلى والدك، وأن تجلس عند قدمه باكياً ذليلاً خاضعاً {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] (قال: يا رسول الله! أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت والديَّ يبكيان قال: أترجو الجنة؟ قال: نعم.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما) وفي الحديث الآخر: (قال: يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد قال: أحية أمك؟ قال: نعم.
قال: الزم رجلها فإن الجنة ثم).
فارجع إلى أبيك وتب إلى باريك وقل: يا رب! التوبة مما بدر مني وكان، وارجع إلى والدك فإن الله عز وجل يتوب على من تاب، وكم من عاق كسر الله قلبه بالقرآن ومواعظ أهل الإيمان، فرجع إلى والديه فعادت عليه الرحمة من الكريم الرحمان، فالله كريم جواد، فتب إلى الله وارجع إليه، وصدِّق هذه التوبة بالإحسان إلى والدك وإلى والدتك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقك لذلك.
أخي في الله: فإن أردت أن تكون من العلماء فاعلم أنك لن تكون عالماً هادياً مهدياً إلى إذا هُدِيت في نفسك، ولن تكون هادياً مهدياً إلا إذا بدأت بأعظم حقٍ عليك وهو حق الله في توحيده والقيام بحقوقه وحدوده ورعاية محارمه سبحانه، ثم بِرُّك لوالديك، واعلم أنه لا علم بدون بر، وكم فتح الله لعلماء من الماضين -ممن عرفناهم من مشايخنا- من أبواب السعادة والخير والبركة في علمهم بفضله تعالى، ثم بدعاء الوالدين.
وقد ذكر بعض العلماء حين كتب ترجمته بيده فقال: ما عرفت خيراً بعد الإيمان بالله أوصلني إلى هذا بعد توفيق الله مثل بري لأبي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل، فبلغني الله فوق ما يرجو، وهو من العلماء الأفذاذ، وهذا لاشك أنه فضل.
وأذكر رجلاً كان في ضعف وضيق، وفي شدة حال وبؤس، كان يذهب ويسعى لوالديه، فإذا جاء بالأجرة في يومه جاء ووضعها على الطاولة، ويستحي أن يمد يده لأبيه، فلما سألته وقلت: ولماذا؟ قال: أستحي أن أرفع يدي على يد أبي فتكون منة على والدي، قال: فكنت إذا وضعت له المال -يحكي لي ذلك وهو عالم من العلماء- بين يديه يدعو الله ويقول: اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله، فبلغ أكثر من عشرين عاماً وهو تائه في الأعمال، حتى شاء الله في يومٍ من الأيام وهو عائد من عمله، إذا به يلتقي بعالمٍ كان عمدةً في بلده في الفتوى، فقال: يا بني! ما هذا الذي أنت فيه؟ قال له: ما ترى إني أسعى للرزق، قال: هل لك أن تجعل لي يوماً من أسبوعك؟ قال: نعم، ونعمت عيني بذلك، فما زال يتردد على ذلك العالم، حتى جاء اليوم الذي يناقش فيه رسالته في الدكتوراه في تفسير القرآن العظيم، فلما دعي إلى المناقشة وجلس إذا بشيخه وأستاذه يقوم مهابةً له وإجلالاً لما كان فيه من العلم، وقال: تفضل يا شيخ فلان.
ومن المعلوم أن الشيخ لا يتنزل لطالبه في الغالب، وإذا به أمام الجمع قال: هالني ما رأيت فيه من العلم والمعرفة بكتاب الله فعظمته وأجللته، فلما قال له: تفضل يا شيخ فلان جلس يبكي، فقال: تبكي ونحن نريد أن نجلك؟ قال: ذكرت دعوة أبي رحمه الله: اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله، فبلغه الله تفسير كتابه وبلغه الله هذه المنزلة العظيمة.
بر الوالدين من فواتح الرحمة.
فهذا من أعظم الأسباب ونحن في غفلةٍ عظيمة عنه، ولو لم نخرج من هذه المحاضرة إلا ونحن نعيد النظر في سلوكنا مع آبائنا وأمهاتنا، مع أمرٍ قرنه الله بتوحيده، وليس البر السكوت وأن تجلس مع الوالد والوالدة، إنما البر الذلة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] ولا تنتظر من الوالد أو الوالدة أن يسألك حاجته، بل أنت الذي تمضي إليها وتقضيها وتدخل السرور عليه، ولا تعلم بشيءٍ يفرحه إلا كنت أسبق الناس إليه.
أسأل الله العظيم أن يفتح لنا ولكم أبواب رحمته، والله تعالى أعلم.(54/27)
وصية لصاحب القلب القاسي
السؤال
أنا شابٌ مبتلى بقسوة القلب ولا أستطيع القراءة في الكتب النافعة، ولا تدري -حفظك الله- مدى تأثير ذلك عليَّ، فأنا أتمنى أن أكون من أهل العلم ولكن لا أستطيع، فلعلك من الرحمة بي أن تدلني على ما أسأل الله أن ينفعني به، ولك مني الدعاء، ومن الله المثوبة بإذنه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأما ما سألت عنه أخي في الله! من قسوة القلب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] والله لا يظلم العباد شيئاً، فأوصيك أخي في الله أن تنظر فيما بينك وبين الله، فقد يبتلى الإنسان بقسوة القلب بصلاةٍ أضاعها، أو زكاةٍ منعها أهلها، وقد يبتلى بقسوة القلب بأمٍ عقها أو أختٍ قطعها.
وأوصيك أن تتفقد ما بينك وبين عباد الله من الحقوق والواجبات، فإذا أديتها فابشر برحمة الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فأوصيك أن تتفقد أول ما تتفقد: حقوق الله عليك، وحقوق الناس وحقوق الأقربين خاصة، فإذا وفقك الله ببر والديك وإدخال السرور عليهما، وكذلك صلة رحمك، فإن الله يرحمك: (إني أنا الله، خلقت الرحم اشتققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمان وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته) فقد تكون هناك عمة لا تصلها وتصاب بقسوة القلب، وقد تكون هناك أخت محرومة من زيارتك، فتكون قطيعتها سبباً في قسوة قلبك، وما من إنسان يجد في نفسه أثر ذنب فيحس أنه مقصر فيبحث عن سبب ذلك إلا وفقه الله ودله على الذنب الذي بينه وبين الله أو بينه وبين عباده.
ثم أوصيك أخي في الله! إذا قسى قلبك أن تكثر من ذكر الآخرة، وأن تصور نفسك وكأنك في القبر وضجعته، أو في الحساب وشدته، أو على الصراط وكربته وزلته، صوِّر نفسك في مشاهد الآخرة، فإنها تكسر القلوب إلى الله، وأكثر من عيادة المرضى والنظر في أحوالهم حتى يلين قلبك، وأكثر من زيارة المقابر، وعُدَّ نفسك كأنك ذلك الرجل الذي دل إلى قبره، فإذا أحيا الله قلبك إلى مثل هذه المشاهد فقم لطاعته واستجب لرحمته، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يكتب لك ذلك.
ثم أوصيك وأكرر الوصية أن تكثر من الابتهال والدعاء لله سبحانه وتعالى أن يكسر قلبك بالرحمة؛ فإن الله تبارك وتعالى كريم جواد لا يرد سائله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) فنحن في ضلال إلا أن يهدينا الله، فلست أنا بالذي أهدي ولا بالذي يقوم على نفسه أو يقوم ببناية نفسه على الخير، إلا إذا هدى الله ووفق، فاستهدِ الله يهدك إلى الرحمة وإلى أبوابها وأسبابها ويجعلك من أهلها.
وختاماً أوصيك أن تبحث عن قرين صالح تكن معه دائماً، لعل الله أن يحيي قلبك بصحبته.
والله تعالى أعلم.(54/28)
من أخلاق المؤمنات
إن الله إذا أراد أن يتم نعمته وأن يكمل منته على عبده، كلله بالأخلاق الفاضلة، وزينه بالخلال الحميدة الجليلة التي طبع عليها أهل الإيمان؛ لذلك وجه الشيخ الفاضل حديثه في هذه المادة إلى النساء، حاضاً لهن على التمسك بأخلاق المؤمنات، حتى يكن خير خلف لخير سلف.(55/1)
مكانة الأخلاق في الإسلام
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
أخواتي المسلمات: أحمد الله تبارك وتعالى أن جمعنا بكن في هذا المجمع المبارك، وأسأله جل جلاله أن يجعل الكلمات خالصة لوجهه الكريم، نافعة يوم لقائه العظيم، وأشكر بعد شكر الله عز وجل اللجنة النسائية بالندوة العالمية على تفضلها بالدعوة إلى هذه الكلمات، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشكر مسعاكن، وأن يعظم في الآخرة أجوركن.
أخواتي المسلمات: كم هي نعمة من الله عز وجل عظيمة، ومنة من الله تبارك وتعالى جليلة، تلك النعمة التي أقبلت فيها أمة الله إلى الله، وأقبلت فيها على الله وأنابت إلى طاعة الله، أي ساعة تلك الساعة التي أنابت فيها القلوب إلى الله؟ أي ساعة تلك الساعة التي لبت فيها داعي الله واستجابت فيها لأوامر الله؟ تلك الساعة التي انبعثت فيها النفس اللوامة، وثارت في النفوس أشجان وأحزان تذكرها؛ فاستيقظت من منامها وانتبهت من غفلتها وأنابت إلى ربها، ما أعظمها من ساعة! لكن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتمم نعمته وأن يكمل منته تممها بالأخلاق الفاضلة، وزينها بالأخلاق الحميدة الجليلة التي طبع الله عليها أهل الإيمان، فأهل الإيمان هم أهل الخصال الحميدة والخلال الكريمة المجيدة، إنها الأخلاق التي طالما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه يناجيه ويناديه، يسأله أن يهديه لأحسنها، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما قام في الليل يناجي ربه قال في دعائه: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، وأنا عبدك ظلمت نفسي ظلماً كثيراً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني شرها وسيئها فإنه لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت).
فسأله أن يهدي قلبه إليها وأن يدله عليها، وأن يكون هاديه إليها، سأله أن يرزقه كريم الخصال وجميل الخلال حتى يكون قريباً من الكريم المتعال، وهل نزل الكتاب ونزلت السنة على نبي هذه الأمة إلا لكي تتمم من الأخلاق مكارمها، ولكي تزان خلالها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما روى أحمد في مسنده، كان يقول: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
فلما أنزل الله تبارك وتعالى على النبي الكتاب، ودله على هذا المنهج الكريم من مناهج الصواب، تمم الله عز وجل بجميع ذلك الأخلاق وجملها وزينها، فتمت نعمة الله عز وجل على البشرية بالدلالة والهداية إليها، لذلك كان من أجلّ نعم الله عز وجل على المؤمن والمؤمنة أن يزينه ويجمّله بالأخلاق الفاضلة.
والمؤمنة إذا أضافت إلى إيمانها جمال قولها وحسن فعالها ازدانت عند بارئها وارتفعت عند الله درجتها، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أكرم بالأخلاق الفاضلة فالله تبارك وتعالى يبلغه الدرجات العالية، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم).
فكم من مؤمنة بالله زينها الله عز وجل وجملها بالأخلاق، أدركت بكريم أخلاقها وجميل خصالها وجليل خلالها رحمة ربها، ففازت بعظيم الدرجات، وفازت بجميل الحسنات.(55/2)
جملة من خصال المؤمنات
لذلك أختي المسلمة خير ما يضاف إلى الإيمان وخير ما يزين به الإحسان أن تكون المؤمنة ملتزمة بدين الله عز وجل بأخلاقه وآدابه، أن تتأدب بتلك الآداب التي دعا الله إليها، وحبب القلوب فيها، فكم أنزل الله عز وجل في كتابه من آيات تدل المؤمنة على رحمة الله عز وجل وعظيم فضله، حتى أدب الله عز وجل بكتابه المؤمنة، وهي ترفع القدم وتضع الأخرى في مسيرها: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] وأدبها وهي تخاطب الرجال الأجانب: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
كم وقفت آيات الكتاب أمام هذه الجوهرة المكنونة والدرة المصونة؛ حتى تحفظ بهاءها، وتصون بالأخلاق جمالها وجلالها، فيالله من شريعة كمل الله بها أخلاق المؤمنات، وهداهن بها إلى كريم الخصال الموجبة لمحبة فاطر الكائنات.
لذلك أيتها المؤمنة: خير ما يعنى به بعد الإيمان، تحقيق الإيمان بالأخلاق الكريمة، والالتزام بآداب الإسلام، حينما تلقي المؤمنة على نفسها لباس الحياء، وتكتسي بكساء التقوى، وتسير في طريق يوجب من الله الحب والرضا وتستمسك من الدين بعروته الوثقى.(55/3)
التمسك بالآداب والأخلاق
أما الخصلة الخامسة التي يكمل لله عز وجل بها أخلاق المؤمنة فهي: الأخلاق والآداب التي يحصل بها الخير للناس، فمنها: الجود والسخاء والبذل والعطاء، ولقد كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وموعظته للنساء أن قال: (تصدقن فإني أريتكن أكثر حطب جهنم، قلنَّ: ولِمَ يا رسول الله؟! قال: بكفركن للعشير) وفي الرواية الأخرى: (قلن: أيكفرن بالله؟ قال: لا.
وإنما يكفرن العشير).
فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسم طريق النجاة من تلك النار دعا نساء المؤمنين إلى الإنفاق والبذل والعطاء، كل ذلك كرماً منه وإشفاقاً، فقال: تصدقن، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فمن كريم خِلال المؤمنة، ومن جميل خصالها كثرة الصدقات، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ولو كان المبذول قليلاً، فإنه عند الله عظيماً جليلاً، أنفقي من المال، واعلمي أنك موعودة بالإخلاف من الكريم المتعال، أنفقي فلا شلت يمين بذلت، أعطي لوجه الله وليكن ذلك الإنفاق ابتغاء مرضاة الله وما عند الله.
ولقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقات، وأخبر أنها من أسباب رحمة الله بالعباد، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
أختي المسلمة! إن الآداب والأخلاق أمانة عظيمة ومسئولية جليلة، أول من يسأل عنها هم الوالدان، فإذا حملتِ تربية الأبناء والبنات فربيهم على طاعة الله، ونشئيهم على الأخلاق الموجبة للحب من الله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتلي بشيء من هذه البنات، فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن إلا كُنّ له ستراً من النار) فنشئي أبناء وبنات المسلمين على طاعة رب العالمين، وعلى كريم الخصال وجميل الخلال، وكما أنها مسئولية على الأبناء والأمهات، فإنه مسئولية على الداعيات والمربيات، فلتكن كل داعية قدوة حسنة في تعليمها وتوجيهها وتربيتها، فذلك من توفيق الله للمؤمنة.
كم غرس في قلوب الطالبات من الخصال الكريمات حينما كانت المعلمات والمربيات على سمت ووقار، وحسن أدب وقرار، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتمم أخلاقنا، وأن يزين بها أقوالنا وأفعالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(55/4)
الحياء والخجل
أما الخصلة الرابعة: التي يكون بها جميل الخصال والأخلاق للمؤمنة، وهي من أعظم الخصال وأحبها إلى الله عز وجل: إنها خصلة الحياء والخجل، الحياء الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه لا يأتي إلا بخير، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحياء لا يأتي إلا بخير).
أختاه! إن الحياء نعمة وجمال من الله، فما أجمل المرأة إذا اكتست بحيائها، وتمت لها مروءتها، وأصبحت في عفة من حالها! ولذلك كن النساء المؤمنات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد كمل حياؤهن، ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابي وصفه قال: [كان أشد حياءً من العذراء في خدرها] فكوني على هذه الخصلة الكريمة.
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فإذا ذهب الحياء ذهب الخير الكثير، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) فمن الحياء البعد عن مواطن الريبة، ومخاطبة الرجال، وإذا وجدت الحاجة ألجمت المرأة بحيائها، وانكسرت من خجلها، وذلك كمال لها لا منقصة فيها، فاستديمي هذه الخصلة الكريمة.
ومن الحياء: أن تكون المؤمنة حيية كريمة مع أحب الناس إليها، وأقرب الناس إليها وهم الوالدان، فلقد كانت نساء المؤمنين إلى عهد قريب لا تستطيع المرأة أن ترفع البصر في عين أبيها وأمها، وكانت البنت أشد ما تكون حياء من والديها، فمن نعم الله على المؤمنة أن يستتم حياؤها مع الوالدين، فذلك مما يحبه الله ويرضاه.
ومن الحياء: الحياء مع الزوج والعشير، والأخ والقريب، والحياء في وسط النساء، وذلك بإظهار لبس يليق بالمرأة مما يدل على كامل مروءتها وكمال حيائها وخجلها، فلا تكون المؤمنة متتبعة للرخص التي تريق الماء من وجهها، البسي جلبابك وكوني على أكمل الحياء في ثيابك، وأعلمي أن الجمال كل الجمال في هذا الحياء الذي يظهر الله به الهيبة والجلال.(55/5)
الاستجابة الصادقة لأوامر الكتاب والسنة
الخصلة الأولى: أول هذه الخصال وأحبها إلى الكريم المتعال، خصلة تعلقت بسويداء قلب المؤمنة، خصلة دخلت إلى أعماق قلبها لا يعلمها إلا الله، تلك الخصلة التي تحقق بها إيمانها وتصدق بها التزامها بشريعة ربها، إنها الاستجابة الصادقة لأوامر الكتاب والسنة، فأعظم أخلاق المؤمنين والمؤمنات وأحبها إلى الله عز وجل: الاستجابة الكاملة للكتاب والسنة، فمفتاح الخير كله في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد شهد الله عز وجل في كتابه أن من أطاعه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم فقد فاز فوزاً عظيماً، فقال سبحانه يهذب من المؤمن والمؤمنة أخلاقهم في الاستجابة للكتاب والسنة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68] فإن أحببت من الله عز وجل الحب والرضا، يكون ذلك موجباً لكِ للتمسك بالعروة الوثقى؛ فخذي أوامر الكتاب، وسيري على منهجه لكي تهتدي إلى السنة والصواب، خذي بأوامر الدين وعضي عليها بالنواجذ دون تكذيب ولا ميل، خذي بأوامر الكتاب كما أخذته الفاضلات من الصحابيات الجليلات.
أختاه: إن مقامك عند الله على قدر العمل بالكتاب والسنة، فإن الله لا ينظر إلى الأنساب والأحساب والجمال والكمال، ولكن ينظر إلى ذلك القلب الذي أقبلت به عليه، أن تسكنيه الاستجابة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ما أكملها وأجلها وأحبها لله من مؤمنة إذا قيل لها قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت بلسان الحال والمقال: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير.
أختاه: حققي هذا الإيمان وحققي الالتزام بدين الرحمن، حينما تكوني أصدق المؤمنات استجابة للكتاب والسنة، واعلمي أن الله تبارك وتعالى سيسألك عن هذا الدين وعن هذا الكتاب وعن سنة سيد المرسلين، فأيما آية بلغتك فإنما هي حجة لكِ أو عليكِ، واعلمي أن الله تبارك وتعالى سيجعل هذا الكتاب بينك وبينه، فإن استجابت المرأة لمنهج ربها وأحبته والتزمته واتبعته؛ كتب الله لها السعادة، وتأذن لها بالفضل والزيادة.
واعلمي أن الله تبارك وتعالى لا يغرس الاستجابة في قلب إلا أحب قالبه، فأحبي أوامر الدين، وخذيها دون تكذيب ولا ميل.
ومن الاستجابة لأوامر الكتاب والسنة: فعل فرائض الله، وترك محارمه، وعفة الأقوال والأفعال، فبعد هذه الاستجابة الكريمة تظهر على المؤمنة في أقوالها وأفعالها وخصالها وآدابها آثار الاستجابة لربها.
أختي المسلمة: إن هذه الاستجابة تظهر في الجوارح حينما تكون المؤمنة أكمل المؤمنات أخلاقاً في الأقوال والأفعال، تظهر هذه الاستجابة الصادقة في قلب عفيف عن الحسد والبغضاء، والسوء والشحناء، والظن بالمؤمنين والمؤمنات بما يوجب غضب الله عز وجل وعدم مرضاته، فحققي هذه الاستجابة بسلامة القلب والقالب، فإذا أرادت المؤمنة أن تحقق التزامها بالآداب الفاضلة، فإن أول ما يظهر الأثر على لسانها الصادق، وقالبها المحقق لطاعة ربها جل وعلا.
الخصلة الثانية: أختي المسلمة: إن في المؤمنة آداباً يحبها الله، وأخلاقاً توجب الرضا من الله، هذه الآداب وهذه الأخلاق الكريمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبب أصحابه فيها من أعظمها بعد الاستجابة ومن أهم ما يدعو إليها: أن تكون المؤمنة عفيفة في ظاهرها وباطنها، العفاف الذي يكون به الخير للمؤمنة في دينها ودنياها وآخرتها، فما كانت امرأة عفيفة إلا أقر الله عينها بالعفاف، كوني عفيفة في القول والعمل والقلب والقالب.
ومن عفة اللسان: صونه عن أذية المسلمين، والتقرب به بذكر إله الأولين والآخرين، ولذلك قال العلماء: إن للسان خصلتين حبيبتين إلى الله، الخصلة الأولى: عفته عن أذية العباد، والخصلة الثانية: حرصه على ذكر رب العباد.
أما الخصلة الأولى: أن تسلمي من أن تؤذي مؤمنة بهذا اللسان، فهو عضو صغير لكنه عظيم خطير، فكم أورد صاحبه المهالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له معاذ: أو مؤاخذون بما نقول؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).
كم أمست المؤمنة وقد اشترت رحمة ومرضاة الله بلسانها، ذلك اللسان العفيف عن أعراض المسلمين، والبريء عن أذية المؤمنين، ذلك اللسان المسخر في ذكر إله الأولين والآخرين، استخدمي هذا اللسان في محبة الله، واستكثري به من ذكر الله تفوزين برحمة الله.
وإن من الآفات التي قد تتخلق بها بعض المؤمنات والمسلمات: كثرة وفضول الحديث فيما لا يرضي الله عز وجل، ولو كان من المباح، فإن العلماء رحمهم الله قالوا: إن استرسال اللسان في الأمور المباحة، قد يفضي به إلى الوقوع في الحرام.
فصوني اللسان واحفظيه عن أذية بني الإنسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المسلم الصادق في إسلامه بقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فليسلم المسلمون من لسانك، إياكِ والغيبة والنميمة! وإياكِ وكلمة تؤذي بها مؤمنة بالله عز وجل! صوني اللسان واحفظيه، فإنه خير لك في الدين والدنيا والآخرة.
وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يمسك بلسان نفسه، ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد].
الحلم زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا فإذا ندمت على سكوتك مرة فلتندمنّ على الكلام مرارا فمن جمال المؤمنة طول صمتها عما لا خير فيه من كلامها، فمن دليل كمال عقل المرأة، وحسن استقامتها وإيمانها أن تكثر الصمت مع حسن السمت، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم الآفات التي تكون من اللسان والزلات، فأخبر أنه قد ينتهي بالمؤمنة إلى النار، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه قام يوم العيد فذكر النساء بالله، ولما أخبر ما أعد الله عز وجل من عقوبته بالنار، سألته امرأة فقالت: ولم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) فإياكِ وكثرة السباب، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة).
فمن أخلاق المؤمنة طول صمتها، ولا يعني هذا كثرة السكوت، وإنما المراد أن تصان الألسن عما لا يرضي الله عز وجل، فإذا حفظت اللسان كان ذلك اللسان نعمة لك لا عليك.(55/6)
حفظ السمع والبصر
الخصلة الثالثة من الخصال التي ينبغي للمؤمنة أن تتحلى وتتجمل بها: أن تحفظ السمع والبصر، فقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه أن السمع والبصر محل السؤال، فقال جل جلاله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] صوني السمع وما حوى وما أصغى، والبصر وما رأى، فقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنات بآيات؛ فقال جل ذكره وتقدست أسماؤه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] قل يا محمد! قل يا نبي الأمة! قل يا من أرسلك الله رحمة للعالمين! قل للمؤمنات تلك الفئة المباركة التي صدقت والتزمت وآمنت وحققت، ليس لسائر النساء ولكن للمؤمنات، فلا تحفظ البصر كمال الحفظ إلا مؤمنة تخاف من الله، وتخاف من نظرة ترديها وتشقيها، فكم نظرة أورثت شهوة، وكم شهوة أورثت حزناً طويلا، ولله در القائل: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتكت السهام بل قوس ولا وتر والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد محفوفاً على خطر يسر مقتله ما ضر مهجته لا خير في سرور قد جاء بالضرر لا خير في نظرة أتبعت شهوة، ولا خير في شهوة أتبعت فكرة، ولا في فكرة أتبعت عذاباً طويلاً.
فالله الله في هذا البصر! فإن الله تبارك وتعالى سيسأل عن النظر فيما بذل، أفي محبته أم فيما لا يرضيه؟ فاتقِ الله في هذا البصر، فإياكِ والنظرة المسمومة، والنظرة الآثمة المحمومة، فإن للنظر عذاباً، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رحمة الله للمؤمن والمؤمنة التي صانت بصرها وحفظت نظرها، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل العيون دامعة أو باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله).
فإن أحببتِ ألا تكون عينك باكية يوم القيامة دامعة شاكية فصونيها عما لا يحل النظر إليه، إن المؤمنة الفاضلة التي زينها الله بالأخلاق الكاملة لا يعدو بصرها موضع قدمها، ولذلك كانوا يقولون: إن المرأة العفيفة الحرة لو ضربت على رأسها ما التفتت ولا نظرت من ضربها.(55/7)
الأسئلة(55/8)
حكم زواج المرأة المسلمة بالكافر
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تتزوج من رجل غير مسلم؟ وأرجو أن تدلها على تعلم القرآن وغيره من الأمور النافعة؟
الجواب
أولاً: أهنئ هذه السائلة برحمة الله عز وجل لها بالإسلام، وأسأل الله العظيم مقلب القلوب أن يثبت قلبها على طاعته، وأن يثبته على سبيل محبته ومرضاته، وأما ما سألت عنه أن كونها تريد الزواج بالكافر، فإن الكافرة إذا أسلمت وزوجها على الكفر فسخ النكاح بينهما، ولا يجوز بقاءها تحت عصمة الكافر، قال الله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] فلا يجوز تزويج المرأة المسلمة من الكافر بل ينفسخ العقد بإسلامها، ولا ترد إلى ذلك الكافر: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
على خلاف الزواج من الكافرة، فإن الرجل إذا تزوج الكافرة علا عليها، وقد يكون ذلك سبباً في إسلامها، فالمقصود أنه لا يجوز بقاء المسلمة عند الكافر، وإنما تطلق منه طلقة بائنة بإسلامها وتبين منه.
وأما ما سألته من معرفتها بالقرآن وتعلمها له بالطريقة الصحيحة، فإن هذا أمر ينبغي الأخذ بأسبابه، وذلك بالرجوع إلى بعض الكتب أو المؤلفات، وإذا تيسر الاتصال ببعض الإدارات الدينية كمكتب التوعية في جدة، فلعلها أن تجد بعض الرسائل القيمة، والله تعالى أعلم.(55/9)
حكم مشاهدة أفلام الكرتون للأطفال مع وجود الموسيقى
السؤال
هل نأثم إذا تفرج الأطفال إلى أفلام الكرتون مع العلم أن بها موسيقى؟
الجواب
أما الموسيقى فهي محرمة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) فلا يجوز ترك أبناء المسلمين وبناتهم يستمعون إلى الغناء أياً كان، وأما بالنسبة إذا سلم المنظور أو المسموع من ذلك فلا حرج، لكن هذه الأفلام -بنقل الثقات- وجد أنها تشتمل على ما يهدم العقيدة، ويفسد الأخلاق، ويربي الطفل على الشرور والإجرام، فهي محرمة لما فيها من ذلك الفساد العظيم والبلاء الجسيم، والله تعالى أعلم.(55/10)
ظاهرة انتشار العنوسة في المجتمعات
السؤال
انتشرت العنوسة في المجتمعات، والمشايخ جزاهم الله خيراً ذكروا أسباب هذه الظاهرة، ومنها: غلاء المهور، ومواصلة التعليم، ولكن ثمة أسباب غفل كثير من المشايخ عنها وهي: أن الآباء هم أيضاً سبب في هذه العنوسة، فأكثر الفتيات يتقدم إليهن شباب ملتزمون، ومن عائلات محترمة محافظة، ولكن الآباء يواجهون ذلك بالرفض، وذلك لأنهم يريدون أن يكون هذا الزوج من القبيلة، فهذه عادات وتقاليد موروثة من الآباء أو يكون سعودي الأصل، والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون يقول: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه) فهل من نصيحة لعل الآباء يسمعون، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما هذه المسألة ففي الحقيقة قد كثرة الشكوى منها، ولقد وصلني عدد من الرسائل من النساء المؤمنات، ويعلم الله الذي لا إله إلا هو أنني لم أستطع إكمال بعضها من البكاء، لما فيها من الأشجان والأحزان والأمور المروعة والمؤسفة، وهذه من المظالم التي بلي بها كثير من النساء المؤمنات، سواء في الأسباب التي ذكرتها أو غيرها من الأمور التافهة، كالنظر إلى غنى الزوج وثرائه، وعلو مرتبته ومنصبه، فهذه كلها من المآسي التي بلي بها المجتمع في هذا الزمان، وذلك لضعف الإيمان في قلوب كثير من الرجال.
والقصص في هذه المآسي كثيرة، ولاشك أنها تعتبر ظاهرة ينبغي فيها عدة أمور: الأمر الأول: العناية بها من أهل العلم والفضل ووجهاء المجتمع، وأن يكون هناك توجيه للآباء بتزويج بناتهم من الأكفاء، وأداء هذه الأمانة والمسئولية على الوجه الذي يرضي الله عز وجل.
إن موازين الإسلام ثابتة وأصوله بينة واضحة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأمور التي تنكح لها المرأة ويزوج لها الرجل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
فلا مانع أن تزوج المرأة من قريبها، وشيء حسن إذا كان ابن العم كفوءاً كريماً صاحب دين وخلق، أو كان القريب ابن الخال أو نحوه كفوءاً كريماً، وزوجاً صالحاً فلا حرج، والأقربون أولى بالمعروف، وينبغي للمرأة أن يتسع صدرها للقريب وأن تحبه وتكرمه، وأن تنظر إلى حقه في القرابة، ولكن الحرج كل الحرج أن يُضحى بالمرأة لإنسان لا دين له ولا أخلاق ولا مروءة ولا كفاءة، فهذا من الظلم الذي يحرمه الله عز وجل على العباد.
ووالله ما من أب وولي يوقع موليته في إنسان ليس بكفء إلا حمل أوزارها، وسئل بين يدي الله عز وجل عن همومها وغمومها، وما اكتحلت عيناها السهر في هم ولا غم إلا كان شريكاً لها في ذلك الإثم كله.
فلذلك ينبغي للآباء أن يتقوا الله عز وجل، ويخافوا الله عز وجل في هذه المسئولية العظيمة، والأمانة الجليلة، ونحن نقول: لا حرج من النظر إلى القريب الكفء، ولكن الحرج كل الحرج أن يزج بالنساء العفيفات الصالحات الطاهرات لمن لا خير فيه.
الأمر الثاني والذي ينبغي أن يعمله كل من سئل عن امرأة: أنه لا مانع أن يمتنع من قريبها، ولكن يبحث عن كفء آخر لها، أما أن يبقي المرأة على عنوستها تراودها الأفكار، وتتعرض لمخالب الأشرار آناء الليل وأطراف النهار، فإنه سيبوء بغضب الله عز وجل الواحد القهار.
هذه جريمة عظيمة، ومسئولية كبيرة، فينبغي لكل من حمل أمانة الأبناء والبنات أن يتقي الله عز وجل، وأن يزوج بنته وكريمته من الكفء.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن على المسلمين بصلاح الأحوال إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله.(55/11)
حكم نتف الحواجب ولبس العباءات المطرزة
السؤال
أرجو تنبيه أخواتي إلى عدم جواز نتف الحواجب، ولبس العباءات المطرزة بالذهب، والرقص في الحفلات؟
الجواب
أما بالنسبة لنتف الحواجب فهو النمص الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ومن فُعل به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصات والمتنمصات).
وأما لبس العباءات المطرزة بالذهب فهذا لا يجوز، ولذلك بين العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز في لبس العباءة والملاءة أمور: الأمر الأول: أن تكون مطرزة، أو يكون فيها نقش ولو كان خالياً من الذهب؛ لأن هذه النقوش إذا رأيت جذبت الأنظار إليها، ثم جذبت الأنظار إلى من فيها، فحصلت الفتنة.
الأمر الثاني الذي ينبغي أن تسلم منه العباءة هو: ضيقها.
الأمر الثالث هو: أن لا تكون شفافة بحيث تصف ما وراءها.
فلذلك ينبغي للمؤمنة أن تسلم من هذه الأمور، وأن تكون بعيدة من هذه الشرور، وتتقي الله في نظرات المؤمنين، وألا تكون داعية إلى النظر إليها بلبس هذه الملابس الفاتنة.
وأما ما سألت عنه من لبس البناطيل أو القصير إلى الركبة، فقد سبق أنه خلاف المروءة، والمرأة التي تلبس القصير على ملأ من النساء تعتبر ساقطة المروءة، ومن سقطت مروءتها ردت شهادتها وسقطت عدالتها، والله تعالى أعلم.(55/12)
حكم الرقص للنساء وأخذ الأجرة على ضرب الدف
السؤال
كثر في هذا الزمان الرقص في الأعراس الإسلامية، وقيل: إن الدف في الأعراس الإسلامية مقابل قليل من المال لا يجوز، فما حكم ذلك؟
الجواب
أما بالنسبة للرقص فما كان منه مشابهاً للرقصات الغربية الوافدة فهذا مجمع على تحريمه لمشابهة الكافرات، وأما بالنسبة للرقص فأصح أقوال العلماء رحمهم الله المنع منه، ولذلك قال بعض العلماء في دليل تحريمه وقد استدلوا بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] قالوا: إن المرح هو الرقص، ولذلك قالوا: إن المرأة إذا رقصت هزت أكتافها، وأبانت شيئاً من سوءاتها، فكان ذلك فتنة لمن نظر إليها ولو كانت امرأة مثلها، كما أن الرجل يفتن بالرجل كذلك المرأة تفتن بالمرأة.
ثم هو ليس من كريم الخصال، ولا من جميل الخلال، وإنما هو على العكس من ذلك، ولذلك نهى العلماء رحمهم الله عنه، وأفتى طائفة من أهل العلم رحمهم الله بتحريمه.
وأما ما سئل عنه من الدف فإن الدف جائز ومشروع، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف).
أما ما سألت من أخذ الأجرة على الدف فإنه جائز ومشروع، ولا حرج في الإجارة على ضرب الدف؛ لأن أهل العلم رحمهم الله أجمعوا على أنه يجوز الاستئجار للمنفعة المباحة، وحيث إن ضرب الدف مباح في الزواج فلا حرج من أخذ الأجرة عليه، لكن إذا كان ذلك على وجه المبالغة، ويتكلف صاحبه أجراً كثيراً، فإن فيه سفه، ويعتبر ممنوعاً إذا كان زائداً عن حده، وتحريمه عند الزيادة عن حده لا يوجب تحريم أصله، كما لو اشترى الإنسان طعاماً أكثر من حقه فإنه سفه، والله تعالى أعلم.(55/13)
حكم لبس الملابس القصيرة والفاضحة
السؤال
هناك ظاهرة شائعة في هذا الزمن في بعض الأفراح الإسلامية، حيث تأتي الكثير من النساء المدعوات بلباس قصير يصل إلى ما فوق الركبة، وقد يصل إلى نصف الفخذ دون حياء، علماً بأن هذه الظاهرة أصبحت شائعة جداً الآن، فنرجو النصيحة جزاك الله خيرا؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله المستعان! أما الذي ذكرته أختي السائلة من هذه الظاهرة فيعلم الله أننا كنا نتمنى ألا نعيش إلى زمان نسمع فيه مثل هذا، وأي زمان أشقى على المؤمنين إذا ذهب الحياء بين النساء، وأصبحت المرأة لا تستحي ولا تبالي أن تظهر مفاتنها أمام النساء، وأي بلاء وأي شقاء إذا تربت بناتنا من الصغر على هذا، فرأين النساء الكبيرات، ورأين منهن قدوة في المجتمع يلبسن القصير، أو يلبسن ذلك اللباس المثير، إنا لله وإنا إليه راجعون من موت القلوب، ومن عدم الحياء من الله علام الغيوب، فلقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة عمن يخلو لوحده عرياناً فقال جواباً لمن سأله: (الله أحق أن تستحي منه).
فإذا كان الإنسان في خلوته لا يستطيع أن يتعاطى بعض الأمور حياءً من الله فكيف بين الناس؟ فلذلك كان من البلاء العظيم أن نسمع هذه الأمور في مجتمعات المسلمين.
إن المرأة التي تكشف عن ساقيها، وتبدي فخذيها امرأة ناقصة العقل والشعور، وقد تحطمت الآداب في صميم قلبها، ولو كان عندها مسكة من العقل لما اختارت لنفسها أن تبدي المفاتن بين النساء، ما الذي تريده من النساء حينما تبدي بياض بشرتها، وجمال ساقيها؟ ما الذي تريده من النساء غير إثارتهن للمفاتن، وتذكيرهن بهذه المحن، وإيجاد القدوة السيئة في هذه المجتمعات الكريمة؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون! أما الوصية: فإني أوصي الخيرات الصالحات أن يذكِّرن هذه النماذج السيئات، وأن يقفن حجر عثرة أمام نشر هذه النماذج السيئة في المجتمع، فإذا رأت المؤمنة من تخلقت بهذه الأخلاق فلتذكرها بالله، فلعل قلبها أن يحيا من بعد موات، ولعله أن يستفيق من بعد منام، ذكروهن بالله وانصحوهن، وخذوا على أيديهن، وكذلك ذكِّروا بنات المجتمع بأخطائهن، وذلك بنشر ما ينبغي نشره من الوعي بين النساء، وتنبيه البنات حتى لا يتشبهن بهن، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهديهن إلى سواء السبيل، وأن يسلِّم مجتمعات المسلمين من هذا البلاء والعناء، والله تعالى أعلم.(55/14)
صلاح الإنسان يدور مع صلاح حاله مع القرآن
السؤال
صلاح الإنسان كما هو معلوم يدور مع صلاح حاله مع القرآن -هذا حسب رأيي- لكن أشعر بعجزي عن الاستفادة من القرآن، وأن أشعر وكأنه نزل مخاطباً لي، فما هي الوسيلة التي يتم بها صلاح الحال مع القرآن، وبالتالي يكون الإنسان ذاكراً للآخرة بشكل دائم؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فما ذكرته أختي المسلمة من كون صلاح أمَة الله موقوفاً على القرآن تدبراً وعملاً، وتفكراً وتطبيقاً، لاشك أنه هو عين الصواب، فإن المؤمنة صلاحها موقوف على القرآن، كما أن المؤمن صلاحه موقوف على القرآن.
وأما ما ذكرته واشتكته من وجود الفرقة بينها وبين كتاب الله عز وجل، وإحساسها بأنه لا يؤثر في أقوالها وأفعالها فلعل ذلك لذنب بينها وبين الله عز وجل، ولذلك قال العلماء: إن الإنسان يحرم التوفيق في الطاعة على قدر معصيته لله عز وجل، فاستكثري من الاستغفار، وسؤال الله عز وجل أن يهبكِ القلب الحي الذي يتأثر بكلامه، وشرعه ونظامه، سليه فإنه كريم لا يرد سائله، وارجيه فإنه حليم رحيم لا يخيب راجيه، هذا الأمر الأول.
أما الأمر الثاني: فما الذي يحول بينكِ وبين هذا الكلام الذي أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، أحسي وكأن القرآن يناديكِ، وأنكِ أنتِ المعنية بكل حرف فيه، وبكل كلام تقرئيه منه، أحسي أن هذا القرآن يناجيك، وأنه لرحمة الله يدعوك، فإذا وجد هذا الشعور، وكان هذا الإحساس منكِ فإنه سرعان ما يؤثر فيك، فأحسي أن كتاب الله يدعوكِ، وأن كلام الله موجه إليك، فذلك من أعظم الأسباب التي تقودكِ للعمل بما فيه، والله تعالى أعلم.(55/15)
علاج ظاهرة الفتور في حياة المرأة الداعية
السؤال
نحن إن شاء الله داعيات إلى الله، ونحاول مجاهدة النفس باستمرار، ولكن في بعض الأحيان نصاب بنوع من الفتور، والرجوع إلى الوراء في طريق العبادة والدعوة، فما نصيحتك لنا حتى نحاول الارتقاء إلى الأعلى، وعدم التخاذل والرجوع إلى الوراء جزاك الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أسأل الله العظيم أن يكثر من أمثالكن في طاعة الله عز وجل، فأحب المقامات وأشرف المراتب والولايات ذلك المقام الذي يقوم فيه العبد والأمة بتبليغ رسالة الله، والهداية إلى الله، وتحبيب القلوب في مرضاة الله، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33].
أختي المسلمة! أوصيكِ بأمر عظيم ينبغي لكل مؤمنة تقلدت الدعوة أن تتخلق به وهو: الصبر والتحمل، فإن هذا الفتور الذي تشتكين منه معشر الداعيات هو ابتلاء وامتحان من الله، ولكن صبر جميل، واستدمن ما أنتن فيه من الخير، فنعم العمل عملتن! ونعم القول قلتن! ونعم الدعوة دعوتن! فأحسنَّ الظن بالله.
وأما ما ذكرتن من القهقرة والتأخر عن طاعة الله، فالله الله أن تكون المؤمنة يخالف قولها فعلها، فإن ذلك من أسباب المقت من الله، فاحرصي أختي الداعية إلى الله أن يتوافق القول مع العمل، وإذا شعرت بذلك الملل، فاسألي الله عز وجل العافية، وخذي بالأسباب، فلعل هناك ذنباً بينك وبين الله، والله تعالى أعلم.(55/16)
فضل العلم ومعلمه
فضّل الله سبحانه وتعالى العلم وجعله ميراث الأنبياء، ورفع أهله وفضلهم وشرفهم وزكاهم، ولا يكون ذلك الشرف والفضل إلا بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، مع بذل الجهد في تعلمه وتعليمه.
فعلى العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتعاطى الأسباب لقبول علمه، وعلى طالب العلم أن يحب العلم ويحب أهله، ويجلهم ويكرمهم ويقدرهم، مع مراعاة الأدب مع إخوانه طلاب العلم، وكذلك التضحية والبذل في تحصيله، وأن يعمل بما علم.(56/1)
مكانة العلم الشرعي وفضل أهله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى نبياً عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه ومنواله.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن الله رفع في العلم قدر العلماء وفضلهم وشرفهم وزكاهم، فكانوا من الأتقياء السعداء.
فضل الله هذا العلم فجعله ميراث الأنبياء، فضل الله العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
وفضل الله العلم: (فما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم فيمن عنده) العلم رحِمٌ بين أهله، فيه اجتمعوا، ومن أجله تآلفوا وتناصحوا، ولقد وجبت محبة ربنا للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتآخين فيه.
فضل الله العلم فرفع أهله الدرجات في الحياة والممات، مات الناس ومات العلماء فما ماتت مآثرهم: مات العلماء فما ماتت مآثرهم وذهبوا فما ذهبت فضائلهم نقشت على صفحات الصدور باقية في صحائف أعمالهم من أراد أن يعرف قدر العلم فليعلم أنه الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] من أراد أن يعرف قدر العلم فليعلم أنه الخير والبر: (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
من أراد أن يعرف فضل العلم: فليعلم أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع.
سلامٌ على قومٍ عرفوا حقوق العلم وأهله، سلامٌ على كل من علَّم وعمل وعلم المسلمين فنفعه الله بعلمه ونفع به الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).(56/2)
الأمور التي ينال بها فضل العلم
أيها الأحبة في الله! لا يستطيع أحدٌ أن ينال فضل العلم إلا بأمور، إذا حصلها العبد كملت له فضيلة العلم:(56/3)
الإخلاص في طلب العلم
أولها وأعظمها: إخلاص العمل لله جل جلاله، العلم لله، ويُراد به ما عند الله، ولا يزال العبد بخيرٍ إذا قال: قال لله، وإذا عمل: عمل لله، اصطفى الله العلم للآخرة، واصطفى أهله للآخرة، فهم معنا في الدنيا بأجسادهم، وهم في الآخرة فيما هم فيه من علومها النافعة، وأجورها الباقية.
إنه العلم الذي لا يمكن أن يجد أحدٌ حلاوته إلا بالإخلاص: (ومن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) أهل العلم أغنى الناس بالله، وطالب العلم والعالم الذي ملأ الله قلبه بالآخرة تنصرف همته لله خالصة، أما طالب العلم الذي يريد وجه الله، مباركٌ له في علمه، وفيما يقوله ويسمعه ويكتبه، ومباركٌ له في كل خطوةٍ يخطوها، وفي كل كلمة يسمعها ويكتبها ويفهمها ويلقنها العباد، فالإخلاص مدار الأعمال كلها عليه، وما بقيت كتب السلف رحمهم الله، وكأنها كتبت بالأمس القريب إلا بالله جل جلاله ثم بإخلاصهم، نظر الله إلى قلوبهم فوجد فيها الإخلاص لوجهه وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فبارك فيما قالوا وما عملوا وما علموا رحمهم الله برحمته الواسعة.
أيها الأحبة! من أخلص لله جل جلاله جعل الله القناعة أمام عينيه، فاغتنى بالله، وافتقر إلى الله، وذاق حلاوة المعاملة مع الله، ولا يستطيع العالم ولا طالب العلم أن يُصلح الناس حتى يصلح ما بينه وبين الله بالإخلاص، ومن أصلح ما بينه وبين الله فنظر الله إلى قلبه أنه يريد وجهه، وأراد ما عنده، فتح الله عليه أبواب الرحمة، وإذا فتحت أبواب الرحمة فلا يغلقها.
إذا أخلص العبد لله سبحانه سهل الله له طريق العلم، فجعله محبوباً عند العالم الذي يعلمه، موضوعاً له بالقبول حيثما كان وحيثما تكلم وحيثما سمع، ووضع الله له البركة في جميع ما يكون من أمره.
الله أكبر إذا أخلص طالب العلم فخرج من بيته وليس في قلبه إلا الله، فكتب الله له الخطوات والحركات والنفس وما يكون من جميع حاله وشأنه.
الله أكبر إذا خرج العالم من بيته، والداعية إلى الله والخطيب إلى مسجده، والواعظ إلى إخوانه وخلانه، يريد أن يعلمهم لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله، يتمنى من إخلاصه أن هذا العلم بينه وبين الله لا يطلع عليه أحدٌ سواه.(56/4)
القيام بحقوق العلم
أما الأمر الثاني فإن الله سبحانه وتعالى جعل للعلم حقوقاً عظيمة، من وفاها فإن الله سبحانه يبارك له في ذلك العلم.
ولن يستطيع طالب العلم أن ينال العلم؛ من وجهه إلا إذا أدى حقوق العلم؛ ولن يستطيع العالم أن يجد لذة علمه فيكون علماً نافعاً مباركاً فيه إلا إذا أدى الحقوق التي عليه، فالحق الذي على العالم هو أن ينصح للأمة، وأن يكون صادقاً مع الله جل جلاله، مشفقاً على الخلق، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ملأ الله قلبه بالرحمة فكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم، كان عليه الصلاة والسلام رحمة للناس، فإذا كان العالم قد سكنت الرحمة في قلبه، وعرف حقوق الناس عليه، بذل لهم هذا العلم، وضحى وقدم الغالي والرخيص، والمهجة والنفس والنفيس؛ من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى، إن العالم عليه حقٌ وهو أن يعلِّم الجاهل، وإذا وقف الجاهل على بابه وجب عليه أن يعلِّمه، وأن يرشده، وأن يدله، وأن يأخذ بمجامع قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن كان مذنباً رغبه في التوبة والإنابة إلى الله، وإن كان مسيئاً رغبه في الإحسان وعمل أهل الإيمان حتى يفوز بالرحمة والجنان، وإن كان مخطئاً سدده وأرشده، ودله على ما فيه مرضاة الله جل جلاله.
إن العالم عليه أمانة عظيمة ومسئولية جليلة كريمة، أن يبذل كل ما يستطيع لتعليم الناس وتوجيههم، والله معه يسدده ويعينه ويوفقه، إن أهل الدنيا يعينون من وقف معهم في تجاراتهم وبيعهم وشرائهم فكيف بمن يتاجر مع الله، وابتغاء مرضاة الله.
قد يخرج العالم إلى درسه وموعظته مشتت الفكر من هموم الدنيا وأحزانها، ولكن الله يحبه ويحب علمه فيجمع الله له الأمر في قلبه، فيزيح عنه همه وغمه فيوفقه ويسدده، ومن نظر إلى أحوال العلماء وجد أن معهم من الله عوناً وظهيراً، وأن هذه العلوم والكتب والدروس والمواعظ وهذا الخير الكثير، لن يكون بحول أحدٍ ولا قوته كائنٌ من كان؛ إلا بحول الله وقوته سبحانه وتعالى.
العالم عليه أمانة عظيمة في توجيه الناس ودلالتهم للخير، وإن في قصص العلماء عظة وعبرة، خرجت ذات يوم مع الوالد رحمه الله برحمته الواسعة، بعد درسه بعد صلاة الظهر، وكان يوماً شديد الحر في الصيف، فاستوقفه رجلٌ من العامة وهو منهكٌ بعد درسه ما يقرب من ساعة إلا ربعاً في عز الظهيرة والشمس على رأسه والرجل يسأل ويناشده ويكرر المسألة، وهو يراوح بين القدم والأخرى، والله ما كهره ولا شتمه ولا طرده ولا مله ولا أشعره بالسآمة حتى قضى له جميع أمره، فانطلق الرجل وهو يثني ويبتهل إلى الله جل جلاله بالدعوات فلما ولى وانصرف كنت حديث السن قلت: يا أبي! إن هذا قد شق عليك -فضغط على يدي- وقال: والله يا بني لا يحل لي أن تبرح قدمي عن قدمه حتى أجيبه على سؤاله، إذا علم العالم أن الأمانة عظيمة والمسئولية كبيرة، بذل نفسه ووقته وعمره بالتجارة مع الله، فيسهر ليله وهو يعلم أن هذا السهر يخط في صحيفة عمله، ويضني جسده ويتعب فكره وهو يبحث عن المسائل، ويحل بإذن الله المعضلات والنوازل، والله يكتب أجرها لكي يراها أمام عينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.(56/5)
حقوق الأمة على العالم(56/6)
تلمس القلوب وتبيين الحق لها
إن مما ينبغي على العالم أن يلمس شغاف القلوب، فإن قلوب المؤمنين تنتظر من العالم أن يفتحها بإذن الله عز وجل بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعد للأمر عدته، فيتسلح بسلاح العلم النافع الموروث من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قدم أحدٌ على العلم فواجبٌ عليه أن يضبط المسائل وأن ينصح للأمة في الجد والاجتهاد والعزيمة الصادقة للوصول إلى الحق، والبحث عن المسائل، ومعرفة أصول النوازل، حتى يكشف للأمة جلي الحق، فيعظم الله له الأجر والمثوبة، ولا بد للعالم من أن يضحي وأن يخرج للأمة هذا العلم النافع الموروث من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر العلماء هذا الحق في حق النصيحة فإن النصيحة الواجبة على العلماء تجاه الأمة: أن يبينوا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والهدى من الضلال ويرشدوا العباد إلى صلاح الدنيا والمعاد، ولن يكون ذلك إلا ببصيرة ودليلٍ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.(56/7)
تعليم الأمة الأفضل والأحسن
من الحقوق التي ينبغي للعالم أن يراعيها في علمه تجاه الناس وتجاه الخلق: أن يختار لهم أفضل ما يجده، وأحسن ما يجده، لكي يقدمه من العلوم النافعة، فكما أنه واجبٌ عليه أن يتقن العلوم، كذلك يختار أهمها وأولاها وأحقها، وهو: توحيد الله سبحانه وتعالى، وبيان ما لله من حقوقٍ في إخلاص العمل لوجهه، وصدق المعاملة معه سبحانه وتعالى، فيأخذ بمجامع القلوب لله بإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى، فأفضل العلوم وأحبها إليه سبحانه وتعالى هو التوحيد، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
كذلك عليه حقٌ عظيم وهو: أن يبين للناس الأحكام، والمسائل العملية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، فيبين هدي رسول صلى الله عليه وسلم في عبادته، في طهوره وصلاته، وكيفية أدائه للحقوق التي أوجبها الله عز وجل وفرضها، فيصف للناس صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنهم ينظرون إلى نبي الأمة صلى الله عليه وسلم في خشوعه وتذلله وخضوعه، وموقفه بين يدي ربه، كيف كان يركع، ويسجد، ويقف مع كل صغيرة وكبيرة من هديه صلوات الله وسلامه عليه، إذا فعل ذلك نصح للأمة، وبين لها دينها وأقامها على الهدى من سبيلها، فأصبحت على خيرٍ ورحمة وفضلٍ كثير.
كذلك على العالم أن ينصح للأمة فيجمع القلوب على دين الله جل جلاله، فالنصيحة واجبة على العلماء فعليهم أن يجمعوا الناس ولا يفرقوهم، وأن يحببوا بعضهم إلى بعض ويؤلفوا بينهم ولا يشتتوهم، فإن الله جمعنا بالإسلام، وألف بين أرواحنا بالقرآن، الله ربنا والإسلام ديننا، وخير خلق الله صلى الله عليه وسلم نبينا ورسولنا فلماذا نختلف، ونفترق فيدعوهم إلى الأصل الأصيل من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين للناس هذا الأمر الذي عليه صلاح العباد، من اجتماع الكلمة وتآلف القلوب، فيكون حريصاً على ذلك أيما حرص؛ لأن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم باجتماع الكلمة، وتآلف الأرواح، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم، مبيناً حقيقة الإسلام والإيمان: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) لا يمكن للمسلمين أن يكونوا كمثل الجسد الواحد، إلا إذا كان العلماء والدعاة والهداة إلى الله على قلب رجلٍ واحد يقولون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعملون بذلك ويحتكمون إليه، هذا من أعظم الواجبات وآكد الحقوق والأمانات على العلماء؛ لأن الأمة إذا تشتت وتفرق جمعها؛ فإن القلوب تمتلئ بالضغائن فيتشتت الخلق ويصبح علم الإنسان في بعض الأحيان وبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية- ينصح المسلم لإخوانه المسلمين ويجمع كلمتهم على الخير والبر.
انظر إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب السوادين والنعلين كان رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الوحيد الذي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون استئذان، يقول له: (أذنت لك أن تسمع سوادي حتى أنهاك وأن ترفع الحجاب) فكان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه، هذا الصحابي الجليل مع علمه وفضله يقول فيه حذيفة: [ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، أن ابن أم عبد أعلمهم وأقربهم هدياً وسمتاً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] كان أعلم الصحابة بالسنة وأعلمهم بهديه، ومع ذلك لما صلى عثمان رضي الله تعالى عنه بالمسلمين وذلك في حجته الأخيرة وأتم الصلاة، أتم الصلاة عبد الله بن مسعود وراءه فقيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه: [الخلاف شر] فآثر أن تجتمع الكلمة على عثمان رضي الله عنه وأرضاه وهذا من علمه وفقهه.
وكذلك عمر بن الخطاب يراجع أبا بكر رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فهو يراجعه في المسألة ويقول: (كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله).
فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة وإنها لقرينتها في كتاب الله].
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر لذلك فعلمت أنه الحق] اجتماع قلوب العلماء وائتلافها على الكتاب والسنة وعلى الهدي الصالح لسلف الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، ورحمهم الله برحمته الواسعة، أمرٌ مطلوب ومحببٌ ومرغوب، لن تجد الأمة في عز مكانتها ولا قوة شأنها إلا إذا اعتصمت بكتاب ربها وأتلفت أرواحها دفاعاً عن دينها، وأما الشتات والفرقة وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته فإنه ضياعٌ للكلمة، وذهابٌ للهيبة، وسببٌ للفشل، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].(56/8)
سكون رحمة الأمة في قلب العالم
أما الأمر الثاني: فينبغي أن تسكن الرحمة في قلبه، فلن يستطيع العالم أن يبلغ رسالة الله، وأن ينصح للأمة إلا إذا أسكن الله الرحمة في قلبه، فإذا جاءه الحائر جاءه التائه جاءه مشتت الفكر جاءه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، تلقاه بالرحمة، التي يوفقه الله بها ويسدده بها لحسن العمل والتصرف، ولذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يمتن عليه بنعمته: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فأمره الله عز وجل بالعفو والصفح والرحمة، فلا إله إلا الله إذا سكنت الرحمة في قلوب العلماء، لا إله إلا الله إذا أصبح العالم مشفقاً على الأمة رحيماً بها، إذا جاءه الجاهل تلقاه بالرحمة وتلقاه بالحنان والعطف، كوالد يعطف على ولده، وإذا جاءه المسيء وقد قنط من رحمة الله، ويئس من روح الله، وجد عنده الكلمات المضيئة والنصائح الغالية، ووجد عنده كلمات تدل على أن وراءها قلباً يخاف الله مليئاً بالرحمة يحتسب ثوابها عند الله سبحانه، اقرءوا في تراجم العلماء وستجدون فيها الآثار الكريمة والصفحات المضيئة التي تدل على الشفقة وحب الخير للأمة، ولن يُفلح العالم إلا إذا مُلئ قلبه بالرحمة وبقدر فوات هذه الرحمة، يفوت الخير الكثير.
الرحمة: هي التي يقف فيها العالم للفقير، الرحمة: هي التي لا يمكن للعالم أن يميز فيها بين الناس فيرى الناس، في عينه سواسية لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بتقوى الله سبحانه وتعالى، إنها الرحمة التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، بل وعاتبه من فوق سبع سماوات حينما جاءه الأعمى وهو يخشى يريد أن يتزكى، فكان ما كان من رسول الأمة صلى الله عليه وسلم اجتهاداً في الخير فقال الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4] فالرحمة لا بد منها، وبها يستطيع العالم بإذن الله عز وجل أن يسع الناس بحلمه وعطفه وإحسانه وبره.(56/9)